رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
الجزء السادس
[الجزء السادس]
الروضة الرابعة و الأربعون
3
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
و كان من دعائه عليه السلام إذا دخل شهر رمضان ص 5
و كان من دعائه عليه السّلام إذا دخل شهر رمضان
الحمد للّه الّذى هدانا لحمده و جعلنا من أهله لنكون لاحسانه من الشّاكرين و ليجزينا على ذلك جزاء المحسنين و الحمد للّه الّذى حبانا بدينه و اختصّنا بملّته و سبّلنا في سبل إحسانه لنسلكها بمنّه إلى رضوانه حمدا يتقبّله منّا و يرضى به عنّا و الحمد للّه الّذى جعل من تلك السّبل شهره شهر رمضان شهر الصّيام و شهر الاسلام و شهر الطّهور و شهر التّمحيص و شهر القيام الّذى انزل فيه القران هدى للنّاس و بيّنات من الهدى و الفرقان فابان فضيلته على سائر الشّهور بما جعل له من الحرمات الموفورة و الفضائل المشهورة فحرّم فيه ما أحلّ في غيره اعظاما و حجر فيه المطاعم و المشارب إكراما و جعل له وقتا بيّنا لا يجيز جلّ و عزّ ان يقدّم قبله و لا يقبل ان يؤخّر عنه ثمّ فضّل ليلة واحدة من لياليه على ليالي الف شهر و سمّاها ليلة القدر تنزّل الملائكة و الرّوح فيها باذن ربّهم من كل امر سلام دائم البركة إلى طلوع الفجر على من يشاء من عباده بما احكم من قضائه اللّهمّ صلّ على محمّد و اله و الهمنا معرفة فضله و اجلال حرمته ..........
5
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
و كان من دعائه عليه السلام إذا دخل شهر رمضان ص 5
و التّحفّظ بما حظرت فيه و اعنّا على صيامه بكفّ الجوارح عن معاصيك و استعمالها فيه بما يرضيك حتّى لا نصغى باسماعنا الى لغو و لا نسرع بابصارنا إلى لهو و حتّى لا نبسط أيدينا إلى محظور و لا نخطو باقدامنا إلى محجور و حتّى لا تعى بطوننا الّا ما احللت و لا تنطق السنتنا الّا بما مثّلت و لا نتكلّف الّا ما يدنى من ثوابك و لا نتعاطى الّا الّذى يقى من عقابك ثمّ خلّص ذلك كلّه من رئاء المرائين و سمعة المسمعين لا نشرك فيه أحدا دونك و لا نبتغى فيه مرادا سواك اللّهمّ صلّ على محمّد و اله وقفنا فيه على مواقيت الصّلوات الخمس بحدودها الّتى حدّدت و فروضها الّتى فرضت و وظائفها الّتى وظّفت و أوقاتها الّتى وقّتّ و أنزلنا فيها منزلة المصيبين لمنازلها الحافظين لأركانها المؤدّين لها في اوقاتها على ما سنّه عبدك و رسولك صلواتك عليه و اله في ركوعها و سجودها و جميع فواصلها على أتمّ الطّهور و اسبغه و أبين الخشوع و أبلغه و وفّقنا فيه لأن نصل ارحامنا بالبرّ و الصّلة و ان نتعاهد جيراننا بالافضال و العطيّة و ان نخلّص اموالنا من التّبعات و ان نطهّرها باخراج الزّكوات و ان نراجع ..........
6
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
و كان من دعائه عليه السلام إذا دخل شهر رمضان ص 5
من هاجرنا و ان ننصف من ظلمنا و ان نسالم من عادانا حاشا من عودى فيك و لك فانّه العدوّ الّذى لا نواليه و الحزب الّذى لا نصافيه و ان نتقرّب إليك فيه من الأعمال الزّاكية بما تطهّرنا به من الذّنوب و تعصمنا فيه ممّا نستانف من العيوب حتّى لا يورد عليك أحد من ملائكتك الّا دون ما نورد من ابواب الطّاعة لك و أنواع القربة إليك اللّهمّ انّى أسألك بحقّ هذا الشّهر و بحقّ من تعبّد لك فيه من ابتدائه إلى وقت فنائه من ملك قرّبته او نبيّ أرسلته او عبد صالح اختصصته ان تصلّى على محمّد و اله و اهّلنا فيه لما وعدت اولياءك من كرامتك و أوجب لنا فيه ما أوجبت لأهل المبالغة في طاعتك و اجعلنا فى نظم من استحقّ الرّفيع الأعلى برحمتك اللّهمّ صلّ على محمّد و اله و جنّبنا الإلحاد في توحيدك و التّقصير في تمجيدك و الشّكّ في دينك و العمى عن سبيلك و الاغفال لحرمتك و الانخداع لعدوّك الشّيطان الرّجيم اللّهمّ صلّ على محمّد و اله و إذا كان لك في كلّ ليلة من ليالي شهرنا هذا رقاب يعتقها عفوك أو يهبها صفحك فاجعل رقابنا من تلك الرّقاب و اجعلنا لشهرنا من خير أهل و أصحاب اللّهمّ صلّ على محمّد .........
7
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
و كان من دعائه عليه السلام إذا دخل شهر رمضان ص 5
و اله و امحق ذنوبنا مع امحاق هلاله و اسلخ عنّا تبعاتنا مع انسلاخ أيّامه حتّى ينقضى عنّا و قد صفّيتنا فيه من الخطيئات و اخلصتنا فيه من السّيّئات اللّهمّ صلّ على محمّد و اله و ان ملنا فيه فعدّلنا و ان زغنا فيه فقوّمنا و ان اشتمل علينا عدوّك الشّيطان فاستنقذنا منه اللّهمّ اشحنه بعبادتنا ايّاك و زيّن اوقاته بطاعتنا لك و اعنّا فى نهاره على صيامه و في ليله على الصّلوة و التّضرّع إليك و الخشوع لك و الذّلّة بين يديك حتّى لا يشهد نهاره علينا بغفلة و لا ليله بتفريط اللّهمّ و اجعلنا في سائر الشّهور و الأيّام كذلك ما عمّرتنا و اجعلنا من عبادك الصّالحين الّذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون و الّذين يؤتون ما اتوا و قلوبهم وجلة انّهم إلى ربّهم راجعون و من الّذين يسارعون في الخيرات و هم لها سابقون اللّهمّ صلّ على محمّد و اله في كلّ وقت و كلّ أوان و على كلّ حال عدد ما صلّيت على من صلّيت عليه و اضعاف ذلك كلّه بالأضعاف الّتى لا يحصيها غيرك انّك فعّال لما تريد
8
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
مقدمة الشارح ص 9
[مقدمة الشارح]
[] (بسم اللّه الرحمن الرحيم و به نستعين) «1» الحمد للّه الذي كتب على عباده الصيام، و فضّل شهره و أيّامه على الشهور و الأيّام، و شرّفه بالذكر في محكم الفرقان فقال: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ «2» و الصلاة على نبيّه محمّد أشرف من صلّى و صام و على أهل بيته الهداة الأعلام سادة الخلق، و قادة الأنام.
و بعد: فهذه الروضة الرابعة و الأربعون من رياض السالكين في شرح صحيفة سيّد العابدين سلام اللّه عليه و على آبائه و أبنائه الطاهرين.
إملاء راجي فضل ربّه السّني علي صدر الدين الحسيني الحسني شرح اللّه تعالى صدره للإيمان، و جعله من الفائزين يوم الفزع الأكبر بالأمان «3».
__________________________________________________
(1) «ألف»: و به ثقتي.
(2) سورة البقرة: الآية 185.
(3) «ألف»: بالإيمان.
9
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الرابع و الأربعين ص 10
شرح الدعاء الرابع و الأربعين
و كان من دعائه عليه السّلام إذا دخل شهر رمضان.
الدخول: نقيض الخروج، يقال: دخلت الدار إذا صرت داخلها و هو هنا مجاز عن المجيء و الحضور، و لك جعل الكلام من باب الاستعارة المكنيّة و التمثيليّة و هو ظاهر.
و اختلفوا في اشتقاق رمضان على أقوال حكاها الواحدي و غيره.
أحدها: إنّه مأخوذ من الرمض و هو حرّ الحجارة من شدّة حرّ الشّمس «1».
فسمّي هذا الشهر رمضان لأنّ وجوب صومه صادف شدّة الحرّ، و هذا القول حكاه الأصمعي عن أبي عمرو «2».
الثاني: إنّه مأخوذ من الرّميض و هو من السحاب و المطر ما كان في آخر القيظ و أوّل الخريف، سمّي رميضا لأنّه يدرأ سخونة الشمس فسمّي هذا الشهر رمضان لأنّه يغسل الأبدان من الذنوب و الآثام و هو من قول الخليل «3»، و روي في هذا
__________________________________________________
(1) كتاب العين: ج 7 ص 39.
(2) التفسير الكبير: ج 5 ص 91 من دون النسبة.
(3) تهذيب الاسماء و اللغات: الجزء الاوّل من القسم الثاني، ص 126.
10
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الرابع و الأربعين ص 10
..........
المعنى حديث عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إنّه قال: «إنّما سمّي رمضان لأنّ رمضان يرمض الذنوب» «1».
الثالث: إنّه من قولهم: رمضت النصل أرمضه رمضا إذا دققته بين حجرين ليرق فسمّي هذا الشهر رمضان لأنّهم كانوا يرمضون أسلحتهم فيه ليقضوا أو طارهم منها في شوّال قبل دخول الأشهر الحرم، و هذا القول يحكى عن الأزهري «2» فعليه فالاسم جاهلي و على القولين الأولين يكون الاسم إسلاميّا و قبل الإسلام لا يكون له هذا الأسم «3» انته.
و هذا مبني على أن صومه من خصائص هذه الامّة.
الرابع: ما قاله البيضاوي إنّه سمّي بذلك لارتماضهم فيه من حرّ الجوع و العطش «4»، انته.
و هو يشعر أيضا بأنّه إسلامي و لا ينافيه كون الصوم عبادة قديمة لأنّ المدّعى خصوص صوم رمضان.
قال البيضاوي: و هو مصدر رمض «5».
و قال أبو حيّان: يحتاج في تحقيق أنّه مصدر إلى صحّة نقل لأنّ فعلانا ليس مصدر فعل اللازم، بل إن جاء فيه كان شاذا، و الأولى أن يكون مرتجلا لا منقولا «6» انته.
و رمضان غير منصرف للعلميّة، و زيادة الألف و النّون و إن كان العلم هو مجموع
__________________________________________________
(1) الدر المنثور: ج 1 ص 183.
(2) التفسير الكبير للفخر الرازي: ج 5 ص 91.
(3) تهذيب الأسماء و اللّغات: الجزء الأول من القسم الثاني ص 126.
(4) تفسير أنوار التنزيل و أسرار التأويل: ج 1 ص 101.
(5) تفسير أنوار التنزيل و أسرار التأويل: ج 1 ص 101.
(6) تفسير البحر المحيط: ج 2 ص 26.
11
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الرابع و الأربعين ص 10
..........
شهر رمضان- كما سيأتي تحقيقه- لأنّ المعتبر في الأعلام المركّبة الإضافيّة في أسباب منع الصرف و نحوه حال المضاف إليه فيمتنع «1» مثل شهر رمضان من الصرف و دخول الألف و اللام، و ينصرف مثل شهر ربيع، قاله السعد التفتازاني في شرح الكشاف «2».
(تنبيهان) (الأوّل:) إضافة شهر إلى أسماء الشهور قاطبة جائزة و هو قول سيبويه «3» و أكثر النحوييّن، و قيل: مختصّ بما في أوّله راء و هو الربيعان و رمضان.
قال الأزهري: العرب تذكر الشهور كلّها مجرّدة من لفظ شهر إلّا شهري ربيع و شهر رمضان «4».
قال اللّه تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ «5». و قال الراعي:
شهري ربيع ما تذوق لبونهم إلّا حموضا وخمة «6» و دويلا
و لم تستعمله العرب مع غير ذلك و قد تستعمله مع ذي القعدة كذا قال البدر بن مالك في شرح التسهيل «7».
و تعقبه البدر الدماميني بأنّ صدر كلامه يعني قوله: «ما في أوّله راء يقتضي جواز إضافة شهر إلى رجب» و آخر كلامه يعني قوله: «و لم تستعمله العرب مع غير ذلك» يدافعه «8» انته.
و صرّح الأنسوي «9» في الكوكب الدري باستثناء رجب من هذه القاعدة، و قال بعضهم: إنّما التزمت العرب لفظ شهر مع ربيع لأنّ لفظ ربيع مشترك بين الشهر
__________________________________________________
(1) «ألف»: فيمنع.
(2) لم نعثر عليه.
(3) تفسير روح المعاني: ج 2 ص 60.
(4) تهذيب اللغة: ج 2 ص 374.
(5) سورة البقرة: الآية 185.
(6) «ألف» دخمة.
(7) لم نعثر عليه.
(8) لم نعثر عليه.
(9) «ألف»: الاستري.
12
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الرابع و الأربعين ص 10
..........
و الفصل فالتزموا لفظ شهر مع اسم الشهر للفرق بينهما، و قال ثعلب «1» انّما خصت العرب شهري ربيع و شهر رمضان بذكر شهر معها من دون غيرها من الشهور ليدلّ على موضع الاسم كما قالت العرب ذو يزن و ذو كلاع فزادت ذو ليدلّ على الاسم و المعنى صاحب هذا الاسم «2»، انته.
و في حاشية البخاري للدماميني ما نصّه: صرّح الزمخشري بأنّ مجموع المضاف و المضاف إليه في قولك: شهر رمضان هو العلم «3»، انته.
و قال التفتازاني في شرح الكشّاف: أطبقوا على أنّ العلم في ثلاثة أشهر هو مجموع المضاف و المضاف إليه شهر رمضان و شهر ربيع الأوّل و شهر ربيع الآخر و في البواقي لا يضاف إليه فلذلك حسنت إضافة لفظ شهر إليها و إلّا لم تحسن كما لا يحسن في إنسان زيد أي إضافة العام إلى الخاص «4»، انته.
و اعترضه الدماميني بأنّ إضافة الشهر إلى علم الثلاثين يوما يخرجه عن كونه اسما للثلاثين يوما و يراد به حينئذ مطلق الوقت فلا تصحّ الإضافة حينئذ، و دعوى الإطباق على أن العلم في الثلاثة الأشهر فقط هو مجموع المضاف و المضاف إليه دون غيرها ممنوعة فقد قال سيبويه: أسماء الشّهور كالمحرم و صفر و كذا سائرها إذا لم يضف إليها اسم الشّهر فهي كالدهر و الليل و النهار و الأبد يعني تكون للعدد فلا تصلح إلا جوابا لكم قال: لأنّهم جعلوها جملة واحدة لعدة الأيّام كأنّك قلت سير عليه الثلاثون يوما و يستغرقها السير و لو أضفت إليها لفظ الشهر صارت كيوم الجمعة و صلحت جوابا لمتى، هذا كلامه فأيّ إطباق، و هذا سيبويه إمام الجماعة و متبوع أرباب الصناعة ينادي بإضافة شهر إلى كلّ واحد من أسماء الشهور «5»، انته.
__________________________________________________
(1) «ألف»: تغلب.
(2) لم تتوفّر لدينا مؤلّفاتهم.
(3) لم تتوفّر لدينا مؤلّفاتهم.
(4) لم تتوفّر لدينا مؤلّفاتهم.
(5) لم تتوفّر لدينا مؤلّفاتهم.
13
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الرابع و الأربعين ص 10
..........
و قال أبو حيّان: ما ذكره الزمخشري من أنّ علم الشهر مجموع اللّفظين غير معروف و إنّما اسمه رمضان، فإذا قيل: شهر رمضان فهو كما يقال شهر المحرّم و يجوز ذلك ثم نبّه على أنّه علم جنس «1».
و قال ابن درستويه: الضابط في ذلك أن ما كان من أسمائها أسماء للشهر أو صفة قامت مقام الاسم فهو الذي لا يجوز أن يضاف إليه الشهر و لا يذكر معه كالمحرم إذ معناه الشهر المحرم و كصفر إذ هو اسم معرفة كزيد، و جمادى إذ هو معرفة و ليس بصفة و رجب و هو كذلك، و شعبان و هو بمنزلة عطشان، و شوّال و هو صفة جرت مجرى الاسم و صارت معرفة، و ذو القعدة و هو صفة قامت مقام الموصوف، و المراد القعود عن التصرّف كقولك: الرجل ذو الجلسة فإذا حذفت الرجل قلت ذو الجلسة، و ذو الحجّة مثله، و أمّا الربيعان و رمضان فليست بأسماء للشّهور و لا صفات له فلا بد من إضافة لفظ شهر إليها و يدلّ على ذلك أنّ رمضان فعلان من الرّمض كقولك شهر الغليان و ليس الغليان بالشهر و لكن الشهر شهر الغليان، و ربيع إنّما هو اسم للغيث و ليس الغيث بالشهر «2»، انته.
و اعتذر القائلون بأنّ علم الشهر مجموع اللفظين عن نحو ما روي من صام رمضان بأنّه من باب الحذف لا من اللبس و جاز الحذف من الأعلام و إن كان من قبيل حذف بعض الكلمة لأنّهم أجروا هذا العلم في جواز الحذف منه مجرى المتضائفين حيث أعربوا الجزئين بإعرابهما.
(الثاني:) ورد من طريق العامة و الخاصة النّهي عن التلفظ برمضان من دون إضافة الشّهر.
أمّا من طريق الخاصّة: فهو ما رواه ثقة الاسلام في الكافي بسند صحيح عن
__________________________________________________
(1) لا يوجد لدينا كتابه.
(2) الكتاب لابن درستويه: ص 92.
14
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الرابع و الأربعين ص 10
..........
سعد بن سالم «1» قال: كنّا عند أبي جعفر محمّد بن عليّ الباقر عليه السّلام فذكرنا رمضان فقال عليه السّلام: لا تقولوا هذا رمضان و لا ذهب رمضان و لا جاء رمضان فانّ رمضان اسم من أسماء اللّه تعالى و هو عزّ و جلّ لا يجيء و لا يذهب و لكن قولوا شهر رمضان فإنّ الشهر مضاف إلى الاسم و الاسم اسم اللّه عزّ ذكره «2».
و بسنده عن أبي عبد اللّه، عن أبيه عليهما السّلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام: لا تقولوا رمضان و لكن قولوا شهر رمضان فإنّكم لا تدرون ما رمضان «3».
و قال الشهيد الأوّل في كتاب نكت الارشاد ما هذا لفظه و نهي عن التلفظ برمضان، بل يقال: شهر رمضان في أحاديث من أجودها ما أسنده بعض الأفاضل إلى الكاظم عليه السّلام عن أبيه، عن آبائه عليهم السّلام قال: لا تقولوا رمضان فإنّكم لا تدرون ما رمضان من قاله فليتصدّق و ليصم كفّارة لقوله: و لكن قولوا كما قال اللّه عزّ و جلّ شهر رمضان «4».
و أمّا من طريق العامّة: فهو ما رواه أبو معشر نجيح المدني، عن أبي سعيد المقبري «5»، عن أبي هريرة مرفوعا لا تقولوا رمضان فإنّ رمضان اسم من أسماء اللّه تعالى، و لكن قولوا شهر رمضان «6».
و ما رواه هشام، عن أبان، عن أنس قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لا تقولوا رمضان انسبوه كما نسبه اللّه تعالى في القرآن فقال: شهر
__________________________________________________
(1) هكذا في الاصل. و لكن الصحيح كما في الكافي و هامشه هشام بن سالم، عن سعد بن طريف.
(2) الكافي: ج 4 ص 69 ح 2.
(3) الكافي: ج 4 ص 68 ح 1.
(4) مجمع البحرين: ج 4 ص 209 نقلا عنه.
(5) «ألف»: المقيري.
(6) كنز العمال: ج 8 ص 484 ح 23743.
15
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الرابع و الأربعين ص 10
قال صلوات اللّه و سلامه عليه: الحمد للّه الّذي هدانا لحمده رمضان «1».
قال في القاموس: إن صحّ أنّه من أسماء اللّه تعالى فهو غير مشتق أو راجع إلى معنى الغافر أي يمحو الذّنوب و يمحقها «2» انته.
و حمل أصحابنا النهي على الكراهة، قال شيخنا الشيخ زين الدين في تمهيد القواعد: و قد ورد عندنا النهي عن التلفظ برمضان من دون إضافة الشهر و هو نهي كراهة «3» انته.
و قال الشهيد «قدّس سرّه» في الدروس: هذا النهي للتنزيه إذ الأخبار عنهم عليهم السّلام مملوءة بلفظ رمضان «4».
و اختلف العامّة فذهب أصحاب مالك إلى الكراهة مطلقا، و قال كثير من الشّافعيّة: إن ذكر معه قرينة تدلّ على أنّه الشّهر كقولك صمت رمضان لم يكره و إلّا كره، و ذهب غيرهم إلى جوازه من غير كراهة، قالوا: لأنّه لم ينقل عن أحد من العلماء إنّ رمضان من أسماء اللّه تعالى و قد ثبت في الأحاديث الصحيحة ما يدلّ على الجواز مطلقا كقوله عليه السّلام: إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنان، و غلّقت أبواب النيران، و صفدت الشياطين «5».
قال القاضي عياض في قوله: إذا جاء رمضان دليل على جواز استعماله من غير لفظ شهر خلافا لمن منعه من العلماء «6» انته.
[] الحمد: هو الثناء باللسان على الجميل، سواء تعلّق بالفضائل كالعلم أم بالفواضل كالبرّ.
و الشكر: فعل ينبئ عن تعظيم المنعم لأجل النعمة سواء كان نعتا باللسان أو
__________________________________________________
(1) تفسير الجامع لاحكام القرآن: ج 2 ص 291.
(2) القاموس المحيط: ج 2 ص 333.
(3) تمهيد القواعد: ص 54 قاعدة 129.
(4) كتاب الدروس: ص 76.
(5) مجمع البحرين: ج 4 ص 208.
(6) مجمع البحرين: ج 4 ص 208 نقلا عنه.
16
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الرابع و الأربعين ص 10
و جعلنا من أهله لنكون لإحسانه من الشّاكرين و ليجزينا على ذلك جزاء المحسنين و الحمد للّه الّذي حبانا بدينه و اختصّنا بملّته و سبّلنا في سبل إحسانه لنسلكها بمنّه إلى رضوانه حمدا يتقبّله منّا و يرضى به عنّا.
اعتقادا و محبّة بالجنان أو عملا و خدمة بالأركان و قد جمعها الشاعر في قوله:
أفادتكم النعماء منّي ثلاثة يدي و لساني و الضّمير المحجبا
فالحمد أعمّ متعلقا لأنّه يعم النّعمة و غيرها و أخصّ موردا إذ هو اللّسان فقط، و الشكر بالعكس إذ متعلّقه النعمة فقط و مورده يعمّ اللسان و غيره فبينهما عموم و خصوص من وجه فهما يتصادقان في الثناء باللسان على الإحسان و يتفارقان في صدق الحمد فقط على النعت بالعلم مثلا، و صدق الشكر فقط على المحبّة بالجنان لأجل الإحسان. إذا عرفت ذلك فالمراد بالحمد في عبارة الدعاء هو الثناء باللسان على الإحسان لأنّ وصفه تعالى بالهداية لحمده و جعله من أهله يقتضي أن يكون له مدخل في اقتضاء الحمد لما تقرّر في الاصول من أنّ ترتيب الوصف على الحكم مشعر بالعلّيّة و لذلك علّله بقوله عليه السّلام: «لنكون لإحسانه من الشاكرين» إلى آخره.
و الضمير في أهله عائد إلى الحمد، أي من المتصفين به و أصل الأهل: القرابة ثم أطلق على من عرف بشيء و اتّصف به، يقال: أهل العلم لمن اتّصف به، و يحتمل عود الضمير إلى اللّه سبحانه أي من أوليائه و المختصّين به اختصاص أهل الانسان به، و في الحديث: «أهل القرآن أهل اللّه و خاصّته» «1»، و كانوا يسمّون أهل مكّة أهل اللّه تعظيما لهم كبيت اللّه، هذا و لمّا كان الحمد إحدى شعب الشكر باعتبار المورد كما عرفت و كان أدخل في إشاعة النعمة و الاعتداد بشأنها و أدلّ على مكانها لما في عمل القلب من الخفاء و في أعمال الجوارح من الاحتمال جعل رأس الشكر و ملاكا لأمره في قوله صلّى اللّه عليه و آله: «الحمد رأس الشكر، ما شكر اللّه عبد لم
__________________________________________________
(1) النهاية لابن الأثير: ج 1 ص 83.
17
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الرابع و الأربعين ص 10
..........
يحمده» «1»، و لذلك آثر عليه السّلام الحمد على الشكر في الثّناء عليه سبحانه و جعله سببا لشكر إحسانه مطلقا بقوله: «لنكون لإحسانه من الشاكرين» حتّى كأنّه لو لا الهداية إليه لم يكن الشكر و هو كذلك كما نصّ عليه الحديث المذكور، و بيانه أنّه إذا لم يعترف العبد بإنعام مولاه لم يثن عليه بما يدلّ على تعظيمه لم يظهر منه شكر ظهورا كاملا و إن اعتقد و عمل فلم يعتدّ شاكرا لأنّ حقيقة الشكر إظهار النعمة و الكشف عنها كما أنّ كفرانها إخفاؤها و سترها، و الاعتقاد: أمر خفيّ في نفسه و عمل الأركان و الجوارح و إن كان ظاهرا إلّا أنّه يحتمل خلاف ما قصد به إذ لم يعين له، بخلاف النطق فإنّه ظاهر في نفسه و معيّن لما أريد به وضعا «2» فهو الذي يفصح عن كف خفيّ و يجلي عن كل مشتبه «3» فلا احتمال له لا جرم كان الحمد رأس الشكر، فكما أنّ الرأس أظهر الأعضاء و أعلاها و عمدة لبقائها كذلك الحمد أظهر أنواع الشكر و أشملها على حقيقته حتّى إذا فقد كان بمنزلة العدم فصحّ أنّه ما شكر اللّه عبد لم يحمده و اتّضح كونه سببا للشكر و الاتصاف به و الجزاء: المكافأة على الشيء، جزاه به و عليه جزاء، و ذلك إشارة إلى الحمد و ما فيه من البعد لتفخيمه و تعظيمه أي و ليجزينا تعالى على حمده جزاء مثل جزاء المحسنين، و في تشبيه جزاء الحامدين بجزاء المحسنين من تعظيم أمر الحمد ما لا يخفى حيث جعل ما يترتّب عليه من الثواب و الجزاء مثل ما يترتب على الإحسان الذي هو حقيقة الإتيان بالأعمال على الوجه اللائق و هو حسنها الوصفي المستلزم لحسنها الذاتي و قد فسّره صلّى اللّه عليه و آله بقوله: الإحسان أن تعبد اللّه كأنّك تراه فإن لم تكن تراه فانّه يراك «4».
و فيه تلميح إلى ما وعده سبحانه من الزيادة على كل من الشكر و الإحسان حيث قال في الشكر: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ «5»، و قال في الإحسان: وَ سَنَزِيدُ
__________________________________________________
(1) النهاية لابن الأثير: ج 1 ص 437.
(2) «ألف»: وصفا.
(3) «ألف»: مشبه.
(4) النهاية لابن الأثير: ج 1 ص 387.
(5) سورة إبراهيم: الآية 7.
18
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الرابع و الأربعين ص 10
الْمُحْسِنِينَ «1» و قال: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَ زِيادَةٌ «2».
[ 1154] و حبوت الرجل أحبوه، حباء بالكسر و المدّ: أعطيته الشيء بغير عوض و الاسم منه الحبؤ «3» بالضّم.
و خصصته بكذا أخصّه خصوصا من باب «قعد» و اختصصته به اختصاصا و خصّصته «4» به تخصيصا جعلته له دون غيره.
و المراد بدينه تعالى: الإسلام لقوله تعالى: أَ فَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ «5».
قال الراغب: يعني الإسلام «6».
و الملّة بمعناه، و قد تقدّم الكلام على أنّهما يتّحدان بالذات و يختلفان بالاعتبار فإنّ الشّريعة من حيث إنّها يطاع بها تسمّى دينا، و من حيث يجتمع عليها ملّة، و كان المراد باختصاصه تعالى إيّانا بملته اختصاصه ايّانا بالهداية إليها و إلّا فالدّعوة إليها عامّة أو اختصاصه إيّانا دون الامم السالفة.
و سبّلنا: أي سيّرنا في سبل إحسانه كقولهم: فوز الرّجل بإبله إذا ركب بها المفازة و هي الفلات لا ماء فيها و منه سبّل ضيعته: أي جعلها في سبيل اللّه كأنّه سيّرها فيه.
و الإحسان هنا بمعنى الإنعام و الإفضال.
و سلكت الطريق سلوكا من باب- قعد-: ذهب فيه.
و «الباء» في «بمنّه» للاستعانة أو للملابسة.
و الرضوان: الرضي الكثير، و لمّا كان أعظم الرضا رضى اللّه تعالى خصّ لفظ الرضوان في القرآن بما كان من اللّه تعالى و رضاه سبحانه عن العبد يعود إلى علمه بموافقته لأمره و طاعته له.
__________________________________________________
(1) سورة البقرة: الآية 58.
(2) سورة يونس: الآية 26.
(3) «ألف»: الحبوة.
(4) «ألف»: اخصصته.
(5) سورة آل عمران: الآية 83.
(6) المفردات: ص 175.
19
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الرابع و الأربعين ص 10
و الحمد للّه الّذي جعل من تلك السّبل شهره شهر رمضان شهر الصّيام و شهر الإسلام و شهر الطهور و شهر التّمحيص و شهر القيام.
و التّقبل: قبول الشيء على وجه يقتضي ثوابا كالهديّة، و لمّا لم تكن كل عبادة متقبّلة بل إنّما تتقبّل إذا كانت على وجه مخصوص كما قال تعالى: إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ «1» جاء بالمصدر المنصوب على المفعوليّة المطلقة المفيد لبيان نوع عامله فقال: «حمدا يتقبّله منّا و يرضى به عنّا». و «الباء» للسببيّة، و الظرفان لغوان متعلّقان بيرضى، أي و يرضى بسببه عنّا، هذا هو الظاهر المتبادر و يجوز أن تكون «الباء» زائدة لقولهم رضيه و رضى به بمعنى، و عن بمعنى من، مثلها في قوله تعالى:
وَ هُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ «2» أو هي متعلّقة بمحذوف، و المعنى و يرضاه منّا أو يرضاه صادرا عنّا و اللّه أعلم.
[ 1155] الإشارة في تلك السبل إلى سبل إحسانه التي سبّلنا فيها، و إضافة الشهر إلى الضمير العائد إليه سبحانه، إمّا لتعظيمه أو لمزيد الاختصاص المفهوم ممّا نطق به الحديث القدسيّ الذي رواه الخاصّة و العامّة: إنّ اللّه تعالى يقول: «إن الصّوم لي و أنا أجزي عليه» «3»، و إمّا إشعارا بأنّ رمضان من أسمائه تعالى كما مرّ.
و شهر رمضان: بدل من شهره، بدل كل، و هو في حكم تكرير العامل من حيث إنّه المقصود بالنسبة، و فائدته التنصيص على أنّ شهره تعالى هو شهر رمضان.
و شهر الصيام: إمّا بدل من شهر رمضان أو عطف بيان على جهة المدح، كما قاله الزمخشري في قوله تعالى: «جعل اللّه الكعبة البيت الحرام»، إنّ البيت الحرام عطف على جهة المدح كما في الصفة لا على جهة التوضيح «4».
و قال ابن هشام في نحو: «آمنّا بربّ العالمين ربّ موسى و هارون» يحتمل بدل
__________________________________________________
(1) سورة المائدة: الآية 27.
(2) سورة الشورى: الآية 25.
(3) الكافي: ج 4 ص 63 ح 6 و كنز العمال: ج 8 ص 445 ح 23576.
(4) تفسير الكشاف: ج 1 ص 681.
20
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الرابع و الأربعين ص 10
..........
الكل و عطف البيان «1».
و الصيام: مصدر كالصوم، قيل: هو في اللّغة مطلق الإمساك ثم استعمل في الشرع في إمساك مخصوص.
و قال أبو عبيدة: كلّ ممسك عن طعام أو كلام أو سير فهو صائم. قال الشاعر:
خيل صيام و خيل غير صائمة
أي قائمة بلا اعتلاف «2».
و الإسلام: إمّا بمعناه اللّغوي أي الانقياد و الطاعة لكثرة الطاعات في هذا الشهر، أو بمعنى دين الإسلام لكون افتراض صومه من خصائص هذه الامّة عندنا و عند الجمهور من العامّة كما رواه رئيس المحدّثين في الفقيه بسنده عن حفص بن غياث النخعي قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: «إنّ شهر رمضان لم يفرض اللّه صيامه على أحد من الامم قبلنا، فقلت له: فقول اللّه عزّ و جلّ: «يا أيّها الّذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم»؟ قال: إنّما فرض اللّه صيام شهر رمضان على الأنبياء دون الامم ففضّل به هذه الامّة و جعل صيامه فرضا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و على أمّته» «3».
و روى العامّة عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «رمضان شهر امّتي» «4»، و أجابوا عن الآية: أنّ التشبيه فيها لمطلق الصوم.
[ 1156] و الطهور: بالفتح و الضم هنا على الرّوايتين مصدران بمعنى الطهارة و هي النقاء من الدّنس و النجس.
قال صاحب القاموس: الطهور يعني بالفتح المصدر و اسم ما يتطهر به «5».
__________________________________________________
(1) مغني اللبيب: ص 738.
(2) لسان العرب: ج 12 ص 351.
(3) من لا يحضره الفقيه: ج 2 ص 99 ح 1844.
(4) كنز العمال. ج 12 ص 310 ح 35164.
(5) القاموس المحيط: ج 2 ص 79.
21
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الرابع و الأربعين ص 10
..........
و قال الراغب: الطهور بالفتح قد يكون مصدرا و قد يكون اسما غير مصدر كالفطور في كونه اسما لما يفطر به «1».
و في الأساس: قد طهرت طهورا و طهورا، و ما عندي طهور أتطهّر به: أي وضوء أتوضأ به، و اطلب لي ماء طهورا: بليغا في الطهارة لا شبهة فيه «2».
و التمحيص: تخليص الشيء ممّا فيه عيب، و منه قوله تعالى: وَ لِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ «3».
قال الراغب: التمحيص هاهنا كالتزكية و التطهير و نحو ذلك من الألفاظ، و يقال في الدّعاء: «اللّهم محّص عنّا ذنوبنا» أي أزل ما علق بنا من الذّنوب «4».
و في الكشّاف: التمحيص: التطهير و التصفية «5».
و قال الجوهري: التمحيص: الابتلاء و الاختبار «6».
و عليه تفسير ابن عباس و مجاهد و السدي لقوله تعالى: «و ليمحّص اللّه الذين آمنوا»: أي و ليبتلي اللّه الذين آمنوا «7».
و القيام: مصدر قام يقوم قوما و قياما: أي انتصب ثم استعمل في الصلاة ليلا لكثرة الانتصاب فيها، يقال: قام ليله أي صلّى فيه جميعه، و منه حديث: «من قام رمضان إيمانا و احتسابا غفر له ما تقدّم من ذنبه» «8».
«و من قام ليلة القدر إيمانا و احتسابا غفر له ما تقدّم من ذنبه» «9».
أي أكثر الصلاة فيه ليلا و إنّما خصّ القيام بصلاة اللّيل لأنّه خلاف المعهد في اللّيل بخلافه في النهار، و لذلك يقال: فلان يقوم اللّيل أي يصلّي و يتهجّد فيه، و لا
__________________________________________________
(1) المفردات: ص 308.
(2) أساس البلاغة: ص 399.
(3) سورة آل عمران: الآية 154.
(4) المفردات: ص 464.
(5) تفسير الكشاف: ج 1 ص 420.
(6) الصحاح: ج 3 ص 1056.
(7) مجمع البيان: ج 1- 2 ص 510.
(8) صحيح البخاري: ج 1 كتاب الايمان ص 16.
(9) روضة الواعظين: ص 349.
22
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الرابع و الأربعين ص 10
الّذي انزل فيه القرآن هدى للنّاس و بيّنات من الهدى و الفرقان فأبان فضيلته على سائر الشّهور بما جعل له من الحرمات الموفورة و الفضائل المشهورة فحرّم فيه ما أحلّ في غيره إعظاما و حجر فيه المطاعم و المشارب إكراما و جعل له وقتا بيّنا لا يجيز جلّ و عزّ أن يقدّم قبله و لا يقبل أن يؤخّر عنه.
يقال: يقوم النّهار و إن قطع عامته بالصّلاة، و إنّما قيل: لشهر رمضان شهر القيام لكثرة الصلوات المسنونة فيه ليلا، و الأشهر في الروايات استحباب ألف ركعة في لياليه زيادة على النوافل المرتبة و هو قول معظم الأصحاب، و كيفيتها: أن يصلّي خمسمائة ركعة في العشرين الأوّلين كل ليلة عشرين ركعة ثمان بعد المغرب و اثنتي عشرة ركعة بعد العشاء على الأظهر.
و قيل: بالعكس، و في ليلة تسع عشرة مائة غير عشريها، و خمسمائة ركعة في العشر الأخير كل ليلة ثلاثين، ثمان بعد المغرب و اثنتين و عشرين بعد العشاء و في ليلة إحدى و عشرين و ثلاث و عشرين، مائة مائة غير ثلاثيهما فتكون الجملة ألف ركعة، و وردت روايات أخرى بصلوات أخرى في لياليه «1» و بالجملة فقيام لياليه من المسنونات المشهورة بين الامّة و اللّه أعلم الموصول في محلّ النصب على أنه صفة ثانية لشهر رمضان موضّحة أو مادحة أو على تقدير أخصّ أو أمدح أو في محلّ الرّفع على المدح و التعظيم بتقدير مبتدأ أي هو الذي أنزل.
قال ابن مالك: التزم حذف الفعل في المنصوب على المدح إشعارا بأنّه إنشاء كما في المنادى و حذف المبتدأ في المرفوع إجراء للوجهين على سنن واحد «2».
__________________________________________________
(1) راجع وسائل الشيعة: ج 5 ص 170 ابواب نافلة شهر رمضان.
(2) لم نعثر عليه.
23
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الرابع و الأربعين ص 10
..........
قال أمين الاسلام الطبرسي (قدّس اللّه سرّه): اختلف في قوله: «أنزل فيه القرآن»، فقيل: إنّ اللّه تعالى أنزل جميع القرآن في ليلة القدر إلى سماء الدنيا ثم أنزل على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله نجوما في طول عشرين سنة. عن ابن عبّاس و سعيد ابن جبير و الحسن و قتادة، و هو المروي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، و قيل: إنّ اللّه تعالى ابتدأ إنزاله في ليلة القدر من شهر رمضان عن أبي إسحاق و قيل: إنّه كان ينزل إلى السماء الدنيا في ليلة القدر ما يحتاج إليه في تلك السنة جملة واحدة ثم ينزل على مواقع النجوم إرسالا في الشهور و الأيّام عن السدي بسنده إلى ابن عبّاس و روى الثعلبي بإسناده إلى أبي ذرّ الغفاري عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إنّه قال: «أنزلت صحف إبراهيم عليه السّلام لثلاث مضين من شهر رمضان، و في رواية الواحدي:
أوّل ليلة منه، و أنزلت توراة موسى عليه السّلام لست مضين من شهر رمضان و انزل إنجيل عيسى عليه السّلام لثلاث عشرة خلت «1» من رمضان، و انزل زبور داود عليه السّلام لثمان عشرة ليلة مضت من شهر رمضان، و انزل الفرقان على محمّد صلّى اللّه عليه و آله لأربع و عشرين مضين من شهر رمضان. و هذا بعينه رواه العياشي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام عن آبائه عن النبيّ عليه و عليهم السّلام «2» انته.
و في رواية عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «نزل القرآن في أوّل ليلة من شهر رمضان» «3».
و في أخرى عنه عليه السّلام: إنّه أنزل في ليلة ثلاث و عشرين منه «4».
و قيل: المراد بقوله أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ «5»: أنّه انزل في فرضه و إيجاب صومه على الخلق القرآن و هو قوله عزّ و جلّ: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ «6»، فيكون فيه بمعنى في فرضه كما يقول القائل: أنزل اللّه في الزكاة كذا
__________________________________________________
(1) «ألف»: عشرة مضت من رمضان.
(2) مجمع البيان: ج 1- 2 ص 276.
(3) الكافي: ج 4 ص 65 ح 1.
(4) البرهان في تفسير القرآن: ج 1 ص 182.
(5) سورة البقرة: الآية 185.
(6) سورة البقرة: الآية 183.
24
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الرابع و الأربعين ص 10
..........
أي في فرضها، و أنزل في الخمر كذا أي في تحريمها «1».
و عن سفيان بن عيينة: إنّ معناه انزل في فضله القرآن كما تقول انزل في عليّ كذا، و القولان متقاربان فإنّه لم ينزل في شأنه سوى الآية المذكورة.
قوله: «هدى للنّاس و بيّنات من الهدى»: منصوبان على الحاليّة: أي انزل و هو هداية للناس إلى الحق و هو آيات واضحات مكشوفات من جملة ما يهدي إلى الحق و يفرق بينه و بين الباطل من الكتب السماوية.
قال الراغب: و الفرقان أبلغ من الفرق لأنّه يستعمل في الفرق بين الحقّ و الباطل و هو اسم لا مصدر فيما قيل، و الفرق يستعمل في ذلك و في غيره، انته «2».
و الأصحّ أنّه مصدر ثم استعمل اسما في كل ما فرّق به بين الحقّ و الباطل.
و روي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال: «القرآن جملة الكتاب و الفرقان المحكم الواجب العمل به» «3».
و عن ابن عبّاس: إنّ المراد بالهدى الأوّل في الآية الهدى من الضلالة و بالثاني بيان الحلال و الحرام «4».
و عن الأصمّ: أنّ الأوّل ما كلّف به من العلوم و الثّاني ما يشتمل عليه من ذكر الأنبياء و شرائعهم و أخبارهم لانّها لا تدرك إلّا بالقرآن «5».
و قال النيسابوري: لما كان الهدى قسمين جليّ مكشوف و خفي مشتبه وصفه أوّلا بجنس الهداية، ثمّ قال: إنّه من نوع البيّن الواضح، و يحتمل أن يقال: القرآن هدى في نفسه و مع ذلك ففيه أيضا بيّنات من هدى الكتب المتقدّمة فيكون المراد بالهدى و الفرقان التوراة و الانجيل، أو يقال: الهدى الأوّل أصول الدين و الثاني فروعه فيزول التكرار «6» انته.
__________________________________________________
(1) مجمع البيان: ج 1- 2 ص 276.
(2) المفردات: ص 378.
(3) البرهان في تفسير القرآن: ج 1 ص 182.
(4) مجمع البيان: ج 1- 2 ص 276.
(5) مجمع البيان: ج 1- 2 ص 276.
(6) غرائب القرآن و رغائب الفرقان: ج 1 ص 191.
25
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الرابع و الأربعين ص 10
..........
[ 1157] و «الفاء» من قوله: «فأبان فضيلته»: عاطفة سببيّة أي فبسبب إنزال القرآن فيه أبان فضيلته إلى آخره.
قال المفسّرون: فائدة وصف الشهر بإنزال القرآن فيه التنبيه على علّة تخصيصه بالصوم فيه و ذلك أنه لما خصّ بأعظم آيات الربوبيّة ناسب أن يخصّ بأشقّ سمات العبوديّة فبقدر هضم النفس يترقى العبد في مدارج الانس، و يصل إلى معارج القدس و تنكشف عنه الحجب الناسوتيّة و يطلع على الحكم اللاهوتيّة.
و «الباء» من قوله عليه السّلام: «بما جعل» للسببيّة أو للاستعانة.
و الحرمات: جمع حرمة بالضمّ كغرفة و غرفات: و هي ما لا يحل انتهاكه أي تناولها بما لا يحلّ.
و الموفور: اسم مفعول من وفرت الشيء وفرا من باب- وعد-: أي أتممته و أكملته، و يقال أيضا: وفر الشيء وفورا إذا تمّ و كمل، يتعدّى و لا يتعدى و المصدر فارق.
و الفضائل: جمع فضيلة، و هي الدرجة الرفيعة في الفضل و الخير و الكمال.
و المشهورة: الظاهرة المعروفة، من شهرت الشيء إذا أظهرته و أبرزته.
و «الفاء» من قوله «فحرم»: للترتيب الذكري، و هو عطف المفصّل على المجمل نحو، توضأ فغسل وجهه و يديه و مسح رأسه و رجليه لأنّ ما بعدها تفصيل لما جعله له تعالى من الحرمات و الفضائل.
و حرم اللّه الشيء تحريما: منع من فعله.
و أحلّه إحلالا: أباحه.
و أعظمت الشيء إعظاما و عظمته تعظيما: فخّمته و وقّرته أي لأجل الإعظام فهو منصوب على المفعول لأجله و مثله إكراما في الفقرة الثانية.
[ 1158] و الحجر: المنع، و فعله من باب- قتل-.
و المطاعم و المشارب: جمع مطعم و مشرب بمعنى الطعام و الشّراب، و هما ما يؤكل
26
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الرابع و الأربعين ص 10
..........
و يشرب.
قال في الأساس: كثر عنده الطعام و الطعم و المطعم و الأطعمة و المطاعم «1».
و قال الفارابي:- في ديوان الأدب- المشرب: الشراب «2» و يجوز أن يكونا مصدرين.
قال في الكشاف في قوله تعالى: «و لهم فيها منافع و مشارب أ فلا يشكرون»، مشارب: جمع مشرب و هو موضع الشّرب أو الشّرب «3» انته.
و الوقت: مقدار من الزمان مفروض لأمر ما.
و بيّنا: أي واضحا.
و جملة قوله عليه السّلام: «لا يجيز» إلى آخره في محل نصب صفة ثانية لقوله:
«وقتا».
قال بعض العلماء: السبب في تعيين بعض الأوقات لعبادة مخصوصة كشهر رمضان للصوم، و أشهر الحجّ للحج: إنّ لبعض الأوقات أثرا في زيادة الثواب أو العقاب كالأمكنة، و كان الحكماء يختارون لإجابة الدعاء أوقاتا مخصوصة، و فيه فائدة أخرى و هي إنّ الإنسان جبل على إتّباع الشهوة و الهوى، و منعه من ذلك على الإطلاق شاقّ عليه فخصّ بعض الأزمنة و الأمكنة بطاعة ليسهل عليه الإتيان بها فيهما و لا يمتنع عن ذلك، ثمّ لو اقتصر على ذلك فهو أمر مطلوب في نفسه و إن جرّه ذلك على الاستدامة و الاستقامة بحسب الالفة و الاعتياد أو لاعتقاده أنّ الإقدام على ضدّ ذلك يبطل مساعيه السالفة فذلك هو المطلوب الكلّي، و لا ريب أنّ تخصيص ذلك من الشارع أقرب إلى اتحاد الآراء و اتّفاق الكلمة و اللّه أعلم
__________________________________________________
(1) أساس البلاغة: ص 389.
(2) ديوان الأدب: ج 1 ص 280.
(3) تفسير الكشاف: ج 4 ص 28.
27
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الرابع و الأربعين ص 10
ثمّ فضّل ليلة واحدة من لياليه على ليالي ألف شهر و سمّاها ليلة القدر تنزّل الملائكة و الروح فيها بإذن ربّهم من كلّ أمر سلام دائم البركة الى طلوع الفجر على من يشاء من عباده بما أحكم من قضائه.
[ 1159] «ثمّ»: هنا لإفادة الترتيب بحسب الرتبة ارتفاعا، و الدّلالة على مباينة معطوفها للمعطوف عليه فضلا و مزيّة و تراخيه عنه في زيادة إبانة الفضيلة و التفخيم، إذ كان تفضيل ليلة واحدة من لياليه على ليالي ألف شهر أدخل في إبانته تعالى لفضيلته و أجلب للتعجّب من السامع.
و واحدة: نعت لليلة جيء به للتأكيد لدفع توهّم كون القصد إلى الجنس لأنّ الاسم الحامل للجنس، و الوحدة ربّما يقصد به إلى الجنس و ربّما يقصد به إلى الوحدة.
و من: تبعيضيّة واقعة مع مجرورها صفة ثانية لليلة أي كائنة من لياليه.
و تفضيل الشيء على غيره جعله أفضل منه.
و على: للاستعلاء المعنوي و هذا التفضيل إشارة إلى قوله تعالى: لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ «1»، و معنى كونها خيرا من ألف شهر: أنّ العبادة فيها خير من العبادة في ألف شهر ليس فيها هذه الليلة و ذلك لما فيها من الخيرات و البركات و تقدير الأرزاق و المنافع الدينيّة و الدنيويّة كما رواه ثقة الإسلام في الكافي بسنده عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال له بعض أصحابنا قال: و لا أعلمه إلّا سعيد السمّان: كيف تكون ليلة القدر خيرا من ألف شهر؟ قال: العمل فيها خير من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر «2».
و بسنده عن حمران أنّه سأل أبا جعفر عليه السّلام قال: قلت: «ليلة القدر خير من ألف شهر» أي شيء عني بذلك؟ فقال: العمل الصالح فيها من الصلاة
__________________________________________________
(1) سورة القدر: الآية 3.
(2) الكافي: ج 4 ص 157 ح 4.
28
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الرابع و الأربعين ص 10
..........
و الزكاة و أنواع الخير خير من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر، و لو لا ما يضاعف اللّه تبارك و تعالى للمؤمنين ما بلغوا و لكن اللّه يضاعف لهم الحسنات «1».
قال بعضهم: و تخصيص الألف بالذكر للإشعار بالانتهاء إلى عدد لا اسم لما فوقه على الخصوص فتخصيصه بالذكر للتكثير.
و قال مجاهد: كان في بني إسرائيل رجل يقوم اللّيل حتى يصبح ثم يجاهد النهار حتى يمسي فعل ذلك ألف شهر فتعجّب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و المؤمنون من ذلك فأنزل اللّه تعالى سورة «إنّا أنزلناه» فاعطوا ليلة هي خير من مدّة ذلك الغازي «2».
و يؤيّده ما روي عن مالك بن أنس أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله اري أعمار الناس فاستقصرها و خاف أن لا يبلغوا من الأعمار مثل ما بلغه سائر الامم فأعطاه اللّه ليلة هي خير من ألف شهر لسائر الامم «3».
و قيل: إنّ الرجل فيما مضى ما كان يستحق اسم العابد حتّى يعبد اللّه ألف شهر «4».
و روى ثقة الإسلام بسنده عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: اري رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بني أميّة يصعدون على منبره من بعده و يضلّون النّاس الصراط القهقرى فأصبح كئيبا حزينا قال: فهبط جبرئيل عليه السّلام فقال: يا رسول اللّه مالي أراك كئيبا حزينا؟ فقال: يا جبرئيل إنّي رأيت بني أميّة في ليلتي هذه يصعدون منبري من بعدي و يضلّون النّاس عن الصراط القهقرى، قال: و الذي بعثك بالحقّ نبيّا إنّي ما اطلعت على ذلك، فعرج إلى السماء فلم يلبث أن نزل عليه
__________________________________________________
(1) الكافي: ج 4 ص 157 ح 6.
(2) الدر المنثور: ج 6 ص 371.
(3) الدر المنثور: ج 6 ص 371.
(4) تفسير الكشاف: ج 4 ص 780.
29
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الرابع و الأربعين ص 10
..........
بآي من القرآن يؤنسه بها، قال: «أ فرأيت إن متعناهم سنين ثم جاءهم ما كانوا يوعدون فما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون» و انزل عليه إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ. وَ ما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ. لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ جعل اللّه عزّ و جلّ ليلة القدر لنبيّه عليه السّلام خيرا من ألف شهر ملك بني أميّة «1».
و قد تقدّم مضمون هذا الحديث في سند رواية الصحيفة الشريفة و تكلّمنا عليه في شرحه هناك.
قوله عليه السّلام: «و سمّاها ليلة القدر»، قال أكثر العلماء: القدر بمعنى التقدير. قال علي بن إبراهيم: معنى ليلة القدر: إنّ اللّه يقدّر فيها الآجال و الأرزاق و كلّ أمر يحدث من موت أو حياة أو خطب أو جدب أو خير أو شرّ كما قال اللّه:
«فيها يفرق كلّ أمر حكيم» إلى سنة «2».
و هذا المعنى هو المروي عن أبي جعفر عليه السّلام على ما رواه ثقة الإسلام بسنده عن حمران عنه عليه السّلام أنّه قال: يقدّر في ليلة القدر كل شيء يكون في تلك السنة إلى مثلها من قابل خير و شرّ و طاعة و معصية و مولود و أجل و رزق فما قدّر في تلك السنة و قضي فهو المحتوم و للّه عزّ و جلّ فيه المشيئة «3»، الحديث.
و المراد إظهار تلك المقادير للملائكة و النبيّ و الائمة عليهم السّلام في تلك اللّيلة و إلّا فالمقادير من الأزل إلى الأبد ثابتة في اللوح المحفوظ.
و قيل: القدر بمعنى الشرف و الخطر يعني ليلة الشرف و العظمة من قولهم: لفلان قدر عند الناس أي منزلة و خطر كما يناسبه قوله: «ليلة القدر خير من ألف شهر» «4» ثم هذا الشرف إمّا أن يرجع إلى الفاعل أي من أتى فيها بالطاعة صار ذا قدر و شرف و إمّا أن يرجع إلى الفعل لأنّ الطاعة فيها أكثر ثوابا و قبولا.
__________________________________________________
(1) الكافي: ج 4 ص 159 ح 10.
(2) تفسير القمي: ج 2 ص 431.
(3) الكافي: ج 4 ص 157 ح 6.
(4) سورة القدر: الآية 3.
30
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الرابع و الأربعين ص 10
و عن الوراق: «من شرفها إنّه انزل فيها كتاب ذو قدر على لسان ملك ذي قدر إلى امّة ذوي قدر» «1».
و لعل اللّه تعالى إنّما ذكر لفظ القدر في هذه السورة ثلاث مرات لهذا السبب.
و قيل: التقدير: بمعنى الضيق و ذلك أنّ الأرض في هذه اللّيلة تضيق عن الملائكة من قوله تعالى: وَ مَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ «2» و هذا القول يعزى إلى الخليل بن أحمد «3» رحمه اللّه.
قوله: تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ: أي تتنزّل فحذفت إحدى التائين تخفيفا على حد قوله تعالى: ناراً تَلَظَّى «4» و الجملة استيئناف مبيّن لمناط فضلها على تلك المدّة المتطاولة كما روي عن علي بن الحسين عليهما السّلام: هي خير من ألف شهر لأنّها تنزّل الملائكة و الرّوح فيها بإذن ربّهم من كل أمر.
و الروح: قيل هو الوحي كما قال تعالى: وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا «5» أي تنزل الملائكة و معهم الوحي بالمقادير «6».
و قيل: هو روح القدس و هو جبرئيل «7».
و قيل: هو خلق أعظم من الملائكة، رواه أبو جعفر الصفّار في بصائر الدرجات بسنده عن أبي بصير قال: كنت مع أبي عبد اللّه عليه السّلام فذكر شيئا من أمر الإمام إذا ولد قال: و استوجب زيادة الروح في ليلة القدر، فقلت: جعلت فداك أ ليس الروح جبرئيل؟ فقال: جبرئيل من الملائكة و الروح خلق أعظم من الملائكة أ ليس اللّه يقول: «تنزل الملائكة و الروح» «8».
و قد سبق في الروضة الثالثة في شرح دعاء الصلاة على حملة العرش، و كلّ ملك
__________________________________________________
(1) مجمع البيان: ج 9- 10 ص 518.
(2) سورة الطلاق: الآية 7.
(3) مجمع البيان: ج 9- 10 ص 518.
(4) سورة الليل: الآية 14.
(5) سورة الشورى: الآية 52.
(6) التفسير الكبير: ج 32 ص 34.
(7) التفسير الكبير: ج 32 ص 34.
(8) بصائر الدرجات: ص 464 ح 4.
31
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الرابع و الأربعين ص 10
..........
مقرّب ما قيل في شأن الروح على التفصيل، و أوردنا جملة من الأخبار المرويّة عن أهل البيت عليهم السّلام في ذلك.
و الظرف من قوله: «بإذن ربهم» لغو متعلّق بتنزّل، أو مستقرّ متعلّق بمحذوف هو حال من مفعوله، أي ملتبسين، بإذن ربّهم: أي بأمره كما قال: وَ ما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ «1» و قيل: بعلم ربهم، كما قال: «أنزله بعلمه».
و قوله: «من كلّ أمر» أي من أجل كل أمر قضاه اللّه عزّ و جلّ من رزق و أجل و نحو ذلك لتلك السنة إلى مثلها من العام القابل كقوله تعالى: فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ «2».
و قيل: من أجل كلّ مهمّ بعضهم للرّكوع و بعضهم للسجود و بعضهم للتسليم.
روي: إنّهم لا يلقون مؤمنا و لا مؤمنة إلّا سلّموا عليه «3».
قال بعضهم: و على هذا فلعلّ للطاعة في الأرض خاصيّة في هذه اللّيلة فالملائكة يطلبونها أيضا طمعا في مزيد الثواب كما أنّ الرجل يذهب إلى مكّة لتصير طاعاته أكثر ثوابا.
[ 1160] قوله: «سلام دائم البركة إلى طلوع الفجر» أي هي سلام أو سلام هي إتّباعا لقوله تعالى: سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ «4» و حذفه لقرينة النصّ المغنية عن ذكره، و تخييل العدول إلى أقوى الدليلين من العقل و اللفظ كما في قوله: قيل لي كيف أنت؟ قلت: عليل.
قال النيسابوري: و معنى سلام: هي أنّ هذه اللّيلة ما هي إلّا سلامة و خير فأمّا سائر الليالي فيكون فيها بلاء و سلامة أو ما هي إلّا سلام لكثرة سلام الملائكة على
__________________________________________________
(1) سورة مريم: الآية 64.
(2) سورة الدخان: الآية 4.
(3) تفسير الكشاف: ج 4 ص 781 و التفسير الكبير للفخر الرازي: ج 32 ص 36.
(4) سورة القدر: الآية 5.
32
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الرابع و الأربعين ص 10
..........
المؤمنين و قال أبو مسلم: يعني هذه اللّيلة سالمة عن الرياح المزعجة و الصواعق و نحوها أو هي سلامة «1» عن تسلّط الشيطان و نخسه أو سالمة عن تفاوت العبادة في أجزائها بخلاف سائر اللّيالي فإنّ النفل فيها كلّما قرب من الفجر الثاني كان أفضل «2».
و قال علي بن إبراهيم: قال تحيّة يحيى بها الإمام إلى أن يطلع الفجر «3».
و في خبر آخر عن علي بن الحسين عليهما السّلام: هو سلام الملائكة و الروح على الرسول و الإمام من أوّل ما يهبطون إلى مطلع الفجر «4».
و الدائم: الممتدّ زمانه و الثابت و المتتابع، يقال: دام المطر: إذا تتابع نزوله.
و البركة: كثرة الخير و نماؤه، و فيه تلميح إلى قوله تعالى إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ. فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ «5»، فالبركة ثابتة متتابعة في هذه الليلة بدوام السلام إلى أن يطلع الفجر فإنّ المبارك ما فيه نماء الخير و كثرته.
و قوله: «على من يشاء من عباده» متعلّق بتنزّل لقوله بعده: «بما أحكم من قضائه» و من زعم أنّه متعلّق بسلام فقد أخطأ أو تعسّف.
و قوله: «بما أحكم من قضائه» متعلّق بتنزّل أيضا، أي تنزّل الملائكة و الروح على من يشاء من عباده بما أحكم من قضائه كما قال تعالى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلى قَلْبِكَ «6».
و «الباء»: قيل: للمصاحبة في كلّ من تنزّل به و نزل به لا للتعدية كالهمزة و التضعيف، إذ لا يقال: نزل اللّه بكذا و لا تنزّل به كما يقال: أنزله و نزّله، و لو
__________________________________________________
(1) «ألف»: سالمة.
(2) تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان: ج 3 في ذيل الآية الاخيرة من سورة القدر.
(3) تفسير علي بن إبراهيم القميّ: ج 2 ص 431.
(4) نور الثقلين: ج 5 ص 641- 642 ح 115 مع اختلاف يسير في العبارة.
(5) سورة الدخان: الآية 3 و 4.
(6) سورة الشعراء: الآية 193 و 194.
33
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الرابع و الأربعين ص 10
..........
كانت كالهمزة و التضعيف صح كما صحّ ذهب اللّه به و أذهبه.
قال الراغب: يقال: نزل الملك بكذا و تنزّل به و لا يقال: نزل اللّه بكذا و لا تنزّل به «1».
و نص أكثر اللغويين على أنّ نزل به و تنزّل به بمعنى أنزله، و على هذا فلعل منعهم من أن يقال: نزل اللّه بكذا او تنزّل به تفاد عن إسناد النزول إليه سبحانه، أو لما في الباء من معنى المصاحبة و الإلصاق و إن كانت للتعدية كالهمزة كما نصّ عليه الشريف العلامة في حواشي الكشّاف «2». و لذلك قال الزمخشري في قوله تعالى: «ذهب اللّه بنورهم» إنّ المعنى: أخذ اللّه نورهم و أمسكه، من قولهم: ذهب السلطان بماله إذا أخذه «3».
و المراد «بمن يشاء من عباده»: إمام الزمان «و بما أحكم من قضائه»: ما قضى و أبرم و أمضى و حتم و لم يكن فيه تقديم و تأخير و لا تبديل و تغيير يدلّ على ذلك ما رواه أبو جعفر الصفّار في كتاب بصائر الدرجات بإسناده عن داود بن فرقد قال: سألته عن قول اللّه عزّ و جلّ: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ. وَ ما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ قال:
ينزل فيها ما يكون من السنة إلى السنة من موت أو مولود، قلت: إلى من؟ فقال: إلى من عسى أن يكون، إنّ النّاس في تلك اللّيلة في صلاة و دعاء و مسألة و صاحب هذا الأمر في شغل تنزل الملائكة إليه بامور السنة من غروب الشمس إلى طلوعها من كل أمر سلام هي له إلى أن يطلع الفجر «4».
و بإسناده عن محمّد بن حمران، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قلت له: إنّ النّاس يقولون إنّ ليلة النصف من شعبان يكتب فيها الآجال و تقسم فيها الأرزاق و تخرج صكاك الحاج، فقال: ما عندنا في هذا شيء و لكن إذا كانت ليلة تسع
__________________________________________________
(1) المفردات: ص 489.
(2) لا يوجد لدينا كتابه.
(3) تفسير الكشاف: ج 1 ص 74.
(4) بصائر الدرجات: ص 220.
34
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الرابع و الأربعين ص 10
..........
عشرة من رمضان يكتب فيها الآجال و تقسم الأرزاق، و تخرج صكاك الحاجّ، و يطلع اللّه على خلقه فلا يبقى مؤمن إلّا غفر له إلّا شارب مسكر فإذا كانت ليلة ثلاث و عشرين فيها يفرق كل أمر حكيم أمضاه ثمّ أنهاه قلت: إلى من جعلت فداك؟ فقال: إلى صاحبكم و لو لا ذلك لم يعلم ما يكون في تلك السنة «1».
و روى ثقة الاسلام في الكافي بسنده عن زرارة قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: التقدير في ليلة تسع عشرة، و الإبرام في ليلة إحدى و عشرين، و الإمضاء في ليلة ثلاث و عشرين «2».
و في حديث عنه عليه السّلام ان ما أمضاه تعالى تكون من المحتوم الذي لا يبدو له فيه تبارك و تعالى «3».
و الأخبار في هذا المعنى كثيرة، و اللّه أعلم.
(تنبيهات) (الأوّل:) قال النيسابوري: قوله تعالى: تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ يقتضي نزول كل الملائكة إمّا إلى السماء الدنيا، و إمّا إلى الأرض و هو قول الأكثرين، و على التقديرين فانّ المكان لا يسعهم إلّا على سبيل التناوب و النزول فوجا فوجا كأهل الحجّ فإنّهم على كثرتهم يدخلون الكعبة أفواجا، انته «4».
و الّذي تدل عليه الروايات عن أهل البيت عليهم السّلام إنّ النّازل في ليلة القدر بعض الملائكة لا جميعهم كما روي عن أبي جعفر عليه السّلام في حديث طويل أنّه قال: حتى إذا أتت ليلة القدر فيهبط من الملائكة إلى وليّ الأمر خلق اللّه «5».
__________________________________________________
(1) بصائر الدرجات: ص 222.
(2) الكافي: ج 4 ص 159 ح 9 و ح 8.
(3) الكافي: ج 4 ص 159 ح 9 و ح 8.
(4) تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان: ج 3 في ذيل الآية 4 من سورة القدر.
(5) الكافي: ج 1 ص 254 ح 9.
35
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الرابع و الأربعين ص 10
..........
قال بعض أصحابنا: لعلّ المراد بخلق اللّه بعض الملائكة كما هو ظاهر هذه العبارة.
و روى أبو جعفر الصفّار في بصائر الدرجات بإسناده عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنه قال: لمّا قبض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله هبط جبرئيل و معه الملائكة و الروح الذين كانوا يهبطون في ليلة القدر «1» الحديث.
و هو صريح في المطلوب و على هذا فاللام في الملائكة للعهد لا للجنس.
(الثاني:) ظاهر القرآن و صريح الأخبار عن أهل البيت عليهم السّلام و صريح أقوال علمائنا استمرار وجود ليلة القدر في كلّ عام إلى آخر الدهر.
و أمّا العامّة فقال المازري «2» و النووي منهم: أجمع من يعتدّ به على وجودها و دوامها إلى آخر الدّهر و تحققها «3» من شاء اللّه من بني آدم كلّ سنة «4».
و قال عياض: و شذّ قوم فقالوا: رفعت «5».
و قد روى عبد الرزّاق الصّغاني من طريق داود بن أبي عاصم عن عبد اللّه بن محصن قال: قلت لأبي هريرة: زعموا أنّ ليلة القدر رفعت؟ قال: كذب من قال ذلك «6».
(الثالث:) اختلف في تعيين ليلة القدر أيّ ليلة هي فقيل: هي في مجموع السنة لا تخصّ رمضان و لا غيره و هو مختار أبي حنيفة «7».
و روي ذلك عن ابن مسعود قال: من يقم الحول كلّه يصبها، فبلغ ذلك عبد اللّه بن عمر فقال: رحم اللّه أبا عبد الرحمن أما إنّه علم أنّها في شهر رمضان و لكنه أراد أن لا يتّكل الناس «8».
__________________________________________________
(1) بصائر الدرجات: ص 225.
(2) تفسير روح المعاني: ج 30 ص 190.
(3) «الف»: تحققها.
(4) المجموع شرح المهذب: ج 6 ص 461.
(5) المجموع شرح المهذب: ج 6 ص 458.
(6) مجموعة من التفاسير: ج 6 ص 545 بسند آخر.
(7) تفسير روح المعاني: ج 30 ص 190.
(8) مجمع البيان: ج 9- 10 ص 518.
36
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الرابع و الأربعين ص 10
..........
و عن عكرمة إنّها ليلة النصف من شعبان «1».
و الجمهور على أنّها في شهر رمضان «2».
و عليه إجماع الإماميّة كما هو صريح عبارة الدّعاء ثم اختلف في تعيينها من لياليه على ثلاثة و أربعين قولا و الصحيح أنّها في العشر الأواخر كما رواه ثقة الإسلام في الكافي بسند صحيح عن حمران أنّه سأل أبا جعفر عليه السّلام عن قول اللّه عزّ و جلّ:
إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ قال: نعم ليلة القدر و هي في كلّ سنة في شهر رمضان في العشر الأواخر، الحديث «3».
و روى ثقة الإسلام أيضا بسند صحيح عن حسّان بن مهران، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سألته عن ليلة القدر فقال التمسها في ليلة إحدى و عشرين أو ليلة ثلاث و عشرين «4».
و روى شيخ الطائفة في التهذيب بسنده عن زرارة، عن أبي جعفر عليه السّلام قال: سألته عن ليلة القدر فقال: هي ليلة إحدى و عشرين أو ثلاث و عشرين قلت:
أ ليس إنّما هي ليلة واحدة؟ قال: بلى، قلت: فأخبرني بها، فقال: و ما عليك أن تفعل خيرا في ليلتين «5».
و روى أيضا بسنده عن محمّد بن أيّوب، عن أبيه قال: سمعت أبا جعفر عليه السّلام يقول: إنّ الجهني أتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فقال: يا رسول اللّه إنّ لي إبلا و غنما و غلمة فأحبّ أن تأمرني بليلة أدخل فيها فاشهد الصلاة و ذلك في شهر رمضان فدعاه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فسارّه في إذنه، فكان الجهني إذا كان ليلة ثلاث و عشرين دخل بإبله و أهله إلى مكانه «6».
و الجهني المذكور هو عبد اللّه بن أنيس الجهني يكنّى أبا يحيى حليف الأنصار
__________________________________________________
(1) تفسير روح المعاني: ج 30 ص 190.
(2) المجموع شرح المهذب: ج 6 ص 459.
(3) الكافي: ج 4 ص 157 ح 6.
(4) الكافي: ج 4 ص 156 ح 1.
(5) التهذيب: ج 3 ص 58 ح 3.
(6) التهذيب: ج 4 ص 330 ح 100.
37
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الرابع و الأربعين ص 10
اللّهمّ صلّ على محمّد و آله و ألهمنا معرفة فضله و إجلال حرمته و التّحفظ ممّا حظرت فيه و أعنّا على صيامه بكفّ الجوارح عن معاصيك شهد العقبة و أحدا و مات بالشام في خلافة معاوية سنة أربع و خمسين.
قال ابن حجر: و وهم من قال سنة ثمانين «1» و في رواية أنّه قال لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّ منزلي ناء عن المدينة فمرني بليلة أدخل فيها فأمره بليلة ثلاث و عشرين «2».
و روى رئيس المحدّثين في الفقيه قال: روى محمّد بن حمران، عن سفيان بن السمط، قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: الليالي التي يرجى فيها من شهر رمضان فقال تسع عشرة، و إحدى و عشرين، و ثلاث و عشرين، قلت: فإن أخذت الإنسان الفترة أو علّة ما المعتمد عليه من ذلك؟ فقال: ثلاث و عشرين «3».
و روى ثقة الإسلام بسند صحيح، عن محمّد بن مسلم، عن أحدهما عليهما السّلام قال: سألته عن علامة ليلة القدر؟ فقال: علامتها: أن يطيب ريحها و إن كانت في برد دفئت و إن كانت في حرّ بردت فطابت «4».
و روى الحسن عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال في ليلة القدر أنّها ليلة سمحة لا حارّة و لا باردة تطلع الشمس في صبيحتها ليس لها شعاع «5».
(الرابع:) أجمعوا على أنّ الحكمة في إخفاء ليلة القدر كالحكمة في إخفاء الصلاة الوسطى في الصلوات الخمس، و اسم اللّه الأعظم في الأسماء الحسنى و ساعة الإجابة في ساعات الجمعة حتى يجتهد المكلّف في الطاعة و يحيي من يريدها اللّيالي الكثيرة طلبا لموافقتها فتكثر عبادته و أن لا يتكل الناس عند إظهارها على إصابة الفضل فيها فيفرطوا في غيرها و اللّه أعلم.
[ 1161] التفت عليه السّلام من الغيبة إلى الخطاب جريا على نهج البلاغة في افتنان
__________________________________________________
(1) تقريب التهذيب: ج 1 ص 402.
(2) تفسير نور الثقلين: ج 5 ص 628.
(3) من لا يحضره الفقيه: ج 2 ص 160 ح 2030.
(4) الكافي: ج 4 ص 157 ح 3.
(5) الدر المنثور: ج 6 ص 372.
38
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الرابع و الأربعين ص 10
و استعمالها فيه بما يرضيك حتّى لا نصغي بأسماعنا إلى لغو و لا نسرع بأبصارنا إلى لهو و حتّى لا نبسط أيدينا إلى محظور و لا تخطو بأقدامنا إلى محجور و حتّى لا تعي بطوننا إلّا ما أحللت و لا تنطق ألسنتنا إلّا بما مثّلت و لا نتكلّف إلّا ما يدني من ثوابك و لا نتعاطى إلّا الّذي يقي من عقابك، ثمّ خلّص ذلك كلّه من رئاء المرائين و سمعة المسمعين، لا نشرك فيه أحدا دونك و لا نبتغي فيه مرادا سواك.
الكلام كما تقدّم بيانه في الروضة السادسة و أكثر النكت التي ذكرناها هناك جارية هنا فليرجع إليها «1».
و الإلهام لغة: الإعلام مطلقا، و اصطلاحا: إلقاء الخير في قلب الغير بلا استفاضة فكرية منه، فإن حمل هنا على معناه اللّغوي فالمراد بمعرفة فضله العلم به و لو بالتعلّم و الاستفاضة، و إن حمل على الاصطلاحي فالمراد بها إدراكه على ما هو عليه، إذ لا يكون ذلك إلّا بالإلهام المصطلح و يرجّح هذا تفسير الجمهور للمعرفة بأنّها إدراك الشّيء على ما هو عليه و إن كان مسبوقا بالجهل و لهذا لا يقال: اللّه عارف، و يقال: عالم، و الغرض من سؤال «إلهام معرفة فضله و إجلال حرمته و التّحفظ ممّا حظر فيه» إيفاؤه حقه من الاحترام و الاحتراز عمّا لا يحلّ فيه كما ينبغي و يجب كيلا يكون مقصّرا أو متوانيا.
و إجلال الشيء: تعظيمه.
و الحرمة: ما لا يحلّ انتهاكه.
و التحفظ: التحرّز.
و حظره حظرا من باب- قتل-: منعه و حرّمه.
[ 1162] و «الباء» من قوله: «بكفّ الجوارح» للملابسة: أي ملتبسين بمنع الجوارح،
__________________________________________________
(1) راجع الجزء الثاني من هذا الكتاب: ص 207.
39
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الرابع و الأربعين ص 10
.........
يقال كففته عن الشيء كفّا من باب- قتل-: أي منعته.
و الجوارح: الأعضاء جمع جارحة.
و اللّهو: ما يشغل الإنسان عمّا يعنيه و يهمّه و تقييد الإسراع إليه بالإبصار للمبالغة في سؤال اجتنابه إذ كان النظر رائد الفجور، و في التوراة: النظر يزرع الشهوة، و ربّ شهوة أورثت حزنا طويلا و لذلك أمر سبحانه المؤمنين بغض الأبصار أوّلا، ثم بحفظ الفروج ثانيا فقال: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَ يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ «1».
و في نسخة ابن إدريس رحمه اللّه: «و لا نسرح بأبصارنا في لهو»: و هو من سرحت الإبل سرحا من باب- نفع-: رعت بنفسها و هو استعارة مكنيّة مرشّحة أو تمثيليّة أو تبعيّة.
[ 1163] و بسط يده إلى الشيء: مدّها نحوه: أي لا نمد أيدينا إلى طلب محظور أو إلى أخذه.
قال الراغب: بسط الكف و اليد يستعمل تارة للطلب نحو: «باسط كفّيه إلى الماء» و تارة للأخذ نحو: «و الملائكة باسطوا أيديهم»، و تارة للبطش و الضرب نحو:
«و يبسطوا إليكم أيديهم» «2».
و خطوت أخطو خطوا: مشيت، و التقييد بالأقدام مع أنّ الخطو لا يكون إلّا بها لغرض التفصيل بعد الإجمال في قوله: «بكفّ الجوارح» بالنّص على جارحة و أما ما قد يتوهّم من أنّه من باب أبصرته بعيني و كتبته بيدي فلا يقتضيه المقام لأنّه في ذلك تأكيد لدفع توهّم المجاز أو احتماله، و ليس بمقصود هنا لوجوب ترك الخطو إلى المحجور حقيقة و مجازا و المحجور و المحظور بمعنى.
و وعيت الشيء وعيا من باب- وعد-: حفظته و جمعته.
__________________________________________________
(1) سورة النور: الآية 30.
(2) المفردات: ص 46.
40
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الرابع و الأربعين ص 10
..........
و أحلّ اللّه الشيء: جعله حلالا، و المراد به هنا ما أطلق أكله و شربه.
[ 1164] و مثلت: أي حدّثت من المثل بالتحريك بمعنى الحديث.
قال في القاموس: و المثل محرّكة: الحجة و الحديث، و قد مثّل به تمثيلا «1».
و لا داعي إلى جعله بمعنى صوّرت، و تأويله بما لا يخلو من التعسّف.
و تكلّفت الشيء: تجشّمته على مشقّة، و بذلت المجهود في العمل له و هو من الكلفة بالضمّ بمعنى المشقّة.
و تعاطيت كذا: أي أقدمت عليه و فعلته، و فلان يتعاطى ما لا ينبغي له، و منه:
فَتَعاطى فَعَقَرَ «2».
[ 1165] و خلص ذلك: أي سلّمه، من خلص بمعنى سلم و نجا أو اجعله خالصا، من خلص الماء من الكدر: أي صفا منه.
و الرياء: ترك الإخلاص في العمل بملاحظة غير اللّه تعالى فيه، و أصله من الرؤية كأنّه لا يعمل إلّا إذا رأى النّاس و رأوه، و قد تقدم الكلام عليه.
و السمعة بالضمّ: كالرياء إلّا انّها تتعلّق بحاسّة السمع و الرياء بحاسّة البصر.
قال الفارابي في ديوان الأدب: يقال: فعل ذلك رياء و سمعة إذا فعل ذلك ليراه النّاس و يسمعوا به «3».
و المسمعين: جمع مسمع: اسم فاعل من أسمعه فسمع، و المراد به هنا: الفاعل للسمعة كأنّه يسمع الناس ما يعمله و عبارة الدّعاء على حذف مضاف، و التقدير ثم خلّص ذلك كله من مثل رياء المرائين و مثل سمعة المسمعين.
و اللام في المرائيين و المسمعين: للاستغراق لما تقرر من أنّ الجمع المعرف يستغرق آحاد مفرده نحو: وَ اللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ* «4» أي كل محسن، و المعنى: خلّصه
__________________________________________________
(1) القاموس المحيط: ج 4 ص 49.
(2) سورة القمر: الآية 29.
(3) ديوان الأدب: ج 1 ص 170.
(4) سورة آل عمران: الآية 134.
41
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الرابع و الأربعين ص 10
..........
من مثل رياء كل مراء و سمعة كل مسمع، و فائدة هذا الاستغراق شمول تخليصه من أنواع الرياء و السمعة لاختلافهما بحسب اختلاف فاعلهما شدّة و ضعفا و غرضا.
قوله: «لا نشرك فيه أحدا دونك» جملة مؤكّدة لما قبلها من جعل ذلك خالصا من السمعة و الرياء، نحو لا ريب فيه أو مستأنفة مؤكّدة له نحو: إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ «1».
و دونك: أي غيرك أو متجاوزين إيّاك.
و بغى الشيء و ابتغاه: طلبه أي و لا نطلب به مرادا غيرك.
(تنبيهات) الأوّل: أجمع المسلمون من الخاصّة و العامّة على أنّ شهر رمضان أفضل الشهور.
أمّا العامّة: فلما رواه النّسائي أنّه صلّى اللّه عليه و آله ذكر رمضان و فضّله على سائر الشهور و قال: من صامه إيمانا و احتسابا غفر له ما تقدّم من ذنبه «2».
و روى الحليمي منهم إنّه صلّى اللّه عليه و آله قال: سيد الشهور رمضان «3».
و أمّا الخاصّة: فلما تواتر عن أصحاب العصمة عليهم السّلام من الأخبار الصّريحة في ذلك فمنه ما رواه ثقة الإسلام في الكافي بسنده عن أبي جعفر عليه السّلام قال:
قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لمّا حضر شهر رمضان و ذلك في ثلاث بقين من شعبان، قال لبلال ناد في الناس فجمع الناس ثم صعد المنبر فحمد اللّه و أثنى عليه ثم قال: «أيّها النّاس إنّ هذا الشهر قد خصّكم اللّه به و حضركم و هو سيد الشهور ليلة فيه خير من ألف شهر تغلق فيه أبواب النّار و تفتح فيه أبواب الجنان فمن أدركه و لم يغفر له فأبعده اللّه، و من أدرك والديه فلم يغفر له فأبعده اللّه، و من ذكرت عنده
__________________________________________________
(1) سورة يوسف: الآية 53.
(2) صحيح البخاري: ج 3 ص 33 كتاب الصوم باب 6.
(3) روضة الواعظين: ص 340.
42
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الرابع و الأربعين ص 10
..........
فلم يصلّ عليّ فلم يغفر له فأبعده اللّه» «1».
و عنه عليه السّلام قال: خطب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الناس في آخر جمعة من شعبان فحمد اللّه و أثنى عليه ثم قال: أيّها النّاس إنّه قد أظلّكم شهر فيه ليلة خير من ألف شهر و هو شهر رمضان فرض اللّه صيامه و جعل قيام ليلة فيه بتطوّع صلاة كتطوّع سبعين ليلة فيما سواه من الشهور و جعل لمن تطوّع فيه من خصال الخير كأجر من أدّى فريضة من فرائض اللّه عزّ و جلّ و من أدّى فيه فريضة من فرائض اللّه عزّ و جلّ كان كمن أدّى سبعين فريضة من فرائض اللّه فما سواه من الشهور، و هو شهر الصبر، يزيد اللّه في رزق المؤمن فيه و من فطر فيه مؤمنا صائما كان له بذلك عند اللّه عتق رقبة و مغفرة لذنوبه فيما مضى، قيل: يا رسول اللّه ليس كلّنا يقدر على أن يفطر صائما، فقال: ان اللّه كريم يعطي هذا الثواب لمن لم «2» يقدر الّا على مذقة من لبن يفطر بها صائما أو شربة من ماء عذب أو تمرات لا يقدر على أكثر من ذلك، و من خفّف فيه عن مملوكه خفّف اللّه عنه حسابه، و هو شهر أوّله رحمة و أوسطه مغفرة و آخره الإجابة و العتق من النار و لا غناء بكم عن أربع خصال خصلتين ترضون اللّه بهما، و خصلتين لا غنى بكم عنهما، فأمّا اللتان ترضون اللّه بهما فشهادة أن لا إله إلّا اللّه و أنّ محمّدا رسول اللّه، و أمّا اللّتان لا غنى بكم عنهما فتسألون اللّه فيه حوائجكم و الجنّة و تسألون العافية و تعوذون به من النّار «3».
و روى رئيس المحدّثين محمّد بن بابويه، عن أحمد بن الحسن القطان، عن أحمد بن محمّد بن سعيد الهمداني عن علي بن الحسن بن فضّال، عن أبيه، عن أبي الحسن علي بن موسى الرضا عليه السّلام، عن أبيه الكاظم موسى بن جعفر، عن أبيه الصادق جعفر بن محمّد، عن أبيه الباقر محمّد بن علي، عن أبيه زين العابدين علي
__________________________________________________
(1) الكافي: ج 4 ص 67 ح 5.
(2) «ألف»: لا.
(3) الكافي: ج 4 ص 66 ح 4.
43
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الرابع و الأربعين ص 10
..........
بن الحسين، عن أبيه سيد الشهداء الحسين بن علي عن أبيه سيّد الوصيين أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليهم السّلام قال: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله خطبنا ذات يوم فقال: أيّها الناس إنّه قد أقبل إليكم شهر اللّه بالبركة و الرحمة و المغفرة شهر هو عند اللّه أفضل الشهور و أيّامه أفضل الأيّام و لياليه أفضل اللّيالي و ساعاته أفضل الساعات هو شهر دعيتم فيه إلى ضيافة اللّه و جعلتم فيه من أهل كرامة اللّه، أنفاسكم فيه تسبيح، و نومكم فيه عبادة، و عملكم فيه مقبول، و دعاؤكم فيه مستجاب، فاسألوا اللّه ربكم بنيات صادقة، و قلوب طاهرة أن يوفّقكم لصيامه و تلاوة كتابه فإنّ الشقي من حرم غفران اللّه في هذا الشهر العظيم، و اذكروا بجوعكم و عطشكم فيه جوع يوم القيامة و عطشه و تصدّقوا على فقراءكم و مساكينكم و وقّروا كباركم و ارحموا صغاركم، و صلوا أرحامكم و احفظوا ألسنتكم و غضّوا عمّا لا يحلّ النظر إليه أبصاركم و عمّا لا يحل الاستماع إليه أسماعكم و تحنّنوا على أيتام الناس يتحنّن على أيتامكم و توبوا إلى اللّه من ذنوبكم و ارفعوا إليه أيديكم بالدعاء في أوقات صلواتكم فإنّها أفضل الساعات ينظر اللّه تعالى فيها بالرحمة إلى عباده يجيبهم إذا ناجوه و يلبيهم إذا نادوه و يعطيهم إذا سألوه و يستجيب لهم إذا دعوه، أيّها الناس: إنّ أنفسكم مرهونة بأعمالكم ففكّوها باستغفاركم و ظهوركم ثقيلة من أوزاركم فخففوا عنها بطول سجودكم و اعلموا أنّ اللّه جلّ ذكره أقسم بعزّته أن لا يعذّب المصلّين و الساجدين و لا يروّعهم بالنار يوم يقوم الناس لربّ العالمين.
أيّها الناس: من فطّر منكم صائما مؤمنا في هذا الشهر كان له بذلك عند اللّه عتق رقبة و مغفرة لما مضى من ذنوبه فقيل يا رسول اللّه: و ليس كلّنا يقدر على ذلك فقال: اتّقوا النار و لو بشقّ تمرة اتّقوا النار و لو بشربة ماء.
أيّها الناس: و من خفّف منكم في هذا الشهر عن ما ملكت يمينه خفّف اللّه عليه حسابه و من كفّ فيه شرّه كفّ اللّه عنه غضبه يوم يلقاه و من أكرم فيه يتيما أكرمه اللّه يوم يلقاه و من وصل فيه رحمه وصله اللّه برحمته يوم يلقاه، و من قطع فيه
44
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الرابع و الأربعين ص 10
..........
رحمه قطع اللّه عنه رحمته يوم يلقاه، و من تطوّع فيه بصلاة كتب اللّه له براءة من النّار، و من أدّى فيه فرضا كان له ثواب من أدّى سبعين فريضة فيما سواه من الشهور، و من أكثر فيه الصلاة عليّ ثقّل اللّه ميزانه يوم تخفّ «1» الموازين، و من تلا فيه آية من القرآن كان له مثل أجر من ختم القرآن في غيره من الشهور.
أيّها الناس: إنّ أبواب الجنان في هذا الشهر مفتحة، فاسئلوا ربّكم أن لا يغلقها عليكم، و أبواب النيران مغلقة فاسئلوا ربّكم أن لا يفتحها عليكم، و الشياطين مغلولة فأسألوا ربّكم أن لا يسلّطها عليكم.
قال أمير المؤمنين عليه السّلام: فقمت و قلت: يا رسول اللّه ما أفضل الأعمال في هذا الشهر؟ فقال: يا أبا الحسن أفضل الأعمال في هذا الشهر الورع عن محارم اللّه عزّ و جلّ ثم بكى، فقلت: ما يبكيك يا رسول اللّه؟ فقال: أبكي لما يستحلّ منك في هذا الشهر، كأنّي بك و أنت تصلّي لربك و قد انبعث أشقى الأوّلين و الآخرين شقيق عاقر ناقة ثمود فضربك ضربة على قرنك فخضب منها لحيتك، فقلت يا رسول اللّه: و ذلك في سلامة من ديني؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله: في سلامة من دينك، ثم قال: يا عليّ من قتلك فقد قتلني، و من أبغضك فقد أبغضني لأنّك منّي كنفسي و طينتك من طينتي و أنت وصيّي و خليفتي على أمتي «2»، و الأخبار في هذا المعنى كثيرة.
الثاني: في قوله عليه السّلام: «و أعنّا على صيامه بكفّ الجوارح» إلى آخر إشارة الى آداب الصائم و قد وردت بذلك أخبار كثيرة عنهم عليهم السّلام:
فمنه قول الصادق عليه السّلام في الصحيح: إذا صمت فليصم سمعك و بصرك و شعرك و جلدك و عدّد أشياء غير هذا، و قال: لا يكون يوم صومك كيوم فطرك «3».
__________________________________________________
(1) «ألف»: تخفّف.
(2) امالي الصدوق: ص 84.
(3) الكافي: ج 4 ص 87 ح 1.
45
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الرابع و الأربعين ص 10
..........
و عنه عليه السّلام: إنّ الصيام ليس من الطعام و الشراب وحده، إنّ مريم عليها السّلام قالت «إنّي نذرت للرّحمن صوما» أي صمتا فاحفظوا ألسنتكم و غضّوا أبصاركم و لا تحاسدوا و لا تنازعوا فإنّ الحسد يأكل الأيمان كما تأكل النار الحطب «1».
و عنه عليه السّلام قال: سمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله امرأة تسب جارية لها و هي صائمة فدعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بطعام، فقال لها: كلي، فقالت:
إنّي صائمة، فقال: كيف تكونين صائمة و قد سبّيت جاريتك، إن الصوم ليس من الطعام و الشراب «2».
و عنه عليه السّلام: إذا صمت فليصم سمعك و بصرك من الحرام و القبيح، ودع المراء و أذى الخادم، و ليكن عليك وقار الصائم و لا تجعل يوم صومك كيوم فطرك «3».
و عنه عليه السّلام قال: كان عليّ بن الحسين عليهما السّلام: إذا كان شهر رمضان لم يتكلّم إلّا بالدعاء و التسبيح و الاستغفار و التكبير فإذا أفطر قال: اللّهم إن شئت أن تفعل فعلت «4».
الثالث: في قوله عليه السّلام: «لا نشرك فيه أحدا دونك و لا نبتغي به مرادا سواك»، إشارة إلى إخلاص العمل، و هو تصفية العمل عن أن يكون لغير اللّه فيه نصيب، و قيل: هو أن لا يريد عامله عليه عوضا في الدارين و هذا التعريف أشدّ انطباقا على قوله عليه السّلام: «و لا نبتغي به مرادا سواك» و هي درجة عليّة عزيزة المنال و إليها أشار أمير المؤمنين صلوات اللّه و سلامه عليه بقوله: «ما عبدتك خوفا من
__________________________________________________
(1) الكافي: ج 4 ص 89 ح 9.
(2) الكافي: ج 4 ص 87 ح 3.
(3) الكافي: ج 4 ص 87- 88 ح 3.
(4) الكافي: ج 4 ص 88 ح 8.
46
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الرابع و الأربعين ص 10
..........
نارك و لا طمعا في جنتك و لكن وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك» «1».
و قد أسلفنا الكلام مبسوطا على الإخلاص في العمل في الروضة العشرين فليرجع إليه «2».
(تتمة) قال شيخنا الشهيد قدّس سرّه: كلّ عبادة أريد بها غير اللّه ليراه الناس فهي المشتملة على الرياء سواء أريد بها مع ذلك اللّه أم لا، أما لو كان للعمل غاية دنيوية شرعيّة أو اخرويّة فأرادها الإنسان فإنّه لا يسمّى رياء كطلب الغازي الجهاد للّه و للغنيمة و قراءة الإمام للصلاة و التعليم، و تلاوة آية من القرآن بقصد القراءة و التفهيم، و تحسين الصلاة من المقتدى به ليقتدي به الناس، و منه صلاة الفريضة في المسجد، و إظهار الزكاة الواجبة، و كذا مريد الحج و التجارة أو الصائم ليقطع عنه شهوة النكاح أو ليصح جسمه فإنّ الخبر دال عليهما، و منه الوضوء للتبرّد مع القربة أو التنظيف معها، فالضابط: أنّ كلّ ضميمة يقصد بها العبد منفعة لازمة للعبادة لا يريد بها اجتلاب نفع من الناس و لا دفع ضرر عنه لا من حيث العبادة، فلو قصد رفع ضرر بعبادة التقية لم يكن رياء، انته «3».
و المتأخّرون من أصحابنا: حكموا بفساد العبادة بقصد هذه الضمائم لفوات الإخلاص.
و فصّل بعضهم فقال: إن كانت الضميمة راجحة و لاحظ القاصد رجحانها وجوبا أو ندبا كالحميّة في الصوم لوجوب حفظ البدن، و الاعلام بالدخول في
__________________________________________________
(1) بحار الأنوار: ج 41 ص 14 ح 4 مع اختلاف يسير في بعض الفاظ الحديث. و القواعد و الفوائد:
ص 77 مع تقديم و تأخير.
(2) الروضة العشرون: ج 3 ص 281.
(3) القواعد و الفوائد: ج 1 ص 78- 80 نقلا بالمضمون.
47
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الرابع و الأربعين ص 10
اللّهمّ صلّ على محمّد و آله وقفنا فيه على مواقيت الصّلوات الخمس بحدودها الّتي حدّدت و فروضها الّتي فرضت و وظائفها الّتي وظّفت و أوقاتها الّتي وقّت و أنزلنا فيها منزلة المصيبين لمنازلها الحافظين لأركانها المؤدّين لها في أوقاتها على ما سنّه عبدك و رسولك صلواتك عليه و آله في ركوعها و سجودها و جميع فواضلها على أتمّ الطّهور و أسبغه و أبين الخشوع و أبلغه.
الصلاة للتعاون على البرّ فينبغي أن لا تكون مضرّة إذ هي حينئذ مؤكدة و إنّما الكلام في الضمائم غير الملحوظة الرجحان، فصوم من ضمّ قصد الحميّة مثلا صحيح مستحبا كان الصوم أو واجبا، معيّنا كان الواجب أو غير معيّن.
قال شيخنا البهائي: و في النفس من صحّة غير المعيّن شيء و عدمها محتمل «1»، و اللّه أعلم.
[ 1166] وقفت فلانا على الأمر: اطلعته عليه، و لا تقل أوقفته، و قد مرّ بيان ذلك.
و المواقيت: جمع ميقات بمعنى الوقت، أي أوقات الصلاة، و يستعار للمكان، و منه مواقيت الحجّ لمواضع الإحرام، و وقّت اللّه الصّلاة توقيتا و وقتها يقتها وقتا من باب- وعد-: حدّد لها وقتا و «الباء» من «بحدودها» للمصاحبة: أي مع حدودها أي أحكامها، و منه قوله تعالى: وَ أَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ «2» أي أحكامه.
و حددت الشّيء: ميّزته عن غيره. و في الصحيح عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال: للصلاة أربعة آلاف حد و في رواية للصلاة أربعة آلاف باب «3».
[ 1167] و الفروض: جمع فرض بمعنى المفروض من فرض اللّه الأحكام فرضا: أوجبها.
__________________________________________________
(1) كتاب الاربعين للشيخ البهائي: ص 161.
(2) سورة التوبة: الآية 97.
(3) الكافي: ج 3 ص 272 ح 6.
48
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الرابع و الأربعين ص 10
..........
و الوظائف: جمع وظيفة و هي ما يقدر من عمل و رزق و نحو ذلك، يقال:
وظفت عليه العمل توظيفا: قدرته.
و الأوقات: جمع وقت و هو مقدار من الزمان مفروض لأمر ما. و أنزلت زيدا منزلة عمرو في كذا: أي جعلت له ما جعلت لعمرو فيه.
و أصبت الشيء: أدركته و وجدته.
[ 1168] و منازل الصلاة: عبارة عن مراتبها التي تليق بها من قولهم: عرفت لفلان منزلته، أي مرتبته من الفضل و الشرف و هو رفيع المنازل.
و في الحديث: أنزلوا الناس منازلهم «1»، أي أكرموا كلا على حسب فضله و شرفه.
و الأركان: جمع ركن، و ركن الشيء لغة: جانبه القوي الذي يعتمد عليه، و أركان العبادة: جوانبها التي عليها مبناها و بتركها يكون بطلانها، و عرف الركن من الصلاة بما تبطل الصلاة بزيادته و نقصه عمدا و سهوا، و أركانها خمسة: النيّة و التكبير و القيام و الركوع و السجدتان.
و ذهب بعضهم إلى أنّ النيّة ليست بركن منها لأنّها شرط لها لا جزء منها، و ركن الشيء لا يكون إلّا جزءا منه، و أوّل الصلاة التكبير لقوله عليه السّلام: «تحريمها التكبير» «2» فهي خارجة عنها، و استدلّ القائلون بركنيّتها بالتئام حقيقة الصلاة منها و اشتراطها بما يشترط في الصلاة من الطهارة و الستر و الاستقبال و نحوها، و أجيب بأنّ الاستدلال بالتئام الصلاة منها مصادرة و اشتراطها بشروط الصلاة لا يدلّ على الجزئيّة.
قال بعض المحقّقين من مشايخنا: و هذا الخلاف قليل الجدوى للاتّفاق على
__________________________________________________
(1) لم نعثر عليه.
(2) مستدرك الوسائل: ج 4 ب 1 من أبواب تكبيرة الاحرام ص 136 ح 5.
49
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الرابع و الأربعين ص 10
..........
اعتبارها في الصلاة و بطلانها بالإخلال بها عمدا و سهوا، و ربما يظهر ثمرته في مواضع نادرة كالنذر لمن نذر أن يصلّي في وقت كذا أو نذر أن يصلّي في وقت كذا، قيل: فيمن «1» سهى عن فعل النيّة بعد التكبير ففعلها ثمّ ذكر فعلها قبل التكبير فإن قلنا: بأنّها شرط لم تبطل الصلاة و إن قلنا إنّها جزء بطلت لزيادة ركن لأنّ كل من قال: بجزئيّتها، قال بركنيّتها، و فيه نظر للمنع من كون استحضار النيّة في أثناء الصلاة عمدا أو سهوا مبطلا لأنّ استحضارها حكما بمعنى الاستدامة واجب فكيف يبطل الاستحضار بالفعل.
فإن قيل: القصد إلى استيناف النيّة قصد للمنافي.
قلنا: فالبطلان حينئذ لقصد المنافي لا لزيادة الركن و هو يتحقّق على القول بشرطيّتها أيضا.
و أدّى الصّلاة: فعلها، و أصله من أداء الأمانة و هو إيصالها إلى أهلها و كل دفع ما يجب دفعه و توفيته يسمّى أداء كأداء الجزية و أداء الخراج، و قد تكرّر منه عليه السّلام في هذا الفصل ذكر الأوقات اهتماما بشأنها، فعن الصادق عليه السّلام: هذه الصّلوات الخمس المفروضات من أقام حدودهنّ و حافظ على مواقيتهنّ أتى اللّه يوم القيامة و له عنده عهد يدخله الجنّة، و من لم يقم حدودهنّ و لم يحافظ على مواقيتهن لقى اللّه و لا عهد له إن شاء عذّبه و إن شاء غفر له «2».
و عن أبي جعفر عليه السّلام: «أيّما مؤمن حافظ على الصلوات المفروضة فصلاها لوقتها فليس هذا من الغافلين» «3».
و الظاهر: أنّ المراد بالمحافظة على المواقيت المحافظة على أوّل الوقت و ما قرب منه لقول أبي عبد اللّه عليه السّلام: لكلّ صلاة وقتان و أوّل الوقت أفضله و ليس لأحد أن يجعل آخر الوقتين وقتا إلا في عذر من غير علّة «4».
__________________________________________________
(1) «ألف» و فيمن.
(2) الكافي: ج 3 ص 267 ح 1.
(3) الكافي: ج 3 ص 270 ح 14.
(4) الكافي: ج 3 ص 274 ح 3.
50
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الرابع و الأربعين ص 10
..........
و قول عليّ بن الحسين عليهما السّلام: من اهتمّ بمواقيت الصلاة لم يستكمل لذّة الدنيا «1»، و اللّه أعلم.
قوله عليه السّلام: «على ما سنّه عبدك و رسولك» في محلّ نصب على الحال من الضمير في لها: أي المؤدين لها حال كونها على ما سنّه عبدك و رسولك.
و سنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كذا: أي شرعه و جعله شرعا و طريقة فرضا كان أو ندبا قولا أو فعلا، و قد تقدّم الكلام على بيان السنّة لغة و اصطلاحا في الرياض السابقة.
[ 1169] و الفواضل: جمع فاضلة و هي اسم من الفضيلة.
قال في القاموس: الفضيلة: الدرجة الرفيعة في الفضل، و الاسم: الفاضلة «2».
و الطهور: بالفتح و الضمّ على الروايتين: بمعنى الطهارة.
و المراد باتمّيته: الإتيان على الوجه المفروض مع كمال الاحتياط و بأسبغيّة الاتيان به على الوجه المسنون بتمامه.
قال بعضهم: إسباغ الوضوء إتمامه و إكماله و ذلك في وجهين: إتمامه على ما فرض اللّه و إكماله على ما سنّه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و منه: أسبغوا الوضوء أي أبلغوه مواضعه و أكملوا كل عضو حقّه «3».
و أصله من سبغ الثوب إذا اتّسع وصفا.
و الطهور هنا يعمّ الغسل و الوضوء و إزالة النجس.
و الخشوع: الخضوع و التذلل، و فيه تلميح إلى قوله تعالى: الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ «4».
و الخشوع في الصلاة قيل: خشية القلب و التواضع، و قيل: هو أن ينظر إلى موضع
__________________________________________________
(1) الكافي: ج 3 ص 275 ح 9.
(2) القاموس المحيط: ج 4 ص 30.
(3) مجمع البحرين: ج 5 ص 11.
(4) سورة المؤمنون: الآية 2.
51
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الرابع و الأربعين ص 10
و وفّقنا فيه لأن نصل أرحامنا بالبرّ و الصّلة و أن نتعاهد جيراننا بالإفضال و العطيّة و أن نخلّص أموالنا من التّبعات و أن نطهّرها بإخراج سجوده بدليل أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان يرفع بصره إلى السماء فلمّا نزلت هذه الآية طأطأ رأسه و نظر إلى مصلاه «1».
و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: هو أن لا يلتفت يمينا و لا شمالا و لا يعرف من على يمينه و لا شماله «2».
و روي: أن النبي صلّى اللّه عليه و آله رأى رجلا يعبث بلحيته في صلاته، فقال: لو خشع قلبه لخشعت جوارحه «3».
قال بعضهم: في هذا دلالة على أنّ الخشوع في الصلاة يكون في القلب و الجوارح، فأمّا في القلب فهو أن يفرغ قلبه بجمع الهمّة لها و الإعراض عمّا سواها، فلا يكون فيه غير العبادة و المعبود، و أمّا في الجوارح فهو غض البصر و ترك الالتفات و العبث «4».
و أبين الخشوع: أي أفضله من البون بمعنى الفضل و المزيّة، أو أوضحه من بان الشيء يبين بيانا إذا انكشف و اتّضح لأنّه كلّما كان أظهر على الجوارح كان أدلّ على خشوع القلب و عدم التفاته إلى غير العبادة و المعبود.
و أبلغه: أي أشدّه انتهاء إلى الغاية من البلوغ و هو الانتهاء إلى الغاية و الأمد و اللّه أعلم.
[ 1170] الأرحام: جمع رحم- ككتف- القرابة و أصله من رحم المرأة و هو موضع تكوين الولد منها لكونهم خارجين من رحم واحد، يقال: وصل رحمه إذا أحسن إليها.
و البرّ: التوسّع في فعل الخير، و منه برّ والديه إذا اتسع في الإحسان إليهما.
و الصلة: الإحسان و العطيّة و منه: هذه صلة الأمير و صلاته.
و تعاهدت الشيء و تعهدته: تفقّدته، و جدّدت العهد به: أي العلم به، من
__________________________________________________
(1) مجمع البحرين: ج 4 ص 321.
(2) مجمع البحرين: ج 4 ص 321.
(3) مجمع البحرين: ج 4 ص 321.
(4) مجمع البحرين: ج 4 ص 321.
52
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الرابع و الأربعين ص 10
الزّكوات و أن نراجع من هاجرنا و أن ننصف من ظلمنا و أن نسالم من عادانا حاشا من عودي فيك و لك فإنّه العدوّ الّذي لا نواليه و الحزب الّذي لا نصافيه و أن نتقرّب إليك فيه من الأعمال الزّاكية بما تطهّرنا به من الذّنوب و تعصمنا فيه مما نستأنف من العيوب حتّى لا يورد عليك أحد من ملائكتك إلّا دون ما نورد من أبواب الطّاعة لك و أنواع القربة إليك.
قولهم هو قريب العهد بكذا: أي قريب العلم و الحال، و فيه شاهد على صحّة تعاهده كتعهّده خلافا لابن فارس حيث قال: يقال: تعهّدته، و لا يقال: تعاهدته، لأن التفاعل لا يكون إلّا عن اثنين «1» و هو مردود رواية و دراية، أمّا الرّواية فقد نصّ كثير من أئمة اللّغة على اللغتين من غير فرق، فقال صاحب المحكم: تعهّد الشيء و تعاهده و اعتهده: تفقّده و أحدث العهد به «2»، و مثله في القاموس بنصّه «3».
و قال الليث: المعاهدة و الاعتهاد و التعاهد و التعهّد: واحد و هو إحداث العهد بما عهدته، نقل ذلك عنه النووي في تهذيب اللغات «4».
و في الحديث: تعلّموا كتاب اللّه و تعاهدوه، رواه أحمد في مسنده عن عاصم بن عقبة «5».
و فيه تعاهدوا القرآن رواه مسلم في صحيحه «6».
قال النووي في شرحه: أي حافظوا عليه بتجديد العهد و التلاوة لئلا ينسى «7».
__________________________________________________
(1) المصباح المنير: ص 595 نقلا عنه.
(2) المحكم في اللغة: ج 1 ص 63.
(3) القاموس المحيط: ج 1 ص 320.
(4) تهذيب الاسماء و اللغات الجزء الاول من القسم الثاني ص 49.
(5) مسند أحمد بن حنبل: ج 4 ص 146.
(6) صحيح مسلم: ج 1 ص 545 ح 231.
(7) شرح صحيح مسلم للنووي: ج 6 ص 77 نقلا بالمعنى و نفس المصدر السابق في ذيل الصفحة.
53
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الرابع و الأربعين ص 10
..........
و قال الطيبي: أي واظبوا عليه «1» و هو في الحديث كثير كما يظهر لمن تتبعه، و أمّا الدراية: فإنّ التعاهد: تجديد العهد بالشيء فإذا جدّد الشخص عهدا بآخر فقد تجدد عهدا عهد الآخر به فحصلت المشاركة، ألّا ترى أن كلّا منهما يصحّ له أن يقول بعد ذلك: عهدي بفلان وقت كذا، أو عهدته بمكان كذا.
و الجيران: جمع جار: و هو المجاور في السكن و قد تقدّم الكلام عليه.
و الإفضال: الإحسان.
و العطيّة: اسم للمعطى، و الجمع العطايا.
[ 1171] و التبعات: جمع تبعة- ككلمة- و المراد بها هنا ما يتبع المال من الحقوق، و منه حديث قيس بن عاصم المنقري: يا رسول اللّه: ما المال الذي ليس فيه تبعة من طالب و لا من ضيف أي حق يتبعه من سائل أو ضيف.
و تطهير الأموال بإخراج الزكاة: عبارة عن تنقيتها من دنس منع الزكاة لما ورد في الصحيح عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:
ملعون ملعون مال لا يزكّى «2».
و في الصحيح عنه أيضا عليه السّلام: ما من عبد يمنع درهما في حقّه إلّا أنفق اثنين في غير حقّه، و ما من رجل يمنع حقّا من ماله إلّا طوّقه اللّه عزّ و جلّ به حيّة من نار يوم القيامة «3».
و في الحسن عن أبي جعفر عليه السّلام في قوله تعالى: سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ، قال: ما من عبد منع من زكاة ماله شيئا إلّا جعل ذلك يوم القيامة ثعبانا من نار يطوّق في عنقه ينهش من لحمه حتى يفرغ من الحساب، ثم قال: و هو قول اللّه عزّ و جلّ: سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ يعني ما بخلوا به من الزكاة «4».
__________________________________________________
(1) لم نعثر عليه.
(2) الكافي: ج 3 ص 504 ح 8.
(3) الكافي: ج 3 ص 504 ح 7.
(4) الكافي: ج 3 ص 504 ح 10.
54
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الرابع و الأربعين ص 10
..........
و الأخبار في هذا المعنى أكثر من أن تحصى و كلّ هذه العقوبات أدناس تتعلّق بما منع من الزكاة و تترتّب عليه، و هي قبل إخراج الزكاة لازمة للأموال فكان إخراجها تطهيرا لها.
و الزكاة في اللغة: النماء و الزيادة، و تطلق على الطهارة أيضا، و نقلت في الشرع إلى القدر المخرج من النصاب لأنّها تزيد في بركة المخرج عنه.
قال العلامة النيسابوري: و يمكن أن يقال مأخوذة من التطهير من زكّى نفسه إذا نقاها من العيوب، قال تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَ تُزَكِّيهِمْ بِها فانّ المخرج يطهّر ما بقي من المال «1».
و قال بعض العلماء: إذا لم تخرج الزكاة يبقى حق الفقراء في المال فإذا حمله شحّه على منعه فقد ارتكب التصرّف في الحرام، و الاتّصاف برذيلة البخل فإذا أخرجها فقد طهّر ماله من الحرام، و نفسه من رذيلة البخل انته «2».
و يتعلّق بهذه الفقرات من الدعاء مسائل لا بأس بالتّنبيه عليها:
الاولى: قال الشهيد «قدّس سرّه»: كل رحم توصل للكتاب و السنّة و الاجماع على الترغيب في صلة الارحام، و الكلام عليها في مواضع. الاول: ما الرحم؟
الظاهر إنّه المعروف بنسبة و إن بعد و إن كان بعضه آكد من بعض ذكرا كان أو انثى، و قصره بعض العامّة على المحارم الذين يحرم التناكح بينهم إن كانوا ذكورا و إناثا و إن كان من قبيل يقدر أحدهما ذكرا و الآخر انثى فإن حرم التناكح فهو الرحم.
و احتجّ بأنّ تحريم الاختين إنّما كان لما يتضمّن من قطيعة الرحم و كذا تحريم الجمع بين العمّة و الخالة و ابنة الأخ و الاخت مع عدم الرّضاع عندنا و مطلقا عندهم
__________________________________________________
(1) تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان: ج 1 ص 99.
(2) لم نعثر عليه.
55
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الرابع و الأربعين ص 10
..........
و هذا بالإعراض عنه حقيق فإنّ الوضع اللّغوي يقتضي ما قلناه و العرف أيضا و الأخبار دلّت عليه «1».
روى عليّ بن إبراهيم عن عليّ عليه السّلام في قوله تعالى: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَ تُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ إنّها نزلت في بني أميّة «2».
و هو يدلّ على تسميته القرابة المتباعدة رحما.
الثاني: ما الصلة التي يخرج بها عن القطيعة؟
و الجواب: المرجع في ذلك إلى العرف لأنّه ليس له حقيقة شرعيّة و لا لغويّة، و هي تختلف باختلاف العادات و بعد المنازل و قربها.
الثالث: بم الصّلة؟ و الجواب: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «بلّوا أرحامكم و لو بالسّلام» «3» و فيه تنبيه على أنّ السلام صلة، و لا ريب أنّ مع فقر بعض الأرحام و هم العمود تجب الصلة بالمال، و تستحب لباقي الأقارب و تتأكّد في الوارث و هو قدر النفقة و مع الغنى فبالهديّة في الأحيان بنفسه أو رسوله، و أعظم الصلة ما كان بالنفس و فيه أخبار كثيرة، ثم بدفع الضرر عنها، ثم بجلب النفع إليها، ثم بصلة من يحبّ و إن لم يكن رحما للواصل كزوج الأب و الأخ و مولاه، و أدناها السّلام بنفسه ثم برسوله، و الدعاء بظهر الغيب و الثناء في المحضر.
الرابع: هل الصلة واجبة أم مستحبّة؟ و الجواب: إنّها تنقسم إلى الواجب و هي ما يخرج به عن القطيعة فإنّ قطيعة الرحم معصية بل قيل هي من الكبائر، و المستحبّ ما زاد على ذلك.
المسألة الثانية: يمكن أن يكون عطف الصلة على البرّ في قوله: «بالبرّ» و الصّلة من باب عطف الخاص على العام لأنّ البرّ اسم جامع لأنواع الطاعات و أعمال
__________________________________________________
(1) القواعد و الفوائد: ج 2 ص 51.
(2) تفسير علي بن إبراهيم القميّ: ج 2 ص 308.
(3) تحف العقول: ص 46.
56
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الرابع و الأربعين ص 10
..........
القربات، و منه برّ الوالدين و هو استرضاؤهما بكل ما أمكن، و الصلة للرحم و إن كانت شرعا أعم من معناها المشهور لغة و هو العطيّة و الإحسان كما عرفت إلّا أنّها أخصّ من البرّ على كل حال لأنّ من البرّ ما لا يسمّى صلة لا عرفا و لا لغة، ألا ترى إلى ما روي عن صاحب الدعاء عليه السّلام أنّه بلغ من برّه بوالدته إنّه كان لا يأكل معها في صحفة فقيل له في ذلك، فقال: أخشى أن تسبق يدي امّي إلى ما سبقت عينها إليه «1» فهذا المعنى الذي لاحظه عليه السّلام: نوع من أنواع البرّ و لكن لا يسمّى صلة عرفا فضلا عن اللغة، فما وقع لبعضهم إنّه من باب عطف الشيء على مرادفه ليس بشيء و لك أن تفرق بينهما بأن البرّ ما اتّسع من الإحسان كما نصّ عليه أرباب اللغة، و الصّلة أعم منه فكلّ برّ صلة من دون عكس فيكون من باب عطف العام على الخاص.
المسألة الثالثة: الجار لغة قيل: من يقرب مسكنه منك، و قيل: من يجاورك بيت بيت و تلاصقك «2» في السكن، و قد تقدّم بيان حدّ الجوار و على «3» ذكر الخلاف فيه هل هو أربعون دارا من كل جانب أو أربعون ذراعا من كل جانب، أو هو راجع إلى العرف، إلى كل ذهب جماعة من أصحابنا، و على كلّ تقدير فقد نص بعض مشايخنا على أنّه إذا لم يقدر على القيام بأمر الجميع كان عليه تقديم الأقرب فالأقرب و إن كان الأبعد ذا رحم فلا يبعد القول بتقديمه، و قد نصّ الكتاب و السنّة على الإحسان إلى الجار، قال تعالى: وَ اعْبُدُوا اللَّهَ وَ لا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَ بِذِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ الْجارِ ذِي الْقُرْبى وَ الْجارِ الْجُنُبِ وَ الصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ وَ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالًا فَخُوراً «4».
__________________________________________________
(1) مكارم الأخلاق: ص 221.
(2) «ألف»: و يلاصقك.
(3) «ألف»: الجوار شرعا و ذكر.
(4) سورة النساء: الآية 36.
57
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الرابع و الأربعين ص 10
..........
قال أمين الاسلام الطبرسي في مجمع البيان قيل: معنى «الجار ذي القربى»:
الجار القريب في النسب، «و الجار الجنب»: الجار الأجنبي الذي ليس بينك و بينه قرابة. عن ابن عباس و جماعة. و قيل: المراد به الجّار ذي القربى منك بالإسلام، و الجار الجنب: المشرك البعيد في الدين فقد روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: الجيران ثلاثة: جار له ثلاثة حقوق: حقّ الجوار و حقّ القرابة و حقّ الإسلام، و جار له حقّان: حقّ الجوار و حقّ الإسلام، و جار له حقّ الجوار و هو المشرك من أهل الكتاب. و قال الزجّاج: الجار ذي القربى: الجار الذي يقاربك و تقاربه و يعرفك و تعرفه، و الجار الجنب: البعيد، قال: و لا يجوز أن يكون المراد بذي القربى القريب من القرابة لأنّه قد سبق ذكر القرابة و الأمر بالإحسان إليهم بقوله:
و بذي القربى و يمكن أن يجاب عنه بأن يقال هذا جائز و إن كان قد سبق ذكر القرابة لأنّ الجّار إذا كان قريبا فله حقّ القرابة و الجوار، و القريب الذي ليس بجار له حقّ القرابة حسب فحسن إفراد الجار القريب بالذكر انته «1».
و أمّا الصاحب بالجنب فليس المراد به الجار بل قيل هو الرّفيق في أمر حسن كتعلّم و صناعة و سفر لأنّه صحبك و حصل بجنبك و منهم قعد بجنبك في مسجد أو مجلس، و قيل: هو المنقطع إليك يرجو نفعك و رفدك، و قيل: هو الخادم يخدمك، و قيل:
هو المرأة، و الأولى حمله على الجميع.
و في الحديث: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ما زال جبرئيل يوصيني بالجار حتّى ظننت أنه سيورثه «2».
و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: اللّه اللّه في جيرانكم فإنّه وصيّة نبيّكم، ما زال يوصيني بهم حتى ظننت أنّه سيورثهم «3».
__________________________________________________
(1) مجمع البيان: ج 3- 4 ص 45.
(2) نهج الفصاحة: ص 546 ح 2640.
(3) نهج البلاغة: ص 422، الرسائل: 47.
58
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الرابع و الأربعين ص 10
..........
و الأخبار في ذلك كثيرة من طرق الخاصّة و العامّة، و ما زالت العرب في جاهليتها و إسلامها تعظم أمر الجار و تفتخر بذلك و تعيّر من لا يعتني به، ألا ترى إلى قول قائلهم:
و نكرم جارنا ما دام فينا و نتبعه الكرامة حيث مالا
و قول حاتم الطائي:
سأقدح من قدري نصيبا لجارتي و ان كان ما فيها كفافا على أهلي
و قول مسكين الدارمي:
ناري و نار الجّار واحدة و إليه قبلي تنزل القدر
ما ضرّ جارا لي اجاوره أن لا يكون لبابه ستر
أعمى إذا ما جارتي خرجت حتى يواري جارتي الخدر «1»
و قال أبو تمام:
من مبلغ أفناء يعرب كلها إنّي بنيت الجار قبل المنزل
و لما سمع علقمة بن علاثة قول الأعشى فيه و في قومه:
تبيتون في المشتا ملأ بطونكم و جاراتكم غرثى يبتن خماصا
بكى و قال: أ نفعل نحن هذا بجاراتنا و دعا عليه، فما ظنّك بشيء يبكي منه علقمة بن علاثة و قد كان عندهم لو ضرب بالسيف ما قال حسن، و بالجملة فرعاية الجّار أمر تطابق «2» عليه العقل و النقل، و اللّه أعلم.
المسألة الرابعة: الظاهر أنّ المراد بالتبعات في قوله عليه السّلام: «و أن نخلص أموالنا من التبعات» ما سوى الزكاة من الحقوق فرضا كانت كالخمس و واجب النفقات أو ندبا و هو ما عداه ممّا ليس حقّا واجبا.
__________________________________________________
(1) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 17 ص 10.
(2) «ألف» يتطابق.
59
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الرابع و الأربعين ص 10
قال صاحب المدارك المشهور بين أصحابنا خصوصا المتأخرين أنّه ليس في المال حق واجب سوى الزكاة و الخمس «1» انته.
و إنّما سمّي ما ليس بواجب تبعة لما وقع من التأكيد في استحباب الإفضال لذي المال حتّى وقع التعبير عنه في الأخبار بأنّه فرض من اللّه تعالى.
ففي الحسن: عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: أ ترون انما في المال الزكاة وحدها ما فرض اللّه من غير الزكاة أكثر تعطي منه القرابة و المتعرض لك ممّن يسألك فتعطيه ما لم تعرفه بالنصب فإذا عرفته بالنصب فلا تعطه إلّا أن تخاف لسانه فتشتري دينك و عرضك منه «2».
و روى ثقة الإسلام في الكافي بسند حسن عن أبي بصير قال: كنا عند أبي عبد اللّه عليه السّلام و معنا بعض أصحاب الأموال فذكروا الزكاة فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: إن الزكاة ليس يحمد بها صاحبها و إنّما هو شيء ظاهر إنّما حقن اللّه بها دمه و سمّي بها مسلما و لو لم يؤدّها لم تقبل له صلاة و إن عليكم في أموالكم غير الزكاة، فقلت: أصلحك اللّه و ما علينا في أموالنا غير الزكاة؟ فقال: سبحان اللّه أما تسمع اللّه عزّ و جلّ يقول في كتابه: وَ الَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ. لِلسَّائِلِ وَ الْمَحْرُومِ؟ قال: قلت: ما ذا الحق المعلوم الذي علينا؟ قال: الشّيء يعمله الرّجل في ماله يعطيه في اليوم أو في الجمعة أو في الشهر قلّ أو كثر غير أنّه يدوم عليه، و قوله عزّ و جلّ: «و يمنعون الماعون»، قال: هو القرض يقرضه، و المعروف يصطنعه، و متاع البيت يعيره و منه الزكاة «3» الحديث.
و روى بسنده أيضا عنه عليه السّلام قال: إنّ اللّه فرض في أموال الأغنياء
__________________________________________________
(1) مدارك الأحكام في شرح شرائع الإسلام: ص 254 س 3.
(2) الكافي: ج 3 ص 551 ح 2.
(3) الكافي: ج 3 ص 499 ح 9.
60
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الرابع و الأربعين ص 10
..........
فريضة لا يحمدون الّا بأدائها و هي الزكاة، بها حقنوا دمائهم و بها سمّوا مسلمين، و لكن اللّه عزّ و جلّ فرض في أموال الأغنياء حقوقا غير الزكاة فقال عزّ و جلّ: وَ الَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ. لِلسَّائِلِ وَ الْمَحْرُومِ فالحق المعلوم غير الزكاة و هو شيء يفرضه الرّجل على نفسه في ماله يجب عليه أن يفرضه على قدر طاقته و سعة ماله فيؤدّي الذي فرض على نفسه إذا هو حمده على ما أنعم اللّه عليه فيما فضّله إن شاء في كل يوم و إن شاء في كل جمعة و إن شاء في كل شهر و قد قال اللّه عزّ و جلّ أيضا: أَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً* فهذا غير الزكاة، و قال اللّه عزّ و جلّ أيضا: يُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَ عَلانِيَةً و هو القرض يقرضه و المتاع يعيره و المعروف يصنعه و ممّا فرض اللّه عزّ و جلّ أيضا في المال من غير الزكاة قوله عزّ و جلّ: الَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ، و من أدى ما فرض اللّه عليه فقد قضى ما عليه و أدّى شكر ما أنعم اللّه عليه في ماله «1» الحديث.
و في الصحيح عنه عليه السّلام: إنّ صاحب النعمة على خطرات يجب عليه حقوق اللّه فيها و اللّه إنّها لتكون على النعم من اللّه عزّ و جلّ فما أزال على وجل و حرّك يده حتى أخرج من الحقوق التي يجب للّه عليّ فيها، قلت: جعلت فداك: أنت في قدرك تخاف هذا؟ قال: نعم فأحمد ربّي على ما منّ به عليّ «2».
و الأخبار عنهم عليهم السّلام في هذا المعنى كثيرة.
المسألة الخامسة: إيراده عليه السّلام الزكوات بلفظ الجمع كأنّه بأعتبار تعدّد ما تجب فيه من التسعة المشهورة و هي الإبل و البقر و الغنم و الذهب و الفضّة و الحنطة و الشعير و التمر و الزبيب و ما تستحب فيه من الثمانية المعروفة و هي: إناث الخيل السائمة، و ما قرّ به من الزكاة، و مال الطفل و المجنون إذا أتجر به الولي، و ما شكّ في
__________________________________________________
(1) الكافي: ج 3 ص 498 ح 8.
(2) الكافي: ج 3 ص 502 ح 19.
61
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الرابع و الأربعين ص 10
..........
بلوغه النصاب، و ما غاب سنتين فصاعدا في غير يد الوكيل، و النباتات مكيلة أو موزونة سوى الخضر، و نماء العقار المتخذ له كالخان و الحمام، و مال التجارة، فالجمع باعتبار الأفراد، و يحتمل أن يكون باعتبار الأنواع. كما روي عن الصادق عليه السّلام: إنّ رجلا سأله في كم تجب الزكاة من المال؟ فقال: الزكاة الظاهرة أم الباطنة تريد؟ فقال: أريدهما جميعا، فقال: أمّا الظاهرة ففي كلّ ألف خمس و عشرون و أمّا الباطنة فلا تستأثر على أخيك بما هو أحوج إليه منك «1».
و الظاهر أنّ المراد بسؤال التوفيق لتطهير الأموال بإخراج الزكوات «2» في شهر رمضان إنّما هو إذا وجب إخراجها فيه أو وجب قبله و لم تخرج، أمّا إذا لم يحن وجوب إخراجها بعد أو وجب قبله فلا يستحب تقديمه فيه و لا تأخيره إليه لأنّ كل فريضة إنّما تؤدى إذا حلت، و الوجوب فوري و التقديم و التأخير على القول بجوازهما للرخصة و لا استحباب فيهما، و اللّه أعلم.
[ 1172] قوله عليه السّلام: «و أن نراجع من هاجرنا». المراجعة: المعاودة، و منه: راجع الرجل امرأته، و في المحكم راجع الشّيء: رجع إليه، عن ابن جني «3».
و هاجره: بمعنى هجره أي تركه و رفضه، قال عدي:
و هاجرت المروق و السماعا
و أنصفت الرّجل: عاملته بالعدل و القسط، و الاسم: النصفة بفتحتين لأنّك أعطيته من الحقّ مثل ما تستحقّه لنفسك و الغرض التوقّي من الميل و الجور في معاملة الظالم له بأن يوفقه تعالى لمعاملته بالانصاف لا بما يقتضيه التشفّي و تؤدي إليه الحميّة و الغيظ.
و سالمه مسالمة و سلاما: صالحه، و الاسم: السلم بكسر السين و فتحها و سكون اللام.
__________________________________________________
(1) الكافي: ج 3 ص 500 ح 13.
(2) «ألف»: الزكاة.
(3) المحكم في اللغة: ج 1 ص 191.
62
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الرابع و الأربعين ص 10
..........
و عاده معاداة: نصب له العداوة: و هي حالة تتمكّن من القلب لقصد الإضرار و الانتقام.
و حاشا: هنا للاستثناء، و هي حرف بمنزلة إلّا عند سيبويه و أكثر البصريّين لكنّها تجر المستثنى فما بعدها مجرور بها.
و ذهب الجرمي و المازني و المبرّد و الزجّاج و جماعة آخرون إلى أنّها تستعمل كثيرا حرفا جارا و قليلا فعلا متعدّيا جامدا لتضمّنه معنى إلّا «1».
فإن حملتها على الفعليّة فالموصول بعدها في محل نصب على المفعوليّة بها و فاعلها ضمير مستتر عائد على مصدر الفعل المتقدّم عليها، و المعنى: جانب مسالمتنا من عودي فيك و إيثار حاشا في الاستثناء لما فيها من معنى التنزيه تنبيها على أنّ من عودي فيه تعالى لشدّة وجوب معاداته و إفراطه في قبح الحال و سوء الصنيع «2» تنزّه المسالمة عنه و تعظم «3» شأنها أن تتعلّق به، و لذلك قال ابن الحاجب: لا يستثنى بحاشا إلّا حيث يتعلّق الاستثناء بما فيه تنزيه «4».
و فيك: أي لأجلك فهي للتعليل مثلها في قوله تعالى: لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ «5».
و في الحديث: «إن امرأة دخلت النّار في هرّة حبستها» «6».
و في نسخة: «و لك»: و هو من باب عطف الشيء على مرادفه.
[ 1173] و الفاء من قوله: «فإنّه العدو» سببية بمعنى اللام نحو: فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ* «7».
و والاه موالاة صادقة من الولاية بمعنى: الصداقة.
و الحرب: العدو.
__________________________________________________
(1) مغني اللبيب: ص 165.
(2) «ألف»: الضيع.
(3) «ألف»: و يعظم.
(4) شرح الكافية في النحو: ج 1 ص 244.
(5) سورة النور: الاية 14.
(6) مسند أحمد: ج 2 ص 507.
(7) الحجر: 34.
63
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الرابع و الأربعين ص 10
..........
و قال الجوهري: أنا حرب لمن حاربني: أيّ عدو «1».
و في القاموس: رجل حرب: عدوّ محارب و إن لم يكن محاربا للذكر و الانثى و الجمع و الواحد «2».
و في نسخة: «الحزب» بكسر الحاء المهملة و سكون الزاء «3»: و هو الطائفة و جماعة الناس.
و قال الراغب: الحزب: جماعة فيها غلظ «4».
و عليه: فالمراد بمن عودي و بالعدو أعم من الواحد لاستواء الواحد و الجمع فيهما.
و صافاه مصافاة: أخلصه الودّ، و صدقه المحبّة و الاخاء و أصله من الصفو و هو الخلوص من الكدر.
[ 1174] و التقرّب: تكلّف القرب، و المراد به هنا التحري لما يقتضي خطوة و رفعة في المنزلة تشبيها بالقرب المكاني و منه: عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ «5».
و من: في قوله: «من الأعمال»: مبينة قدّمت على المبهم و هو قوله: «ما تطهّرنا به» كقولك: عندي من المال ما يكفي، و هي و مجرورها في محل نصب على الحال فمتعلّقها محذوف.
و قول بعض الطلبة: إنّها متعلقة بنتقرّب «6» لتضمينه معنى فعمل غلط فاحش فاحذره.
و الأعمال الزاكية: الصالحة أو النامية المباركة، من زكى يزكو بمعنى صلح، أو من زكى الزرع يزكو إذا حصل منه نمو كثير و بركة.
و التطهير من الذنوب هنا بمعنى غفرانها و إذهابها بالأعمال الزاكية كما قال
__________________________________________________
(1) الصحاح: ج 1 ص 109.
(2) القاموس المحيط: ج 1 ص 53.
(3) «ألف» الزاي.
(4) المفردات: ص 115.
(5) سورة المطففين: الآية 28.
(6) لم نعثر عليه.
64
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الرابع و الأربعين ص 10
..........
تعالى: إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ «1».
[ 1175] و تعصمنا: أي تحفظنا، من عصمه اللّه من المكروه يعصمه من باب- ضرب- أي حفظه و وقاه.
و استأنفت الشيء استئنافا: ابتدأته.
و قال الراغب: استأنفت الشيء: أي أخذت أنفه أي مبدأه «2»، و المعنى و تحفظنا ممّا نريد أن نستأنفه من العيوب أو ممّا نشارف استئنافه من العيوب تعبيرا بالفعل عن إرادته أو مشارفته كقوله تعالى: وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ «3» أي و الذين يشارفون الوفاة و ترك الازواج يوصون وصية لأزواجهم لأنّ الوصيّة لا تكون بعد الوفاة و كذلك العصمة لا تكون بعد الاستئناف و لكن قبلها.
و العيب في الأصل: مصدر عابه إذا أدخل فيه نقصا، ثم استعمل اسما فجمع على عيوب.
[ 1176] و حتّى: تعليليّة بمعنى كي أي كيلا يورد عليك أحد من ملائكتك إلّا دون ما نورده من أبواب الطاعة لك و أنواع القربة إليك، يقال: أوردت على فلان كذا أي أتيته به.
قال بعضهم: حاصل هذا الكلام: حتى تكون أعمال الملائكة دون أعمالنا من الطاعة و القربة.
و قيل: معناه حتى لا يورد عليك أحد من ملائكتك الذين هم كتبة الأعمال من ذنوبنا إلّا دون ما نورده من أبواب الطاعة لك و أنواع القربة إليك.
و قيل: معناه حتى لا يورد عليك أحد من ملائكتك من أعمال العباد إلّا دون
__________________________________________________
(1) سورة هود: الآية 114.
(2) المفردات: ص 28.
(3) سورة البقرة: الآية 240.
65
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الرابع و الأربعين ص 10
..........
ما نورده عليك من أبواب الطاعة و أنواع القربة.
قلت: و يحتمل وجها آخر و هو أن يكون المعنى حتى لا يورد عليك أحد من ملائكتك من أعمالنا إلّا دون ما نورده من أبواب الطاعة إلى آخره، فإنّ من أبواب الطاعة ما لا يعلمه الملائكة و لا يكتبونه كما يدلّ على ذلك صريحا ما رواه ثقة الإسلام في الكافي بسند حسن أو صحيح، عن زرارة عن أحدهما عليهما السّلام قال: «لا يكتب الملك إلّا ما سمع» و قد قال اللّه عزّ و جلّ: وَ اذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَ خِيفَةً فلا يعلم ثواب ذلك الذكر في نفس الرّجل غير اللّه عزّ و جلّ لعظمته «1».
و هذا وجه سديد و لا يخفى أنّه أنسب من الوجوه المتقدّمة و لكن الأولى أن يقدّر المستثنى أعم من جميع ما ذكر لأنّ الاستثناء مفرّغ و هو إنّما يكون في الجنس الذي لا أعمّ منه و دون وصف لموصوف محذوف، و التقدير حتى لا يورد عليك أحد من ملائكتك شيئا من الأعمال إلّا عملا دون ما نورده من أبواب الطاعة أي أقل منه كمّا و كيفا، و دون هنا مثلها في قوله تعالى: أَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَ مِنَّا دُونَ ذلِكَ «2».
قال صاحب الكشّاف: أي و منّا قوم دون ذلك فحذف الموصوف كقوله:
«و ما منّا الّا له مقام معلوم» «3» انته.
و هذا على مذهب سيبويه و جمهور البصريين من أنّ دون لا تخرج عن استعمالها ظرفا فهي في عبارة الدعاء منصوبة لفظا على الظرفيّة و محلا على الوصفيّة.
و ذهب الأخفش و الكوفيّون إلى أنّه قد يتصرّف فيها نادرا فتخرج عن الظرفيّة، و خرّج عليه الأخفش قوله تعالى: وَ مِنَّا دُونَ ذلِكَ فقال: إنّ دون مبتدأ و منّا
__________________________________________________
(1) الكافي: ج 2 ص 502 ح 4.
(2) الجن: 11.
(3) الكشاف: ج 4 ص 627.
66
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الرابع و الأربعين ص 10
اللّهمّ إنّي أسألك بحقّ هذا الشّهر و بحقّ من تعبّد لك فيه من ابتدائه إلى وقت فنائه من ملك قرّبته أو نبيّ أرسلته أو عبد صالح خبره و بنيت دون لإضافتها إلى مبني و يمكن حمل عبارة الدعاء على هذا أيضا، لكن قال الدماميني يبطله أنّ التنزيل لا يخرج على نادر «1».
قلت: و كذلك كلام الفصحاء لا سيّما كلامهم عليهم السّلام.
و أبواب الطاعة: أنواعها و أقسامها.
و أنواع القربة: أي أنواع أسبابها و ذرائعها، لأنّ المراد بالقربة القرب منه تعالى بحصول الرفعة و نيل الثواب لديه سبحانه تشبيها بالقرب المكاني، و العبد إنّما يورد الأعمال التي هي ذرائع إليها لكن أطلقت على نفس العمل للايذان بما بينهما من كمال الاختصاص حتّى كأنّه نفس القربة و عليه قوله تعالى: وَ مِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَ صَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ «2».
قال الزمخشري: المعنى: أن ما ينفقه سبب لحصول القربات و صلوات الرسول لأنّ الرسول كان يدعو للمتصدّقين بالخير و البركة و يستغفر لهم كقوله: «اللّهم صلّ على آل أبي أوفى» و قال تعالى: وَ صَلِّ عَلَيْهِمْ، فلمّا كان ما ينفق سببا لذلك قيل:
يتخذ ما ينفق قربات و صلوات «3» انته.
قال العلامة النيسابوري: ثمّ إنّه تعالى فسّر القربة بقوله: «سيدخلهم في رحمته»، و السين لتحقيق الوعد «4»، و اللّه أعلم.
[ 1177] التأكيد بإنّ لصدق الرغبة و كمال العناية و الاهتمام و إظهار غاية التضرّع و الابتهال.
__________________________________________________
(1) لم نعثر عليه.
(2) التوبة: 99.
(3) تفسير الكشاف: ج 2 ص 303- 304.
(4) تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان: ج 2 ص 268.
67
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الرابع و الأربعين ص 10
اختصصته أن تصلّي على محمّد و آله و أهّلنا فيه لما وعدت أولياءك من كرامتك و أوجب لنا فيه ما أوجبت لأهل المبالغة في طاعتك و اجعلنا في نظم من استحقّ الرّفيع الأعلى برحمتك.
و بحقّ هذا الشّهر: أي بما ثبت له عندك و وجب لديك من الفضيلة و الكرامة، و الإشارة بهذا الشهر إلى شهر رمضان الموضوع للجنس لا للفرد المنزل منزلة المحسوس الحاضر المشاهد أعني الشهر المقروء فيه الدعاء بدليل قوله عليه السّلام: «و بحقّ من تعبّد لك فيه من ابتدائه إلى وقت انتهائه» «1»، إذ المراد من وقت ابتداء خلقه إلى وقت ارتفاع التكليف فتعيّن كون المراد بهذا الشهر جنس شهر رمضان و إنّ «2» أعلام الشهور أعلام أجناس كما نصّ عليه المحقّقون و هذا كقولك: و أنت في شهر رمضان هذا الشهر أفضل من سائر الشهور فإنّك لا تريد بهذا الشهر إلّا شهر رمضان الموضوع للجنس لا الشهر الذي أنت فيه بخصوصه كما هو ظاهر.
و تعبّد الرجل: تنسّك و اجتهد في العبادة.
و قوله عليه السّلام: «من ابتدائه» أي من وقت ابتدائه فحذف المضاف و أناب المصدر منابه توسّعا و منه قوله تعالى: وَ مِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَ إِدْبارَ النُّجُومِ «3» أي وقت إدبارها و نحوه قولك: سرت اليوم من طلوع الشمس إلى غروبها: أي من وقت طلوعها إلى وقت غروبها، و في عبارة الدعاء شاهد لورود من لابتداء الغاية في الزمان خلافا لجمهور البصريين و أجازه الكوفيّون و الأخفش و المبرّد و ابن درستويه «4».
قال الرضي: و الظاهر مذهبهم إذ لا مانع من قولك نمت من أوّل اللّيل إلى آخره و صمت من أول الشهر إلى آخره «5» انته.
__________________________________________________
(1) هكذا في الاصل: و لكن في الدعاء «إلى وقت فنائه» فراجع.
(2) «ألف» فإن.
(3) سورة الطور: الآية 49.
(4) مغني اللبيب: ص 419.
(5) شرح الكافية في النحو: ج 2 ص 321.
68
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الرابع و الأربعين ص 10
..........
و الشّواهد على ذلك كثيرة جدا، و في الحديث: فمطرنا من الجمعة إلى الجمعة «1».
و فيه من يعمل لي من نصف النهار إلى صلاة العصر، و فيه: هذا أوّل طعام أكله أبوك من ثلاثة أيّام.
«و من» في قوله عليه السّلام: «من ملك قرّبته» بيانيّة لمن الموصولة.
«و أو» في الموضعين للتفصيل و يعبّر عنه بالتقسيم لأنّ الغرض تقسيم ما تقدّم ممّا يتناول الأقسام و هو قوله: «من تعبّد لك فيه» و لو جيء بالواو مكانها لصحّ بل قيل: مجيء الواو في التقسيم أكثر.
و أرسلته: أي بعثته.
[ 1178] و الاختصاص: إفراد بعض الشيء بما لا يشاركه فيه الجملة، تقول: «اختصّ اللّه محمّدا لنفسه» أي جعله خاصّته بحيث لا يشاركه أحد فيما له عنده من المنزلة.
و أهّلنا فيه لما وعدت أوليائك: أي اجعلنا أهلا له، يقال: أهّلك اللّه للخير تأهيلا، و فلان أهلا للإكرام: أي مستحقّ و مستوجب له، و هم أهل له يستوي فيه المفرد و الجمع، و منه: هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَ أَهْلُ الْمَغْفِرَةِ «2» أي حقيق بأن يتّقى، و حقيق بأن يغفر فكانوا أحقّ بها، و أهلها: أي المستحقّين لها، و الضمير من «فيه» عائد إلى الشّهر مرادا به الشهر المقروء فيه الدعاء على طريقة الاستخدام.
و الأولياء: جمع ولي و هو فعيل بمعنى المفعول و هو من يتولّى اللّه تعالى حفظه و حراسته على التوالي أو بمعنى الفاعل أي يتولّى عبادة اللّه تعالى و طاعته على الولاء من غير تخلل معصية، قال بعضهم: و كلا الوصفين شرط في الولاية.
و قال المتكلّمون: الولي من كان آتيا بالاعتقاد الصحيح المبني على الدليل بالأعمال الشّرعية، و التركيب يدلّ على القرب فكأنّه قريب منه سبحانه لاستغراقه في نور معرفته و جمال جلاله.
__________________________________________________
(1) صحيح البخاري: ج 2 ص 36.
(2) المدثر: 56.
69
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الرابع و الأربعين ص 10
..........
[ 1179] و أوجب لنا: أي أثبت لنا، من وجب الشّيء يجب وجوبا إذا ثبت و لزم.
و أهل المبالغة: المتصفين بها كما يقال: أهل العلم لمن اتّصف به، و المبالغة:
مصدر، بالغ في كذا: أي بذل جهده في فعله و تتّبعه.
و النظم: التأليف و ضمّ الشيء إلى آخر، و المنظوم يقال: نظم من اللؤلؤ أي منظوم منه.
قال الجوهري: و أصله المصدر، و يقال لجماعة الجراد نظم «1»، و في الأساس جاءنا نظم من جراد و نظام منه: أي صف «2»، و عليه فالمعنى: و اجعلنا في جماعة من استحق الرفيع الأعلى أو في صفّهم.
و الرفيع: فعيل بمعنى فاعل من رفع ككرم، رفعة: أي شرف و علا، و ارتفع فهو رفيع: أي المقام الرفيع الأعلى، و المراد به أعلى مراتب الجنّة و درجاتها.
و في الحديث: إنّ في الجنّة مائة درجة بين كل درجتين منها مثل ما بين السماء و الأرض و أعلى درجة منها الفردوس و عليها يكون العرش و هي أوسط شيء في الجنّة و منها تفجر أنهار الجنّة فإذا سألتم اللّه فاسألوه الفردوس «3».
و في نسخة: من استحقّ الرّفيق الأعلى. قال ابن الأثير في الحديث: و ألحقني بالرّفيق الأعلى. الرفيق: جماعة الأنبياء الساكنين أعلا عليّين فعيل بمعنى الجماعة كالصديق و الخليط يقع على الواحد و الجمع «4».
و قال الزمخشري في الفائق: روت عائشة قالت: وجدت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يثقل في حجري، قالت: فذهبت أنظر في وجهه فإذا بصره قد شخص و هو يقول: بل الرفيق الأعلى من الجنة، أي بل أريد جماعة الأنبياء من قوله تعالى:
__________________________________________________
(1) الصحاح: ج 5 ص 2041، نقلا بالمعنى.
(2) أساس البلاغة: ص 641.
(3) صحيح البخاري: ج 4 ص 19. مع اختلاف يسير في بعض الألفاظ و تقديم و تأخير.
(4) النهاية لأبن الأثير: ج 2 ص 246.
70
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الرابع و الأربعين ص 10
اللّهمّ صلّ على محمّد و آله و جنّبنا الإلحاد في توحيدك و التّقصير في تمجيدك و الشّك في دينك و العمى عن سبيلك و الإغفال لحرمتك و الانخداع لعدوك الشّيطان الرّجيم.
«و حسن أولئك رفيقا» و ذلك إنّه خيّر بين البقاء في الدنيا و بين ما عند اللّه فاختار ما عنده، و الرفيق كالخليط و الصديق في كونه واحدا و جمعا «1» انته.
و قال الكرماني في شرح البخاري قوله عليه السّلام بل الرفيق الأعلى أي اخترت المؤدّي إلى رفاقة الملأ الأعلى من الملائكة أو الذين أنعم اللّه عليهم من النبيّين و الصديقين و الشهداء و الصالحين و حسن أولئك رفيقا «2» انته.
و على هذه النسخة فمعنى قوله عليه السّلام: «من استحق الرفيق الأعلى» أي من استحق رفاقة الرفيق الأعلى، و اللّه أعلم.
[ 1180] جنبت الرّجل الشّر جنوبا: من باب- قعد-: أبعدته عنه، و جنّبته بالتشديد مبالغة كأنّك جعلته على جانب منه أي ناحية، و منه قوله تعالى: وَ اجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ «3».
قال الزمخشري: و قرئ و جنّبني و فيه ثلاث لغات جنّبه الشر، و جنّبه و أجنبه، فأهل الحجاز يقولون: جنّبني شرّه بالتشديد، و أهل نجد جنبني شره و أجنبني، و المعنى: ثبتنا و أدمنا على اجتناب عبادتها «4»، انته.
و الإلحاد: الميل عن الحق إلى الباطل، و قال بعضهم: الإلحاد: العدول عن الاستقامة و الانحراف عنها، و منه: اللحد الذي يحفر في جانب القبر «5».
و قال ابن السكّيت: الملحد: المعادل «6» عن الحق و المدخل فيه ما ليس منه،
__________________________________________________
(1) الفائق في غريب الحديث: ج 2 ص 76.
(2) البخاري بشرح الكرماني: ج 22 ص 152.
(3) إبراهيم: 35.
(4) تفسير الكشاف: ج 2 ص 557- 558.
(5) مجمع البحرين: ج 3 ص 141.
(6) «ألف»: العدول.
71
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الرابع و الأربعين ص 10
..........
يقال: ألحد في الدين و لحد «1».
و قال الواحدي: الأجود ألحد و لا يكاد يسمع لاحد بمعنى ملحد «2».
و فائدة طلب اجتناب الإلحاد في توحيده تعالى إما حصول التثبيت و الإدامة كما قاله الزمخشري في الآية أو هضم النفس و إظهار الفقر و الحاجة، و الإلحاد في التوحيد له مراتب بحسب مراتب التوحيد الأربع التي ذكرناها في الروضة الاولى «3»، فالميل و العدول عن الاستقامة في كل مرتبة إلحاد فيها و انحراف عنها، فمنه ما هو شرك ظاهر، و منه ما هو شرك خفي.
و التقصير في الأمر: التواني فيه، و مجدته تمجيدا: نسبته إلى المجد و وصفته به.
قال الراغب: المجد: السعة في الكرم و الجلالة «4».
و قال ابن الأثير: المجد لغة الشرف الواسع، و رجل ماجد: مفضال، و قيل:
المجيد: الكريم الفعال، و قيل: إذا قارن شرف الذات حسن الفعال فهو المجد «5».
و قال الراغب: التمجيد من العبد للّه بالقول و ذكر الصّفات الحسنة، و من اللّه للعبد بإعطائه الفضل «6».
«و الشّك»: الارتياب و اضطراب القلب و النفس.
و قال جماعة: الشك خلاف اليقين، فقولهم خلاف اليقين هو التردّد بين شيئين سواء استوى طرفاه أو رجّح أحدهما على الآخر، قال تعالى: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ «7»، قال المفسّرون: أي غير متيقّن «8» و هو يعمّ الحالتين و هذا المعنى هو المراد هنا.
__________________________________________________
(1) لسان العرب: ج 3 ص 388.
(2) التفسير الكبير للفخر الرازي: ج 15 ص 71.
(3) ج 1 ص 323.
(4) المفردات: ص 463.
(5) النهاية لابن الأثير: ج 4 ص 298.
(6) المفردات: ص 464.
(7) يونس: 94.
(8) مجمع البيان: ج 5- 6 ص 133.
72
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الرابع و الأربعين ص 10
..........
و المراد «بدينه» تعالى الإسلام لقوله عزّ و جلّ: أَ فَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ «1»، قال المفسّرون: يعني الإسلام «2» لقوله تعالى: وَ مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ «3»، و قوله تعالى: وَ رَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً «4» قالوا: أي في ملّة الإسلام التي لا دين له تعالى يضاف إليه غيرها، و عرّفوا الدين بأنّه وضع إلهي لُاولي الألباب يتناول الاصول و الفروع.
[ 1181] و العمى: فقدان البصر، و يستعار للقلب كناية عن الضلال بجامع عدم الاهتداء و هو المراد هنا.
و سبيله تعالى: كل ما يتوصّل به إلى رضاه و ثوابه. قال الراغب: يستعمل السبيل لكل ما يتوصّل به إلى شيء خيرا كان أو شرّا «5».
و قال ابن الأثير: قد تكرّر في الحديث ذكر «سبيل اللّه» و هو عامّ يقع على كلّ عمل خالص سلك به في طريق التقرب إلى اللّه تعالى بأداء الفرائض و النوافل و أنواع التطوّعات «6».
و أغفلت الشيء إغفالا: تركته إهمالا من غير نسيان.
و الحرمة بالضم: ما يجب القيام به و يحرم التفريط فيه، و الإغفال له، و منه قوله تعالى: وَ مَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ «7»، و يدخل فيه ما حرمه اللّه تعالى من ترك الواجبات و فعل المحرّمات.
و في نسخة: لخدمتك.
و الانخداع: مطاوع، خدعته خدعا من باب- منع- فانخدع إذا أظهرت له خلاف ما تخفيه فوثق بك و أطمأنّ إليك، و قيل: الخدع: إنزال الغير عمّا هو بصدده
__________________________________________________
(1) آل عمران: 83.
(2) مجمع البيان: ج 1- 2 ص 470.
(3) آل عمران: 85.
(4) النصر: 2.
(5) المفردات: ص 223.
(6) النهاية لابن الأثير: ج 2 ص 338- 339.
(7) الحج: 30.
73
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الرابع و الأربعين ص 10
اللّهمّ صلّ على محمّد و آله و إذا كان لك في كلّ ليلة من ليالي شهرنا هذا رقابٌ يعتقها عفوك أو يهبها صفحك فأجعل رقابنا من تلك الرقاب و اجعلنا لشهرنا من خير أهل و أصحاب.
بأمر تبديه على خلاف ما تخفيه، و إيثار التعبير بعدوك دون عدوّي لتضمّن الإضافة تحريضا و إغراء على إذلاله و قمعه كما تقول: عدوّك بالباب، و عداوته تعالى عبارة عن مخالفة أمره عنادا و الخروج عن طاعته مكابرة.
و الشيطان: بدل من عدوّك، و يجوز كونه عطف بيان عليه.
و الرجيم: صفة تتضمّن ذمّا لتعيّن الموصوف بدونها و الشيطان الرجيم: المطرود عن الخيرات و عن منازل الملأ الأعلى، و قيل: المرجوم باللعنة لا يذكره مؤمن إلّا لعنه، لعنه اللّه تعالى.
[ 1182] «إذا» هنا واقعة موقع إذ في كونها للماضي مثلها في قوله تعالى: وَ لا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ، قُلْتَ لا أَجِدُ «1» لنزول الآية بعد الإتيان و كذلك الدعاء وقع بعد أن ثبت أنّ له تعالى في كل ليلة من ليالي هذا الشهر رقابا يعتقها عفوه و هي و إن كانت للمستقبل غالبا، لكن نصّ الجمهور على أنّها قد تكون للماضي كإذ كما إنّ إذ تكون للمستقبل كإذا.
قال ابن مالك في التسهيل: و ربما وقعت إذا موقع إذ و إذ موقعها «2».
و قال بعضهم: إذا تنوب عمّا مضى من الزمان و ما يستقبل بمعنى إنّها لمجرّد الوقت.
و كان: ناقصة. قال الفخر الرازي: «كان» إذا كانت ناقصة كانت عبارة عن وجود شيء في زمان ماض على سبيل الإبهام فلا تدلّ على انقطاع طار «3».
__________________________________________________
(1) التوبة: 92.
(2) لم نعثر عليهما.
(3) لم نعثر عليهما.
74
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الرابع و الأربعين ص 10
..........
قال الطيّبي: يعني ليس معناه أنّه كان على تلك الصفة ثمّ ما بقي على ما كان كما يقال: كان في علم اللّه كذا «1».
و قال الزمخشري: «كان» عبارة عن وجود شيء في الزمان الماضي على سبيل الإبهام و ليس فيه دليل على عدم سابق و لا انقطاع لاحق و منه قوله تعالى: وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً* «2».
قال التفتازاني: معنى الإبهام أنّها لا دلالة فيها على ما ذكر من عدم سابق و انقطاع لاحق و لا على الدوام فلذلك تستعمل فيما هو حادث مثل: كان زيدٌ راكبا، و فيما هو دائم مثل: كان اللّه غفورا رحيما «3».
و قال الشريف المرتضى «قدّس سرّه»: إذا قلت: كنت العالم و ما كنت إلّا عليما و خبيرا و ما كنت إلّا الشجاع و الجواد، فالمراد بذلك كلّه الإخبار عن الأحوال كلّها ماضيها و حاضرها و مستقبلها و لا يفهم من كلامهم سوى ذلك «4».
و قال الراغب: «كان» عبارة عمّا مضى من الزمان، و في كثير من وصف اللّه تعالى تنبئ عن الأزليّة، و ما استعمل منه في جنس الشيء متعلّقا بوصف له هو موجود فيه فتنبيهٌ على أنّ ذلك الوصف لازم له، قليل الانفكاك عنه نحو قوله تعالى:
وَ كانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً وَ كانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا، و إذا استعمل في الزمان الماضي فقد يكون المستعمل فيه باقيا على حالته نحو: وَ كانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً، و قد يكون قد تغيّر نحو: كان فلان كذا ثم صار كذا، و لا فرق بين أن يكون الزمان المستعمل فيه كان قد تقدّم تقدّما كثيرا نحو: كان في أوّل ما أوجد اللّه العالم و بين أن يكون قد تقدّم بآن واحد فلا فرق بين أن تقول: كان آدم كذا و بين أن تقول كان زيد هاهنا، و يكون بينك و بين ذلك الزمان أدنى وقت و لهذا صحّ أن
__________________________________________________
(1) لم نعثر عليهما.
(2) لم نعثر عليهما.
(3) لم نعثر عليهما.
(4) لم نعثر عليهما.
75
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الرابع و الأربعين ص 10
..........
قال: «كيف نكلّم من كان في المهد صبيّا» فأشار بكان إلى عيسى و حالته التي شاهدوه عليها «1» انته.
إذا عرفت ذلك فكان في عبارة الدعاء و إن دلّت على المضي لا دلالة على الانقطاع بل الغرض منها هنا الاستمرار و لذلك وصف اسمها و هو رقاب بجملة قوله: «يعتقها عفوك» فجمع بين صيغتي الماضي و هو كان و المستقبل و هو يعتقها للنصّ على الاستمرار كقوله تعالى: وَ اللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ «2» و لم تلحق كان علامة التأنيث في اسمها غير حقيقي أو للفصل بينهما.
و الجار و المجرور من قوله: «لك» خبر كان متعلق بمحذوف أي: حاصلة لك، و الظرف من «3» قوله: «في كل ليلة» متعلّق بهذا المحذوف المقدّر و هو الخبر، و لك متعلّق بكان عند من يرى تعلق الظرف بالفعل الناقص.
و أعتقه إعتاقا فهو معتق إذا حرّره و خلّصه من الرّق، ثم استعمل في التخليص من العذاب بجامع الفكاك من الإهانة و المشقّة.
و الرقاب: جمع رقبة و هي العنق فجعلت كناية عن جميع الذات، و قد تقدّم وجه ذلك و «أو» في قوله عليه السّلام «أو يهبها صفحك» للتنويع.
و قال الراغب: الصفح: ترك التثريب و التقرير بالذّنب و هو أبلغ من العفو، و قد يعفو الإنسان و لا يصفح، و صفحت عنه أوليته مني صفحة جميلة معرضا عن ذنبه، أو لفت صفحتي متجافيا عنه أو تجاوزت الصفحة التي أثبت فيها ذنبه من الكتاب إلى غيرها من قولك: تصفّحت الكتاب «4» انته.
و الهبة: أن تجعل ملكك لغيرك، كأنّ الرّقاب لما استحقت عقابه سبحانه خرجت عن كونها ملكا لأصحابها و دخلت في ملك عقابه و انتقامه تعالى فوهبها
__________________________________________________
(1) المفردات: ص 444- 445.
(2) البقرة: 72.
(3) «ألف»: في
(4) المفردات: ص 282.
76
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الرابع و الأربعين ص 10
..........
صفحة لأربابها و إسناد الإعتاق و الهبة إلى العفو و الصفح مجاز عقلي لأنّهما فعل اللّه تعالى و إنّما العفو و الصفح سببان لهما كقوله تعالى: وَ إِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً «1» و القرينة استحالة قيام المسند بالمذكور عقلا و قد ورد بمضمون هذه الفقرة من الدّعاء جملة أحاديث:
روى ثقة الإسلام في الكافي بسنده عن أبي جعفر عليه السّلام قال: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقبل بوجهه إلى الناس فيقول: يا معشر الناس إذا طلع هلال شهر رمضان غُلّت مردة الشياطين و فتحت أبواب السماء و أبواب الجنان و أبواب الرحمة و غلقت أبواب النار و استجيب الدعاء و كان فيه عند كل فطر عتقاء يعتقهم اللّه من النار و ينادي مناد كل ليلة هل من سائل هل من مستغفر؟
الحديث «2».
و بسنده عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: إنّ للّه عزّ و جلّ في كل ليلة من شهر رمضان عتقاء و طلقاء من النار إلّا من أفطر على مسكر فإذا كان في آخر ليلة منه أعتق فيها مثل ما أعتق في جميعه «3».
و روى شيخ الطائفة في التهذيب بسنده عن عمر بن يزيد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: إنّ للّه في كل يوم من شهر رمضان عتقاء من النار إلّا من أفطر على مسكر، أو مشاحن «4»، أو صاحب شاهين، قال: قلت: و أي شيء صاحب شاهين؟ قال: الشطرنج «5».
__________________________________________________
(1) الأنفال: 2.
(2) الكافي: ج 4 ص 67 ح 6.
(3) الكافي: ج 4 ص 68 ح 7.
(4) المراد بالمشاحن: صاحب البدعة و الضلالة، و من خالف حكم اللّه و المعادي لاوليائه.
(5) تهذيب الأحكام: ج 3 ص 60 ح 203.
77
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الرابع و الأربعين ص 10
اللّهمّ صلّ على محمّد و آله و أمحق ذنوبنا مع إمحاق هلاله و أسلخ عنّا تبعاتنا مع انسلاخ أيّامه حتّى ينقضي عنّا و قد صفّيتنا فيه من الخطيئات و روى الشيخ أبو محمّد هارون بن موسى التلعكبري بإسناده عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: في خبر طويل أنّ عليّ بن الحسين عليهما السّلام كان يقول: إنّ للّه تعالى في كل ليلة من شهر رمضان عند الإفطار سبعين ألف ألف عتيق من النار كل قد استوجب النار فإذا كان آخر ليلة من شهر رمضان أعتق فيها مثل ما أعتق في جميعه «1».
[ 1183] قوله عليه السّلام: «فاجعل رقابنا من تلك الرقاب»: «الفاء»: رابطة لجواب إذا، و الجعل: كما يكون بمعنى التصيير نحو جعلت الفضة خاتما يكون بمعنى الحكم بشيء على شيء و هو تصيير عقلي و هو المراد هنا أي احكم لرقابنا بأن تكون من تلك الرقاب المعتقة أو الموهوبة و منه إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَ جاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ «2».
و «من»: تبعيضية أي بعض تلك الرقاب و هو ثاني مفعولي الجعل و الأوّل الضمير و لشهرنا متعلّق بمحذوف وقع حالا من خير أهل و أصحاب إذ لو تأخّر عنه لكان صفة له كقوله: و تقديمه لرعاية السجع.
لميّة موحشا طل
«و الأهل و الأصحاب»: عبارة عن المختصين به اختصاص الأهل بنسيبهم الملازمين لصيامه و قيامه ملازمة الأصحاب لمصحوبهم.
قال ابن فارس: كل شيء لازم شيئا فقد صحبه «3» و اللّه أعلم.
[ 1184] المحق: ذهاب الشيء كلّه حتى لا يبقى منه شيء، و الفعل من باب- منع- و منه انمحاق الهلال لثلاث ليال من آخر الشهر لذهاب نوره كلّه، و قد ذكرنا في الروضة الثالثة و الأربعين «4» علّة انمحاقه، و المراد بالهلال القمر تسمية له على ما كان عليه
__________________________________________________
(1) فضائل الاشهر الثلاثة: ص 74 ح 54.
(2) القصص: 7.
(3) معجم مقاييس اللغة: ج 5 ص 245 نقلا بالمعنى.
(4) ج 5 ص 518.
78
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الرابع و الأربعين ص 10
و أخلصتنا فيه من السّيئات اللّهمّ صلّ على محمّد و آله و إن ملنا فيه فعدّلنا و إن زُغنا فيه فقوّمنا و إن اشتمل علينا عدوّك الشّيطانُ فاستنقذنا منه.
كتسمية البالغ يتيما، أو المراد به لليلتين من آخر الشهر ست و عشرين و سبع و عشرين على ما تقدّم من القول بأنّه يسمّى في هاتين الليلتين هلالا أيضا، و يحتمل أن يكون المراد به الشهر أي العدد المعروف من الأيّام، فقد نقل الفيومي في المصباح أنّه قيل: إنّ الهلال هو الشهر بعينه «1».
فيكون المراد بإمحاقه انقضاؤه و فناؤه، و أصل الإمحاق انمحاق بالنون مصدر مطاوع محقه فانمحق، كالانكسار مصدر مطاوع كسره فانكسر فادغمت النون في الميم و إن لم يتقاربا لأنّ الغنّة التي فيهما جعلتهما كالمتقاربين.
و في نسخة: «مع محاق هلاله» بكسر الميم و ضمّها.
و حكى صاحب القاموس التثليث فيها فقال: و المحاق مثلّثة آخر الشّهر أو ثلاث ليال من آخره أو أن يستتر القمر فلا يُرى غدوة و لا عشيّة سمّي لأنّه طلع مع الشمس فمحقته «2» انته.
[ 1185] و السلخ: إخراج الشيء ممّا لابسه و نزعه عنه من سلخ الشاة و هو نزع جلدها عنها، و الفعل من باب- منع- و قيل: أي و انزع عنّا تبعاتنا و هي استعارة مكنيّة، شبه التبعات في احتوائها عليه بالجلد في احتوائها على الحيوان فأثبت لها السلخ تخييلا، و لك جعلها تبعية و لعله أظهر.
و «انسلاخ الأيّام»: انقضاؤها و مضيّها. قال تعالى: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ «3» أي إذا انقضت و مضت و هو أيضا استعارة من الانسلاخ
__________________________________________________
(1) المصباح المنير: ص 879- 880.
(2) القاموس المحيط: ج 3 ص 282.
(3) التوبة: 5.
79
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الرابع و الأربعين ص 10
..........
الواقع بين الحيوان و جلده بجامع الانفصال عن الملابس كما ذكره أبو الهيثم من إنّه يقال: أهللنا بشهر كذا أي دخلنا فيه و لبسناه فنحن نزداد كل ليلة لباسا منه إلى مضيّ نصفه ثم نسلخه عن أنفسنا جرا فجرّا «1» حتى نسلخه عن أنفسنا كلّه فينسلخ و أنشد:
إذا ما سلخت الشهر أهللت مثله كفى قائلا سلخي الشهور و أهلالي «2»
و تحقيقه: إنّ الزمان محيط بما فيه من الزمانيّات مشتمل عليه اشتمال الجلد على الحيوان و كذا كل جزء من أجزائه الممتد من الأيّام و الشهور و السنين فإذا مضى فكأنّه انسلخ عمّا فيه.
و الحاصل: إنّه تشبيه «3» لخروج المتزمّن عن زمانه بانفصال المتمكّن عن مكانه فكلاهما ظرف.
و صفا الشيء صفوا: من باب- قعد- و صفاء إذا خلص من الكدر فهو صاف، وصفيته من القذى تصفية: أزلته عنه، و خلص الماء من الكدر خلوصا من باب- قعد- صفا و أخلصته إخلاصا كخلّصته تخليصا صفّيته، و منه أخلص له المودّة «4» و أخلص للّه دينه و فرّقوا بين الخطيئة و السيّئة بأنّ الخطيئة الصغيرة و السيئة الكبيرة لأنّ الخطأ بالصغيرة أنسب و السوء بالكبيرة ألصق.
و قيل: الخطيئة ما لا عمد فيه، و السيّئة: ما كان عن عمد.
و قيل: الخطيئة: ما كان بين الإنسان و بين اللّه، و السيئة: ما كان بينه و بين العباد.
و قال الراغب: الخطيئة و السيّئة متقاربتان إلّا أنّ الخطيئة أكثر ما تستعمل فيما لا يكون مقصودا إليه في نفسه بل يكون القصد سببا لتولّد ذلك الفعل منه كمن
__________________________________________________
(1) «ألف»: جزا فجزء.
(2) لسان العرب: ج 3 ص 25 مذكور عن غيره.
(3) «ألف»: تشبه.
(4) «ألف»: المروّة.
80
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الرابع و الأربعين ص 10
اللّهمّ اشحنه بعبادتنا إيّاك و زيّن أوقاته بطاعتنا لك و أعنّا في نهاره يرمي صيدا فأصاب إنسانا أو شرب مسكرا فجنى جناية، فإن كان ذلك الشيء الذي تولّدت الخطيئة منه محظورا فعله كشرب المسكر كان ما يتولّد من الخطأ عنه غير متجاف عنه «1».
[ 1186] و الميل: العدول عن الوسط إلى أحد الجانبين و يستعمل في الجور، و مال الحائط ميلا: زال عن استوائه.
و عدّلته تعديلا: سوّيته فاستوى، و الكلام استعارة تبعيّة.
و في حديث عمر: الحمد للّه الذي جعلني في قوم إذا ملت عدّلوني كما يعدل السّهم في الثقاف «2».
و الزيغ: الميل عن الاستقامة، و منه: فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ «3»، أي: لما فارقوا الاستقامة عاملهم اللّه بذلك.
و قوّمته تقويما فتقوّم: عدّلته فتعدّل.
و اشتمل على الشيء: أحاط به، و أصله من الاشتمال بالثوب، و هو أن يدير الثوب على جسده كلّه لا يخرج منه يده. قال:
أوردها سعد و سعد مشتمل ما هكذا تورد يا سعد الإبل «4»
و أنقذته من الشرّ و استنقذته منه: إذا خلصته منه، قال تعالى: وَ كُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها «5».
[ 1187] شحن السفينة شحنا من باب- نفع-: ملأها و أتمّ جهازها كلّها و منه: فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ* «6».
و زيّن أوقاته بطاعتنا: أي اجعلها زينة لها كما قال تعالى: وَ لَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ
__________________________________________________
(1) المفردات: ص 151.
(2) الثقاف: ما تقوم به الرماح، تريد انه سوى عوج المسلمين.
(3) الصف: 5.
(4) أساس البلاغة: ص 338.
(5) آل عمران: 103.
(6) يس: 41 و الشعراء: 119.
81
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الرابع و الأربعين ص 10
على صيامه و في ليله على الصّلاة و التّضرع إليك و الخشوع لك و الذّلة بين الدُّنْيا بِمَصابِيحَ* «1» إلّا أنّ المصابيح للسماء زينة محسوسة لإدراكها بالبصر «2»، و الطاعة للأوقات زينة معقولة لإدراكها بالعقل، و إسناد الشحن و التزيين إلى اللّه سبحانه من باب الإسناد إلى السبب إذا كان هو المقدّر على ذلك و الموفّق له.
و إعانة اللّه تعالى للعبد: عبارة عن إفاضة قوّة على استعداده تقوى بها نفسه و عقله و جسده على المستحسن من الأعمال كالصلاة و الزكاة و الصيام.
و التضرع: المبالغة في الابتهال و السؤال.
[ 1188] و الخشوع: الخضوع و التواضع، و قيل: الخشوع باعتبار أفعال الجوارح، و الخضوع و التواضع يعتبران بالأخلاق و الأفعال الظاهرة و الباطنة، و لذلك قيل: إذا تواضع القلب خشعت الجوارح.
و الذلة بالكسر: الهوان و الاستكانة و هي من أشرف القربات إلى اللّه تعالى لانّها إنّما تكون عن قهر النفس الأمّارة بالسوء، و شرف المخلوق في إظهار العبوديّة و المذلّة و الضراعة له سبحانه كما قال: لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَ لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ «3» تنبيها على أنّ ذلك رفعة و عزّة لا ضعة و ذلّة.
و قوله: «بين يديك»: مستعار ممّا بين الجهتين المسامتين ليدي الإنسان و هو هنا من باب التمثيل، و قد تقدم الكلام عليه غير مرّة.
قوله عليه السّلام: «حتّى لا يشهد نهاره علينا بغفلة» إلى آخره. تعليل لمضمون الفقر الأربع السابقة، و هذه الشهادة إنّما تكون بلسان الحال فإنّ النهار و الليل لمّا كانا ظرفين لما يقع فيهما كان حضورهما و ما يكون فيهما في علم اللّه تعالى بمنزلة الشهادة عنده، و قد تقدّم نظير ذلك في شرح دعاء الصباح «4».
و الغفلة: سهو يعتري الإنسان من قلّة التحفظ و التيقظ، و قيل: هي متابعة
__________________________________________________
(1) الملك: 5.
(2) «ألف»: بالمبصر.
(3) النساء: 172.
(4) ج 2 ص 228.
82
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الرابع و الأربعين ص 10
يديك حتّى لا يشهد نهاره علينا بغفلة و لا ليله بتفريط، اللّهمّ و اجعلنا في سائر الشهور و الأيام كذلك ما عمّرتنا.
و أجعلنا من عبادك الصّالحين الّذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون و الّذين يؤتون ما أتوا و قلوبهم و جلة إنّهم إلى ربّهم راجعون و من الّذين يسارعون في الخيرات و هم لها سابقون.
النفس على ما تشتهيه.
و قال سهل: الغفلة: إبطال الوقت بالبطالة، و هذا المعنى هنا أنسب بسياق الدعاء من غيره.
و التفريط: التقصير، يقال: فرّط في الأمر تفريطا إذا قصّر فيه و ضيّعه.
[ 1189] و سائر الشّهور: أي باقيها: أي فيما بقي من الشهور و الأيّام سوى شهر رمضان.
و كذلك: في محل نصب على المفعوليّة لأنّه ثاني مفعولي «و اجعلنا» و ذلك: إشارة إلى الاتّصاف بالأوصاف المذكورة التي سأل أن يكون عليها في شهر رمضان.
و ما: مصدريّة زمانيّة: أي مدّة تعميرنا مثلها في قوله تعالى: ما دُمْتُ حَيًّا «1»، أصله مدّة دوامي حيّا فحذف الظرف و خلفته ما وصلتها كما جاء في المصدر الصريح نحو: جئتك صلاة العصر و اتيتك «2» قدوم الحاج، أي وقت صلاة العصر و زمن قدوم الحاج، و اللّه أعلم.
[ 1190] فيه اقتباسان:
الأوّل: من قوله تعالى في أوائل سورة المؤمنون: أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ. الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ «3» فالمراد بعباده الصالحين: هم المشار إليهم بقوله تعالى: أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ «4» و هم المؤمنون باعتبار اتّصافهم بالصفات
__________________________________________________
(1) مريم: 31.
(2) «ألف»: أتيتك.
(3) المؤمنون: 10 و 11.
(4) المؤمنون: 10 و 11.
83
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الرابع و الأربعين ص 10
..........
السبع المذكورة في قوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ. الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ. وَ الَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ. وَ الَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ. وَ الَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ. إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ. فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ. وَ الَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَ عَهْدِهِمْ راعُونَ. وَ الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ «1» و عبّر عنهم بالصالحين للاشارة إلى أنّ الصلاح ينتظم جميع هذه الصفات، و لذلك فسّروا الصالح: بأنه القائم بما يلزمه من حقوق اللّه سبحانه و حقوق الناس و قوله تعالى: يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ «2»: أي ينالونها و يملكونها كما ينال الوارث الارث بجامع الحصول من غير كدّ و لا تعب فكانت شبها «3» بالميراث.
قال الراغب: يقال: لكل من حصل له شيء من غير تعب قد ورث كذا، و يقال: لمن خوّل شيئا مهنئا أورث كذا «4» قال تعالى: تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا «5».
و قيل: الوجه في ذلك أنّ الميراث كما يطلق على ما ملكه الميّت يطلق على ما «6» يقدّر ملكه فيه، و لذلك قالوا للدية إنّها ميراث المقتول، و كلّ من في الجنّة فله مسكن مفروض في النار على تقدير كفره، و كل من في النّار فله مسكن مفروض في الجنّة على تقدير إيمانه فإذا تبادل المسكنان كان جميع أهل الجنّة وارثين، و لكن كل الفردوس لا يكون ميراثا بل بعضه ميراث و بعضه بالاستحقاق إلّا أنّه يصدق بالجملة أنّهم ورثوا الفردوس.
و قد روي هذا المعنى عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: ليس من مؤمن و لا كافر إلّا و له في الجنّة و النار منزل فإذا دخل أهل الجنّة الجنّة و أهل النار النار
__________________________________________________
(1) المؤمنون: 1- 9.
(2) المؤمنون: 11.
(3) «ألف»: شبيها.
(4) المفردات: ص 519.
(5) مريم: 63.
(6) «ألف»: على ما لا يقدر.
84
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الرابع و الأربعين ص 10
..........
رفعت الجنّة لأهل النار فنظروا إلى منازلهم فيها، فقيل: لهم هذه منازلكم لو عملتم بطاعة اللّه ثم يقال: يا أهل الجنّة رثوهم بما كنتم تعملون فتقسّم بين أهل الجنّة منازلهم «1».
و روى علي بن إبراهيم قال: حدّثني أبي، عن عثمان بن عيسى، عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: ما خلق اللّه خلقا إلّا جعل له في الجنّة منزلا و في النار منزلا فإذا دخل أهل الجنّة الجنّة و أهل النار النار نادى مناد يا أهل الجنّة أشرفوا فيشرفون على أهل النّار و ترفع لهم منازلهم فيها ثم يقال لهم: هذه منازلكم التي لو عصيتم اللّه لدخلتموها يعني في النار، قال: فلو أن أحدا مات فرحا لمات أهل الجنّة في ذلك اليوم فرحا لما صرف عنهم من العذاب، ثم ينادي مناد يا أهل النار إرفعوا رءوسكم فيرفعون رءوسهم فينظرون إلى منازلهم في الجنّة و ما فيها من النعيم فيقال: هذه منازلكم التي لو أطعتم ربّكم لدخلتموها قال: فلو أنّ أحدا مات حزنا لمات أهل النار فيورث هؤلاء منازل هؤلاء و يورث هؤلاء منازل هؤلاء و ذلك قول اللّه عزّ و جلّ: أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ. الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ «2».
و قيل: إنّ الجنة كانت مسكن أبينا آدم عليه السّلام فإذا انتقلت إلى أولاده كانت شبيها بالميراث.
و الفردوس: الجنّة و لهذا انث الضمير في قوله: هُمْ فِيها خالِدُونَ «3» قيل: هو اسم لجميع الجنّة، و قيل: لطبقتها العليا، و أصل الفردوس: البستان و جمعه فراديس.
قال كعب: هو البستان الذي فيه الأعناب «4».
و قال اللّيث: الفردوس جنّة ذات كروم «5»، يقال: كرم مفردس: أي معرّش.
و قال الضحّاك: هي الجنّة الملتفّة بالأشجار و هو اختيار المبرد و قال: الفردوس
__________________________________________________
(1) لم نعثر عليه بنصّه، و قريب منه في شعب الايمان ج 1 ص 341 ح 377
(2) تفسير علي بن إبراهيم القمي: ج 2 ص 89.
(3) المؤمنون: 11.
(4) تفسير ابن كثير: ج 4 ص 431.
(5) تفسير أبي السعود: ج 5 ص 250 و نسبه إلى القيل.
85
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الرابع و الأربعين ص 10
..........
فيما سمعت من كلام العرب: الشجر الملتفّ، و الأغلب عليه العنب «1». و جمعه الفراديس، قال: و بهذا سمّي باب الفراديس بالشام و أنشد لجرير:
فقلت للركب إذ جدّ المسير بنا يا بعد ببرين من باب الفراديس «2»
و قال مجاهد: هو البستان بالروميّة «3». و اختاره الزجاج فقال هو بالرومية منقول إلى لفظ العربيّة، قال: و حقيقته أنّه البستان الذي يجمع كل ما يكون في البساتين «4».
و قال الفيروزآبادي في القاموس: الفردوس: البستان يجمع كل ما يكون في البساتين و قد تؤنّث عربيّة أو روميّة نقلت أو سريانية «5».
و قيل: هو بلسان الحبشة: البستان الواسع الجامع لأصناف الثمر.
و قال الحافظ السيوطي في الاتقان: أخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد قال:
الفردوس: بستان بالروميّة و أخرج عن السدّي قال: الكرم بالنّبطية و أصله فرداسا «6».
و روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إنّه قال: بنى اللّه الفردوس بيده و حظرها على كل مشرك و كلّ مدمن خمر سكّير «7».
و عنه صلّى اللّه عليه و آله: خلق اللّه تبارك و تعالى ثلاثة أشياء بيده: خلق آدم بيده، و كتب التوراة بيده، و غرس الفردوس بيده، ثم قال: و عزّتي و جلالي لا يدخلها مدمن خمر و لا الديّوث، قالوا: قد عرفنا مدمن الخمر فما الدّيوث؟ قال: الذي يقرّ السّوء في أهله «8».
__________________________________________________
(1) تفسير أبي السعود: ج 5 ص 250.
(2) تفسير التبيان: ج 7 ص 311.
(3) الاتقان في علوم القرآن: ج 1 ص 139، و الدر المنثور: ج 4 ص 254.
(4) مجمع البيان: ج 5- 6 ص 498.
(5) القاموس: ج 2 ص 236.
(6) الإتقان في علوم القرآن: ج 1 ص 139.
(7) الجامع الصغير: ج 1 ص 68.
(8) كنز العمال: ج 6 ص 130 و 131 ح 15138 و 15137.
86
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الرابع و الأربعين ص 10
..........
و عن ابن عطيّة مرفوعا قال: خلق اللّه جنّة الفردوس بيده فهو يفتحها كل يوم خميس فيقول إزدادي طيبا لأوليائي، إزدادي حسنا لأوليائي «1».
و معنى خلقها بيده إنّه تولى خلقها و إيجادها من غير واسطة.
و روي: أنّ اللّه عزّ و جلّ بني جنّة الفردوس لبنة من ذهب و لبنة من فضّة و جعل خلالها المسك الأذفر «2».
و عنه صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: الفردوس مقصورة الرحمن منها الأنهار و الأشجار «3».
أي من الفردوس تفجّر الأنهار المذكورة في قوله تعالى: فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ «4».
و عن أبي امامة: سلوا اللّه الفردوس فإنّها أعلى الجنان و إنّ أهل الفردوس يسمعون أطيط العرش، و معنى قوله تعالى: هُمْ فِيها خالِدُونَ «5» أي دائم بقاؤهم فيها لا يموتون فيها و لا يخرجون عنها أبدا.
و قال الراغب: و الخلود في الجنّة: بقاء الأشياء على الحالة التي هي عليها من غير اعتراض الكون و الفساد عليها «6».
[ 1191] و الاقتباس الثاني من قوله تعالى في أثناء سورة المؤمنون أيضا: إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ. وَ الَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ. وَ الَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ. وَ الَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَ قُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ. أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَ هُمْ لَها سابِقُونَ «7» و في هذا الاقتباس دليل على جواز تغيير لفظ المقتبس بزيادة أو نقصان و نحو ذلك، إن المقتبس ليس بقرآن حقيقة بل كلام يماثله كما ذكرته في شرح بديعتي المسمّى بأنوار الرّبيع و بسطت الكلام عليه فيه و قد
__________________________________________________
(1) لم نعثر عليه.
(2) تفسير الكشاف: ج 3 ص 178.
(3) الدر المنثور: ج 4 ص 254.
(4) محمّد: 15.
(5) المؤمنون: 11.
(6) المفردات: ص 154.
(7) المؤمنون: 57- 61.
87
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الرابع و الأربعين ص 10
..........
مرّ التنبيه على ذلك في الروضة الأولى «1».
فقوله عليه السّلام: «و من الذين يسارعون في الخيرات» مقتبس من قوله تعالى:
أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ «2» فغيّره إلى ما ترى، فلو كان المقتبس قرآنا لما ساغ ذلك بوجه.
فإن قلت: قوله عليه السّلام: و من الذين يسارعون في الخيرات» يشعر بأنّ الموصول بعد من طائفة اخرى متّصفة بما ذكر في حيّز صلتها غير الذين يؤتون ما أتوا و قلوبهم و جلة، و الآية صريحة في خلاف ذلك فإنّ الإشارة بقوله: يسارعون في الخيرات نصّ في أن المنعوتين بما فصل من النعوت الجليلة أولئك يسارعون في الخيرات لا غيرهم.
قلت: لا شك أنّ المراد بالذين يسارعون في الخيرات هم المتصفون بتلك الصفات كما هو نصّ الآية غير أنّه عليه السّلام أعاد من التبعيضيّة تأكيدا في الإيذان باستقلال هذه الصفة أعني المسارعة في الخيرات بفضيلة باهرة على حيالها و تنزيلا لاستقلالها منزلة استقلال الموصوف بها كما أنّ إعادة الموصول في الآية.
و الدعاء مع كفاية ذكر الصلات بطريق العطف على صلة الموصول الأول للإيذان بأنّ كل واحد ممّا ذكر في حيّز صلة الموصولات المذكورة وصف جليل على حياله له شأن خطير حقيق بأن يفرد له موصوف مستقل و لا يجعل شيء من ذلك تتمّة لغيره و توسيط العاطف بين الموصولات لتنزيل الاختلاف العنواني منزلة الاختلاف الذاتي كما في قوله: إلى الملك القرم و ابن الهمام و ليث الكتيبة في المزدحم، ثم الذي عليه أكثر المفسرين: إنّ معنى قوله تعالى: وَ الَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَ قُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ «3» أي يعطون ما أعطوه من الصّدقات «4»
__________________________________________________
(1) الروضة الاولى: ج 1 ص 341.
(2) المؤمنون: 61.
(3) المؤمنون: 60.
(4) «ألف»: الصفات.
88
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الرابع و الأربعين ص 10
..........
و الحال إنّ قلوبهم خائفة أن لا تقبل منهم و أن لا تقع منهم على الوجه اللائق فيؤاخذوا به لأنّ مرجعهم إليه و هو يعلم ما يخفى عليهم، أو أن قلوبهم خائفة من أنّ مرجعهم إليه على أنّ مناط الوجل أن لا يقبل منهم ذلك فيؤاخذهم به حينئذ لا مجرّد رجوعهم إليه تعالى.
و قال النظام النيسابوري: و الظاهر أنّ هذا الإيتاء مختصّ بالزكاة و التصدّق، و يحتمل أن يُراد إعطاء كل فعل أو خصلة أي إتيانها، و يؤيّده ما روي أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قرأ: يأتون ما أتوا: أي يفعلون ما فعلوا «1».
و عن عائشة أنّها قالت: قلت يا رسول اللّه هو الذي يزني و يسرق و يشرب الخمر و هو على ذلك يخاف اللّه؟ قال: لا يا ابنة الصديق و لكن هو الذي يصلّي و يصوم و يتصدّق و هو على ذلك يخاف اللّه أن لا يقبل منه «2» انته.
و عن أمير المؤمنين صلوات اللّه و سلامه عليه أنّه تلا: «و الذين يؤتون ما آتوا و قلوبهم و جلة انّهم إلى ربّهم راجعون» ثم قال: ما الذي أتوا، أتوا و اللّه الطاعة مع المحبّة و الولاية و هم في ذلك خائفون، ليس و اللّه خوفهم خوف شك فيما هم فيه من إصابة الدين و لكنهم خافوا أن يكونوا مقصّرين في محبّتنا و طاعتنا «3».
قوله عليه السّلام: «يسارعون في الخيرات و هم لها سابقون».
قال أمين الاسلام الطبرسي «قدّس سرّه» معناه يبادرون إلى الطاعات و يسابقون إليها غيرهم رغبة منهم فيها و علما منهم بما ينالون بها من حسن الثواب، و قوله: «و هم لها سابقون» أي و هم لأجل تلك الخيرات سابقون إلى الجنّة. و قيل:
معناه و هم إليها سابقون، قال الكلبي سبقوا الامم إلى الخيرات. و قال ابن عبّاس:
__________________________________________________
(1) تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان: ج 3 ذيل الآية 60 من سورة المؤمنون.
(2) تفسير الكشاف: ج 3 ص 192.
(3) تفسير نور الثقلين: ج 3 ص 546.
89
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الرابع و الأربعين ص 10
..........
يسابقون فيها أمثالهم من أهل البرّ و التّقوى «1».
و قال الزمخشري: قوله تعالى: يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ* يحتمل معنيين:
أحدهما: أن يُراد يرغبون في الطاعات أشدّ الرغبة فيبادرونها.
و الثاني: أنّهم يتعجّلون في الدنيا المنافع و وجوه الإكرام كما قال: «فآتاهم اللّه ثواب الدنيا و حسن ثواب الآخرة»، «و آتيناه أجره في الدنيا و أنّه في الآخرة لمن الصّالحين» لأنّهم إذا سورع لهم بها فقد سارعوا في نيلها و تعجّلوها، و هذا الوجه أحسن طباقا للآية المتقدّمة لانّ فيه إثبات ما نفي عن الكفّار للمؤمنين «2»، انته.
قال العمادي: و إيثار كلمة «في» على كلمة «إلى» على هذا المعنى للإيذان بأنّهم متقلّبون «3» في فنون الخيرات لا أنّهم خارجون عنها متوجّهون إليها بطريق المسارعة كما في قوله تعالى: وَ سارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ جَنَّةٍ «4» الآية انته.
قلت: و هي على المعنى الأوّل مرادفة لإلى نحو: فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ «5».
و قال الزمخشري في قوله تعالى: وَ هُمْ لَها سابِقُونَ إنّه متروك المفعول أو منويّه أي سابقون النّاس لأجلها أو فاعلون السّبق لأجلها، أو المراد إيّاها سابقون «6».
كقولك: هو لزيد ضارب بمعنى هو زيدا ضارب، فاللام لتقوية العمل كما في قوله: فهم لها عاملون، و المعنى: إنّهم ينالون الخيرات قبل الآخرة حيث عجلت لهم في الدنيا و جوّز أن يكون لها سابقون خبرين أحدهما بعد الآخر كقولك هو لهذا الأمر أي صالح له.
__________________________________________________
(1) مجمع البيان: ج 7- 8 ص 110.
(2) تفسير الكشاف: ج 3 ص 192.
(3) «ألف»: منقلبون.
(4) تفسير أبي السعود: ج 6 ص 140.
(5) سورة إبراهيم: الآية 9.
(6) الكشاف: ج 3 ص 192.
90
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الرابع و الأربعين ص 10
اللّهمّ صلّ على محمّد و آله في كلّ وقت و كلّ أوان و على كلّ حال عدد ما صلّيت على من صلّيت عليه و أضعاف ذلك كلّه بالأضعاف الّتي لا يحصيها غيرك إنّك فعّال لما تريد.
(تنبيه) في عطفه عليه السّلام قوله: «و الذين يؤتون ما أتوا» على قوله: «الذين يرثون الفردوس» و جعل الموصولين صفتين لموصوف واحد مع أنّ كلا منهما في القرآن بحسب الظاهر عبارة عن طائفة اخرى فالموصول الأوّل أعني «الَّذين يرثون الفردوس» عبارة عن المؤمنين المذكورين في مفتتح السورة و الموصول الثاني أعني «الذين يؤتون ما أتوا و قلوبهم و جلة» عبارة عن «الذين هم من خشية ربّهم مشفقون» المذكورين في أثناء السورة إشارة إلى «إن الّذين هم من خشية ربهم مشفقون» هم المؤمنون المذكورون في أوّل السّورة. و للّه درّ العلامة الزمخشري حيث ألهم هذا الغرض الذي أشار إليه عليه السّلام فأشار هو إليه أيضا بقوله فيما نقلناه عنه آنفا في معنى قوله تعالى: يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ* إنّه يحتمل معنيين ثم ذكر في آخر بيان المعنى الثاني إنّ هذا الوجه أحسن طباقا للآية المتقدّمة لأنّ فيه إثبات ما نفي عن الكفار للمؤمنين «1».
فقوله: «للمؤمنين» إشارة إلى ما ذكرناه كما نبّه على ذلك صاحب الكشف حيث قال: جعل المصنّف الآية في السّابقين تخلّصا إلى ذكرهم ثانيا بعد ما ذكروا أولا في قوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ «2» انته.
[ 1192] الوقت: مقدار من الزمان مفروض لأمر ما.
و الأوان: الحين، و هو الزمان قلّ أو كثر سواء كان مفروضا لأمر أم لا فكلّ وقت حين دون العكس، فعطف قوله: «و كلّ أوان» على «كل وقت» من باب
__________________________________________________
(1) الكشاف: ج 3 ص 192.
(2) لا يوجد لدينا كتابه.
91
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الرابع و الأربعين ص 10
..........
عطف العام على الخاص.
و عدد: منصوب على أنّه مفعول مطلق يبيّن لعدد «1» عامله أي صلّ عليه صلاة مثل عدد ما صلّيت فحذف الموصوف ثم المضاف و أقيم المضاف إليه مقامه.
[ 1193] و ضعف الشيء: مثله، و ضعفاه مثلاه، و أضعافه أمثاله.
و قال الأزهري: الضعف في كلام العرب المثل، هذا هو الأصل ثم استعمل في المثل و الزيادة و ليس للزيادة حد يقال: هذا ضعف «2»: أى مثله، و ضعفاه: أي مثلاه، و جاز في كلام العرب أن يقال: هذا ضعفه أي مثله و ثلاثة أمثال «3»، لأنّ الضعف زيادة غير محصورة «4» و قد تقدّم الكلام على ذلك بأبسط من هذا.
و الباء من قوله: «بالأضعاف التي لا يحصيها غيرك» للملابسة أي ملتبسة بها.
و أحصيت الشّيء احصاء: أحطت به حصرا و عدّا.
و قال الراغب: الإحصاء: التحصيل بالعدد و ذلك من لفظ الحصى لأنّهم كانوا يعتمدونه في العدد كاعتمادنا فيه على الأصابع «5».
و جملة: «إنّك فعّال لما تريد» تعليل للدّعاء و مزيد استدعاء للإجابة، أي لا يمتنع عليك شيء تريده و لا يعجزك أمر تشاؤه بل كل ما تريده فإنّك تفعله البتّة لا يصرفك عنه صارف و لا يمنعك منه مانع.
و قال الزمخشري: إنّما قيل: فعّال، لأنّ ما يريد و يفعل في غاية الكثرة «6»، و ما ذكرناه أنسب بالمقام، و اللّه أعلم. [] هذا آخر الرّوضة الرابعة و الأربعين من رياض السالكين وفّق اللّه لإتمامها صبيحة يوم الاربعاء لثمان بقين من جمادى الاولى سنة 1104، و للّه الحمد.
__________________________________________________
(1) «ألف»: العدد.
(2) «ألف»: ضعفه.
(3) «ألف»: أمثاله.
(4) تهذيب اللغة: ج 1 ص 480.
(5) المفردات: ص 121.
(6) تفسير الكشاف: ج 4 ص 733.
92
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
الروضة الخامسة و الأربعون ص 93
الروضة الخامسة و الأربعون
93
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
و كان من دعائه عليه السلام في وداع شهر رمضان ص 95
و كان من دُعائه عليه السّلام في وداع شهر رمضان
اللّهمّ يا مَن لا يَرغَبُ في الجَزاء و لا يندم على العطاء و يا من لا يكافئ عبده على السّواء منّتك ابتداء و عفوك تفضّل و عقوبتك عدل و قضاؤك خيرة ان أعطيت لم تشب عطاءك بمنّ و ان منعت لم يكن منعك تعدّيا تشكر من شكرك و أنت الهمتَهُ شكرك و تكافئ من حمدك و أنت علّمته حمدك تستر على من لو شئت فضحته و تجود على من لو شئت منعته و كلاهما أهل منك للفضيحة و المنع غير انّك بنيت افعالك على التّفضّل و أجريت قدرتك على التّجاوز و تلقّيت من عصاك بالحلم و امهلت من قصد لنفسه بالظّلم تستنظرهم باناتك إلى الإنابة و تترك معاجلتهم إلى التّوبة لكيلا يهلك عليك هالكهم و لا يشقى بنعمتك شقيّهم الّا عن طول الاعذار إليه و بعد ترادف الحجّة عليه كرما من عفوك يا كريم و عائدة من عطفك يا حليم أنت الّذى فتحت لعبادك بابا إلى عفوك و سمّيته التّوبة و جعلت على ذلك الباب دليلا من وحيك لئلّا يضلّوا عنه فقلت تبارك اسمك توبوا إلى اللّه توبة نصوحا ..........
95
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
و كان من دعائه عليه السلام في وداع شهر رمضان ص 95
عسى ربّكم ان يكفّر عنكم سيّئاتكم و يدخلكم جنّات تجرى من تحتها الأنهار يوم لا يخزى اللّه النّبيّ و الّذين امنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم و بايمانهم يقولون ربّنا اتمم لنا نورنا و اغفر لنا انّك على كلّ شئ قدير فما عذر من اغفل دخول ذلك المنزل بعد فتح الباب و اقامة الدّليل و أنت الّذى زدت في السّوم على نفسك لعبادك تريد ربحهم في متاجرتهم لك و فوزهم بالوفادة عليك و الزّيادة منك فقلت تبارك اسمك و تعاليت من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها و من جاء بالسّيّئة فلا يجزى الّا مثلها و قلت مثل الّذين ينفقون أموالهم في سبيل اللّه كمثل حبّة انبتت سبع سنابل فى كلّ سنبلة مأة حبّة و اللّه يضاعف لمن يشاء و قلت من ذا الّذى يقرض اللّه قرضا حسنا فيضاعفه له اضعافا كثيرة و ما أنزلت من نظائرهنّ في القران من تضاعيف الحسنات و أنت الّذى دللتهم بقولك من غيبك و ترغيبك الّذي فيه حظّهم على ما لو سترته عنهم لم تدركه ابصارهم و لم تعه اسماعهم و لم تلحقه أوهامهم فقلت اذكرونى أذكركم و اشكروا لي و لا تكفرون ..........
96
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
و كان من دعائه عليه السلام في وداع شهر رمضان ص 95
و قلت لئن شكرتم لأزيدنّكم و لئن كفرتم إنّ عذابي لشديد و قلت ادعونى استجب لكم انّ الّذين يستكبرون عن عبادتى سيدخلون جهنّم داخرين فسمّيت دعاءك عبادة و تركه استكبارا و توعّدت على تركه دخول جهنّم داخرين فذكروك بمنّك و شكروك بفضلك و دعوك بامرك و تصدّقوا لك طلبا لمزيدك و فيها كانت نجاتهم من غضبك و فوزهم برضاك و لو دلّ مخلوق مخلوقا من نفسه على مثل الّذى دللت عليه عبادك منك كان محمودا فلك الحمد ما وجد في حمدك مذهب و ما بقى للحمد لفظ تحمد به و معنى ينصرف إليه يا من تحمد إلى عباده بالإحسان و الفضل و غمرهم بالمنّ و الطّول ما افشى فينا نعمتك و اسبغ علينا منّتك و اخصّنا ببرّك هديتنا لدينك الّذى اصطفيت و ملّتك الّتى ارتضيت و سبيلك الّذى سهّلت و بصّرتنا الزّلفة لديك و الوصول الى كرامتك اللّهمّ و أنت جعلت من صفايا تلك الوظائف و خصائص تلك الفروض شهر رمضان الّذى اختصصته من سائر الشّهور و تخيّرته من جميع الأزمنة و الدّهور و اثرته على كلّ ..........
97
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
و كان من دعائه عليه السلام في وداع شهر رمضان ص 95
أوقات السّنة بما أنزلت فيه من القران و النّور و ضاعفت فيه من الايمان و فرضت فيه من الصّيام و رغّبت فيه من القيام و اجللت فيه من ليلة القدر الّتي هي خير من الف شهر ثمّ اثرتنا به على سائر الأمم و اصطفيتنا بفضله دون أهل الملل فصمنا بامرك نهاره و قمنا بعونك ليله متعرّضين بصيامه و قيامه لما عرّضتنا له من رحمتك و تسبّبنا إليه من مثوبتك و أنت الملئ بما رغب فيه إليك الجواد بما سئلت من فضلك القريب إلى من حاول قربك و قد أقام فينا هذا الشّهر مقام حمد و صحبنا صحبة مبرور و اربحنا أفضل ارباح العالمين ثمّ قد فارقنا عند تمام وقته و انقطاع مدّته و وفاء عدده فنحن مودّعوه وداع من عزّ فراقه علينا و غمّنا و اوحشنا انصرافه عنّا و لزمنا له الذّمام المحفوظ و الحرمة المرعيّة و الحقّ المقضّى فنحن قائلون السّلام عليك يا شهر اللّه الأكبر و يا عيد اوليائه السّلام عليك يا أكرم مصحوب من الأوقات و يا خير شهر في الأيّام و السّاعات السّلام عليك من شهر قربت فيه الامال و نشرت فيه الأعمال السّلام عليك من قرين جلّ قدره موجودا ..........
98
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
و كان من دعائه عليه السلام في وداع شهر رمضان ص 95
و افجع فقده مفقودا و مرجوّا لم فراقه السّلام عليك من اليف انس مقبلا فسرّ و اوحش منقضيا فمضّ السّلام عليك من مجاور رقّت فيه القلوب و قلّت فيه الذّنوب السّلام عليك من ناصر اعان على الشّيطان و صاحب سهّل سبل الاحسان السّلام عليك ما أكثر عتقاء اللّه فيك و ما أسعد من رعى حرمتك بك السّلام عليك ما كان امحاك للذّنوب و استرك لأنواع العيوب السّلام عليك ما كان اطولك على المجرمين و اهيبك في صدور المؤمنين السّلام عليك من شهر تنافسه الأيّام السّلام عليك من شهر هو من كلّ امر سلام السّلام عليك غير كريه المصاحبة و لا ذميم الملابسة السّلام عليك كما وفدت علينا بالبركات و غسلت عنّا دنس الخطيئات السّلام عليك غير مودّع برما و لا متروك صيامه سأما السّلام عليك من مطلوب قبل وقته و محزون عليه قبل فوته السّلام عليك كم من سوء صرف بك عنّا و كم من خير افيض بك علينا السّلام عليك و على ليلة القدر الّتى هي خير من الف شهر السّلام عليك ما كان احرصنا بالأمس عليك ..........
99
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
و كان من دعائه عليه السلام في وداع شهر رمضان ص 95
و أشدّ شوقنا غدا إليك السّلام عليك و على فضلك الذي حرمناه و على ماض من بركاتك سلبناه اللّهمّ انّا أهل هذا الشّهر الّذى شرّفتنا به و وفّقتنا بمنّك له حين جهل الأشقياء وقته و حرموا لشقائهم فضله و أنت ولىّ ما اثرتنا به من معرفته و هديتنا له من سنّته و قد توليّنا بتوفيقك صيامه و قيامه على تقصير و ادّينا فيه قليلا من كثير اللّهمّ فلك الحمد اقرارا بالإساءة و اعترافا بالإضاعة و لك من قلوبنا عقد النّدم و من السنتنا صدق الاعتذار فاجرنا على ما اصابنا فيه من التّفريط أجرا نستدرك به الفضل المرغوب فيه و نعتاض به من أنواع الذّخر المحروص عليه و أوجب لنا عذرك على ما قصّرنا فيه من حقّك و ابلغ باعمارنا ما بين أيدينا من شهر رمضان المقبل فإذا بلّغتناه فاعنّا على تناول ما أنت أهله من العبادة و ادّنا إلى القيام بما يستحقّه من الطّاعة و أجر لنا من صالح العمل ما يكون دركا لحقّك في الشّهرين من شهور الدّهر اللّهمّ و ما الممنا به في شهرنا هذا من لمم او اثم او واقعنا فيه من ذنب و اكتسبنا فيه من خطيئة على تعمّد منّا او على نسيان ..........
100
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
و كان من دعائه عليه السلام في وداع شهر رمضان ص 95
ظلمنا فيه أنفسنا او انتهكنا به حرمة من غيرنا فصلّ على محمّد و اله و استرنا بسترك و اعف عنّا بعفوك و لا تنصبنا فيه لأعين الشّامتين و لا تبسط علينا فيه السن الطّاغين و استعملنا بما يكون حطّة و كفّارة لما أنكرت منّا فيه برأفتك الّتى لا تنفد و فضلك الّذى لا ينقصُ اللّهمّ صلّ على محمّد و اله و اجبر مصيبتنا بشهرنا و بارك لنا في يوم عيدنا و فطرنا و اجعله من خير يوم مرّ علينا اجلبه لعفو و امحاه لذنب و اغفر لنا ما خفى من ذنوبنا و ما علن اللّهمّ اسلخنا بانسلاخ هذا الشّهر من خطايانا و اخرجنا بخروجه من سيّئاتنا و اجعلنا من أسعد أهله به و اجز لهم قسما فيه و اوفرهم حظّا منه اللّهمّ و من رعى هذا الشّهر حقّ رعايته و حفظ حرمته حقّ حفظها و قام بحدوده حقّ قيامها و اتّقى ذنوبه حقّ تقاتها او تقرّب إليك بقربة أوجبت رضاك له و عطفت رحمتك عليه فهب لنا مثله من وجدك و أعطنا اضعافَهُ من فضلك فانّ فضلك لا يغيض و ان خزائنك لا تنقص بل تفيض و انّ معادن إحسانك لا تفنى و انّ عطاءك للعطاء المهنّا اللّهمّ صلّ على محمّد و اله و اكتب لنا مثل ..........
101
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
و كان من دعائه عليه السلام في وداع شهر رمضان ص 95
اجور من صامه او تعبّد لك فيه إلى يوم القيامة اللّهمّ انّا نتوب اليك في يوم فطرنا الّذى جعلته للمؤمنين عيدا و سرورا و لأهل ملّتك مجمعا و محتشدا من كلّ ذنب أذنبناه أو سوء أسلفناه او خاطر شرّ اضمرناه توبة من لا ينطوى على رجوع إلى ذنب و لا يعود بعدها فى خطيئة توبة نصوحا خلصت من الشّكّ و الارتياب فتقبّلها منّا و ارض عنّا و ثبّتنا عليها اللّهمّ ارزقنا خوف عقاب الوعيد و شوق ثواب الموعود حتّى نجد لذّة ما ندعوك به و كابة ما نستجيرك منه و اجعلنا عندك من التّوّابين الّذين أوجبت لهم محبّتك و قبلت منهم مراجعة طاعتك يا اعدل العادلين اللّهمّ تجاوز عن آبائنا و امّهاتنا و أهل ديننا جميعا من سلف منهم و من غبر إلى يوم القيمة اللّهمّ صلّ على محمّد نبيّنا و اله كما صلّيت على ملائكتك المقرّبين و صلّ عليه و اله كما صلّيت على أنبيائك المرسلين و صلّ عليه و اله كما صلّيت على عبادك الصّالحين و أفضل من ذلك يا ربّ العالمين صلوة تبلغنا بركتها و ينالنا نفعها و يستجاب لها دعاؤنا انّك أكرم من رغب إليه و اكفى من توكّل عليه و أعطى من سئل من فضله و أنت على كلّ شئ قدير
102
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
مقدمة المؤلف ص 103
[مقدمة المؤلف]
..........
[] (بسم اللّه الرحمن الرحيم) (و به ثقتي) الحمد للّه الّذي أكرم شهر رمضان بمزيد إكرامه، و ندب إلى وداعه بالدعاء عند تمامه، و الصلاة و السلام على نبيّه الذي ما ودّعه و ما قلى و على أهل بيته و عترته أصحاب المجد و أرباب العلى.
و بعد، فهذه الروضة الخامسة و الأربعون من رياض السالكين في شرح صحيفة سيّد العابدين صلوات اللّه عليه و على آبائه و أبنائه الأئمة الهادين، إملاء راجي فضل ربّه السنيّ، عليّ صدر الدين الحسينيّ الحسنيّ رفعه اللّه مكانا عليّا و كان له ناصرا و وليّا.
103
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الخامس و الأربعين ص 105
شرح الدعاء الخامس و الأربعين
«و كان من دعائه عليه السّلام في وداع شهر رمضان».
الوداع: بالفتح، اسم من التوديع كالسلام اسم من التسليم.
يقال: ودّعته توديعا إذا شيّعته عند سفره.
و قال الراغب: التوديع أصله من الدعة، و هي الراحة و خفض العيش، و هو أن يدعو للمسافر بأن يتحمّل اللّه عنه كآبة السفر، و أن يبلغه الدعة، كما أن التسليم دعاء له بالسلامة، فصار ذلك متعارفا في تشييع المسافر و تركه «1».
و قال الفيروزآبادي: ودَّعه و ودِّعه بمعنى، و الاسم الوداع و هو تخليف المسافر الناس خافضين و هم يودّعونه إذا سافر تفاؤلا بالدعة التي يصير إليها إذا قفل، أي يتركونه و سفره «2».
قال السيد الجليل سند الطائفة أبو القاسم رضيّ الدين عليّ بن طاووس الحسيني قدّس اللّه روحه و نوّر ضريحه في كتاب الإقبال بالأعمال: إن سأل سائل فقال: ما معنى الوداع لشهر رمضان و ليس هو من الحيوان الذي يخاطب أو يعقل ما يقال له باللسان؟.
__________________________________________________
(1) المفردات: ص 517.
(2) القاموس المحيط: ج 3 ص 92.
105
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الخامس و الأربعين ص 105
..........
فالجواب: أنّ عادة ذوي العقول- قبل الرسول و مع الرسول و بعد الرسول- قد جرت بمخاطبة الديار، و الأوطان، و الشباب، و أوقات الصفاء و الأمان و الإحسان ببيان المقال، و هو محادثة لها بلسان الحال فلمّا جاء أدب الإسلام أمضى ما شهدت بجوازه من ذلك أحكام العقول و الأفهام، و نطق به مقدّس القرآن المجيد.
فقال جلّ جلاله: يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَ تَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ «1».
فأخبر أنّ جهنم تردّ الجواب بالمقال، و هو إشارة إلى لسان الحال، و ذلك كثير في القرآن الشريف و في كلام الأئمة عليهم السلام و كلام أهل التعريف، فلا يحتاج أولو الألباب إلى الإطالة في الجواب.
فلمّا كان شهر رمضان قد صحبه ذوو «2» العناية به من أهل الإسلام و الإيمان صحبة أفضل لهم من صحبة الديار و المنازل، و كان أنفع لهم من الأهل، و أرفع من الأعيان و الأماثل اقتضت دواعي لسان الحال أن يودّع عند الفراق و الانفصال انته كلامه رفع مقامه «3».
قلت: و هو في اصطلاح أهل البيان من باب الاستعارة المكنيّة التخييليّة شبّه شهر رمضان بالصاحب الذي عزم على السفر بجامع الذهاب، ثم طوى ذكر المشبّه به و ذكر المشبّه، و جعل إثبات الوداع له تنبيها على ذلك و هو التخييل، و قس ذلك الحال في خطابه بما يخاطب به العقلاء المميزين فيما سيأتي في أثناء الدعاء. و يتعلّق بالمقام مسائل:
إحداها: قال بعض أصحابنا: وقت الدعاء لوداع شهر رمضان آخر ليلة منه، و في سحرها أفضل أو في آخر يوم منه.
و في التوقيعات الواردة عن صاحب الأمر صلوات اللّه عليه في جواب المسائل
__________________________________________________
(1) سورة ق: الآية 30.
(2) «الف»: ذو.
(3) الاقبال: ص 242.
106
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الخامس و الأربعين ص 105
..........
التي سأله عنها محمد بن عبد اللّه بن جعفر الحميري، سأله عن وداع شهر رمضان متى يكون؟ فقد اختلف أصحابنا فيه، فبعضهم يقول: يقرأ في آخر ليلة منه، و بعضهم يقول: في آخر يوم منه إذا رأى هلال شوال، فخرج التوقيع بما نصّه: «العمل في شهر رمضان في لياليه، و الوداع في آخر ليلة منه، فإن خاف أن ينقص الشهر جعله في ليلتين» «1»، انته.
و قال السيد الجليل علي بن طاووس قدّس اللّه روحه: اجتهد في وقت الوداع على إصلاح السريرة، فالإنسان على نفسه بصيرة، و تخيّر لوقت الوداع أصلح أوقاتك من آخر ليلة منه كما روينا، فإن فاتك في آخر ليلة ففي أواخر نهار المفارقة له و الانفصال عنه، فمتى وجدت نفسك في تلك الليلة أو ذلك اليوم على حال صالحة في صحبة شهر رمضان فودّعه في ذلك الأوان وداع أهل الصفاء و الوفاء، واقض من حق التأسّف على مفارقته و بعده ما فاتك من شرف ضيافته، و فوائد رفده، و أطلق من ذخائر دموع الوداع ما جرت به عوائد الأحبّة إذا تفرّقوا بعد الاجتماع «2»، انته.
قلت: و قد ورد عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّه أمر بوداع شهر رمضان في آخر جمعة منه و هو ما رواه الشيخ جعفر بن محمّد الدوريستي رحمه اللّه في كتاب الحسني بإسناده عن جابر بن عبد اللّه الأنصاري قال: دخلت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في آخر جمعة من شهر رمضان، فلما بصر بي «3» قال لي: يا جابر هذه آخر جمعة من شهر رمضان فودِّعه و قل: «اللّهمّ لا تجعله آخر العهد من صيامنا إيّاه، فإن جعلته، فاجعلني مرحوما و لا تجعلني محروما». فإنّه من قال ذلك ظفر بإحدى الحسنين، إمّا ببلوغ شهر رمضان من قابل، أو بغفران اللّه و رحمته «4».
__________________________________________________
(1) الاقبال: ص 243.
(2) الاقبال: ص 243.
(3) «الف»: بصّرني.
(4) الاقبال: ص 243.
107
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الخامس و الأربعين ص 105
..........
و على هذا فينبغي وداعه في آخر جمعة منه و آخر ليلة منه، جمعا بين الروايات.
الثانية: قال السيّد الجليل عليّ بن طاووس رفع اللّه مقامه: اعلم: إنّ الوداع لشهر رمضان يحتاج إلى زيادة بيان، و الناس فيه على طبقات:
طبقة: منهم كانوا في شهر رمضان على مراد اللّه جلّ جلاله و آدابه فيه في السرّ و الإعلان، فهؤلاء يودّعون شهر رمضان وداع من صاحبه بالصفاء و الوفاء «1» و حفظ الذمام، كما تضمّنه وداع مولانا زين العابدين عليه أفضل السلام.
و طبقة: صاحبوا شهر رمضان تارة موافقين له على مراد اللّه و رضاه، و تارة مفارقين له على خلاف مقتضاه، فهؤلاء إن اتفق خروج الشهر و هم مفارقون له في آداب الاصطحاب، فليس لوداعهم له وجه عند أولي الألباب، لأنّ الوداع إنّما هو لمن كان موافقا و مرافقا، لا لمن يكون مخالفا و مفارقا.
و إن اتفق خروج الشهر و هم ملتبسون بحسن صحبته، فلهم أن يودّعوه بقدر ما عاملوه في حفظ حرمته، و أن يندموا و يستغفروا على ما فرّطوا فيه من إضاعة شروط الصحبة و الوفاء، و يبالغوا في التأسّف و التلهّف على ما فرّط منهم من معاملته بالجفاء.
و طبقة: لم يكونوا مصاحبين لشهر رمضان بالقلوب، بل كان منهم من هو عندهم مكروه غير محبوب، لأنّه كان يمنعهم من المأكول و المشروب، و يقطعهم عن عادتهم في تهوين مراقبة علّام الغيوب، فهؤلاء ما كانوا مع شهر رمضان حتى يودّعوه، و لا أحسنوا المجاورة له لمّا نزل بقربهم فيشيّعوه، فلا معنى لوداعهم بوجه من الوجوه «2»، انته ملخّصا.
الثالثة: الأدعية المأثورة في وداع شهر رمضان كثيرة، فمن مختصر و مطوّل و من مختصرها:
__________________________________________________
(1) «الف» و الوقار.
(2) الاقبال: ص 242- 243.
108
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الخامس و الأربعين ص 105
قال صلوات اللّه و سلامه عليه:
اللّهمّ يا من لا يرغب في الجزاء، و يا من لا يندم على العطاء، و يا من لا يكافئ عبده على السواء، منّتك ابتداء، و عفوك تفضّل، و ما رواه ثقة الإسلام في الكافي بسنده عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: إذا كان آخر ليلة من شهر رمضان فقل: «اللّهمّ هذا شهر رمضان الّذي أنزلت فيه القرآن و قد تصرّم و أعوذ بوجهك الكريم يا ربّ أن يطلع الفجر من ليلتي هذه أو يتصرّم شهر رمضان و لك قبلي تبعة أو ذنب تريد أن تعذّبني به يوم ألقاك» «1».
و منه: ما رواه أبو محمد هارون بن محمد التلعكبري بسنده إلى أبي عبد اللّه عليه السلام قال: من ودع شهر رمضان في آخر ليلة منه، و قال «2»: «اللّهمّ لا تجعله آخر العهد من صيامي لشهر رمضان، و أعوذ بك أن يطلع فجر هذه اللّيلة إلّا و قد غفرت لي، غفر اللّه له قبل أن يصبح، و رزقه الإنابة إليه» «3».
و منه: ما وجد في نسخة عتيقة بخط السيّد الرضيّ أبي الحسن محمّد بن أحمد الموسويّ «اللّهمّ إنّي أسألك بأحبّ ما دعيت به، و أرضى ما رضيت به عن محمّد و عن أهل بيت محمّد عليه و عليهم السلام، أن تصلّي عليه و عليهم، و لا تجعل وداع شهري هذا وداع خروجي من الدنيا، و لا وداع آخر عبادتك، و وفّقني فيه لليلة القدر، و اجعلها لي خيرا من ألف شهر، مع تضاعف الأجر و العفو عن الذنب برضا الربّ».
و أما الأدعية المطوّلة فقد تضمّنتها كتب العبادات، خصوصا كتاب الإقبال بالأعمال، فلا نطوّل بذكرها.
و لنشرع الآن في شرح الدعاء الذي نحن بصدد شرحه.
__________________________________________________
(1) الكافي: ج 4، ص 164- 165، ح 5.
(2) «ألف»: فقال.
(3) الإقبال: ص 256.
109
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الخامس و الأربعين ص 105
عقوبتك عدل، و قضاؤك خيرة، إن أعطيت لم تشب عطاءك بمنّ، و إن منعت لم يكن منعك تعدّيا، تشكر من شكرك و أنت ألهمته شكرك، و تكافئ من حمدك و أنت علّمته حمدك.
[ 1194] رغبت في الشيء: من باب علم، رغبا بفتح الراء و الغين، أي أردته، و رغبت عنه إذا لم ترده.
و الجزاء: المكافأة على الشيء، أي لا يريد من خلقه مكافأة على إحسانه إليهم، لأنّه غنيّ لنفسه فلا يحتاج إلى غيره، حتى أنّ خلقه لهم، و تكليفه إيّاهم بعبادته و شكره، إنّما هو ليربحوا عليه لا ليربح هو عليهم، كما قال عزّ و جلّ: ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَ ما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ» «1» و قال جلّ و علا: وَ مَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ «2».
[ 1195] و ندم على الشيء ندما و ندامة من باب- فرح- أسف و حزن على ما وقع منه و تمنّى أنّه لم يقع و تنزيهه تعالى عن الندم إمّا مطلقا فلأنّ حقيقته تحسّر النفس و غمّها من تغيّر رأي في أمر فائت، و ذلك محال عليه سبحانه من وجهين:
أحدهما: أنّ التحسّر و الغمّ من توابع المزاج، و لمّا كان الباري عزّ و جلّ منزّها عن الجسميّة و المزاج، وجب أن يكون منزّها عن التحسر و الغمّ.
الثاني: أنّ تغيّر الرأي في أمر فائت إنّما يكون عن الجهل بعواقب الأمور و ما يترتّب على ذلك الأمر من نفع و ضرّ، و الجهل عليه تعالى محال.
و أمّا الندم على خصوص العطاء، فهو محال عليه سبحانه من وجوه:
الأوّل: ما علمت من استحالة مطلق الندم عليه فيمتنع الندم على خصوص العطاء عليه جلّ جلاله لأنّ نفي العام يقتضي نفي الخاص.
__________________________________________________
(1) سورة الذاريات: الآية 57.
(2) سورة لقمان: الآية 12.
110
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الخامس و الأربعين ص 105
..........
الثاني: أنّ الندم على العطاء إنّما يكون لأحد أمرين «1»:
إمّا لتضرّر المعطي بذلك العطاء الذي ندم عليه، و التضرّر على اللّه تعالى محال.
و إمّا لظهور عدم قابليّة من أعطاه لذلك العطاء فيتمنّى أنّه لم يقع، و ذلك محال عليه سبحانه لاستلزامه الجهل السابق، و هو محال كما عرفت.
الثالث: أنّ ما يصدر عنه تعالى من عطاء و منع مضبوط بنظام الحكمة و العدل، كما قال في محكم كتابه: وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَ ما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ «2» أي ملتبسا بمقدار معيّن تقتضيه الحكمة و تستدعيه المشيّة «3» التابعة لها، و ما كان عن حكمة مقتضية «4» له يستحيل الندم عليه.
[ 1196] و كافأته كفاء و مكافأة: جزيته بالإحسان إحسانا، و بالإساءة إساءة و أصله من «الكفو» بمعنى المثل.
و السواء: اسم مصدر بمعنى الاستواء، يقال: هما على سواء في هذا الأمر و على سويّة، أي على تعادل و تماثل من غير تفاوت، ثم أطلق على العدل و استعمل استعماله. و منه قول زهير:
أروني خطة لا خسف فيها يسوى بيننا فيها السواء «5»
و المعنى: أنّه تعالى لا يكافئ عبده على عمله بالسويّة، بل إن كان إحسانا ضاعفه له كما قال عزّ و جلّ: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها «6» و إن كان سيّئة غفرها له، كما قال تبارك و تعالى: وَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ «7» و إن عذّبه عليها فبعد إنذار و إمهال لا يستحقّه، بل تفضّلا منه فصحّ أنّه
__________________________________________________
(1) «الف»: الأمرين.
(2) سورة الحجر: الآية 21.
(3) «الف»: المشيئة.
(4) «الف»: الحكمة المقتضية.
(5) لسان العرب: ج 14 ص 412.
(6) سورة الأنعام: الآية 160.
(7) سورة الرعد: الآية 6.
111
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الخامس و الأربعين ص 105
..........
لم يكافئه عليها بالسويّة أيضا.
و على من قوله عليه السلام «على السواء»: إمّا بمعنى «الباء» أي بالسواء نحو حقيق علي، و اركب على اسم اللّه أو لتضمين المكافأة معنى الحمل أو الإجراء، أي لا يكافئ عبده حاملا له، أو مجريا له على السواء. و تكرير الموصول مع كفاية ذكر الصلات بطريق العطف على صلة الموصول الأوّل، كما لو قال: «يا من لا يرغب في الجزاء، و لا يندم على العطاء، و لا يكافئ عبده على السواء» للإيذان بأنّ كلّ واحدة من الصفات المذكورة، نعت جليل على حياله، له شأن خطير، حقيق بأن يفرد له موصوف مستقلّ، و لا يجعل أحدهما تتمّة للآخر.
[ 1197] «و منتك إبتداء»: أي نعمتك مبتدأة لا عن استحقاق، كما جاء في الدعاء أيضا: «يا من بدأ بالنعمة قبل استحقاقها» «1».
«و عفوك تفضّل»: أي غير واجب عليك و لا لازم لك، و كلّ جميل لا يلزم فاعله فهو تفضّل.
«و عقوبتك عدل»: أي إنصاف لاستحالة الظلم و الجور عليه تعالى، كما تقدّم بيانه غير مرّة، و قد تكرّر هذا المعنى في القرآن المجيد كقوله تعالى: فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَ لا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ «2».
و قوله تعالى: وَ وَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَ لا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً «3».
و قوله تعالى: إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ* «4» و مثله في القرآن العزيز كثير.
«و قضاؤك خيرة»: أي حكمك اختيار.
و الخيرة بكسر الخاء المعجمة و سكون الياء المثناة من تحت و فتحها: اسم من
__________________________________________________
(1) مفتاح الفلاح: ص 78 و قريب منه ما في الكافي: ج 2 ص 578.
(2) سورة يس: الآية 54.
(3) سورة الكهف الآية 49.
(4) سورة التحريم: الآية 7.
112
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الخامس و الأربعين ص 105
..........
الاختيار و هو فعل ما هو خير أو أخذه، أي لا تقضي و لا تحكم إلّا بما هو خير و إن خفي وجه ذلك علينا، فعدم العلم بالشيء لا يستلزم العلم بعدمه، كيف و علمه سبحانه فعلي كامل، و علمنا انفعالي ناقص، فهو تبارك و تعالى يعلم الأسباب و ما يترتّب عليها، و الحوادث و ما نشأت هي منها، و يحيط علمه بالمبادئ و الغايات، و لا يعزب عنه مثقال ذرة في الارض و لا في السماء، و نحن قد تخفى علينا المصلحة و العاقبة و تشتبه علينا المصالح بالمفاسد.
و بالجملة فمن تصوّر قصور نفسه و كمال علم اللّه تعالى علم أنّه لا يقضي إلّا بما هو خير و لا يأمر إلّا بما هو أصلح.
[ 1198] و شابه شوبا من باب قال: خلطه، مثل شوب اللبن بالماء.
و المنّ: قول يكدّر العطاء و ينغّصه «1» لما يتضمّن من التعيير الذي تنكسر منه القلوب و لذلك نهى سبحانه عنه بقوله: لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَ الْأَذى «2».
و قد تقدّم الكلام عليه مبسوطا.
«و المنع» هنا: ضدّ العطاء، يقال: منعته الشيء و منعته منه، و نزّل «أعطيت» و «منعت» هنا منزلة اللازم، لأن المعنى إن وجد منك عطاء أو منع فهو كقوله تعالى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ «3».
و قولهم: زيد يعطي و يمنع، أي يفعل العطاء و المنع، و يوجد هذه الحقيقة.
و التعدّي: الظلم و تجاوز الحدّ، و إنّما لم يكن منعه تعالى تعدّيا لوجهين:
أحدهما: أنّ عطاءه و منعه سبحانه لا يصدران إلّا بمقتضى الحكمة و العدل فلا يكون منعه تعدّيا و ظلما.
الثاني: أنّ المنع إنّما يكون ظلما إذا كان فاعله مانعا لذي حق حقّه، و منعه
__________________________________________________
(1) «الف»: و ينقصه.
(2) سورة البقرة: الآية 264.
(3) سورة الزمر: الآية 9.
113
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الخامس و الأربعين ص 105
..........
سبحانه ليس كذلك، إذ ليس لأحد على اللّه حق حتّى يكون منعه تعدّيا و ظلما، و إلى هذا أشار مولانا الرضا عليه السلام و قد سأله رجل فقال: أخبرني عن الجواد؟ فقال: إن لكلامك وجهين، فإن كنت تسأل عن المخلوق، فإن الجواد الذي يؤدّي ما افترض اللّه عليه، و إن كنت تسأل عن الخالق، فهو الجواد إن أعطى و هو الجواد إن منع لأنه إن أعطاك أعطاك ما ليس لك، و إن منعك منعك ما ليس لك «1».
و هذا معنى قول أمير المؤمنين صلوات اللّه و سلامه عليه في خطبة له: و كلّ مانع مذموم ما خلاه «2».
[ 1199] قوله عليه السلام: «تشكر من شكرك و أنت الهمته شكرك» شكره تعالى لعباده قيل: عبارة عن مجازاته على شكرهم له.
و قيل: هو قبوله ليسير العمل منهم و إثابتهم الكثير عليه إذ كان حقيقة الشكر لا يجوز عليه سبحانه من حيث كان اعترافا بالنعمة و لا يصحّ أن يكون سبحانه منعما عليه.
و قال الراغب: إذا وصف اللّه بالشكر فإنّما يعني به إنعامه على عباده و جزاؤه بما أقامه من العبادة «3».
و جملة قوله عليه السلام: «و أنت ألهمته شكرك» في محل نصب على الحال، أي و الحال أنك ألهمته و عرفته أن يشكرك، و الغرض بيان مزيد كرمه سبحانه و سعة فضله و إحسانه حيث ألهم عباده الشكر، ثمّ أثابهم عليه، و قد تقدّم الكلام على معنى إلهام الشكر في الروضة الأولى مبسوطا فليرجع إليه «4».
__________________________________________________
(1) معاني الأخبار: ص 256 و 257.
(2) نهج البلاغة: ص 124 الخطب 91.
(3) المفردات للراغب: ص 265- 266.
(4) ج 1 ص 318.
114
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الخامس و الأربعين ص 105
تستر على من لو شئت فضحته، و تجود على من لو شئت منعته، و كلاهما أهل منك للفضيحة و المنع غير أنّك بنيت أفعالك على التّفضّل و أجريت قدرتك على التّجاوز، و تلقّيت من عصاك بالحلم، و أمهلت من قصد لنفسه بالظّلم، تستنظرهم بأناتك إلى الإنابة، و تترك معاجلتهم إلى التّوبة لكيلا يهلك عليك هالكهم، و لا يشقى بنعمتك شقيّهم إلّا عن طول الإعذار إليه، و بعد ترادف الحجّة عليه، كرما من عفوك يا كريم، و عائدة من عطفك يا حليم.
[ 1200] «و تكافئ من حمدك»: أي تجازيه و تثيبه عليه مع أنّك علّمته حمدك، و تقديم الشكر على الحمد في الذكر من باب الترقي إذ كان الحمد رأس الشكر كما تقدّم بيانه في أوّل الروضة الرابعة و الأربعين «1»، و اللّه أعلم.
[ 1201] ستره سترا، من باب قتل: غطّاه و ستره تعالى على عبده عبارة عن إخفاء مساوئه و عدم اطلاع الخلق على فضائحه و عيوبه. و منه الحديث: من ستر أخاه المسلم في الدنيا ستره اللّه يوم القيامة «2».
و تعديته ب «على» لتضمينه معنى الإشفاق و الإبقاء و إنّما أصله أن يتعدى بنفسه كما وقع في الحديث و ورد في حديث آخر معدّى «3» ب «على» للتضمين المذكور و هو قوله عليه السلام: من ستر على مؤمن عورة فكأنّما أحيا ميّتا «4».
و حذف مفعول فعل المشيئة و الإرادة و نحوهما مطّرد إذا وقع شرطا، أي لو شئت فضيحته فضحته، و لو شئت منعه منعته، كقوله تعالى: فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ
__________________________________________________
(1) انظر ص 18.
(2) نهج الفصاحة: ص 616 ح 3020.
(3) «الف»: فعدّى.
(4) الجامع الصغير: ج 2 ص 173.
115
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الخامس و الأربعين ص 105
..........
أَجْمَعِينَ «1» أي لو شاء هدايتكم لهداكم أجمعين و فائدته البيان بعد الابهام، فإنه متى قيل لو شئت و لو شاء علم السامع أنّ هناك شيئا علّقت المشيئة عليه لكنّه مبهم عنده فإذا جيء بجواب الشرط صار مبيّنا، و هذا أوقع في النفس، لكن يشترط أن لا يكون تعلّق فعل المشيئة بالمفعول غريبا نادرا كقوله: «فلو شئت أن أبكي دما لبكيته» فإن تعلّق فعل المشيئة «2» ببكاء الدم غريب نادر الوقوع، فلا بدّ من ذكر المفعول ليتقرر «3» في نفس السامع و يأنس به، و فضحه فضحا من باب- نفع- كشفه.
[ 1202] و «كلا» اسم لفظه مفرد و معناه مثنّى و يلزم اضافته إلى مثنّى نحو: قام كلا الرجلين، أو إلى ضميره كما وقع في عبارة الدعاء.
«و أهل منك»: أي مستحق منك للفضيحة و المنع، و الظرفان من قوله:
«منك» و قوله: «للفضيحة» كلاهما متعلّق ب «أهل» و صحّ تعلّقهما به لتناوله بمستحقّ، كما صح تعلّق الظرف ب «إله» في قوله تعالى: وَ هُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَ فِي الْأَرْضِ إِلهٌ «4» لتأوّله بمعبود أي و هو الذي هو معبود في السماء و معبود في الأرض، و جملة قوله عليه السلام: «و كلاهما أهل منك للفضيحة و المنع» حاليّة أي مع أنّ كلّ واحد ممن سترت عليه، وجدت عليه، مستحق لضدّ ذلك، لأنّ من عصاه سبحانه لا يستحقّ منه إلّا فضيحته و منعه لا ستره و الجود عليه، و الغرض بيان سعة تفضّله و رحمته.
و قوله عليه السلام: «غير أنك» غير بمعنى إلّا، و الاستثناء منقطع أي لكنّك بنيت أفعالك على التفضّل، لأنّ كلّ استثناء منقطع يقدّر بلكن عند البصريّين،
__________________________________________________
(1) سورة الانعام: الآية 149.
(2) «الف»: المشيّة.
(3) «الف»: ليعرِّر.
(4) سورة الزخرف: الآية 84.
116
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الخامس و الأربعين ص 105
..........
و الكوفيون يقدرونه ب «سوى».
قال بعض المحقّقين: و يردّه أنها لا تفيد الاستدراك، و المستثنى المنقطع للاستدراك و دفع توهم دخوله في الحكم السابق، و نصب «غير» على الاستثناء لأنّها تعرب باتفاق اعراب المستثنى ب «إلّا»، و المستثنى المنقطع إذا لم يصحّ فيه التفريع يجب نصبه إجماعا.
«و بنيت أفعالك على التفضّل»: أي أثبتّها و قررتها على الجميل و الإحسان الذي لا يلزمك و لا يجب عليك و لا يترتّب على عمل، فيكون أجرا و جزاء، شبّه التفضّل بالأساس و القاعدة التي يبنى عليها، و طوى ذكر المشبّه به على طريقة الاستعارة المكنيّة، و اثبت البناء تخييلا.
«و أجريت قدرتك على التجاوز»: أي جعلتها جارية مستمرة على العفو، يقال: تجاوز عنه، إذا عفى عنه من «جازه يجوزه» أي تعدّاه و عبر عليه و لم يقف عنده، و قد مرّ الكلام عليه مبسوطا.
[ 1203] «و تلقّيت من عصاك بالحلم»: أي استقبلته به، و منه قوله تعالى تَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ «1» أي يستقبلونهم، و تلقّيه تعالى لمن عصاه بالحلم، عبارة عن معاملته له بالحكم و الإبقاء عليه قبل الانتقام، و المعاجلة بالعقوبة استعارة من تلقّي القادم، و هو استقباله قبل وصوله إلى البلد، مثلا بجامع الاعتناء به و الاهتمام، كما سيأتي عن قريب بيانه، و هي استعارة تصريحيّة لكون المستعار منه مذكورا دون المستعار له.
و الحلم: هو الإمساك عن المبادرة إلى الانتقام، و قيل: هو في الإنسان فضيلة، تحت الشجاعة، يعتبر معها عدم انفعال النفس عن الواردات المكروهة المؤدية له.
و أمّا في حقّ اللّه تعالى: فيعود إلى اعتبار عدم انفعاله عن مخالفة عبيده لأوامره
__________________________________________________
(1) سورة الانبياء: الآية 103.
117
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الخامس و الأربعين ص 105
..........
و نواهيه، و كونه لا يستفزّه عند مشاهدة المنكرات منهم غضب، و لا يحمله على المسارعة إلى الانتقام منهم، مع قدرته التامّة على كلّ مقدور غيظ و لا طيش، و الفرق بينه تعالى و بين العبد في هذا الوصف أنّ سلب الانفعال عنه جلّ شأنه، سلب مطلق، و سلبه عن العبد، سلب عمّا من شأنه أن يكون له ذلك الشيء؛ فكان عدم الانفعال عنه تعالى أبلغ و أتمّ من عدمه عن العبد، و «الباء» من قوله عليه السلام «بالحلم» للملابسة أي ملتبسا بالحلم.
«و امهلت من قصد لنفسه بالظلم»: أي انظرته و لم تستعجله و قصدت الشيء و له و إليه قصدا، من باب- ضرب- طلبته و أردته بعينه أي و لم تعاجل بالانتقام من ظلم نفسه و «الباء» للملابسة أيضا.
و قوله: «تستنظرهم بأناتك إلى الإنابة» جملة مستأنفة للتعليل، أي لأنّك تستنظرهم، يقال: انتظرته و استنظرته، إذا تأنيت عليه و لم تستعجله.
«و الاناة»: على وزن «حصاة» اسم من تأنّى في الأمر، أي تمهل و تمكّث و لم يعجل.
«و الإنابة» الرجوع إلى اللّه تعالى بالتوبة و إخلاص العمل، قال تعالى وَ أَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَ أَسْلِمُوا لَهُ «1» و استنظاره تعالى عبارة عن طلب عنايته، عود الخلق إلى طاعته و رجوعهم إلى ما فيه نجاتهم من التوبة و الإنابة إليه، و تحقيق ذلك: أنّه لمّا كان نظر العناية الإلهية إلى الخلق، نظرا واحدا، و المطلوب منهم واحد، و هو الوصول إلى جناب عزّة اللّه تعالى، الذي هو غايتهم، و الانتهاء إلى ما هو أحسن أحوالهم، و أتمّ أوصافهم لديه، أشبه طلب العناية الإلهيّة، وصول الخلق إلى غايتهم، انتظار الإنسان لقوم يريد عودهم و رجوعهم إليه، فأطلق عليه لفظ الاستنظار على سبيل الاستعارة التصريحيّة.
__________________________________________________
(1) سورة الزمر: الآية 54.
118
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الخامس و الأربعين ص 105
..........
و قوله: «إلى الإنابة» أي إلى وقتها، كقوله تعالى: فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ «1» أي إلى وقت اليسار.
و المعاجلة: مصدر، عاجله بدينه «2» إذا أخذه به و لم يمهله.
[ 1204] و قوله: «لكيلا يهلك عليك هالكهم» أي لئلّا يستوجب العذاب على غير رضا منك، مستوجبه «3» منهم كما تقدّم بيانه في الروضة الاولى «4».
و «كي» هنا حرف مصدري بمنزلة «أن» معنى و عملا و ليست حرف تعليل لدخول حرف التعليل عليها.
و قوله: «و لا يشقى «5» بنعمتك» أي ملتبسا بنعمتك، أو بسبب نعمتك، فإنّ النعمة قد تكون سببا للشقاء، و الاستثناء من قوله عليه السلام: «إلّا عن طول الاعذار إليه» مفرّغ، أي «لكيلا يهلك عليك هالكهم، و لا يشقى بنعمتك شقيهم» عن شيء من الأشياء إلّا عن طول الإعذار.
و «عن» بمعنى «بعد» مثلها في قوله تعالى: عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ «6» أي بعد طول الاعذار إليه، يقال: أعذر إليه في الأمر إعذارا: أي بالغ في العذر.
قال الزمخشري: أي في كونه معذورا «7»، و منه المثل «قد أعذر من أنذر» «8» و تعديته ب «إلى» لتضمينه معنى الإنهاء، و معنى مبالغته تعالى في كونه معذورا مبالغته في إزالة حجج من هلك، و شقى عند معاقبته له، كما قال سبحانه: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ «9».
و قال تعالى: وَ لَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا
__________________________________________________
(1) سورة البقرة: الآية 280.
(2) «الف»: بذنبه.
(3) «الف»: مستوجبة.
(4) ج 1 ص 389.
(5) «الف»: و لها يشقى بنعمتك.
(6) سورة المؤمنون: الآية 40.
(7) أساس البلاغة: ص 412.
(8) مجمع البحرين: ج 3 ص 399 مجمع الامثال: ج 2 ص 29.
(9) سورة النساء: الآية 165.
119
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الخامس و الأربعين ص 105
أنت الّذي فتحت لعبادك بابا إلى عفوك و سمّيته التّوبة، و جعلت على ذلك الباب دليلا من وحيك لئلّا يضلّوا عنه، فقلت تبارك اسمك: «توبوا إلى اللّه، توبة نصوحا عسى ربّكم أن يكفّر عنكم رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَ نَخْزى «1».
و في الحديث: «ما أحد أحبّ إليه العذر من اللّه و لذلك أرسل الرّسل و أنزل الكتب» «2» و هي استعارة تمثيليّة أو مكنيّة.
«و ترادف الحجّة»: تتابعها، يقال: ترادف القوم أي تتابعوا، و الألف و اللّام في «الحجّة» للجنس، و لذلك صحّ إضافة الترادف إليها، إذ الترادف لا يكون إلّا لمتعدّد، «و الحجّة» الدليل البيّن و البرهان الواضح.
[ 1205] و نصب «كرما» و «عائدة» على الحاليّة، أي حال كون ذلك «كرما من عفوك» و «عائدة من عطفك» و يحتمل المفعول لأجله.
و «من» ابتدائيّة، أي «كرما» حاصلا من عفوك.
و «عائدة» حاصلة من عطفك، و العائدة: كل نفع يرجع إلى الإنسان من شيء معاود.
و العطف: الحنو و الشفقة و البرّ، مستعار من عطف الشيء عطفا: أي حنوته و ثنيته، و منه العاطفة للرحم، و رجل عاطف و عطوف، عائد بفضله حسن الخلق.
[ 1206] ضمير المخاطب: في محل رفع على الابتداء، خبره الموصول، و الجملة مسوقة لتقرير ما قبلها، و بيان كمال كرمه و عارفته على عباده، بإظهار عظيم تفضّله، بما لا يكاد يخفى جليل جدواه و نفعه، و عائدته، على من له أدنى تمييز «3»، فضلا عن العقلاء.
__________________________________________________
(1) سورة طه: الآية 134.
(2) الدر المنثور: ج 2 ص 248.
(3) «الف»: تميّز.
120
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الخامس و الأربعين ص 105
سيّآتكم و يدخلكم جنّات تجري من تحتها الأنهار، يوم لا يخزي اللّه النّبيّ و الّذين آمنوا معه، نورهم يسعى بين أيديهم و بأيمانهم، يقولون:
ربّنا أتمم لنا نورنا و اغفر لنا، إنّك على كلّ شيء قدير» فما عذر من أغفل دخول ذلك المنزل بعد فتح الباب و إقامة الدّليل.
و «الفتح»: إزالة الإغلاق.
و «الباب»: مدخل الامكنة «1»، كالمدينة و الدار، و في الكلام، استعارتان:
استعارة بالكناية، حيث شبّه العفو بالمنزل، كما سيصرّح به عليه السلام في آخر هذا الفصل من الدعاء، و طوى ذكر المشبّه به مصرّحا بالمشبّه لا غير.
و استعارة تحقيقيّة تصريحيّة، حيث شبّه السبب الذي يتوصّل به إلى العفو، بالباب الذي يتوصّل إلى الدار، و أطلق اسم المشبّه به على المشبّه، و هذه الاستعارة قرينة للاستعارة الاولى، لأنّها من روادف المستعار فيها، و لوازمه، و لولاها لم يتنبّه السامع لمكانه.
فإن قلت: قرينة الاستعارة بالكناية يلزم أن تكون استعارة تخييليّة، كالأظفار للمنيّة، في قوله:
و إذا المنيّة أنشبت أظفارها
لا استعارة تحقيقيّة، لأنّ المكنيّة و التخييليّة متلازمتان، لا يتحقّق إحداهما بدون الاخرى، إذ التخييلية يجب أن تكون قرينة للمكنيّة البتّة و هي يجب أن تكون قرينة للتخييليّة البتّة.
قلت: هذا إنّما يرد على مذهب صاحب الإيضاح «2»، و من يرى رأيه، و الصحيح ما مشى عليه صاحب الكشّاف، و المحقّقون من شرّاح كلامه، من أنّ
__________________________________________________
(1) «الف» السكنة.
(2) الايضاح للخطيب القزويني: ص 444، و 445 «على ما يستفاد منه».
121
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الخامس و الأربعين ص 105
..........
المكنيّة قد توجد بدون التخييليّة، و أنّ قرينتها قد تكون تحقيقيّة كاستعارة النقض لإبطال العهد، في قوله تعالى: الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ* «1» حيث استعار الحبل للعهد، و هي مكنيّة، و نبّه عليها بذكر النقض، الذي هو إبطال تأليف جسم، و هي استعارة تحقيقيّة تصريحيّة، حيث شبّه إبطال العهد به، و أطلق اسم المشبّه به على المشبّه، و هذا معنى قوله في الكشّاف: شاع استعمال النقض في إبطال العهد، من حيث تسميتهم العهد بالحبل على سبيل الاستعارة، لما فيه من إثبات الوصلة بين المتعاهدين.
و منه قول ابن التيهان في بيعة العقبة، يا رسول اللّه: إنّ بيننا و بين القوم حبالا، و نحن قاطعوها، فنخشى إن اللّه عزّ و جلّ أعزّك، و أظهرك، أن ترجع إلى قومك.
و هذا من أسرار البلاغة و لطائفها، أن يسكتوا عن ذكر الشيء المستعار، ثم يرمزوا إليه بذكر شيء من روادفه، فينبّهوا بتلك الرمزة على مكانه، و نحوه قولك:
شجاع يفترس أقرانه و عالم يغترف منه الناس لم تقل هذا، إلّا و قد نبّهت على الشجاع و العالم بأنّهما أسد و بحر «2»، انته كلامه.
قال العلامة التفتازاني: استفدنا منه، أنّ قرينة الاستعارة بالكناية لا يجب أن تكون استعارة تخييليّة، بل قد تكون تحقيقيّة «3».
و قال صاحب الكشاف: دلّ كلامه من غير تكلّف، على أن الرادف المؤتى به قد يكون ما لا يستقلّ، و الغرض منه التنبيه فقط، كما في مخالب المنيّة، و قد يكون ما يستقلّ و إن تفرّع على الأوّل، كالنقض و الاغتراف للإبطال و الانتفاع، و نحن في ذلك نشايعه «4»، انته.
__________________________________________________
(1) سورة البقرة: الآية 27.
(2) تفسير الكشاف: ج 1، ص 119- 120.
(3) مختصر المعاني: ج 2 فصل في الحقيقة و المجاز، ص 118.
(4) لم نعثر عليه.
122
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الخامس و الأربعين ص 105
..........
و ذكر «الفتح» ترشيح للاستعارة التحقيقية [ 1207] و الضلال هنا: بمعنى الميل عن القصد.
و «تبارك»: إمّا من البروك المستلزم للمقام في موضع واحد و الثبات فيه، و إمّا من البركة بمعنى الزيادة و النمو فبالاعتبار الأوّل: هو إشارة إلى عظمته باعتبار دوام بقائه و تحقّق وجوده، و بالاعتبار الثاني إشارة إلى فضله و إحسانه و لطفه و هدايته.
و إذا كان هذا حال اسمه بملابسة دلالته عليه فما ظنّك بذاته الأقدس الأعلى.
و قيل: الاسم بمعنى الصفة.
و قيل: هو مقحم كما في قول من قال:
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما
[ 1208] و تخصيص آية التحريم بالذكر دون غيرها من الآيات في معنى التوبة لتضمّنها صريحا إرشاد المؤمنين إلى طريق التوبة و وصف التوبة بالنّصوح بالفتح على الإسناد المجازي لأنّ النصح صفة التائبين و هو أن ينصحوا أنفسهم بالتوبة لا يكون فيها شوب رياء و لا نفاق.
و قيل: هو من نصاحة الثوب، أي خياطته، أي توبة تخيط و ترقع خروقكم في دينكم لأنّ العصيان يخرق الدين و التوبة ترقعه.
و قيل: هو من قولهم: «عسل ناصح» إذا خلص من الشمع، أي توبة خالصة لوجه اللّه تعالى بأن يندم على الذنوب لقبحها و كونها خلاف رضا اللّه تعالى لا لخوف النار مثلا.
و قد حكم المحقّق الطوسي في التجريد بأنّ الندم على الذنوب خوفا من النار ليس توبة «1».
__________________________________________________
(1) شرح التبريد: ص 264.
123
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الخامس و الأربعين ص 105
و قيل: من النصيحة، و معناه توبة تنصح الناس أي تدعوهم إلى مثلها لظهور أثرها في صاحبها أو تنصح صاحبها فيقلع عن الذنوب.
و عن ابن عبّاس قال: قال معاذ بن جبل: يا رسول اللّه ما التوبة النصوح؟
قال: أن يتوب التائب ثم لا يرجع في ذنب كما لا يعود اللبن في الضرع «1».
و عن ابن مسعود: إنّها التي تكفّر كل سيّئة ثم تلا هذه الآية «2».
و عن الحسن: هي أن يكون العبد نادما على ما مضى مجمعا على أن لا يعود فيه «3».
و عن قتادة: هي الصادقة الناصحة «4».
و قيل: هي أن يستغفر اللّه باللسان و يندم بالقلب و يمسك بالبدن «5».
و عن سعيد بن جبير: هي التوبة المقبولة و لا تقبل ما لم تكن فيها ثلاث: خوف أن لا تقبل، و رجاء أن تقبل، و إدمان الطاعه «6».
و روى ثقة الإسلام في الكافي باسناده عن أبي الصباح الكناني قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن قول اللّه عزّ و جلّ: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً قال: يتوب العبد من الذنب ثم لا يعود فيه «7».
و روى رئيس المحدثين باسناده عن أحمد بن هلال قال: سألت أبا الحسن الأخير عليه السلام عن التوبة النصوح ما هي؟ فكتب عليه السلام: أن يكون الباطن كالظاهر و أفضل من ذلك «8».
و باسناده عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: التوبة النصوح أن يكون باطن الرجل كظاهره و أفضل «9».
__________________________________________________
(1) مجمع البيان: ج 9- 10 ص 318.
(2) مجمع البيان: ج 9- 10 ص 318.
(3) مجمع البيان: ج 9- 10 ص 318.
(4) مجمع البيان: ج 9- 10، ص 318.
(5) مجمع البيان: ج 9- 10، ص 318.
(6) مجمع البيان: ج 9- 10، ص 318.
(7) الكافي: ج 2، ص 432، ح 3.
(8) معاني الاخبار ص 174 باب معنى التوبة النصوح ح 1 و 3.
(9) معاني الاخبار ص 174 باب معنى التوبة النصوح ح 1 و 3.
124
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الخامس و الأربعين ص 105
..........
و روى أبو بكر عن عاصم أنّه قرأ «نصوحا» بالضم و هو مصدر «نصح» «1» فإن النصح و النصوح كالشكر و الشكور أي توبة ذات نصوح أو تنصح نصوحا أو توبوا لنصح أنفسكم على أنّه مفعول لأجله.
و «عسى» فعل جامد لا يتصرّف، و لا يأتي منه إلّا الماضي، و من ثمّ ادّعى قوم أنّه حرف و إنّما لم يتصرف فيه لتضمنه «2» معنى الحرف أي إنشاء الطمع و الرجاء كلعلّ و الإنشاء في الأغلب من معاني الحروف و الحروف لا يتصرّف فيها «3».
قال سيبويه: «عسى» طمع و اشفاق فالطمع في المحبوب و الاشفاق في المكروه و معنى الإشفاق الخوف و قد اجتمعا في قوله تعالى: وَ عَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ عَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَ هُوَ شَرٌّ لَكُمْ «4».
قال الجوهري: و «عسى» من اللّه واجبة في جميع القرآن إلّا في قوله تعالى:
عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ.
قال أبو عبيدة: «عسى» من اللّه إيجاب فجاء على إحدى لغتي العرب لأن «عسى» رجاء و يقين و أنشد لابن مقبل:
ظنّي بهم كعسى و هم بتنوفة يتنازعون جوائز الأمثال
أي ظنّي بهم يقين «5» انته.
قال الرضي: و انا لا أعرف «عسى» في غير كلامه تعالى لليقين ففيه نظر و يجوز أن يكون ظنّي بهم أي مع طمع «6».
__________________________________________________
(1) التبيان للشيخ الطوسي: ج 10 ص 51.
(2) «الف»: لتضمينه.
(3) شرح الكافية: ج 2 ص 302.
(4) مغني اللبيب: ص 201.
(5) الصحاح: ج 6 ص 2426. و شرح الكافية في النحو: ج 2 ص 302.
(6) شرح الكافية في النحو: ج 2 ص 302.
125
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الخامس و الأربعين ص 105
..........
و قال الراغب: كثير من المفسّرين فسّروا «عسى» و «لعل» في القرآن باللّازم و قالوا: إنّ الطمع و الرجاء لا يكون من اللّه تعالى و في هذا قصور نظر و ذلك: إنّ اللّه تعالى إذا ذكر ذلك يذكره ليكون الإنسان منه على رجاء لا أن يكون هو تعالى راجيا، قال تعالى: عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ أي كونوا راجين في ذلك، انته «1».
و قال الزمخشري في الكشّاف: «عسى ربّكم» إطماع من اللّه لعباده و فيه وجهان:
أحدهما: أن يكون على ما جرت به عادة الجبابرة من الاجابة ب «عسى» و «لعلّ» و وقوع ذلك منهم موقع القطع و البتّ.
و الثاني: أن يكون جيء به تعليما للعباد، وجوب الترجّح بين الخوف و الرجاء، و الذي يدلّ على المعنى الأوّل، و أنّه في معنى البتّ، قراءة ابن أبي عيلة:
«و يدخلكم» بالجزم عطفا على محلّ «عسى أن يكفّر» كأنّه قيل: توبوا يوجب تكفير سيّئاتكم و يدخلكم، انته «2».
و الجمهور: على أنّ «عسى» ترفع الاسم و تنصب الخبر ككان، فالاسم الصريح المرفوع بعدها اسمها، و الفعل المضارع المقترن بأن بعده منصوب المحل على أنّه خبره. و استشكل بلزوم كون الحدث خبرا عن الذات، لأنّ الخبر على هذا في تأويل المصدر. و أجيب بأنّ «أن» زائدة لا مصدريّة.
قال ابن هشام: و ليس بشيء لأنّها قد نصبت «3».
و بالفرق بين المصدر و ما يأوّل به ذكره صاحب العباب و ارتضاه الشريف الجرجاني.
__________________________________________________
(1) المفردات: ص 335.
(2) تفسير الكشاف: ج 4 ص 570.
(3) مغني اللبيب: ص 202.
126
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الخامس و الأربعين ص 105
..........
و بأنه على تقدير مضاف، إمّا قبل الاسم أو قبل الخبر، فيقدّر في نحو عسى زيد أن يقوم، عسى أمر زيد القيام، أو عسى زيد صاحب القيام.
قال الرضي: و فيه تكلّف إذ لم يظهر هذا المضاف في اللفظ لا في الاسم و لا في الخبر «1».
و بأنه من باب زيد عدل و صوم في الإخبار بالمصدر عن اسم العين على جعل المصدر نفس الشخص على سبيل المبالغة و بأنّ المصدر بمعنى اسم الفاعل فالتقدير عسى زيد قائما، و رجح بما جاء في كلامهم عسيت صائما.
و قال الكوفيّون: إن الفعل المقترن بأن في محلّ رفع بدلا مما قبله بدل اشتمال كقوله تعالى: لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ لَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ «2».
أي لا ينهاكم اللّه عن أن تبروهم، فهو بدل من الذين لم يقاتلوكم.
قال الرضي: و الذي أرى أن هذا وجه قريب، فيكون في يا زيدون عسى أن تقوموا «3» قد جاء ما كان بدلا من الفاعل مكان الفاعل، و المعنى أيضا يساعد قولهم لأنّ عسى بمعنى يتوقّع، فمعنى «عسى زيد أن يقوم» أي يتوقّع و يرجى قيامه، و إنّما غلب فيه بدل الاشتمال، لأنّ فيه إجمالا، ثم تفصيلا، و في إبهام الشيء ثمّ تفسيره وقع عظيم لذلك الشيء في النفس، كما في ضمير الشأن، و أمّا عسيت صائما و عسى الغويرا بؤسا فشاذّان على تضمين عسى بمعنى كان.
و قال بعضهم: التقدير عسى الغوير أن يكون بؤسا، و عسيت أن أكون صائما.
و جاز حذف أن مع الفعل مع أنّها حرف مصدري لقوّة الدلالة، و ذلك لكثرة وقوع أن بعد مرفوع عسى، فهو كحذف المصدر و إبقاء معموله، انته «4».
__________________________________________________
(1) شرح الكافية في النحو: ج 2 ص 302.
(2) سورة الممتحنة: الآية 8.
(3) «الف»: يقوموا.
(4) شرح الكافية في النحو: ج 2 ص 303.
127
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الخامس و الأربعين ص 105
..........
و تكفير السيّئات: محوها و غفرانها.
يقال: كفر اللّه عنه الذنب تكفيرا أي محاه و غفره، و منه الكفّارة لأنّه تكفّر الذنب.
و قال الراغب: تكفير الذنب ستره و تغطيته حتى يصير بمنزلة ما لم يعمل و يصحّ أن يكون أصله إزالة الكفر و الكفران نحو التمريض في كونه إزالة المرض و تقذية العين إزالة القذى «1».
و الجنّات جمع جنّة و هي في الأصل المرة من مصدر جنّه إذا ستره، و تطلق على النخل و الشجر المتكاثف المظلّل بالتفاف أغصانه كأنّها لفرط تكاثفها و التفافها و تغطيتها لما تحتها نفس السترة، و تطلق على الأرض ذات الشجر.
قال الفراء: الجنّة ما فيه النخيل، و الفردوس ما فيه الكرم، فحقّ المصدر حينئذ أن يكون مأخوذا من الفعل المبني للمفعول و إنّما سميت دار الثواب بها مع أنّ فيها ما لا يوصف من الغرفات و القصور لما أنّها مناط نعيمها و معظم ملاذها و جمعها مع التكثير «2» لأنّها سبع على ما ذكره ابن عبّاس، و قيل ثمان، و قد تقدّم تعدادها في الرّوضة الثالثة «3».
و الجملة من قوله: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ* في محلّ نصب على أنّها صفة جنّات فإن أريد بها الأشجار فجريان الأنهار من تحتها ظاهر و إن أريد بها الأرض المشتملة عليها فلا بدّ من تقدير مضاف أي من تحت أشجارها و إن أريد بها مجموع الأرض و الأشجار فاعتبار التحتيّة بالنظر إلى الجزء الظاهر الصحيح «4» لاطلاق الجنة على الكلّ.
__________________________________________________
(1) المفردات: ص 435.
(2) «الف»: التنكير.
(3) ج 2 ص 71.
(4) «الف»: المصحح.
128
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الخامس و الأربعين ص 105
..........
روي أنّ أنهار الجنّة تجري في غير اخدود.
و «اللّام» في الأنهار للجنس، كما في قولك لفلان: بستان فيه الماء الجاري و التين و العنب، أو عوض عن المضاف إليه كما في قوله تعالى: وَ اشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً «1» أو للعهد و الإشارة إلى ما ذكر في قوله عزّ و جلّ: أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ «2» الآية.
و الأنهار: جمع نهر: بفتح الهاء و سكونها، و هو المجرى الواسع فوق الجدول و دون البحر كالنيل و الفرات، و التركيب للسعة، و المراد بها ماؤها على الإضمار أو على المجاز اللّغوي أو المجاري أنفسها و قد أسند إليها الجريان مجازا عقليّا كما في سال الميزاب، و قوله تعالى: يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ «3» ظرف ليدخلكم.
[ 1209] و الخزي: الذل و الهوان المقارن للفضيحة و الندامة، يقال: خزي الرجل خزيا من باب- علم-، و أخزاه اللّه أذلّه و أهانه و فضحه «و الذين آمنوا» عطف على النبيّ و فيه تعريض بمن اخزاهم اللّه من أهل الكفر و الفسوق و استحماد إلى المؤمنين على أنّه عصمهم من مثل حالهم، و قيل: هو مبتدأ خبره قوله تعالى: نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمانِهِمْ «4» و هو على الأوّل استئناف أو حال.
و قال المفسّرون: نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمانِهِمْ «5» أي على الصراط يوم القيامة، و هو دليلهم إلى الجنّة.
قيل المراد بالنور: الضياء الذي يرونه و يمرّون فيه.
و قيل نورهم: هداهم.
و عن قتادة: أنّ المؤمن يضيء له نوره كما بين عدن إلى صنعاء و دون ذلك، حتى
__________________________________________________
(1) سورة مريم: الآية 4.
(2) سورة محمد: الآية 15.
(3) سورة التحريم: الآية 8.
(4) سورة التحريم: الآية 8.
(5) سورة التحريم: الآية 8.
129
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الخامس و الأربعين ص 105
..........
إنّ من المؤمنين من لا يضيء له نوره إلّا موضع قدميه «1».
و قال عبد اللّه بن مسعود: يؤتون نورهم على أقدار أعمالهم، فمنهم من نوره مثل اجبل، و أدناهم نورا من نوره على إبهامه ينطفي مرّة و يقد أخرى «2».
و قال الضحاك: و بأيمانهم يعني كتبهم التي اعطوها و نورهم بين أيديهم «3».
و قال النيسابوري: الكمالات و الخيرات كلّها أنوار يوم القيامة و أكمل الأنوار معرفة اللّه سبحانه و إنّما قال: «بين أيديهم و بأيمانهم» لأنّ ذلك جعل امارة النجاة، و لهذا ورد أن السعداء يؤتون صحائف أعمالهم من هاتين الجهتين كما أنّ الأشقياء يؤتونها من شمائلهم وراء ظهورهم، و معنى سعي النور بين أيديهم و بأيمانهم سعيه بسعيهم متقدّما إيّاهم و جنيبا لهم «4».
و روي عن أبي عبد اللّه عليه السلام: في قوله تعالى: يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمانِهِمْ قال: أئمّة المؤمنين يوم القيامة تسعى بين أيدي المؤمنين و بأيمانهم حتى ينزلوهم منازل أهل الجنّة «5».
و في رواية أبي الجارود، عن أبي جعفر عليه السلام: في معنى الآية، فمن كان له نور يومئذ نجا و كل مؤمن له نور «6».
و قوله تعالى: يَقُولُونَ استئناف أو حال أيضا، و على القول الثاني خبر آخر للموصول أو حال منه [ 1210] أي يقولون: إذا طفئ نور المنافقين: «رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا» «7» خوفا من زواله على عادة البشريّة، أو يدعون بذلك تقرّبا إلى اللّه تعالى مع تمام
__________________________________________________
(1) مجمع البيان: ج 9- 10 ص 235.
(2) مجمع البيان ج 9- 10 ص 235.
(3) مجمع البيان ج 9- 10 ص 235.
(4) غرائب القرآن و رغائب الفرقان: ج 3 ذيل آية 13 من سورة الحديد.
(5) الكافي: ج 1، ص 195، ح 5.
(6) البرهان: ج 4، ص 357، ح 4.
(7) سورة التحريم: الآية 8.
130
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الخامس و الأربعين ص 105
و أنت الّذي زدت في السّوم على نفسك لعبادك تريد ربحهم في متاجرتهم لك و فوزهم بالوفادة عليك و الزّيادة منك فقلت تبارك اسمك و تعاليت: من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها، و من جاء نورهم، لأنّه يجوز أن يدعو المؤمن بما هو حاصل له مثل «اهدنا».
و قيل: تفاوت أنوارهم بحسب أعمالهم فيسألون إتمامه تفضّلا لا مجازاة لانقطاع التكليف و العمل يومئذ.
و قيل: السابقون إلى الجنّة يمرّون مثل البرق على الصراط و بعضهم كالريح و بعضهم حبوا و زحفا و أولئك الذين يقولون: «ربّنا أتمم لنا نورنا».
و قوله: «و اغفر لنا» أي ما كان منّا ممّا يوجب عدم إتمام النور «إنّك على كلّ شيء» من إطفاء النور و إتمامه.
قدير: فاعل لما تشاء لا يعجزك شيء و اغفلت الشيء إغفالا: تركته إهمالا من غير نسيان، و الاستفهام بالإنكار و النفي، أي لا عذر له و مداره القصد إلى الطعن و القدح في حاله و فعله.
[ 1211] و «الفاء» لترتيب إنكار إغفاله دخول المنزل مع تعاضد موجبات الدخول إليه و توفّر الدواعي إلى النزول به من فتح الباب إليه و هو التسوية و إقامة الدليل عليه و هو الآية الكريمة و كلّ من ذلك قاطع للعذر مزيح للغفلة بحيث لا يبقى لمن له أدنى تمييز شبهة عذر في الإغفال توجب الحجّة له أو ترفع الحجّة عليه، و اللّه أعلم.
[ 1212] زاد الشيء يزيد زيدا و زيادة فهو زائد و زدته أنا يستعمل لازما و متعديا: فأنا زائد ايّاه، و قد يعدّى ب «في» كعبارة الدعاء، و منه الحديث: «لا يزيد في العمر إلّا البرّ» «1».
و قال الزمخشري في الأساس: زاد اللّه ماله و زاد في ماله، «2» انته.
__________________________________________________
(1) سنن ابن ماجة: ج 2، ص 1334 ح 4022.
(2) أساس البلاغة ص 198.
131
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الخامس و الأربعين ص 105
بالسّيئة فلا يجزى إلّا مثلها و قلت مثل الّذين ينفقون أموالهم في سبيل اللّه كمثل حبّة انبتت سبع سنابل في كلّ سنبلة مائة حبّة و اللّه يضاعف لمن يشاء و قلت من ذا الّذي يقرض اللّه قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة و ما أنزلت من نظائرهنّ في القرآن من تضاعيف الحسنات.
و يحتمل أن يكون تعديته ب «في» على معنى يفعل الزيادة فيه كقوله: «يجرح في عراقيبها نصلي» أي يفعل الجرح في عراقيبها، و قد تقدّم بيان ذلك.
و السّوم مصدر سام البائع السلعة من باب- قال-: إذا عرضها للبيع و ذكر ثمنها و سامها المشتري أيضا طلب بيعها و عرف بأنّه طلب البيع بالثمن الذي يقدّر به المبيع.
و قوله: «على نفسك» أي على ذاتك كقوله تعالى: وَ يُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ* «1» أي ذاته.
قال الراغب: و هذا و إن حصل به من حيث المضاف و المضاف إليه ما يقتضي المغايرة و إثبات شيئين من حيث الغيار بينهما فلا شيء من حيث المعنى سواه تعالى عن الاثنينية من كلّ وجه «2».
«و الربح»: الزيادة الحاصلة في المبايعة.
و المتاجرة مفاعلة من التجارة: و هي التصرّف في رأس المال طلبا للربح، و تاجرت زيدا أوقعت معه التجارة.
قال في الأساس: تاجرت فلانا فكانت أربح متاجرة «3» قالوا: و ليس في كلام العرب تاء بعدها جيم في غير هذا اللفظة، و امّا تجاه فأصله و جاه و تجوز التاء فيه للمضارعة لا من سنخ الكلمة.
__________________________________________________
(1) سورة آل عمران الآية 28 و 30.
(2) المفردات: ص 501.
(3) أساس البلاغة: ص 60.
132
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الخامس و الأربعين ص 105
..........
و أعلم: انّه عليه السلام شبّه فعل الطاعات و الحسنات بالمتاجرة للّه سبحانه بجامع طلب المنفعة و هي استعارة تحقيقيّة تصريحيّة حيث أطلق اسم المشبّه به على المشبّه و ذكر الربح و السوم ترشيحا لها و في قوله عليه السلام: زدت في السوم على نفسك إيذان بكمال العناية بهم حيث جعله تعالى هو الطالب لمتاجرتهم إيّاه بدليل زيادته في السوم الذي هو في الأغلب من شأن البائع لا شأن المشتري إلّا أن يكون المشتري هو الراغب في السلعة و الطالب لبيعها و هي نكتة عجيبة قلّ من يتنبّه لها إلّا من نوّر اللّه قلبه لفهم مقاصده عليه السلام جعلنا اللّه منهم.
[ 1213] و فاز بالشيء فوزا: ظفر به مع السلامة.
و وفد عليه و إليه وفدا من باب- وعد- و وفودا و وفادة: ورد عليه منتجعا له، و مسترفدا إيّاه فهو وافد و هم وفد، كصاحب و صحب، و منه الحاج وفد اللّه.
و «الفاء»: من قوله «فقلت» للترتيب الذكري و هو عطف مفصّل على مجمل.
و تعاليت أي ارتفعت بذاتك و تنزّهت عن مماثلة المخلوقين في ذاتك و صفاتك و أفعالك و عن أن يحيط بك وصف الواصفين بل علم العارفين و تخصيص لفظ التعالي للمبالغة في ذلك منه تعالى لا على سبيل التكلّف كما يكون من البشر.
[ 1214] قوله تعالى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ* «1» في آخر سورة الأنعام قيل: معناه: أي من جاء بالخصلة الواحدة من خصال الطاعة فله عشر أمثالها من الثواب وَ مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ* «2» أي بالخصلة الواحدة من خصال الشر فلا يجزى إلّا مثلها «3».
و قيل: أي من جاء يوم القيامة بالأعمال الحسنة من المؤمنين إذ لا حسنة بدون
__________________________________________________
(1) سورة الانعام: الآية 160.
(2) سورة الانعام: الآية 160.
(3) مجمع البيان: ج 3- 4 ص 390.
133
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الخامس و الأربعين ص 105
..........
إيمان فله عشر حسنات أمثالها فاقام الصفة مقام الموصوف بعد حذفه كقراءة من قرأ عشر أمثالها بالرفع و التنوين على الوصف و من جاء بالسيئة أي بالأعمال السيّئة كائنا من كان من العالمين فلا يجزى إلّا مثلها و ذلك من عظيم فضل اللّه تعالى و جزيل إحسانه على عباده حيث لا يقتصر في الثواب على قدر الاستحقاق بل يزيد عليه و ربّما يعفو عن ذنوب المؤمن منّا منه عليه و تفضلا و إن عاقب عاقب على قدر الاستحقاق «1».
و قيل المراد بالحسنة التوحيد و بالسيئة الشرك «2» و الاولى حملهما على العموم.
و اختلف في أنّ هذه الحسنات العشرة التي وعدها اللّه تعالى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ* «3» هل يكون كلّها ثوابا أم لا؟
فقال الجبائي: العشرة تفضّل و الثواب غيرها إذ لو كان واحدة ثوابا و تسعة تفضّلا لزم أن يكون الثواب دون التفضّل فلا يكون للتكليف فائدة.
و قيل: بل كلّها ثواب «4»، و قال آخرون: لا يبعد أن يكون الواحد ثوابا و التسع تفضّلا إلّا أن الواحد يكون «5» أعلى شأنا من التسعة الباقية لمقارنته بالتعظيم و الاجلال للّذين «6» لولاهما لما حسن التكليف.
و يؤيّده: قوله تعالى: فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَ يَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ «7» و المفسّرون على أنّ العشر أقلّ موعود من الأضعاف و قد جاء الوعد بسبعين و بسبعمائة و بغير حساب.
__________________________________________________
(1) مجمع البيان: ج 3- 4 ص 390.
(2) مجمع البيان: ج 3- 4 ص 390.
(3) سورة الانعام: الآية 160.
(4) التفسير الكبير للفخر الرازي: ج 14 ص 9.
(5) «الف» يكون الواحد.
(6) «الف»: الذين.
(7) سوره النساء: 173.
134
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الخامس و الأربعين ص 105
..........
و قيل: ليس المراد التحديد و الحصر في عدد خاص بل الأضعاف و الكثرة مطلقا كقولك: لئن اسديت إليّ معروفا لأكافئك بعشر أمثاله و في الوعيد: لئن كلّمتني واحدة لاكلمنّك عشرا و قد وردت الرواية عن أبي ذرّ قال: حدّثني الصادق المصدّق عليه السلام إنّ اللّه قال: الحسنة عشر أو أزيد، و السيّئة واحدة أو اغفر فالويل لمن غلبت آحاده أعشاره «1».
و عن هشام بن سالم، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: كان عليّ بن الحسين صلوات اللّه عليه يقول: ويل لمن غلبت آحاده أعشاره فقلت له: و كيف هذا؟
فقال له: أما سمعت اللّه عزّ و جلّ يقول: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَ مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها «2» فالحسنة الواحدة إذا عملها كتبت له عشرا و السيّئة الواحدة إذا عملها كتبت له واحدة نعوذ باللّه ممّن يرتكب في يوم عشر سيّئات فلا تكون له حسنة واحدة فتغلب حسناته سيّئاته «3».
[ 1215] قوله عليه السلام: قوله تعالى مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ «4» في أواخر سورة البقرة، و المثل في أصل كلامهم بمعنى المثل و هو النظير، ثمّ قيل: للقول السّائر الذي مضربه بمورده مثل و لا يخلو من غرابة ثمّ حوفظ عليه من التغيير و أما هاهنا فاستعير المثل للحال و الصفة لغرابتها أي حالهم و صفتهم العجيبة الشأن التي هي كالمثل في الغرابة من حيث زكاء إنفاقهم عند اللّه سبحانه و زيادة مثوبتهم لديه و اضعافه تعالى له و لا بدّ من تقدير مضاف في أحد الجانبين ليصحّ التشبيه أي مثل نفقة الّذين ينفقون أو مثلهم كمثل باذر حبّة.
و سبيل اللّه دينه: فقيل: المراد به الجهاد و قيل: جميع ابواب الخير.
و جملة أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ «5» في موضع خفض نعت لحبّة و إسناد الإنبات
__________________________________________________
(1) مجمع البيان: ج 3- 4 ص 390.
(2) سورة الانعام: 160.
(3) معاني الأخبار: ص 248.
(4) سورة البقرة: آية 261.
(5) سورة البقرة: 261.
135
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الخامس و الأربعين ص 105
..........
إليها و المنبت في الحقيقة إنّما هو اللّه سبحانه إسناد مجازي من باب الاسناد إلى السبب كما يسند إلى الأرض و الربيع.
و معنى إنباتها سبع سنابل أن تخرج ساقا يتشعب منها سبع شعب لكلّ واحدة سنبلة و هذا التمثيل تصوير للاضعاف سواء وجد في الدنيا سنبلة بهذه الصفة أو لم توجد على أنه قد توجد في الذرة و الدخن في الأرض المغلّة بل أكثر من ذلك و إنما قال: «أنبتت» و لم يقل: تنبت تحقيقا لتصوير الاضعاف كأنّه حاضر بين يديه، «و سبع سنابل» مثل «ثلاثة فرق» «1» في اقامة جمع الكثرة مقام القلّة اتساعا.
و قوله تعالى: فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ «2» مبتدأ و خبره في موضع خفض صفة- لسنابل- و لك أن تجعل الجملة في موضع نصب على أنها صفة لقوله: «سبع سنابل» و السنبلة وزنها «فنعله» لقولهم: أسبل الزرع بمعنى سنبل إذا أخرج سنبله «3» «4».
و قوله عليه السلام: وَ اللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ «5» فاعل هنا بمعنى فعل كحافظ و سافر أي يضاعف تلك المضاعفة لمن يشاء لا لكل منفق لتفاوت حال المنفقين في الاخلاص و التعب و يضاعف سبع مائة و يزيد عليها أضعافها لمن يستحق ذلك في مشيئته و على حسب الإنفاقات و مواقعها و مصارفها و اخلاص أصحابها و لذلك تتفاوت مراتب الأعمال في مقادير الثواب، و اللّه أعلم.
[ 1216] قوله تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً «6» في أواخر الجزء الثاني
__________________________________________________
(1) «الف»: قروء.
(2) سورة البقرة: 261.
(3) «الف»: سنبلة
(4) مجمع البيان: ج 1- 2- ص 373. و فيه إذا صار فيه السنبل.
(5) سورة البقرة: 261.
(6) سورة البقرة: 245.
136
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الخامس و الأربعين ص 105
..........
من سورة البقرة.
و «من»: اسم استفهام في اللفظ و معناه الترغيب و إنّما بني الكلام على الاستفهام لأنه أدخل في الترغيب و الحثّ على الفعل من ظاهر الأمر و هو في موضع رفع بالابتداء.
و «ذا»: اسم إشارة و هو الخبر، و الموصول نعت له أو بدل منه و أجاز الكوفيّون كون «ذا» زائدة و الموصول مع صلته خبر المبتدأ، و ظاهر كلام جماعة أنه يجوز أن يكون «من» و «ذا» مركبتين كما في قولك: ما ذا صنعت؟ في أحد الوجهين و منع ذلك أبو البقاء في مواضع من إعرابه «1» و ثعلب «2» في أماليه و غيرهما و خصّوا ذلك ب «ما ذا» لأن «ما» أشدّ إبهاما من «من» لكون «من» تختصّ باولي العلم دون «ما» فحسن في «ما» أن تجعل مع غيرها كشيء واحد ليكون ذلك أظهر لمعناها و لأنّ التركيب خلاف الأصل و إنّما دلّ عليه الدليل مع «ما» و هو قولهم «لما ذا» بإثبات الألف.
«و قرضا»: اسم واقع موقع المصدر و هو الإقراض و قيل: يجوز أن يكون مفعولا به لأنّه يأتي بمعنى نفس المال المعطى، كما يأتي بمعنى الإقراض، و معنى كونه «حسنا»: أن يكون حلالا خالصا لا يختلط به الحرام، و أن يكون عن طيب نفس، و أن لا يشوبه منّ و لا أذى و لا يفعله رياء و سمعة، بل خالصا لوجه اللّه.
و قال الزجّاج: و لفظ القرض حقيقة في كلّ ما يفعل ليجازى عليه و أصله القطع «3».
و سمّي ما يدفعه الإنسان إلى آخر من ماله بشرط ردّ بدله قرضا لقطعه له من
__________________________________________________
(1) كليات أبي البقاء: ص 336 طبع مصر، سنة 1281 هجرية.
(2) «الف» تغلب.
(3) التفسير الكبير للفخر الرازي: ج 6 ص 167.
137
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الخامس و الأربعين ص 105
..........
ماله، و الأكثرون على أنّ لفظ القرض في الآية مجاز فإن القرض إنما يأخذه من يحتاج إليه لحاجته، و ذلك في حقّ اللّه محال، و لأنّ البدل في القرض المعتاد لا يكون إلّا بالمثل، و هاهنا يضاعف، و لأن المال الذي يأخذه المستقرض لا يكون ملكا له، و هاهنا المال المأخوذ ملك اللّه، ثم مع حصول هذه الفروق سمّى اللّه تعالى الإنفاق أو النفقة في سبيله قرضا له تنبيها على أن ذلك لا يضيع عند اللّه سبحانه، فكما أنّ القرض يجب أداؤه و لا يجوز الإخلال به، فكذا الثواب المستحق على ذلك واصل إلى المكلف لا محالة «1».
قوله تعالى فَيُضاعِفَهُ لَهُ «2» قرأ نافع و ابن كثير و أبو عمرو و حمزة و الكسائي:
فيضاعفه بالرفع و قرأ ابن عامر و عاصم: بالنصب «3».
قال أبو البقاء: الرفع عطف على يقرض أو على الاستئناف، أي فاللّه يضاعفه و في النصب وجهان:
أحدهما: أن يكون معطوفا على مصدر يقرض في المعنى و لا يصح ذلك إلّا باضمار «أن» ليصير مصدرا معطوفا على مصدر تقديره من ذا الذي يكون منه قرض فمضاعفه من اللّه.
و الوجه الثاني: أن يكون جواب الاستفهام على المعنى، لأنّ المستفهم عنه و إن كان هو المقرض في اللفظ فهو عن الإقراض في المعنى، فكأنّه قال أ يقرض اللّه أحدا فيضاعفه، و لا يجوز أن يكون جواب الاستفهام على اللفظ، لأنّ المستفهم عنه في اللفظ القرض لا المقرض، فإن قيل: لم لا يعطف على المصدر الذي هو قرضا كما يعطف الفعل على المصدر بإضمار «ان» مثل قول الشاعر:
للبس عباءة و تقرّ عيني
__________________________________________________
(1) التفسير الكبير للفخر الرازي: ج 6 ص 167.
(2) سورة البقرة: الآية 245.
(3) مجمع البيان: ج 1- 2- ص 348.
138
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الخامس و الأربعين ص 105
..........
قيل: لا يصحّ هذا لوجهين:
أحدهما: أن قرضا هنا مصدر مؤكّد و المصدر المؤكّد لا يقدّر بأن و الفعل.
و الثاني: إن عطفه عليه يوجب أن يكون معمولا ليقرض و لا يصحّ هذا في المعنى لأنّ المضاعفة ليست مقرضة، و إنّما هي فعل من اللّه و قرئ «يضعّفه» بالتشديد من غير ألف و هو للتكثير و أضعافا: جمع ضعف، و هو العين و ليس بمصدر، و نصبه على الحال من «الهاء» في يضاعفه، و يجوز أن يكون مفعولا ثانيا على المعنى، لأنّ معنى يضاعفه يصيّره أضعافا، و يجوز أن يكون جمع ضعف اسم وقع موقع المصدر فيكون انتصابه على المصدريّة، و جمعه لاختلاف جهات التضعيف بحسب اختلاف الإخلاص، و مقدار المقرض و اختلاف أنواع الجزاء «1».
روي عن الصادق عليه السلام أنّه قال: لما نزلت هذه الآية: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها*، قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «ربّ زدني» فأنزل اللّه سبحانه: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «رب زدني» فأنزل اللّه سبحانه مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً و الكثير عند اللّه لا يحصى «2».
[ 1217] و قوله عليه السلام: «و ما أنزلت من نظائرهنّ» في محل نصب عطفا على الجملة المقولة أي و قلت: ما أنزلت من نظائرهنّ.
و النظائر: الأمثال جمع نظيرة و هي المثل، و أصله من المناظرة كأن كلّ واحد من النظيرين ينظر إلى صاحبه فيماثله و يباريه.
«و نظائرهنّ في تضاعيف الحسنات» أي الآيات التي تضمّنت المزيد و الأضعاف في الثواب على العمل كقوله تعالى في سورة النمل و سورة القصص
__________________________________________________
(1) تفسير البيان في اعراب القرآن: ذيل الآية 245 من سورة البقرة.
(2) تفسير البرهان: ج 1، ص 234، ح 3.
139
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الخامس و الأربعين ص 105
و أنت الّذي دللتهم بقولك من غيبك و ترغيبك الّذي فيه حظّهم على ما لو سترته عنهم لم تدركه أبصارهم، و لم تعه أسماعهم، و لم تلحقه أوهامهم، فقلت فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ، وَ اشْكُرُوا لِي وَ لا تَكْفُرُونِ، و قلت لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَ لَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ و قلت: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ، إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ، فسمّيت دعاءك عبادة، و تركه استكبارا، و توعّدت على تركه دخول جهنّم داخرين.
مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها* «1».
و قوله تعالى في سورة النساء: وَ إِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَ يُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً «2».
و قوله في سورة الحديد: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَ لَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ «3».
و إلى غير ذلك من الآيات المنزلة في هذا المعنى، و اللّه أعلم.
[ 1218] دللته على الشيء و إليه من باب- قتل- دلالة: أرشدته إليه و الغيب في الأصل:
مصدر غاب الشيء إذا استتر عن العيون، و استعمل في كلّ غائب عن الحاسّة، و عمّا يغيب عن علم الانسان بمعنى الغائب، و المراد به هنا ما لا يقع تحت الحواس، و لا تقتضيه بداية العقول، و إنّما يعلم بالوحي و باخبار الأنبياء عليهم السلام و إضافته إليه تعالى لاختصاص علمه به تعالى كما قال سبحانه: وَ لِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ* «4» أي يختص «5» به علم ما غاب عن العباد فيهما.
__________________________________________________
(1) سورة: النمل: الآية 89 و سورة القصص: الآية 84.
(2) سورة: النساء: الآية 40.
(3) سورة: الحديد: الآية 11.
(4) سورة النحل: الآية 77.
(5) «الف»: اختصّ.
140
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الخامس و الأربعين ص 105
..........
و «من»: إبتدائيّة مثلها في قوله تعالى: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ* «1». في أحد الوجهين.
«و ترغيبك»: عطف على «قولك» المجرور بالباء.
و الحظّ: الجدّ و البخت و «على» متعلّق بدللتهم.
و «ما» موصولة أو نكرة موصوفة، و الجملة الشرطيّة بعدها صلة أوصفة.
و إدراك الشيء: عبارة عن الوصول إليه و الإحاطة به، و البصر إدراك حاسّة النظر، و قد يطلق على العين من حيث إنها محلّه، أي لم تصل إليه أبصارهم و لم تحط به.
[ 1219] و وعيت الحديث وعيا من باب- وعد- حفظته.
قال تعالى: وَ تَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ «2».
و السمع: إدراك القوّة السامعة و تطلق على الاذن لكونها محلّه كما في البصر أي لم تحفظه أسماعهم.
و لحقته ألحقه من باب- تعب- لحاقا أدركته، و المراد بالوهم «3» هنا الادراك المتعلّق بالقوة العقليّة المتعلّقة بالمعقولات و القوّة المتعلّقة بالمحسوسات جميعا و قد شاع ذلك في الاستعمال و دلّت عليه مضامين الأخبار كما نبّهنا عليه فيما تقدّم في الرياض السابقة، و الغرض أنّك لو لم تدلّهم ترشدهم إلى ذلك لم يمكنهم إدراكه بوجه، و هذا معنى الغيب و قد سبق معنى الذكر و الكلام عليه مستوفى فأغنى عن الإعادة، و معنى «اذكروني أذكركم» أي اذكروني بالطاعة أذكركم بالثواب.
و قيل: اذكروني بطاعتي أذكركم برحمتي «4».
و قيل: اذكروني بطاعتي أذكركم بمعونتي «5».
و قيل: اذكروني بالشكر أذكركم بزياده «6».
__________________________________________________
(1) سورة يوسف: الآية 102.
(2) سورة الحاقة: الآية 12.
(3) «الف»: بالفهم.
(4) مجمع البيان: ج 1- 2، ص 234.
(5) مجمع البيان: ج 1- 2، ص 234.
(6) مجمع البيان: ج 1- 2، ص 234.
141
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الخامس و الأربعين ص 105
..........
و قيل: اذكروني على ظهر الأرض أذكركم في بطنها «1».
و قيل: اذكروني في الدنيا أذكركم في العقبى «2».
و قيل: اذكروني في النعمة و الرخاء أذكركم في الشدّة و البلاء «3».
و قيل: اذكروني بالدعاء أذكركم بالإجابة «4».
و قيل: اذكروني في الخلوات أذكركم في الفلوات «5».
و قيل: اذكروني بالصدق و الإخلاص أذكركم بالخلاص و مزيد الاختصاص «6».
و قيل: اذكروني بالعبوديّة أذكركم بالربوبيّة.
و قيل: اذكروني بالفناء فيّ أذكركم بالبقاء بي «7» و كلّ ذلك عائد إلى حمل الذكر على ماله تعلّق بالثواب و إظهار الرضا و استحقاق المنزلة و الاكرام، فالحمل على جميع هذه الأقوال مفردة و مجموعة صحيح، و قد مرّ ذكر الشكر غير مرّة.
قال العلّامة النيسابوري: و في الآية تكليف بأمرين: الذكر و الشكر و إنّما عطف قوله «و لا تكفرون» بالواو ليعلم أنّ جحود النعمة منهيّ عنه كما أنّ الشكر مأمور به و لو قطع على طريقة قوله: «أقول له ارحل لا تقيمنّ عندنا» لأوهم أنّ المقصود بالذات هو الثاني و الأوّل في حكم المنحّى، و يحتمل من حيث العربيّة أن يكون «لا» نافية «و النون» ليست للوقاية، و محلّ الجملة النصب على الحال، أي اشكروا لي غير جاحدين لنعمتي «8» انته.
و إنما قال: من حيث العربيّة لأنّ القراءة لم ترد إلّا بكسر النون، على أنّها للوقاية دلالة على «الياء» المحذوفة و الأصل «و لا تكفروني» كما أثبتها ابن كثير في الوصل
__________________________________________________
(1) مجمع البيان: ج 1- 2 ص 234.
(2) مجمع البيان: ج 1- 2 ص 234.
(3) مجمع البيان: ج 1- 2 ص 234.
(4) مجمع البيان: ج 1- 2 ص 234.
(5) التفسير الكبير: ج 4 ص 162.
(6) التفسير الكبير: ج 4 ص 162.
(7) التفسير الكبير: ج 4 ص 162.
(8) تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان: ج 1 ص 167.
142
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الخامس و الأربعين ص 105
..........
دون الوقف قالوا: و الوجه حذفها لكراهيّة الوقف على الياء، و احتمال كون «لا» نافية كما ذكره يتعيّن معه فتح النون و لا تساعده القراءة.
(تنبيه) الآية المذكورة في سورة البقرة و التلاوة: «فاذكروني» بالفاء، و فيه دليل على جواز حكاية الجملة المقرونة بالفاء من كلامه تعالى بحذف الفاء و هذه المسألة أطنب فيها الشيخ بهاء الدين السبكي في شرح مختصر ابن الحاجب الأصولي و قرّر أنّه يجوز في مثل ذلك إثبات الفاء و سائر حروف العطف و حذفها و استشهد للأمرين بأخبار و أحاديث من طرقهم فممّا استشهد به على جواز الحذف:
قوله صلّى اللّه عليه و آله: حين سئل عن الخمر، ما أنزل عليّ فيها شيء إلّا هذه الآية الجامعة القاذّة: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ «1».
قال كذا رويناه في صحيح البخاري في الشرب «2» و في الجهاد «3»، و في علامة النبوّة «4»، و كذلك في مسلم «5»، و رأيته بخط النووي من غير فاء و عزاه إلى الصحيح «6».
و قوله صلّى اللّه عليه و آله: من نسي صلاة أو نام عنها فليصلّها إذا ذكرها لا كفارة لها إلّا ذلك و تلا: أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي «7».
__________________________________________________
(1) الدر المنثور: ج 6 ص 383.
(2) صحيح البخاري: ج 3 ص 149.
(3) صحيح البخاري: ج 4 ص 36.
(4) صحيح البخاري: ج 4 ص 253.
(5) صحيح مسلم: ج 2 ص 682، ذيل ح 24.
(6) شرح النووي لصحيح مسلم: ج 7 ص 69.
(7) صحيح البخاري: ج 1 ص 155 باب 36.
143
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الخامس و الأربعين ص 105
..........
قال: كذا رواه الشيخان و وقوعه في كلام سيّد العابدين عليه السلام حجّة عندنا على جوازه.
[ 1220] قوله عليه السلام: و قلت: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ الآية في سورة إبراهيم و أوّلها وَ إِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ «1» إلى آخرها.
و التأذّن: الايذان بمعنى الإعلام يقال: آذنه و تأذّنه مثل أوعده و توعده أي أعلمه أي و اذكروا إذ تأذّن ربّكم أي أذن إيذانا بليغا لا يبقى معه شائبة شبهة لما في صيغة التفعّل من معنى المتكلّف المحمول في حقه تعالى على غايته التي هي الكمال.
و جملة «لئن شكرتم» امّا مفعول لتأذّن لأنّه ضرب من القول، أو لقول مقدّر بعده كأنّه قيل: و إذ تأذّن ربّكم فقال: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ أي لئن شكرتم لي نعمتي لازيدنّكم نعمة إلى نعمة، و لئن كفرتم أي جحدتم نعمتي إنّ عذابي لشديد، فعسى يصيبكم منه ما يصيبكم، و من عادة الكرام التصريح بالوعد و التعريض بالوعيد فما ظنّك بأكرم الأكرمين، و يجوز أن يكون المذكور تعليلا للجواب المحذوف أي لأعذبنّكم، و اللّام في الموضعين مواطئة للقسم و كلّ من الجوابين سادّ مسدّ جوابي الشرط و القسم.
قال بعض المحققين: في تفسير هذه الآية: قد تقرّر أن الشكر بالحقيقة عبارة عن صرف العبد جميع أصناف ما أنعم اللّه تعالى به عليه فيما أعطاه لأجله، و لا شك أنّ المكلّف إذا سلك هذا الطريق كان دائما في مطالعة أقسام نعم اللّه و في ملاحظة دقائق لطفه و صنعه و في أعمال الجوارح في الأعمال الصالحة الكاسبة لأنوار الملكات الحميدة و شغل النفس بمطالعة النعم يوجب مزيد محبّة المنعم، و قد يترقّى العبد من هذه الحالة إلى أن يصير حبّه للمنعم شاغلا له عن رؤية النعم، و تصدر منه
__________________________________________________
(1) سورة إبراهيم: الآية 7.
144
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الخامس و الأربعين ص 105
..........
الأعمال الصالحة بطريق الاعتياد، حتّى يصير التطبّع طباعا و التكلّف خلقا، و هذا معنى امتراء الشكر مزيد الانعام، و قد تفيض عليه بحكم وعد اللّه الذي هو الحق و الصدق سجال مواهبه الدينيّة و الدنيوية لأنّه مهما صار مطيعا منقادا لواجب الوجود سبحانه تجلّى فيه نور الوجوب فلا غرو أن ينقاد لذلك النور كثير من الممكنات و ينفتح عليه باب التصرّف في الخلق بالحق للحق، و إن كان حال المكلّف بضدّ ما قلنا ظهر عليه أضداد تلك الآثار لا محالة و ذلك قوله تعالى: وَ لَئِنْ كَفَرْتُمْ يعني كفران النعمة إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ «1».
[ 1221] قوله عليه السلام: و قلت: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ الآية في سورة المؤمن، و أوّلها: وَ قالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ «2».
و أكثر المفسرين: على أنّ الدعاء هاهنا بمعنى العبادة «3».
و الاستجابة: بمعنى الإثابة و لما عبّر عن العبادة بالدعاء جعل الإثابة استجابة للمجانسة و ذلك لقوله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي «4».
و الدعاء بمعنى العبادة كثير في القرآن كقوله إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً «5».
روى النعمان بن بشير أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: الدعاء: العبادة و قرأ هذه الآية «6».
و جوّز آخرون أن يكون الدعاء و الاستجابة على ظاهرهما و يراد بعبادتي دعائي أي سؤالي، لأنّ الدعاء باب من العبادة، و يصدّقه قول ابن عبّاس أفضل
__________________________________________________
(1) سورة إبراهيم: الآية 7.
(2) سورة المؤمن: الآية 60.
(3) الجامع لاحكام القرآن: ج 15 ص 326.
(4) سورة: غافر: الآية 60.
(5) سورة: النساء: الآية 117.
(6) الكافي: ج 2 ص 467، ح 7 و لكن فيه «عن رجل».
145
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الخامس و الأربعين ص 105
..........
العبادة الدعاء «1»، و هو المروي عن أهل البيت عليهم السلام.
روى زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام قال: إن اللّه عزّ و جلّ يقول: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ قال: هو الدعاء و أفضل العبادة الدعاء «2».
و روى حمّاد بن عيسى، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: سمعته يقول:
«ادع و لا تقل قد فرغ من الأمر فإن الدعاء هو العبادة إنّ اللّه عزّ و جلّ يقول: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ و قال ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ «3».
و في رواية عنه عليه السلام قال: الدعاء هو العبادة التي قال اللّه عزّ و جلّ: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي الآية، ادع اللّه و لا تقل إنّ الأمر قد فرغ منه «4».
و قد تواترت الأخبار عنهم عليهم السلام في هذا المعنى و سبق ذكر كثير منها فيما تقدّم و هو صريح قوله عليه السلام في متن الدعاء: «فسمّيت دعائك عبادة».
و معنى قوله «داخرين»: أذلّاء صاغرين.
قال بعض أهل التحقيق: كلّ من دعا اللّه و في قلبه مثقال ذرّة من حبّ المال و الجاه و غير ذلك فدعاؤه لساني لا قلبي و لهذا قد لا يستجاب، لأنّه اعتمد على غير اللّه، و فيه بشارة هي أنّ دعاء المؤمن وقت حلول أجله يكون مستجابا البتّة لانقطاع تعلّقه حينئذ عمّا سوى اللّه تعالى.
[ 1222] قوله عليه السلام: «فسميت دعائك عبادة» «الفاء» للترتيب الذكري و إنّما سمّاه عبادة لأنّه أفضل أبوابها كما مرّ، فإنّ العبادة إظهار غاية التذلّل و لا أعظم في ذلك من الدعاء و السؤال المحقّق للحاجة و الافتقار و الخضوع و الانكسار و إنّما سمّى
__________________________________________________
(1) مجمع البيان: ج 7- 8 ص 529.
(2) الكافي: ج 2، ص 466، ح 1.
(3) الكافي: ج 2 ص 467 ح 5.
(4) الكافي: ج 2 ص 467 ح 7.
146
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الخامس و الأربعين ص 105
فذكروك بمنّك و شكروك بفضلك، و دعوك بأمرك، و تصدّقوا لك طلبا لمزيدك، و فيها كانت نجاتهم من غضبك و فوزهم برضاك، و لو دلّ مخلوق مخلوقا من نفسه على مثل الذي دلّلت عليه عبادك منك كان محمودا، فلك الحمد ما وجد في حمدك مذهب و ما بقي للحمد لفظ تحمد به و معنى ينصرف إليه.
تركه استكبارا لما فيه من التعظّم و عدم الإذعان له بالفاقة إليه عزّ و جلّ، كان التارك له أظهر من نفسه ما ليس له و هو الغنى عن ربّه سبحانه و هذا حقيقة الاستكبار المذموم.
قال الراغب: الاستكبار على وجهين:
أحدهما: أن يتحرى الإنسان و يطلب أن يكون كبيرا و ذلك متى كان على ما يجب، و في المكان الذي يجب، و في الوقت الذي يجب فمحمود.
و الثاني: أنّ يتشبّع فيظهر من نفسه ما ليس له و هذا هو المذموم، و على هذا ما ورد في القرآن «1» و اللّه اعلم.
[ 1223] «بمنّك»: أي بانعامك من «منّ عليه يمنّ منّا» من باب- قتل- أي أنعم عليه.
و الفضل: ما لا يلزم المعطي إعطاؤه، و لمّا كان ذكر العباد و شكرهم لباريهم تعالى بأمره إيّاهم و هدايته لهم منّة منه تعالى و فضلا كان ذلك متسبّبا عن منّه و فضله سبحانه و يحتمل ان تكون «الباء» للملابسة لكن قوله: «و دعوك بأمرك» يرجّح السّببيّة.
و تصدّق: أعطى صدقة، و هي ما يخرجه الانسان من ماله على وجه القربة كالزكاة، لكن الصدقة في الأصل تقال «2» للمتبرّع به، و الزّكاة للواجب، و يسمّى
__________________________________________________
(1) المفردات: ص 421 و فيه ان يصير كبيرا.
(2) «الف»: يقال.
147
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الخامس و الأربعين ص 105
..........
الواجب أيضا صدقة إذا تحرى صاحبه الصدق في فعله، و منه قوله تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً «1».
و «طلبا»: مفعول لأجله أي لأجل الطلب لمزيدك، و هو إمّا مصدر ميمي بمعنى الزيادة، أو اسم مفعول كالمبيع.
و قوله عليه السلام: «لك»: أي لأجلك لا لغرض من أغراض النفس و حظّ من حظوظها كالرياء، و السمعة، و فيه ظاهرا تأييد لقول من قال: بأنّ إرادة الفوز بثواب اللّه تعالى و السلامة من سخطه ليست أمرا مخالفا لإرادة وجه اللّه سبحانه، فإنّه عليه السلام جعل التصدّق له سبحانه لغرض طلب مزيده، و يحتمل أن يكون طلب المزيد علّة للتصدّق المعلّل على معنى أنّهم تصدّقوا لوجهك لانّهم طلبوا مزيدك، و من طلب مزيدك لازم الإخلاص في التصدق لك، نبّه على مثل ذلك صاحب الكشف في قوله تعالى: إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَ لا شُكُوراً. إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً «2».
قال صاحب الكشّاف: «إنّا نخاف» يحتمل أنّ إحساننا إليكم للخوف من شدّة ذلك اليوم لا إرادة مكافأتكم و يحتمل إنّا لا نريد منكم المكافأة لخوف عقاب اللّه على طلب المكافأة «3».
قال صاحب الكشف: فيكون على الاحتمال الثاني تعليلا لعدم إرادة الجزاء و الشكور ليبقى قوله لوجه اللّه خالصا غير مشوب بحظّ النفس من جلب نفع أو دفع ضرّ و لو جعل علّة للإطعام المعلّل على معنى إنّما خصّصنا الإحسان لوجهه تعالى لأنّا نخاف يوم جزائه و من خافه لازم الإخلاص لكان وجها، انته «4».
__________________________________________________
(1) سورة التوبة: الآية 103.
(2) سورة الدهر: الآية 9 و 10.
(3) تفسير الكشّاف: ج 4، ص 669.
(4) لا يوجد لدينا كتابه.
148
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الخامس و الأربعين ص 105
..........
قوله عليه السلام: «و فيها كانت نجاتهم من غضبك» قيل: الضمير عائد إلى الامور المذكورة من الذكر و الشكر و الدعاء و التصدّق.
و قيل: إلى الزيادة المطلوبة من التصدّق، و يحتمل عوده على الصدقة المدلول عليها بقوله: «فتصدّقوا لك» و أظهر من ذلك كلّه عوده إلى الدلالة التي تضمّنها «1» قوله عليه السلام في صدر هذا الفصل من الدعاء: «و أنت الذي دللتهم بقولك من غيبك» كما يقتضيه بلاغة النظم، و يقضي به الذوق السليم، و قد تقدّم الكلام على معنى غضبه و رضاه سبحانه.
[ 1224] قوله عليه السلام: «و لو دلّ مخلوق مخلوقا» إلى آخره.
«لو» حرف شرط لتقديره و فرضه واقعا في الماضي مع الجزم و القطع بانتفاء الشرط فيلزم انتفاء المشروط كما تقول: لو جئتني لأكرمتك، معلّقا الإكرام بالمجيء مع الجزم بانتفائه فيلزم انتفاء الإكرام، فهي إذن لامتناع الثاني، و هو الجزاء، لامتناع الأوّل، و هو الشرط، أي الدلالة على أن انتفاء الثاني في الخارج بسبب انتفاء الأوّل، لا أنّه يستدلّ بامتناع الأوّل على امتناع الثاني.
و جملة الشرط في الدعاء مستأنفة للاستدلال يقتضيه «2» العقل أنّ دلالته تعالى على ما دلّ عليه عباده نعمة مستوجبة للشكر مقتضية للحمد، فإنّ المخلوق الذي لو دلّ على مثل ذلك كان محمودا إنّما كان يدلّ عليه بمشيئته تعالى و قضائه و قدره و إقداره و إنّما هو كالواسطة في ذلك.
و الدال حقيقة ليس هو إلّا سبحانه، فإذا كان من كالواسطة مستوجبا للحمد بشهادة «3» العقول فالفاعل الحقيقي أولى بأن يكون محمودا.
__________________________________________________
(1) «الف»: تضمّنه.
(2) «الف»: بقضيّة.
(3) «الف»: بشهادات.
149
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الخامس و الأربعين ص 105
يا من تحمّد إلى عباده بالإحسان و الفضل، و غمرهم بالمنّ و الطّول، ما أفشى فينا نعمتك، و أسبغ علينا منّتك و أخصّنا ببرّك، هديتنا لدينك الّذي اصطفيت، و ملّتك التي ارتضيت، و سبيلك الّذي سهّلت، و بصّرتنا الزّلفة لديك و الوصول إلى كرامتك.
و في بعض النسخ: «كان موصوفا بالإحسان و منعوتا بالامتنان و محمودا بكلّ لسان».
[ 1225] و الفاء من قوله: «فلك الحمد» فصيحة «1» أي إذا كان الأمر كذلك فلك الحمد و «ما» في الفقرتين مصدريّة زمانيّة أي مدّة وجدان مذهب في حمدك و مدة بقاء لفظ للحمد، و المذهب هنا: يجوز أن يكون مصدرا ميميّا و أن يكون بمعنى الطريق، و على الوجهين فنسبته إلى الحمد مجاز عقلي.
و انصرف: مطاوع صرفت الشيء إلى كذا: رددته و رجعته إليه فانصرف: أي و ما بقي للحمد معنى ينصرف إلى حمدك أو ما بقي للحمد معنى ينصرف الحمد إليه.
[ 1226] تحمّد إلى عباده: أي خطب إليهم حمده و أراده منهم.
قال العلامة أبو الفضل الميداني في مجمع الأمثال: يروي قولهم: «من أنفق ماله على نفسه فلا يتحمّد به على الناس» موصولا ب «على» و «إلى» فمن وصله ب «على» أراد فلا يمتن به على الناس، و من وصله ب «إلى» أراد فلا يخطبن إليهم حمده «2»، انته.
و قد يقال في هذا المعنى: استحمد إليه بصيغة الاستفعال.
قال الزمخشري في الأساس: استحمد اللّه إلى خلقه بإحسانه إليهم و إنعامه عليهم «3».
__________________________________________________
(1) «الف»: فصيحيّة.
(2) مجمع الامثال: ج 2 ص 317.
(3) أساس البلاغة: ص 94.
150
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الخامس و الأربعين ص 105
..........
و غمره يغمره غمرا من باب- قتل- غطّاه و ستره و الطول بالفتح: الإنعام.
و فشى الشيء يفشو فشوا و فشوءا: ظهر و انتشر.
و سبغت النعمة سبوغا من باب- قعد-: اتسعت و فاضت، و أسبغها اللّه أفاضها و أوسعها و أتمّها.
و خصصته بكذا أخصّه خصوصا من باب- قعد-: إذا جعلته له دون غيره أي ما أشدّ مخصوصيّتنا ببرّك، و مجيء اسم التفضيل للمفعول و إن كان على غير القياس، إلّا إنّه قد سمع في الفصيح نحو «أعذر» و «أشهر» و «أشغل و «أجن»، و حيث كان عليه السلام أفصح العرب في زمانه لا يحتاج فيه إلى السماع من غيره قطعا، على أنّ بعض علماء العربيّة أجازه قياسا بقلّة إذا أمن اللبس قال ابن مالك في التسهيل:
و قد يبنى من فعل المفعول إن أمن اللبس «1».
و «البرّ» بالكسر: الفضل الواسع و التوسّع في فعل الخير.
[ 1227] و جملة «هديتنا» مستأنفة استئنافا بيانيّا كأنّه سئل كيف تعجّبت من كثرة فشو نعمتي فيكم؟.
فقال: «هديتنا لدينك الذي اصطفيت» إلى آخره.
و قد تقدّم الكلام على معنى «الدّين» و «الملّة» و الفرق بينهما غير مرّة.
و سبيله تعالى: طريقه التي يتوصّل بها إليه.
و تسهيلها: عبارة عن تيسير سلوكها لمن هداه اللّه إليها.
و بصّرته الشيء تبصيرا: عرّفته إيّاه و أوضحته له.
و الزُّلفة بالضمّ: القربة و الحظوة و المنزلة، أي عرّفتنا القربة عندك و المنزلة لديك لنطلبها، أو عرّفتنا كيف نطلبها و نصل إليها.
و الكرامة: اسم من أكرمه إذا أوصل إليه نفعا شريفا ليرفع به منزلته و يعلي مقداره، و اللّه أعلم.
__________________________________________________
(1) تسهيل الفوائد و تكميل المقاصد لابن مالك: ص 78 طبع مصر سنة 1387 هجري.
151
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الخامس و الأربعين ص 105
اللّهمّ و أنت جعلت من صفايا تلك الوظائف، و خصائص تلك الفروض، شهر رمضان الذي اختصصته من سائر الشّهور، و تخيّرته من جميع الأزمنة و الدّهور، و آثرته على كلّ أوقات السّنة بما أنزلت فيه من القرآن و النور و ضاعفت فيه من الإيمان، و فرضت فيه من الصّيام و رغّبت فيه من القيام، و أجللت فيه من ليلة القدر الّتي هي خير من ألف شهر.
[ 1228] الصّفايا: جمع صفيّة كعطيّة و عطايا و هي مؤنّث الصفي و هو الخيار و الخالص من كلّ شيء، و منه الصفي و الصفيّة لما يصطفيه الرئيس لنفسه من المغنم قبل القسمة، أي يختاره كالفرس و السيف و الجارية.
و الوظائف: جمع وظيفة: و هي ما يقدّر من عمل و رزق و نحوه.
يقال: وظف له وظيفة، و عليه كلّ يوم وظيفة من عمل، و وظف عليه العمل، و هو موظّف عليه.
و «اللام» في الوظائف و الفروض: للعهد، و الإشارة إليها ب «تلك» للتعظيم تنزيلا لبعد درجاتها و رفعة محلّها منزلة بعد المسافة.
و الخصائص: جمع خصيصة بمعنى مخصوصة، من خصّ الشيء إذا أفرده بما لا يشاركه فيه الجملة.
و الفروض: جمع فرض بمعنى المفروض من فرض اللّه الأحكام فرضا: أوجبها، و حدّ بأنه ما أمر اللّه عباده أن يفعلوه كالصلاة و الزكاة و الصوم و الحج.
و قيل: هو ما ثبت بدليل مقطوع به كالكتاب و الإجماع فهو أخصّ من الواجب.
و اختصصته: أي: خصصته.
و سائر الشهور: أي: جميعها بشهادة ما بعده، و فيه شاهد لاستعمال «سائر» بمعنى الجميع و هي لغة صحيحة ذكرها الجوهري «1»، و وافقه عليها أبو منصور الجواليقي في
__________________________________________________
(1) الصحاح: ج 2، ص 692.
152
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الخامس و الأربعين ص 105
..........
أوّل كتابه شرح أدب الكاتب «1».
فلا عبرة بقول صاحب الكشف: لم يذكر ذلك غير الجوهري.
و قد تقدّم الكلام على ذلك بما لا مزيد عليه في أواخر الروضة الاولى.
[ 1229] و تخيّرته: أي: اخترته بمعنى فضّلته، و منه قوله تعالى: وَ لَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ «2» أي: فضّلناهم.
و آثرته بالمدّ: بمعنى فضّلته أيضا، و مصدره الإيثار.
و «الباء» من قوله «بما أنزلت» سببيّة.
و من القرآن: بيان ل «ما».
و ضاعفت الشيء: ضممت إليه مثله فصاعدا.
قال بعضهم: مضاعفة الإيمان فيه إمّا بمعنى إكماله بسبب زيادة العبادات فيه، أو هي عبارة عن زيادة العبادات و الأعمال.
قال الراغب: يقال لكل واحد من الاعتقاد و القول الصدق و العمل الصالح إيمان «3».
قلت: و يحتمل أن يكون المراد بالإيمان هنا ضدّ الإخافة «4» مصدر آمنه إذا أزال خوفه.
و منه اسمه تعالى: «المؤمن» لأنّ اللّه سبحانه جعله جنّة من النّار كما ورد في الصحيح، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.
و لمّا كان أعظم الخوف خوف النار كان أعظم الأمن الأمن منها.
__________________________________________________
(1) شرح أدب الكاتب: ص 48.
(2) سورة الدخان: الآية 32.
(3) المفردات: ص 26.
(4) «الف»: الامانة.
153
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الخامس و الأربعين ص 105
ثمّ آثرتنا به على سائر الأمم، و اصطفيتنا بفضله دون أهل الملل، فصمنا بأمرك نهاره، و قمنا بعونك ليله، متعرّضين بصيامه و قيامه لما عرّضتنا له من رحمتك، و تسبّبنا إليه من مثوبتك و أنت المليء بما رغب فيه إليك، الجواد بما سئلت من فضلك، القريب إلى من حاول قربك.
فصح إضعاف الإيمان فيه.
مع ما ورد انّه تغلق فيه أبواب النار و تفتح فيه أبواب الجنان «1».
و أنّ للّه في كلّ ليلة منه عتقاء و طلقاء من النّار «2»، و اللّه أعلم.
[ 1230] و «اجللت فيه من ليلة القدر»: أي عظّمت قدرها من الجلالة و هي عظم القدر، و قد تقدّم الكلام على ليلة القدر و معنى كونها خيرا من ألف شهر.
[ 1231] «آثرتنا به» أي أكرمتنا و فضّلتنا به.
«و اصطفيتنا»: أي اخترتنا بسبب فضيلته دون أهل الملل أي متجاوزا أهل الملل في اصطفائنا به فهو ظرف مستقرّ وقع حالا من ضمير المخاطب و قد تقدّم الكلام عليه مستوفى.
و هاتان الفقرتان صريحتان في أن صوم شهر رمضان من خصائص هذه الأمة، خلافا لما ذهب إليه بعض أهل السنّة مستندا إلى ما ذكره ابن أبي حاتم عن ابن عمر: صيام رمضان كتبه اللّه على الامم قبلكم «3».
قال القسطلاني: و اسناده مجهول «4».
__________________________________________________
(1) الكافي: ج 4 ص 67 ح 6.
(2) الكافي: ج 4 ص 68 ح 7.
(3) تفسير ابن كثير: ج 1 ص 376.
(4) شرح صحيح البخاري: ج 3 ص 344.
154
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الخامس و الأربعين ص 105
..........
و قد تقدّمت الرواية عن الصادق جعفر بن محمد عليهما السلام: في شرح الدعاء السابق على هذا أنّ شهر رمضان لم يفرض اللّه صيامه على أحد من الأمم قبلنا «1».
و اختلفوا في التشبيه الذي دلّت عليه «الكاف» في قوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ «2».
فعن أبي عبد اللّه عليه السلام: أنّ المراد بقوله: «الذين من قبلكم» الأنبياء فإنّه كان مفروضا عليهم دون الأمم ففضلت به هذه الأمة و فرض صيامه على رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و على أمته «3».
و قيل: المراد بالتشبيه في أصل الوجوب دون الوقت و المقدار.
و المعنى: أنّ الصّوم عبادة قديمة ما أخلى اللّه امّة من ايجابها عليهم و لم يوجبها عليكم وحدكم.
و عن أمير المؤمنين عليه السلام: في قوله «الذين من قبلكم» أوّلهم آدم عليه السلام «4».
و الغرض من ذلك تأكيد الحكم و الترغيب فيه و تطييب انفس «5» المخاطبين به فإنّ الشاق إذا عمّ سهل عمله.
و قيل: كان صوم رمضان مكتوبا على اليهود و النصارى أمّا اليهود: فتركته و صامت يوما من السنة زعموا أنّه يوم غرق فرعون و كذبوا في ذلك فإنّه كان يوم عاشوراء.
و أمّا النصارى: فإنّهم صاموا رمضان حتى صادفوا حرّا شديدا فاجتمعت آراء علمائهم على تعيين فصل واحد بين الصيف و الشتاء فجعلوه في الربيع و زادوا عليه
__________________________________________________
(1) تفسير نور الثقلين: ج 1 ص 162 ح 546.
(2) سورة البقرة: الآية 183.
(3) البرهان: ج 1، ص 180، ح 2.
(4) تفسير الكشاف: ج 1 ص 225.
(5) «الف» و تطيّب نفس.
155
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الخامس و الأربعين ص 105
..........
عشرة أيّام كفّارة لما صنعوا فصار أربعين، ثمّ مرض ملكهم و وقع فيهم الموت فزادوا عشرة أيّام فصار خمسين.
و «الفاء» من قوله عليه السلام: «فصمنا بأمرك نهاره» عاطفة سببيّة.
[ 1232] و «متعرّضين» حال من ضمير المتكلّم مع غيره و العامل فيها الفعلان من قوله:
«صمنا و قمنا» على طريق التنازع.
يقال: عرّضه لكذا فتعرّض: إذا تصدّى له و طلبه.
و منه «تعرضوا لنفحات اللّه» «1».
و تسبّب إلى الشيء توصّل إليه.
[ 1233] و «الواو» من قوله «و أنت المليء» ابتدائية و الجملة استيناف تذييل لما قبلها مقرّر لمضمونه من استحقاق التعرض لرحمته و التسبّب لمثوبته مفيد لاهليّته سبحانه لذلك و المليء مهموز على «فعيل»: الغنيّ المقتدر.
يقال: هو مليئ بذلك: أي مضطلع به قادر عليه و قد ملأ بالضمّ ككرم ملأه «2» و هم مليئون به و ملاء.
و جاد يجود من باب- قال- جودا بالضمّ: تكرّم فهو جواد، و جاد بماله: بذله.
و القرب: خلاف البعد و يستعملان في الزمان و المكان و هما من عوارض الجسميّة، و اللّه تعالى منزّه عن ذلك، فالمراد بقربه سبحانه: دنوّه بجوده من قابل فضله.
قال الراغب: قرب اللّه تعالى من العبد: هو الافضال عليه و الفيض لا بالمكان.
و لهذا روي أنّ موسى عليه السلام قال: «إلهي أ قريب أنت فأناجيك، أم بعيد
__________________________________________________
(1) النهاية لابن الأثير: ج 5 ص 90. و فيه: «لنفحات رحمة اللّه تعالى».
(2) «الف»: ملاءة.
156
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الخامس و الأربعين ص 105
و قد أقام فينا هذا الشّهر مقام حمد، و صحبنا صحبة مبرور، و أربحنا أفضل أرباح العالمين، ثمّ قد فارقنا عند تمام وقته، و انقطاع فاناديك؟ فقال: لو قدّرت لك البعد لما انتهيت إليه، و لو قدّرت لك القرب لما اقتدرت عليه. و قرب العبد من اللّه في الحقيقة التخصّص بكثير من الصفات التي يصحّ أن يوصف اللّه تعالى بها و إن لم يكن وصف الإنسان به على الحدّ الذي يوصف به تعالى نحو الحكمة و العلم و الرحمة و نحو ذلك، و ذلك يكون بإزالة الأوساخ من الجهل و الطيش و الغضب و الحاجات البدنيّة بقدر طاقة البشر و ذلك قرب روحاني لا بدنيّ.
و على هذا القرب نبّه عليه السلام: فيما ذكر عن اللّه «من تقرّب منّي شبرا تقرّبت منه ذراعا».
و قوله عنه: «ما تقرّب إليّ عبد بمثل ما افترضت عليه و أنّه ليتقرّب إليّ بعد ذلك بالنوافل حتّى احبّه فإذا أحببته كنت له سمعا و بصرا فبي يسمع و بي يبصر» «1» الخبر.
و حاولت الشيء محاولة: طلبته.
و قيل: المحاولة طلب الشيء بحيلة.
[ 1234] أقام بالمكان إقامة: مكث فيه.
و المقام بالضم: مصدر ميميّ بمعنى الإقامة و نصبه على المصدريّة و إضافته إلى الحمد للملابسة كما صرّح به الرضي أي مقاما محمودا.
قال: و هم كثيرا ما يضيفون الموصوف إلى مصدر الصفة نحو: «رجل سوء» و «رجل صدق» «2».
__________________________________________________
(1) المفردات للراغب: ص 399.
(2) شرح الكافيه في النحو: ج 1 ص 305.
157
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الخامس و الأربعين ص 105
مدّته، و وفاء عدده، فنحن مودّعوه وداع من عزّ فراقه علينا و غمّنا و أوحشنا انصرافه عنّا، و لزمنا له الذّمام المحفوظ، و الحرمة المرعيّة، و الحقّ المقضيّ.
و صرّح بعضهم أنّه من باب إضافة الموصوف إلى الصفة على أنّ المصدر صفة وصف به للمبالغة سواء كان بمعنى الفاعل نحو: «رجل صدق» أي صادق أو بمعنى المفعول نحو: «مقام رضي» أي مرضيّ.
و صحبت الشيء أصحبه من باب- علم- صحبة: لازمته.
قال ابن فارس: كلّ شيء لازم شيئا فقد صحبه «1».
و المبرور: اسم مفعول من برّه إذا أحسن إليه و رفق به و تحرّى ما يحبّه و إضافة الصحبة إليه من باب إضافة المصدر إلى المفعول ليكون الشهر هو البارّ و مصحوبه هو المبرور و ذلك لكثرة ما فيه من المثوبات و الخيرات و أسباب الرحمة و المغفرة.
و في نسخة: صحبة مبرورة أي مقبولة، من برّ اللّه حجّه أي: قبله.
[ 1235] و أربحته إرباحا من باب- أكرم-: أي أعطيته ربحا بالكسر و هو الزيادة الحاصلة في المبايعة، ثمّ يتجوّز به في كلّ ما يعود من ثمرة عمل و جمعه أرباح كجذع و اجذاع.
و فارقته مفارقة و فراقا: انفصلت عنه و الاسم الفرقة بالضمّ.
و عند هنا: ظرف زمان نحو: «عند طلوع الشمس».
و تمام الشيء: انتهاؤه إلى حدّ لا يحتاج إلى شيء خارج عنه فإن احتاج إلى شيء خارج عنه فهو ناقص.
و انقطع الشيء انقطاعا: ذهب، و منه قولهم: «انقطع الحرّ و البرد».
و مدّة الشيء بالضّم: وقته و زمانه.
و الوفاء: بلوغ التمام، و منه: «درهم واف» أي تام الوزن «2».
__________________________________________________
(1) معجم مقاييس اللغة: ج 3 ص 335.
(2) المفردات: ص 528.
158
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الخامس و الأربعين ص 105
و «عدده» أي كميّته و هي أيّامه المعدودة.
[ 1236] و «الفاء» من قوله: «فنحن» للسببيّة أي فبسبب ذلك نحن مودّعوه.
و عزّ فراقه: أي عظم و صعب من قولهم: «عزّ عليّ كذا» إذا اشتدّ و صعب «1».
و منه قوله تعالى: عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ «2».
و غمّنا: أي أحزننا، و أصل الغمّ التغطية و الستر و منه: «غمّ الهلال» «3» بالبناء للمفعول إذا ستر بغيم أو نحوه و سمّي الحزن غمّا لأنّه يغطّي السرور.
و أوحشنا: أي اهمّنا. قال في الصحاح: الوحشة: الخلوة و الهمّ، و قد أوحشت الرّجل فاستوحش «4» انته.
و أصله: من الوحش و هو خلاف الانس.
و انصرافه عنّا: أي ذهابه.
و لزم الشيء يلزم من باب- علم- لزوما: ثبت و وجب. و يقال: لزمه ذلك أيضا إذا تعلّق به.
و الذّمام: العهد سمّي بذلك لأن الرجل يذمّ على إضاعته.
و المحفوظ: اسم مفعول من حفظت العهد إذا راعيته و منعته من الضياع، أي الذمام و العهد الذي من حقّه أن يحفظ كقوله تعالى: كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلًا «5» أي: من حقّه أن يسأل أو يطلب.
[ 1237] و الحرمة بالضّم: ما لا يحلّ انتهاكه.
__________________________________________________
(1) المفردات: ص 333.
(2) سورة التوبة: الآية 128.
(3) النهاية لابن الأثير: ج 3 ص 388. و فيه: غم علينا الهلال.
(4) الصحاح: ج 3 ص 1025.
(5) سورة الفرقان: الآية 16.
159
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الخامس و الأربعين ص 105
فنحن قائلون: السّلام عليك يا شهر اللّه الأكبر، و يا عيد أوليائه، السّلام عليك يا أكرم مصحوب من الأوقات، و يا خير شهر في الايّام و السّاعات، السّلام عليك من شهر قرّبت فيه الآمال، و نشرت فيه الأعمال، السّلام عليك من قرين جلّ قدره موجودا و أفجع فقده مفقودا، و مرجوّ آلم فراقه، السّلام عليك من أليف آنس مقبلا فسرّ، و أوحش منقضيا فمضّ، السّلام عليك من مجاور رقّت فيه القلوب و قلّت فيه الذّنوب.
و رعيتها: حفظتها، أي الحرمة الحقيقة «1» أن ترعى و تحفظ.
و الحقّ: هنا بمعنى الواجب، و اللّازم، و منه: «و كان حقّا علينا نصر المؤمنين» «2».
و قضيت الحقّ: أدّيته و قمت به من القضاء بمعنى الفصل كأنّه فصل الأمر فيه بأدائه.
و المقضيّ: أي الذي من حقّه أن يقضى.
إضافة الشهر إلى اللّه تعالى للتعظيم، و وصفه بالأكبر لأنّه أفضل الشهور.
و العيد في اللّغة: ما يعود إلى الإنسان في وقت معلوم و منه العيد، لأنّه يعود كلّ سنة بفرح جديد.
و قال صاحب المجمل: و العيد كلّ يوم فيه جمع و اشتقاقه من «عاد يعود» كأنهم عادوا إليه، و قيل: من العادة لأنّهم اعتادوه «3»، انته.
و قيل: «العيد» السرور العائد، و لذلك يستعمل في كلّ وقت فيه مسرّة و إنّما
__________________________________________________
(1) «الف» الحقيقيّة.
(2) سورة الروم: الآية 47.
(3) معجم مقاييس اللغة: ج 4 ص 183.
160
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الخامس و الأربعين ص 105
..........
جعله عليه السلام عيدا لأوليائه دون غيرهم لسرورهم و ابتهاجهم به دون من سواهم.
قال بعضهم:
جاء الصيام و جاء الخير أجمعه رتل القرآن و تهليل و تسبيح
[ 1238] و معنى كونه أكرم مصحوب من الأوقات: أنّه أشرف الأوقات المصحوبة.
قال الراغب: كلّ شيء يشرّف في بابه فإنّه يوصف بالكرم قال تعالى:
وَ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ، و قال: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ «1».
و قال بعضهم: الكرم ينعت به كلّ ما يرضى و يحمد في بابه. فيقال: مكان كريم و زمان كريم إذا كان كلّ منهما مرضيّا فيما يتعلّق به من المنافع، قال تعالى:
وَ مَقامٍ كَرِيمٍ «2».
و خير من قوله «خير شهر»: للتفضيل، يقال: هذا خير من هذا، أي يفضله و إسقاط الألف منه و من شرّ- مرادا بهما التفضيل- هي لغة جميع العرب ما عدا بني عامر فإنّهم يقولون: أخير و أشرّ على القياس.
و «من» في قوله «من شهد»: بيانيّة و هي و مخفوضها في محلّ نصب على الحال من كاف الخطاب.
[ 1239] و قرب الآمال فيه: عبارة عن قرب نجاحها و حصولها و ذلك لأنّه من أعظم أوقات الإجابة و مظانّها فكأن الآمال قريبة الحصول فيه لأنّ الإنسان إذا دعا اللّه تعالى بنجاح أمله فيه أو شك أن يستجاب له.
قيل: و يحتمل أن يراد بقرب الآمال فيه عدم طولها و لا يخفى بعده.
و المراد بالأعمال هنا الاعمال الصالحة.
__________________________________________________
(1) المفردات ص 429.
(2) سورة الشعراء: الآية 58.
161
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الخامس و الأربعين ص 105
..........
و نشرها: عبارة عن بثّها و بسطها لكثرة القيام بها في هذا الشهر دون غيره.
أو بمعنى احيائها من نشر اللّه الموتى بمعنى أنشرهم أي أحياهم يقال: نشرهم اللّه و أنشرهم بمعنى.
[ 1240] و القرين: المقارن و المصاحب من «قرنت البعير بالبعير» إذا جمعت بينهما بحبل.
و جلّ الشيء يجلّ بالكسر: عظم فهو جليل.
و «جلّ قدره» أي: عظمت حرمته و مقداره.
و موجودا: نصب على الحال أي حال كونه و تحقّقه.
و الفجيعة: الرزيّة و قد فجعته المصيبة فجعا من باب- نفع- أوجعته فهو مفجوع، و الثابت في عامّة النسخ أفجع بالهمزة و لم يذكره أصحاب اللّغة بل صرّح صاحب المجمل: بأنّه لم يتكلّم به، قال: ميّت فاجع و مفجع جاء على أفعل و لم يتكلّم به «1».
و في نسخة ابن إدريس فجع بدون همزة و هو المسموع.
و فقد الشيء: عدمه بعد وجوده فهو أخصّ من العدم لأنّ العدم يقال فيه و فيما لا يوجد.
و مفقودا: حال مؤكدة لفهم معناها ممّا قبلها.
و المرجوّ: اسم مفعول من رجوته بمعنى أمّلته، و رجاؤه: عبارة عن رجاء حصول الآمال فيه فإيقاعه على الزمان من باب المجاز العقلي.
و الألم: محركة؛ الوجع الشديد، يقال: «الم الرجل بالكسر ألما»، و يعدّى بالهمزة فيقال: آلمه إيلاما فتألّم.
[ 1241] و الأليف: اسم فاعل «كعليم» من ألفته ألفا من باب- علم- إذا أنست به و أحببته، و الاسم الالفة بالضمّ.
و آنسني الشيء إيناسا: سكن إليه قلبي، و هو ضدّ الإيحاش.
__________________________________________________
(1) لم نعثره في المجمل بل وجدناه في محكم اللغة: ج 1 ص 205 و فيه افجع.
162
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الخامس و الأربعين ص 105
السّلام عليك من ناصر أعان على الشّيطان، و صاحب سهّل سبل الإحسان، السّلام عليك ما أكثر عتقاء اللّه فيك، و ما أسعد من رعى حرمتك بك!، السّلام عليك ما كان أمحاك للذّنوب، و أسترك لأنواع العيوب، السّلام عليك ما كان أطولك على المجرمين، و أهيبك في صدور المؤمنين، السلام عليك من شهر لا تنافسه الأيّام، السّلام عليك من شهر هو من كلّ أمر سلام، السلام عليك غير كريه المصاحبة، و لا ذميم الملابسة.
و انقضى الشيء: ذهب و تصرّم.
و مضّه الوجع و الهمّ و أمضّه بالهمزة و بدونها: بلغ منه و أقلقه.
[ 1242] و المجاور: الجار في السكن من جاوره مجاورة إذا لاصقه في السكن أو قرب مسكنه منه.
قال الراغب: و قد تصوّر من الجار معنى القرب، فقيل لما قرب من غيره: جاوره و تجاوروا «1».
و رقّ القلب: لان أي خشع.
«و قلّة الذنوب فيه»: باعتبار التناهي عنها و باعتبار غفرانها، و التجاوز عنها، و اللّه أعلم.
[ 1243] لمّا كان الزمان من الأسباب المعدّة لحصول ما يحصل في هذا العالم من الخير و الشرّ، و كان شهر رمضان من الأزمنة التي أعدّها اللّه تعالى لإخبات النفوس و إقصارها عن المعاصي و القيام بالطاعات و كسب المثوبات، حتّى أنّ أكثر من مرد على الفسق و الفجور يتناهى فيه عمّا كان يرتكبه في غيره و ينتهكه من الحرمات.
شبّهه عليه السلام بالناصر المعين على الشيطان، و الصاحب المسهّل سبل
__________________________________________________
(1) الراغب: ص 103.
163
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الخامس و الأربعين ص 105
..........
الإحسان و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: أنّه تعالى وكّل بكلّ شيطان سبعة أملاك في شهر رمضان فليس بمحلول حتّى ينقضي «1».
[ 1244] و أما كثرة عتقاء اللّه فيه: فقد ورد بذلك أخبار عديدة فمنها ما روي عن الصادق عليه السلام: إذا كان أوّل ليلة من شهر رمضان غفر اللّه لمن شاء من الخلق فإذا كان الليلة التي تليها ضاعف كلما اعتق، و هكذا فإذا كان آخر ليلة ضاعف فيها كلّما اعتق «2».
و السّعادة: معاونة الامور الإلهيّة للإنسان على نيل الخير، و تضادّها الشقاوة، يقال: سعد يسعد من باب- تعب- سعدا، و أسعده اللّه فهو مسعود، و لا يقال: مسعد.
و رعى حرمته: حفظها و لم ينتهكها.
و «الباء» من قوله: «بك» للسّببيّة، ورعى حرمته عبارة عن تعظيم قدره باجتناب ما يكره من قول و فعل فيه كما روي عن أبي عبد اللّه عليه السلام أنّه قال:
إذا صمت فليصم سمعك و بصرك و شعرك و جلدك و عدّد أشياء غير هذا «3».
و قال: لا يكون يوم صومك كيوم فطرك «4».
و عنه عليه السلام: إذا صمتم فاحفظوا ألسنتكم، و غضوا أبصاركم، و لا تنازعوا و لا تحاسدوا «5».
[ 1245] و المحو: إزالة الأثر و محو الذنوب غفرانها. و قيل: محوها من صحائفها.
و الستر: تغطية الشيء، و معنى ستره للعيوب كونه سببا لترك ذكرها بالتجاوز عنها فلا يطّلع عليها أحد، و إسناد المحو و الستر إلى الشهر من باب المجاز العقلي.
__________________________________________________
(1) من لا يحضره الفقيه: ج 2، ص 98، ح 1837.
(2) الاقبال لابن طاووس ص 3.
(3) الكافي: ج 4 ص 87 ح 1.
(4) الكافي: ج 4 ص 87 ح 1.
(5) الكافي: ج 4 ص 87 ح 3.
164
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الخامس و الأربعين ص 105
..........
[ 1246] و الطول و القصر: من الأسماء المتضائفة و يستعملان في الأعيان و الأعراض كالزمان و نحوه، قال تعالى: فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ «1».
و الإجرام: اكتساب الإثم، يقال: أجرم فهو مجرم، و معنى شدّة طوله على المجرمين: استثقالهم له و كراهيتهم إيّاه فهم يرون أيّامه أطول الأيّام و شهره أطول الشّهور.
قيل لمدني: أ تحبّ شهر رمضان؟ فقال: و اللّه ما أتهنّأ بشهور سائر السنة من أجله فكيف أحبّه.
و نظر ماجن إلى هلال شهر رمضان فقال: قد جئتني بقرينك قطع اللّه أجلي إن لم أقطعك بالأسفار.
و قال محمّد بن إسحاق الطرسوسي:
نهار الصيام حلول الشقاء و ليل التراويح ليل البلاء
تمارض يحلّ لك الطّيبات و بعض التمارض كلّ الشّفاء
و من استثقالهم له أنّهم يعبّرون عن انقضائه بعبارات اصطلحوا عليها، فيقولون:
وقع الشهر في الأنين: مرادهم أنّه يقال فيه: أحد و عشرين، ثاني و عشرين فيكون الأنين فيه و في أمثالهم: إذا وقع رمضان في الأنين خرج شوّال من الكمين.
و يقولون: وقع رمضان في الواوات يريدون أنّه جاوز العشرين فلا يذكر إلّا بواو العطف.
و في ذلك يقول: محمّد بن عليّ بن منصور بن بسّام:
قد قرّب اللّه منا كلّ ما شسعا كأنّي بهلال الفطر قد طلعا
فخذ للهول في شوّال أهبته فإن شهرك في الواوات قد وقعا
و مدح بعض الشعراء نقيبا بقصيدة يهنيه فيها بشهر رمضان أوّلها:
__________________________________________________
(1) سورة الحديد: الآية 16.
165
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الخامس و الأربعين ص 105
..........
أيّامنا بك كلها رمضان
فقال له: طوّال و اللّه مكروه و منغصه «1» إليّ، و حرمه فلم يعطه شيئا، نسأل اللّه التوفيق لما يحب و يرضى.
و هابه يهابه من باب- تعب- هيبة: خافه و حذره و يقال: بمعنى أجلّه و وقّره و عظّمه أيضا.
قال ابن فارس: الهيبة: الإجلال «2».
و كلا المعنين محتمل هنا فمعنى كونه مخوفا في صدور المؤمنين خوفهم من التقصير في حقّه، و ارتكاب المعاصي فيه و معنى كونه موقّرا معظّما ظاهر.
[ 1247] و نافسته منافسة: باريته «3» في الكرم، و نافست في الشيء: رغبت فيه على وجه المعارضة و المغالبة عليه.
و قال الراغب: المنافسة: مجاهدة النفس للتشبّه بالأفاضل و اللحوق بهم من غير إدخال ضرر على غيره «4» انته.
و المعنى: أنّ الأيّام لا تباريه و لا تعارضه في فضله إذ كان أفضل الشهور و سيّدها كما ورد في الحديث.
[ 1248] و السلام: مصدر بمعنى السلامة، و هي الخلوص و التعرّي من الآفات أي هو سلامة من كلّ أمر و امتناع تقديم معمول المصدر عليه إنّما هو في صورة «5» انحلاله لان و الفعل فقد تقدّم عن ابن هشام أنّه قال في قول كعب:
في خلقها عن بنات الفحل تفضيل
إنّ قوله عن بنات الفحل، يتعلّق بتفضيل و إن كان مصدرا لأنّه ليس بمنحلّ لان و الفعل و من ظنّ أنّ المصدر لا يتقدّم عليه معموله مطلقا واهم، و هو إمّا على
__________________________________________________
(1) «الف» منغصته.
(2) معجم مقاييس اللغة: ج 6 ص 22.
(3) «الف»: باديته.
(4) المفردات: ص 501.
(5) كذا و في نسخة «صدره».
166
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الخامس و الأربعين ص 105
167
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الخامس و الأربعين ص 105
عليك كم من سوء صرف بك عنّا، و كم من خير افيض بك علينا، السّلام عليك و على ليلة القدر الّتي هي خير من ألف شهر، السّلام عليك ما كان أحرصنا بالأمس عليك و أشدّ شوقنا غدا إليك، السّلام عليك و على فضلك الّذي حرمناه، و على ماض من بركاتك سلبناه.
الدعاء على المفعول لأجله.
و السأم: بالتحريك: الملالة ممّا يكثر لبثه، يقال: سئمة سأما من باب- تعب- و سأمة بالمدّ بمعنى مللته و يعدّى بالحرف أيضا فيقال: سئمت منه و في التنزيل:
لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ «1».
[ 1252] و طلب الشيء قبل وقته كناية عن تمني حصوله و ذلك لمحبّته و شوق النفس إليه كما أنّ الحزن عليه قبل فوته لشدّة الرغبة في بقائه و الحرص على اقتنائه و إلى هذا المعنى أشار الشاعر بقوله:
و لم أرقطّ أشقى من محبّ و إن وجد الهوى حلو المذاق
تراه باكيا في كلّ حين لخوف تفرّق أو لاشتياق
[ 1253] و «كم» هنا: خبريّة بمعنى كثير و هي في حيّز الرفع بالابتداء و خبرها صرف.
و «من»: مزيدة و لو حذفت لكان ما بعدها مجرورا بإضافة «كم» إليه أي:
كثير من السوء صرف بك عنّا.
و مثله «و كم من خير افيض بك علينا»: و «الباء» من «بك» في الموضعين إمّا سببيّة أو ظرفيّة، و صرف اللّه عنه السوء ردّه عنه.
و فاض الخير: كثر، و أفاضه: كثّره، [ 1254] و قد سبق الكلام على ليلة القدر و كونها خيرا من ألف شهر.
[ 1255] و الحرص: فرط الإرادة.
__________________________________________________
(1) سورة فصلت: الآية 49.
168
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الخامس و الأربعين ص 105
اللّهمّ إنّا أهل هذا الشّهر الّذي شرّفتنا به، و وفّقتنا بمنّك له حين جهل الاشقياء وقته و حرموا لشقائهم فضله، أنت وليّ ما آثرتنا به من معرفته، و هديتنا له من سنّته و قد تولّينا بتوفيقك صيامه و قيامه على و أمس: اسم علم على اليوم الذي قبل يومك الذي أنت فيه بليلة، و يستعمل فيما قبله من الزمن الماضي مجازا كما استعمل هنا، و منه قوله تعالى: كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ «1».
و غد: اليوم الذي يأتي بعد يومك الذي أنت فيه بليلة، ثمّ توسّعوا فيه فأطلقوه على البعيد المترقّب من الزمان، و هو المراد هنا، و أصله غدو كفلس لكن حذفت اللام فجعلت الدال حرف إعراب، و قد يستعمل على أصله كقوله: إنّ مع اليوم أخاه غدوا.
[ 1256] و حرمناه: أي منعناه بانقضائه.
و السلب: نزع الشيء من الغير قهرا قال تعالى: وَ إِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ «2» و في التعبير عن فواته بالسلب ايذان بكراهة مضيّه و أنّه لم يكن عن رضى بل عن قهر لا كما عليه أكثر الناس من فرحهم و استبشارهم بانقضائه و انصرامه، و اللّه أعلم.
[ 1257] تصدير الجملة بحرف التأكيد لوفور النشاط و الرغبة، أو لكمال العناية و الاهتمام، أو لإظهار كمال التضرّع و الابتهال فإنّ كلّا من ذلك يناسب المقام.
و أهل هذا الشهر: أي المختصّون به اختصاص الرجل بأهله و قرابته.
و الشرف: علوّ المنزلة، و شرّفه اللّه بكذا أعلى منزلته به، وفّقه اللّه لكذا توفيقا سدّده و جعله موافقا له.
و المنّ: الإحسان.
__________________________________________________
(1) سورة يونس: الآية 24.
(2) سورة الحج: الآية 73.
169
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الخامس و الأربعين ص 105
تقصير، و أدّينا فيه قليلا من كثير، اللّهمّ فلك الحمد إقرارا بالإساءة و اعترافا بالإضاعة، و لك من قلوبنا عقد النّدم، و من ألسنتنا صدق الاعتذار، فأجرنا على ما أصابنا فيه من التّفريط أجرا نستدرك به الفضل المرغوب فيه، و نعتاض به من أنواع الذّخر المحروص عليه، و أوجب لنا عذرك على ما قصّرنا فيه من حقّك، و أبلغ بأعمارنا ما بين أيدينا من شهر رمضان المقبل، فإذا بلّغتناه فأعنّا على تناول ما أنت أهله من العبادة و أدنا إلى القيام بما يستحقّه من الطّاعة و أجر لنا من صالح العمل ما يكون دركا لحقّك في الشّهرين من شهور الدّهر.
و الحين: وقت حصول الشيء، و هو مبهم المعنى و يتخصّص بالمضاف إليه أي وقت جهل الأشقياء وقته.
و الجهل على ثلاثة أضرب:
أحدها: خلوّ النفس من العلم و هذا المعنى هو الأصل.
و الثاني: اعتقاد الشيء بخلاف ما هو عليه.
و الثالث: فعل الشيء بخلاف ما حقّه أن يفعل سواء اعتقد فيه اعتقادا صحيحا أو فاسدا كمن يترك الصلاة عمدا، و هذا المعنى هو المراد هنا، و لذلك وصف أصحابه بالشقاء فأسنده إلى الأشقياء و هم التاركون لصيامه فجهلهم لوقته عبارة عن إهمالهم له و إعراضهم عمّا يجب فيه من صيام و غيره.
و الشقاء: المضرّة اللاحقة في العاقبة، لكن المراد به هنا سوء صنيعهم الذي هو سبب شقائهم و لذلك علّل به حرمانهم فضله و نظير ذلك قوله تعالى: أَ لَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَ كُنَّا قَوْماً ضالِّينَ «1».
__________________________________________________
(1) سورة المؤمنون: الآية 105 و 106.
170
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الخامس و الأربعين ص 105
..........
قال أمين الإسلام الطبرسي في مجمع البيان: يعني استعلت علينا سيئآتنا التي أوجبت لنا الشقاوة و لمّا كانت سيّئاتهم التي شقوا بها سبب شقاوتهم سمّيت شقاوة توسّعا «1» انته.
و المعنى: أنّهم حرموا لتركهم صيامه و قيامه الموجب لشقائهم فضله و ما قد يتوهم من أنّ المراد بالشقاء ما كتب عليهم من الشقاء الأزلي يبطله أنّه لا يكتب عليهم من السعادة و الشقاء إلّا ما علم اللّه تعالى أنّهم يفعلونه باختيارهم ضرورة أنّ العلم تابع للمعلوم.
[ 1258] و الوليّ: فعيل بمعنى فاعل من وليه إذا قام به.
و آثرته بالمدّ: فضّلته أي: بما فضّلتنا به من معرفته و العلم به.
و السنّة: الطريقة، أي: هديتنا له من طريقة صيامه و قيامه و ما يجب فيه و يحرم و يندب و يكره.
و في نسخة: «من سننه» بلفظ الجمع.
و تولّيت الأمر: تقلّدته و قمت به.
و على: بمعنى مع، أي مع تقصير كقوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ «2» أي: مع ظلمهم.
و الأداء: تسليم عين الثابت في الذمّة بالسبب الموجب كالوقت للصلاة، و الشهر للصوم إلى من يستحقّ ذلك الواجب و لمّا كان ما يستحقّه تعالى على العبد من الطاعات أكثر من أن تفي به طاقة البشر كما ورد عن أبي الحسن عليه السلام: إنّ اللّه لا يعبد حق عبادته «3»، قال عليه السلام: و أدّينا فيه قليلا من كثير.
__________________________________________________
(1) مجمع البيان: ج 7- 8، ص 119.
(2) سورة الرعد: الآية 6.
(3) الكافي: ج 2 ص 72 ج 1.
171
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الخامس و الأربعين ص 105
..........
[ 1259] قوله عليه السلام: «اللّهمّ فلك الحمد إقرارا بالإساءة و اعترافا بالإضاعة» الفاء لسببيّة العمل فيه مع التقصير للحمد فإنّه يقتضيه و إن قلّ، و نصب اقرارا و اعترافا يحتمل المصدريّة و الحاليّة و المفعول لأجله أي: حمد إقرار و اعتراف، أو مقرّا و معترفا، أو للإقرار و الاعتراف.
و المراد بالإضاعة هنا الإهمال و التقصير في الأعمال و أصلها الإهلاك من ضاع الشيء يضيع ضياعا بالفتح إذا هلك و أضاعه إضاعة أهلكه إهلاكا فاطلقت على الإهمال من باب إطلاق المسبّب على السبب، لإنّ إهمال الشيء يفضي إلى هلاكه و ذهابه.
و العقد: نقيض الحلّ ثمّ أطلق على إحكام الأمر و إبرامه و تأكيده، و منه عقد العهد و اليمين إذا أكّدهما يعني لك من قلوبنا تأكيد الندم و تحقيقه.
و قال ابن الأثير في النهاية: و في حديث الدعاء «لك من قلوبنا عقد الندم» يريد عقد العزم على الندامة و هو تحقيق التوبة «1».
و صدق الاعتذار: عبارة عن مطابقته لما في الضمير و الاعتقاد، يقال: اعتذر اعتذارا إذا أتى بعذر.
[ 1260] و أجره يأجره: من بابي- ضرب- و- قتل- و آجره بالمدّ لغة ثالثة إذا أثابه.
و التفريط: التقصير، يقال: ما فرّطت في كذا أي ما قصرت و هو من حيث هو لا يقتضي المثوبة لكن الاعتراف به و الندم عليه من موجباتها لأنّ من عرف تقصير نفسه و نقصها كان في مقام الذّل و الفقر و الانكسار و لا عبوديّة أشرف منها و لذلك ورد في الحديث عنهم عليهم السلام أكثر من أن تقول: اللّهم لا تخرجني من التقصير «2» أي من الاعتراف به.
__________________________________________________
(1) النهاية لابن الأثير: ج 3 ص 270.
(2) الكافي: ج 2 ص 73 ح 4.
172
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الخامس و الأربعين ص 105
..........
و عن أبي جعفر عليه السلام أنّه قال لبعض أصحابه: «لا أخرجك اللّه من النقص و التقصير «1»» أي: من أن تعدّ طاعتك ناقصة و نفسك مقصّرة.
و استدركت الشيء بالشيء: حاولت إدراكه به، و منه: استدراك ما فات.
و الفضل: الخير و الزيادة و الإحسان.
و اعتاض: أخذ العوض.
و الذخر بالضمّ: الذخيرة من ذخرت الشيء ذخرا من باب- نفع-: أعددته لوقت الحاجة و الاسم الذخر بالضمّ أيضا.
[ 1261] و أوجب له الشيء: أثبته له.
و عذرته فيما صنع من باب- ضرب-: رفعت عنه اللوم فهو معذور أي: غير ملوم و الاسم العذر و تضمّ الذال للاتباع و تسكن و الجمع أعذار.
و بلغت به المكان بلوغا من باب- قعد- أي: بلغته و أوصلته إليه، و منه الحديث قيل للقمان: ما بلغ بك ما ترى.
قال الطيبي في شرح المشكاة: أيّ شيء بلغك إلى هذه الرتبة العليّة التي نراك فيها.
و ما بين أيدينا أي: ما نستقبله لأنّ ما يستقبله الإنسان يكون بين يديه و أصل ذلك في الأجسام ثمّ استعمل في المعاني توسّعا.
و أقبل الشهر و العام إقبالا و قبل قبولا من باب- قعد- فهو مقبل و قابل خلاف أدبر قالوا: يقال في المعاني قبل و أقبل معا و في الأشخاص أقبل بالألف لا غير.
[ 1262] و إعانته تعالى: توفيقه و تسديده بإزاحة العلل و تقوية العزيمة.
و التناول في الأصل: أخذ الشيء باليد يقال: تناولت الكتاب إذا أخذته بيدك ثمّ استعمل في مطلق الفعل توسعا، كما وقع هنا أي: أعنّا على فعل ما أنت
__________________________________________________
(1) الكافي: ج 2 ص 73 ح 2.
173
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الخامس و الأربعين ص 105
..........
أهله من العبادة أي: ما نستوجبه منها يقال: هو أهل لكذا أي: مستوجب له و حقيق به و منه «اللّهمّ أهل الثناء و الحمد».
و أدّاه إلى كذا: أوصله إليه.
و قام بالأمر يقوم به قياما: راعاه و حفظه.
[ 1263] و أجرى له نفقة جعلها جارية أي: دارّة متّصلة.
و صالح العمل: ما لا فساد فيه.
و الدرك بفتحتين: اسم من أدركت الشيء إذا لحقته و وصلت إليه و إسكان الراء لغة أي: وفّقنا دائما لأن نعمل من عمل «1» الصالح ما يكون إدراكا لحقّك، أي لما ثبت و وجب لك من الطاعة و العبادة في الشهرين: أي الماضي و القابل من شهري رمضان و الظرف لغو متعلّق بالدرك، و قيل: مستقرّ حال من حقّك.
و قوله: «من شهور الدّهر» في محلّ نصب على الحال من الشهرين، و فائدة القيد بذلك تعميم الشهرين لكلّ ماض و قابل من شهري رمضان في مدّة العمر و دفع توهّم كون المراد بهما الشهر الذي هو فيه و قابله من شهر رمضان، و المراد بالدهر: مدّة العمر، كما تقول: لا أكلّمه الدّهر، تريد لا اكلّمه إلى آخر عمري، و نظير هذا القيد في التعميم قوله تعالى: وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ «2».
قال العمادي: «من النساء» متعلق بمحذوف وقع حالا من المحصنات أي:
كائنات من النساء، و فائدته تأكيد عمومها لا دفع توهم شمولها للرّجال بناء على كونها صفة للأنفس كما توهم «3» انته.
و ما قيل: أنّ «4» في قوله: «من شهور الدهر» إشارة إلى ما بينهما من الامتياز لا معنى له، و اللّه أعلم.
__________________________________________________
(1) «الف»: العمل.
(2) سورة النساء: الآية 24.
(3) تفسير أبي السعود: ج 2 ص 163.
(4) «الف»: من
174
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الخامس و الأربعين ص 105
اللّهمّ و ما ألممنا به في شهرنا هذا من لمم أو إثم، أو واقعنا فيه من ذنب، أو اكتسبنا فيه من خطيئة على تعمّد منّا، أو على نسيان ظلمنا فيه أنفسنا، أو انتهكنابه حرمة من غيرنا، فصلّ على محمّد و آله، و استرنا بسترك، و اعف عنّا بعفوك، و لا تنصبنا فيه لأعين الشّامتين، و لا تبسط علينا ألسن الطّاعنين، و استعملنا بما يكون حطّة و كفّارة لما أنكرت منّا فيه برأفتك الّتي لا تنفد، و فضلك الّذي لا ينقص.
[ 1264] ألمّ بالمكان إلماما: نزل به و لم يطل فيه لبثه، و ألمّ بالامر لم يتعمّق فيه و ألمّ بالطعام لم يسرف في أكله. و اللمم بفتحتين: قيل: مقاربة الذنب، و قيل: فعل الصغيرة تم لا يعاوده كالنظرة و القبلة.
و في الكشّاف في قوله تعالى: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَ الْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ اللمم: ما قلّ و صغر، و منه: اللّمم: المسّ من الجنون و اللّوثة منه، و ألمّ بالمكان إذا قل فيه لبثه، و ألمّ بالطعام: قل منه أكله، و المراد الصغائر من الذّنوب «1».
و قال الراغب: اللمم: مقاربة المعصية و يعبّر به عن الصغيرة، و يقال: يفعل كذلك لمما أي: حينا بعد حين، و قوله تعالى: إِلَّا اللَّمَمَ من قولك: ألممت بكذا أي: نزلت به و قاربته من غير مواقعة، و يقال: زيارته لمام أي: قليلة «2».
و عن أبي عبد اللّه عليه السلام: اللمم الرجل يلمّ بالذنب فيستغفر اللّه منه «3».
و عنه عليه السلام: «هو الذنب يلمّ به الرجل فيمكث ما شاء اللّه ثمّ يلمّ به بعد «4».
و عنه عليه السلام: ما من مؤمن إلّا و له ذنب يهجره زمانا ثم يلمّ به و ذلك
__________________________________________________
(1) الكشاف: ج 4 ص 425، و الآية 31 من سورة النجم.
(2) المفردات: 454.
(3) الكافي: ج 2 ص 442 ح 3.
(4) الكافي: ج 2 ص 441 ح 1.
175
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الخامس و الأربعين ص 105
..........
قول اللّه عزّ و جلّ: إِلَّا اللَّمَمَ «1».
و عن أحدهما عليهما السلام: هو الهنة بعد الهنة أي: الذنب بعد الذنب يلمّ به العبد «2».
و الإثم قيل: هو الكبيرة، و قيل: هو جنس يشتمل على كبائر الذنوب و صغائرها، و قيل: هو اسم للأفعال المبطئة عن الثواب، و قوله عزّ و جلّ: فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ «3» أي في تناولهما إبطاء عن الخيرات.
و واقعت الأمر: خالطته، و منه: الوقاع للجماع «4».
و قال صاحب المجمل: واقع الامور مواقعة و وقاعا: داناها «5».
و الذنب: يستعمل في كلّ فعل تستوخم عقباه، و الأصل فيه الأخذ بذنب الشيء، يقال: ذنبته ذنبا إذا أخذت بذنبه فسمّي بذلك اعتبارا بما يحصل من عاقبته.
[ 1265] و الخطيئة: السيّئة، و قد يفرّق بينهما بأنّ الخطيئة: ما لا تكون عن قصد و تعمّد لأنّها من الخطأ، و السيّئة: ما يكون مقصودا إليه في نفسه.
و قيل: الخطيئة؛ الكبيرة من خطأ إذا قصد الذنب لا من أخطأ إذا قصد شيئا و اتّفق منه غيره.
و قوله: «على تعمّد» متعلّق بجميع الافعال المذكورة قبله على طريق التنازع أو بمحذوف وقع حالا من ضمير المتكلّم مع غيره أي: كائنين على تعمّد، و تعمّدت الشيء تعمّدا: قصدت إليه بالنيّة و هو خلاف السهو و النسيان، و عرّف النسيان
__________________________________________________
(1) الكافي: ج 2 ص 242 ح 3.
(2) الكافي: ج 2 ص 441 ح 2.
(3) سورة البقرة: الآية 219.
(4) مجمع البحرين: ج 4 ص 408.
(5) لم نعثر عليه في المجمل بل وجدناه في تاج العروس: ج 5 ص 551 نقلا عن صاحب المحكم.
176
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الخامس و الأربعين ص 105
..........
بالغفلة عن معلوم يقظة.
فإن قلت: ما وقع عن نسيان متجاوز عنه لقوله عليه السلام: «رفع عن امّتي الخطأ و النسيان و ما استكرهوا عليه» «1» فما معنى سؤال «2» العفو عنه؟.
قلت: النسيان قد يكون منشأه التفريط و قلّة المبالات فما يكون عن مثله غير متجاوز عنه ألا ترى أنّ من ترك التلاوة و تغافل عن تعاهد القرآن حتى نسيه فإنّه يكون ملوما على نسيانه بخلاف ما لو واظب على تلاوته ثمّ نسيه فإنه يكون معذورا و من اشتغل بشيء من الشواغل حتّى نسي الصلاة ففاته أدائها كان مؤاخذا لتفريطه فيها و قلّة مبالاته بها بخلاف من أكل أو شرب و هو صائم ناسيا، و الحاصل أنّه ذكر النسيان و مراده ما هو مسبّب عنه من تفريط و إغفال على أنّ العلم بأنّ النسيان و ما وقع عنه مغفور لا يمنع من حسن طلب العفو عنه بالدعاء فربّما يدعو الداعي بما يعلم أنّه حاصل له قبل الدعاء من فضل اللّه تعالى، إمّا لاعتداد تلك النعمة و إمّا لاستدامتها أو لغير ذلك كقوله تعالى: قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ «3» و قول إبراهيم عليه السلام: وَ لا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ «4».
قوله عليه السلام: «ظلمنا فيه أنفسنا أو انتهكنا به حرمة من غيرنا» في محلّ نصب على الحال من ضمير المتكلّم مع غيره باضمار قد عند من أوجبها في الماضي المثبت إذا وقع حالا و هم البصريّون غير الأخفش و ذهب الكوفيّون غير الفرّاء إلى عدم الوجوب استدلالا بقوله تعالى: أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ «5» و بقول الشاعر «6»:
كما انتفض العصفور بلّله القطر
و لك جعلها في محلّ خفض صفة للتعمّد أو النسيان و الضمير في قوله: «فيه»
__________________________________________________
(1) عوالي اللئالي: ج 1 ص 232.
(2) «الف»: السؤال من العفو.
(3) سورة الانبياء: الآية 112.
(4) سورة الشعراء: الآية 87.
(5) مغني اللبيب: ص 229.
(6) «الف»: الشاعرة.
177
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الخامس و الأربعين ص 105
..........
عائد إلى الأمور المعدودة من اللمم و الإثم و الذنب و الخطيئة أو التعمّد و النسيان، و إنّما أفرد الضمير لأنّ المعنى في أحدها لمحلّ العطف ب «أو» كما تقول: زيد أو عمرو أو بكر ضربته و لا تقول: ضربتهم إذ المعني أحدهم و فائدة التقييد بهذه الجملة التعميم لكلّ من الامور المذكورة.
و في: إمّا سببيّة بمعنى الباء، أي بسببه أو ظرفيّة مجازيّة بتشبيه ملابسة الظلم لأحد الامور المذكورة بملابسة المظروف للظرف فتكون لفظة «في» استعارة تبعيّة.
[ 1266] و «الفاء» من قوله: «فصلّ على محمد و آله» رابطة للجواب كقوله تعالى: ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ «1».
فإن قلت: جواب اسم الشرط المرفوع بالابتداء لا بدّ له من ضمير يربطه و لا ضمير هنا في الجواب؟.
قلت: هو مقدّر لدلالة المعنى عليه و التقدير فاسترنا من فضيحته بسترك، و اعف عنّا اقترافه و ارتكابه بعفوك، قال في القاموس: عفا عنه ذنبه و عفا له ذنبه و عن ذنبه «2».
و نصبته نصبا من باب- ضرب-: أقمته و رفعته، و يقال: هو نصب عينه أي منصوب بحذائه ينظر إليه.
و شمت به يشمت: من باب- علم- فهو شامت إذا فرح بمصيبة نزلت به، و الاسم الشماتة و منه: التشميت للعاطس «3» و هو الدعاء له كأنّه أزال الشماتة عنه بالدّعاء.
[ 1267] و بسط الشيء: نشره و توسيعه، بسطه يبسطه بسطا من باب- كتب- و بسط اللسان: كناية عن التوسع و الإكثار في النطق و الكلام، يقال: بسط لسانه بما تحب
__________________________________________________
(1) سورة الشورى: الآية 30.
(2) القاموس المحيط: ج 4 ص 366.
(3) النهاية لابن الأثير: ج 2 ص 498- 500.
178
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الخامس و الأربعين ص 105
..........
أو بما تكره، قال تعالى: وَ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ «1».
و الطعن: الضرب بالرمح، و نحوه طعنه طعنا من باب- نفع- فهو طاعن، ثمّ استعير للقدح و العيب و الوقيعة، يقال: طعن عليه و طعن فيه، قال تعالى: وَ طَعَنُوا فِي دِينِكُمْ «2».
و استعملته: جعلته عاملا.
و الحطّة بالكسر: اسم من استحطّ «3» وزره سأله أن يحطّ «4» عنه و أصلها من الحطّ و هو إنزال الشيء من علوّ و منه قوله تعالى: وَ قُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ «5» و معناه حطّ عنّا ذنوبنا.
و الكفّارة: ما يغطّي الذنب و يستره، من كفرت الشيء تكفيرا إذا سترته، و منه: كفّارة اليمين و الظهار و نحوهما كأنها تغطّي الذّنب حتى يصير بمنزلة ما لم يعمل.
و قيل: يصحّ أن يكون من التكفير بمعنى إزالة الكفر و الكفران كالتمريض بمعنى إزالة المرض و إلى هذا المعنى أشار بقوله تعالى: إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ «6».
و أنكرت عليه إنكارا: إذا عبت عليه فعله و نهيته.
و الرّأفة: الرّحمة، و قيل: أشدّ الرّحمة.
و نفد الشيء ينفد: من باب- تعب- نفادا: فنى و انقطع.
و الفضل: الإحسان.
و نقص نقصا: من باب- قتل- و نقصانا: ذهب منه شيء بعد تمامه و إنّما لم تنفد رحمته و لم ينقص فضله سبحانه لأنّه ليس من شأنه أن يلحق شيئا من صفاته العليا نفاد أو نقص، بل نعمه و مواهبه غير متناهية، و اللّه أعلم.
__________________________________________________
(1) سورة الممتحنة: الآية 2.
(2) سورة التوبة: الآية 12.
(3) «الف»: استحطّه.
(4) «الف»: يحطّه.
(5) سورة البقرة الآية 58.
(6) سورة هود: الآية 114.
179
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الخامس و الأربعين ص 105
اللّهمّ صلّ على محمّد و آله و اجبر مصيبتنا بشهرنا، و بارك لنا في يوم عيدنا و فطرنا، و اجعله من خير يوم مرّ علينا أجلبه لعفو و أمحاه لذنب، و اغفر لنا ما خفي من ذنوبنا و ما علن.
[ 1268] جبر مصيبته يجبرها جبرا من باب- قتل-: إذا فعل مع صاحبها ما ينساها به، و قيل: ردّ عليه ما ذهب منه أو عوّضه عنه، و أصله من جبر العظم الكسير و هو إصلاحه.
و المصيبة: الشدّة النازلة و أصلها: من إصابة السهم، و هو وصوله إلى الغرض.
و «الباء» من قوله «بشهرنا» للتعدية من باب تعدية المصدر و الفعل المتعديين إلى المفعول الثاني بحرف جر نحو: أعجبني أمرك زيدا بالقيام، و أمرته بالجلوس، يقال: أصيب فلان بماله إذا سلبه، و فلان مصاب بعقله و بصره إذا كان مسلوبهما، و منه الحديث: ما من رجل يصاب بشيء إلّا رفعه درجة «1» أي يسلب و يؤخذ منه شيء، و المعنى عوّضنا خيرا و إحسانا عن شهرنا الذي سلبناه.
و ما وقع في بعض التراجم من أنّ المعنى: أثبنا على غمّنا لفراق شهرنا فتكون «الباء» سببيّة، أو المراد بالمصيبة التقصيرات السالفة، أي اعف عنّا ببركة شهرنا ما سلف منّا من التقصير فتكون «الباء» سببيّة أيضا فليس مدلول هذه العبارة من كلام العرب و ليس معناها إلّا ما ذكرناه.
و بارك له في كذا: جعل له فيه البركة و هي: الخير و الزيادة و النماء.
و الفطر بالكسر اسم من فطر الصائم فطورا من باب- قعد-: إذا أكل و شرب كأفطر إفطارا، و أصله من فطرت الناقة إذا حلبتها فانفتحت رءوس أخلافها، لأنّ الأفواه تنفتح بالأكل و الشرب.
__________________________________________________
(1) سنن ابن ماجة: ج 2 ص 898 ح 2693. و إليك نصّه ما من رجل يصاب بشيء من جسده فيتصدّق به إلا رفعه اللّه به درجة.
180
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الخامس و الأربعين ص 105
اللّهمّ اسلخنا بانسلاخ هذا الشّهر من خطايانا، و أخرجنا بخروجه من سيّئاتنا و اجعلنا من أسعد أهله به، و أجزلهم قسما فيه و أوفرهم حظا منه.
[ 1269] و «من»: في قوله: «من خير يوم» تبعيضيّة، أي من جملة خير يوم و خير أفعل تفضيل و إنّما لم يقل: خير أيّام مرّت علينا لأنّه أراد جنس اليوم لعمومه من جهة وصفه بصفة عامّة و هي قوله: «مرّ علينا» فإنّ المرور ليس ممّا يخصّ واحدا من الأيّام، و قد يراد بالمفرد معنى الجمع اكتفاء به عند عدم اللبس لدلالته على الجنس كقوله تعالى: يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا «1» و يجوز أن تكون «من» زائدة عند من أجاز زيادتها في الإيجاب، و حمل عليه قوله تعالى: يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ* «2» وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ* «3».
و قول بعضهم: أنّها في الدعاء للتبيين، خبط.
و أجلبه بالخفض: بدل من خير يوم، و هو أفعل تفضيل من جلب الشيء جلبا من بابي- قتل- و- ضرب- بمعنى ساقه.
قال الراغب: أصل الجلب: سوق الشيء، قال الشاعر:
و قد تجلب الشيء البعيد الجوالب
«4».
و أمحى اسم تفضيل من محى اللّه الذنب إذا غفره و أصل المحو إزالة الأثر، و إسناد الجلب و المحو إلى اليوم مجاز عقليّ.
و علن الأمر علونا من باب- قعد-: ظهر و انتشر، و منه: العلانية ضدّ السرّ.
[ 1270] السّلخ: نزع جلد الحيوان، يقال سلخته سلخا من باب- منع- و- ضرب- فانسلخ، و منه: سلخت الشهر: إذا صرت في آخره و انسلخ الشهر أي مضى.
__________________________________________________
(1) سورة غافر: الآية 67.
(2) سورة الكهف: الآية 31، و سورة الحج: الآية 23.
(3) سورة آل عمران: الآية 31.
(4) المفردات: ص 95.
181
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الخامس و الأربعين ص 105
اللّهمّ و من رعى هذا الشّهر حقّ رعايته، و حفظ حرمته حقّ حفظها و قام بحدوده حقّ قيامها، و اتّقى ذنوبه حقّ تقاتها، أو تقرّب قال الزمخشري في الأساس: و من المجاز سلخنا الشهر و انسلخ الشهر «1».
و قد تقدّم الكلام على ذلك مبسوطا في الروضة التي قبل هذه عند قوله عليه السلام: «و اسلخ عنّا تبعاتنا مع انسلاخ أيّامه».
و «الباء» من قوله: «بانسلاخ هذا الشهر» بمعنى «مع» كما وقع التصريح به في قوله: «مع انسلاخ أيّامه» أي انزعنا مع مضيّ هذا الشهر من خطايانا، و الغرض محوها و غفرانها و في معناها الفقرة التي بعدها.
[ 1271] و أجزلهم قسما: أي أكثرهم من جزل الشيء بالضمّ جزالة إذا كثر و اتّسع فهو جزيل، و جزل قيل: أصله من جزل الحطب فهو جزل إذا عظم و غلظ، ثمّ استعير في العطاء، فقيل: عطاء جزل: أي كثير، و أجزل له العطاء إذا أوسعه.
و القسم بالكسر كحمل: الحصة و النصيب و الجمع أقسام كحمل و أحمال.
و أوفرهم حظا أي: أتمّهم و أكملهم من وفر الشيء يفر من باب- وعد- وفورا أي: تمّ و كمل، و الحظّ النصيب و الجمع حظوظ كفلس و فلوس.
«من»: في محلّ رفع بالابتداء، و قوله: «فهب لنا» خبره و إنّما دخلته الفاء تشبيها له بالشرط.
[ 1272] و الرّعاية: الحفظ و معنى «حقّ رعايته» واجب رعايته، و انتصابه على المصدريّة، و الأصل رعاية حقّا فعكس و أضيف الحقّ إلى الرعاية مبالغة كقولك:
هو حقّ عالم، و أضيف الرعاية إلى ضمير المرعي لاختصاصها به و يجوز أن يكون حقّ رعايته نعتا لمصدر محذوف، أي رعاية حقّ رعايته فحذف المنعوت و أقيم النعت مقامه و قس على ذلك نظائره الآتية، و المعنى رعاه كما يحق و كما يجب أن يرعى قال
__________________________________________________
(1) أساس البلاغة: ص 217.
182
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الخامس و الأربعين ص 105
إليك بقربة أوجبت رضاك له، و عطفت رحمتك عليه، فهب لنا مثله من وجدك، و أعطنا أضعافه من فضلك، فإنّ فضلك لا يغيض، و إنّ خزائنك لا تنقص بل تفيض، و إنّ معادن إحسانك لا تفنى و إنّ عطائك للعطاء المهنّا.
تعالى: فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها «1» أي: ما حافظوا عليها حقّ المحافظة.
و في نسخة و من رعى حقّ هذا الشهر بإضافة حقّ إلى هذا الشهر أي: رعى ما يجب له و حافظ عليه على ما يجب له من الرعاية و المحافظة و في معناه قوله عليه السلام:
و حفظ حرمته حقّ حفظها لأنّ الحفظ هنا في معنى الرعاية.
و الحرمة: ما وجب القيام به و حرم التفريط فيه فهي كالحقّ بمعنى الواجب، و يجوز أن يكون المراد بالحرمة ما حرم فيه و بحفظها اجتنابها و هو أولى لأنّ التأسيس خير من التأكيد، و بكلّ من المعنيين فسّر قوله تعالى: وَ مَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ «2» قيل: حرماته تعالى حقوقه و فروضه التي لا يحلّ انتهاكها، و تعظيمها: القيام بها و المحافظة عليها، و قيل: هي ما نهى عنها و حرّم الوقوع فيها و تعظيمها مجانبتها و ترك ملابستها.
و قام بالأمر: جدّ فيه و اجتهد.
و حدوده: أحكامه من الفروض و المحرّمات جمع حدّ و أصله من الحدّ، بمعنى المنع و الفصل بين الشيئين فكأنّ حدود الشرع و أحكامه فصلت بين ما يحلّ و يحرّم و ما يؤتى و يجتنب.
و اتقيت الشيء: تحفّظت منه و صنت نفسي عنه، و هو من الوقاية، و هي حفظ الشيء و صيانته مما يؤذيه و يضرّه و أصل اتقى أو تقى على أفتعل فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها و أبدلت منها التاء و ادغمت.
__________________________________________________
(1) سورة الحديد: الآية 27.
(2) سورة الحج: الآية 30.
183
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الخامس و الأربعين ص 105
..........
و التقاة و التقوى و التقيّة: أسماء بمعنى من اتقيته اتقاء، و معنى اتقاء الذنوب حقّ تقاتها «1»: التحفظ و الاحتراس منها، و صيانة النفس عنها، كما يحقّ و كما يجب أن يتحفظ و يحترس منها و لا يتم ذلك إلّا بأداء كل ما فرض اللّه و ترك كلّ ما حرّم اللّه، و لا يكون ذلك إلّا بالتورّع عن كلّ ما فيه شبهة و لا يكون ذلك إلّا بترك ما لا بأس به حذرا من الوقوع فيما فيه بأس، كما روي: الحلال بيّن و الحرام بيّن «2» و من رتع حول الحمى أو شك أن يقع فيه «3» و في رواية: لحقيق أن يقع فيه «4».
[ 1273] و التقرّب: التحرّي لما يقتضي حظوة «5» و منزلة.
و القربة بالضمّ: ما يتقرّب به إلى اللّه و يطلب به المنزلة لديه. و «الباء» من قوله: «بقربة» يجوز أن تكون للسببيّة و للاستعانة.
و أوجبت رضاك له: أي أثبته «6» و أحققته له و الجملة في محلّ خفض صفة لقربة.
و عطفت الشيء عطفا من باب- ضرب-: ثنيته و أملته كعطف الحبل و الغصن ثمّ استعير للشفقة إذا عدّي ب «على» فيقال: عطفت الناقة على ولدها إذا حنّت و اشفقت عليه، و عطف اللّه قلبك عليّ جعله عاطفا عليّ أي مشفقا، و منه عبارة الدعاء أي جعلت رحمتك عاطفة عليه، و مثله أي ما يشبهه كميّة و كيفيّة و ذاتا و صفة لأنّ المثل أعمّ الألفاظ الموضوعة للمشابهة كما سبق.
[ 1274] و الوجد بالضمّ: الغنى و ما يقدر عليه من المال و الثروة و منه قوله تعالى:
أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ «7» أي من قدر غناكم و مما «8» تقدرون عليه من السعة.
__________________________________________________
(1) «الف»: اتّقائها.
(2) وسائل الشيعة: ج 18 ص 114 ح 9.
(3) وسائل الشيعة: ج 18 ص 122 ح 39.
(4) لم نعثر عليه.
(5) «الف»: خطوة.
(6) «الف» ثبته.
(7) سورة الطلاق: الآية 6.
(8) «الف» و ما.
184
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الخامس و الأربعين ص 105
..........
و الأضعاف جمع ضعف بالكسر و ضعف الشيء مثله و ما زاد عليه و ليس للزيادة حدّ و قد أسلفنا الكلام عليه غير مرّة.
و الفضل: الزيادة و الخير و الإحسان.
[ 1275] و غاض الماء غيضا: من باب- سار- نضب و غار، أي ذهب في الأرض و غاض الشيء أيضا: قلّ و نقص و منه: «أعطاه غيضا من فيض» أي قليلا من كثير «1».
[ 1276] و خزائن اللّه: مقدوراته التي تسع الناس، و قيل: جوده الواسع و قدرته.
و قيل: قوله: «كن» و بكلّ من ذلك فسّر قوله تعالى: «و لا أقول لكم عندي خزائن اللّه» «2».
و نقص الشيء: ذهب منه شيء بعد تمامه.
و فاض السيل فيضا: كثر و سال من شفة الوادي، و حوض فائض يفيض من جوانبه لامتلائه، و فاض الخير: كثر و اتسع.
و المعادن جمع معدن كمجلس: اسم مكان من عدن بالمكان عدنا و عدونا من باب- ضرب، و قعد- بمعنى أقام و استقرّ و منه: المعدن المستقر الجواهر لعدونها به.
و قال في مختصر العين: معدن كلّ شيء حيث يكون أصله «3»، و إثبات المعادن للإحسان استعارة تبعيّة أو مكنيّة و إسناد الفناء إليها مجاز عقلي من باب سال النهر، و نضب الحوض و المراد لا يفنى ما فيها.
و العطاء: اسم من الإعطاء بمعنى الصلة، و أصله من أعطاه الشيء إذا ناوله إيّاه ثمّ خصّ بالهبة و الصلة.
و «اللام» من قوله: «للعطاء» لام الابتداء و فائدتها تأكيد مضمون الجملة
__________________________________________________
(1) الصحاح للجوهري: ج 3 ص 1096 مادة «غيض».
(2) سورة هود: الآية 31.
(3) المصباح المنير: ص 543 نقلا عنه.
185
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الخامس و الأربعين ص 105
اللّهمّ صلّ على محمّد و آله، و اكتب لنا مثل اجور من صامه، أو تعبّد لك فيه إلى يوم القيامة.
و مدخولها في الأصل المبتدأ و لذلك سميت لام الابتداء فأصل أنّ زيدا لقائم لأن زيدا قائم فكرهوا افتتاح الكلام بحرفين مؤكّدين فزحلفوا اللام دون «أنّ» لئلا يتقدّم معمولها عليها و إنّما لم يدع «أن» الأصل أنّ لزيدا قائم لئلّا يحول ماله صدر الكلام بين العامل و المعمول.
و المهنى: اسم مفعول من هنا الشيء بضمّ العين و الهمز هناءه «1» بالفتح و المدّ:
تيسير من غير مشقّة و لا عناء فهو هنيء، و يجوز الإبدال و الإدغام و هنّأه اللّه إيّاه بالتشديد أعطاه إيّاه هنيئا فهو مهنأ بالهمز و يجوز الإبدال فيه و عليه أكثر النسخ في الدعاء.
و وقع في نسخة ابن إدريس «و إنّ عطائك العطا المهنأ» «2» بتجريد الخبر من لام الابتداء، و همز المهنّأ «3» على الأصل.
[ 1277] اكتب لنا: أي أوجب لنا، و حقّق لنا، و عبّر عن ذلك بلفظ الكتابة لأنّها منته الإيجاب فإنّ الشيء يوجب ثمّ يكتب، فالإيجاب مبدأ و الكتابة منته، فإذا أريد توكيد الشيء عبّر عن مبدئه بمنتهاه، و لأنّ الكتابة أثبت و أدوم ألا ترى أنّه يقال: كتب رزق فلان في الديوان فيدلّ ذلك على ثبوته و دوامه على مرّ الزمان.
و الاجور جمع أجر: و هو ثواب العمل.
و تعبّد: تنسّك و اجتهد في العبادة و تفرّد لها، و لمّا كان التعبّد أعمّ من الصيام عطفه «4» عليه، و «أو» يجوز أن تكون بمعنى الواو، و يجوز أن تكون على بابها من أنّها لأحد الشيئين و لا ينافي ذلك سؤال مثل أجورهما معا بل هي في ذلك أبلغ لأنّه
__________________________________________________
(1) «الف» هناء.
(2) «الف»: المهنا.
(3) «الف»: المهنا.
(4) «الف»: عطف.
186
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الخامس و الأربعين ص 105
اللّهمّ إنّا نتوب إليك في يوم فطرنا الّذي جعلته للمؤمنين عيدا و سرورا و لأهل ملّتك مجمعا و محتشدا من كلّ ذنب أذنبناه أو سوء أسلفناه، أو خاطر شرّ أضمرناه، توبة من لا ينطوي على رجوع إلى ذنب، و لا يعود بعدها في خطيئة، توبة نصوحا خلصت من الشكّ و الارتياب فتقبّلها منّا، و ارض عنّا، و ثبّتنا عليها.
لو عطف بالواو جاز أن لا يكون سائلا إيجاب مثل أجر أحدهما له فلا يجاب فيه فلمّا جاء بأو علم أنّ الراغب في إيجاب مثل أجر أحدهما هو في إيجاب مثل أجرهما جميعا أرغب فهو من قبيل دلالة النّص، و في هذه الفقرة من الدعاء إيذان بسعة فضل اللّه و عموم جوده و إحسانه الذي تقصر العقول عن إدراك ساحل بحره فإنّه لو لم يجز أن يعطي سبحانه مثل أجر من عمل له من لم يعمل لما صحّ الدّعاء بذلك و اللّه ذو الفضل العظيم.
[ 1278] إيثار صيغة المتكلّم مع الغير على أنّ حقيقة التوبة تقتضي صيغة المتكلّم وحده إمّا لملاحظة جميع قواه و حواسه الظاهرة و الباطنة أو للإشعار بأنّه واحد من التائبين نفيا لتوهّم ادعاء التفرّد بها أو للتوصّل إلى قبول توبته بإدراجها في جملة توبة غيره ممّن تقبل توبته، و عرض الجميع صفقة واحدة لئلّا يتوزّع قبولا و ردّا إذ كان تبعيض الصفقة قد نهى سبحانه عنه عباده فهو أولى بعدم تبعيضها أو للإشعار باشتراك سائر الموحّدين له في الحالة العارضة له بناء على تعاضد الأدلّة الملجئة إلى ذلك.
و السرور: الفرح و جعل اليوم سرورا من باب إطلاق الأمر على باعثه أو إطلاق اسم الحال على المحلّ.
[ 1279] و الملّة: الدين، و لا يستعمل إلّا في جملة الشرائع دون آحادها فلا يقال: للصلاة ملّة بخلاف الدين، و في إضافتها إلى اللّه سبحانه في قوله عليه السلام: «أهل ملّتك» إبطال لقول الراغب إنّ الفرق بين الدّين و الملّة أنّ الملة لا تضاف إلّا إلى النّبي الذي تسند إليه نحو: «اتبعوا ملّة إبراهيم» و لا تكاد توجد مضافة إلى اللّه و لا
187
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الخامس و الأربعين ص 105
..........
إلى آحاد الأمة فلا يقال: ملّة اللّه و لا ملّتي كما يقال: دين اللّه و ديني، انته «1».
و المجمع بفتح الميم الثانية و كسرها: محلّ الاجتماع.
و المحتشد: محلّ الاحتشاد و هو الاجتماع أيضا يقال: حشد القوم حشودا من باب- قعد- و أحشدوا و احتشدوا و تحشّدوا: إذا اجتمعوا لأمر واحد أو دعوا فأجابوا.
و في الأساس: حشد القوم حشودا: اجتمعوا و خفّوا في التعاون و احتشدوا و تحشدوا و تحاشدوا على الأمر اجتمعوا عليه متعاونين «2».
و إنّما كان يوم الفطر مجمعا و محتشدا لاجتماع الناس فيه متعاونين على الفطر و الصلاة و إجابتهم للداعي إلى الخروج إلى المصلّى و إلى الصلاة فيه و خفوفهم في التعاون على ذلك.
و السوء: كلّ ما يغم الإنسان و يسوئه من أمور الدنيا و الآخرة فكلّ ذنب سوء من غير عكس، و فائدة عطفه عليه شمول نحو المكروهات و الشبهات فإنّ التوبة منها من شأن الأبرار و المقرّبين إذ كان ملابستها ما «3» تسوء المتقين.
و سلف سلوفا من باب- قعد: مضى و انقضى، و يعدّى بالهمز فيقال: أسلفته.
و الخاطر: ما يعرض في القلب و يرد عليه، و هو ينقسم إلى خاطر خير و خاطر شرّ، فما كان باعثا على مفروض أو مندوب فهو خاطر خير، و ما كان داعيا إلى مخالفة الحقّ فهو خاطر شرّ و لذلك قيّده عليه السلام بالإضافة إلى الشرّ، و أضمر فلان كذا: عزم عليه بقلبه أخذا من الضمير و هو قلب الإنسان و باطنه.
[ 1280] و انطوى على كذا: اشتمل عليه قلبه و ضميره و أصله من طي الصّحيفة و الثوب، و هو مطاوع طوى كشحه على الأمر إذا كتمه و أخفاه.
و العود: الرجوع إلى الشيء بعد الانصراف عنه بالذات، أو بالقول أو بالعزيمة،
__________________________________________________
(1) المفردات: ص 471.
(2) أساس البلاغة: ص 84.
(3) «الف»: ممّا.
188
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الخامس و الأربعين ص 105
اللّهمّ ارزقنا خوف عقاب الوعيد، و شوق ثواب الموعود حتى نجد يقال: عاد إليه يعود عودا، و قد يعدّى بفي فيقال: عاد فيه كما وقع في عبارة الدعاء، و منه قوله تعالى: أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا* «1» و الظاهر أن تعديته ب «في» لتضمينه معنى الدخول و لذلك فسّر بعضهم قوله تعالى: أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا* «2» بقوله أي:
لتعودنّ إلى ترك دعوى الرسالة و الإقرار بها داخلين في ملّتنا، و قال بعضهم: أي لتعودنّ إلينا داخلين في ملّتنا «3» و على ذلك فقوله عليه السلام: «و لا يعود بعدها في خطيئة» تقديره لا يعود بعد هذه التوبة إلى تركها و فسخها داخلا في خطيئة.
[ 1281] و التوبة النصوح تقدّم الكلام عليها في صدر هذا الدعاء.
و الشك: خلاف اليقين، و أصله اضطراب النفس و قلق القلب و عدم الاطمئنان.
و الارتياب: أسوأ الشّك، و قيل: هو الشّك مع التهمة: أي توبة لا أشكّ في نصاحتها و صدقها و لا أتّهم نفسي في إيقاعها و العزم عليها.
[ 1282] و «الفاء» من قوله عليه السلام: «فتقبّلها منا» لترتيب التقبّل على عموم التوبة، و إخلاصها و نصاحتها و خلوصها من الشك و الارتياب فإنّ ذلك كلّه من دواعي التقبّل و الرّضا و التثبيت، و التقبّل: قبول الشيء على وجه يقتضي ثوابا قال تعالى: إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ «4».
و ثبّته على الشيء تثبيتا: جعله ثابتا عليه، أي دائما غير زائل عنه، من ثبت يثبت ثبوتا من باب- قعد- إذا دام و استقرّ، و اللّه أعلم.
[ 1283] الرزق: العطاء الجاري دنيويّا كان أو اخرويّا، فارزقنا بمعنى أعطنا و إعطاؤه سبحانه ذلك عبارة عن إعداده له بإفاضة قوّة يستعدّ بها العقل لذلك.
و الوعيد: مصدر بمعنى التهدّد بالعقوبة، قال تعالى: ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي
__________________________________________________
(1) سورة الاعراف الآية 88، و سورة إبراهيم: الآية 13.
(2) سورة الاعراف الآية 88، و سورة إبراهيم: الآية 13.
(3) مجمع البيان: ج 3- 4 ص 448.
(4) سورة المائدة: الآية 27.
189
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الخامس و الأربعين ص 105
لذّة ما ندعوك به، و كآبة ما نستجيرك منه، و اجعلنا عندك من التّوابين الّذين أوجبت لهم محبّتك، و قبلت منهم مراجعة طاعتك يا أعدل العادلين.
وَ خافَ وَعِيدِ «1» و قال لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَ قَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ «2».
و الموعود: إمّا مصدر بمعنى الوعد كالمعقول و الميسور و المعسور كما سمع: دعه من معسوره إلى ميسوره، أو اسم مفعول على الحذف و الإيصال، و يكون المراد الشيء «3» الموعود به.
و حتى: بمعنى كي.
و نجد: أي نعلم فهو من الوجدان بمعنى العلم، لا بمعنى الإدراك بالقوي الظاهرة المسمّى مدركه بالحسيّات، و لا بمعنى الإدراك بالقوي الباطنة المسمّى مدركه بالوجدانيّات لأنّ اللّذة و الكآبة التي تعلّق بهما هذا الوجدان عقليّان من العقليّات الصرفة لا من الحسّيّات و لا من الوجدانيّات كما نصّ على ذلك السعد التفتازاني حيث قال: اللّذة و الألم العقليّان ليسا من الوجدانيّات بل من العقليّة الصرفة كالعلم و الحياة و تحقيق ذلك:
أنّ اللّذة إدراك و نيل لما هو عند المدرك كمال و خير من حيث هو كذلك، و الألم إدراك و نيل لما هو عند المدرك آفة و شرّ من حيث هو كذلك، و كل منهما حسّي و عقلي، أمّا الحسّي فإدراك القوّة الغضبيّة و الشهوية ما هو خير عندها و كمال كتكيّف الذائقة بالحلو، و اللّامسة باللين، و الباصرة بالملاحة، و السامعة بصوت حسن، و الشامّة برائحة طيّبة، و المتوهّمة بصورة شيء مرجوّ و كذلك البواقي فهذه مستندة إلى الحسّ.
__________________________________________________
(1) سورة إبراهيم: الآية 14.
(2) سورة ق: الآية 28.
(3) «الف»: بشيء.
190
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الخامس و الأربعين ص 105
..........
و إمّا العقليّ فلا شك أن للقوّة العاقلة كمالا و هو إدراكاتها المجرّدات اليقينيّة و أنّها تدرك هذا الكمال و تلتذّ به و هو اللّذة العقليّة و قس على هذا الألم.
فاللذة العقليّة ليس من الوجدانيّات المدركة بالحواسّ الباطنة و كذلك الألم و هذا ظاهر و أما اللّذة و الألم الحسيّان فلمّا كانا عبارتين عن الإدراكين المذكورين و الإدراك ليس ممّا تدركه الحواس الظاهرة دخلا بالضرورة فيما عدى المدرك بإحدى الحواس الظاهرة و ليسا من العقليات الصرفة لكونهما من الجزئيات المستندة إلى الحواس بل من الوجدانيات المدركة بالقوي الباطنة كالشّبع و الجوع و الفرح و الغمّ و الغضب و الخوف و ما شاكل ذلك «1» انته.
و استعمال الوجدان في العلم كثير.
قال الراغب: ما نسب إلى اللّه تعالى من الوجدان فبمعنى العلم المجرد إذ كان اللّه تعالى منزّها عن الجوارح و الآلات نحو قوله: «و ما وجدنا لأكثرهم من عهد» و قد يكون بالعقل أو وساطة العقل كمعرفة اللّه و معرفة النبوّة، انته «2».
قوله عليه السلام: «ندعوك به» أي نسألك إيّاه و نرغب إليك فيه يقال: دعا اللّه بالعافية أي: سأل اللّه العافية، و منه قوله تعالى: وَ يَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ «3».
قال أبو البقاء: أي: يطلب الشرّ مثل طلبه الخير فالباء للحال، و يجوز أن تكون بمعنى السّبب، انته «4».
و معنى كونها للحال أن تكون للملابسة فتكون حالا من الدّعاء أي دعاء متلبّسا بالشرّ أو الخير و الظاهر أنّها للتعدية نحو أمرت زيدا بكذا.
__________________________________________________
(1) لم نعثر عليه.
(2) المفردات: 512.
(3) سورة الاسراء: الآية 11.
(4) التبيان في اعراب القرآن: ذيل الآية 11 من سورة الاسراء.
191
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الخامس و الأربعين ص 105
..........
و الكآبة بمدّ الهمزة مصدر كئب يكأب من باب- تعب- إذا حزن أشدّ الحزن فهو كئيب.
و قيل: هي تغيّر النفس بالانكسار من شدّة الهمّ و الحزن و في حديث الدعاء أعوذ بك من كآبة المنقلب «1» و كآبة المنظر «2».
و نستجيرك منه أي: نسألك أن تحفظنا منه.
و في نسخة: «نستجير بك» يقال: استجاره و استجار به إذا طلب منه أن يحفظه ممّا يخافه.
[ 1284] و قوله: «و اجعلنا عندك من التوابين الذين أوجبت لهم محبّتك» أي صيرنا في حكمك و كتابك كما يقال: هو عند اللّه كذا، أي في حكمه و شرعه و كتابه، و فيه تلميح إلى قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ «3» و قد سبق الكلام عليه مبسوطا.
و قبلت منهم مراجعة طاعتك: أي رضيت مراجعتهم، من قبلت الشيء إذا رضيته و مراجعة الشيء معاودته يقال: راجعته بمعنى رجعت إليه، أي عدت إليه لأنّ التائب كان قد فارق الطاعة ثم عاد إليها.
و العدل: عبارة عن التوسّط في الأفعال و الأقوال بين طرفي الإفراط و التفريط، و لمّا كان الباري تعالى عادلا بالنظر إلى علمه و قضائه بمعنى أنّه لا يقضي في ملكه بأمر إلا و هو على وفق النظام الكلي و الحكمة البالغة و يدخل في ذلك جميع أقواله و أفعاله و أحكامه فإنّه لا يصدر منه شيء إلّا و هو كذلك.
و أمّا غيره فإنّه و إن بالغ في العدل و اتّصف به فمحال أن يكون جميع أفعاله و أقواله و أحكامه جاريا على وفق الحكمة و النظام الأكمل واقعا على حاق الوسط
__________________________________________________
(1) النهاية لابن الاثير: ج 4 ص 137.
(2) مجمع البحرين: ج 2 ص 150.
(3) سورة البقرة: الآية 222.
192
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الخامس و الأربعين ص 105
اللّهمّ تجاوز عن آبائنا و امّهاتنا و أهل ديننا جميعا من سلف منهم و من غبر إلى يوم القيامة.
بين الإفراط و التفريط، لا جرم كان سبحانه و تعالى أعدل العادلين و أمّا تذييل هذا الفصل من الدعاء بهذا النداء فوجه المناسبة أنّه لمّا أوجب من نفسه محبّته للتوّابين بقوله: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ «1» و قيل مراجعة من رجع إلى طاعته لقوله: «2» أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ «3» كان سبحانه أعدل من أن يخصّ بذلك قوما دون آخرين فيفعل ذلك بطائفة و يحرم طائفة مع تساويهم في عبوديّته و الرغبة إليه فوجب أن يكون عدله في حكمه بذلك شاملا لجميع عباده و هو أحدهم فيمتنع أن يخصّه بالحرمان دونهم؛ و اللّه أعلم.
[ 1285] تجاوزت عن الشيء: عفوت عنه و صفحت من باب- تفاعل- بمعنى- فعل-.
قال بعض المحققين: و لعل معنى المجاوزة أنّ اللّه تعالى يطالب المذنب بذنبه، و المذنب يطالبه بعفوه إلى أن يتمسّك عند الخوف من عذابه برحمته فإذا عفى الربّ فقد تجاوزا عن المطالبة.
و جميعا: حال مؤكّدة لما فيه من العموم.
و سلف: أي مضى.
و غبر غبورا من باب- قعد-: أي بقي، و منه الغبار لما يبقى من التراب، و قد يستعمل فيما مضى فيكون من الأضداد.
و قوله عليه السلام: «إلى يوم القيامة» غاية للغبور دفعا لتوهّم أن المراد به البقاء حال الدعاء، و أن معنى «من سلف منهم و من غبر» الأموات و الأحياء فنصّ بالغاية على أن المراد بمن غبر من لم يمض سواء كان موجودا حال الدعاء أو سيوجد إلى يوم القيامة.
__________________________________________________
(1) سورة البقرة: الآية 222.
(2) «الف» لقوله تعالى.
(3) سورة التوبة: الآية 104.
193
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الخامس و الأربعين ص 105
[ 1286] اللّهمّ صلّ على محمّد نبيّنا و آله كما صلّيت على ملائكتك المفرّبين و صلّ عليه و آله، كما صلّيت على أنبيائك المرسلين، و صلّ عليه و آله كما صلّيت على عبادك الصّالحين و أفضل من ذلك يا ربّ العالمين، صلاة تبلغنا بركتها، و ينالنا نفعها، و يستجاب لها دعاؤنا إنّك أكرم من رغب إليه، و أكفى من توكّل عليه، و أعطى من سئل من فضله، و أنت على كلّ شيء قدير.
الوصف بنبينا مع تعيّن «1» الموصوف لغرض المدح و إضافته إلى ضمير المتكلّم مع غيره لتضمّنها تعظيما لشأن المضاف إليه.
و «ما» مصدرية أي: كصلاتك على ملائكتك المقرّبين، و الظاهر أنّ هذا التشبيه من حيث أصل الصلاة لا من حيث المصلّى عليه لأنّ نبيّنا صلى اللّه عليه و آله أفضل المخلوقات من الملائكة و غيرهم. فمعناه اللّهمّ صلّ على محمّد و آله مقدار «2» شرفهم و فضلهم عندك كما صلّيت على ملائكتك المقرّبين بمقدار فضلهم و شرفهم عندك كقوله تعالى: فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ «3» يعني اذكروا بقدر نعمه و أياديه عليكم كما تذكرون آباءكم بقدر نعمتهم عليكم، و تشبيه الشيء بالشيء يصلح من وجه واحد و إن كان لا يشبهه من كلّ الوجوه كما قال تعالى:
إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ «4» يعني من وجه واحد و هو خلقه عيسى بغير أب و بهذا يندفع السؤال المشهور من أن تشبيه الصلاة عليه صلى اللّه عليه و آله بالصلاة على غيره كما وقع في هذا الفصل من الدعاء يستلزم خلاف ما تقرر بين البلغاء من أنّه لا بدّ من كون المشبّه به أقوى من المشبّه أو مساويا له.
__________________________________________________
(1) «الف» تعيين.
(2) «الف»: بمقدار.
(3) سورة البقرة: الآية 200.
(4) سورة آل عمران: الآية 59.
194
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الخامس و الأربعين ص 105
..........
[ 1287] و قال بعضهم: لا منافاة بين أفضليته عليه السلام على سائر المخلوقات و مساواة الصلاة عليه للصلاة عليهم.
فإن قيل: إذا كان أفضل كانت الصلاة عليه كذلك طلبنا الدليل.
فإن قيل: الأفضليّة عبارة عن علوّ الدرجة و هي لا يكون إلّا بالرّحمة، و الصّلاة منه تعالى عبارة عنها فكلّ منهما لازم للآخر و ملزوم.
فالجواب: أن الرّحمة كسبيّة و موهبيّة و لا يلزم من مساواة الموهبيّة مساواة الكسبيّة أيضا و لو سلّمنا أن جميعها موهبيّة فأيّ مانع من تعدّد أفرادها، و لا يلزم من المساواة في فرد المساواة في الجميع مثلا إذا قلت في الإنشاء: أعط زيدا ما أعطيت عمروا، فأيّ مانع من اختصاص زيد بشيء ليس ذلك الشيء لعمرو و كذا إذا قلت في الخبر: أعطيت زيدا ما أعطيت عمروا فلا دلالة فيه على أنّك لم تعط زيدا غيره بل لا دلالة فيه إلا على أنّك لم تفضّل زيدا على عمرو في العطاء فيسقط الإشكال رأسا، انته فتأمل.
قوله عليه السلام: «و أفضل من ذلك» أي وصلّ عليه صلاة أفضل من ذلك، و صلاة مصدر مبيّن لنوع عامله لوصفه بالجملة بعده.
[ 1288] و تبلغنا بركتها: أي تصل إلينا من بلغ المنزل إذا وصل إليه و البركة الخير الإلهي.
و ينالنا نفعها: أي يصيبنا خيرها.
قال الراغب: «النفع» ما يستعان به في الوصول إلى الخيرات و ما يتوصّل به إلى الخير فهو خير فالنفع خير و ضدّه الضرّ قال تعالى: وَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَ لا نَفْعاً «1».
و الاستجابة: بمعنى الإجابة، يقال: أجاب اللّه دعاءه، و استجاب دعاءه.
__________________________________________________
(1) المفردات: 502.
195
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء الخامس و الأربعين ص 105
..........
و قال تاج القرّاء: الإجابة عامة و الاستجابة خاصة بإعطاء المسئول.
[ 1289] و الرغبة: السؤال و الطلب رغب إلى اللّه رغبا و رغبة من باب- تعب-: سأله، و إليه أرفع رغبتي: أي سؤالي.
و كفى الشيء يكفي كفاية فهو كاف: إذا حصل به الاستغناء عن غيره، و اللّه كاف عبده قائم بأمره مغنيه عمّن سواه.
و قيل: معنى كفايته سبحانه إعطاؤه لكلّ قابل من خلقه ما يكفي استحقاقه من منفعة و دفع مضرّة.
و التوكل: اعتماد الإنسان فيما يرجو و يخاف على غيره.
و أعطى: اسم تفضيل من أفعل مع كونه ذا زيادة و هو قياس عند سيبويه «1» و سماع عند غيره و قد سمع هو أعطاهم للدينار.
و أنت على كلّ شيء قدير: أي: لا تفتقر إلى سبب و لا يمنعك مانع و هذه الجمل كلّها تعليل للدعاء و مزيد استدعاء للإجابة، و اللّه أعلم. [] هذا آخر الروضة الخامسة و الاربعين من رياض السالكين في شرح صحيفة سيد العابدين و قد وافق الفراغ منها ضحوة يوم الاربعاء لليلتين بقيتا من شوال سنة 1104 أحسن اللّه ختامها و للّه الحمد.
__________________________________________________
(1) شرح الكافية في النحو: ج 2 ص 213.
196
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
الروضة السادسة و الأربعون ص 197
الروضة السادسة و الأربعون
197
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
و كان من دعائه عليه السلام في يوم الفظر إذا انصرف من صلوته قام قائما ثم استقبل القبلة و في يوم الجمعة فقال ص 199
و كان من دعائه عليه السّلام في يوم الفظر إذا انصرف من صلوته قام قائما ثمّ استقبل القبلة و في يوم الجمعة فقال
يا من يرحم من لا يرحمه العباد و يا من يقبل من لا تقبله البلاد و يا من لا يحتقر أهل الحاجة إليه و يا من لا يخيّب الملحّين عليه و يا من لا يجبه بالرّدّ أهل الدّالّة عليه و يا من يجتبى صغير ما يتحف به و يشكر يسير ما يعمل له و يا من يشكر على القليل و يجازى بالجليل و يا من يدنو إلى من دنا منه و يا من يدعوا إلى نفسه من ادبر عنه و يا من لا يغيّر النّعمة و لا يبادر بالنّقمة و يا من يثمر الحسنة حتّى ينميها و يتجاوز عن السّيّئة حتّى يعفّيها انصرفت الامال دون مدى كرمك بالحاجات و امتلأت بفيض جودك أوعية الطّلبات و تفسّخت دون بلوغ نعتك الصّفات فلك العلوّ الأعلى فوق كلّ عال و الجلال الأمجد فوق كلّ جلال كلّ جليل عندك صغير و كلّ شريف في جنب شرفك حقير خاب الوافدون على غيرك و خسر المتعرّضون الّا لك و ضاع الملمّون الّا بك و أجدب المنتجعون الّا من انتجع فضلك بابك مفتوح للرّاغبين وجودك مباح للسّائلين ..........
198
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
و كان من دعائه عليه السلام في يوم الفظر إذا انصرف من صلوته قام قائما ثم استقبل القبلة و في يوم الجمعة فقال ص 199
و اغاثتك قريبة من المستغيثين لا يخيب منك الاملون و لا يياس من عطائك المتعرّضون و لا يشقى بنقمتك المستغفرون رزقك مبسوط لمن عصاك و حلمك معترض لمن ناواك عادتك الاحسان إلى المسيئين و سنّتك الإبقاء على المعتدين حتّى لقد غرّتهم اناتك عن الرّجوع و صدّهم أمهالك عن النّزوع و انّما تانّيت بهم ليفيئوا إلى أمرك و امهلتهم ثقة بدوام ملكك فمن كان من أهل السّعادة ختمت له بها و من كان من أهل الشّقاوة خذلته لها كلّهم صائرون إلى حكمك و أمورهم آئلة إلى أمرك لم يهن على طول مدّتهم سلطانك و لم يدحض لترك معاجلتهم برهانك حجّتك قائمة لا تدحض و سلطانك ثابت لا يزول فالويل الدّائم لمن جنح عنك و الخيبة الخاذلة لمن خاب منك و الشّقاء الأشقى لمن اغترّ بك ما أكثر تصرّفه في عذابك و ما اطول تردّده في عقابك و ما أبعد غايته من الفرج و ما اقنطه من سهولة المخرج عدلا من قضائك لا تجور فيه و انصافا من حكمك لا تحيف عليه فقد ظاهرت الحجج و أبليت الأعذار و قد تقدّمت بالوعيد و تلطّفت في التّرغيب و ضربت الأمثال و اطلت الابهال ..........
200
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
و كان من دعائه عليه السلام في يوم الفظر إذا انصرف من صلوته قام قائما ثم استقبل القبلة و في يوم الجمعة فقال ص 199
و اخّرت و أنت مستطيع للمعاجلة و تانّيت و أنت ملئ بالمبادرة لم تكن اناتك عجزا و لا أمهالك وهنا و لا امساكك غفلة و لا انتظارك مداراة بل لتكون حجّتك ابلغ و كرمك اكمل و إحسانك اوفى و نعمتك أتمّ كلّ ذلك كان و لم تزل و هو كائن و لا تزال حجّتك اجلّ من ان توصف بكلّها و مجدك ارفع من ان يحدّ بكنهه و نعمتك أكثر من ان تحصى باسرها و إحسانك أكثر من ان تشكر على اقلّه و قد قصّر بي السّكوت عن تحميدك و فهّهنى الامساك عن تمجيدك و قصاراى الاقرار بالحسور لا رغبة يا إلهي بل عجزا فها اناذا اؤمّك بالوفادة و اسالك حسن الرّفادة فصلّ على محمّد و اله و اسمع نجواى و استجب دعائى و لا تختم يومي بخيبتى و لا تجبهنى بالرّدّ في مسئلتى و أكرم من عندك منصرفى و إليك منقلبي انّك غير ضائق بما تريد و لا عاجز عمّا تسأل و أنت على كلّ شيء قدير و لا حول و لا قوّة الّا باللّه العلىّ العظيم
201
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
مقدمة المؤلف ص 202
[مقدمة المؤلف]
[] بسم اللّه الرحمن الرحيم و هو ثقتي الحمد للّه الذي جعل من الأيّام جمعة و عيدا، و آمن من آمن به و برسله جملة و عيدا، و الصلاة و السلام على نبيّه الذي كتب من صدّق به سعيدا، و على أهل بيته الذين قرب بهم من منار الهدى بعيدا.
و بعد: فهذه الروضة السّادسة و الأربعون من رياض السالكين في شرح صحيفة سيّد العابدين و إمام الزاهدين صلوات اللّه عليه و على آبائه و أبنائه الهادين، إملاء راجي فضل ربّه السّني علي صدر الدين الحسيني الحسني جعله اللّه من المحسنين و أحسن إليه و إلى جميع المؤمنين.
202
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء السادس و الأربعين ص 203
شرح الدعاء السادس و الأربعين
«و كان من دعائه عليه السلام في يوم الفطر إذا انصرف من صلاته قام قائما ثم استقبل القبلة و في يوم الجمعة فقال:».
الفطر: ترك الصوم، و يوم الفطر غرّة شوّال سمّي بذلك لفطر الناس به، يقال:
فطر الصائم فطورا من باب- قعد- و أفطر إفطارا و الاسم الفطر بالكسر.
و انصرف من صلاته: أي سلّم و فرغ منها.
و قائما: عند بعضهم نصب على المصدر وقعت الصفة مصدرا كما وقع المصدر صفة في نحو أتيته مشيا و جئته ركضا، و عند بعضهم هو حال مؤكدة نحو: وَلَّى مُدْبِراً* «1».
و استقبل القبلة: جعلها تلقاء وجهه، و القبلة بالكسر في الأصل للحالة التي عليها المستقبل كالجلسة بالكسر للحالة التي عليها الجالس ثمّ خصت في العرف بجعلها اسما للمكان الذي يستقبل و يتوجّه إليه للصلاة.
و الجمعة بالضم: اسم من الاجتماع أضيف إليه اليوم و ربّما حذف لكثرة الاستعمال فقيل: الجمعة من دون يوم سميّت بذلك لاجتماع الناس فيها هذا هو
__________________________________________________
(1) سورة النمل: الآية 10.
203
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء السادس و الأربعين ص 203
..........
المشهور في اللغة.
و جاء في الحديث عن النبيّ صلّى اللّه عليه آله: أنّها سمّيت بذلك لأنّ آدم عليه السلام جمع فيها خلقه «1».
و قيل: لأنّ سائر المخلوقات اجتمع خلقها و فرغ منه يوم الجمعة «2».
و قيل: لأنّ سعد بن زرارة لمّا جمع بالأنصار فصلّى بهم و ذكّرهم سمّوه الجمعة حين اجتمعوا فعليه فالاسم إسلاميّ «3».
و قيل: لأنّ كعب بن لؤي كان يجمع قومه فيه فيذكّرهم و يأمرهم بتعظيم الحرم و يخبرهم أنّه سيبعث فيه نبيّ من ولده و يأمرهم بالإيمان به «4».
و قيل: لأنّ قصيّا هو الذي كان يجمعهم ذكر ذلك تغلب في أماليه «5».
و ضم الميم من الجمعة لغة الحجاز، و فتحها لغة تميم، و إسكانها لغة بني عقيل «6»، أمّا الضمّ و الإسكان فمشهورتان، و أمّا الفتح فغريبة حكاها الواحدي عن الفراء «7» و حكى الزجّاج الكسر «8».
قال في الكشاف في سورة الجمعة و قرئ بهن، هذا في اسم اليوم و أمّا اسم أيّام الاسبوع جملة فهو الجمعة بضم الجيم و إسكان الميم لا غير «9».
و الفرق بين المسكن الميم و مفتوحها: أنّ الأوّل للمفعول كضحكة بمعنى مضحوك عليه. و الثاني للفاعل كضحكة و همزة و لمزة بمعنى ضاحك و هامز و لامز، و المعنى على الأوّل مجموع فيه الناس و على الثاني جامع لهم و ليست التاء فيها للتأنيث بل للمبالغة كالتاء في علامة و جمعها: جمع كغرفة و غرف و جمعات بضمّتين و بضمّ ففتح و بضمّ فسكون.
__________________________________________________
(1) لسان العرب: ج 8 ص 58.
(2) مجمع البيان: ج 9- 10 ص 286.
(3) مجمع البيان: ج 9- 10 ص 286.
(4) مجمع البيان: ج 9- 10 ص 286.
(5) لسان العرب: ج 8 ص 58.
(6) المصباح المنير: ص 150.
(7) مجمع البيان: ج 9- 10 ص 286.
(8) لم نعثر عليه.
(9) الكشاف: ج 4 ص 532.
204
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء السادس و الأربعين ص 203
[ 1290] يا من يرحم من لا يرحمه العباد، و يا من يقبل من لا تقبله البلاد، و يا من لا يحتقر أهل الحاجة إليه، و يا من لا يخيّب الملحّين عليه، و يا من لا يجبه بالرّدّ أهل الدّالّة عليه، و يا من يجتبي صغير ما يتحف به، و يشكر يسير ما يعمل له، و يا من يشكر على القليل و يجازي بالجليل، و يا من يدنو إلى من دنا منه، و يا من يدعو إلى نفسه من أدبر عنه، و يا من لا يغيّر النّعمة، و لا يبادر بالنّقمة، و يا من يثمر الحسنة حتّى ينميها، و يتجاوز عن السّيّئة حتّى يعفّيها.
الرّحمة قيل: هي ترك عقوبة من يستحقّها، و قيل: إيصال الخير و دفع الشرّ، و أصلها: الرّقة و التعطّف كما تقدّم بيانه.
و لمّا كانت رحمته تعالى تشمل جميع الموجودات من طريق الخلق و الرزق و النفع و دفع الضرّ من غير شائبة غرض و لا ضميمة علّة و كانت رحمة غيره من العباد لا تخلو من علّة و غرض و هو طلب عوض عليها إمّا ثواب آجل أو ثناء عاجل و إمّا إزالة رقّة الجنسيّة أو إزاحة خساسة البخل فإذا انتفت العلّة و عدم الغرض انتفت الرحمة ضرورة انتفاء المعلول لانتفاء العلّة لا جرم صدق أنّه سبحانه يرحم من لا يرحمه العباد و مع ذلك فعفوه عن المجرمين و حلمه عن الخاطئين مع انتهاكهم من حرماته ما لو انتهكه أحد من حرمة أدنى مقتدر على الانتقام لعاجله به و لم يبق عليه.
قال بعض العارفين: من كمال رحمته ستره لعيوبك و هو يعلم منك ما لو علمه أبواك لفارقاك، و لو علمت به امرأتك لجفتك، و لو اطلعت عليه أمتك لأقدمت على الفرار، و لو علمه جارك لسعى في تخريب دارك فأيّ رحمة أكمل من رحمته.
و عن عمران بن الحصين قال: كان في عهد النبي صلّى اللّه عليه و آله شاب فيه إتراف و رهق و كان له أب يزجره فلا ينزجر فلمّا فارق الدنيا لم يصلّ عليه أبوه و لم يصلح من تجهيزه ما ينبغي أن يفعله فلمّا جنّ عليه الليل رأى ابنه في النيام «1» في
__________________________________________________
(1) «الف» المنام.
205
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء السادس و الأربعين ص 203
..........
قصر على سرير يجلّ حسنهما عن الوصف و عليه حلل خضر و وجهه يتهلل إشراقا فسأله عن حاله فقال: لمّا بلغت روحي التراقي ندمت على ما سلف منّي و لم أرمنك إشفاقا و رحمة فقدمت على ربّي نادما مجفوا مهجورا يبرأ منّي و لم يرحمني أقرب الناس منّي سببا و أمتّهم بي نسبا فرحمني ربّي و لم يقنطني من رحمته فأدخلني هذه الروضة كما ترى «1».
[ 1291] و قبلت الشيء أقبله من باب- تعب- قبولا بالفتح و بالضمّ لغة حكاها ابن الأعرابي «2»، أي رضيت به و لم أردّه.
و البلاد: جمع بلدة ككلبة و كلاب، و جمع البلد: بلدان بالضمّ.
و قوله: «من لا تقبله البلاد» إمّا من مجاز الحذف أي أهل البلاد نحو قوله تعالى:
وَ سْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَ الْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها «3» أي: أهل القرية و أهل العير، و قوله تعالى: فَلْيَدْعُ نادِيَهُ «4» أي أهل ناديه، وَ إِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً* «5» أي: أهل مدين بدليل أخاهم شعيبا.
و إمّا: على طريق التقدير أي: لا تقبله البلاد لو كان لها أهليّة القبول، أو على سبيل التحقيق بناء على أنّ الأرض ذات شعور و لها جوهر عقلي كما سبق ذكره في الروضة السادسة «6».
و يؤيّد ذلك ما روي عن ابن عبّاس أنّه كان رجل فيمن كان قبلكم عبد اللّه ثمانين سنة فأخطأ خطيئة فخاف على نفسه فجاء إلى الغياض فقال: أيّتها «7» الغياض فيك الرمال الكثيرة و الاشجار الملتفّة فهل فيك مكان يواريني من ربّي؟
فأجابته الغياض: و اللّه ما فيّ نبت و لا شجر إلّا و له تعالى ملك موكل به فكيف
__________________________________________________
(1) آداب النفس: ج 2 ص 12.
(2) المصباح المنير: ص 669.
(3) سورة يوسف: الآية 82.
(4) سورة العلق: الآية 17.
(5) سورة الاعراف: الآية 85.
(6) ج 2 ص 216- 217.
(7) «الف» أيّها.
206
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء السادس و الأربعين ص 203
..........
اواريك يا هذا عن اللّه؟، ثمّ أتى البحر الغزير ماؤه الكثير حيتانه فقال: هل فيك مكان يواريني عن اللّه؟ فأجابه: ما في شيء إلّا و ملك موكل به فكيف اواريك؟
فأتى الجبال و قال مثل ذلك؟ و أجيب بجوابه، فأقام يتعبّد اللّه حتى حضره الموت و قال: يا ربّ اقبض روحي في الأرواح و جسدي في الأجساد و لا تبعثني يوم القيامة «1».
[ 1292] و حقر الشيء بالضمّ حقارة: هان قدره فلا يعبأ به و يعدّى بالحركة فيقال: حقره من باب- ضرب- و احتقره أي استخفّ به و استقلّه و أهانه و لمّا كانت الحاجة مناط الذّل و الحقارة و كان من عدا اللّه سبحانه و تعالى لا ينفكّ من احتقار أهل الحاجة إليه كان هذا الوصف ممّا تفرّد اللّه جلّ جلاله به و كرهه من عباده و نهى عنه حيث قال: وَ أَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ «2» و قال تعالى: قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَ مَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً «3».
قال المفسّرون: الأذى: هو تطاول المتصدّق على الفقير و احتقاره له كأن يقول له: ما أنت إلّا ثقيل، و لست إلّا مبرما، و باعد اللّه ما بيني و بينك، كل ذلك لهوانه عليه، و من الأذى إعراضه عنه و عدم مبالاته به إلى غير ذلك من أنواع الاحتقار و أمّا الحقّ سبحانه فلكمال ذاته و عموم فيضه كان من شأنه إكرام أهل الحاجة إليه و تشريفهم بالثناء عليهم كما تكرر ذلك في الكتاب العزيز حتى قال بعض العارفين: من جملة الفوائد في فتح باب الحاجة على العباد إلى المعبود تكريمهم بفتح باب المناجاة عليهم إذا احتاجوا إلى جلب نفع أو دفع ضرّ توجّهوا إليه برفع الهمم فشرّفوا بمناجاته [لمناجاته] و منحوا من هباته و لو لا الحاجة لم يتشرّفوا بالمناجاة.
و منها: إرادته تعالى أن يتحبّبوا إليه فكلّما وردت على العبد أسباب الحاجة
__________________________________________________
(1) آداب النفس: ج 2 ص 16.
(2) سورة الضحى: الآية 10.
(3) سورة البقرة: الآية 263.
207
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء السادس و الأربعين ص 203
..........
و الفاقة و توجّه إلى اللّه فيها فاستجاب له وجد العبد لذلك حلاوة في نفسه و راحة في قلبه فأوجب له ذلك زيادة المحبّة لربّه، قال صلّى اللّه عليه و آله: أحبّوا اللّه لما يغذيكم به من نعمة «1» فكلّما تجددت النّعم بنيل مطلوب أو دفع مكروه تجدد له من الحب بحسبها.
و منها: أنّ الحاجة باب إلى اللّه تعالى و سبب يوصل العبد إليه ألم تسمع قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَ اللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ «2» فجعل الفقر إلى اللّه سببا يؤدّي إلى الوصول إليه و الدوام بين يديه و لمّا كان الإنسان خيرة خلقه تعالى جعل افتقاره إليه عاجلا لامور المعاش و آجلا لنعيم الآخرة أكثر و أبين عن افتقار سائر المخلوقين، ألا ترى إلى قوله تعالى: أَنْتُمُ الْفُقَراءُ* كيف عرف الخير لقصد أنّهم جنس الفقراء مبالغة و كلّ ذلك لحبّه تعالى للإحسان و عنايته بأهل الحاجة إليه فكيف يحتقرهم.
[ 1293] و خيّبه اللّه تعالى: جعله خائبا أي غير ظافر بمطلوبه.
و الملحّون جمع ملحّ اسم فاعل من ألحّ الرّجل على غريمه إذا لزمه و أقبل «3» مواظبا للتقاضي منه و ألحّ في السؤال إذا دام عليه، و لازمه و لمّا كان الباعث على تخييب الملحّين الضجر من مداومة السؤال المفضي إلى إجابة السائل و كان من سوى اللّه سبحانه ينقصه ذلك و هو تعالى لا ينقص من خزائنه أن يهب الدنيا لمن سألها بل لا تزيده كثرة العطاء إلّا كرما وجودا لم يكن من شأنه أن يخيّب الملحّين عليه بل كان الإلحاح عليه أحبّ إليه و لذلك ورد استحباب الإلحاح في الدعاء.
[ 1294] و جبهه يجبهه جبها من باب- منع-: لقيه بمكروه و استقبله بسوء و أصله من إصابة الجبهة يقال: جبهه إذا أصاب جبهته.
__________________________________________________
(1) احياء علوم الدين: ج 4 ص 295.
(2) سورة فاطر: الآية 15.
(3) «الف» و أقبل عليه مواظبا.
208
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء السادس و الأربعين ص 203
..........
و الدالّة بتشديد اللام: اسم من أدلّ على صديقه و قريبه و على من له منزلة عنده: إذا انبسط و اجترأ و أفرط عليه ثقة بمحبّته يقال: أدلّ فأصلّ و منه حديث يمشي على الصراط مدلا أي: منبسطا لا خوف عليه «1» و هو من دلال المرأة على زوجها إذا ارته جرأة عليه في تغنّج كأنّها تخالفه و ليس بها خلاف.
قال بعضهم: و الإدلال عليه تعالى إمّا كناية عن الإدلال بالأعمال و الأفعال له تعالى، و إمّا عبارة عمّا يرتكبه الجاهلون من سوء الأدب مع جنابه تقدّس و تعالى، أو المراد من أهل الدّالّة من يثق بعمله و يعتمد على عبادته و طاعته.
و قال بعضهم: المراد بأهل الدالّة عليه: الراغبون إليه و الداعون له مع ارتكابهم الجرائم و العظائم «2».
و الظاهر أنّ المراد بأهل الدالّة عليه المنبسطون في سؤاله سبحانه المفرطون في الطلب منه شبّه المجترئين على جنابه المقدّس لا يجملون في السؤال و لا يقنعون بقليل النوال، و يدلّ على ذلك ما حكاه الزمخشري في ربيع الأبرار عن أعرابيّة أنّها قالت عند الكعبة: إلهي لك أدلّ و عليك أدلّ «3» و لو كان الادلال عليه سبحانه بأحد المعاني السابقة كانت الفقرتان متنافيتين «4» و اللّه اعلم.
[ 1295] و اجتبيت الشيء: اخترته و اصطفيته.
و المراد بالصغير هنا باعتبار القدر و المنزلة.
و أتحفته بالشيء اتحافا: بررته به و خصصته به لطفا و كرامة، و التّحفة على وزن «رطبة» و تسكّن العين: البرّ و اللطف و ما أتحفت به غيرك.
قال الأزهري: و التّاء أصلها واو «5».
__________________________________________________
(1) النهاية لابن الأثير: ج 2 ص 131.
(2) «الف»: العزائم.
(3) ربيع الابرار: ص 83 مخطوط.
(4) «الف» متنافيين.
(5) تهذيب اللغة: ج 4 ص 445.
209
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء السادس و الأربعين ص 203
..........
و في نسخة ابن إدريس «و يا من لا يجتوي صغير ما يتحف» أي: لا يكره، يقال:
جويته كرضيته و اجتواه: أي كرهه.
[ 1296] و شكره تعالى ليسير ما يعمل له: عبارة عن مجازاته عليه بجزيل الجزاء و ثنائه على عامله بجميل الثناء كما تضمّنه قوله عليه السلام في الفقرة بعده «يا من يشكر على القليل و يجازي بالجليل».
قال الغزالي في المقصد الأسنى: الشكور هو الذي يجازي بيسير الطاعات كثير الدرجات و يعطي بالعمل في أيّام معدودة نعما غير محدودة و من جازى الحسنة بأضعافها، يقال: أنّه شكر تلك الحسنة، و من أثنى على المحسن أيضا فيقال أيضا:
أنّه شكره و زياداته تعالى في المجازاة غير محصورة و لا محدودة فإنّ نعيم الجنّة لا نفاد له و لا منته و اللّه تعالى يقول: كُلُوا وَ اشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ و ثناؤه على عباده بما وفقهم له من العمل الصالح مشهور في كتابه المجيد، متلوّ و مسطور كقوله تعالى: وَ الذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَ الذَّاكِراتِ «1» و كقوله تعالى التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ «2» إلى آخرها «3».
قال بعض أهل العرفان: إيّاك أن تحقر من الاعمال الصّالحة شيئا أبدا صغيرا كان أو كبيرا، إذ لا هاجس يهجس لك في الطاعة إلّا شكرك اللّه تعالى عليه، و كفى دليلا على ذلك قوله تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ «4».
و قد حكي: أنّ رجلا رئي في المنام فقيل له: ما فعل اللّه بك؟ فقال: حاسبني فخفّت كفّة حسناتي، فوقعت فيها صرّة فثقلت كفّة حسناتي، فقلت ما هذا يا ربّ؟
فقال لي: كفّ تراب ألقيته في قبر مسلم فرجح بذلك المقدار ميزانه. فانظر كيف شكر اللّه تعالى له ذلك و خبأه له في خزائنه، من حيث لم تطلع عليه الملائكة لأنّها
__________________________________________________
(1) سورة الاحزاب: الآية 35.
(2) سورة التوبة: الآية 112.
(3) المقصد الاسنى: ص 74- 75.
(4) سورة الزلزلة: الآية 7.
210
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء السادس و الأربعين ص 203
..........
حسنة دقت عن أن تكتبها الملائكة للطافة الجزاء عليها، إذ لم تكن غير قبضة تراب فأخذها جلّت عظمته برأفته و كرمه و ادّخرها لعبده في خزائنه إلى وقت حاجته إليها، فجعلها سببا لنجاته، فكيف يحتقر شيء من صالح الأعمال و إن دق.
[ 1297] و دنا منه و دنا إليه يدنو دنوا: قرب فهو دان.
قال الراغب: دنو اللّه تعالى و قربه من العبد هو الإفضال عليه و الإحسان إليه لا بالمكان «1».
و لهذا روي أن موسى عليه السلام قال: إلهي أ قريب أنت فأناجيك؟ أم بعيد فأناديك؟ فقال لو قدّرت لك البعد لما انتهيت إليه، و لو قدّرت لك القرب لما اقتدرت عليه «2».
و دنوّ العبد و قربه من اللّه في الحقيقة: التخصّص بكثير من الصّفات التي يصح أن يوصف اللّه تعالى بها، و إن لم يكن وصف الإنسان به على الحدّ الذي يوصف تعالى به، نحو الحكمة و العلم و الرّحمة، و ذلك يكون بإزالة الأوساخ من الجهل و الطيش و الغضب و الحاجات البدنية بقدر طاقة البشر، و ذلك قرب روحاني لا بدني، و على هذا القرب نبّه عليه السلام فيما ذكر عن اللّه سبحانه: من تقرّب مني شبرا تقربت منه ذراعا «3».
و قوله: «عنه» ما تقرب إليّ عبد بمثل أداء ما افترضت عليه «4».
و قال ابن الأثير في النهاية: المراد بقرب اللّه قرب نعمه و الطافه و برّه و ترادف مننه، و بقرب العبد القرب بالذكر و الطاعة لا قرب الذات و المكان «5».
[ 1298] و دعوت زيدا أدعوه دعاء: ناديته، و طلبت إقباله، أي يطلب إليه إقبال من
__________________________________________________
(1) المفردات: ص 399.
(2) المفردات للراغب: ص 399.
(3) المفردات للراغب: ص 399.
(4) المفردات للراغب: ص 399.
(5) النهاية لابن الأثير: ج 4 ص 32
211
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء السادس و الأربعين ص 203
..........
أدبر عنه و هو تمثيل لأمره العصاة بالتوبة إليه و حضّه المجرمين على الإنابة له، قال رجل لرابعة: إني عصيت اللّه أ فترينه يقبلني؟ قالت: ويحك إنّه يدعو المدبرين عنه فكيف لا يقبل «1» المقبلين إليه «2».
و في نسخة «3»: «من أعرض عنه» و هو بمعنى أدبر فإن الإدبار و الإعراض و التولي معان متقاربة.
[ 1299] و التغيير: يقال: على وجهين:
أحدهما: لتغيير صورة الشيء دون ذاته كما يقال: غيّرت داري إذا بنيتها بناء غير الذي كان.
و الثاني: لتبديله بغيره كما تقول: غيّرت ثوبي و دابّتي إذا أبدلتهما بغيرهما، و هذا المعنى هو المراد، لأن تغيير النعمة عبارة عن سلبها و تبديلها بالنقمة، و فيه تلميح إلى قوله تعالى في سورة الأنفال: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ «4» و قوله تعالى في سورة الرعد: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ «5».
و الألف و اللّام في النعمة: للجنس، أي لا يغيّر شيئا من جنس النعمة جلّ أو هان، كما أنّ التنكير في الآية الأولى يفيد العموم، أي، أيّ نعمة كانت جلّت أو هانت.
فإن قلت: مدلول عبارة الدعاء أنّه تعالى لا يغيّر النعمة مطلقا، و مدلول الآيتين أنّه لا يغيّرها ما دامت موجباتها و هي ما في أنفسهم من الأحوال و الأعمال الصالحة
__________________________________________________
(1) «الف»: يقبل المتقين المقبلين.
(2) لم نعثر عليه.
(3) «الف»: نسخة ابن إدريس.
(4) سورة الأنفال: الآية 53.
(5) سورة الرعد: الآية 11.
212
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء السادس و الأربعين ص 203
..........
التي كانوا عليها وقت تلبّسهم بالنعمة فإذا فارقوها و اتصفوا بما ينافيها غيرها فعدم التغيير في الآيتين مقيّد.
قلت معنى كونه تعالى لا يغيّر النعمة أنّه لا يغيّرها من ذات نفسه من غير موجب لتغييرها فإذا حصل موجب تغييرها و مقتضاه لم يكن التغيير واقعا من اللّه سبحانه في حدّ ذاته بل بسبب ناشيء من غيره فكأنّه هو المغير للنعمة فلا منافاة بين عبارة الدعاء و مدلول الآيتين و هذا معنى قولهم: الرحمة ذاتيّة له تعالى و الغضب من مقتضيات العصيان و لذلك قال أمير المؤمنين و سيّد الوصييّن صلوات اللّه و سلامه عليه: «و أيم اللّه، ما كان قوم قطّ في خفض عيش، فزال عنهم إلّا بذنوب اجترحوها، لأنّ اللّه ليس بظلّام للعبيد، و لو أنّ الناس حين تنزل بهم النقم، و تزول عنهم النعم، فزعوا إلى ربّهم بصدق من نيّاتهم، و وله من قلوبهم، لردّ عليهم كلّ شارد، و أصلح لهم كلّ فاسد» «1».
و بادر مبادرة و بدارا: أسرع و عجل.
و النقمة: مثل كلمة، و تخفف مثلها: اسم من انتقم منه إذا عاقبه أو بالغ في العقوبة من نقم إذا بلغت به الكراهة حدّ السخط و لما كان غرض العناية الإلهيّة سوق كل ناقص إلى كماله كانت من سنّته تعالى عدم مبادرة العصاة بالانتقام و معاجلتهم بالعقاب بل ينظرهم و يمهلهم ليرجعوا عن عصيانهم و غيّهم إلى الطاعة و الرّشد و يخرجوا من ظلمات الجهل و ورطات المآثم إلى نور الحقّ و متسع الجود.
[ 1300] قوله عليه السلام: «و يا من يثمر الحسنة حتى ينميها» أي يجعلها ذات ثمرة و يرتّب عليها منافع حتّى يكثرها، يقال لكلّ نفع صدر عن شيء و ترتّب عليه: ثمرته، كقولك: النجاة ثمرة الصدق، و الظفر ثمرة الصبر، و الجنّة ثمرة الإيمان، و أصله من الثمرة للشجر، و هي اسم لما يؤكل من حمل الشجر، و يثمر هنا مضارع
__________________________________________________
(1) نهج البلاغة: ص 257 الخطب 178.
213
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء السادس و الأربعين ص 203
..........
أثمره، أي صيّره ذا ثمر كما اتفقت عليه النسخ، فالهمزة فيه للتعدية، و لازمه ثمر يثمر من باب- كتب- بمعنى أثمر لازما.
قال في القاموس: ثمر الشجر و أثمر صار فيه الثمر «1» انته.
فأثمر: على هذا يستعمل لازما و متعديا، و قيل: الثامر ما خرج ثمره، و المثمر ما نضج ثمره و بلغ أن يجنى كما حكاه صاحب القاموس «2» أيضا، و عليه فبين معنى أثمر لازما و بينه متعديا فرق، فأثمر الشجر لازما معناه نضج ثمره، و أثمر اللّه الشجر متعديا معناه أخرج اللّه ثمرته «3»، و هذا المعنى هو المراد في عبارة الدعاء.
و نمى الشيء ينمى من باب- رمى- نماء بالفتح و المدّ: زاد و كثر، و في لغة ينمو نموّا من باب- قعد- و يتعدى بالهمزة و التضعيف.
و في الحديث: إنّ الصدقة تقع في يد الرحمن فيربّيها كما يربّي أحدكم فلوه أو فصيلته «4».
و تجاوز عن السيئة: صفح و عفى عنها، و عفت الريح المنزل: محته و طمست أثره، و عفى المنزل يعفو درس و انمحى، يتعدّى و لا يتعدّى إلّا أن الثابت في المشهور من نسخ الصحيفة يعفيها بضمّ الياء من الاعفاء و لم ينصّ أحد من اللّغويين فيما وقفت عليه على أن عفا بمعنى درس يعدّى بالهمزة إلّا أن يكون «5» بمعنى الترك من قولهم: أعفني من الخروج معك: أي دعني منه فيكون إيقاع الإعفاء على السيئة من باب المجاز العقليّ، و الأصل إعفاء صاحبها من عقوبتها، أو يكون المراد ترك السيئة بمعنى عدم إثباتها «6» في صحيفة الأعمال و الإغضاء «7» عنها.
و في نسخة ابن إدريس حتى يعفّيها بتشديد الفاء و هو من عفّت الريح الأثر بالتشديد، أي محته.
__________________________________________________
(1) القاموس المحيط: ج 1 ص 383.
(2) القاموس المحيط: ج 1 ص 383.
(3) «الف»: ثمره.
(4) الام للشافعي: ج 2 ص 60.
(5) «الف»: تكون.
(6) «الف»: اتيانها.
(7) «الف»: الإعفاء.
214
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء السادس و الأربعين ص 203
انصرفت الآمال دون مدى كرمك بالحاجات، و امتلأت بفيض جودك أوعية الطلبات، و تفسّخت دون بلوغ نعتك الصفات فلك العلوّ الأعلى فوق كلّ عال، و الجلال الأمجد فوق كلّ جلال، كلّ جليل عندك صغير، و كلّ شريف في جنب شرفك حقير.
قال الجوهري: تعفّت الدّار: درست، و عفّتها الرّيح شدّد للمبالغة، قال الشاعر:
أهاجك رسم دارس الرسم باللوى لأسماء عفا آيه المور و القطر «1»
و حتى: في الفقرتين للتعليل لأنّ ما بعدها مسبّب عمّا قبلها أي يثمر الحسنة لينميها، و يتجاوز عن السيئة ليعفيها «2» و إيثار صيغة الاستقبال في جميع الصلاة الواقعة في هذا الفصل من الدعاء للدّلالة على الدوام و الاستمرار حتّى في المضارع المنفي من قوله: «و يا من لا يحتقر أهل الحاجة» و نحوه، فإنّ المضارع كما يفيد الاستمرار في الإثبات يفيده في النفي بحسب المقام كما أنّ الجملة الاسميّة تدلّ بمعونة المقام على دوام الثبوت و عند دخول النفي تدلّ على دوام الانتفاء لا انتفاء الدوام، و اللّه أعلم.
[ 1301] الانصراف: الانقلاب و الرجوع، يقال: انصرف الناس من المسجد أي:
انقلبوا و رجعوا إلى بيوتهم.
و الآمال: جمع أمل محركا كسبب و أسباب و هو الرجاء قال بعضهم: و أكثر ما يستعمل فيما يستبعد حصوله.
و دون: نقيض فوق، و هو تقصير عن الغاية.
و المدى بفتحتين: الغاية.
__________________________________________________
(1) الصحاح: ج 6 ص 2433.
(2) «الف»: حتّى يعفيها.
215
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء السادس و الأربعين ص 203
..........
و مدى البصر: منتهاه و غايته.
و الباء من قوله: «بالحاجات» للمصاحبة، أي مصاحبة لها كقوله تعالى:
اهْبِطْ بِسَلامٍ «1»، و الكلام استعارة مكنيّة أو تمثيليّة و المعنى: أنّ الآمال رجعت بقضاء الحاجات قبل وصولها إلى منته كرمك و بلوغ غايته إذ لا غاية لكرمك، و من زعم أنّ دون هنا بمعنى عند، فقد توهّم.
و ملأت الإناء بالهمز ملاء من باب- نفع- فامتلأ: جعلت فيه مقدار ما يأخذه.
و الفيض: مصدر فاض السيل إذا كثر و سال من جوانب الأودية.
و الأوعية: جمع وعاء بالكسر و المدّ و هو الظرف قال تعالى: فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ «2».
و الطلبات، جمع طلبة مثل كلمة: و هي الحاجة من الطلب بفتحتين و هو الفحص عن وجود الشيء عينا كان أو معنى و إثبات الأوعية للطلبات استعارة تخييليّة.
[ 1302] و تفسّخ فلان تحت الحمل الثقيل: ضعف و عجز، و تفسّخت الفأرة في البئر:
تقطّعت، أي ضعفت و عجزت أو تقطّعت الصفات قبل وصولها إلى كنه نعتك و حقيقة وصفك، و قد تقدّم الكلام على ذلك في الروضة الثانية و الثلاثين عند قوله عليه السلام: «و تفسّخت دونك النعوت».
و «الفاء» من قوله: «فلك» سببيّة، أي فسبّب ذلك لك العلوّ الأعلى.
و العلوّ: يقال: بالاشتراك على معان ثلاثة:
الأوّل: العلوّ الحسّي المكاني كارتفاع بعض الأجسام على بعض.
الثاني: العلوّ التخيّلي كما يقال للملك الإنساني: أنّه أعلى الناس، أي أعلاهم
__________________________________________________
(1) سورة هود: الآية 48.
(2) سورة يوسف: الآية 76.
216
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء السادس و الأربعين ص 203
..........
في الرتبة المتخيّلة كمالا.
الثالث: العلوّ العقلي كما يقال: في بعض الكمالات العقليّة التي بعضها أعلى من بعض، و كما يقال: السبب أعلى من المسبّب.
إذا عرفت ذلك فاعلم أنّه يستحيل أن يكون علوّه تعالى بالمعنى الأوّل لتنزّهه عن الجسميّة و المكان، و يستحيل أن يكون بالمعنى الثاني أيضا لتنزّهه عن الكمالات الخياليّة التي يصدق بها العلوّ الخيالي، إذ هي كمالات إضافيّة تتغيّر و تتبدل بحسب الأشخاص و الأوقات، و قد تكون كمالات عند بعض الناس و نقائص عند آخرين، كالمناصب الدنيويّة بالنسبة إلى العلماء الربانيين و الزهّاد المتألّهين، و تتطرّق إليه الزيادة و النقصان و لا شيء من كمال الواجب سبحانه، كذلك لتنزّهه عن النقصان و التغيّر بوجه من الوجوه، فبقي أن يكون علوه علوّا عقليّا مطلقا، بمعنى أنّه لا مرتبة «1» فوق رتبته، بل جميع المراتب العقليّة منحطّة تحته.
و بيان ذلك أنّ أعلى مراتب الكمال العقليّ هو مرتبة العليّة «2»، و لمّا كانت ذاته المقدّسة هي مبدأ كلّ موجود حسّي و عقليّ، و علّته التّامّة المطلقة التي لا يتصوّر النقصان فيها بوجه ما، لا جرم كانت مرتبته أعلى المراتب العقليّة مطلقا، و له الفوق المطلق في الوجود العاري عن الإضافة إلى شيء، و عن إمكان أن يكون فوقه ما هو أعلى منه، و ذلك معنى قوله عليه السلام: «فلك العلوّ الأعلى فوق كلّ عال» و تقديم الظرف الذي هو الخبر للتخصيص، أي لك العلوّ الأعلى وحدك لا لأحد غيرك.
فإن قلت: قد قررت أنّ «الفاء» من قوله: «فلك» للسببيّة، و علوّه تعالى بالمعنى المذكور ليس متسببا عن الأوصاف المذكورة قبل الفاء، فكيف تكون
__________________________________________________
(1) «الف»: رتبة.
(2) «الف»: العقليّة.
217
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء السادس و الأربعين ص 203
..........
سببيّة.
قلت: ليس المراد بالسببيّة كون ما قبلها سببا لاتّصافه تعالى بما بعدها و حصول هذه الصفة له جلّ شأنه، بل كونه موجبا للثناء عليه بذلك و الإقرار بتفرّده بهذا الوصف كما ينبئ به تقديم الخبر و لا ريب في أنّ اتّصافه سبحانه بالصفات المذكورة ممّا يقضي بالإقرار و الإذعان له جلّت قدرته باختصاصه بالعلوّ بالمعنى المذكور.
و الجلال: العظمة، و قال الراغب: الجلالة بالهاء: عظم القدر، و الجلال بغير الهاء: التناهي في ذلك، و خصّ بوصف اللّه تعالى فقيل: ذو الجلال و الإكرام و لم يستعمل في غيره «1».
و قيل: الجلال: راجع إلى كمال الصفات، و الكبر «2»: راجع إلى كمال الذات، و العظمة: راجع «3» إلى كمال الذات و الصفات.
و قيل: الجلال: من الصفات السلبية لأنّه بمعنى كونه منزّها عن كل ما للممكنات من الصفات المحدثة و الكمالات المستفادة من الغير المستلزمة للنقصان الذاتي من قولهم: أنا أجلّك عن كذا، أي انزّهك عنه.
و قيل: هو عبارة عن استغنائه المطلق، و في اصطلاح أرباب القلوب الجلال:
من الصفات ما يتعلّق بالقهر و الغضب كما أنّ الجمال من الصفات ما يتعلّق باللطف و الرضي. و بيان ذلك أنّ الجلال عبارة عن احتجاب الحقّ عن الخلق بعزّته من أن يعرفه أحد غيره بحقيقته و هويّته، كما يعرف هو ذاته فإنّ ذاته سبحانه لا يراها أحد على ما هي عليه إلّا هو، و الجمال: عبارة عن تجليه تعالى لذاته و لخلقه «4» في مخلوقاته كما قال أمير المؤمنين عليه السلام: «الحمد للّه المتجلي لخلقه
__________________________________________________
(1) المفردات: ص 94.
(2) «الف»: و الكبير.
(3) «الف»: راجعة.
(4) «الف»: تخلقه.
218
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء السادس و الأربعين ص 203
خاب الوافدون على غيرك، و خسر المتعرّضون إلّا لك و ضاع بخلقه» «1».
و كما قال الصادق عليه السلام: لقد تجلّى اللّه لخلقه في كلامه و لكنّهم لا يبصرون «2».
و في كلام بعض العارفين: ما رأيت شيئا إلّا و رأيت اللّه فيه، فلمّا كان في الجلال و نعوته معنى الاحتجاب و العزّة، لزمه العلوّ و القهر من الحضرة الإلهيّة، و الخضوع و الرهبة منا و لمّا كان في الجمال و نعوته معنى الدنو و السفور، لزمه اللطف و الرحمة و العطف من الحضرة الإلهيّة، و الانس منّا، و على كلّ معنى حمل الجلال فله سبحانه الجلال الأمجد، أي الأعزّ الاشرف من المجد: و هو العزّ و الشرف متجاوزا كلّ جلال، سوى جلاله فإنّ «دون» كما علمت، ممّا اتّسع فيه فاستعمل في كلّ تجاوز حدّ إلى حدّ، و تخطّى أمر إلى أمر أو فوق كلّ جلال.
قال في القاموس: «دون» نقيض فوق، و بمعنى فوق ضدّ «3».
[ 1303] و ذلك لما ثبت أنّ الكمال المطلق في كلّ صفة ثبوتيّة و سلبية ليس إلّا للّه تعالى، و أمّا غيره فكما له بالقياس إلى من هو دونه، هذا و لمّا كان كلّ جليل و شريف سواه سبحانه، فهو في ذلّ الحاجة و أسر العبوديّة بالنسبة إلى كمال جلاله و شرفه و علوّه، إذ كلّ موجود سواه في تصريف قدرته و مشيئته اللتين هما مستند وجوده، ثبت أنّ كلّ جليل بالنسبة إليه تعالى صغير، و كلّ شريف في جنب شرفه و علوّه حقير، و إن صدق عليه عرفا أنّه جليل أو شريف بالنسبة إلى من هو دونه، و اللّه أعلم.
[ 1304] خاب خيبة: لم يظفر بما طلب.
و الوافدون: جمع وافد، اسم فاعل من وفد فلان على الملك وفدا من باب
__________________________________________________
(1) نهج البلاغة ص 155 الخطب 108.
(2) ربيع الأبرار للزمخشري: ص 70 باب الدين و ما يتعلّق به من أمر الصلاة.
(3) القاموس المحيط: ج 4 ص 223.
219
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء السادس و الأربعين ص 203
الملمّون إلّا بك، و أجدب المنتجعون إلّا من انتجع فضلك، بابك مفتوح للرّاغبين، وجودك مباح للسّائلين و إغاثتك قريبة من المستغيثين، لا يخيب منك الآملون و لا ييأس من عطائك المتعرّضون و لا يشقى بنقمتك المستغفرون.
- وعد- و وفودا إذا ورد عليه و جاءه مسترفدا و مستنجزا حاجة.
و خسر من باب- علم- خسرا و خسرانا بضمّهما، و خسارة بالفتح: ضلّ و هلك و انتقص رأس ماله.
قال الراغب: الخسر و الخسران: انتقاص رأس المال، و ينسب إلى الإنسان فيقال: خسر فلان، و إلى الفعل فيقال: خسرت تجارته، و يستعمل ذلك في المقتنيات الخارجة، كالمال و الجاه في الدنيا و هو الأكثر، و في المقتنيات النفسيّة، كالصحّة و السلامة و العقل و الإيمان و الثواب «1» انته.
و على هذا فخسران المتعرّضين إلا له سبحانه: عبارة عن نقص عقلهم و إيمانهم و ثوابهم.
و تعرّض للمعروف و تعرّضه: يتعدّى بنفسه و بالحرف إذا تصدّى له و طلبه، و ذكره الأزهري و ابن سيدة «2» و غيرهما، و منه تعرّضوا لنفحات اللّه «3».
و الاستثناء من قوله: «إلّا لك» مفرّغ، أي المتعرّضون لأحد إلّا لك.
[ 1305] و أجدب القوم إجدابا: أصابهم الجدب و هو انقطاع الأمطار و يبس الأرض.
و انتجع القوم إذا ذهبوا لطلب الكلاء و العشب، و في المثل: «من أجدب انتجع» «4» ثم توسّعوا فيه فاستعملوا في طلب المعروف أيضا.
__________________________________________________
(1) المفردات: ص 147.
(2) المحكم في اللغة: ج 1 ص 248. و فيه: [و تعرض معروفه و له: طلبه].
(3) النهاية لابن الأثير: ج 5 ص 90 و فيه لنفحات رحمة اللّه.
(4) مجمع الامثال: ج 2 ص 321.
220
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء السادس و الأربعين ص 203
رزقك مبسوط لمن عصاك، و حلمك معترض لمن ناواك، قال في الأساس: و من المجاز انتجعت فلانا طلبت معروفه «1».
و من انتجع: في محل نصب على الاستثناء.
[ 1306] و بابه تعالى: عبارة عمّا يتوصّل به إلى تحصيل نعمه من الأسباب إذ كان الباب في الأصل مدخل الدار الذي يتوصّل منه إليها ثم استعير في كلّ ما يتوصّل به إلى شيء.
و ذكر الفتح: تخييل أو ترشيح، و الجملة مستأنفة استئنافا بيانيّا كأنه سئل كيف لا يخيب الوافدون عليه، و لا يخسر المتعرّضون له، و لا يجدب المنتجع فضله؟
فقال: لإنّ بابه مفتوح للرّاغبين، وجوده مباح للسائلين إلى آخره.
و المباح: اسم مفعول من أباح الرجل ماله إذا أذن في أخذه و تركه، و جعله مطلق الطرفين، و لذلك عرّفوا المباح بما استوى طرفاه.
و قال الجوهري: أبحتك الشيء أحللته لك، و المباح خلاف المحظور «2».
و الغوث: النصرة، يقال: استغثته فأغاثني إغاثة أي نصرني و أعانني، [ 1307] و جملة قوله عليه السلام: لا يخيب منك الآملون و ما بعدها تأكيد لمضمون الجمل السابقة و لذلك تعيّن الفصل و لم يعطفها على ما قبلها لكمال الاتصال فهي كقوله تعالى:
لا رَيْبَ فِيهِ* «3» بالنسبة إلى ذلِكَ الْكِتابُ «4» و في الفقرة الأخيرة تلميح إلى قوله تعالى: وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ وَ ما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ «5» و اللّه أعلم.
[ 1308] مبسوط أي: موسع و منه: وَ لَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ «6» أي وسّعه، و إنّما جعله لمن عصاه إظهارا لكمال حلمه و كرمه، فإنّ من بسط رزقه لمن عصاه، فهو لمن أطاعه أبسط.
__________________________________________________
(1) أساس البلاغة: ص 620.
(2) الصحاح: ج 1 ص 357.
(3) سورة البقرة: الآية 2.
(4) سورة البقرة: الآية 2.
(5) سورة الانفال: الآية 33.
(6) سورة الشورى: الآية 27.
221
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء السادس و الأربعين ص 203
عادتك الإحسان إلى المسيئين، و سنّتك الإبقاء على المعتدين حتّى لقد غرّتهم أناتك عن الرّجوع، و صدّهم إمهالك عن النّزوع و إنّما تأنّيت بهم ليفيئوا إلى أمرك، و أمهلتهم ثقة بدوام ملكك، فمن كان من أهل السّعادة ختمت له بها و من كان من أهل الشّقاوة خذلته لها.
و الحلم: ضبط النفس و الطبع عن هيجان الغضب.
و قال بعض العلماء: الحلم في الإنسان فضيلة تحت الشجاعة، يعتبر معها عدم انفعال النفس عن الواردات المكروهة المؤذية له، و أمّا في حقّ اللّه تعالى فيعود الى اعتبار عدم انفعاله عن مخالفة عبيده لأوامره و نواهيه، و كونه لا يستفزّه عند مشاهدة المنكرات منهم غضب، و لا يحمله على المسارعة إلى الانتقام مع قدرته التامّة على كلّ مقدور غيض و لا طيش، و الفرق بينه تعالى و بين العبد في هذا الوصف: أنّ سلب الانفعال عنه عزّ و جلّ، سلب مطلق و سلبه عن العبد سلب عمّا من شأنه أن يكون له ذلك الشيء، فكان عدم الانفعال عنه تعالى أبلغ و أتم من عدمه عن العبد «1»، انته.
ثم لمّا كان حلمه سبحانه شاملا لكلّ أحد من وليّ و عدوّ، و كان الحلم عن العدوّ أعظم و أظهر و أعجب، نصّ على اعتراضه لمن ناواه دون من والاه، فإنّ من حلم عن مناويه، فهو عن مواليه أحلم.
يقال: عرض له من باب- ضرب- و- علم- و اعترض له و تعرض له إذا تصدّى، و في نسخة ابن إدريس، متعرّض بهذا المعنى و يوجد في بعض النسخ، معرّض من باب التفعيل، و هو من عرّضته لكذا تعريضا: أي صدّيته له و جعلته عارضا له و هو راجع إلى المعنى الأوّل.
و ناواه مناواة: عاداه.
__________________________________________________
(1) شرح الكافي للمولى محمد صالح المازندراني: ج 1 ص 307.
222
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء السادس و الأربعين ص 203
..........
قال الجوهري: و أصله الهمز لأنّه من النوء و هو النهوض «1».
و إنّما فصل الجملة الاولى عمّا قبلها، لكمال الاتّصال إذ هي من باب التأكيد لمزيد جوده و كرمه.
و أمّا قوله: «عادتك الإحسان» فمستأنفة على وجه التعليل كأنّه قال: لأنّ عادتك الإحسان إلى آخره.
[ 1309] و السنّة: الطريقة، و المراد بسنّته تعالى هنا: طريقة حكمته.
و أبقى عليه إبقاء: إذا رحمه و أشفق عليه و الاسم البقيا.
و الاعتداء: مجاوزة الحقّ، و أصله من العدو و هو التجاوز.
قال ابن سيدة في المحكم: المعتدون: المجاوزون ما أمروا به «2».
و لا ينافي ذلك قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ* «3» فإنّ إبقاءه عليهم من مقتضى ذاته و بغضه لهم من مقتضى اعتدائهم.
«و حتى»: هنا حرف ابتداء مفادها التعظيم.
و اللام جواب قسم محذوف.
و غرّه غررا: أطمعه فيما لا يصحّ و منه: وَ غَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ «4» أي: أطمعهم في غير مطمع.
و الأناة: على وزن حصاة اسم من تأنّى في الأمر، أي: تمهّل و لم يعجل.
و الرجوع: العود، و المراد به هنا الرجوع عن الإصرار إلى التوبة، أو عن الباطل إلى الحقّ، كقوله تعالى: وَ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ «5» و قوله تعالى: وَ حَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ «6» أي: حرّمنا عليهم أن
__________________________________________________
(1) الصحاح: ج 6 ص 2517.
(2) المحكم في اللغة: ج 2 ص 227.
(3) سورة البقرة: الآية 190.
(4) سورة آل عمران: الآية 24.
(5) سورة الأعراف: الآية 174.
(6) سورة الأنبياء: الآية 95.
223
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء السادس و الأربعين ص 203
..........
يتوبوا و يرجعوا عمّاهم عليه من الباطل و سيّئ الأعمال، و عدّى الغرور ب «عن» لتضمينه معنى الصرف، أي غرّتهم أناتك صارفة لهم عن الرجوع.
و صدّه عن كذا يصدّه صدّا من باب- قتل-: منعه.
و الإمهال: الإنظار و عدم المعاجلة.
و نزع عن الشيء من باب- ضرب- نزوعا: كفّ و أقلع عنه، و إسناد الغرور و الصدّ إلى أناته و إمهاله تعالى من باب إسناد الشيء إلى غير ما هو له، بل إلى سببه، و الفاعل حقيقة إنّما هو أنفسهم الأمّارة، أو الشيطان، و الأصل حتّى غرّتهم أنفسهم أو «1» غرّهم الشيطان عن الرجوع لأجل أناتك، و صدّتهم أنفسهم أو الشيطان عن النزوع لأجل إمهالك، من حيث اغترارهم بذلك، [ 1310] و لمّا كان ظاهر الكلام يوهم أنّ أناته تعالى لهم و إمهاله إيّاهم، سببا غائيا لغرورهم و صدّهم دفع ذلك بقوله عليه السلام: «و إنّما تأنيت بهم ليفيئوا إلى أمرك، و أمهلتهم ثقة بدوام ملكك» فبيّن أنّ أناته لهم و عدم معاجلته إيّاهم ليس إلا ليرجعوا إلى أمره من الطاعة إذ كان غرض العناية الإلهيّة سوق كلّ ناقص إلى كماله فكان الغرض من التأنّي لهم، إنّما هو طلب خلاصهم و استعدادهم لما ينالون به كرامته بالرجوع من ظلمات الجهل و ورطات المعاصي.
و إمهاله و إنظاره إيّاهم لوثوقه بدوام ملكه، فلم يعاجلهم بالانتقام، إذ كانت المعاجلة من شأن من يخاف الفوت، و أمّا من كان واثقا بقدرته و تسلّطه على من يشاء، متى شاء، لا يخاف انقضاء مدّة سلطانه، و لا يخشى انتهاء زمان اقتداره، فلا داعي إلى المعاجلة، بل الأولى به إنظار من عصاه، و إمهال من ناواه، فإن فاء إلى الطاعة، و نزع عن المعصية، فبها و إلّا فهو له بالمرصاد.
كما قال أمير المؤمنين عليه السلام: و لئن أمهل اللّه الظالم، فلن يفوت أخذه و هو
__________________________________________________
(1) «الف» إذ.
224
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء السادس و الأربعين ص 203
..........
له بالمرصاد على مجاز طريقه، و بموضع الشجا من مساغ ريقه «1».
[ 1311] و الفاء من قوله: «فمن كان من أهل السعادة ختمت له بها» للتفريع و الترتيب.
و خذلته خذلا من باب- قتل-: تركت نصرته و إعانته و أسلمته، و الاسم الخذلان بالكسر، و معنى كونه من أهل السعادة أو الشقاوة، من قدّرت له السعادة أو الشقاوة تقديرا سابقا على الخلق.
كما رواه ثقة الإسلام في الكافي بسند صحيح عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: إنّ اللّه خلق السعادة و الشقاوة قبل أن يخلق خلقه، فمن خلقه اللّه سعيدا لم يبغضه أبدا، و إن عمل شرّا أبغض عمله و لم يبغضه، و إن كان شقيّا لم يحبّه و إن عمل صالحا أحبّ عمله و أبغضه لما يصير إليه، فإذا أحبّ اللّه شيئا لم يبغضه أبدا، و إذا أبغض شيئا لم يحبّه أبدا «2».
قال بعض أصحابنا في شرح هذا الحديث: اعلم أنّ السعادة و الشقاوة حالتان متقابلتان للإنسان، و لهما أثر و سبب قريب و سبب بعيد، أمّا الأثر: فهو استحقاق الثواب و العقاب، و أمّا السبب القريب: فهو الإتيان بالخيرات التي خيرها الإيمان و الإتيان بالشرور التي شرّها الكفر، و قد تطلق السعادة و الشقاوة على نفس هذا السبب أيضا، و أمّا السبب البعيد فهو ما أشار إليه سيّدنا الإمام الباقر عليه السلام بقوله: إنّ اللّه جلّ و عزّ قبل أن يخلق الخلق قال: كن ماء عذبا أخلق منك جنّتي و أهل طاعتي، و كن ملحا اجاجا أخلق منك ناري و أهل معصيتي، ثم أمرهما فامتزجا، فمن ثمّ يلد المؤمن الكافر و الكافر المؤمن «3» الحديث.
فإنّ هذين المائين سبب لإقتدار الإنسان على الخير و الشرّ، و تكليفه و ابتلائه
__________________________________________________
(1) نهج البلاغة: ص 141، الخطب 97.
(2) الكافي: ج 1 ص 152 ح 1.
(3) الكافي: ج 2 ص 6 ح 1.
225
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء السادس و الأربعين ص 203
..........
بهما، و مبدأ لاستعداده لقبول السعادة و الشقاوة، و ميله إليهما، و لا يقتضي ذلك الجبر، لأنّ الجبر إنّما يلزم لو خلقه من ماء اجاج فقط فإنّ ذلك كان يوجب انتفاء القدرة على الخير، و الظاهر أنّ السعادة و الشقاوة يطلقان على هذا السبب أيضا. و بالجملة هما في الحقيقة الحالتان المذكورتان، و إطلاقهما على السببين المذكورين توسّع من باب تسمية الشيء باسم سببه «1».
إذا عرفت ذلك فقوله عليه السلام: «إنّ اللّه خلق السعادة و الشّقاوة قبل أن يخلق الخلق» معناه قدّرهما قبل تقدير الخلق، أو قبل إيجاده فلا يرد أنّهما أمر عرضيّ له، كيف يتصوّر تحقّقه قبل تحقّق معروضه؟.
هذا إن أريد بهما الحالتان المذكورتان، أو السبب القريب، و إن أريد بهما سببهما البعيد فيحتمل أن يراد بخلقهما: تقديرهما، و أن يراد به أيجادهما، لأنّ مبدأ الخير و الشرّ ما أوجده اللّه تعالى في مبدأ الإنسان الذي هو الماء الذي اختمرت به طينته، و قوله عليه السلام: «فمن خلقه اللّه سعيدا» أي من كان تقديره أو ايجاده مقرونا بسعادته في علم اللّه، فلا يرد أنّ سعادته مكسوبة لا أنّه تعالى موجد لها، على ما هو الحقّ عند الإماميّة و قس على ذلك قوله عليه السلام: «و إن كان شقيّا» إلّا أنّ في تغيير اسلوب العبارة في طرف الشقيّ إيماء لطيفا إلى أنّه تعالى لا يخلق أحدا شقيا، و إنّما الشقاوة من كسب العبد، بخلاف السعادة فإنها أيضا و ان كانت من كسبه إلّا أنّه لحسن استعداده صار محلا للطفه تعالى به و توفيقه له في اكتسابها، فكأنّه تعالى خالق لها «2»، انته كلامه ملخّصا.
و بهذا التقرير ظهر معنى قوله عليه السلام: «فمن كان من أهل السعادة» إلى آخره، و في قوله عليه السلام: «ختمت له بها» إيذان بأنّ من كان من أهل السعادة
__________________________________________________
(1) شرح الكافي: للمولى محمد صالح المازندراني: ج 4 ص 374.
(2) شرح الكافي للمولى محمد صالح المازندراني: ج 4 ص 375- 376.
226
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء السادس و الأربعين ص 203
كلّهم صائرون إلى حكمك، و أمورهم آئلة إلى أمرك، لم يهن على طول مدّتهم سلطانك، و لم يدحض لترك معاجلتهم برهانك، حجّتك قائمة لا تدحض، و سلطانك ثابت لا يزول.
و ان عمل عمل من كان من أهل الشقاوة بمقتضى ما فيه من القوة الداعية إلى الشرّ فلن يخذله اللّه تعالى بل لا بدّ أن يختم عمله بعمل أهل السعادة.
كما رواه ثقة الإسلام في الكافي بسنده عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: انّه يسلك بالسعيد في طريق الأشقياء حتّى يقول الناس: ما أشبهه بهم بل هو منهم ثمّ تتداركه السعادة، و قد يسلك بالشقيّ طريق السعداء حتّى يقول الناس: ما أشبهه بهم بل هو منهم ثمّ تتداركه الشقاوة إن من كتبه اللّه سعيدا و إن لم يبق من الدنيا إلا فواق ناقة ختم له بالسعادة «1».
[ 1312] صار الشيء إلى كذا: انته إليه.
و الحكم: القضاء يقال: حكم به من باب- قتل- حكما أي قضى به.
و الامور: جمع أمر، قال الراغب: هو لفظ عام للأفعال و الأقوال كلّها و على ذلك قوله تعالى: إِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ «2».
و آل الشيء يؤول أولا و مئالا: رجع فهو آئل.
و إلى أمرك: أي إلى قضائك و نفاذ إرادتك و مشيّتك و المعنى أن كلّ من كان من أهل الشقاوة و أهل السعادة، منتهون إلى حكمك، و راجعة أمورهم إلى قضائك، تحكم فيهم حكما فصلا بما تراه من ثواب و عقاب و عفو و انتقام. كما قال تعالى: ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ «3».
و وهن يهن وهنا من باب- وعد-: ضعف فهو واهن.
__________________________________________________
(1) الكافي: ج 1 ص 154 ح 3 باب السعادة و الشقاء.
(2) المفردات: ص 24.
(3) سورة الانعام: الآية 164.
227
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء السادس و الأربعين ص 203
..........
و «على» بمعنى مع، أي مع طول مدّتهم، كأنّ سلطانه تعالى لزم طول مدّتهم لزوم الراكب لمركوبه، فلم تخل من معنى الاستعلاء.
و المراد بالسلطان هنا: الحجّة سمّيت بذلك لما للحقّ من التسلط على القلوب و الهجوم عليها و منه قوله تعالى: أَ تُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً «1» أي: حجّة ظاهرة و المراد بطول مدّتهم: إمّا طول أعمارهم كما قال تعالى: بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَ آباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ «2» أو طول المدّة التي لم يعاجلوا فيها بالجزاء، و بكلا المعنيين فسّر قوله تعالى: وَ لا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ «3» و المعنى أنّ طول إمهالك لهم و عدم المبادرة لهم بالانتقام لم يوجب ضعف حجّتك عليهم في الانتقام منهم بأن يفوتك ذلك، كما هو شأن حجج المخلوقين ألا ترى أن من كانت له حجّة على شخص، و لم يبادر بإقامتها عليه، و لم يأخذ بها حقّه منه، بل أمهله حتّى طالت مدّته وفاته وقت إقامتها عليه، ضعفت حجّته، و عجزت عن أخذ حقه بها، و توجه اللّوم عليه في إمهاله، بل لم يغنه إقامة الحجّة عليه حينئذ، و يحتمل أن يراد بالسلطان: التسلّط و التمكّن من القهر، و المعنى ظاهر.
و دحضت الحجّة دحضا من باب- نفع-: بطلت.
و البرهان: الحجّة و إيضاحها. و قد تقدّم الكلام على اختلافهم في صيغته و أنّ نونه زائدة أو أصليّة، و المعنى أنّ ترك معاجلتك لهم و إملائك لهم، لم يوجب بطلان حجتك عليهم، بأن يقال: لو كانت للّه حجّة عليهم لم يترك معاجلتهم.
[ 1313] و قوله عليه السلام: حجتك قائمة إلى آخره تأكيد لمضمون الجملتين قبله فعدم الوصل لكمال الاتّصال أو استئناف على وجه التعليل.
__________________________________________________
(1) سورة النساء: الآية 144.
(2) سورة الأنبياء: الآية 44.
(3) سورة الحديد: الآية 16.
228
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء السادس و الأربعين ص 203
فالويل الدّائم لمن جنح عنك و الخيبة الخاذلة لمن خاب منك و الشقاء الأشقى لمن اغترّ بك، ما أكثر تصرّفه في عذابك، و ما أطول تردّده في عقابك، و ما أبعد غايته من الفرج، و ما أقنطه من سهولة المخرج، عدلا من قضائك لا تجور فيه، و إنصافا من حكمك لا تحيف عليه.
و الحجّة: البيّنة و هي من الحجّ «1» بمعنى القصد كأنّها تقصد إثبات الحكم و تطلبه.
و قائمة: أي ثابتة من قام الشيء إذا ثبت.
و في نسخة: قائمة لا تحول خبر ثان أو حال مؤكّدة و صاحبها الضمير المستكن في الخبر، أي لا تذهب و لا تبطل من حال حولا إذا مضى، و منه الحول: للعام لأنّه يمضي و يذهب أو من حال الشيء يحول إذا تغيّر عن طبعه و وصفه كاستحال.
و الزوال ضدّ الثبات و لا يقال إلا فيما كان ثابتا، و اللّه أعلم.
قال ابن عبّاس: الويل: العذاب الأليم «2».
و قال الخليل: معنى الويل: شدّة الشرّ «3».
و قيل: الحزن «4»، و قيل: العذاب و الهلاك «5» و قيل: الهوان و الخزي «6».
و قال الأصمعي: هو التقبيح، و منه وَ لَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ «7».
و قال الفرّاء: الويل: كلمة شتم و دعاء و أصلها «وي» «8».
و هي كلمة تعجب أو كلمة تنبيه على الخطأ، جيء بعدها بلام الجرّ مفتوحة مع
__________________________________________________
(1) «الف»: الحجج.
(2) تفسير النيسابوري: ج 1 ص 109 و كذا في تفسير الكبير للفخر الرازي: ج 3 ص 140.
(3) تفسير ابن كثير: ج 1 ص 205. و كتاب العين: ج 8 ص 366 و فيه حلول الشر.
(4) مجمع البيان للطبرسي: ج 1- 2 ص 145.
(5) مجمع البيان للطبرسي: ج 1- 2 ص 145.
(6) مجمع البيان للطبرسي: ج 1- 2 ص 145.
(7) مجمع البيان للطبرسي: ج 1- 2 ص 145.
(8) الجامع لاحكام القرآن: ج 2 ص 8.
229
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء السادس و الأربعين ص 203
..........
المضمر، نحو: وي لك، وي له، ثم خلطت اللام بوي حتى صارت لام الكلمة، فأدخلوا بعدها لاما أخرى لصيرورة الاولى لام الكلمة، فقالوا: ويلا له ثمّ نقل إلى باب المبتدأ، فقيل: ويل لك، و أدخل عليها لام التعريف، فقيل: الويل له.
و جنح عن الشيء و إليه يجنح بفتحتين: مال، و جنح جنوحا من باب- قعد-:
لغة، و أصله من الجناح، كأنّ الجانح يستعين بجناحه في الميل إلى الشيء، أو في الميل عنه.
[ 1314] و الخيبة: فوت الظفر بالمطلوب.
و الخذلان: ترك النصرة و الإعانة.
و الشقاء: خلاف السعادة، و وصفه بالأشقى من باب ليل أليل و داهية دهياء «1» و شعر شاعر.
قال المرزوقي: من شأن العرب أن يشتقوا من لفظ الشيء الذي يريدون المبالغة في وصفه ما يتبعونه تأكيدا و تنبيها على تناهيه و من ذلك قولهم: ظل ظليل و داهية دهياء «2» و شعر شاعر، انته. و قد تقدّم في آخر الروضة الثامنة بيان أنّ ذلك من باب الإسناد المجازي فليرجع إليه.
و اغترّ به اغترارا: ظنّ الأمن من جهته فاجترأ عليه و لم يتحفّظ منه و لم يأخذ حذره، يقال: غرّه غرورا فاغترّ هو إذا أوهمه الأمن من المحذور، أو جرّأه عليه فاجترء هو عليه، و منه قوله تعالى: وَ لا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ* «3» أي: الشيطان، و قوله تعالى: يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ «4» أي ما خدعك به و ما جرأك على عصيانه.
قال الجوهري: يقال: ما غرّك بفلان: أي كيف اجترأت عليه «5».
__________________________________________________
(1) «الف» و واهية و هياء.
(2) «الف» و واهية و هياء.
(3) سورة لقمان: الآية 33.
(4) سورة الانفطار: الآية 6.
(5) الصحاح: ج 2 ص 769.
230
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء السادس و الأربعين ص 203
..........
فإن قلت: الوصف بالكرم في الآية يقتضي الاغترار به فكيف وقع الإنكار على المغتر به؟.
قلت: أجيب بأن الكرم لا ينافي الحكمة، بل هو مبني عليها، الا ترى أنّ إيصال النعم إلى الغير لو لم يكن مبنيّا على داعية الحكمة كان تبذيرا لا كرما، فكأنّه سبحانه قال: كيف اغتررت بكرمي و كرمي صادر عن الحكمة، و هي أن تقتضي «1» أن لا يهمل و إن أمهل و أن يجري أمور العباد بينهم على العدل و الإنصاف، لا على الجور و الاعتساف، فينتقم للمظلوم من الظالم، و يميّز بين البرّ و الفاجر، و أيضا فالكرم السابق لا يوجب كرما لاحقا بالعفو و الغفران لجميع المعاصي، لأنّ غاية الكرم هي أن يبتدى بالنّعم من غير عوض و لا غرض، أما الكريم إذا أمر المنعم عليه بشيء فتلقّاه بالعصيان و قابل النعمة بالكفران، فليس من الكرم أن يغمض عن جرمه، بل قد يعدّ ذلك ضعفا و ذلّة، لا سيّما إذا كان المنعم به هو معرفة المنعم.
و الحاصل: أنّ التعرّض لعنوان الكرميّة للإيذان بكفران النعمة، لا للإذن في الانهماك في عصيانه اغترارا بكرمه، و قد سبق في بعض الرياض في هذا المعنى كلام نفيس فليرجع إليه.
[ 1315] و ما أكثر تصرّفه في عذابك: أي تقلّبه فيه.
و تردّده أي: رجوعه فيه مرّة بعد أخرى، من ردّه إلى الشيء، أي رجعه إليه.
و الغاية: هنا بمعنى المدى.
و الفرج: انكشاف الغم.
[ 1316] و القنوط: اليأس، قنط يقنط من بابي- ضرب- و- تعب- فهو قانط و قنوط، و يعدّى بالهمزة.
__________________________________________________
(1) «الف»: تقضي.
231
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء السادس و الأربعين ص 203
..........
و المخرج: المخلص من قولهم: وجدت للأمر مخرجا: أي مخلصا و هو مصدر ميمّي بمعنى الخروج، و منه قوله تعالى: وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً «1» و هذه الفقرات الأربع تعجّب من حالته الهائلة التي هي تلبسه بمالا طاقة له به، و لا صبر عليه، و أصل التعجّب استعظام زيادة في وصف خفيّ سببها، و من ثمّ قيل إذا ظهر السبب بطل العجب، ثمّ قد يستعمل لفظ التعجّب لمجرّد الاستعظام من غير خفاء السبب، كما وقع هنا و منه قوله تعالى: فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ «2».
و «ما» عند سيبويه: نكرة تامّة «3» مفيدة لمعنى التعجّب مرفوعة بالابتداء و تخصيصها كتخصيص شرّ أهر ذا ناب «4» خبرها ما بعدها أي شيء عظيم أكثر تصرّفه في عذابك.
و عند الفرّاء: استفهاميّة و ما بعدها خبرها، أي أيّ شيء أكثر تصرّفه في عذابك «5».
و قيل: هي موصولة، و قيل: موصوفة بما بعدها و الخبر محذوف، أي الذي أو شيء أكثر تصرّفه في عذابك أمر عجيب فضيع.
و عدلا و إنصافا: منصوبان على المصدريّة بفعل محذوف أي تعدل عدلا، و تنصف إنصافا، و استظهر بعض النحويين أنّ العامل في مثل ذلك مضمون الجملة، و العدل خلاف الجور، و أنصفته إنصافا: عاملته بالعدل و القسط، و الاسم النصفة بفتحتين.
و الظرفان من قوله: «من قضائك و من حكمك» في محل نصب على النعت، و الجملتان بعدهما إمّا نعتان أيضا من باب تعدد النعوت، أو حالان من المصدرين
__________________________________________________
(1) سورة الطلاق: الآية 2.
(2) سورة البقرة: الآية 175.
(3) شرح ابن عقيل: ج 2 ص 148.
(4) مجمع الامثال: ج 1 ص 384.
(5) تفسير روح المعاني: ج 2 ص 44.
232
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء السادس و الأربعين ص 203
فقد ظاهرت الحجج، و أبليت الأعذار، و قد تقدّمت بالوعيد، و تلطفت في التّرغيب، و ضربت الأمثال، و أطلت الإمهال، و أخرت، و أنت مستطيع للمعاجلة، و تأنّيت و أنت ملي بالمبادرة، لم تكن أناتك عجزا، و لا إمهالك وهنا، و لا إمساكك غفلة، و لا انتظارك مداراة، بل لتكون حجّتك أبلغ، و كرمك أكمل، و إحسانك أوفى، و نعمتك أتمّ.
لتخصّصهما بالوصف، و فائدتهما التأكيد، و رابط الجملة الثانية محذوف، أي:
لا تحيف به عليه.
و حاف في حكمه يحيف حيفا: جار و ظلم.
و قال الراغب: الحيف الميل في الحكم و الجنوح إلى أحد الجانبين قال اللّه تعالى: أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَ رَسُولُهُ أي يخافون أن يجور في حكمه «1» و اللّه أعلم.
[ 1317] «الفاء»: سببيّة إذ ما بعدها من مظاهرة الحجج.
و إبلاء الأعذار: إلى آخره سبب لتنزيهه تعالى عن الجور و الحيف.
قال الرضي: و قد تجيء «فاء» السببيّة بمعنى لام السببيّة، و ذلك إذا كان ما قبلها سببا لما بعدها «2».
و قد: للتحقيق.
و ظاهرت الحجج: أي: تابعتها و واترتها و كثّرتها، من المظاهرة «3» بمعنى المعاونة، كأنّه جعل بعضها «4» ظهيرا لبعض، و قول بعضهم: جعلتها «5» ذات ظهور، من ظهر يظهر
__________________________________________________
(1) المفردات: ص 137.
(2) شرح الكافية في النحو: ج 2 ص 366.
(3) «الف»: المتظاهرة.
(4) «الف»: بعضه.
(5) «الف»: أي جعلتها.
233
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء السادس و الأربعين ص 203
..........
ظهورا: أي برز بعد الخفاء، أو من ظهر على عدوّه ظهورا أيضا إذا غلبه، فإنّ «فاعل» كثيرا ما يجيء بمعنى جعل الشيء ذا أصله، مثل عاقبت فلانا: إذا جعلته ذا عقوبة، و عافاك اللّه: جعلك ذا عافية، و راعنا سمعك: أي اجعله ذا رعاية لنا ليس بشيء، قيل: و يجوز أن يكون للتكثير، أي أكثرت إظهارها كضاعفت الشيء: أي أكثرت أضعافه.
و أبليته عذرا: أديته إليه فقبله كذا في القاموس «1».
و قال الزمخشري في الأساس: قولهم أبليته عذرا إذا بيّنته بيانا لا لوم عليك بعده و حقيقته جعلته باليا لعذري أي: خابرا له عالما بكنهه «2».
و الأعذار: جمع عذر بالضمّ، و هو في الإنسان تحريه ما يمحو به ذنوبه، و من اللّه سبحانه بيان الحجج التي تقوم بعذره إذا عاقب الجاني، فلا يكون عليه لوم، و لا ينسب إليه جور في ذلك، و لذلك فسر بعضهم قوله تعالى: عُذْراً أَوْ نُذْراً «3» فقال: أي حجّة أو تخويفا، و تقدّمت إلى فلان بكذا: أي أعلمته قبل الحاجة إلى فعله و قبل أن دهمه «4» الأمر، و منه قوله تعالى: لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَ قَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ «5».
و قدم و تقدّم: بمعنى.
و الوعيد في الشرّ: كالوعد في الخير.
و تلطّفت به: ترفّقت.
و رغبته في الشيء ترغيبا: بيّنت له محاسنه و عدّدت عليه فضائله ليرغب فيه و يحرص عليه.
__________________________________________________
(1) القاموس المحيط: ج 4 ص 305.
(2) أساس البلاغة: ص 51.
(3) سورة المرسلات: الآية 6.
(4) «الف» وهمه.
(5) سورة ق: الآية 28.
234
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء السادس و الأربعين ص 203
..........
[ 1318] قوله عليه السلام: و ضربت الأمثال تلميح إلى قوله تعالى: وَ تِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ «1» و قوله تعالى: وَ تِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَ ما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ «2» و قوله تعالى: وَ لَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ «3».
قال جار اللّه: أي: وصفنا كلّ صفة كأنّها مثل في غرابتها و قصصنا عليهم كل قصة عجيبة «4».
و قال الجوهري: ضرب اللّه مثلا أي: وصف و بيّن «5».
و قال العلامة الطبرسي: ضرب الأمثال: هو جعلها لتسير في البلاد، يقال:
ضربت القول مثلا و أرسلته مثلا و ما أشبه ذلك «6».
و قال الزمخشري في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ضرب المثل: اعتماده و صنعه، من ضرب اللبن و ضرب الخاتم «7».
و قال العمادي: ضرب المثل استعماله في مضربه و تطبيقه به، لا صنعه و إنشاؤه في نفسه، و إلا لكان إنشاء الأمثال السائرة في موردها ضربا دون استعمالها بعد ذلك في مضاربها لفقدان الإنشاء هناك، و الأمثال الواردة في التنزيل و إن كان استعمالها في مضاربها عين انشائها في أنفسها لكن التعبير بالضرب ليس بهذا الاعتبار، بل بالاعتبار الثاني قطعا، و هو إمّا مأخوذ من ضرب الخاتم بجامع التطبيق، فكما أنّ ضربه تطبيقه بقالبه، كذلك استعمال الأمثال في مضاربها تطبيقها بها، كأنّ المضارب قوالب تضرب الأمثال على مشاكلتها، لكن لا بمعنى أنّها تنشأ بحسبها بعد أن لم تكن كذلك، بل بمعنى أنّها تورد منطبقة عليها، سواء
__________________________________________________
(1) سورة الحشر: الآية 21.
(2) سورة العنكبوت: الآية 43.
(3) سورة الزمر: الآية 27.
(4) تفسير الكشاف: ج 3 ص 488.
(5) الصحاح: ج 1 ص 168.
(6) مجمع البيان: ج 1- 2 ص 66.
(7) تفسير الكشاف: ج 1 ص 114.
235
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء السادس و الأربعين ص 203
..........
كان إنشاؤها حينئذ كعامّة الأمثال التنزيليّة، أو قبل ذلك كسائر الأمثال السائرة، فإنها و إن كانت مصنوعة من قبل، إلّا أنّ تطبيقها إيرادها منطبقة على مضاربها، إنّما يحصل عند الضرب، و إمّا من ضرب الطين على الجدار ليلتزق به بجامع الالصاق، كأنّ من يستعملها يلصقها بمضاربها و يجعلها ضربة لازب لا تنفك عنها لشدّة تعلّقها بها، انته «1».
قالوا و مورد المثل ما ورد به أولا حين إنشائه و إرساله. و مضربه: ما يضرب له ثانيا و يستعمل فيه، و قد أسلفنا الكلام على معنى المثل و الأمثال القرآنية في الروضة الثانية و الأربعين، في شرح دعائه عليه السلام عند ختمه القرآن فليرجع إليه.
و الطول: خلاف القصر، و هما من الأسماء المتضائفة و يستعملان في الأعيان و الأعراض و المعاني فيقال: رجل طويل، و زمان طويل، و أمل طويل، و قد طال يطول من باب- قال- طولا بالضمّ، و يعدّى بالهمزة فيقال: أطلته و أمهلته إمهالا:
أنظرته و لم أعجل عليه و مهلته تمهيلا مثله، قال تعالى: فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً «2».
و أخّرته تأخيرا: ضدّ قدّمته.
و الاستطاعة: القدرة يقال: استطاعة و اسطاعة بحذف التاء لمقاربتها الطاء في المخرج فاستحقّ بحذفها، أي قدر عليه و اطاقه.
و قيل: الاستطاعة أخص من القدرة، و كلّ مستطيع قادر، و ليس كلّ قادر بمستطيع، لأنّ الاستطاعة اسم لمعان يتمكّن بها الفاعل ممّا يريده من إحداث الفعل، و هي أربعة أشياء: إرادته للفعل، و قدرته على الفعل بحيث لا يكون له
__________________________________________________
(1) تفسير أبي السعود: ج 1 ص 72.
(2) سورة الطارق: الآية 17.
236
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء السادس و الأربعين ص 203
..........
مانع، و منه «1» علمه بالفعل، و تهيّؤ ما يتوقّف عليه الفعل ألا ترى أنّه يقال: فلان قادر على كذا لكنّه لا يريده أو يمنعه منه مانع أو لا علم له به أو يعوذه كذا، فظهر أنّ القدرة أعمّ من الاستطاعة، و الاستطاعة أخصّ من القدرة.
و عاجله بذنبه لم يمهله و لم يؤخر عقوبته، و هو من العجلة بمعنى السرعة.
و تأنّى في الأمر: تمكّث و لم يعجل.
و فلان مليء بكذا أي: قادر عليه مضطلع به، و قد ملؤ به بضمّ العين ملاءة بالمدّ بالفتح و المدّ و هم مليئون به، و ملاء كعلماء.
و بادر إليه مبادرة و بدارا: أسرع و منه قوله تعالى: وَ لا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَ بِداراً «2».
[ 1319] و الأناة كحصاة: اسم من التّأنّي بمعنى التمكّث و التمهّل.
و العجز: القصور عن فعل الشيء، و هو ضدّ القدرة.
و الوهن: الضعف، و قد وهن يهن وهنا من باب- وعد- فهو وهن في الأمر و العمل و البدن.
فأمسكت عن الأمر إمساكا: كففت عنه و منعت نفسي منه، و المعنى إمساكك نفسك عن العذاب، أو إمساكك العذاب عن الخلق.
و الغفلة: سهو يعتري من قلّة التيقّظ و التحفّظ.
و الإنظار: التأخير و الإمهال، و منه قوله تعالى: وَ ما كانُوا مُنْظَرِينَ «3».
و داراه مداراة: لاطفه و لاينه اتقاء شرّه.
قال الجوهري: مداراة الناس تهمز و لا تهمز، و هي المداجاة و الملاينة قال:
و المداجاة المداراة يقال: داجيته أي داريته كأنّك ساترته العداوة «4» انته.
__________________________________________________
(1) «الف» مانع منه و علمه.
(2) سورة النساء: الآية 6.
(3) سورة الدخان: الآية 29.
(4) الصحاح: ج 6 ص 2334.
237
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء السادس و الأربعين ص 203
..........
و «بل» هنا حرف عطف عند ابن مالك و جماعة، و مفادها تقرير ما بعدها، فإن كان قبلها نفي و نحوه كما نحن فيه، كانت بين حكمين مقرّرين، فتقرّر حكم ما قبلها و تجعل ضدّه لما بعدها، قال ابن مالك هذا هو الصحيح «1».
و قال الرضي «2» و غيره: «بل» الداخلة على الجملة حرف ابتداء لا عاطفة و فائدتها الإضراب و الانتقال من جملة إلى أخرى أهمّ من الاولى و لا تكون عاطفة إلّا إذا تلاها مفرد «3».
قال البدر الدماميني في شرح التسهيل: و هو الصحيح «4» انته. و الحقّ أنّ ما ذهب إليه ابن مالك أظهر في المعنى، فلا داعي إلى جعلها عاطفة و غير عاطفة.
قوله عليه السلام: لتكون حجّتك أبلغ أي: أبين و أوضح، فلا تكون حجّة أبلغ منها، قال تعالى: قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ «5» أي البيّنة الواضحة التي بلغت غاية المتانة و الثبات أو بلغ منها صاحبها صحّة دعواه و قيل: هي التي تبلغ قطع عذر المحجوج بأن تزيل كلّ لبس و شبهة عمّن نظر فيها و استدلّ بها، و إنّما كانت حجّته تعالى بالغة لأنّه لا يحتج إلّا بالحقّ، و ربما أدّى إلى العلم.
و الكرم: يستعمل بمعنى انتفاء النقائص عن الشيء و اتّصافه بجميع المحامد، و قد يعبّر به عن إيثار الصفح عن الجاني و الإحسان إلى المسيء، و السبق بالإنعام و يكون عبارة عن الجاه و السّؤدد اللّذين يكونان عن بذل المعروف و التّحلي بالمحمود من أخلاق و صفات.
و الأكمل: البالغ في الكمال غايته فلا أكمل منه، يقال: كمل الشيء إذا تمّت أجزاؤه و كملت محاسنه، و قيل الكمال أمر زائد على التمام فالناقص يتمّم
__________________________________________________
(1) الكافية في النحو: ج 2 ص 378- 379.
(2) الكافية في النحو: ج 2 ص 378- 379.
(3) مغني اللبيب: ص 151- 152.
(4) لا يوجد لدينا كتابه.
(5) سورة الانعام: الآية 149.
238
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء السادس و الأربعين ص 203
كلّ ذلك كان و لم تزل، و هو كائن و لا تزال، حجّتك أجلّ من أن توصف بكلّها، و مجدك أرفع من أن يحدّ بكنهه، و نعمتك أكثر من أن تحصى بأسرها، و إحسانك أكثر من أن تشكر على أقلّه.
و التام يكمل.
و قال الراغب: كمال الشيء حصول ما به الغرض منه فإذا قيل: كمل فمعناه حصل ما هو الغرض منه، قال تعالى: وَ الْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ تنبيها على أن ذلك غاية ما يتعلّق به إصلاح الولد «1» انته.
[ 1320] و الأوفى: الأشدّ وفاء، أي بلوغا في التمام، يقال: وافى الشيء إذا بلغ التمام فلا مجال للنقص فيه.
و الأتمّ: الزائد في التمام، من تمّ الشيء إذا انته إلى حدّ لا يحتاج إلى شيء خارج عنه، و هو ضدّ النقصان.
ذلك إشارة إلى المذكور «2» من مظاهرة الحجج، و إبلاء الأعذار و التقدّم بالوعيد إلى غير ذلك ممّا فصّله في الفصل السابق.
و كان هنا تامّة بمعنى ثبت أي وقع «3» أو قدر.
و قوله: «و لم يزل» يروى بالياء المثناة التحتانيّة على أنّ الضمير فيه عائد إلى كلّ ذلك فالواو فيه للعطف على كان، أي و لم يزل كلّ ذلك كائنا، و الغرض رفع توهّم انقطاع كونه كما يقتضيه الإخبار بصيغة الماضي لأنّ لم يزل بمعنى ما زال و هي موضوعة لاستمرار مضمون خبرها في الماضي و يروى بالتّاء المثناة الفوقانيّة، فالواو فيه للحال أي: و الحال إنّك لم تزل كائنا أي: ثابتا من الكون بمعنى الثبوت الذي هو بمعنى الأزليّة.
__________________________________________________
(1) المفردات: ص 441.
(2) «الف»: المذكورين.
(3) «الف»: و قدر.
239
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء السادس و الأربعين ص 203
..........
قال ابن مالك: إذا أريد بكان ثبت سميت تامّة، و ثبوت كلّ شيء بحسبه، فتارة يعبّر عنه بالأزلية نحو: كان اللّه و لا شيء معه، و تارة بحدث نحو: إذا كان الشّتاء، و تارة بحضر نحو: و إن كان ذو عسرة، و تارة بقدر أو وقع نحو: ما شاء اللّه كان، انته «1»، و إنّما احتجنا إلى تقدير خبر لقوله: لم تزل لإجماعهم على لزوم النقص لما زال، و متصرّفاتها إذا أريد بها الدوام، و الاستمرار.
فإن قلت: حذف خبر كان و أخواتها لا يجوز و إن قامت قرينة إلّا ضرورة كما نصّ عليه أبو حيّان حيث قال: نصّ أصحابنا على أنّه لا يجوز حذف اسم كان و اخواتها و لا حذف خبرها لا اختصارا و لا اقتصارا، أمّا الاسم فلأنّه مشبّه بالفاعل، و أمّا الخبر فكان قياسه جواز الحذف، لأنّه إن روعي أصله و هو خبر المبتدأ جاز حذفه أو ما آل إليه من شبهه بالمفعول فكذلك، لكنّه صار عندهم عوضا من المصدر لأنّه في معناه، و الأعواض لا يجوز حذفها قالوا: و قد يحذف في الضّرورة «2» انته.
فقوله: لا اختصارا و لا اقتصارا نصّ في عدم جواز الحذف لدليل و غيره، فقد جرت عادتهم بأنّهم يريدون بالاختصار: الحذف لدليل، و بالاقتصار: الحذف لغير دليل.
قلت: المسألة ليس مجمعا عليها فقد ذهب بعض النحوييّن إلى جواز حذفه لقرينة اختيارا كما حكاه العلّامة السيوطي في جمع الجوامع و شرحه «3»، فتكون عبارة الدعاء شاهدا لصحة هذا المذهب و كفى به شاهدا و على هذا المذهب قيل:
في قوله تعالى: وَ إِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ «4» إن كان ناقصة و الخبر محذوف لدلالة الكلام عليه و التقدير و إن كان ذو عسرة غريما لكم.
قال الراغب: و هذا أجود من كونها تامّة لأنّ التامّة أكثر ما يتعلّق بها الأحداث
__________________________________________________
(1) لم نعثر عليه.
(2) همع الهوامع شرح جمع الجوامع: ج 1 ص 116.
(3) همع الهوامع شرح جمع الجوامع: ج 1 ص 116.
(4) سورة البقرة: الآية 280.
240
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء السادس و الأربعين ص 203
..........
دون الأشخاص نحو: كان الخروج كقولك: اتّفق الخروج و لا تقول: كان زيد و اتّفق زيد «1» انته.
فترى كيف خرّج على هذا القول أفصح الكلام، فلا عبرة بقول أبي حيّان و أصحابه بعد وقوعه في كلام أفصح الناس في زمانه.
و قوله عليه السلام: و هو كائن و لا يزال يروى بالمثنّاة التحتانيّة و الفوقانيّة فعلى الأوّل الواو عاطفة أي و كلّ ذلك كائن حالا و لا يزال كائنا استقبالا، لأنّ اسم الفاعل حقيقة في الحال فربّما أوهم أنّه لا يكون في المستقبل، فنصّ عليه بقوله:
و لا يزال الذي هو نصّ في الدوام و الاستمرار، لأنّها موضوعة لاستمرار مضمون خبرها في المستقبل، و على الثانية الواو حاليّة أي: و الحال أنّك لا تزال كائنا أي ثابتا ثبوتا أبديّا كما مرّ.
[ 1321] قوله عليه السلام: حجّتك أجلّ من أن توصف بكلّها أي أعظم من أن تنعت بكلّ وصفها، ففي الكلام حذف مضاف دلّ عليه المعنى، لأنّ الغرض تنزيه حجّته تعالى عن اقتدار المخلوقين على الإحاطة بوصفها، لا تنزيهها عن وصف جميع أجزائها كما هو ظاهر و يدل عليه ما بعده، و نظير ذلك في حذف المضاف قوله تعالى:
إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا «2» أي: كلّ أفعال هذه الجوارح، لأنّ السّؤال عن أفعال الحواس لا عن أنفسها.
و المجد قيل: السعة في الكرم و الجلالة، و قيل: هو العزّ و الشّرف، و قيل شرف الذات إذا قارنه حسن الفعال سمّي مجدا.
و حدّدت الشيء حدّا: وصفته وصفا محيطا بمعناه مميّزا «3» عن غيره.
و كنه الشيء: حقيقته و نهايته و عرفته كنه المعرفة، أي حقيقة المعرفة، و قيل: كنه
__________________________________________________
(1) لم نعثر عليه.
(2) سورة الاسراء: الآية 36.
(3) «الف»: مميزا له عن.
241
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء السادس و الأربعين ص 203
..........
الشيء قدره.
قال الجوهري: و لا يشتق منه فعل و قولهم: لا يكتنه «1» الوصف بمعنى لا يبلغ كنهه كلام مولّد «2» انته.
و في الأساس للزمخشري: سله عن كنه الأمر عن حقيقته و كيفيّته، و اكتنه الأمر بلغ كنهه، و عندي من السرور بمكانك ما لا يكتنهه الوصف و اكتنهه الأمر بلغ غايته «3» انته.
قوله عليه السلام: من أن تحصى بأسرها: أي: من أن يحصى جميعها و أصل الأسر شدّ القتب بالإسار و هو القدّ أي السير المقدود من جلد غير مدبوغ ثمّ قيل:
خذه بأسره أي: جميعه.
قال الجوهري: هذا الشيء لك بأسره أي بقدّه يعني جميعه كما تقول برمّته «4» انته.
يشير إلى أنّ أصل قولهم: «برمّته» أنّ رجلا دفع إلى رجل بعيرا بحبل في عنقه فقيل لكلّ من دفع شيئا بجملته أعطاه برمّته، و الرمّة بالضمّ قطعة من الحبل بالية.
إذا عرفت ذلك: فتفسير من فسّر الأسر بالجميع غير جيّد لإيهامه أن الأسر لفظ موضوع لمعنى الجميع مرادف له و ليس كذلك.
و «الباء» في الفقر الثلاث للملابسة متعلّقة بمحذوف وقع حالا من الضمير في الأفعال المبنيّة للمفعول، و التقدير حجّتك أجلّ من أن توصف حال كونها ملتبسة «5» بكلّها، و قس عليه ما بعده و يجوز أن تكون متعلّقة بالأفعال المذكورة، لأنّ
__________________________________________________
(1) «الف»: يكتنهم.
(2) الصحاح: ج 6 ص 2247.
(3) أساس البلاغة: ص 552.
(4) الصحاح: ج 2 ص 578.
(5) «الف»: متلبسة.
242
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء السادس و الأربعين ص 203
و قد قصّر بي السّكوت عن تحميدك، و فهّهني الامساك عن تمجيدك و قصاراي الاقرار بالحسور لا رغبة- يا إلهي- بل عجزا، فها أنا ذا أؤمّك بالوفادة، و أسألك حسن الرّفادة، فصلّ على محمّد و آله، و اسمع نجواي و استجب دعائي، و لا تختم يومي بخيبتي، و لا تجبهني بالرّدّ في مسألتي، و أكرم من عندك منصرفي، و إليك منقلبي.
باء الملابسة لا منع من وقوعها لغوا على ما استظهره الرّضي «1»، و إن قيل: إنّها لا تكون بهذا المعنى إلّا مستقرّا، و ما يظهر من تفضيل حجّته تعالى في الجلالة على وصفها بكلّها، و مجده في الرفعة على حدّة بكنهه، و نعمته في الكثرة على إحصائها بأسرها، و إحسانه فيها على شكره تعالى على أقلّه، و هو لا معنى له تقدّم الكلام عليه في الروضة السادسة عشرة «2» مبسوطا و استوفينا نقل أقوال العلماء فيه فلا نطوّل بإعادته هنا.
[ 1322] قصرت بنا النفقة قصورا من باب- قعد- و قصرّت تقصيرا للمبالغة لم تبلغ بنا مقصدنا، فالباء للتعديّة مثل خرجت به.
و السكوت: الصمت، و ترك الكلام.
و التحميد: حمد اللّه مرّة بعد أخرى.
و الفهة و الفهاهة: العيّ، و الحصر في النطق و قد فهه فهها محرّكا من باب- تعب- و فهه اللّه أيضا يتعدّى و لا يتعدّى، و هي رواية ابن إدريس في عبارة الدعاء، و فهّه اللّه بالتثقيل و هي الرواية المشهورة.
و في نسخة: «و أفحمني» أي أسكتني، قال الفارابي في ديوان الأدب: أفحمه أي أسكته في خصومة أو غيرها «3».
__________________________________________________
(1) شرح الكافية في النحو: ج 2 ص 327.
(2) «الف»: عشر.
(3) ديوان الأدب: ج 2 ص 330.
243
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء السادس و الأربعين ص 203
..........
و أمسك عن الأمر إمساكا: كفّ عنه.
و مجّده تمجيدا: عظّمه و أثنى عليه، و إسناد التقصير إلى السكوت و التفهية إلى الإمساك مجاز عقلي لتلبّسهما بالفاعل الحقيقي و هو نفسه على ما صرّح به صاحب الكشّاف حيث قال: المجاز العقلي أن يسند الفعل إلى شيء يتلبّس بالذي هو في الحقيقة له كتلبّس التجارة بالمشترين «1» في قوله تعالى: فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ «2».
و قصاراي: أي غايتي و آخر أمري، يقال: قصاراك أن تفعل كذا بالضمّ، و قصرك بالفتح و قصيراك على صيغة التصغير، أي غايتك و جهدك.
و قال الزمخشري في الفايق: و هو من القصر بمعنى الحبس لأنّك إذا بلغت الغاية حبستك و يصدّقه قولهم في معناه ناهيك «3».
و أقرّ بالشيء إقرارا: اعترف به.
و الحسور: الكلال و الانقطاع من حسر البصر حسورا أي: كلّ و انقطع عن النظر لطول مدى و نحوه.
و في النهاية: حسر إذا أعيا و تعب يحسر حسورا فهو حسير «4».
قوله عليه السلام: «لا رغبة يا إلهي بل عجزا» نصب على المفعول لأجله أي إقراري بالحسور لا لرغبة فيه أو لا لرغبة عن تحميدك أو تمجيدك بل لعجزي عن القيام بما يجب لك منهما، و يحتمل النصب على المصدريّة و التقدير لا أرغب رغبة بل عجزت عجزا.
[ 1323] قوله عليه السلام: «فها أنا ذا أؤمّك» «الفاء»: فصيحة، أي إذا كان الأمر
__________________________________________________
(1) تفسير الكشاف: ج 1 ص 70.
(2) سورة البقرة: الآية 16.
(3) الفائق في غريب الحديث: ج 3 ص 201.
(4) النهاية لابن الأثير: ج 1 ص 384.
244
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء السادس و الأربعين ص 203
..........
كذلك، فها أنا أقصدك من أمّه أمّا من باب- قتل- أي قصده.
و الوفادة: بالكسر مصدر وفد عليه وفدا من باب- وعد- و وفودا و وفادة فهو وافد و هم وفد.
قال الراغب: هم الذين يقدمون على الملوك مستنجزين الحوائج «1».
و قال ابن الأثير: هم الذين يقصدون الامراء لزيارة و استرفاد و انتجاع و غير ذلك «2» انته.
و «الباء» للملابسة، أي ملتبسا بالوفادة إذ مجرّد الوفادة يقتضي الكرامة لأنّ من وفد على عظيم زائرا أو مسترفدا لزمه كرامته و إن لم يكن له عنده سابقة يد أو معروف يجب الجزاء عليه.
و في الحديث: الحاج وفد اللّه «3».
و الرفادة: بالكسر الإعانة من رفده رفدا من باب- ضرب- أي أعانه، و منه قول ابن عبّاس: و الذين عاقدت أيمانكم من النصر و الرفادة «4».
و يقال: رفده أيضا بمعنى أعطاه و وصله و هو إعانة أيضا.
قال الزمخشري في الأساس: رفد فلانا و أرفده أعانه بعطاء أو قول أو غير ذلك، يقال: فلان نعم الرافد إذا حلّ به الوافد «5» و منه: الرفادة للحاج: و هو شيء كانت تترافد أي تتعاون به قريش في الجاهليّة يخرج كلّ إنسان بقدر طاقته مالا فيجمعونه فيما بينهم و يشترون به للحاج طعاما و زبيبا للنبيذ و يطعمون الحاج و يسقونهم أيّام الموسم حتّى ينقضي و كانت الرفادة و السقاية لبني هاشم و السدانة و اللواء لبني عبد الدار.
__________________________________________________
(1) المفردات: ص 528.
(2) النهاية لابن الأثير: ج 5 ص 209.
(3) أساس البلاغة: ص 683.
(4) النهاية لابن الأثير: ج 2 ص 242.
(5) أساس البلاغة: ص 240.
245
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء السادس و الأربعين ص 203
..........
[ 1324] و النجوى: اسم من ناجيته إذا ساررته و خاطبته سرّا.
و قال الفرّاء: قد يكون النّجوى اسما و مصدرا «1».
و قال الجوهري: نجوته نجوا أي ساررته و كذلك ناجيته و انتجى القوم و تناجوا:
أي تسارّوا و الاسم النجوى «2».
و معنى اسمع نجواي: أجب دعائي لك سرّا و تقبّله من قولهم: سمع اللّه دعاءه أي: أجابه و منه: سمع اللّه لمن حمده «3»، لأنّ غرض السماع الإجابة، و في الدعاء أعوذ بك من دعاء لا يسمع أي: لا يستجاب «4».
و الاستجابة: الإجابة يقال: أجاب اللّه دعاءه و استجابه بمعنى و ليست السين فيه للطلب، قال تعالى: أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ «5» و قال ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ «6» و فرّق بعضهم بين الإجابة و الاستجابة فقال: الإجابة عامّة و الاستجابة خاصّة بإعطاء المسئول.
و الخيبة: الحرمان و الخسران.
و جبهه بالمكروه كمنعه: لقيه به و أصله من جبهته إذا ضربت جبهته.
و ردّ السائل ردّا: منعه و صرفه محروما لم يعطه شيئا، و منه: لا تردّ السائل و لو بظلف «7».
[ 1325] و المنصرف و المنقلب بفتح العين فيهما مصدران بمعنى الانصراف و الانقلاب
__________________________________________________
(1) لسان العرب: ج 15 ص 308.
(2) الصحاح: ج 6 ص 2503.
(3) وسائل الشيعة: ج 4 ص 674. و النهاية لابن الأثير: ج 2 ص 401.
(4) النهاية لابن الأثير: ج 2 ص 401.
(5) سورة البقرة: الآية 186.
(6) سورة غافر: الآية 60.
(7) النهاية لابن الأثير: ج 2 ص 214.
246
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء السادس و الأربعين ص 203
إنّك غير ضائق بما تريد، و لا عاجز عمّا تسأل، و أنت على كلّ شيء قدير و لا حول و لا قوّة إلا باللّه العليّ العظيم.
و هما بمعنى، يقال: صرفته فانصرف و قلّبته فانقلب و أصلهما من الصرف و القلب بمعنى ردّ الشيء من حالة إلى حالة و أمر إلى أمر و لهذا إذا عدّيا بمن أو عن كانا بمعنى الذهاب يقال: انصرفت عنه و من عنده و انقلبت عنه، و من المكان أي ذهبت عنه و إذا عدّيا ب «إلى» كانا بمعنى الإتيان و الرجوع، يقال: انصرفت إليه و انقلبت إليه أي: رجعت إليه و أتيته، و ما ذاك إلّا أنّ كلا من الذهاب و الرجوع تحوّل من حال إلى حال و تردّد من أمر إلى أمر، و إيقاع الإكرام على المنصرف و المنقلب مجاز عقلي على ما صحّ من أنّه أعمّ من أن يكون في النسبة الإسناديّة أو الإيقاعيّة أو الإضافيّة، و قد تقدّم الكلام على ذلك مستوفى، و اللّه أعلم.
الجملة و ما بعدها تعليل لاستدعاء التقبّل و الاستجابة و تأكيدها لغرض كمال قوّة يقينه بمضمونها.
و غير هنا لمجرّد النفي فهي بمعنى لا نحو: غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ «1» و غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ* «2».
و ضاق بالأمر: شق عليه و لم تسعه قدرته أي لا يشق عليك ما تريده و لا تعجز عنه، و أصله من الضيق خلاف السعة.
و «لا» مزيدة لتأكيد النفي المدلول عليه بغير كأنّه قيل: لا ضائق بما تريد و لا عاجز.
و «ما» في الموضعين موصولة أو موصوفة و مفعولا تريد و تسأل محذوفان أي:
تريده و تسأله و حذف المفعول كثير مطرّد إذا وقع ضميرا عائدا إلى الموصول أو الموصوف و منه إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ «3» و لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ «4».
__________________________________________________
(1) سورة الاحزاب: الآية 53.
(2) سورة البقرة: الآية 173.
(3) سورة المائدة: الآية 1.
(4) سورة الانبياء: الآية 23.
247
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء السادس و الأربعين ص 203
..........
[ 1326] و أنت على كلّ شيء قدير: أي مبالغ في القدرة عليه تتصرّف فيه حسب ما تقتضيه مشيئتك «1» المبنيّة على الحكم البالغة، و الجملة معطوفة على الجملة قبلها مقررة لمضمونها مفيدة لجريان قدرته في جلائل الامور و دقائقها، و قد سبق الكلام على معنى قدرته تعالى و تعلّقها بكلّ شيء، و معنى الشيء فليرجع إليه.
و الحول: قيل المراد به هنا القدرة، أي لا قدرة على شيء و لا قوّة إلّا بإعانة اللّه سبحانه.
و قيل: الحركة، أي لا حركة و لا استطاعة على التصرّف إلّا بمشيته تعالى، و قيل: الحيلة بمعنى تقليب الفكر للاهتداء إلى المقصود.
و روى رئيس المحدّثين قدس سرّه في كتاب التوحيد: عن الباقر عليه السلام:
أنّ الحول هاهنا بمعنى التحول و الانتقال، و المعنى لا حول لنا عن المعاصي و لا قوّة لنا على الطاعة إلّا بتوفيق اللّه سبحانه «2».
فينبغي قصد هذا المعنى المرويّ لا غير و قد أسلفنا في شرح السند ذكر وجوه الإعراب في هذه الكلمة و ذكر ما قيل في معناها بأبسط من هذا فلا نطوّل بإعادته.
و في الحديث: لا حول و لا قوّة إلّا باللّه كنز من كنوز الجنّة «3».
قال بعض العلماء: في هذه الكلمة الشّريفة تسليم للقضاء و القدر و إظهار الفقر إلى اللّه بطلب المعونة منه في جميع الامور و إبراز لعجز البشر بسلب القوّة و الحركة في الخيرات و الطاعات و صرف الشرور و السيئات عنهم و إثباتهما للملك العلّام توقيرا و تعظيما له و دلالة على التوحيد الخفي، لأنّ من نفى الحيلة و الحركة و القوّة و الاستطاعة عن غيره و اثبتها له سبحانه على الحصر الحقيقي و بيّنه أنّه بإيجاده
__________________________________________________
(1) «الف»: مشيّتك.
(2) التوحيد: ص 242 ح 3.
(3) النهاية لابن الاثير: ج 4 ص 203.
248
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء السادس و الأربعين ص 203
..........
و استعانته و توفيقه لزمه القول بأنّه لم يخرج شيء من ملكه و ملكوته و أنّه لا شريك له تحقيقا لمعنى الحصر و في ختم الدّعاء بها اشعار بما رواه ثقة الإسلام في الكافي بسند صحيح عن أبي عبد اللّه عليه السلام أنّه قال: إذا دعا الرجل فقال بعد ما دعا: «ما شاء اللّه لا قوّة إلّا باللّه قال اللّه عزّ و جلّ: استبسل عبدي و استسلم لأمري اقضوا حاجته» أي: وطّن نفسه لحكمي من قولهم: استبسل للموت إذا أوطن نفسه على الموت أو وكّل أمره إليّ من استبسله لعمله و به إذا وكله إليه، و اللّه أعلم. [] هذا آخر الروضة السادسة و الاربعين من رياض السالكين وفق اللّه لاتمامها و اجتلاء بدر تمامها صبيحة يوم السبت لسبع بقين من ذي القعدة الحرام عام خمس و مائة و ألف أحسن اللّه ختامه و للّه الحمد.
______________________________
(1) الكافي: ج 2 ص 521.
249
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
الروضة السابعة و الأربعون ص 251
الروضة السابعة و الأربعون
251
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
و كان من دعائه عليه السلام في يوم عرفة ص 253
و كان من دعائه عليه السّلام في يوم عرفة
الحمد للّه ربّ العالمين اللّهمّ لك الحمد بديع السّموات و الأرض ذا الجلال و الإكرام ربّ الأرباب و اله كلّ مالوه و خالق كلّ مخلوق و وارث كلّ شيء ليس كمثله شيء و لا يعزب عنه علم شيء و هو بكلّ شيء محيط و هو على كلّ شيء رقيب أنت اللّه لا اله الّا أنت الأحد المتوحّد الفرد المتفرّد و أنت اللّه لا اله الّا أنت الكريم المتكرّم العظيم المتعظّم الكبير المتكبّر و أنت اللّه لا اله الّا أنت العلىّ المتعال الشّديد المحال و أنت اللّه لا اله الّا أنت الرّحمن الرّحيم العليم الحكيم و أنت اللّه لا اله الّا أنت السّميع البصير القديم الخبير و أنت اللّه لا اله الّا أنت الكريم الأكرم الدّائم الأدوم و أنت اللّه لا اله الّا أنت الأوّل قبل كلّ أحد و الاخر بعد كلّ عدد و أنت اللّه لا اله الّا أنت الدّانى في علوّه و العالى في دنوّه و أنت اللّه لا اله أنت ذو البهاء و المجد و الكبرياء و الحمد و أنت اللّه لا اله الّا أنت الّذي انشات الأشياء من غير سنخ و صوّرت ما صوّرت من غير مثال و ابتدعت المبتدعات بلا احتذاء أنت الّذى قدّرت كلّ شيء تقديرا ..........
253
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
و كان من دعائه عليه السلام في يوم عرفة ص 253
و يسّرت كلّ شيء تيسيرا و دبّرت ما دونك تدبيرا أنت الّذى لم يعنك على خلقك شريك و لم يوازرك في أمرك وزير و لم يكن لك مشاهد و لا نظير أنت الّذى أردت فكان حتما ما أردت و قضيت فكان عدلا ما قضيت و حكمت فكان نصفا ما حكمت أنت الّذى لا يحويك مكان و لم يقم لسلطانك سلطان و لم يعيك برهان و لا بيان أنت الّذى احصيت كلّ شيء عددا و جعلت لكلّ شيء امدا و قدّرت كلّ شيء تقديرا انت الّذى قصرت الأوهام عن ذاتيّتك و عجزت الأفهام عن كيفيّتك و لم تدرك الأبصار موضع اينيّتك أنت الّذى لا تحدّ فتكون محدودا و لم تمثّل فتكون موجودا و لم تلد فتكون مولودا أنت الّذى لا ضدّ معك فيعاندك و لا عدل فيكاثرك و لا ندّلك فيعارضك أنت الّذى ابتدأ و اخترع و استحدث و ابتدع و أحسن صنع ما صنع سبحانك ما اجلّ شأنك و اسنى في الأماكن مكانك و اصدع بالحقّ فرقانك سبحانك من لطيف ما الطفك و رءوف ما ارافك و حكيم ما اعرفك سبحانك من مليك ما امنعك و جواد ما اوسعك و رفيع ما ارفعك ذو البهاء و المجد و الكبرياء و الحمد ..........
254
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
و كان من دعائه عليه السلام في يوم عرفة ص 253
سبحانك بسطت بالخيرات يدك و عرفت الهداية من عندك فمن التمسك لدين أو دنيا وجدك سبحانك خضع لك من جرى في علمك و خشع لعظمتك ما دون عرشك و انقاد للتّسليم لك كلّ خلقك سبحانك لا تحسّ و لا تجسّ و لا تمسّ و لا تكاد و لا تماط و لا تنازع و لا تجارى و لا تمارى و لا تخادع و لا تماكر سبحانك سبيلك جدد و أمرك رشد و أنت حيّ صمد سبحانك قولك حكم و قضاؤك حتم و إرادتك عزم سبحانك لا رادّ لمشيّتك و لا مبدّل لكلماتك سبحانك باهر الايات فاطر السّموات بارئ النّسمات لك الحمد حمدا يدوم بدوامك و لك الحمد حمدا خالدا بنعمتك و لك الحمد حمدا يوازى صنعك و لك الحمد حمدا يزيد على رضاك و لك الحمد حمدا مع حمد كلّ حامد و شكرا يقصر عنه شكر كلّ شاكر حمدا لا ينبغي الّا لك و لا يتقرّب به الّا إليك حمدا يستدام به الأوّل و يستدعى به دوام الآخر حمدا يتضاعف على كرور الأزمنة و يتزايد اضعافا مترادفة حمدا يعجز عن إحصائه الحفظة و يزيد على ما احصته في كتابك الكتبة حمدا يوازن عرشك المجيد و يعادل كرسيّك الرّفيع ..........
255
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
و كان من دعائه عليه السلام في يوم عرفة ص 253
حمدا يكمل لديك ثوابه و يستغرق كلّ جزاء جزاؤه حمدا ظاهره وفق لباطنه و باطنه وفق لصدق النيّة حمدا لم يحمدك خلق مثله و لا يعرف أحد سواك فضله حمدا يعان من اجتهد في تعديده و يؤيّد من اغرق نزعا في توفيته حمدا يجمع ما خلقت من الحمد و ينتظم ما أنت خالقه من بعد حمدا لا أقرب إلى قولك منه و لا أحمد ممّن يحمدك به حمدا يوجب بكرمك المزيد بوفوره و تصله بمزيد بعد مزيد طولا منك حمدا يجب لكرم وجهك و يقابل عزّ جلالك ربّ صلّ على محمّد و ال محمّد المنتجب المصطفى المكرّم المقرّب أفضل صلواتك و بارك عليه أتمّ بركاتك و ترحّم عليه امتع رحماتك ربّ صلّ على محمّد و اله صلوة زاكية لا تكون صلوة ازكى منها و صلّ عليه صلوة نامية لا تكون صلوة انمى منها و صلّ عليه صلوة راضية لا تكون صلوة فوقها ربّ صلّ على محمّد و اله صلوة ترضيه و تزيد على رضاه و صلّ عليه صلوة ترضيك و تزيد على رضاك له و صلّ عليه صلوة لا ترضى له الّا بها و لا ترى غيره لها اهلا ربّ صلّ على محمّد و اله صلوة تجاوز رضوانك و يتّصل ..........
256
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
و كان من دعائه عليه السلام في يوم عرفة ص 253
اتّصالها ببقائك و لا ينفد كما لا تنفد كلماتك ربّ صلّ على محمّد و اله صلوة تنتظم صلوات ملئكتك و انبيائك و رسلك و أهل طاعتك و تشتمل على صلوات عبادك من جنّك و انسك و أهل إجابتك و تجتمع على صلوة كلّ من ذرات و برات من اصناف خلقك ربّ صلّ عليه و اله صلوة تحيط بكلّ صلوة سالفة و مستانفة و صلّ عليه و على اله صلوة مرضيّة لك و لمن دونك و تنشئ مع ذلك صلوات تضاعف معها تلك الصّلوات عندها و تزيدها على كرور الأيّام زيادة في تضاعيف لا يعدّها غيرك ربّ صلّ على أطائب أهل بيته الّذين اخترتهم لأمرك و جعلتهم خزنة علمك و حفظة دينك و خلفائك فى أرضك و حججك على عبادك و طهّرتهم من الرّجس و الدّنس تطهيرا بإرادتك و جعلتهم الوسيلة إليك و المسلك إلى جنّتك ربّ صلّ على محمّد و اله صلوة تجزل لهم بها من نحلك و كرامتك و تكمل لهم الأشياء من عطاياك و نوافلك و توفّر عليهم الحظّ من عوائدك و فوائدك ربّ صلّ عليه و عليهم صلوة لا امد في اوّلها و لا غاية لأمدها و لا نهاية لاخرها ربّ صلّ عليهم زنة عرشك و ما دونه و ملأ سمواتك ..........
257
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
و كان من دعائه عليه السلام في يوم عرفة ص 253
و ما فوقهنّ و عدد ارضيك و ما تحتهنّ و ما بينهنّ صلوة تقرّبهم منك زلفى و تكون لك و لهم رضى و متّصلة بنظائرهنّ ابدا اللّهمّ انّك ايّدت دينك في كلّ أوان بامام اقمته علما لعبادك و منارا فى بلادك بعد ان وصلت حبله بحبلك و جعلته الذّريعة إلى رضوانك و افترضت طاعته و حذّرت معصيته و أمرت بامتثال اوامره و الانتهاء عند نهيه و الّا يتقدّمه متقدّم و لا يتأخّر عنه متاخّر فهو عصمة اللائذين و كهف المؤمنين و عروة المتمسّكين و بهاء العالمين اللّهمّ فاوزع لوليّك شكر ما أنعمت به علينا و اوزعنا مثله فيه و اته من لدنك سلطانا نصيرا و افتح له فتحا يسيرا و اعنه بركنك الأعزّ و اشدد ازره و قوّ عضده و راعه بعينك و احمه بحفظك و انصره بملائكتك و امدده بجندك الأغلب و اقم به كتابك و حددك و شرائعك و سنن رسولك صلواتك اللّهمّ عليه و اله و احى به ما اماته الظّالمون من معالم دينك و اجل به صداء الجور عن طريقتك و ابن به الضّرّاء عن سبيلك و ازل به النّاكبين عن صراطك و امحق به بغاة قصدك عوجا و الن جانبه لأوليائك و ابسط يده على اعدائك ..........
258
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
و كان من دعائه عليه السلام في يوم عرفة ص 253
و هب لنا رافته و رحمته و تعطّفه و تحنّنه و اجعلنا له سامعين مطيعين و في رضاه ساعين و إلى نصرته و المدافعة عنه مكنفين و اليك و إلى رسولك صلواتك اللهمّ عليه و اله بذلك متقرّبين اللّهمّ و صلّ على اوليائهم المعترفين بمقامهم المتّبعين منهجهم المقتفين اثارهم المستمسكين بعروتهم المتمسّكين بولايتهم المؤتمّين بامامتهم المسلّمين لأمرهم المجتهدين في طاعتهم المنتظرين ايّامهم المآدّين إليهم أعينهم الصّلوات المباركات الزّاكيات النّاميات الغاديات الرّائحات و سلّم عليهم و على ارواحهم و اجمع على التّقوى امرهم و اصلح لهم شؤنهم و تب عليهم انّك أنت التّوّاب الرّحيم و خير الغافرين و اجعلنا معهم في دار السّلام برحمتك يا ارحم الرّاحمين اللّهمّ و هذا يوم عرفة يوم شرّفته و كرّمته و عظّمته نشرت فيه رحمتك و مننت فيه بعفوك و اجزلت فيه عطيّتك و تفضّلت به على عبادك اللّهمّ و انا عبدك الّذى أنعمت عليه قبل خلقك له و بعد خلقك ايّاه فجعلته ممّن هديته لدينك و وفّقته لحقّك و عصمته بحبلك و ادخلته فى حزبك و ارشدته لموالاة اوليائك و معاداة اعدائك ثمّ امرته ..........
259
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
و كان من دعائه عليه السلام في يوم عرفة ص 253
فلم ياتمر و زجرته فلم ينزجر و نهيته عن معصيتك فخالف أمرك الى نهيك لا معاندة لك و لا استكبارا عليك بل دعاه هواه الى ما زيّلته و إلى ما حذّرته و اعانه على ذلك عدوّك و عدوّه فاقدم عليه عارفا بوعيدك راجيا لعفوك واثقا بتجاوزك و كان احقّ عبادك مع ما مننت عليه الّا يفعل و ها انا ذا بين يديك صاغرا ذليلا خاضعا خاشعا خائفا معترفا بعظيم من الذّنوب تحمّلته و جليل من الخطايا اجترمته مستجيرا بصفحك لائذا برحمتك موقنا انّه لا يجيرنى منك مجير و لا يمنعني منك مانع فعد علىّ بما تعود به على من اقترف من تغمّدك وجد علىّ بما تجود به على من القى بيده اليك من عفوك و امنن علىّ بما لا يتعاظمك ان تمنّ به على من أمّلك من غفرانك و اجعل لي في هذا اليوم نصيبا انال به حظّا من رضوانك و لا تردّنى صفرا ممّا ينقلب به المتعبّدون لك من عبادك و انّى و ان لم اقدّم ما قدّموه من الصّالحات فقد قدّمت توحيدك و نفى الأضداد و الأنداد و الأشباه عنك و اتيتك من الأبواب الّتى امرت ان تؤتى منها و تقرّبت إليك بما لا يقرب أحد منك الّا بالتّقرّب ..........
260
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
و كان من دعائه عليه السلام في يوم عرفة ص 253
به ثمّ اتبعت ذلك بالإنابة إليك و التّذلّل و الاستكانة لك و حسن الظّنّ بك و الثّقة بما عندك و شفعته برجائك الّذى قلّ ما يخيب عليه راجيك و سألتك مسألة الحقير الذّليل البائس الفقير الخائف المستجير و مع ذلك خيفة و تضرّعا و تعوّذا و تلوّذا لا مستطيلا بتكبّر المتكبّرين و لا متعاليا بدالّة المطيعين و لا مستطيلا بشفاعة الشّافعين و انا بعد أقلّ الأقلّين و أذلّ الأذلّين و مثل الذّرّة او دونها فيا من لم يعاجل المسيئين و لا ينده المترفين و يا من يمنّ باقالة العاثرين و يتفضّل بانظار الخاطئين انا المسيء المعترف الخاطئ العاثر انا الّذى أقدم عليك مجترئا انا الّذى عصاك متعمّدا انا الّذي استخفى من عبادك و بارزك انا الّذى هاب عبادك و امنك انا الّذى لم يرهب سطوتك و لم يخف باسك انا الجانى على نفسه انا المرتهن ببليّته انا القليل الحياء انا الطّويل العناء بحقّ من انتجبت من خلقك و بمن اصطفيته لنفسك بحقّ من اخترت من بريّتك و من اجتبيت لشانك بحقّ من وصلت طاعته بطاعتك و من جعلت معصيته كمعصيتك بحقّ من قرنت موالاته بموالاتك و من نطت معاداته بمعاداتك ..........
261
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
و كان من دعائه عليه السلام في يوم عرفة ص 253
تغمدّني في يومي هذا بما تتغمّد به من جأر إليك متنصّلا و عاذ باستغفارك تائبا و تولّنى بما تتولّى به أهل طاعتك و الزّلفى لديك و المكانة منك و توحّدنى بما تتوحّد به من وفى بعهدك و أتعب نفسه فى ذاتك و اجهدها في مرضاتك و لا تؤاخذنى بتفريطى في جنبك و تعدّى طورى في حدودك و مجاوزة احكامك و لا تستدرجنى باملائك لي استدراج من منعني خير ما عنده و لم يشركك في حلول نعمته بي و نبّهنى من رقدة الغافلين و سنة المسرفين و نعسة المخذولين و خذ بقلبي إلى ما استعملت به القانتين و استعبدت به المتعبّدين و استنقذت به المتهاونين و اعذنى ممّا يباعدنى عنك و يحول بينى و بين حظّى منك و يصدّنى عمّا احاول لديك و سهّل لي مسلك الخيرات إليك و المسابقة إليها من حيث أمرت و المشاحّة فيها على ما أردت و لا تمحقنى فيمن تمحق من المستخفّين بما اوعدت و لا تهلكنى مع من تهلك من المتعرّضين لمقتك و لا تتبرّنى فيمن تتبرّ من المنحرفين عن سبلك و نجّنى من غمرات الفتنة و خلّصنى من لهوات البلوى و أجرنى من أخذ الإملاء و حل بيني و بين عدوّ يضلّنى و هوى يوبقنى و منقصة ..........
262
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
و كان من دعائه عليه السلام في يوم عرفة ص 253
ترهقنى و لا تعرض عنّى اعراض من لا ترضى عنه بعد غضبك و لا تؤيسنى من الأمل فيك فيغلب علىّ القنوط من رحمتك و لا تمنحنى بما لا طاقة لي به فتبهظنى لما تحمّلنيه من فضل محبّتك و لا ترسلنى من يدك إرسال من لا خير فيه و لا حاجة بك إليه و لا انابة له و لا ترم بي رمى من سقط من عين رعايتك و من اشتمل عليه الخزي من عندك بل خذ بيدي من سقطة المتردّين و وهلة المتعسّفين و زلّة المغرورين و ورطة الهالكين و عافني ممّا ابتليت به طبقات عبيدك و امائك و بلّغنى مبالغ من عنيت به و أنعمت عليه و رضيت عنه فاعشته حميدا و توفّيته سعيدا و طوّقنى طوق الاقلاع عمّا يحبط الحسنات و يذهب بالبركات و اشعر قلبي الازدجار عن قبائح السيّئات و فواضح الحوبات و لا تشغلني بما لا ادركه الّا بك عمّا لا يرضيك عنّى غيره و انزع من قلبي حبّ دنيا دنيّة تنهى عمّا عندك و تصدّ عن ابتغاء الوسيلة إليك و تذهل عن التقرّب منك و زيّن لى التّفرّد بمناجاتك باللّيل و النّهار و هب لي عصمة تدنينى من خشيتك و تقطعنى عن ركوب محارمك و تفكّنى من أسر العظائم وهب ..........
263
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
و كان من دعائه عليه السلام في يوم عرفة ص 253
لى التّطهير من دنس العصيان و اذهب عنّى درن الخطايا و سربلنى بسربال عافيتك و ردّنى رداء معافاتك و جلّلنى سوابغ نعمائك و ظاهر لدىّ فضلك و طولك و ايّدنى بتوفيقك و تسديدك و اعنّى على صالح النّيّة و مرضىّ القول و مستحسن العمل و لا تكلنى إلى حولى و قوّتى دون حولك و قوّتك و لا تخزنى يوم تبعثني للقائك و لا تفضحنى بين يدي اوليائك و لا تنسنى ذكرك و لا تذهب عنّى شكرك بل الزمنيه فى أحوال السّهو عند غفلات الجاهلين لآلائك و اوزعنى ان اثنى بما اوليتنيه و اعترف لك بما اسديته إلىّ و اجعل رغبتى إليك فوق رغبة الرّاغبين و حمدى ايّاك فوق حمد الحامدين و لا تخذلنى عند فاقتى إليك و لا تهلكنى بما اسديته إليك و لا تجبهنى بما جبهت به المعاندين لك فانّى لك مسلّم اعلم انّ الحجّة لك و انّك أولى بالفضل و اعود بالإحسان و أهل التّقوى و أهل المغفرة و انّك بان تعفو اولى منك بان تعاقب و انّك بان تستر أقرب منك إلى ان تشهر فاحينى حيوة طيّبة تنتظم بما أريد و تبلغ بي ما أحبّ من حيث لا أتى ما تكره و لا ارتكب ما نهيت عنه و امتنى ميتة من يسعى نوره بين يديه و عن ..........
264
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
و كان من دعائه عليه السلام في يوم عرفة ص 253
يمينه و ذلّلنى بين يديك و أعزّنى عند خلقك وضعنى إذا خلوت بك و ارفعنى بين عبادك و اغننى عمّن هو غنىّ عنّى و زدني إليك فاقة و فقرا و اعذنى من شماتة الأعداء و من حلول البلاء و من الذّلّ و العناء تغمّدنى فيما اطّلعت عليه منّى بما يتغمّد به القادر على البطش لو لا حلمه و الآخذ على الجريرة لو لا اناته و إذا أردت بقوم فتنة او سوء فنجّنى منها لواذا بك و إذ لم تقمنى مقام فضيحة في دنياك فلا تقمنى مثله في اخرتك و اشفع لي اوائل مننك باواخرها و قديم فوائدك بحوادثها و لا تمدد لي مدّا يقسو معه قلبي و لا تقرعنى قارعة يذهب لها بهائى و لا تسمنى خسيسة يصغر لها قدرى و لا نقيصة يجهل من اجلها مكانى و لا ترعنى روعة أبلس بها و لا خيفة اوجس دونها اجعل هيبتى في وعيدك و حذرى من اعذارك و انذارك و رهبتى عند تلاوة اياتك و اعمر ليلى بايقاظى فيه لعبادتك و تفرّدى بالتّهجّد لك و تجرّدى بسكونى إليك و إنزال حوائجي بك و منازلتى ايّاك في فكاك رقبتى من نارك و اجارتى ممّا فيه أهلها من عذابك و لا تذرنى في طغيانى عامها و لا في غمرتى ساهيا حتّى ..........
265
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
و كان من دعائه عليه السلام في يوم عرفة ص 253
حين و لا تجعلني عظة لمن اتّعظ و لا نكالا لمن اعتبر و لا فتنة لمن نظر و لا تمكر بي فيمن تمكر به و لا تستبدل بي غيري و لا تغيّر لي اسما و لا تبدّل لي جسما و لا تتّخذنى هزؤا لخلقك و لا سخريّا لك و لا تبعا الّا لمرضاتك و لا ممتهنا الّا بالانتقام لك و اوجدنى برد عفوك و حلاوة رحمتك و روحك و ريحانك و جنّة نعيمك و أذقنى طعم الفراغ لما تحبّ بسعة من سعتك و الاجتهاد فيما يزلف لديك و عندك و اتحفني بتحفة من تحفاتك و اجعل تجارتى رابحة و كرّتى غير خاسرة و اخفنى مقامك و شوّقنى لقاءك و تب علىّ توبة نصوحا لا تبق معها ذنوبا صغيرة و لا كبيرة و لا تذر معها علانية و لا سريرة و انزع الغلّ من صدري للمؤمنين و اعطف بقلبي على الخاشعين و كن لي كما تكون للصّالحين و حلّنى حلية المتّقين و اجعل لي لسان صدق في الغابرين و ذكرا ناميا في الآخرين و واف بي عرصة الأولين و قمّم سبوغ نعمتك علىّ و ظاهر كراماتها لدىّ و املأ من فوائدك يدي و سق كرائم مواهبك إلىّ و جاور بي الأطيبين من اوليائك فى الجنان الّتى زيّنتها لأصفيائك و جلّلنى شرائف نحلك في المقامات ..........
266
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
و كان من دعائه عليه السلام في يوم عرفة ص 253
المعدّة لأحبّائك و اجعل لي عندك مقيلا اوى إليه مطمئنّا و مثابة أتبوّؤها و اقرّ عينا و لا تقايسنى بعظيمات الجرائر و لا تهلكنى يوم تبلى السّرائر و ازل عنّى كلّ شكّ و شبهة و اجعل لي في الحقّ طريقا من كلّ رحمة و اجزل لي قسم المواهب من نوالك و وفّر علىّ حظوظ الإحسان من افضالك و اجعل قلبي واثقا بما عندك و همّى مستفرغا لما هو لك و استعملنى بما تستعمل به خالصتك و اشرب قلبي عند ذهول العقول طاعتك و اجمع لي الغنى و العفاف و الدّعة و المعافاة و الصّحّة و السّعة و الطّمانينة و العافية و لا تحبط حسناتي بما يشوبها من معصيتك و لا خلواتى بما يعرض لي من نزغات فتنتك و صن وجهي عن الطّلب إلى أحد من العالمين و ديني عن التماس ما عند الفاسقين و لا تجعلني للظّالمين ظهيرا و لا لهم على محو كتابك يدا و نصيرا و حطنى من حيث لا اعلم حياطة تقينى بها و افتح لي ابواب توبتك و رحمتك و رافتك و رزقك الواسع انّى إليك من الرّاغبين و اتمم لي انعامك انّك خير المنعمين و اجعل باقي عمري في الحجّ و العمرة ابتغاء وجهك يا ربّ العالمين و صلّى اللّه على محمّد و اله الطّيّبين الطّاهرين و السّلام عليه و عليهم ابد الابدين
267
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
خطبة المؤلف ص 268
[خطبة المؤلف]
[] بسم اللّه الرحمن الرحيم و ايّاه نستعين الحمد للّه الذي جعل لنفسه على النّاس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلا، و أجرى لمن لبّى دعوته إلى دار السلام عينا فيها تسمّى سلسبيلا، و الصلاة و السلام على أشرف أنبيائه ملّة و قبلة و قبيلا، و على أهل بيته الذين أحلّهم من مراتب الشرف محلّا نبيلا.
و بعد: فهذه الروضة السابعة و الأربعون من رياض السالكين في شرح صحيفة سيّد العابدين و سيّد الزاهدين صلّى اللّه عليه و آله و على آبائه و أبنائه الراشدين، إملاء راجي عفو ربّه السني علي صدر الدين الحسيني الحسني، شرح اللّه صدره بنور عرفانه، و أفاض عليه سجال معروفه و إحسانه.
268
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء السابع و الأربعين ص 269
شرح الدعاء السابع و الأربعين
و كان من دعائه عليه السلام في يوم عرفة.
يوم عرفة: هو اليوم التاسع من ذي الحجّة الحرام، و عرفة قيل: اسم لموقف الحاج ذلك اليوم، و هو على اثني عشر ميلا من مكّة، و يسمّى عرفات أيضا، و هو المذكور في التنزيل قال تعالى: فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ «1».
قال صاحب المحكم: عرفة و عرفات، موضع بمكّة معرفة كأنّهم جعلوا كلّ موضع منه عرفة «2».
و قال النووي في التهذيب: عرفات و عرفة، اسم لموضع الوقوف «3».
و قال النيسابوري في تفسيره: عرفات، جمع عرفة، و كلاهما علم للموقف كأنّ كلّ قطعة من تلك الأرض عرفة فسمّي مجموع تلك القطعة بعرفات كما قيل: في باب الصفة ثوب أخلاق و برمة أعشار «4».
__________________________________________________
(1) سورة البقرة: الآية 198.
(2) المحكم في اللغة: ج 2 ص 81.
(3) تهذيب الاسماء و اللغات: القسم الثاني: ج 2 ص 55.
(4) غرائب القرآن و رغائب الفرقان: ج 1 ص 212.
269
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء السابع و الأربعين ص 269
و قال المطرزي في المغرب: عرفات علم للموقف و هي مؤنثة لا غير و يقال له:
عرفة أيضا «1».
و وافقهم على ذلك ابن الحاجب في شرح المفصّل فقال: عرفة و عرفات جميعا علمان لهذا المكان المخصوص.
و على هذا فإضافة اليوم إلى عرفة كإضافته إلى حنين في: «و يوم حنين» و هو موضع بين الطائف و مكّة «2».
و قيل: عرفة اسم لليوم، و عرفات اسم للموقف.
قال الطبرسي في مجمع البيان: عرفات اسم للبقعة المعروفة يجب الوقوف بها، و يوم عرفة يوم الوقوف بها «3».
و قال صاحب القاموس: يوم عرفة: التاسع من ذي الحجّة، و عرفات موقف الحاج ذلك اليوم «4».
و على هذا فإضافة يوم إلى عرفة كاضافته إلى عروبة و هو اسم للجمعة. قال الشاعر:
يوم كيوم عروبة المتطاول
و هذا القول مبنيّ على إنكار كون عرفة اسما للموقف و هو قول الفرّاء، قال:
و قول الناس نزلنا عرفة شبيه بالمولّد و ليس بعربي محض «5».
قال الدماميني: و هذا عجيب فقد ثبت في الحديث «الحج عرفة فمن أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك الحج».
__________________________________________________
(1) المغرب: النصف الثاني ج 2 ص 39.
(2) شرح المفصّل لابن الحاجب.
(3) مجمع البيان: ج 1- 2 ص 294- 295.
(4) القاموس المحيط: ج 3 ص 173.
(5) روح المعاني: ج 2 ص 87 نقلا عن الفرّاء.
270
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء السابع و الأربعين ص 269
..........
و عرفة و عرفات من الأسماء المرتجلة، لأنّ العرفة لا تعرف في أسماء الأجناس حتى يكون من الأسماء المنقولة و لا يشترط في المرتجل أن لا يظهر له معنى، فلا ينافيه ما ذكروه من أنّ تسميتها بذلك لما روي أنّ جبرئيل عليه السلام عمد بإبراهيم صلوات اللّه عليه إلى تلك البقعة فقال له: بها إعرف مناسكك و اعترف بذنبك فسمّيت عرفة و عرفات «1».
و قيل: بل وصفها جبرئيل له قبل أن يراها، فلما رآها عرفها بما تقدّم له من النعت «2».
و قيل: سمّيت بذلك لأنّ آدم و حواء اجتمعا فيها فتعارفا بعد أن كان افترقا «3».
و قيل: إنّما سمّيت به «4» لعلوّها و ارتفاعها و منه عرف الدّيك «5».
و قيل: لأنّ جبرئيل كان يري إبراهيم فيها المناسك فيقول: عرفت عرفت «6».
و عن ابن عبّاس: أنّ إبراهيم عليه السلام رأى في المنام أنّه يذبح ابنه فأصبح يروّي يومه أجمع، أي يتفكّر أ هو أمر من اللّه أم لا؟ فسمّي بذلك يوم التروية، ثمّ رأى في الليلة الثانية فلمّا أصبح عرف أنّه من اللّه فسمّي يوم عرفة «7».
و هذا وجه لتسمية اليوم بعرفة لا المكان.
و روى ثقة الإسلام في الكافي: من جملة حديث طويل عن أبي عبد اللّه عليه السلام: أنّ جبرئيل انطلق بآدم من منى إلى عرفات فأقامه على المعرّف فقال: إذا غربت الشمس فاعترف بذنبك سبع مرّات و سل اللّه المغفرة و التوبة سبع مرّات ففعل ذلك آدم عليه السلام و لذلك سمّي المعرّف لإنّ آدم اعترف فيه بذنبه و جعل سنّة لولده يعترفون بذنوبهم كما اعترف آدم «8»، و اللّه أعلم.
__________________________________________________
(1) مجمع البيان: ج 1- 2 ص 295.
(2) مجمع البيان: ج 1- 2 ص 295.
(3) مجمع البيان: ج 1- 2 ص 295.
(4) «الف»: بها.
(5) مجمع البيان: ج 1- 2 ص 295.
(6) مجمع البيان: ج 1- 2 ص 295.
(7) مجمع البيان: ج 1- 2 ص 295.
(8) الكافي: ج 4 ص 192 ح 2.
271
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء السابع و الأربعين ص 269
[ 1327] الحمد للّه ربّ العالمين، اللّهمّ لك الحمد بديع السّموات و الأرض ذا الجلال و الإكرام، ربّ الأرباب، و إله كلّ مألوه، و خالق كلّ مخلوق و وارث كلّ شيء، ليس كمثله شيء، و لا يعزب عنه علم شيء، و هو بكلّ شيء محيط، و هو على كلّ شيء رقيب.
تعريف الحمد بلام الحقيقة و تعليقه أوّلا: باسم الذات الذي عليه مدار جميع ما يستوجبه من صفات الكمال، و إليه مئال جملة نعوت الجلال و الجمال، للإيذان بأنّه سبحانه هو المستوجب له بذاته، و وصفه ثانيا: بما ينبئ عن موجبه له، و تعليل اختصاصه به من قوله: «ربّ العالمين» للتنبيه على وجوب ثبوته له و استحقاقه إيّاه استقلالا إذ كان هو الربّ و ما سواه مربوبا، و من كان بهذه الصفة كان هو الحقيق بالحمد لا أحد أحقّ به منه، بل لا يستحقّه سواه، فإن ترتب الحكم على الوصف يشعر بعلّيته و في «ربّ العالمين» باعتبار إشارته إلى أنّه الموجد لهم، و المربّي لهم، و المنعم عليهم بالنعم كلّها، ظاهرها و باطنها، دقيقها و جليلها، عاجلها و آجلها، إيجاز و إيراده بعد الاسم الجامع للأوصاف الجماليّة و الجلاليّة كلّها، و ربوبيّته لأنواع الأشياء كلّها إطناب، ففيه إيهام الجمع بين الضدّين، و هو كالخاص بعد العام.
ثمّ كونه ربّ العالمين علّة للحمد، و الحمد علّة غائية لتربيتهم لأنّه ربّي ليحمد، ففيه إبهام علّية الشيء لما هو معلوله، و قد تقدّم الكلام على الحمد و اسم الجلالة في أوّل الروضة الاولى «1»، و على الربّ و العالمين في آخر الروضة الثانية عشرة «2» مستوفى فليرجع إليه.
[ 1328] قوله عليه السلام: «اللّهم لك الحمد بديع السماوات و الأرض» التفات من
__________________________________________________
(1) ج 1 ص 231.
(2) ج 2 ص 523.
272
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء السابع و الأربعين ص 269
..........
الغيبة إلى الخطاب، و النكت التي ذكرناها في شرح قوله عليه السلام في الدعاء السادس: «اللّهمّ فلك الحمد على ما فلقت لنا من الإصباح» جارية هنا، و الميم في اللهم عوض عن حرف النداء و لذلك لا يجتمعان، و هذا من خصائص الاسم الجليل، و قد استوفينا الكلام عليه سابقا، و «بديع السماوات و الأرض»: أي مبدعهما و مخترعهما من غير مثال يحتذيه «1» و لا قانون ينتحيه.
فإنّ البديع كما يطلق على المبدع اسم مفعول يطلق على المبدع اسم فاعل نصّ عليه أساطين اللغة.
و قد جاء بدعه كمنعه أنشأه «2» كابتدعه كما ذكر في القاموس «3» و غيره، و نظيره السميع بمعنى المسمع في قول عمرو بن معدي كرب:
أ من ريحانة الداعي السميع
فلا عبرة بمن توقف في إطلاق البديع على المبدع، و عليه فقيل: هو من إضافة الصفة المشبّهة إلى فاعلها للتخفيف بعد نصبه تشبيها لها باسم الفاعل كما هو المشهور أي: بديع سماواته من بدع الشيء إذا كان ذا شكل فائق و حسن رائق.
و قيل: هو من باب الإضافة إلى الظرف بمعنى أنّه عديم النظير «4» فيهما و الأوّل هو الوجه.
ذا الجلال و الإكرام: أي صاحب الاستغناء المطلق و الفضل التام.
و قيل: الذي عنده الجلال و الإكرام، أي التعظيم و النعمة للمخلصين من عباده.
و قيل: معناه أنّه أهل لأن يعظّم و ينزّه عمّا لا يليق بجنابه الأقدس كما يقول الإنسان لغيره: أنا أجلّك و أكرمك عن كذا كما أنّ قوله: «أهل التقوى» معناه أهل
__________________________________________________
(1) «الف»: تحتذيه.
(2) «الف»: بمعنى إنشاء.
(3) القاموس المحيط: ج 3 ص 4.
(4) «الف»: النظر.
273
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء السابع و الأربعين ص 269
أن يتّقى.
و قيل: الجلال: عبارة عن صفات القهر، و الإكرام: عبارة عن صفات اللطف.
و ربّ الأرباب: أي مالك كلّ مالك فإنّ الجمع المحلّى باللّام يفيد الاستغراق.
و الرب: في الأصل مصدر بمعنى التربية، و هو تبليغ الشيء إلى كماله شيئا فشيئا وصف به الفاعل مبالغة أو صفة مشبّهة من ربّه يربّه مثل: تمّه يتمّه بعد جعله لازما بنقله إلى فعل بالضمّ كما هو المشهور سمّي به المالك لأنّه يحفظ ما يملكه و يربّيه، و قد أجمعوا على أنّه لا يقال: الربّ مطلقا إلّا للّه تعالى، و يقال لغيره مضافا كربّ الدار و ربّ الدابة، و ما ورد في الحديث: لا يقل أحدكم ربّي بل سيّدي و مولاي «1» فقيل: نهي تنزيه، و قيل: الجواز في المقيّد بغير أولي العلم، و أمّا قول يوسف: إِنَّهُ رَبِّي «2» فملحق بالسجود في زمانه.
و أما الأرباب: فحيث لا يمكن إطلاقه على اللّه وحده جاز تخصيصه بغيره تعالى بإضافة الربّ إليه كما في عبارة الدّعاء، و جاز إطلاقه بحيث يشمل ذاته تعالى كما في قوله تعالى: أَ أَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ «3».
قال الشريف العلّامة في حاشية الكشّاف: لفظ الأرباب حيث لم يطلق على اللّه وحده جاز تقييده بالاضافة و إطلاقه كما في قولك ربّ الأرباب و قوله:
أَ أَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ.
و قال الراغب: لم يكن من حقّ الربّ أن يجمع «4» إذ كان إطلاقه لا يتناول إلّا اللّه تعالى لكن أتى بلفظ الجمع في قوله: أَ أَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ على حسب اعتقادهم لا ما عليه ذات الشيء في نفسه «5» انته.
__________________________________________________
(1) قريب منه ما في النهاية لابن الأثير: ج 2 ص 179 و إليك نصّه «لا يقل المملوك لسيده ربّي».
(2) سورة يوسف: الآية 23.
(3) سورة يوسف: الآية 39.
(4) «الف»: ان تجمع.
(5) المفردات: ص 184- 185.
274
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء السابع و الأربعين ص 269
هذا و لما كان الربّ بمعنى المالك كما عرفت و كان معنى المالك يعود إلى معنى القادر على الشيء الذي تنفذ مشيّته فيه باستحقاق دون غيره و غيره بإذنه و قد ثبت أن كلّ موجود سواه فهو في تصريف قدرته و مشيّته إذ هما مستند وجوده ثبت أنّه هو المالك المطلق الذي ليس له مملوكيّة بالقياس إلى شيء آخر، و أنّ كلّ ما سواه فهو مملوك له تعالى، و إن صدق عليه عرفا أنّه مالك بالقياس إلى من هو دونه فصحّ أنّه تعالى ربّ الأرباب و مالك كلّ مالك.
قوله عليه السلام: «و إله كلّ مألوه» أي معبود كلّ معبود فإن الإله اسم بمعنى المألوه كالكتاب بمعنى المكتوب، و البساط بمعنى المبسوط كما نصّ عليه الجوهري «1» و غيره و اشتقاقه من أله يأله من باب- ضرب- إلاهة أي: عبد يعبد عبادة.
قال في الصّحاح: أله بالفتح إلاهة، أي عبد عبادة و منه قرأ ابن عباس «و يذرك و الاهتك» بكسر الهمزة، قال: و عبادتك، و كان يقول: ان فرعون كان يعبد، و منه قولنا: «اللّه»، و أصله «اله» على فعال بمعنى مفعول لانه مألوه أي معبود، كقولنا: امام فعال بمعنى مفعول لانّه مؤتم به «2» انته.
و عليه فقوله: اله كل مألوه، مثل رب كل مربوب، و قد ورد في الدعاء القدسي:
«إله كلّ شيء، و ربّ كلّ ربّ»، و يحتمل ان يكون المعنى: إله كلّ ذي إله من ألهه يألهه من باب- قتل- اذا صار إلها له، و يكون اشتقاقه من الإله بمعنى المعبود كما اشتقوا استنوق و استحجر من الناقة و الحجر، و نظيره الامام و المأموم فان الامام بمعنى المأموم كما نصّ عليه الجوهري «3»، ثم اشتق منه أمه و أم به إذا صلى به إماما فهو مأموم و مأموم به. قال الفارابي في ديوان الأدب: امّ القوم امامة أي صلّى بهم «4»
__________________________________________________
(1) الصحاح: ج 6 ص 2223.
(2) الصحاح: ج 6 ص 2222.
(3) الصحاح: ج 5 ص 1865.
(4) لم نعثر عليه.
275
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء السابع و الأربعين ص 269
..........
و في الصحاح: أممت القوم في الصلاة إمامة «1».
و قال الفيومي في المصباح: أمّ به إمامة صلّى به إماما «2»، انته.
و الذي يشهد على أن أمّه و أمّ به: أي صلّى به إماما مشتقّ من الامام أنّه بهذا المعنى لفظ إسلامي لأنّ العرب قبل الإسلام لم تكن تعرف الصلاة و لا الإمامة فيها و ليس المأموم عندهم إلّا المقصود، من أمّه إذا قصده، أو المشجوج في أمّ رأسه من أمّه أمّا إذا أصاب أمّ رأسه.
إذا عرفت ذلك فالمعوّل عليه في معنى عبارة الدعاء هو هذا المعنى لا المعنى الأوّل، و إن عوّل عليه بعض أفاضل المترجمين إذ قد وقع في بعض الأحاديث ما يشهد بذلك، و هو ما رواه ثقة الإسلام في الكافي عن أبي عبد اللّه عليه السلام عن أمير المؤمنين عليه السلام من جملة حديث طويل في التوحيد: كان ربّا إذ لا مربوب، و إلها إذ لا مألوه، و عالما إذ لا معلوم، و سميعا إذ لا مسموع «3» فهذا يعيّن ما ذكرناه، و اللّه أعلم.
[ 1329] قوله عليه السلام: «و خالق كلّ مخلوق» أي مبدع كلّ مبدع فإن الخلق هنا بمعنى الإبداع، و هو بهذا المعنى ليس إلّا اللّه تعالى و لهذا قال في الفصل بينه و بين غيره: أَ فَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ «4» قالوا: و أصل الخلق التقدير و هو التفكّر في الأمر بحسب نظر العقل و بناء الأمر عليه، و منه خلقت الاديم للنعل «5» أي قدرته لها «6» بان فكّرت في جعله لها على مقدار مخصوص و وجه مخصوص، و هو بهذا المعنى يطلق على غير اللّه تعالى و منه: وَ إِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ «7».
قال العلّامة الطبرسي: سمّاه خلقا لأنّه كان يقدّره «8».
__________________________________________________
(1) الصحاح: ج 5 ص 1865.
(2) المصباح المنير: ص 31.
(3) الكافي: ج 1 ص 139 ح 4.
(4) سورة النحل: الآية 17.
(5) «الف»: الامر للنقل.
(6) «الف»: لما.
(7) سورة المائدة: الآية 110.
(8) مجمع البيان: ج 3- 4 ص 262.
276
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء السابع و الأربعين ص 269
..........
و أمّا قوله تعالى: فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ «1» فقيل: معناه أحسن المقدّرين إذ لا تعدّد في الخالق.
و قيل: هو بناء على أنّ الخالق كلّي ذو افراد فرضا.
و قال الراغب: و يجوز أن يكون على تقدير ما كانوا يعتقدون و يزعمون أنّ غير اللّه يبدع فكأنّه قيل: إذا حسب أنّ هاهنا مبدعين و موجدين فاللّه تعالى أحسنهم إيجادا على ما يعتقدون كما قال: «خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم» «2» قوله عليه السلام: «و وارث كلّ شيء» أي الصائر إليه كلّ شيء إذ كان وصفه تعالى بالوارث من حيث إنّ الأشياء كلها صائرة إليه قال تعالى: نَرِثُ الْأَرْضَ وَ مَنْ عَلَيْها «3» و قال: وَ لِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ* «4» و قال: وَ نَحْنُ الْوارِثُونَ «5».
قال الغزالي في المقصد الأسنى: الوارث هو الذي ترجع إليه الأملاك بعد فناء الملّاك، و ذلك هو اللّه سبحانه لأنّه هو الباقي بعد فناء خلقه و إليه مرجع كلّ شيء و مصيره، و هو القائل إذ ذاك: «لمن الملك اليوم» و هو المجيب: «للّه الواحد القهار» و هو بحسب ظن الأكثرين إذ يظنّون أنّ لهم ملكا فتنكشف لهم ذلك اليوم حقيقة الحال، و هذا النداء عبارة عن حقيقة ما ينكشف لهم في ذلك الوقت «6».
قوله عليه السلام: «ليس كمثله شيء» اقتباس من قوله تعالى في سورة الشورى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ «7» أي ليس مثله شيء في شأن من الشئون، فالكاف زائدة لأنّ المقصود نفي أن يكون شيء مثله لا مثل مثله و إنّما زيدت لتوكيد نفي المثل لأنّ زيادة الحرف بمنزلة إعادة الجملة ثانيا، و ردّه بعضهم
__________________________________________________
(1) سورة المؤمنون: الآية 14.
(2) المفردات: ص 157.
(3) سورة مريم: الآية 40.
(4) سورة الحديد: الآية 10.
(5) سورة الحجر: الآية 23.
(6) المقصد الأسنى: ص 108.
(7) سورة الشورى: الآية 11.
277
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء السابع و الأربعين ص 269
..........
بأنّ الكاف إنّما تؤكّد المماثلة لا نفيها ففي هذا التأكيد إخلال بالغرض فإنّ نفي المماثلة المؤكّدة المحقّقة لا يستلزم أصل المماثلة، و أجيب: بأنّها لتأكيد ما سبق له الكلام من حكم التشبيه إن إثباتا فإثبات و إن نفيا فنفي.
قال السعد التفتازاني: و الأحسن أن لا تجعل الكاف زائدة و يكون من باب الكناية «1».
و فيه وجهان:
أحدهما: أنّه نفي الشيء بنفي لازمه لأنّ نفي اللازم يستلزم نفي الملزوم كما يقال:
ليس لأخي زيد أخ، فأخو زيد ملزوم، و الأخ لازمه، لأنّه لا بد لأخي زيد من أخ هو زيد فنفيت هذا اللازم، و المراد نفي ملزومه أي ليس لزيد أخ إذ لو كان له أخ لكان لذلك الأخ أخ هو زيد فكذا نفيت أن يكون لمثل اللّه تعالى مثل و المراد نفي مثله تعالى إذ لو كان له مثل لكان هو مثل مثله إذ التقدير أنّه موجود.
و الثاني: ما ذكره صاحب الكشّاف و هو أنّهم قد قالوا مثلك لا يبخل، فنفوا البخل عن مثله، و الغرض نفيه عن ذاته، فسلكوا طريق الكناية قصدا إلى المبالغة لأنّهم إذا نفوه عن مماثله و عمّن يكون على أخص أوصافه، فقد نفوه عنه كما يقولون: «قد أيقعت لذاته و بلغت أترابه» يريدون: إيقاعه و بلوغه فحينئذ لا فرق بين قوله: «ليس كاللّه شيء» و بين قوله: «ليس كمثله شيء» إلّا ما تعطيه الكناية من فائدتها و هما عبارتان معتنقتان على معنى واحد، و هو نفي المماثلة عن ذاته و نحوه: بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ «2» فإنّ معناه: بل هو جواد من غير تصوّر يد و لا بسط، لأنّها وقعت عبارة عن الجود لا يقصدون شيئا آخر حتى أنّهم استعملوها فيمن لا يد له، فكذلك يستعمل هذا فيمن له مثل، و من لا مثل له، انته «3».
__________________________________________________
(1) لم نعثر عليه.
(2) سورة المائدة: الآية 64.
(3) تفسير الكشّاف: ج 4 ص 213.
278
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء السابع و الأربعين ص 269
..........
قال بعضهم: المثل بمعنى الذات أي: ليس مثل ذاته ذات.
و قيل: بمعنى الصفة أي ليس مثل صفته صفة فالمثل بمعنى المثل محرّكا «1»، لأنّ مثلا و مثلا ساكنا و متحرّكا سواء في اللغة، كشبه و شبه فمثل هاهنا بمعنى مثل و هو بمعنى الصفة، قال اللّه تعالى: لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَ لِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى «2» أي: الصفة العجيبة الشأن التي هي مثل في العلوّ مطلقا، فيكون المعنى ليس مثل مثله شيء و هو معنى صحيح.
و قيل: المراد نفي شبه المثل القاصر، من «3» المثل في المماثلة على ما تقتضيه «4» قانون التشبيه فضلا عن المثل.
و ذهب بعضهم: إلى أن الزائد في الآية إنّما هو مثل كما زيدت في قوله تعالى:
فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ «5» و إنّما زيدت لتفصل الكاف من الضمير.
قال ابن هشام: و قد يشهد للقائل بزيادة مثل في «بمثل ما آمنتم به» قراءة ابن عباس «بما امنتم به» «6».
قال الدماميني: و هي شهادة حقّ لا كلام في قبولها.
و قال بعضهم: إنما جمع بين الكاف و المثل لتأكيد النفي تنبيها على أنّه لا يصح استعمال الكاف و لا المثل فنفى بليس الأمرين جميعا، ففيه نظر ظاهر.
و قيل: الكاف اسم مؤكّد بمثل مضاف إليه كما عكس ذلك من قال:
بالأمس كانوا في رجاء مأمول فاصبحوا مثل كعصف مأكول
فالكاف اسم مضاف إليه مثل، و ردّ بأنّ مثل هذا في غاية النّدور، و لا ينبغي تخريج القرآن على مثله، و إنّما لم يكن كمثله شيء لأنّه لو كان ذا شبه من خلقه لكان مفتقرا إلى مؤثر و مدبّر مثله، و أيضا المثليّة: هي الاتّفاق بالكيفيّة و لا كيفيّة
__________________________________________________
(1) «الف»: متحرّكا.
(2) سورة النحل: الآية 60.
(3) «الف»: عن
(4) «الف»: يقتضيه.
(5) سورة البقرة: 137.
(6) مغني اللبيب: ص 238.
279
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء السابع و الأربعين ص 269
..........
له تقدّس و تعالى، و اللّه أعلم.
قوله عليه السلام: «و لا يعزب عنه علم شيء» فيه تلميح إلى قوله تعالى في سورة يونس: وَ ما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي السَّماءِ وَ لا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَ لا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ «1» و قوله تعالى في سورة سبأ:
لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَ لا فِي الْأَرْضِ وَ لا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَ لا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ «2»، يقال: عزب يعزب عزوبا من باب- قعد-: أي غاب و بعد.
و قال العلّامة الطبرسي: العزوب: الذهاب عن المعلوم و ضدّه حضور المعنى للنفس «3».
و في المحكم: عزب عنه حلمه يعزب عزوبا: ذهب و أعزبه اللّه «4».
و قال الفيومي: عزب الشيء عزوبا من باب- قعد-: بعد و عزب من بابي- قتل- و- ضرب-: غاب و خفي فهو عازب «5».
و المعنى لا يغيب و لا يبعد و لا يخفى عن علمه الشامل، أو عن ذاته المقدّسة علم شيء كائنا ما كان بلا مشوبة «6»، أو ليس الشيء هنا مصدرا بمعنى المفعول كما قد يتوهّم، بل ما يصحّ أن يعلم و يخبر عنه أو ما يصلح له الوجود فيشمل الشائي و المشيء ليدخل فيه علمه بذاته تعالى.
قال الراغب: الشيء إذا وصف اللّه تعالى به فمعناه شاء، و إذا وصف به غيره فمعناه المشيء، و عند كثير من المتكلّمين: هو اسم مشترك المعنى يستعمل في اللّه و في غيره، انته «7».
__________________________________________________
(1) سورة يونس: الآية 61.
(2) سورة سبأ: الآية 3.
(3) مجمع البيان: ج 5- 6 ص 118.
(4) المحكم في اللغة: ج 1 ص 331.
(5) المصباح المنير: ص 557.
(6) «الف» مثنويّة و ليس.
(7) المفردات: ص 271 مع تقديم و تأخير في العبارة.
280
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء السابع و الأربعين ص 269
..........
و ليس هو هنا من باب استعمال المشترك في معنييه، بل المراد به المعنى العام و هو ما ذكرناه، فيكون كل من المعنيين فردا حقيقيّا له، فإنّ استعمال اللفظ الواحد في معنيين متغايرين ممّا لا مساغ له عند المحققين.
قال بعض العلماء: عدم عزوب شيء عن علمه تعالى إشارة إلى علمه بكليات الاشياء و جزئياتها و عليه اتفاق جمهور المتكلّمين و الحكماء، أمّا المتكلمون فظاهر، و أمّا المحققون من الحكماء فملخص كلامهم إجمالا في علمه تعالى أنّه يعلم ذاته بذاته و يتّحد هناك المدرك، و المدرك أو الإدراك و لا يتعدّد الّا بحسب الاعتبارات العقليّة التي تحدثها العقول البشريّة، و أما علمه لمعلولاته القريبة منه فيكون بأعيان ذواتها و يتّحد هناك المدرك و الإدراك و لا يتعددان إلّا بالاعتبار العقلي و يغايرهما المدرك، و أمّا لمعلولاته البعيدة كالماديّات و المعدومات التي من شأنها إمكان أن توجد في وقت، أو تتعلّق بموجود، فيكون بارتسام صورها المعقولة من المعلولات القريبة التي هي المدركات لها أوّلا و بالذات، و كذلك إلى أن ينتهي إلى إدراك المحسوسات بارتسامها في آلات مدركها قالوا: و ذلك لأن الموجود في الحاضر حاضر، و المدرك للحاضر مدرك لما يحضر معه، فإذن لا يعزب عن علمه مثقال ذرّة في السموات و الأرض و لا أصغر من ذلك و لا أكبر، و تكون ذوات معلولاته القريبة مرتسمة بجميع الصور، و هي التي يعبر عنها تارة بالكتاب المبين و تارة باللوح المحفوظ، انته.
قوله عليه السلام: «و هو بكلّ شيء محيط» اقتباس من قوله تعالى في حم السّجدة: أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ «1».
و الإحاطة بالشيء: الاستدارة به من جوانبه يقال: أحاط القوم بالبلد إذا أحدقوا به و استداروا بجوانبه، ثمّ استعمل تارة في شمول الحفظ و تارة في شمول
__________________________________________________
(1) سورة فصلت: الآية 54.
281
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء السابع و الأربعين ص 269
..........
العلم و تارة في استيلاء القدرة و شمولها، و فسر بعضهم قوله تعالى: إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ بشمول الحفظ «1».
قال الراغب: أي حافظ له من جميع جهاته، و فسره بعضهم بشمول العلم فقال:
أي عالم به ظاهرا و باطنا جملة و تفصيلا.
و قيل: بل المراد إحاطته علما و قدرة معا. و أمّا قوله تعالى: أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً فتمييزه بالعلم معيّن له قالوا: و الإحاطة بالشيء علما هو أن يعلم وجوده و جنسه و قدره و كيفيّته و غرضه المقصود به و بإيجاده و ما يكون هو منه، و ليس ذلك إلّا اللّه تعالى «2».
و اما قوله تعالى: وَ اللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ فالمراد به شمول قدرته لهم، و استيلاء اقتداره عليهم.
قوله عليه السلام: «و هو على كلّ شيء رقيب» اقتباس من قوله تعالى في سورة الأحزاب: وَ كانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً «3»، و قد تقدّم انّ الاقتباس يجوز فيه التغيير، بناء على أنّه ليس بقرآن حقيقة بل كلام يماثله.
و الرقيب: فعيل بمعنى فاعل، من رقبه يرقبه من باب- قتل-: أي حفظه، فالرقيب بمعنى الحفيظ.
و قال الغزالي: هو العليم الحفيظ، فمن راعى الشيء حتى لم يغفل عنه، و لاحظه ملاحظة لازمة دائمة لزوما بالإضافة إلى ممنوع عنه محروس عن التناول فهو الرقيب، و ليس ذلك إلّا اللّه تعالى «4»، و اللّه أعلم.
__________________________________________________
(1) المفردات: ص 136.
(2) المفردات: ص 136- 137.
(3) سورة الاحزاب: الآية 52.
(4) المقصد الاسنى: ص 85.
282
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء السابع و الأربعين ص 269
أنت اللّه لا إله إلّا أنت، الأحد المتوحّد الفرد المتفرّد، و أنت اللّه لا إله إلّا أنت، الكريم المتكرّم، العظيم المتعظّم، الكبير المتكبّر، و أنت اللّه لا إله إلّا أنت، العليّ المتعال، الشّديد المحال.
[ 1330] أنت: اسم مضمر يدل على المخاطب، فذهب الفرّاء إلى أنّه بكماله اسم، و التاء من نفس الكلمة، و قال البصريون، الضمير إنّما هو أن، و التاء حرف خطاب، و قال بعضهم: الضمير هو التاء كانت مرفوعة متّصلة فلما أرادوا انفصالها دعموها ب «أن» لتستقل لفظا، كما هو مذهب بعض الكوفيين في إيّاك و أخواتها، من أنّ الكاف فيها كانت متّصلة فلمّا أرادوا انفصالها جعلوا «إيّا» عمادا لها لتستقل لفظا «1».
قال الرضيّ: و ما أرى هذا القول بعيدا عن الصّواب في الموضعين «2».
و الجملة من قوله: «لا إله إلّا أنت» إمّا مؤكّدة للجملة قبلها مقرّرة لمضمونها، أو معترضة فلا محلّ لها من الإعراب، أو خبرثان للمبتدأ و هو أنت، أو بدل من الخبر و هو اللّه فمحلّها الرفع، أو حال من الاسم الجليل و العامل معنى الجملة على الصحيح فمحلّها النصب.
و الأحد: يحتمل أن يكون نعتا للّه و ان يكون خبرا بعد خبر و أن يكون بدلا من الخبر و أصله «وحد» فابدلت الواو همزة.
و قال مكي: أصله واحد فابدلت الواو همزة، فاجتمع ألفان لأنّ الهمزة تشبه الألف فحذفت إحداهما تخفيفا «3».
قال أبو حاتم: هو اسم أكمل من الواحد، ألا ترى أنّك إذا قلت: فلان
__________________________________________________
(1) شرح الكافية في النحو: ج 2 ص 10.
(2) شرح الكافية في النحو: ج 2 ص 10.
(3) تفسير روح المعاني: ج 30 ص 272 نقلا عن مكي.
283
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء السابع و الأربعين ص 269
..........
لا يقادمه «1» واحد جاز أن يقال: لكن يقادمه «2» اثنان بخلاف قولك:
لا يقادمه «3» أحد «4» و هو مخصوص باولي العلم دون غيرهم بخلاف الواحد «5».
قال «6» بعض المحققين: الأحد أخصّ من الواحد، لأنّ الواحد مقول بالتشكيك على ما لا ينقسم أصلا، و على ما ينقسم عقلا، و على ما ينقسم حسّا بالقوّة، و ما ينقسم بالفعل، و كل سابق أولى من اللاحق، و الأحد يختصّ بالأوّل و لذلك اختص به تعالى لاختصاصه بالأحديّة فلا يشاركه فيها غيره، فهذا لا ينعت به غير اللّه تعالى فلا يقال: رجل أحد.
و المتوحّد: البليغ الوحدانيّة كالمتكبّر البليغ الكبرياء.
و في القاموس: اللّه الأوحد، و المتوحّد ذو الوحدانيّة «7».
و ما ذكرناه الصق بمدلول الصيغة.
و قيل: المتوحّد: هو المستنكف عن النظير كما قيل: المتكبّر: هو الذي تكبّر عن كلّ ما يوجب حاجة أو نقصانا، و معنى أحديّته تعالى أنّه لا ثاني له في الوجود و الوجوب و لا كثرة في ذاته و صفاته ذهنا و خارجا، و في اصطلاح أرباب الحال:
الأحد هو اسم الذات باعتبار انتفاء تعدد الصفات و الأسماء و النسب و التعيّنات عنه تعالى و الأحديّة اعتبار الذات مع إسقاط الجميع.
و الفرد: قيل: هو الوتر و هو الواحد.
و قال الراغب: الفرد الذي لا يختلط به غيره فهو أعمّ من الوتر و اخصّ من
__________________________________________________
(1) «الف»: يقاومه.
(2) «الف»: يقاومه.
(3) «الف»: يقاومه.
(4) «الف»: اللّه.
(5) تفسير الكبير للفخر الرازي: ج 32 ص 178 من دون نسبة إلى أبي حاتم.
(6) «الف»: فقال.
(7) القاموس المحيط: ج 1 ص 344.
284
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء السابع و الأربعين ص 269
..........
الواحد، و يقال: في اللّه فرد تنبيها على أنّه خلاف الأشياء كلّها في الازدواج المنبّه عليه بقوله تعالى: وَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ.
و قيل: المستغني عمّا سواه كما نبّه عليه بقوله غنيّ عن العالمين، و إذا قيل: هو متفرّد بوحدانيّة فمعناه: هو مستغن عن كلّ تركيب و إزدواج تنبيها على أنّه بخلاف الموجودات كلّها، انته «1».
و قيل: الفرد: من لا نظير له، و المتفرّد: البليغ الفردانيّة.
و قيل: هو الذي تفرد بخصوص وجوده تفردا لا يتصور أن يشاركه غيره فيه فهو الفرد المطلق أزلا و أبدا، و المخلوق إنّما يكون فردا إذا لم يكن له في أبناء جنسه نظير في خصلة من خصال الخير و ذلك بالإضافة إلى أبناء جنسه و بالاضافة إلى الوقت، إذ يمكن أن يظهر في وقت آخر مثله، و بالإضافة إلى بعض الخصال دون الجميع فلا فردانيّة على الإطلاق إلا للّه تعالى.
[ 1331] و الكريم: ذو الكرم و الجود.
قال الراغب: إذا وصف اللّه بالكرم فهو اسم لإحسانه و نعمه المتظاهرة «2»، انته.
و قد يستعمل الكرم بمعنى انتفاء النقائص عن الشيء، و اتّصافه بجميع المحامد، و هذا المعنى صحيح في وصفه تعالى.
و المتكرّم: البليغ الكرم أو المتنزّه عمّا لا يليق بجنابه الأقدس من قولهم: تكرّم عنه بمعنى تنزّه.
و العظيم: الذي جاوز حدود العقول أن تقف على صفات كماله و نعوت جلاله، و أصل العظم في الأجسام ثم استعمل في مدركات البصائر، و هي متفاوتة في العظم تفاوت الاجسام، فما لا يتصوّر أن يحيط العقل أصلا بكنه حقيقته و صفته
__________________________________________________
(1) المفردات: ص 375.
(2) المفردات: ص 428.
285
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء السابع و الأربعين ص 269
..........
منها فهو العظيم المطلق و هو اللّه تعالى.
و المتعظّم: البليغ العظمة أو المستنكف أن يكون له نظير في عظمته.
و الكبير: هو الذي كلّ شيء دونه لكمال وجوده و كمال الوجود يرجع إلى شيئين:
أحدهما: دوامه أزلا و أبدا، فكلّ وجود مقطوع سابقا أو لا حقا فهو ناقص، و لذلك يقال: للإنسان إذا طالت مدّة وجوده أنّه كبير: أي كبير السن طويل مدّة البقاء، و لا يقال: عظيم السن، فالكبير يستعمل فيما لا يستعمل فيه العظيم، فإن كان ما طال وجوده مع كونه محدودا و مدّة البقاء كبيرا، فالدائم الأزلي و الأبدي الذي يستحيل عليه العدم أولى بأن يكون كبيرا.
و الثاني: أن وجوده هو الوجود الذي يصدر عنه وجود كلّ موجود، فإن كان الذي تمّ وجوده في نفسه كاملا و كبيرا فالذي حصل منه الوجود لجميع الموجودات أحقّ أن يكون كاملا و كبيرا.
و المتكبّر: ذو الكبرياء و العظمة و الجبروت، فهو الذي يرى الكلّ حقيرا بالإضافة إلى ذاته، و لا يرى الكمال و الشرف و العزّ إلّا لنفسه، فإن كانت هذه الرؤية صادقة كان التكبّر حقّا محمودا و كان صاحبها جديرا بأن يتكبّر حقّا، و لا يتصوّر ذلك على الاطلاق إلّا للّه تعالى، و إن كان ذلك الرأي باطلا و لم يكن ما يراه من التفرّد بالعظمة كما يراه كان التكبّر باطلا مذموما، و كلّ من رأى العظمة و الكبرياء لنفسه على الخصوص دون غيره كانت رؤيته كاذبة و نظره باطلا إلّا اللّه تعالى.
[ 1332] و العليّ: الذي رتبته أعلى المراتب العقليّة و هي رتبة العليّة فإنّ ذاته المقدّسة هي مبدء كلّ موجود حسّي و عقلي، و علّته التامّة المطلقة التي لا يتصوّر فيها النقصان بوجه ما كما تقدّم بيانه.
و المتعال: المبالغ في العلوّ، أو المستعلي على كلّ شيء بقدرته، أو المتنزّه عن
286
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء السابع و الأربعين ص 269
و أنت اللّه لا إله إلّا أنت، الرّحمن الرّحيم، العليم الحكيم، و أنت اللّه لا إله إلّا أنت، السّميع البصير، القديم الخبير، و أنت اللّه لا إله إلّا أنت، الكريم الأكرم الدّائم الأدوم.
نعوت المخلوقات، و عن كلّ ما لا يجوز عليه في ذاته و صفاته و أفعاله.
الشديد المحال: أي الآخذ بالعقاب، يقال: ماحله محالا و مماحلة مثل قاتله قتالا و مقاتلة: إذا قاواه حتى يتبيّن أيّهما أشدّ و أقوى، أو معناه: شديد المكر و الكيد لأعدائه، و المحال و المماحلة: شدّة المماكرة.
و قيل: هو من محل به محلا و محالا إذا أراده بسوء، و منه محل بفلان إذا سعى به إلى السلطان و قد اختلفت «1» عبارات المفسّرين في قوله تعالى: وَ هُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ «2» فعن عليّ عليه السلام: شديد الأخذ، و قال مجاهد و قتادة: شديد القوّة، و قال الحسن: شديد النقمة، و قال الجبائي: شديد الكيد للكفار، و قيل: شديد القدرة، و قيل: شديد الحقد «3».
و معناه راجع إلى إرادة إيصال الشرّ إلى مستحقه مع إخفاء تلك الإرادة عنه و اللّه أعلم.
[ 1333] الرحمن الرحيم: صفتان مشبّهتان عند الجمهور بنيتا للمبالغة من رحم بعد جعله لازما بمنزلة الغرائز بنقله إلى رحم بالضمّ، لأنّ الصفة المشبّهة لا تجيء إلّا من لازم، و إفادة الصفة المشبّهة للمبالغة لدلالتها على الثبوت و الاستمرار، و نصّ سيبويه:
على أنّ الرحيم ليس بصفة مشبّهه، بل اسم فاعل بني للمبالغة لقولهم هو رحيم فلانا، و لا ينافي دعوى المبالغة ما أجمع عليه العلماء من أنّ فعالا و فاعلا و نحوهما في صفاته تعالى سواء، لأنّ مرادهم أن لا تفاوت بينها بالنظر إلى أصل الصفة، و ذلك
__________________________________________________
(1) «الف»: اختلف.
(2) سورة الرعد: الآية 13.
(3) مجمع البيان: ج 5- 6 ص 283.
287
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء السابع و الأربعين ص 269
..........
لا ينافي حصول التفاوت باعتبار خارج عنها.
و الرحمة: لغة رقّة القلب و عطفه، و منه الرحم لعطفها على ما فيها، و المراد بها هنا التفضّل و الإحسان، أو إرادتهما بطريق إطلاق السبب بالنسبة إلينا على مسبّبه «1» البعيد أو القريب، فإنّ أسماءه تعالى تؤخذ باعتبار الغايات التي هي أفعال دون المبادئ التي هي انفعالات.
و الرحمن: أبلغ من الرحيم لكثرة حروفه مختصّ باللّه لا بطريق العلميّة لجريانه وصفا، و إطلاقه على غيره تعالى كفر، و مبالغته إمّا بالكميّة لكثرة افراد الرحمة، أو افراد المرحوم، أو بالكيفيّة لتخصيصه بجلائل النعم و أصولها، أو المستمرة، و تقديمه على الرحيم لاختصاصه به تعالى. و قد تقدّم الكلام على رحمته تعالى بأبسط من هذا.
و العليم: أي العالم بجميع المعلومات و هو مبالغة العالم.
قال سيبويه: إذا أرادوا المبالغة عدلوا إلى فعيل نحو عليم و رحيم «2».
و إيثار المبالغة لكمال علمه، و هو إحاطته علما بكلّ شيء ظاهره و باطنه، دقيقه و جليله، أوّله و آخره، و هذا من حيث المشاهدة و الكشف على أتمّ ما يمكن فيه بحيث لا يتصوّر مشاهدة و كشف أظهر منه.
و الحكيم: أي العالم بالأشياء، و إيجادها على غاية الاحكام.
و قيل: العالم بحقائق الأشياء و أوصافها و خواصّها و أحكامها على ما هي عليه، و ضابط نظام الموجودات بأحكم الأسباب و رابط الأسباب بالمسبّبات و جاعل الوسائط مع قدرته على الأفعال ابتداء.
و قيل: هو بمعنى المحكم لأفعاله و منه: كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ «3» فهو فعيل
__________________________________________________
(1) «الف» مسبّب.
(2) كتاب سيبويه: ج 1 ص 71.
(3) سورة هود: الآية 1.
288
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء السابع و الأربعين ص 269
..........
بمعنى مفعل.
قال الطبرسي: و معناه أن أفعاله كلّها حكمة و صواب و ليس فيها تفاوت و لا وجه من وجوه القبيح، فإن فسّر بمعنى العالم فهو من صفات الذات، و إن فسّر بمعنى المحكم فهو من صفات الأفعال «1».
[ 1334] و السميع: هو الذي لا يعزب عن إدراكه مسموع و إن خفي فيسمع السرّ و النجوى، بل ما هو أدق و أخفى، و لمّا كان سبحانه منزّها عن الجسميّة و لواحقها فالسمع في حقّه عبارة عن إدراكه كمال المسموعات.
و البصير: هو الذي يشاهد و يرى حتّى لا يعزب عنه ما تحت الثرى، و بصره تعالى عبارة عن إدراكه كمال المبصرات، و هو أوضح و أجلى ممّا يفهم من إدراك البصر القاصر على ظواهر المرئيات.
و في حديث أهل البيت عليهم السلام: سمّينا ربّنا سميعا لأنّه لا يخفى عليه ما يدرك بالأسماء و سمّيناه بصيرا لأنّه لا يخفى عليه ما يدرك بالابصار «2» و قال المحقّق الطوسي: لمّا كان السمع و البصر ألطف الحواسّ و أشدّها «3» مناسبة للعقل عبّر بهما عن العلم، و لأجل ذلك و صفوا الباري تعالى: بالسميع و البصير دون الشام و الذائق و اللامس و عنوا بهما العالم بالمسموعات و المبصرات «4» انته.
و القديم: أي الموجود الذي لا يكون وجوده من غيره، و بعبارة أخرى ما لا يحتاج في وجوده في وقت ما إلى غيره، و هو يستلزم الوجوب، فهو بهذا المعنى الواجب تعالى، و قد يفسّر بما لا أوّل لوجوده و هو صحيح أيضا و يرادفه الأزلي، و بعبارة أخرى ما لم يسبق وجوده عدمه و قسّم المتكلّمون القديم: إلى قديم بالذات، و قديم بالزمان،
__________________________________________________
(1) مجمع البيان: ج 1- 2 ص 78.
(2) الكافي: ج 1 ص 117 ح 7.
(3) «الف» أشدهما.
(4) لم نعثر عليه.
289
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء السابع و الأربعين ص 269
..........
فالأوّل: ما كان غير محتاج في وجوده إلى غيره.
و الثاني: ما كان وجوده غير مسبوق بالعدم، و يقابله المحدث بالزمان و هو الذي سبق عدمه وجوده سبقا زمانيّا، و على هذا فكلّ قديم بالذات قديم بالزمان من غير عكس، فالقديم بالذات أخصّ من القديم بالزمان.
قال الملّيون: و قد استأثر تعالى بالقدم الزماني كما اختصّ بالذاتي، و قد يطلق القديم و يراد به الذي يكون ما مضى من زمان وجوده أكثر ممّا مضى من زمان وجود شيء آخر، و هو بهذا المعنى لا يجوز إطلاقه عليه تعالى لتنزّهه عن الزمان و توابعه.
(تنبيه) في وصفه تعالى بالقديم في عبارة الدعاء ردّ لما قاله الراغب في المفردات: من أنّه لم يرد في شيء من القرآن و الآثار الصحيحة القديم وصفا للّه تعالى و المتكلّمون يستعملونه و يصفونه تعالى به، و في المواقف و شرحه: يوصف بالقديم ذات اللّه تعالى اتّفاقا من الحكماء و أهل الملّة، و توصف به أيضا صفاته فإنّهم أجمعوا على أنّ للّه سبحانه صفات موجودة قديمة قائمة بذاته.
و أمّا المعتزلة: فأنكروا أن يوصف بالقدم «1» ما سوى اللّه، سواء كان صفة له أو لم يكن «2»، انته ملخصا.
و الخبير: هو الذي لا تعزب عنه الأخبار الباطنة فلا يجري في الملك و الملكوت شيء و لا تتحرك «3» ذرّة و لا تسكن و لا تضطرب نفس و لا تطمئن إلا و يكون عنده خبرة، و هو بمعنى العليم، لكن العلم إذا أضيف إلى الخفايا الباطنة سمّي خبرة
__________________________________________________
(1) «الف»: بالقديم.
(2) المفردات: ص 397.
(3) «الف»: يتحرّك.
290
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء السابع و الأربعين ص 269
..........
و سمّي صاحبها خبيرا، فهو أخصّ من مطلق العليم.
[ 1335] و الأكرم: أي الأعظم كرما كما قال تعالى: وَ رَبُّكَ الْأَكْرَمُ «1».
قال الطبرسي: هو الذي لا يبلغه كرم كريم، لأنّه يعطي من النعم ما لا يقدر على مثله غيره، و كلّ نعمة إنّما توجد من جهته تعالى إمّا بأن يكون اخترعها أو سببّها و سهّل الطريق إليها «2».
و الدائم: هو الذي لا ينتهي تقدير وجوده في المستقبل إلى آخر، و يعبّر عنه بأنّه أبديّ، كما أنّ القديم هو الذي لا ينتهي تمادي وجوده في الماضي إلى أوّل، و يعبّر عنه بأنه أزليّ، و هذا إنّما هو بحسب إضافة الوجود في الذهن إلى الماضي و المستقبل، و إلّا فهو سبحانه منزّه عن الزمان و ليس للزمان عليه جريان.
قال بعض المحقّقين: إذا لاحظنا صانع العالم و لاحظنا معه أنّه لا أوّل لوجوده تعالى و أنّه لا آخر له ينتزع منه العقل أمرا ممتدا غير قارّ الذات يشبه الزمان و ليس بزمان حقيقة و بهذا الاعتبار أطلق عليه سبحانه الأزليّة، و هي اسم اشتق الماضي منه، و الأبديّة و هي اسم اشتق المستقبل منه و السرمديّة و هي اسم لمجموع الأمرين.
و الأدوم: أي البليغ الدّوام، و أفعل هنا مجرد عن معنى التفضيل إذ لا يقاس بدوامه سبحانه دوام دائم فيفضّل عليه، و قد تقدّم في أوّل الروضة الاولى «3» أنّ أفعل قد يقصد به تجاوز صاحبه و تباعده عن غيره في الفعل لا بمعنى تفضيله بعد المشاركة في أصل الفعل فيفيد عدم وجود أصل الفعل فيحصل كمال التفضيل، و هذا هو المقصود بأفعل في صفاته تعالى و لك أن تريد بالدوام طول البقاء مطلقا فتحقّق المشاركة و يصحّ التفضيل، و اللّه أعلم.
__________________________________________________
(1) سورة العلق: الآية 3.
(2) مجمع البيان: ج 9- 10 ص 514.
(3) ج 1 ص 392.
291
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء السابع و الأربعين ص 269
و أنت اللّه لا إله إلّا أنت الأوّل قبل كلّ أحد و الآخر بعد كلّ عدد و أنت اللّه لا إله إلّا أنت، الدّاني في علوّه، و العالي في دنوّه، و أنت اللّه لا إله إلّا أنت، ذو البهاء و المجد، و الكبرياء و الحمد.
[ 1336] الأوّليّة و الآخريّة: أمران اعتباريّان إضافيّان تحدثهما العقول لذاته المقدّسة، و ذلك إنّك إذا لاحظت ترتيب الوجود في سلسلة الحاجة إليه سبحانه وجدته تعالى بالإضافة إليها أوّل، إذ كان انتهاؤه في سلسلة الحاجة إلى غنائه المطلق، فهو أوّل بالعليّة و الذات و الشرف، و إذ ليس بذي مكان فالتقدّم بالمكان منفيّ عنه، و الزمان متأخّر عنه إذ هو من لواحق الحركة المتأخّرة عن الجسم المتأخّر عن علّته، فلم يلحقه «1» القبلية الزمانيّة فضلا عن أن يسبق عليه، فكان قبل كلّ شيء و لم يكن شيء قبله مطلقا لا من الزمانيات، و لا من غيرها، و لمّا كان كل موجود سواه ممكن العدم فله من ذاته أن لا يستحقّ وجودا، فضلا عن أن يستحق الآخرية و البعديّة المطلقة، و هو تعالى واجب لذاته فهو المستحقّ لبعديّة الوجود و آخريّته لذاته، و بالقياس إلى كلّ موجود فإذن هو الأوّل المطلق الذي لا أحد و لا شيء قبله، و الآخر المطلق الذي لا شيء بعده، و المراد بالعدد هنا المعدود و هو يشمل كلّ ما سوى اللّه تعالى، إذ لا ممكن إلّا و يلحقه العدّ و هو جعله مبدء كثرة يصلح أن يعدّ بها و يكون معدودا بالنسبة إليها، لأن كلّ ممكن مركّب، إذ لا أقلّ فيه من الإمكان و الوجود أو الجنس و الفصل أو المادّة و الصورة، و لذلك قيل: كلّ ممكن زوج تركيبيّ، و يحتمل أن يكون معنى الآخر بعد كلّ عدد انتهاء الممكنات إليه إذا عدّت و رتّبت سلسلتها من الأبد إلى الأزل، كما تقدّم بيانه في الروضة الاولى «2» و اللّه أعلم.
[ 1337] الدنوّ: القرب و أصله في المسافة و المكان، يقال: دنوت منه دنوّا إذا قربت منه مكانا، و إذ ليس المراد به هنا هذا المعنى لتقدّسه سبحانه عن الجسميّة التي هي من
__________________________________________________
(1) «الف»: تلحقه.
(2) ج 1 ص 401.
292
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء السابع و الأربعين ص 269
..........
لوازم المكان، فالمراد بدنوّه تعالى: دنوّه من كلّ شيء بحسب علمه الذي لا يعزب عنه مثقال ذرّة في الأرض و لا في السماء، و بهذا الاعتبار هو أدنى إلى كلّ شيء من نفسه، لأنّه تعالى هو الموجد له و العالم به.
و قيل: المراد بدنوّه دنوّه و قربه بالإيجاد و التدبير و الحفظ و الكلاءة.
و قيل: هو تمثيل لحاله تعالى في سرعة إجابته لمن دعاه، و إنجاحه حاجة من سأله و رجاه بحال من دنا و قرب مكانه، فإذا دعي أسرعت إجابته.
و قال النظام النيسابوري: لا ذرّة من ذرّات العالم إلا و نور الأنوار محيط بها، قاهر عليها، قريب منها، أقرب و أدنى من وجودها إليها، لا بمجرّد العلم فقط، و لا بمعنى الصنع و الإيجاد فقط، بل بضرب آخر لا يكشف المقال عنه، إلّا الخيال مع أن التعبير عن ذلك يوجب شنعة الجهّال «1».
و «في» من قوله: «في علوّه و في دنوّه» للمصاحبة، أي مع علوّه و دنوّه، و قد سبق أن علوّه تعالى باعتبار كونه مبدأ كلّ موجود و مرجعه، فهو العليّ المطلق الذي لا أعلى منه في وجوده و كمال مرتبته أشرف، فعلوّه علوّ عقلي، فلا ينافي دنوّه بالمعنى المذكور، فصح أنّه دان مع علوّه، و عال مع دنوّه، لا كما هو حال ما عداه من استحالة اجتماع العلوّ و الدنوّ فيه، فإنّ غيره إذا استعلى على شيء كان غير دان منه، و إذا دنى من شيء كان غير عال عليه، فلم يكن دانيا مع علوّه، و عاليا مع دنوّه، و في تعبيره «2» عليه السلام بذلك إيهام الجمع بين الضدين، لتنزعج النفوس السليمة عند إنكار الوهم، لاجتماع العلوّ و الدنوّ في شيء واحد، فتتوجّه إلى تعميم المقصود به، و تطّلع على عظمة الحقّ سبحانه، مع ما في ذلك من إدماج الإشارة إلى أنّه ليس بزمان و زمانيّ و لا مكان و مكانيّ، إذ لا يمكن اتّصاف شيء منها
__________________________________________________
(1) تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان: ج 1 ص 193.
(2) «الف»: تفسيره.
293
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء السابع و الأربعين ص 269
و أنت اللّه لا إله إلا أنت، الّذي أنشأت الأشياء من غير سنخ و صوّرت ما صوّرت من غير مثال، و ابتدعت المبتدعات بلا احتذاء بالدنوّ و العلوّ معا في حالة واحدة.
[ 1338] و البهاء: ما يملأ العين من الحسن و الجمال، يقال: بها يبهو مثل علا يعلو بهاء إذا ملأ العين حسنه و جماله، و قد يستعمل في حسن الهيئة، و بهاء اللّه تعالى: عظمته لكونها ملأت القلوب و البصائر، و جاوزت حدود العقول أن تقف على صفات جلالها، و نعوت كمالها.
و المجد: السعة في الكرم و الجلالة، و مجده تعالى: سعة فيضه، و كثرة جوده و عظمة جلاله.
و الكبرياء: الترفع و الاستنكاف عن الطاعة و الانقياد، و هي صفة لا يستحقّها غير اللّه تعالى و لذلك ورد في الحديث: الكبرياء ردائي و العظمة إزاري، فمن نازعني في شيء منهما قصمته «1».
و الحمد: الثناء بالفضيلة، و لمّا كانت الكبرياء في غيره تعالى مستلزمة للذّم عطف عليها الحمد إيذانا بأنّها من الصفات التي لا تليق بغيره سبحانه، و لا يحمد على الاتّصاف بها سواه، و اللّه أعلم.
لمّا كان الموصول مخبرا به عن ضمير المخاطب في المواضع الثلاثة، جعل العائد إليه ضمير خطاب فيها حملا على المعنى، من حيث إنّ الموصول مخبر به عنه، و نحوه قول الفرزدق:
و أنت الذي يلوي الجنود رءوسها إليك و للأيتام أنت طعامه «2»
فجعل العائد ضمير «إليك» حملا على المعنى، و هو كثير في كلامهم، و إن كان ضمير الغيبة أكثر رعاية للموصول من حيث إنّه من قبيل الظاهر و طريقه
__________________________________________________
(1) مرآة العقول: ج 10 ص 183- 184.
(2) ديوان الفرزدق مع اربع دواوين ص 195، مطبعة الوهبية بمصر سنة 1293 هجرية.
294
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء السابع و الأربعين ص 269
أنت الّذي قدّرت كلّ شيء تقديرا، و يسّرت كلّ شيء تيسيرا و دبّرت ما دونك تدبيرا، أنت الّذي لم يعنك على خلقك شريك، و لم يوازرك في أمرك وزير، و لم يكن لك مشاهد و لا نظير.
الغيبة.---
[ 1339] و الإنشاء: إحداث الشيء و إيجاده، يقال: نشأ الشيء نشاء «1» مهموزا من باب- نفع-: أي حدث، و أنشأته، إنشاء: أحدثته، و الاسم النشاءة كتمرة، و قيل: الإنشاء الإيجاد الذي لم يسبق غير الموجد إلى إيجاد مثله.
و السنخ من كلّ شيء: أصله، أي من غير أصل يكون مبدأ لإنشاء الأشياء و ايجادها غير مخلوق له فيكون شريكا له في المبدئيّة، و فيه ردّ على الفلاسفة حيث زعموا أنّ الأجسام لها أصل قديم أزليّ هي المادة، فيلزمهم القول بثبوت قديم غيره تعالى مشارك له في المبدئيّة، و هو محال.
و في نسخة: من غير شبح محرّكة بالشّين المعجمة و الموحدة من تحت، و بعدها حاء مهملة: و هو الشّخص بمعنى الجسم المؤلّف المدرك بالرؤية و الحسّ، و كان المراد به موادّ الجسميات أو مطلق المادة توسّعا، و هي ما يحصل الشيء معه بالقوّة، و مثل هذه العبارة قول أمير المؤمنين عليه السلام في خطبة له: لم يخلق الأشياء من أصول أزليّة، و لا من أوائل أبديّة «2».
و صوّرت الشيء تصويرا: جعلت له صورة، و الصورة هيئة حاصلة للشيء عند إيقاع التأليف بين أجزائه، و الحكماء جعلوا الصورة نوعين:
صورة النوعيّة: و تسمّى بالطبيعيّة، و هي التي تختلف بها الأجسام أنواعا و رسموها بأنّها جوهر بسيط لا يتمّ وجوده بالفعل دون ما حلّ فيه.
__________________________________________________
(1) «الف» إنشاء.
(2) نهج البلاغة: ص 233، الخطبة 163.
295
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء السابع و الأربعين ص 269
..........
و صورة جسميّة: و رسموها بأنّها جوهر من شأنه أن يخرج به محلّه من القوّة إلى الفعل.
و قال الراغب: الصورة ما تنتقش به الأعيان، و تتميّز به عن غيرها و هي ضربان:
أحدهما: محسوس تدركه الخاصّة و العامّة، بل يدركه الإنسان و كثير من الحيوان، كصورة الإنسان و الفرس و الحمار بالمعاينة.
و الثاني: معقول تدركه الخاصّة دون العامّة، كالصورة التي أختصّ بها الإنسان من العقل و الرويّة، و المعاني التي خصّ بها شيء فشيء و إلى الصورتين أشار بقوله تعالى: خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ و صَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ* فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ «1».
و بالجملة فالمراد بقوله عليه السلام: «و صوّرت ما صوّرت» ما يشمل أنواع الصور، نوعيّة كانت أو جسميّة أو شخصيّة، و عنصريّة كانت أو فلكيّة.
و المثال: بالكسر مصدر ماثله مماثلة و مثالا، كقاتله مقاتلة و قتالا، أي مشابها ثم استعمل في وضع شيء ما ليحتذى به فيما يعمل، أو مقابلة شيء بشيء، و هو نظيره و المعنى: أنّه تعالى أفاض الصور على المصوّرات ابتداء و اختراعا من غير مثال احتذى عليه من خالق كان قبله، و إيثار تعريف المفعول بالموصولية للتفخيم، أي صوّرت ما صوّرت من الأشياء التي لا يقدر على عدّها و وصفها، كقول الشاعر:
و بلغت ما بلغ أمرؤ بشبابه فإذا عصارة كل ذاك أثام
و ابتداع الشيء: صنعته و إيجاده و إحداثه.
و احتذيت به احتذاء: اقتديت به في فعله، و الظرف في محل نصب حالا من الفاعل، أي أحدثت المحدثات و أوجدت الموجودات من غير اقتداء منك لموجد «2»
__________________________________________________
(1) المفردات: ص 289.
(2) «الق» بموجود.
296
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء السابع و الأربعين ص 269
..........
و محدث قبلك صنعت كصنعه.
[ 1340] و تقديره كلّ شيء عبارة عن إيجاده لجميع الأشياء على وفق قضائه كلا بمقدار معلوم، أو إعطائه لكلّ موجود المقدار الذي يستحقه من الكمال من الوجود و لواحق الوجود كالأجل و الرزق و نحوهما على وفق القضاء الإلهي.
و قال الراغب: تقدير اللّه تعالى للأشياء على وجهين:
أحدهما: باعطاء القدرة.
و الثاني: بأن يجعلها على مقدار مخصوص، و وجه مخصوص حسبما اقتضته الحكمة، و ذلك إنّ فعل اللّه ضربان:
ضرب: أوجده بالفعل بأن أبدعه كاملا دفعة لا يعتريه الكون و الفساد إلى أن يشاء أن يفنيه أو يبدّله كالسموات و ما فيها.
و ضرب: جعل اصوله موجودة بالفعل، و أجزاؤه بالقوّة، و قدّره على وجه لا يتأتّى غير ما قدّره فيه، كتقديره في النواة أن ينبت منها النخل دون التفاح و الزيتون، و تقديره منيّ الآدمي أن يكون منه الإنسان دون سائر الحيوانات، فتقدير اللّه على وجهين:
أحدهما: بالحكم منه أن يكون كذا أو لا يكون كذا، إمّا على سبيل الوجوب، أو على سبيل الإمكان، و على ذلك قوله تعالى: قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً.
و الثاني: باعطاء القدرة و عليه «فقدرنا فنعم القادرون» و قرئ «فقدّرنا» بالتشديد، و ذلك منه أو من إعطاء القدرة «1» انته.
و قوله: تقديرا: مصدر مؤكّد لعامله باعتبار حدثه «2» المفهوم منه مطابقة، أي تقديرا بليغا لا يكتنه كنهه، و لا يوصف شأنه.
__________________________________________________
(1) المفردات: ص 395.
(2) «الف»: جذبه
297
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء السابع و الأربعين ص 269
و تيسير الشيء تهيّته «1» لما يراد منه يقال: يسّر الفرس للركوب إذا أسرجه، و ألجمه ليركب، و منه قوله تعالى: فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى «2».
أي فسنهيّئه للطريقة اليسرى، و أصله من التيسير بمعنى التسهيل لأنّ الشيء إذا هيّئ سهل استعماله، و المعنى أنّه تعالى هيّأ كلّ شيء لما خلق له فهيّأ الشمس سراجا، و القمر نورا، و النهار للنشور، و الليل للسكون، و الفلك للدوران، و الماء للسقيان، و النّار للإحراق، و الخيل للركوب، و الإبل للحمل، و البقر للحرث، إلى غير ذلك، و في هذا إشارة إلى قول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «كلّ ميسّر لما خلق له» «3».
و تدبيره تعالى: يعود إلى تصريفه لجميع الذوات و الصفات تصريفا كليّا و جزئيا على وفق حكمته و عنايته، و لما ثبت بالبرهان وحدانيته، و كمال قدرته التي لا يعجز عن شيء، لا جرم ثبت أنّه لم يكن له شريك فيعينه على خلقه.
[ 1341] قوله عليه السلام: «و لم يؤازرك في أمرك وزير» المراد بالأمر هنا: حكم القدرة الإلهيّة على الممكنات بالوجود، و يحتمل أن يكون بمعنى الشأن، أي لم يحاملك في حكمك أو شأنك.
قال الزمخشري في الأساس: الوزر هو الحمل الثقيل، و وزره يزره حمله هو و آزره و وازره حامله، و هو موازره و وزيره، كقولك مجالسه و جليسه، و هو وزير الملك الذي يؤازره أعباء الملك أي يحامله، و ليس من الموازرة بمعنى المعاونة، لأنّ واوها عن همزة، و فعيل منها أزير «4».
و في القاموس: الموازرة المعاونة و بالواو شاذ «5» انته.
فمن فسر الموازرة بمعنى المعاونة كما وقع في جميع التراجم فقد اشتبه عليه الأمر.
__________________________________________________
(1) تهيئته.
(2) سورة الليل: الآية 7.
(3) النهاية لابن الأثير: ج 5 ص 296.
(4) أساس البلاغة: ص 673.
(5) القاموس المحيط: ج 1 ص 363.
298
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء السابع و الأربعين ص 269
..........
هذا و لمّا كان سبحانه تام الغنى و القدرة لا نقصان فيه باعتبار، فكان غنيّا مطلقا و هو على كلّ شيء قدير، لم يفتقر إلى وزير يوازره في خلقه، و إلّا كان مفتقرا إليه، فلم يكن غنيّا من كل وجه، و قد ثبت بالبرهان غناه مطلقا، و إلّا كان عاجزا عن الاستقلال بالقدرة في أمره، فلم يكن على كلّ شيء قديرا، تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.
قوله عليه السلام: «و لم يكن لك مشاهد و لا نظير» المشاهد اسم فاعل من شاهدته مشاهدة مثل عاينته معاينة وزنا و معنى، و إنّما لم يكن له سبحانه مشاهد لتنزّهه عن إدراك الحواس مطلقا، و إنّما خصّ المشاهدة بالذكر و هي إنّما تطلق على إدراك البصر لوقوع الشبهة و قوّتها في أذهان كثير من الخلق في جواز إدراكه تعالى بهذه الحاسّة، حتى أنّ مذهب أكثر العامّة أنّ تنزيهه تعالى عن ذلك ضلال، بل كفر، تعالى اللّه عمّا يقول العادلون.
و يحتمل أن يكون تلميحا إلى قوله تعالى في سورة الكهف: ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَ ما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً «1» فإن الإشهاد و ان كان بمعنى الإحضار لكنّه يستلزم المشاهدة، بل قيل: الشهود الحضور مع المشاهدة.
قال الراغب: الشهود و الشهادة: الحضور مع المشاهدة إمّا بالبصر أو بالبصيرة «2» انته فيكون المعنى و إن لم يكن لك مشاهد شاهد خلقك لمخلوقاتك.
و عندي أنّ هذا أشدّ ارتباطا بسياق الكلام من المعنى الأوّل فإنّ معنى الآية:
ما أحضرت إبليس و ذريّته أو الظالمين أو الذين يزعمون أنّهم شركاء لي خلق
__________________________________________________
(1) سورة الكهف: الآية 51.
(2) المفردات: ص 267.
299
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء السابع و الأربعين ص 269
أنت الّذي أردت فكان حتما ما أردت، و قضيت فكان عدلا ما قضيت، و حكمت فكان نصفا ما حكمت.
السموات و الأرض و لا خلق بعضهم بعضا، فيكونوا شركاء لي في تدبير العالم، و ما اعتضدت بهم في تدبير الدنيا و الآخرة، و تقدير أمورهما، و لا شكّ أنّ التلميح إلى هذا المعنى أنسب بما قبله من تنزيهه تعالى عن إدراك البصر في هذا المقام، و اللّه أعلم بمقاصد أوليائه.
و في نسخة: «و لم يكن لك مشابه» اسم فاعل من المشابهة بمعنى المماثلة، و هو يناسب عطف النظير عليه، و هو المناظر من ناظره بمعنى ماثله كالجليس بمعنى المجالس، أي لم يكن لك مشابه و لا مناظر في خلقك و أمرك أو مطلقا.
أمّا الأوّل: فلأنّه سبحانه فاعل مطلق بالإبداع و محض الاختراع مبرّء عن نقصان الذات، منزّه «1» عن العجز و الرويّة «2» و الحركات و الآلات، و ما سواه ليس كذلك، فلم يكن له مشابه و لا نظير في فعله و خلقه و إبداعه و اختراعه و أمره و حكمه.
و أمّا الثاني: و هو تنزّهه عن المشابه و النظير من كلّ وجه فلتفرّده في ذاته و صفاته، أمّا في ذاته فلأنّ وجود الواجب تعالى و تعيّنه عين ذاته فلم يكن «3» له ماهيّة كليّة يشاركه غيره فيها فلا مثل له و لا نظير له في ذاته و حقيقته، و أمّا في صفاته فلأنّ صفاته سبحانه من العلم و القدرة و غير ذلك عين ذاته، و صفات غيره أعراض محدثات مستفادة من الغير فلا مشابه و لا نظير له في صفاته، و أيضا فالمشابهة بين الشيئين إمّا في الحقيقية، أو في أجزائها أو في عوارضها، و الواجب لا يشابهه و لا يماثله الممكن في شيء من ذلك، أمّا الأوّل فظاهر و أمّا الأخيران فلأنّه لا جزء له و لا عوارض له فثبت تنزّهه عن المشابه و النظير من كلّ وجه، و اللّه أعلم [ 1342] «ما» في الفقرات الثلاث مصدريّة، أي أردت فكان حتما إرادتك، و قضيت
__________________________________________________
(1) «الف»: متنزّه.
(2) «الف»: الرؤية.
(3) «الف»: تكن.
300
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء السابع و الأربعين ص 269
..........
فكان عدلا قضاءك «1»، و يحتمل أن يكون «2» في الفقرة الاولى موصولة، و يكون حتما مصدرا بمعنى المحتوم، كقوله تعالى: كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا «3» أي محتوما، و احتمال ذلك في الفقرتين الأخيرتين جار على تكلّف.
و الحتم: مصدر بمعنى إحكام الأمر و إبرامه و الجزم به، تقول: حتمت عليه الشيء حتما إذا أوجبته عليه جزما بحيث لا يسعه خلافه.
و المعنى أنّ إرادته تعالى إذا تعلّقت بأمر وجب وقوعه، و تحتم كونه من غير توقّف على شيء أصلا، و لا مهلة و لا تراخ، فكانت إرادته إيجابا و إبراما لا يتخلّف عنه، المراد بوجه من الوجوه، كما قال تعالى: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ «4» و هو تمثيل لقدرته تعالى و سهولة تأتّي المقدورات حسب ما تقتضيه إرادته و تصوير لسرعة حدوثها عند تعلّق الإرادة بها بما هو علم فيها من طاعة المأمور المطيع للأمر القويّ المطاع.
و قضيت: أي حكمت حكما فصلا، لأنّ القضاء الفصل في الحكم، و قيل: هو فصل الأمر قولا كان أو فعلا.
و العدل: عبارة عن التوسّط في الأفعال و الأقوال بين طرفي الإفراط و التفريط، و لما كان قضاؤه تعالى و حكم علمه بوقوع شيء أو عدم وقوعه جاريا على وفق الحكمة و النظام الأكمل الكليّ، لا جرم لم يكن أن يقع في الوجود شيء من أفعاله و أقواله منسوبا إلى أحد طرفي الإفراط و التفريط، بل كان على حال الوسط منهما و هو العدل.
و الحكم: القضاء بالشيء بأنّه كذا سواء الزم ذلك غيره أو لم يلزمه.
و النصف: بالكسر و الفتح و الضمّ ساكنا و محرّكا، و النصفة اسم من أنصف
__________________________________________________
(1) «الف»: قضاؤك.
(2) «الف»: تكون.
(3) سورة مريم: الآية 71.
(4) سورة يس: الآية 82.
301
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء السابع و الأربعين ص 269
أنت الّذي لا يحويك مكان، و لم يقم لسلطانك سلطان، و لم يعيك برهان و لا بيان، أنت الّذي أحصيت كلّ شيء عددا، و جعلت لكلّ شيء أمدا، و قدّرت كلّ شيء تقديرا.
إنصافا إذا عدل و أقسط «1»، و كان المراد بقضائه تعالى في الفقرة السابقة قضاءه الذي تعلّقت به إرادته الحتميّة «2»، و مشيئته القطعيّة، و هو قضاؤه في أفعاله؛ و بحكمه في هذه الفقرة حكمه الذي تعلّقت به إرادته العزميّة و مشيئته الاختياريّة، و هو حكمه في أفعال العباد أعني الحكم الشرعي الذي لم يجبرهم على قبوله أمرا كان أو نهيا، كما يرشد إليه عدم التزام الإلزام في مفهوم الحكم، فتكون هذه الفقرة تأسيسا لا تأكيدا لسابقتها كما توهمه بعض المترجمين، و اللّه أعلم.
[ 1343] حواه يحويه حواية: ضمّه و جمعه.
و في نسخة: «لا يحوزك» من حازه يحوزه حوزا و حيازة: بمعنى ضمّه و جمعه أيضا.
و المكان في اللغة: الموضع الحاوي للشيء، و عند الحكماء: هو السطح الباطن الحاوي المماسّ للسطح الظاهر من الجسم المحويّ.
و قال بعضهم: أنّه عرض و هو اجتماع جسمين: حاو و محوي، و ذلك أن يكون سطح الجسم الحاوي محيطا بالجسم المحويّ، فالمكان هو المناسبة بين هذين الجسمين، و عند المتكلّمين: هو الفراغ المتوهّم الذي يشتغل «3» الجسم و تنفذ فيه أبعاده و لمّا كان تعالى مبرّء عن الجسميّة و لو احقها و كلّ ما كان كذلك فهو بريء عن المكان و لواحقه فينتج أنه برئ عن المكان و لواحقه فصدق أنّه لا يحويه مكان و لم يقم لسلطانك سلطان: أي لم يطقه و لم يقدر على مقاومته.
قال الزمخشري في الأساس: ما قام له و لا يقوم له إذا لم يطقه «4».
__________________________________________________
(1) «الف»: قسط.
(2) «الف»: الجسميّة.
(3) «الف»: يشغل.
(4) أساس البلاغة: ص 528.
302
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء السابع و الأربعين ص 269
..........
و السلطان: التسلّط و القهر و الغلبة، أي لم يطق أن يضاهي أو «1» يدافع قهرك و غلبتك قهر و غلبة لغيرك، لأنّ كل ما سواه مقهور تحت اقتداره و سلطانه و غلبته، خاضع بذلّ الافتقار إليه، و يجوز أن يكون المراد بالسلطان هنا: الحجّة، أي لم يقدر على دفع حجّتك و مقاومتها حجّة.
وعي بالأمر و عن حجّته يعيا من باب- تعب- عيّا: عجز عنه، و أعياه إعياء:
أعجزه.
و في الصحاح: عييت بأمري إذا لم تهتد لوجهه، و أعياني هو «2».
و البرهان: الحجّة الواضحة.
و البيان: في الأصل اسم من بان الشيء يبين فهو بيّن، و أبان إبانة و بين «3» و استبان كلّها بمعنى الوضوح و الانكشاف، و جميعها يستعمل لازما و متعدّيا إلّا الثّلاثي فلا يكون إلّا لازما، ثم خصّ بإيضاح المتكلّم المراد للسامع، و إظهار المعنى و كشفه، و قد يفسّر بإخراج الشيء من حيّز الإشكال إلى حدّ التجلّي، و المعنى إنّه تعالى لم يعجزه إقامة برهان و حجة على أحد و لا بيان ما أراد بيانه و إيضاحه لبرائته من العجز عن شيء.
[ 1344] قوله عليه السلام: «و أحصيت كلّ شيء عددا» اقتباس من قوله تعالى في سورة الجنّ: وَ أَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَ أَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً «4» يقال: أحصيت كذا إحصاء: إذا حصلته بالعدد، و أصله من لفظ الحصى، و ذلك أنّهم كانوا يعتمدونه بالعدد كاعتمادنا فيه على الأصابع.
و قيل: كانوا إذا بلغ الحساب عقدا معيّنا من عقود الأعداد كالعشرة و المائة و الألف وضعوا حصاة ليحفظوا بها كميّة ذلك العقد فيبني عليه حسابه، و أحصى
__________________________________________________
(1) «الف»: و.
(2) الصحاح: ج 6 ص 2442.
(3) «الف»: يبين.
(4) سورة الجن: الآية 28.
303
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء السابع و الأربعين ص 269
..........
كلّ شيء: أي حصله و أحاط به.
قال ابن عباس: أي أحصى ما خلق و عرف عدد ما خلق لم يفته علم شيء حتى مثاقيل الذّر و الخردل «1».
و قيل: معناه عدّ جميع المعلومات المعدومة و الموجودة عدّا، فعلم صغيرها و كبيرها، و قليلها و كثيرها، و ما كان و ما لا يكون و ما كان لو لم يكن كيف كان و ما لم يكن لو كان كيف كان.
و قيل: معناه لا شيء يعلمه عالم أو يذكره ذاكر إلّا و هو تعالى عالم به و محص له.
و قال صاحب الكشّاف: أحصى كلّ شيء من القطر و الرمل و ورق الأشجار و زبد البحار «2».
و قال الجبائي: الإحصاء فعل فلا يجوز أن يقال أحصى ما لا يتناهى كما لا يجوز أن يقال: علم ما لا يتناهى، فإن حمل على العلم تناول جميع المعلومات، و إن حمل على العدّ تناول جميع الموجودات «3».
و قوله: «عددا» أي فردا فردا، و هو تمييز منقول من المفعول به كقوله تعالى:
وَ فَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً «4» و الأصل: أحصى عدد كلّ شيء.
و قيل: هو حال، أي ضبط كلّ شيء معدودا محصورا.
و قيل: مصدر بمعنى إحصاء لانّ أحصى بمعنى عدّ، و اللّه أعلم.
قوله عليه السلام: «و جعلت لكلّ شيء أمدا» أي: غاية ينتهي إليها يقال: بلغ أمده: أي غايته، و المراد بالشيء هنا كلّ موجود سواه تعالى بقضيّة العقل لاستحالة انتهائه سبحانه إلى غاية، فقوله: «لكلّ شيء» عامّ مخصّص بمنفصل
__________________________________________________
(1) مجمع البيان: ج 9- 10 ص 374.
(2) تفسير الكشاف: ج 4 ص 633.
(3) مجمع البيان: ج 9- 10 ص 374.
(4) سورة القمر: الآية 12.
304
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء السابع و الأربعين ص 269
..........
كقوله تعالى: خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ* «1» لاستحالة كونه تعالى مخلوقا، و المعنى أنّه سبحانه جعل لكلّ موجود غاية ينتهي إليها وجوده، فلا يتجاوزها حتى إذا انته إليها فنى و عدم، كما وردت الإشارة إليه في القرآن المجيد بقوله تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ وَ يَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَ الْإِكْرامِ «2» و قوله: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ «3» و قوله: هُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ «4» و معلوم أنّ الإعادة إنّما تكون بعد العدم، و كلّ ذلك صريح في أنّ لكلّ شيء أمدا ينتهي إليه في وجوده ثم يعدمه اللّه سبحانه و يفنيه، و ليس بدائم الوجود غير منته إلى غاية لامتناع عدمه، و هو الذي اتّفق عليه أهل الحقّ من الإسلاميين و غيرهم، و أجمعوا على القضاء بصحّة فناء العالم و أجزائه و جواهره و أعراضه و فيه ردّ على الفلاسفة و الفرق الزائغة «5».
فذهب الفلاسفة إلى أنّ أجسام الأفلاك و نفوسها و العقول التي هي مباديها و الجسم المشترك بين العناصر و النفوس الإنسانيّة لا غاية لبقائها و لا يتصوّر عليها الفناء و العدم، و أمّا الأزمنة و الحركات الدوريّة الفلكية فإن آحاد أشخاصها و ان تصوّر عليها الفناء و العدم و كان لكلّ منها غاية و أمد فلا يتصوّر الفناء و العدم على جملتها، بمعنى أنّه ما من زمان و لا حركة إلّا و بعده زمان و حركة.
و ذهب الجاحظ و ابن الراوندي و جماعة من الكراميّة إلى أنّ ما وجد من الجواهر لا يتصوّر عدمه مطلقا و أنّ اللّه تعالى لو أراد اعدامه لم يكن ذلك مقدورا له فلا يكون لوجوده أمد و غاية ينتهي إليها تعالى اللّه عمّا يقول الجاحدون علوا كبيرا.
قوله عليه السلام: «و قدّرت كلّ شيء تقديرا» أي جعلت كلّ شيء بمقدار
__________________________________________________
(1) سورة الانعام: الآية 102.
(2) سورة الرحمن: الآية 26 و 27.
(3) سورة القصص: الآية 88.
(4) سورة يونس: الآية 4.
(5) «الف»: الزائفة.
305
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء السابع و الأربعين ص 269
أنت الّذي قصرت الأوهام عن ذاتيّتك، و عجزت الأفهام عن كيفيّتك و لم تدرك الأبصار موضع أينيّتك.
معلوم حسب ما اقتضته الحكمة و المصلحة، و قد مرّ الكلام على ذلك في شرح هذا الدعاء فلا نعيده.
[ 1345] قصرت الأوهام: أي عجزت، يقال: قصرت عن الشيء قصورا من باب- قعد- أي عجزت.
غير أنّ أكثر النسخ المشهورة على ضبط قصرت بالضمّ و هو من قصر خلاف طال، و مصدره القصر كعنب؛ فالمعنى «1» على هذا أنّ الأوهام تناهت و انقطعت عن إدراك ذاتيّتك.
و ذاتيّته تعالى: عبارة عن كنهه و حقيقته القائمة بذاتها، فإنّ ياء النسبة إذا لحقتها التاء أفادت معنى المصدريّة كالالوهيّة و الربوبيّة، و إنّما قصرت الأوهام عن إدراك ذاتيّته تعالى، لأنّ الوهم إنّما يتعلّق بالامور المحسوسة و ذات الصور و الأحياز، حتّى أنّه لا يدرك نفسه إلّا و يقدّرها ذات مقدار و حجم، فلو أدرك ذاتيّته تعالى لأدركها في جهة و حيّز ذات مقدار، و صورة شخصيّة متعلّقة بالمحسوس، و كلّ ذلك في حقّ الواجب المنزّه عن شوائب الكثرة محال، و يمكن أن يراد بالوهم: النفس و قواها لأنّ النفس في معرفة الواجب كالوهم، و قد سبق الكلام على هذا المطلب بأبسط من هذا.
و الأفهام: جمع فهم و هو في الأصل بمعنى تصوّر المعنى من لفظ المخاطب، ثم أطلق على قوّة النفس الفاهمة.
قال الراغب: و قد يطلق على العقل و إن كانت مرتبته دون مرتبة العقل، فقوّة الفهم أن يدرك الأشياء الجزئيّة، و العقل يدرك كلّياتها و معنى ذلك أنّ العقل
__________________________________________________
(1) «الف»: و المعنى.
306
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء السابع و الأربعين ص 269
..........
يعرف أنّ العدالة حسنة، و الظلم قبيح و الفهم يميّز و يدبر كلّ واحد من الفعل هل هو عدل أو ظلم «1».
و المراد بكيفيّته تعالى: ما ينبغي له من الصفات اللائقة به المخصوصة به التي لا يعلم حقيقتها غيره تعالى، و إطلاق لفظ الكيفيّة عليها على سبيل التوسّع و التجوّز لتعاليه جلّ شأنه عمّا يتبادر إلى الأذهان من إطلاق هذا اللفظ و غيره من الألفاظ المشتركة، مثل الذات و الموجود و العالم و القادر و السميع و البصير، فيجب حملها عند إطلاقها عليه على المعنى الذي يليق بشأنه، و اعتقاد أنّ ذاته و وجوده و علمه و قدرته و سمعه و بصره ليست كذواتنا و وجودنا و علمنا و قدرتنا و سمعنا و بصرنا، و أنّ المراد منها في شأنه ما هو أعلى و أشرف ممّا يصل إلى عقولنا، و أنّ الاشتراك ليس إلا بمجرّد اللفظ فقط من غير اشتراك في المعنى بوجه من الوجوه، فاستعمالها «2» في حقّه تعالى كاستعمال الألفاظ في مجازاتها.
هذا و إطلاق الكيفيّة عليه سبحانه بهذا المعنى وقع في حديث رواه ثقة الإسلام في الكافي في باب إطلاق القول بأنّه شيء عن أبي عبد اللّه عليه السلام حيث قال:
و لكن لا بدّ من إثبات انّ له كيفيّة لا يستحقّها غيره و لا يشاركه فيها و لا يحاط بها و لا يعلمها غيره «3» انته.
فقوله عليه السلام: «لا يستحقّها غيره» إلى آخره احتراز عن توهّم أنّ المراد بالكيفيّة المعنى المعروف لغة و عرفا و هي الهيئة «4» الحاصلة للشيء باعتبار اتّصافه بالصفات التابعة للحدوث الموجبة لتغيّر موصوفاتها و تأثر موضوعاتها «5»، فإنّ هذا المعنى محال في شأن الواجب بالذات جلّ جلاله، و قد وقع التصريح بنفيها عنه تعالى في
__________________________________________________
(1) الذريعة إلى مكارم الشريعة: ص 85.
(2) «الف»: فاستعمالنا.
(3) الكافي: ج 1 ص 85 ح 6.
(4) «الف»: الكيفيّة.
(5) «الف»: موصوفاتها.
307
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء السابع و الأربعين ص 269
..........
غير موضع من كلامهم عليهم السّلام.
فمنه قول أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه من خطبة له: لا تقع الأوهام له على صفة، و لا تعقد القلوب منه على كيفيّة «1».
و قوله عليه السلام: «ما وحّده من كيّفه» «2» أي وصفه بكيفيّة.
و قول الباقر عليه السلام: ليس لكونه كيف، و لا له أين كان أوّلا بلا كيف و يكون آخرا بلا أين «3».
و عن أبي عبد اللّه عليه السلام: كيف أصف ربي بالكيف، و الكيف مخلوق، و اللّه لا يوصف بخلقه «4»، و هو في أخبارهم عليهم السلام كثير جدّا.
قال بعض علمائنا: قول أمير المؤمنين عليه السلام: «ما وحّده من كيّفه» دلّ بالمطابقة على سلب التوحيد له عمّن وصفه بالكيفيّة و بالالتزام على أنّه لا يجوز تكيّفه «5» لمنافاة ذلك للتوحيد. و بيانه: أنّهم رسموا الكيفيّة بأنها: هيئة قارّة في المحلّ لا يوجب اعتبار وجودها فيه نسبة «6» إلى أمر خارج عنه و لا قسمة في ذاته و لا نسبة واقعة في أجزائه «7».
فتبيّن أنّ وصفه بها يستلزم تثنيته إذ هي صفة زائدة على الذات، و هو تعالى ليس له صفة تزيد على ذاته فينافي إثباتها له توحيده تعالى.
هذا و لك حمل الكيفيّة في عبارة الدّعاء على هذا المعنى الذي رسموا الكيفيّة به، فيكون نفيها عنه تعالى من باب نفي الشيء بلازمه، لأنّ معنى عجز الأفهام عن كيفيّة نفي إدراكها لكيفيّته و نفي إدراكها لكيفيّته لنفي كيفيّته، إذ لا كيفيّة له تعالى بهذا المعنى.
__________________________________________________
(1) نهج البلاغة: ص 115، الخطب 85.
(2) نهج البلاغة: ص 273، الخطب 186.
(3) الكافي: ج 1 ص 89 ح 3.
(4) الكافي: ج 1 ص 94 ح 9.
(5) «الف»: تكييفه.
(6) «الف»: نسبته.
(7) شرح نهج البلاغة: ج 4 ص 151.
308
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين6
شرح الدعاء السابع و الأربعين ص 269
أنت الّذي لا تحدّ فتكون محدودا، و لم تمثّل فتكون موجودا، و لم تلد فتكون مولودا.
و الحاصل: أنّه لا كيفيّة فلا إدراك كقول الشاعر:
على لا حب لا يهتدى بمناره
نفى الاهتداء لنفي المنار أي لا منار فلا اهتداء و يسمّى هذا القسم من النفي نفي الشيء بإيجابه أيضا، و قد تقدّم له نظائر.
قوله عليه السلام: «و لم تدرك الأبصار موضع أينيتك» الأينيّة حالة تعرض للشيء بسبب حصوله في المكان، سمّيت بذلك لأنّ أين اسم موضع للاستفهام به عن المكان، و إنّما لم تدرك الأبصار موضع أينيّته تعالى لأنّه لا أينيّة له لتنزّهه عن الجسميّة و لواحقها، و الحصول في المكان تابع للجسمية، فالأينيّة محال عليه سبحانه.
و قيل: يحتمل أن يراد بأينيّته تعالى أينيته غير الأين اللازم للمحدث أو الملزوم له، بل معنى يليق بشأنه على نحو ما قيل في الكيفيّة، و الأولى أنّ هذه الفقرة من باب نفي الشيء بلازمه لا غير.
[ 1346] حدّ الشيء لغة: منتهاه كحدّ الدار و نحوها، و عرفا: ما يشرح حقيقة ذات الشيء، و يدلّ على ماهيّته، و هو سبحانه منزّه