×
☰ فهرست و مشخصات
ثواب الأعمال و عقاب الأعمال (المقدمة)

الشيخ الصدوق - مؤلف الكتاب ص : 5

 [مقدمة المحقق‏]

الشيخ الصدوق- مؤلف الكتاب‏

بقلم العلامة الجليل السيّد محمّد مهدي الخرسان‏

هو أبو جعفر محمّد بن عليّ بن الحسين بن موسى بن بابويه القمّيّ.

و لم ترفع كتب التراجم نسبه إلى ما فوق (بابويه) الأمر الذي يدلنا على أنّه الشخصية الأولى من آبائه الذي تمتع بشهرة حتّى صارت النسبة إليه، كما يترك المجال مفتوحا لاحتمال نسبة عدة من المحدثين و العلماء المشهورين ينسبون إلى مثل هذا الاسم (بابويه)، أنهم من لحمة الشيخ الصدوق و أبناء عمومته، فانهم أيضا لم ترفع أنسابهم أيضا إلى من فوق بابويه إلّا في واحد كما سيأتي، و نظرا لتقارب عصورهم مع عصر الصدوق فيبدو احتمال أنهم جميعا من أسرة واحدة، و يرجعون إلى جد واحد و هو بابويه، و قد ذكرت ذلك في رسالتي (التنويه بأسماء المختومين بويه) عند ذكر أسماء الأعلام من المحدثين المنسوبين إلى بابويه و إن لم أجزم به.

أما الأشخاص المشار إليهم آنفا ممن نسب إلى بابويه و لم يرفع نسبه إلى من فوقه إلّا في واحد و هو:

1- محمّد بن سليمان بن بابويه بن مهرويه المخرمي- كما في الاكمال- و في رواية الخطيب أنّه بابويه بن فهرويه بن عبد اللّه، سمع عثمان بن عبد اللّه ابن عمرو بن عثمان العثماني و غيره، حدّث عنه ابنه عبيد اللّه- الآتي ذكره- و غيره، توفّي سنة 307 ه.

2- عبيد اللّه بن محمّد بن سليمان- الآنف الذكر- أبو محمّد الدقاق، حدّث عن أبيه و جعفر الفريابي، و إبراهيم بن عبد اللّه بن أيوب المخرمي و غيرهم.

5
ثواب الأعمال و عقاب الأعمال (المقدمة)

الشيخ الصدوق - مؤلف الكتاب ص : 5

3- أبو القاسم محمّد بن عبيد اللّه بن بابويه- الرجل الصالح- و هو ممن يروي عنه أبو نصر أحمد بن الحسين بن أحمد بن عبيد اللّه الضبي، و هذا من مشايخ المؤلّف شيخنا الصدوق، روى عنه كما في أسانيد كتبه.

4- الحسين بن إبراهيم بن بابويه، عدّه سماحة السيّد الوالد دام ظله من جملة مشايخ الصدوق في مقدّمة الفقيه ص 23 و ص 75 استنادا إلى ما ذكره المحدث النوريّ في خاتمة المستدرك، و لم نجد ذكره في أسانيد الصدوق في كتبه، نعم وردت رواية الصدوق عنه بواسطة في إسناد حديث في بشارة المصطفى‏ «1» حيث ذكر أن الصدوق يروي عن الحسين بن موسى عن الحسين ابن إبراهيم بن بابويه عن عليّ بن إبراهيم بن هاشم القمّيّ.

5- أبو الحسن عليّ بن عبد اللّه بن أحمد بن بابويه المذكر، و هو من شيوخ الصدوق، روى عنه في معاني الأخبار ص 408.

6- أبو الحسن عليّ بن محمّد بن بابويه الأسواري الأصبهاني، قال ابن مندة هو آخر الأغنياء الأتقياء، ورع دين، دخل شيراز و سمع من جماعة، و كتب. مات سنة 358 ه.

7- أحمد بن الحسن بن عليّ‏ «2» بن بابويه الحنائي، حدث عن يوسف ابن موسى القطان، و حدث عنه عمر بن أحمد بن شاهين في معجم شيوخه و ابن شاهين هذا ولد سنة 297 و أول ما سمع الحديث سنة 305 و له إحدى عشرة سنة «3»، و توفّي سنة 385.

______________________________

 (1). بشارة المصطفى ص 150 الطبعة الثانية (المطبعة الحيدريّة).

 (2). كذا في رسالة التنويه نقلا عن الذهبي، و فيها أيضا عن المعلمي أنه أحمد بن عليّ بن الحسين بن بابويه.

 (3). ورد في لسان الميزان ج 4 ص 283 أنّه أول ما سمع الحديث في سنة ثمان و خمسين و ثلاثمائة، و له إحدى عشرة سنة، و هو من سهو القلم من ابن حجر إذ سبق منه ذكر ولادة ابن شاهين في سنة 297، و معلوم أنّه لما سمع و له-

6
ثواب الأعمال و عقاب الأعمال (المقدمة)

الشيخ الصدوق - مؤلف الكتاب ص : 5

8- أبو الحسن عليّ بن بابويه قتيل القرامطة في الطواف بالمسجد الحرام ذكره القطبي في كتابه الاعلام بأعلام بيت اللّه الحرام ص 75- 76، أن القرامطة لما أغاروا على الحجاج في سنة 317 ه و دخلوا المسجد الحرام أيّام الموسم، و راثت خيولهم في المسجد، و قتلوا خلقا كثيرا في المطاف قدرهم بألف و سبعمائة طائف محرم، و كان عليّ بن بابويه ممن يطوف فلم يقطع طوافه، و جعل يقول:

ترى المحبين صرعى في ديارهم‏

 

 كفتية الكهف لا يدرون كم لبثوا

 

 و السيوف تقفوه إلى أن سقط ميتا رحمه اللّه تعالى‏ «1».

9- أبو الحسن عليّ بن الحسين بن بابويه الرازيّ، خرج لنفسه أربعين حديثا رواها عنه أبو المجد محمّد بن الحسين بن أحمد القزوينيّ المتوفّى سنة 622 بسماعه منه‏ «2».

______________________________

- إحدى عشرة سنة فيكون الصواب سنة ثمان و ثلاثمائة، لا كما ذكر فلاحظ.

 (1). ذكر القصة ابن كثير في تاريخه في حوادث سنة 317 و لم يسم علي بن بابويه بل قال و قد كان بعض أهل الحديث يومئذ يطوف فلما قضى طوافه أخذته السيوف، فلما وجب أنشد و هو كذلك ثمّ ذكر البيت.

و من الغريب أن الشيخ الطريحي ذكر في مجمع البحرين (قرمط) نقلا عن الشيخ البهائي أن الحادثة كانت سنة 310 و هو غير صحيح، فان دخول القرامطة إلى مكّة كان في سنة 317 كما في تاريخ الكامل لابن الأثير و البداية و النهاية الابن كثير و غيرهما، و ورد ذكرها في حوادث سنة 316 في كتاب صلة تاريخ الطبريّ فراجع.

 (2). ذهب المرحوم الدكتور مصطفى جواد في هامش إكمال الاكمال ص 17 إلى أن عليّ بن الحسين بن بابويه المذكور هو والد الصدوق المتوفّى سنة 328 و لما تفطن إلى أن بين وفاة ابن بابويه الذي عينه و بين وفاة أبي المجد القزوينيّ الراوي عنه سماعا 294 سنة تمحل في تفسير قوله (بسماعه منه) فقال: يعني بسماع الجزء عنه عن جماعة من الشيوخ، و هذا اجتهاد من الدكتور في مقابل-

7
ثواب الأعمال و عقاب الأعمال (المقدمة)

الشيخ الصدوق - مؤلف الكتاب ص : 5

و من الواضح أن هؤلاء كلهم إلّا الأخير منهم ممن يقارب عصرهم عصر الصدوق أو عصر والده كتقارب بلدانهم، فيا هل ترى وجاهة احتمال أنهم من ذرّية بابويه جد المؤلّف، أو أنهم من بابويه آخر أو آخرين.

و مهما يكن الواقع فان بني بابويه- اسرة المؤلّف- من بيوتات القميين المشتهرة بالعلم و الفضيلة، و قد تبوأ رجال منهم مكان الصدارة و المرجعية كما كان بيتهم حتّى القرن السادس بيت علم و حديث، ذكرت المعاجم الرجالية منهم عدة علماء و محدثين أحصينا منهم ما يقرب من عشرين عالما من بينهم شيخ الإسلام و ثقة الدين، كما فيهم من تسمى باسم جدهم الأعلى (بابويه) إحياء لذكره.

و بالرغم من كثرة البحث في تاريخ هذه الأسرة الكريمة الباسقة أفنانها و الناضجة ثمارها لم نقف على مبدإ سكناهم في قم الحاضرة الإسلامية و مهد العلم في ذلك العصر، لكن الذي لا نشك فيه أن والد المؤلّف و هو الشيخ أبو الحسن عليّ بن الحسين كان في قم، و من أبرز أصحاب الشيوخ الأجلة سعد بن عبد اللّه ابن أبي خلف الأشعري و أبي العباس عبد اللّه بن جعفر الحميري صاحب قرب الاسناد، و أبي الحسن عليّ بن إبراهيم بن هاشم القمّيّ المفسر و طبقتهم.

كما كانت له مكانة مرموقة في وسطه، بل يعد من علية رجالات بلده و في الطليعة بين أعلامهم الطائري الصيت إن لم يكن هو الأول المشار إليه من بينهم و قد أثنى عليه علماء الرجال و وصفوه بكل جميل ممّا يكشف عن عظيم قدره، و علو كعبه.

كما ذكروا أن الامام الحسن العسكريّ عليه السلام المتوفّى سنة 260 كتب إليه كتابا فيه ما يغني عن سرد جمل الثناء العاطر، و آيات التعظيم، جاء فيه:

______________________________

- النصّ على أنّه لم يذكر بين مؤلّفات والد الصدوق كتاب اسمه (الأربعين) فراجع فهرستي النجاشيّ و الطوسيّ و غيرهما.

8
ثواب الأعمال و عقاب الأعمال (المقدمة)

الشيخ الصدوق - مؤلف الكتاب ص : 5

 (اعتصمت بحبل اللّه، بسم اللّه الرحمن الرحيم و الحمد للّه ربّ العالمين و العاقبة للمتقين، و الجنة للموحدين، و النار للملحدين، و لا عدوان إلّا على الظالمين و لا إله إلّا اللّه أحسن الخالقين و الصلاة على خير خلقه محمّد و عترته الطاهرين)

و فيه: (أما بعد، أوصيك يا شيخي و معتمدي و فقيهي أبا الحسن علي بن الحسين القمّيّ وفقك اللّه لمرضاته و جعل من صلبك أولادا صالحين برحمته).

و فيه: (فاصبر يا شيخي يا أبا الحسن علي، و أ أمر جميع شيعتي بالصبر فان الأرض للّه يورثها من يشاء من عباده و العاقبة للمتقين و السلام عليك و على جميع شيعتنا و رحمة اللّه و بركاته).

و الذي يلفت النظر في فقرات هذا الكتاب خطاب الامام «ع» لأبي الحسن ابن بابويه بالشيخ، و لا بدّ أن يكون من باب شيّخه تشييخا دعاه شيخا تبجيلا و تعظيما «1» و إلّا فلا مجال للقول بأن ابن بابويه كان حين صدور الكتاب شيخا في السن، أي من الخمسين إلى الثمانين كما هو معنى الشيخ على ما حكاه ابن سيده في المخصص و غيره.

و لو كان شيخا لعدّ من المعمرين، إذ أن وفاة الامام العسكريّ «ع» كانت سنة 260، و عاش أبو الحسن ابن بابويه بعد الامام «ع» ما يقرب من سبعين عاما حيث كانت وفاته سنة 328 ه، و لم يذكر أنّه كان من المعمرين الذين تجاوزوا المائة و ناهزوا المائة و خمسين مثلا، و لم يذكر في ترجمته ما يشير إلى ذلك و لو من بعيد على أنّه لو كان من المعمرين الذين تجاوزوا المائة و ناهزوا المائة و خمسين مثلا لأشار ولده الشيخ الصدوق إلى ذلك في كتابه إكمال الدين في باب التعمير و المعمرين و ما يناسب ذلك من أبواب الكتاب فلا بدّ إذن من أن يكون المعني بالشيخ هو التبجيل و التعظيم، و لعلّ في مخاطبته بالكنية ما يشعر بذلك مضافا إلى وصفه بالمعتمد و الفقيه، فهو من الشيوخ شأنا، و إن لم يكن منهم سنا.

______________________________

 (1). تاج العروس ج 2 ص 268 طبع سنة 1286 ه.

9
ثواب الأعمال و عقاب الأعمال (المقدمة)

الشيخ الصدوق - مؤلف الكتاب ص : 5

و ممّا يسترعي الانتباه أن هذا الكتاب لم يروه ولد الصدوق في تضاعيف كتبه التي وصلت إلينا على كثرة الأبواب المناسبة لذكره، كما لم يذكره القدماء من أصحابنا.

و أقدم مصدر حكى عنه- فيما أعلم- هو كتاب الاحتجاج لأبي منصور أحمد بن علي الطبرسيّ استاذ الحافظ ابن شهرآشوب السروي، المتوفّى سنة 588، حكاه عنه البحرانيّ في لؤلؤة البحرين ص 384، و لم أجده في مطبوع الاحتجاج.

و رواه بصورة مختصرة الحافظ ابن شهرآشوب في المناقب ج 3 ص 527 و ذكره مفصلا القاضي المرعشيّ في مجالس المؤمنين ج 1 ص 453، و الخوانساري في الروضات ص 377، و النوريّ في خاتمة المستدرك ج 3 ص 527 و غيرهم من المتأخرين.

ذكر الشيخ النجاشيّ في رجاله ص 184 أبا الحسن- والد المؤلّف- و وصفه بقوله:

شيخ القميين في عصره و متقدمهم و فقيههم و ثقتهم، كان قدم العراق و اجتمع مع أبي القاسم بن روح رحمه اللّه و سأله مسائل ثمّ كاتبه بعد ذلك على يد عليّ بن جعفر الأسود «1» يسأله أن يوصل رقعة إلى الصاحب عليه السلام و يسأله فيها الولد، فكتب إليه: قد دعونا لك بذلك، و سترزق ولدين ذكرين خيّرين.

و ذكر الشيخ الطوسيّ في كتاب الغيبة ص 201 أن عليّ بن الحسين بن موسى بن بابويه كانت تحته بنت عمه محمّد بن موسى بن بابويه فلم يرزق منها ولدا، فكتب إلى الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح رضي اللّه عنه أن يسأل الحضرة أن يدعو اللّه أن يرزقه أولادا فقهاء، فجاء الجواب أنك لا ترزق من هذه و ستملك جارية ديلمية و ترزق منها ولدين فقيهين.

______________________________

 (1). في إكمال الدين ص 467، و الغيبة للطوسيّ ص 201 إنّه محمّد بن علي الأسود.

10
ثواب الأعمال و عقاب الأعمال (المقدمة)

الشيخ الصدوق - مؤلف الكتاب ص : 5

و في لفظ الصدوق- مؤلف الكتاب- قال حدّثنا أبو جعفر محمّد بن علي ابن الأسود قال: سألني عليّ بن الحسين بن موسى بن بابويه رحمه اللّه بعد موت محمّد بن عثمان العمري رضي اللّه عنه (و كانت وفاته سنة 305) أن أسأل أبا القاسم الروحي أن يسأل مولانا صاحب الزمان عليه السلام أن يدعو اللّه عزّ و جلّ أن يرزقه ولدا ذكرا، قال: فسألته فأنهى ذلك، فأخبرني بعد ذلك بثلاثة أيّام إنّه قد دعا لعلي بن الحسين و أنّه سيلد له ولد مبارك- كذا- ينفعه اللّه عزّ و جلّ به و بعده أولاد.

قال أبو جعفر محمّد بن عليّ بن الأسود رضي اللّه عنه و سألته في أمر نفسي أن يدعو اللّه لي أن يرزقني ولدا ذكرا فلم يجبني إليه و قال:

ليس إلى هذا سبيل، قال: فولد لعلي بن الحسين رضي اللّه عنه محمّد بن علي (مؤلف الكتاب) و بعده أولاد و لم يلد لي شي‏ء.

و هكذا تمّ للشيخ- والد المترجم له- ما كان يصبو إليه من الدعاء بالولد الصالح، كما تمّ له بعد ذلك حصول الأثر، فملك الجارية و رزق منها أول مولود ذكر كان هو شيخنا- المترجم له- أبا جعفر محمّد بن علي الصدوق و لعلّ في اختيار والده لاسمه ما يشعر بأنّه من بركات دعاء صاحب هذا الاسم و هو صاحب الأمر (عج) و كانت ولادته بعد سنة 305 ه التي هي سنة وفاة العمري و أولى سني سفارة الوحي، و لعلها كانت سنة 306 كما استقر بها السيّد الوالد دام ظله و استدل عليها، و أيا ما كان فقد ولد شيخنا الصدوق ببركة دعوة الناحية المقدّسة.

و من الطبيعي أن يكون لتلك الدعوة أثرها في تقويم شخصيته و تكوين مؤهلاته العلمية، حتى توقع الناس ظهور أثرها بينا في تاريخه، فكان الأمر كما أملوا، و كانوا بعد ولادته و نشأته يرجعون جل تلك الظواهر من مميزاته إلى أثر تلك الدعوة الصالحة التي بارك بها الامام «ع» وليد أبي الحسن عليّ بن موسى بن بابويه، كما كان المؤلّف نفسه يفتخر بذلك‏

11
ثواب الأعمال و عقاب الأعمال (المقدمة)

الشيخ الصدوق - مؤلف الكتاب ص : 5

و يقول: أنا ولدت بدعوة صاحب الأمر (عج).

و قال في ذيل حديثه الآنف عن ابن الأسود: و كان أبو جعفر محمّد بن علي بن الأسود رحمه اللّه كثيرا ما يقول إذا رآني أختلف إلى مجلس شيخنا محمّد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رضي اللّه عنه، و أرغب في كتب العلم و حفظه ليس بعجب أن تكون لك هذه الرغبة في العلم و أنت ولدت بدعاء الإمام عليه السلام‏ «1».

قال أبو عبد اللّه بن سورة رحمه اللّه: كلما روى أبو جعفر- مؤلف الكتاب- و أبو عبد اللّه الحسين ابني عليّ بن الحسين شيئا يتعجب الناس من حفظهما، و يقولون لهما: هذا الشأن خصوصية لكما بدعوة الامام لكما، و هذا أمر مستفيض في أهل قم‏ «2».

و من الغريب ما ذكره دوايت م رونلد سن في كتابه عقيدة الشيعة ص 284 أن المؤلّف ولد بخراسان أثناء زيارة والده لمشهد الرضا، و لم نقف على مستند يثبته. و قد تابعه على ذلك صاحب المنجد في الأدب و العلوم ص 56.

و أغرب من ذلك ما ذكره الدكتور محمّد مصطفى حلمي (استاذ الفلسفة الإسلامية و التصوف بكلية الآداب بجامعة القاهرة) في تعليقه على كتاب توفيق التطبيق ص 168 حيث قال: و قد ترك في صباه خراسان عام سنة 355 ه- 966 م إلى بغداد إلخ.

فمع الاغماض عما ذكر من كونه بخراسان، إلّا أن الدكتور زعم أنه ترك خراسان في صباه سنة 355 إلى بغداد، و لو بحث قليلا عن ولادته لعلم أنّه حين ورد بغداد سنة 355 كان قد ناهز الخمسين من عمره فكيف يصحّ قوله في صباه؟!

نشأ المترجم له تحت رعاية أبيه الذي سبق أن وقفنا على شي‏ء من‏

______________________________

 (1). إكمال الدين ص 467 طبع الحيدريّة سنة 1389.

 (2). غيبة الطوسيّ ص 201.

12
ثواب الأعمال و عقاب الأعمال (المقدمة)

الشيخ الصدوق - مؤلف الكتاب ص : 5

مكانته و الذي اشتهر بعلمه و تمسكه بدينه و عرف بورعه و تقواه، و رجعت إليه الشيعة في كثير من الأقطار، و أخذوا عنه احكامهم، و لم يمنعه سمو مقامه في العلم من اتخاذ وسيلة لمعاشه، و ركائز تضمن له الرفعة عما في أيدي الناس، شأن الأحرار في الدنيا، فكانت له تجارة يديرها غلمانه و يشرف عليهم بنفسه، فيعتاش ممّا يرزقه اللّه من فضله، و لم يشأ أن يثري على حساب الغير، أو يكون اتكاليا في رزقه‏ «1».

و ليس من شك أن أباه أولاه عناية كبيرة، و رعاه رعاية صالحة، لأنه أمله في هذه الحياة الدنيا، و رسالته الباقية بعده، نتيجة البشارة التي حبي بها من الناحية المقدّسة، فكان الفتى الكامل آية في الحفظ و الذكاء يحضر مجالس الشيوخ و يسمع منهم و يروي عنهم، فقد اختلف إلى مجلس شيخه محمّد بن الحسن ابن الوليد- و كان من أكابر الشيوخ و أعاظم العلماء- و هو حدث السن.

و أدرك من أيّام أبيه أكثر من عشرين عاما اقتبس خلالها من أخلاقه و آدابه و معارفه و علومه ما سما به على أقرانه، حتى روى عنه جميع مصنّفاته و هي مائتا كتاب فيما يذكره ابن النديم في فهرسته ص 277.

قال: قرأت بخط ابنه محمّد بن علي على ظهر جزء، (قد أجزت لفلان ابن فلان كتب أبي عليّ بن الحسين و هي مائتا كتاب، و كتبي و هي ثمانية عشر كتابا)، و مع الأسف الشديد ضياع تلك الثروة العلمية الضخمة فلم نعثر إلّا على أسماء ما يقارب من عشرين كتابا ذكرها الشيخ النجاشيّ و الشيخ الطوسيّ في فهرستيهما و لم يبق منهما إلّا كتاب الأخوان الذي يعرف بمصادقة الأخوان و نسب اشتباها إلى ولده مؤلف هذا الكتاب و نصوصا من رسالته التي كتبها إلى ابنه.

______________________________

 (1). في نفس المصدر ص 262 تجد خبر منابذته للحلاج حين دخل قم و إخراج أبي الحسن بن بابويه له من مجلسه حين أتاه في (سرايه) محله التجاري فأمر غلمانه بأن يجروا برجله و يدفعوا بقفاه، فما رؤي بقم بعد ذلك.

13
ثواب الأعمال و عقاب الأعمال (المقدمة)

الشيخ الصدوق - مؤلف الكتاب ص : 5

فمما يكشف عن مزيد عناية الأب بتربية ابنه رسالته التي كتبها لأجله لخص له فيها كثيرا من الأصول الحديثية، فاختصر الطريق بطرح الأسانيد و الجمع بين النظائر، و الإتيان بالخبر مع قرينه حتّى قيل أنّه أول من ابتكر ذلك في رسالته إلى ابنه، و كثير ممن تأخر عنه يحمد طريقته فيها، و يعول عليها في مسائل لا يجد النصّ عليها، لثقته و أمانته و موضعه من الدين و العلم و هذه الرسالة من مصادر كتاب (من لا يحضره الفقيه) نقل عنها المؤلّف كثيرا، و صرّح بذلك.

و الذي يسترعي الانتباه كثرة مرويات المؤلّف عن طريق أبيه كثرة تفوق مروياته عن كل من شيوخه الآخرين، مما يدلنا على مدى استعداده الذهني و النبوغ المبكّر الذي كان له أكبر الأثر في قابليته الجيدة لكل ما يقرأ و يسمع.

و لا غرابة في نتائج الاحصاء و المقارنة التي تثبت أن الأب- و هو المنبع الأول من منابع ثقافة وليده المرجّى- بذل أقصى جهده في سبيل تثقيف ولده و إسماعه أكبر عدد من مروياته، حتى كان أكثر ما يرويه الولد هو عن طريق شيخه الأول و مربيه الأكمل والده أبي الحسن رحمه اللّه.

و للتدليل على ذلك خذ مثلا كتابا من كتب المؤلّف رحمه اللّه، و نظّم إحصاء شاملا لمروياته عن كل من شيوخه فستخرج بنتيجة أن للأب السهم الأوفر من تلك الروايات.

و هذا كتابه (من لا يحضره الفقيه) لما كان هو أكبر كتبه و أكثرها رواية فقد اختصر أسانيده مقتصرا على ذكر من ينتهي إليه سند الرواية، و كان هو الراوي الأول، و وضع في آخره مشيخة ذكر فيها إسناده إلى اولئك الرواة الذين ورد الحديث عنهم في الكتاب و لم يعرف طريق المصنّف إليهم، و من هذه المشيخة يستطيع الباحث كشف حقيقة ما قلناه عن كثرة رواياته عن أبيه على قصر المدة التي عايشه فيها حتّى فاقت رواياته ما يرويه‏

14
ثواب الأعمال و عقاب الأعمال (المقدمة)

الشيخ الصدوق - مؤلف الكتاب ص : 5

عن أشهر شيوخه الآخرين و أكثرهم ملازمة زمنية، لتأخر وفاته عن وفاة والد المؤلّف المذكور، كابن الوليد مثلا الذي مات سنة 343 أي بعد وفاة عليّ بن الحسين بن بابويه بنحو خمسة عشر عاما.

فالباحث يجد المؤلّف ذكر في المشيخة 215 راويا روى عنهم في كتابه من طريق أبيه، بينما روى عن 124 راويا من طريق شيخه محمّد بن الحسن بن أحمد بن الوليد، و عن 50 راويا من طريق محمّد بن علي ماجيلويه، و عن 39 راويا، من طريق محمّد بن موسى بن المتوكل، و هؤلاء من أشهر شيوخه الذين اشتهر بالتلمذة عليهم و الأخذ عنهم و عرف بشدة الاتصال بهم.

و هكذا تتضاءل النسبة في مروياته عن سائر شيوخه الآخرين الذين هم دون هؤلاء شهرة أو أقل اتصالا بهم.

و كذلك تكون نتائج الاحصاء عند المقارنة بين مروياته في سائر كتبه الأخرى، فهذان كتابا (معاني الأخبار و الأمالي) نجد المؤلّف يكثر الرواية عن طريق أبيه فيهما حتّى فاق ما يرويه عن طريقه سائر ما يرويه عن باقي شيوخه فله في كتاب المعاني ما يناهز المائتين، و في كتاب الأمالي ما يقرب من 160 حديثا، بينما نجد جميع ما يرويه عن طريق شيخه محمّد بن الحسن ابن أحمد بن الوليد في الكتابين معا لا يبلغ ما يرويه عن أبيه في كتاب المعاني وحده، أما إذا نظرنا إلى الأحاديث التي يرويها عن شيخه محمّد ابن موسى بن المتوكل فجميع ما ورد عن طريقه في الكتابين معا لا يبلغ 120 حديثا، و على هذا القياس تتضاءل أيضا نسبة مروياته عن سائر شيوخه الآخرين في هذين الكتابين‏ «1».

______________________________

 (1). إنّما خصصت هذين الكتابين بالذكر دون باقي كتبه، لأنّي كنت نظمت فهرستا خاصا بأسماء شيوخه في الحديث لبيان مواضع رواياته عنهم في سائر كتبه، و ابتدأت يومئذ بكتابيه المعاني و الأمالي، و لم تسنح الفرصة باستيعاب باقي آثاره، نسأل المولى التوفيق لإكمال ذلك إن شاء اللّه.

15
ثواب الأعمال و عقاب الأعمال (المقدمة)

الشيخ الصدوق - مؤلف الكتاب ص : 5

و ثمة ظاهرة في مؤلّفات هذا الشيخ الجليل لها قيمتها هي توريخه السماع غالبا مع ذكر المكان ممّا يزيد في قيمة السند و الرواية.

فانّا إذا رجعنا إلى كتب المؤلّف رحمه اللّه نجده يمتاز في أسانيده عن شيوخه الكثيرين بتحديد زمان سماعه، و المكان الذي سمع فيه غالبا و هذه الظاهرة كما أوقفتنا على منهج المؤلّف دلتنا على ما أنار لنا جوانب من تاريخه أهملها مؤرخوه.

فهو لم يقتصر في أخذه عن مشايخ بلده فحسب بل رحل إلى كثير من البلدان طلبا للحديث و استزادة في العلم، و سمع الكثير من شيوخ العلم في مختلف الحواضر العلمية، و ربما حدّث هو في بعض تلك البلاد فسمع منه أشياخ البلد على حداثة سنّه.

و قد ذكر شيوخه سماحة سيدي الوالد دام ظله فأنهى عددهم إلى أكثر من مائتي شيخ، اقتبسنا منهم العلويين خاصّة، فذكرناهم في مقدّمة كتابه (التوحيد) مع بسط تراجمهم فكانوا سبعة، فراجع مقدّمة كتاب التوحيد ص 15- 25.

أما البلاد التي رحل إليها فأولها الري، و قد التمسه أهلها للاقامة بينهم و زاد في إقناعه باجابتهم ما طلبوا وجود الأمير ركن الدولة البويهي و ما كان عليه من رعاية العلماء و إكرامهم و القيام بشئونهم، و لم نعثر على تحديد تاريخ هجرته إلى الري، إلّا أن في أسانيده ما يشير إلى وجوده بقم في رجب سنة 239 حيث سمع بها من الشريف أبي يعلى حمزة بن محمّد الزيدي العلوي‏ «1» كما إنّا نجده يحدث عن سماعه في الري من أبي الحسن محمّد بن أحمد الأسدي المعروف بابن جرادة البردعي في رجب سنة 347 «2»، و أنّه لم تنقطع صلته‏

______________________________

 (1). عيون الأخبار باب 22 حديث 5، و الخصال ج 1 ص 12 طبع الحيدريّة بتقديمنا سنة 1391، و معاني الأخبار باب معنى ثياب القسي.

 (2). الأمالي ص 206 طبع الحيدريّة بتقديمنا.

16
ثواب الأعمال و عقاب الأعمال (المقدمة)

الشيخ الصدوق - مؤلف الكتاب ص : 5

بوطنه الأول قم، فربما دخلها إمّا لزيارة المشهد فيها أو للقاء الشيوخ، كما يظهر من مقدّمة كتابه إكمال الدين حين صرّح بوجوده بقم، و ذلك بعد عودته من زيارته للمشهد الرضوي، و كانت زيارته الأولى سنة 352 فقد اجتمع بقم بالشيخ نجم الدين أبي سعيد محمّد بن الحسن بن محمّد بن أحمد بن علي بن الصلت القمّيّ، و كان قد ورد من بخارا فذاكره في أمر الغيبة و سأله أن يصنف فيها كتابا (لاحظ إكمال الدين ص 2- 3 طبع الحيدريّة بتقديمنا).

و قد خرج إلى خراسان قاصدا زيارة الإمام الرضا «ع» في طوس سنة 352 فاستأذن الأمير البويهي ركن الدولة فأذن له، و لما خرج من عنده استدعاه ثانيا و سأله أن يدعو له عند المشهد «1»، فكانت تلك الزيارة هي أولى زياراته الثلاث، فقد زار المشهد ثانيا سنة 367 بعد موت الأمير البويهي المذكور بسنة، كما زار المشهد ثالثا في سنة 368 في طريقه إلى بلاد ما وراء النهر.

و في سنة 352 في شعبان كان في نيسابور في طريقه إلى المشهد الرضوي فسمع في ذلك التاريخ أبا الطيب الرازيّ‏ «2» و ابن عبدوس النيسابوريّ‏ «3» و أبا سعيد المعلم‏ «4» و الحسين بن أحمد البيهقيّ، و كان سماعه منه في داره‏ «5» و قد سمع في نيسابور من شيوخ آخرين لم نعثر على تاريخ سماعه منهم، فلا ندري هل في سفره هذا أم في أسفاره التي بعد ذلك، و كان منهم أبو نصر الضبي‏

______________________________

 (1). عيون الأخبار باب 69 في ذيل الحديث الثاني من الباب تجد كلام الأمير البويهي مع المؤلّف فراجع.

 (2). عيون الأخبار باب 59 حديث 2.

 (3). نفس المصدر باب 8 حديث 5.

 (4). التوحيد ص 40 طبع الحيدريّة بتقديمنا.

 (5). عيون الأخبار باب 2 حديث 1.

17
ثواب الأعمال و عقاب الأعمال (المقدمة)

الشيخ الصدوق - مؤلف الكتاب ص : 5

و قال عنه: و ما لقيت أنصب منه‏ «1»، و بلغ من نصبه أنّه كان يقول اللّهمّ صل على محمّد فردا و يمتنع من الصلاة على آله، و من عبد اللّه بن محمّد بن عبد الوهاب السجزي‏ «2» و أحمد بن إبراهيم الخوزي‏ «3».

و في مرو الروذ سمع من رافع بن عبد الملك و محمّد بن عليّ بن الشاه الفقيه المروروذي في داره، كما سمع في سرخس أبا نصر محمّد بن أحمد بن إبراهيم بن تميم السرخسي الفقيه، كل ذلك في طريقه إلى خراسان في أسفاره إليها.

و لما عاد من خراسان في سنته تلك (352) توجه إلى بغداد في طريقه إلى الحجّ فدخلها في تلك السنة، و سمع منه شيوخ الطائفة و هو حدث السن‏ «4» و قد سمع ببغداد من جماعة منهم أبو الحسن عليّ بن ثابت الدواليبي‏ «5» و الشريف النسابة أبو محمّد الحسن بن محمّد بن يحيى العلوي المعروف بابن أخي طاهر بداره طرف سوق العطش، كما أجاز له ممّا صح عنده من حديثه‏ «6».

و يبدو أنّه لم يتجاوز بغداد في سفره هذا، لكنه في سنة 354 حج بيت اللّه الحرام فسمع بالكوفة من محمّد بن بكران النقاش‏ «7» و من أحمد

______________________________

 (1). معاني الأخبار باب معاني أسماء محمّد و علي و فاطمة و الأئمة «ع» حديث 4.

 (2). التوحيد ص 307.

 (3). المصدر السابق ص 6.

 (4). رجال النجاشيّ ص 276 طبع بمبى‏ء، و فيه أنّه ورد بغداد سنة 355 فلعل ذلك بعد حجه في سنة 354، و لم أقف على من صرّح بدخوله في سنة 355 في غيره و في سماعاته بهمدان تصريح بأنها بعد حجه في سنة 354.

 (5). عيون الأخبار باب 6 حديث 29.

 (6). إكمال الدين ص 469 و ص 507.

 (7). عيون الأخبار باب 11 حديث 26.

18
ثواب الأعمال و عقاب الأعمال (المقدمة)

الشيخ الصدوق - مؤلف الكتاب ص : 5

ابن هارون الفامي في مسجد الكوفة «1».

و من الحسن بن محمّد بن سعيد الهاشمي الكوفيّ‏ «2»، و هؤلاء قد أرّخ سماعاته منهم، و أنّها في سنة 354.

أما الذين لم يؤرخ سماعاته منهم و صرّح بسماعه منهم في الكوفة فهم علي بن عيسى المجاور في مسجد الكوفة، و أبو القاسم الحسن بن محمّد بن السكوني المذكر الكوفيّ، و محمّد بن عليّ بن الفضل الكوفيّ في مسجد أمير المؤمنين عليه السلام في الكوفة و عليّ بن الحسين بن شقير الهمداني في منزله بالكوفة «3» و غيرهم ممن لم يسمهم، فقد ذكر في نوادر كتابه الفقيه ج 4 ص 261 أنّه سمع رجلا من أهل المعرفة باللغة في الكوفة.

كما سمع بعد منصرفه من الحجّ بفيد- و هو اسم مكان منتصف الطريق تقريبا بين مكّة و الكوفة- من أبي عليّ أحمد بن جعفر البيهقيّ‏ «4»، و سمع ممن يثق به من أهل المدينة في شأن وادي مهزور، و الظاهر أن سماعه منه كان بها راجع الفقيه ج 3 ص 56.

و لما قفل راجعا إلى الري، و مرّ في طريقه بهمدان سمع بها من الفضل بن الفضل بن العباس الكندي و أجازه‏ «5»، و من القاسم بن محمّد ابن أحمد بن عبدويه الزاهد السراج الهمداني‏ «6».

و في سنة 367 توجه لزيارة المشهد الرضوي ثانيا، حيث أملى المجلس الخامس و العشرين من أماليه في يوم الجمعة 13 ذي الحجة من تلك السنة، و عاد إلى الري في سنة 378 حيث أملى المجلس السابع‏

______________________________

 (1). نفس المصدر باب 25 حديث 2.

 (2). نفس المصدر باب 26 حديث 22.

 (3 و 4) مقدّمة من لا يحضره الفقيه ص 19.

 (5). التوحيد ص 40 طبع الحيدريّة.

 (6). الخصال ج 1 ص 102 طبع الحيدريّة.

19
ثواب الأعمال و عقاب الأعمال (المقدمة)

الشيخ الصدوق - مؤلف الكتاب ص : 5

و العشرين في يوم الجمعة غرة المحرم سنة 368 بها.

و في شهر رجب توجه لزيارة المشهد الرضوي ثالثا، و مر في طريقه بنيسابور فأملى عدة مجالس من أماليه، منها في دار الشريف أبي محمّد يحيى بن محمّد العلوي الأفطسي المعروف بشيخ العترة و سيد السادة المجلس التاسع و الثمانين في يوم الأحد غرة شعبان من تلك السنة.

و أملى بنيسابور عدة من مجالسه، آخرها ما أملاه يوم الجمعة 12 شعبان و هو المجلس الثالث و التسعون، و سافر إلى طوس لزيارة المشهد، فكان بها يوم الثلاثاء 17 شعبان حيث أملى المجلس الرابع و التسعين، و هكذا بقي في المشهد الرضوي حتّى ختم أماليه بالمجلس 97 يوم الخميس 19 شعبان من سنة 368 ه.

و توجه إلى بلاد ما وراء النهر فدخل بلخ و سمع بها جماعة من شيوخ الحديث منهم الحسين بن محمّد الاشناني، و عبيد اللّه بن أحمد الفقيه و قد أجازه، و طاهر بن محمّد بن يونس بن حيوة الفقيه، و محمّد بن سعيد بن عزيز السمرقندي و غيرهم.

و ورد سرخس فسمع محمّد بن أحمد بن تميم السرخسي الفقيه، كما دخل سمرقند و سمع بها عبد الصمد بن عبد الشهيد، و عبدوس بن علي الجرجانيّ، و وصل إلى إيلاق- و هي كورة تتاخم كور الشاش و هما من أعمال سمرقند- فأقام بها و سمع الحديث من محمّد بن الحسن بن إبراهيم الكرخي الكاتب و محمّد بن عمرو بن عليّ بن عبيد اللّه البصري.

و في مدة إقامته بها اجتمع بالشريف أبي عبد اللّه محمّد بن الحسن العلوي المعروف بنعمة، و سمع كل منهما من الآخر، و وقف الشريف المذكور على أكثر مصنّفات الصدوق التي كانت معه فنسخها، كما سمع منه أكثرها، و رواها عنه كلها، و كانت مائتي كتاب و خمسة و أربعين كتابا «1».

______________________________

 (1). من لا يحضره الفقيه ج 1 ص 3.

20
ثواب الأعمال و عقاب الأعمال (المقدمة)

الشيخ الصدوق - مؤلف الكتاب ص : 5

و دخل فرغانة، و سمع بها من محمّد بن جعفر البندار الشافعي و إسماعيل ابن منصور بن أحمد القصار و تميم بن عبد اللّه بن تميم القرشيّ و غيرهم.

و هكذا نرى المؤلّف و هو في سن الشيخوخة- إذ قد تجاوز الستين- لا يزال يطوي المسافات الشاسعة في طلب الحديث و سماعه و إسماعه، و معه من مصنّفاته 245 كتابا.

و أكبر الظنّ أنّه لم يسافر بعد سفره إلى ديار ما وراء النهر في سنة 368 حتّى توفّي سنة 381 بالري، إذ لم نعثر على ما يشير إلى ذلك، و لا شك أنّه كان في أخريات أيامه بالري حيث أقام بها بعد أن قطع المسافات الشاسعة و طاف كثيرا من البلدان النائية في سبيل سماع الحديث و إسماعه لم يتلهف لماضي تمنى رجوعه، كما لم يتوجع لحادث يخشى وقوعه، بالرغم من تقدم سنه في الشيخوخة، و مضافا إلى مكانته الاجتماعية و صلاته الوثيقة برجال الحكم في الري فانه لو أراد أن ينعم بظلال الحياة الوارف كغيره من القابعين في بيوتهم لكان ذلك من أيسر ما يروم، لكنه العالم الذي عرف لذة العلم، فهو لا يأنس إلّا بكتابه و لا يطربه إلّا صرير قلمه، و لا يرى الكرامة و السعادة إلّا بين المحابر و الدفاتر، فلا غرابة إذا ما أنتج عقله النتاج القيّم، و أثمر علمه الكثير الطيب، فهو في نحو سبعة عقود و نصف من أعوام الحياة التي عاشها غذى المكتبة الإسلامية في فنون العلم و الآداب نحوا من ثلاثمائة مصنف‏ «1» و قيل أكثر من ذلك.

و قد ذكر سماحة سيدي الوالد دام ظله في رسالته حياة الشيخ الصدوق تفصيل أسماء آثاره مع الإشارة إلى ما وصلت إلينا نسخته و هو يبلغ العشر بالنسبة إلى ما حفظ اسمه و اندثر رسمه و مجموعها (22) كتابا و رسالة أما ما بقي فقد استأثر به التاريخ فلم يسمح حتّى باسمه.

______________________________

 (1). فهرست الطوسيّ ص 135، و معالم العلماء ص 111 و راجع بشأنها مقدّمة الفقيه ص 34 إلى 60.

21
ثواب الأعمال و عقاب الأعمال (المقدمة)

ثواب الأعمال، عقاب الاعمال ص : 22

و قد ذكرت في مقدّمة كتاب التوحيد ص 34- 45 تفصيل آثاره الباقية مع الإشارة إلى المخطوط و المطبوع منها، و أن فيها و فيما بقى من أسماء كتبه الأخرى التي سجلها أصحاب الفهارس و ما لم يسجلوها لدلالة على جودة البضاعة و وفور الرصيد العلمي حتّى تفجّرت تلك العقليّة عن مئات من المصنّفات في فنون الآداب و العلوم الإسلامية،

فألّف في التفسير و الفقه و الحديث و الكلام و العقائد و التاريخ و الرجال و الأخلاق و الآداب الشرعية و الدعاء و الزيارات سوى ما كتبه في أجوبة المسائل الواردة إليه من سائر البلاد الإسلامية كمصر و بغداد و الكوفة و البصرة و واسط و المدائن و نيسابور و قزوين، أو ما كتبه في جواب مسائل شخصية كجوابه إلى أبي محمّد الفارسيّ في شهر رمضان و غيره‏

ثواب الأعمال، عقاب الاعمال‏

لقد تفنن العلماء في معالجة النفوس و اصلاحها بشتى وسائل التهذيب، و اتخذ كل فريق سبيلا يؤدي منه رسالته، و يدعو فيها الى ربّه بالحكمة و الموعظة الحسنة، و كان التأليف من السبل الناجحة التي تؤدي الى الغاية مع طول الزمن، ما دام للكتاب أثر بين الناس.

و كان شيخنا الصدوق رحمه اللّه ممن اختار سبيل التأليف فأكثر فيه، و امتاز بكثرة مؤلّفاته، و قد حالفه التوفيق في قسم منها احتفظت الايام بنسخته.

فما من كتاب من كتبه تلك إلّا و قد تلقاه الناس بالقبول، و تداولوا نسخته إقبالا عليه، و لعلّ في روحية المؤلّف و اخلاصه في التأليف سر ذلك القبول و هذا الاقبال.

22
ثواب الأعمال و عقاب الأعمال (المقدمة)

ثواب الأعمال، عقاب الاعمال ص : 22

و ها نحن اليوم على أبواب كتابين من كتبه هما كتاب (ثواب الاعمال) و كتاب (عقاب الاعمال) و يعدان من نفائس كتب الترغيب و الترهيب ألفهما شيخنا الصدوق رحمه اللّه على نحو النهج الذي سلكه غير واحد من العلماء، جريا وراء التأثير على القلوب، و اجتهادا في امتلاك الوجدان و صيد العواطف لتصحيح سلوك الإنسان و اصلاحه، و توجيهه نحو الخير، و الانحياش به عن الرذائل و المعاصي، و اقتراف الآثام و الجرائم.

و هذا اللون من التأليف- أعني موضوع الترغيب و الترهيب- نجده عند جميع المسلمين مقبولا، و قد أكثر العلماء من التأليف فيه.

فخص بعضهم تأليفه بالترغيب فقط فكتب في ثواب الأعمال مثلا كتابا خاصا و جعل ذلك اسم كتابه، و قد عثرت على أسماء اثنى عشر كتابا في ذلك هي على النحو التالي:

1- ثواب الأعمال لابي جعفر أحمد بن محمّد بن خالد البرقي من اصحاب الامامين الجواد و الهادي عليهما السلام، و هو أحد كتبه المحاسن.

2- ثواب الأعمال لأبي جعفر محمّد بن عيسى بن عبيد اليقطيني من اصحاب الإمام الجواد (ع)، رواه عنه سعد بن عبد اللّه الحميري المتوفى حدود سنة 300 ه «1».

3- ثواب الأعمال لابي الفضل سلمة بن الخطّاب البراوستاني الأزدورقاني- نسبة الى قرية من سواد الري- رواه عنه سعد بن عبد اللّه الحميري الآنف الذكر و احمد ابن إدريس المتوفّى سنة 306 و محمّد بن الحسن الصفار و غيرهم‏ «2».

______________________________

 (1). الذريعة ج 5 ص 18 و إيضاح المكنون ج 1 ص 347.

 (2). الذريعة ج 5 ص 17 و إيضاح المكنون ج 1 ص 348.

23
ثواب الأعمال و عقاب الأعمال (المقدمة)

ثواب الأعمال، عقاب الاعمال ص : 22

4- ثواب الأعمال لأبي عبد اللّه محمّد بن حسان الرازيّ الزيدي- الزيني- رواه عنه أحمد بن إدريس المتوفّى سنة 306 الآنف الذكر «1».

5- ثواب الأعمال لابي محمّد جعفر بن سليمان القمّيّ رواه عنه محمّد ابن الحسن بن الوليد المتوفّى سنة 343 «2».

6- ثواب الأعمال لابي حاتم محمّد بن حبان البستي المتوفى سنة 354 «3».

7- ثواب الأعمال لابي الحسن عليّ بن أحمد بن الحسين الطبريّ الآملي رواه عنه النجاشيّ بواسطتين‏ «4».

8- ثواب الأعمال لأبي أحمد محمّد بن عليّ بن محمّد الكرجي القصاب‏ «5»

9- ثواب الأعمال لابن أبي حاتم الحنظلي الرازيّ صاحب الجرح و التعديل‏ «6».

10- ثواب الأعمال لأبي عبد اللّه الحسين بن عليّ بن سفيان البزوفري، رواه عنه ابن الغضائري المتوفّى سنة 411 و الشيخ المفيد المتوفّى سنة 413 «7».

11- ثواب الأعمال لابي العباس الناطفي المتوفّى سنة 446 «8».

12- ثواب الأعمال لابي جعفر الصدوق و هو الكتاب الأول من‏

______________________________

 (1). الذريعة ج 5 ص 18 و إيضاح المكنون ج 1 ص 348.

 (2). الذريعة ج 5 ص 17.

 (3). كشف الظنون ج 1 ص 525.

 (4). الذريعة ج 5 ص 18.

 (5). تذكرة الحفاظ ج 3 ص 938.

 (6). طبقات الصوفية للسلمي ص 138 هامش.

 (7). الذريعة ج 5 ص 17.

 (8). كشف الظنون ج 1 ص 525.

24
ثواب الأعمال و عقاب الأعمال (المقدمة)

تقييم الكتابين معا ص : 25

هذين الكتابين و لم تصل نسخة من تلك الكتب العشرة إلّا من الأول و الأخير و كلاهما مطبوعان مكرّرا.

و من هؤلاء العلماء من اختار جانب الترهيب أيضا فخصه بتأليف خاص فألف في عقاب الأعمال كما صنع أبو جعفر البرقي و أبو الفضل سلمة بن الخطّاب و أبو عبد اللّه محمّد بن حسان الرازيّ و القصاب و شيخنا الصدوق رحمهم اللّه جميعا، و كلهم ممن سبق له تأليف في ثواب الأعمال كما أشرنا آنفا، و لم تصل الينا من كتب عقاب الاعمال إلا كتاب البرقي و كتاب الصدوق و هو ثاني كتابينا اللذين نقدم لهما.

و من العلماء من خص تأليفه بجانب من الترهيب فقط فتفنن في ذلك كما صنع الحافظ الذهبي الذي الف كتابا جمع فيه الموبقات و سماه (الكبائر) و قد أنهاها الى سبعين و شرح كل واحدة منها «1».

و تبعه ابن حجر في ذلك فألف كتابه الزواجر عن اقتراف الكبائر، و زاد على ما ذكره الذهبي فانهى الكبائر الى (467) كبيرة «2».

و ثمة كتب أخرى خصت بثواب بعض الاعمال أو بعقاب بعض الاعمال كثيرة يجد القارئ أسماءها مبثوثة في كتب المعاجم و الفهرسة.

تقييم الكتابين معا

لما كانت مادة الكتابين معا مجموعة من أحاديث رواها الشيخ الصدوق رحمه اللّه بأسانيده المنتهية الى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و الى الأئمة عليهم السلام، و قد ضم الكتاب الأول منهما ما يناهز الثمانمائة

______________________________

 (1). مطبوع بالقاهرة سنة 1356.

 (2). مطبوع بمصر سنة 1356 في جزءين.

25
ثواب الأعمال و عقاب الأعمال (المقدمة)

تقييم الكتابين معا ص : 25

حديث كلها مسندة إلّا أربعة أحاديث مرسلة، و ضم الثاني منهما ما يناهز الثلاثمائة و خمسين حديثا مسندا إلّا خمسة منها مرسلة.

فلا بدّ في تقييمها أولا من ملاحظة رجال السند و وزنهم بميزان الجرح و التعديل، و بعد ذلك ملاحظة المتون، و هذا هو المقياس في اعتبار كتب الحديث عند تقييمها.

و نحن إذا ألقينا نظرة على أحاديث الكتابين نجدها لا تسلم جميعها عند التمحيص شأنها في ذلك شأن سائر كتب الترغيب و الترهيب التي كان سبيل مؤلّفيها على اختلاف مذاهبهم و أزمانهم هو الجمع بين الأحاديث التي تؤلف غرضهم المقصود، و تؤدي الى ترغيب الناس في الخير، أو ترهيبهم في الشر و هو الهدف المنشود.

فتراهم جمعوا بين ما قوي متنه و صح سنده، و بين ما هزل متنه و سقم سنده، و بين ما كان مقبول المتن دون السند، أو مردود الدلالة مقبول السند و جلها أخبار آحاد.

و عذرهم في هذا النوع من التساهل و التوسع في سرد الاخبار على النهج الذي أشرنا إليه، هو اعتمادهم على قاعدة التسامح في ادلة السنن،

و معناها عدم اشتراط ما ذكر من الشروط للعمل باخبار الآحاد من الإسلام و العدالة و الضبط في الروايات الدالة على السنن فعلا و تركا «1»

فصار هذا المعنى مجمعا عليه بين الفريقين‏ «2» و ان اخبار الفضائل يتسامح فيها عند أهل العلم‏ «3».

و قد ورد عن الامام أحمد بن حنبل و شيخه عبد الرحمن بن مهدي‏

______________________________

 (1). أوثق الوسائل ص 299 رسالة التسامح في أدلة السنن للشيخ المرتضى الأنصاري (قدّس سرّه).

 (2). عدّة الداعي لابن فهد الحلّي.

 (3). الذكرى للشهيد.

26
ثواب الأعمال و عقاب الأعمال (المقدمة)

تقييم الكتابين معا ص : 25

و عبد اللّه بن المبارك قالوا: إذا روينا في الحلال و الحرام شدّدنا، و إذا روينا في الفضائل و نحوها تساهلنا «1».

و للعلماء في الاستناد الى القاعدة المذكورة، و بالاحرى في تأسيسها أدلة عقلية و نقلية يمكن تلخيصها بما يلي:

1- ان الإقدام على محتمل المنفعة و مأمون المضرة عنوان لا ريب في حسنه و لا فرق عند العقل بينه و بين الاحتراز عن محتمل الضرر.

2- الاخبار الواردة بعنوان من بلغه عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله شي‏ء من الثواب فعمله كان ذلك له، و ان كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لم يقله، لكشف العمل عن الانقياد و الطاعة للرسول (ص) «2».

3- الاجماعات المنقولة المعتضدة بالشهرة العظيمة، بل الاتفاق المحقق و مهما نوقشت تلك الأدلة فقد أجيب عن المناقشات بما لا مجال لذكره و قد كتب في الموضوع عدة بحوث و رسائل لعلها أوفاها ما كتبه الشيخ المرتضى الأنصاري قدّس سرّه. و قد طبعت رسالته في الموضوع ضمن أوثق الوسائل من ص 299 الى ص 307.

و بناء على جميع ذلك فقد اعتمد الكتابين كل من تأخر من أصحاب الجوامع الحديثية كالشيخ الحرّ العامليّ في الوسائل و المجلسي في بحار الانوار، و المحدث النوريّ في المستدرك سوى غيرهم ممن اعتمدهما و أخرج عنهما في مؤلّفه، لأن جل ما جاء فيهما ممّا كان مقبول المتن و السند معا.

فكل منهما بجملته نافع مفيد في بابه، فهو سلوة الحائر الجازع، و مصلح الخائر المائع، فيه ترقيق القلب القاسي، و تزهيد عن فضول الحطام و زجر عن المعاصي و الآثام تسكن إليه النفوس عند اضطرابها، و تجد فيه هديها و صوابها.

______________________________

 (1). تدريب الراوي للسيوطي ص 196 الطبعة الأولى سنة 1379 ه.

 (2). المحاسن للبرقي ج 1 ص 25 كتاب (ثواب الأعمال).

 

27