رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
الروضة الثانية و الثلاثون ص 3
الجزء الخامس
الروضة الثانية و الثلاثون
3
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
و كان من دعائه عليه السلام بعد الفراغ من صلوة الليل لنفسه في الاعتراف بالذنب ص 5
[] و كان من دعائه عليه السّلام بعد الفراغ من صلوة الليل لنفسه في الاعتراف بالذّنب
اللّهمّ يا ذا الملك المتابّد بالخلود و السّلطان الممتنع بغير جنود و لا اعوان و العزّ الباقي على مرّ الدّهور و خوالى الأعوام و مواضى الأزمان و الأيّام عزّ سلطانك عزّا لا حدّ له باوّليّة و لا منته له بآخريّة و استعلى ملكك علوّا سقطت الأشياء دون بلوغ امده و لا يبلغ ادنى ما استأثرت به من ذلك اقصى نعت النّاعتين ضلّت فيك الصّفات و تفسّخت دونك النّعوت و حارت في كبريائك لطائف الأوهام كذلك أنت اللّه الأوّل في اوّليّتك و على ذلك أنت دائم لا تزول و انا العبد الضّعيف عملا الجسيم املا خرجت من يدي أسباب الوصلات الّا ما وصله رحمتك و تقطّعت عنّى عصم الامال إلّا ما انا معتصم به من عفوك قلّ عندي ما اعتدّ به من طاعتك و كثر علىّ ما أبوء به من معصيتك و لن يضيق عليك عفو عن عبدك و ان اساء فاعف عنّى اللّهمّ و قد أشرف على خفايا الأعمال علمك و انكشف كلّ مستوردون خبرك و لا تنطوى عنك دقائق الأمور و لا تعزب عنك غيّبات السّرائر و قد استحوذ علىّ عدوّك الّذى استنظرك
5
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
و كان من دعائه عليه السلام بعد الفراغ من صلوة الليل لنفسه في الاعتراف بالذنب ص 5
لغوايتى فانظرته و استمهلك إلى يوم الدّين لإضلالى فامهلته فاوقعنى و قد هربت إليك من صغائر ذنوب موبقة و كبائر اعمال مردية حتّى اذا قارفت معصيتك و استوجبت بسوء سعيى سخطتك فتل عنّى عذار غدره و تلقّانى بكلمة كفره و تولّى البراءة منّى و ادبر مولّيا عنّى فاصحرنى لغضبك فريدا و اخرجنى إلى فناء نقمتك طريدا لا شفيع يشفع لي إليك و لا خفير يؤمننى عليك و لا حصن يحجبنى عنك و لا ملاذ ألجأ إليه منك فهذا مقام العائذ بك و محلّ المعترف لك فلا يضيقنّ عنّى فضلك و لا يقصرنّ دوني عفوك و لا اكن اخيب عبادك التّائبين و لا اقنط وفودك الآملين و اغفر لي انّك خير الغافرين اللّهمّ إنّك امرتنى فتركت و نهيتنى فركبت و سوّل لي الخطاء خاطر السّوء فقرطت و لا استشهد على صيامى نهارا و لا استجير بتهجدى ليلا و لا تثنى علىّ باحيائها سنّة حاشا فروضك الّتى من ضيّعها هلك و لست اتوسّل إليك بفضل نافلة مع كثير ما اغفلت من وظائف فروضك و تعدّيت عن مقامات حدودك إلى حرمات انتهكتها و كبائر ذنوب اجترحتها كانت عافيتك لي من فضائحها سترا و هذا مقام
6
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
و كان من دعائه عليه السلام بعد الفراغ من صلوة الليل لنفسه في الاعتراف بالذنب ص 5
من استحيا لنفسه منك و سخط عليها و رضى عنك فتلقّاك بنفس خاشعة و رقبة خاضعة و ظهر مثقل من الخطايا واقفا بين الرّغبة اليك و الرّهبة منك و أنت أولى من رجاه و أحقّ من خشيه و اتّقاه فاعطنى يا ربّ ما رجوت و امنّى ما حذرت و عد علىّ بعائدة رحمتك انّك أكرم المسئولين اللّهمّ و إذ سترتنى بعفوك و تغمّدتنى بفضلك في دار الفناء بحضرة الأكفاء فاجرنى من فضيحات دار البقاء عند مواقف الأشهاد من الملائكة المقرّبين و الرّسل المكرّمين و الشّهداء و الصّالحين من جار كنت اكاتمه سيّئاتى و من ذي رحم كنت احتشم منه في سريراتى لم اثق بهم ربّ في السّتر علىّ و وثقت بك ربّ في المغفرة لي و أنت أولى من وثق به و أعطى من رغب إليه و ارئف من استرحم فارحمنى اللّهمّ و أنت حدرتنى ماء مهينا من صلب متضائق العظام حرج المسالك إلى رحم ضيّقة سترتها بالحجب تصرّفنى حالا عن حال حتّى انتهيت بي إلى تمام الصّورة و اثبتّ فيّ الجوارح كما نعتّ في كتابك نطفة ثمّ علقة ثمّ مضغة ثمّ عظاما ثمّ كسوت العظام لحما ثمّ انشاتنى خلقا اخر كما شئت حتّى إذا احتجت
7
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
و كان من دعائه عليه السلام بعد الفراغ من صلوة الليل لنفسه في الاعتراف بالذنب ص 5
الى رزقك و لم استغن عن غياث فضلك جعلت لي قوتا من فضل طعام و شراب أجريته لأمتك الّتى اسكنتنى جوفها و اودعتنى قرار رحمها و لو تكلنى يا ربّ في تلك الحالات إلى حولى او تضطرّنى إلى قوّتى لكان الحول عنّى معتزلا و لكانت القوّة منّى بعيدة فغذوتنى بفضلك غذاء البرّ اللّطيف تفعل ذلك بي تطوّلا علىّ إلى غايتى هذه لا اعدم برّك و لا يبطئ بي حسن صنيعك و لا تتأكّد مع ذلك ثقتى فاتفرّغ لما هو احظى لي عندك قد ملك الشّيطان عنانى في سوء الظّن و ضعف اليقين فانا اشكو سوء مجاورته لي و طاعة نفسي له و استعصمك من ملكته و أتضرّع إليك في ان تسهّل إلى رزقي سبيلا فلك الحمد على ابتدائك بالنّعم الجسام و الهامك الشّكر على الإحسان و الانعام فصلّ على محمّد و آله و سهّل علىّ رزقي و ان تقنّعنى بتقديرك لي و ان ترضينى بحصّتى فيما قسمت لي و ان تجعل ما ذهب من جسمى و عمري فى سبيل طاعتك انّك خير الرّازقين اللّهمّ انّى أعوذ بك من نار تغلّظت بها على من عصاك و توعّدت بها من صدف عن رضاك و من نار نورها ظلمة و هيّنها اليم و بعيدها قريب و من نار يأكل
8
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
و كان من دعائه عليه السلام بعد الفراغ من صلوة الليل لنفسه في الاعتراف بالذنب ص 5
بعضها بعض و يصول بعضها على بعض و من نار تذر العظام رميما و تسقى أهلها حميما و من نار لا تبقى على من تضرّع إليها و لا ترحم من استعطفها و لا تقدر على التّخفيف عمّن خشع لها و استسلم إليها تلقى سكّانها باحرّ ما لديها من اليم النّكال و شديد الوبال و أعوذ بك من عقاربها الفاغرة افواهها و حيّاتها الصّالقة بانيابها و شرابها الّذى يقطّع امعاء و افئدة سكّانها و ينزع قلوبهم و استهديك لما باعد منها و اخّر عنها اللّهمّ صلّ على محمّد و آله و أجرنى منها بفضل رحمتك و اقلنى عثراتى بحسن اقالتك و لا تخذلنى يا خير المجيرين انّك تقى الكريهة و تعطى الحسنة و تفعل ما تريد و أنت على كلّ شيء قدير اللّهمّ صلّ على محمّد و آله إذا ذكر الأبرار و صلّ على محمّد و آله ما اختلف اللّيل و النّهار صلوة لا ينقطع مددها و لا يحصى عددها صلوة تشحن الهواء و تملأ الأرض و السّماء صلّى اللّه عليه حتّى يرضى و صلّى اللّه عليه و آله بعد الرّضا صلوة لا حدّ لها و لا منته يا ارحم الرّاحمين.
9
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
مقدمة الشارح ص 10
[مقدمة الشارح]
(بسم الله الرّحمن الرحيم و به نستعين «1») الحمد للّه غافر الذّنب لمن اعترف له بذنبه، قابل التوب ممّن تاب إليه قبل الحسرة على التفريط في جنبه، و الصلاة و السّلام على نبيّه الّذي أرسله رحمة للعالمين، كرما منه وجودا، المنزّل عليه «و من اللّيل فتهجّد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا» «2»، و على آله الذين جعلهم «بصائر للنّاس و هدى و رحمة لقوم يوقنون» «3»، و الذين «كانوا قليلا من اللّيل ما يهجعون و بالأسحار هم يستغفرون» «4».
و بعد: فهذه الروضة الثّانية و الثلاثون من رياض السالكين، تتضمّن شرح الدعاء الثاني و الثلاثين، من صحيفة سيّد العابدين، صلّى اللّه عليه و على آبائه و أبنائه الطاهرين، إملاء راجي فضل ربّه السنيّ، عليّ بن أحمد الحسينيّ الحسنيّ، كان اللّه تعالى لهما وليّا، و جعل لهما لسان صدق عليّا.
__________________________________________________
(1) «ألف» و به ثقتي.
(2) سورة الاسراء: الآية 79.
(3) سورة الجاثية: الآية 20.
(4) سورة الذاريات: الآيات 17 و 18.
10
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثاني و الثلاثين ص 11
شرح الدعاء الثاني و الثلاثين
و كان من دعائه عليه السّلام- بعد الفراغ من صلاة الليل- لنفسه في الاعتراف بذنبه.
صلاة الليل: تطلق في الأحاديث تارة على الركعات الثماني، و أخرى على الإحدى عشرة بإضافة الشفع و الوتر، و أخرى على الثلاث عشرة بإضافة ركعتي الفجر. و على هذا فيحتمل قراءة الدعاء بعد الثماني، و بعد الإحدى عشرة، و بعد الثلاث عشرة. فلو نذر قراءته، أو قراءة غيره بعد صلاة الليل، برئت ذمّته بعد كلّ منها ما لم يقصد معيّنا.
و قد أورده شيخنا البهائيّ- رحمه اللّه- بعد ركعتي الفجر في المفتاح، تبعا لشيخ الطائفة في المصباح «1»، فقال: و ينبغي أن تدعو بعد فراغك من صلاة الليل، أعني الثلاث عشرة ركعة، بما كان يدعو به سيّد العابدين عليه السّلام، و هو من أدعية الصحيفة، و أورد الدعاء «2».
و ذكره الكفعميّ بعد صلاة الوتر «3»
__________________________________________________
(1) مصباح المتهجّد: ص 165.
(2) مفتاح الفلاح: ص 269.
(3) مصباح الكفعميّ: ص 55.
11
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثاني و الثلاثين ص 11
قال صلوات اللّه و سلامه عليه:
اللّهمّ يا ذا الملك المتأبّد بالخلود و السّلطان، الممتنع بلا جنود و لا أعوان، و العزّ الباقي على مرّ الدّهور و خوالي الأعوام، و مواضي الأزمان و الأيّام.
و قد أجمع علماؤنا- رضوان اللّه- عليهم على أنّ اوّل وقت صلاة الليل انتصاف الليل، و أنّها كلّما قربت من الفجر الثاني كانت أفضل. فإن طلع الفجر، و قد تلبّس بأربع منها أتمّها مخفّفة بالحمد أداء. و المشهور تجويز تقديمها على الانتصاف لذي العذر، و قضاؤها أفضل من تقديمها.
و اعترف بذنبه اعترافا: أقرّ به، و قد تقدّم الكلام على توجيه اعتراف المعصومين عليهم السّلام بالذنوب مستوفى، فليرجع إليه.
[ 920] «الميم»: في «اللّهمّ» عوض من «يا» و لذلك لا يجتمعان إلّا شاذّا، قياسا و استعمالا، كأنّهم لما أرادوا أن يكون نداؤه تعالى متميّزا عن نداء عباده بأسمائهم حذفوا حرف النداء، و عوّضوا منه الميم، و شدّدت لأنّها عوض من حرفين، و قد مرّ الكلام عليها مستوفى.
«و ذا الملك»: صاحبه. لكن ذو تقتضي تعظيم ما أضيفت إليه و الموصوف بها، بخلاف صاحب فيهما.
قال الخليل رحمة اللّه: وزن ذو «فعل» بالسكون «1».
و الصحيح: أنّ وزنه «فعل» بفتح الفاء و العين، بدليل مؤنّثه و هو ذات، و أصلها ذوات، كنواة لقولهم في مثنّاها ذواتا، فحذفت العين في ذات لكثرة الاستعمال، و لو كانت ساكنة العين لكانت «ذيه» كطيه. و اللام محذوفة في جميع متصرفات «ذو» إلّا في ذوات و ذواتا، و لامه ياء «2»، لأنّ عينه واو، بدليل ذواتا
__________________________________________________
(1) شرح الكافية في النحو: ج 1 ص 298.
(2) «ألف» تا.
12
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثاني و الثلاثين ص 11
..........
و ذوات، و باب طويت أكثر من باب القوّة، و الحمل على الأغلب أولى.
و الملك:- بالضمّ- يطلق على الولاية العامّة على الخلق- و يعبّر عنه بالسلطنة- و على المملكة. و مملكته تعالى عبارة عن الموجودات كلّها، و هو صاحبها و مالكها.
قال الغزاليّ: الموجودات كلّها مملكة واحدة له تعالى، و هو صاحبها و مالكها.
و إنّما كانت الموجودات كلّها مملكة واحدة، لأنّها مرتبطة بعضها ببعض، فإنّها و إنّ كانت كثيرة من وجه فلها وحدة. و مثالها بدن الإنسان، فإنّه مملكة لحقيقة الإنسان، و هي أعضاء كثيرة مختلفة، و لكنّها كالمتعاونة على تحقيق غرض مدبّر واحد. فكذلك العالم كلّه كشخص واحد، و أجزاء العالم كأعضائه، و هي متعاونة على مقصود واحد، و هو إتمام غاية الخير الممكن وجوده على ما اقتضاه الجود الإلهي، و لأجل انتظامها على ترتيب منسّق، و ارتباطها رابطة واحدة كانت مملكة واحدة، و اللّه تعالى صاحبها و مالكها «1». انته.
و المتأبّد: اسم فاعل من تأبّد الشيء تأبّدا: بقي على الأبد، و هو استمرار الوجود في أزمنة مقدّرة، غير متناهية في المستقبل. و في رواية «المتأبد»- بفتح الباء- كأنّه اسم مفعول من تأبّده تأبّدا، بمعنى أبّده تأبيدا.
قال الفارابيّ: من وجوه باب تفعّل ما يكون داخلا على التفعيل، كالتقسّم بمعنى التقسيم، و التقطع بمعنى التقطيع، قال اللّه تعالى «فتقطّعوا أمرهم بينهم» «2».
و في الصحاح: تقسّمهم الدّهر فتقسّموا: أي فرّقهم فتفرّقوا، و التقسيم التفريق «3». انته.
و ما وقع في بعض الحواشي من أنّه بالفتح، اسم مكان، أي موضع الأبد و الأبديّة، و موضوع الدوام و السرمديّة، فلا يخفى ما فيه.
و الخلود: دوام البقاء. يقال: خلد الشيء خلودا- من باب قعد-.
__________________________________________________
(1) لا يوجد لدينا كتابه.
(2) ديوان الأدب: ج 2: ص 466.
(3) الصحاح: ج 5 ص 2011.
13
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثاني و الثلاثين ص 11
..........
قال الزمخشريّ: الخلد: الثبات الدائم، و البقاء اللازم الذي لا ينقطع. قال اللّه تعالى: وَ ما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ، أَ فَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ «1» انته.
و هذا المعنى هو المراد هنا. و قيل: هو في الأصل الثبات المديد دام أو لم يدم، و قد تقدّم الكلام على ذلك مستوفى.
و الباء للملابسة، أي ملتبسا بالخلود، و تسمّى باء الحال، فتكون ظرفا مستقرا، و يحتمل أن تكون متعلّقة بالمتأبّد، فتكون ظرفا لغوا.
قال صاحب اللباب: لا مانع عندي من جعل الباء لغوا في نحو: اشتريت الفرس بسرجه، فتعلّق الباء فيه ب «اشتريت»، كما في كتبت بالقلم، فإنّ وجوه التعلّق مختلفة «2». انته.
فإن قلت: ما المراد بالملك المتأبّد بالخلود؟ أمعنى السلطنة أم معنى المملكة؟
قلت: كلّ من المعنيين محتمل. فإن حملناه على معنى السلطنة، فوجه اتّصافها بالخلود أنّ سلطنته تعالى بعلمه و قدرته على الممكنات عند أصحاب العصمة عليهم السّلام سواء أوجد الممكنات أم لا، فهي لم تزل و لا تزال. و إن حملناه على معنى المملكة، فخلودها باعتبار أنّه تعالى لمّا لم يكن زمانا و لا زمانيّا، و لا مكانا و لا مكانيا، و لا امتداد فيه، كانت نسبته إلى ملكه- و هو الموجودات العينيّة قبل إنشائها، و حال إنشائها، و بعد فنائها- نسبة واحدة، لا تقدّم و لا تأخّر فيها، بل كلّها حاضرة عنده، لا باعتبار أنّها كانت في الأزل، أو تكون معه فيما لا يزال، لبطلان ذلك، بل باعتبار أنّه لا يجري فيه زمان و أحكامه، و أنّ نسبته إلى الأزل و الأبد و الوسط واحدة. فالعقل الصحيح إذا تجرّد عن شبهات الأوهام، و لواحق الزمان، و لاحظ أنّه لا امتداد في قدس وجود الحق يحكم حكما جازما بأنه تعالى لا يخلو من الملك قبل إنشائه و بعد فنائه. هكذا قرّره بعض المحقّقين من أصحابنا المتأخرين، في
__________________________________________________
(1) تفسير الكشّاف: ج 1 ص 110.
(2) لا يوجد لدينا كتابه.
14
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثاني و الثلاثين ص 11
..........
بيان قول أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه في خطبته الطالوتيّة «و لا كان خلوا عن الملك قبل إنشائه، و لا يكون خلوا منه بعد ذهابه» «1».
و لبعض أرباب العرفان من أصحابنا تقرير آخر في بيان ذلك، فإنّه قال: بيان ذلك و تحقيقه: أنّ المخلوقات- و إن لم تكن موجودة في الأزل لأنفسها، و بقياس بعضها إلى بعض على أن يكون الأزل ظرفا لوجوداتها كذلك، إلّا أنّها- موجودة في الأزل للّه سبحانه، وجودا جميعا وحدانيّا غير متغيّر، بمعنى أنّ وجوداتها اللايزاليّة الحادثة ثابتة للّه سبحانه في الأزل كذلك. و هذا كما أنّ الموجودات الذهنيّة موجودة في الخارج إذا قيّدت بقيامها بالذهن، و إذا أطلقت من هذا القيد فلا وجود لها إلّا في الذهن. فالأزل يسع القديم و الحادث، و الأزمنة، و ما فيها و ما خرج عنها، و ليس الأزل كالزمان و أجزائه محصورا مضيّقا، يغيب بعضه عن بعض، و يتقدّم جزء و يتأخّر آخر، فإنّ الحصر و الضيق و الغيبة من خواص الزمان و المكان، و ما يتعلّق بهما.
و الأزل: عبارة عن اللازمان السابق على الزمان سبقا غير زماني، و ليس بين اللّه سبحانه و بين العالم بعد مقدّر، لأنّه إن كان موجودا يكون من العالم، و إلّا لم يكن شيئا. و لا ينسب أحدهما إلى الآخر من حيث الزمان بقبليّة و لا بعديّة و لا معيّة، لانتفاء الزمان عن الحق، و عن ابتداء العالم. فسقط السؤال بمتى عن العالم، كما هو ساقط عن وجود الحق، لأنّ متى سؤال عن الزمان، و لا زمان قبل العالم. فليس إلّا وجود بحت خالص ليس من العدم- و هو وجود الحق- و وجود من العدم،- و هو وجود العالم-، فالعالم حادث في غير زمان.
و إنّما يتعسّر فهم ذلك على الأكثرين، لتوهّمهم الأزل جزءا من الزمان بتقدّم سائر الأجزاء، و إن لم يسمّوه بالزمان، فإنّهم أثبتوا له معناه، و توهّموا أنّ اللّه سبحانه
__________________________________________________
(1) الكافي: ج 8 ص 31 ح 5.
15
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثاني و الثلاثين ص 11
..........
فيه، و لا موجود فيه سواه، ثمّ أخذ يوجد الأشياء شيئا فشيئا في أجزاء اخر منه.
و هذا توهّم باطل، و أمر محال، فإنّ اللّه عزّ و جلّ ليس في زمان، و لا في مكان، بل هو محيط بهما، و بما فيهما، و ما معهما، و ما تقدّمهما. قال: و تحقيق المقام يقتضي بسطا من الكلام لا تسعه العقول المشوبة بالأوهام، و نحن نشير إلى لمعة منه لمن كان من أهله، فنقول:
ليعلم أنّ نسبة ذاته سبحانه إلى مخلوقاته تمتنع أن تختلف بالمعيّة و اللامعيّة، و إلّا فتكون بالفعل مع بعض، و بالقوّة مع آخرين، فتتركّب ذاته سبحانه من جهتي فعل و قوّة، و تتغيّر صفاته حسب تغيّر المتجدّدات المتعاقبات، تعالى عن ذلك. بل نسبة ذاته التي هي فعليّة صرفة، و غناء محض من حيث الوجوه إلى الجميع- و إن كان من الحوادث الزمانيّة- نسبة واحدة، و معيّة قيّوميّة ثابتة، غير زمانيّة، و لا متغيّرة أصلا، و الكلّ بغنائه بقدر استعداداتها مستغنيات، كلّ في وقته و محلّه، و على حسب طاقته، و إنّما فقرها و فقدها و نقصها بالقياس إلى ذواتها، و قوابل ذواتها، و ليس هناك إمكان و قوّة البتّة. فالمكان و المكانيّات بأسرها بالنسبة إلى اللّه سبحانه كنقطة واحدة في معيّة الوجود «و السّموات مطويّات بيمينه» «1»، و الزمان و الزمانيّات بآزالها و آبادها كآن واحد عنده في ذلك، جفّ القلم بما هو كائن، ما من نسمة كائنة إلّا هي كائنة، و الموجودات كلّها، شهادياتها و غيبياتها، كموجود واحد في الفيضان عنه، «ما خلقكم و لا بعثكم إلا كنفس واحد» «2» و إنّما التقدّم و التأخّر، و التجدّد و التصرّم، و الحضور و الغيبة، في هذه كلّها بقياس بعضها إلى بعض، و في مدارك المحبوسين في مطمورة الزمان، المسجونين في سجن المكان و لا غير، و إن كان هذا ممّا تستغربه الأوهام، و يشمئزّ منه قاصر الأفهام.
__________________________________________________
(1) سورة الزمر: الآية 67.
(2) سورة لقمان: الآية 28.
16
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثاني و الثلاثين ص 11
و أمّا قوله تعالى: «كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ» «1» فهو كما قاله بعض أهل العلم:
إنّها شئون يبديها، لا شئون يبتديها. و لعلّ من لم يفهم بعض هذه المعاني يضطرب فيصول، و يرجع فيقول: كيف يكون وجود الحادث في الأزل؟ أم كيف يكون المتغيّر في نفسه ثابتا عند ربّه؟ أم كيف يكون الأمر المتكثّر المتفرّق وحدانيّا جميعا؟ «2»، أم كيف يكون الأمر الممتدّ- أعني الزمان- واقعا في غير الممتدّ- أعني اللازمان- مع التقابل الظاهر بين هذه الأمور؟
فلنمثّل له بمثال حبّسيّ يكسر سورة استبعاده، فإنّ مثل هذا المعترض لم يتجاوز بعد درجة الحس و المحسوس، فليأخذ شيئا ممتدّا كحبل أو خشب مختلف الأجزاء في اللون، ثمّ ليمرّره في محاذاة نملة أو نحوها ممّا تضيق حدقته عن الإحاطة بجميع ذلك الامتداد، فإنّ تلك الألوان المختلفة متعاقبة في الحضور لديها، تظهر لها شيئا فشيئا، واحدا بعد آخر، لضيق نظرها، و متساوية في الحضور لديه، يراها كلّها دفعة، لقوّة إحاطة نظره، و سعة حدقته «وَ فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ» «3». انته كلامه.
و وقع في بعض النسخ «المتأبّد» بالنصب على أنّه نعت للمضاف، قال بعضهم: و على هذا فينبغي أن يكون قوله: «الممتنع» بالنصب، و ليس بلازم، بل جرّه على أنّه صفة للسلطان المجرور بالعطف، على المملكة.
[ 921] و في القاموس: السلطان: قدرة الملك «4».
و الممتنع: القوي في نفسه. من امتنع إذا منع نفسه و حمى جانبه.
و الجنود: جمع جند، و هو العسكر و الأنصار.
و الأعوان: جمع عون- بالفتح- و هو الظهير و المعين على الأمر.
__________________________________________________
(1) سورة الرحمن: الآية 29.
(2) «ألف» جميعا.
(3) سورة يوسف: الآية 76.
(4) القاموس المحيط: ج 2 ص 365.
17
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثاني و الثلاثين ص 11
..........
و في محكم اللغة: الظهير الواحد و المثنّى و الجمع و المؤنث فيه سواء، و قد حكي في تكسيره: أعوان «1».
و في الأساس: هؤلاء عونك، و أعوانك، و هذه عونك «2».
«و لا» من قوله: «و لا أعوان» لدفع توهّم المعيّة، و يسمّونها زائدة.
قال ابن هشام: و ليست بزائدة البتّة، أ لا ترى أنّه إذا قيل: ما جاءني زيد و عمرو، احتمل أن يكون المراد نفي مجيء كلّ منهما على كلّ حال، و أن يراد نفي اجتماعهما في وقت المجيء. فإذا جيء ب «لا» صار الكلام نصّا في المعنى الأوّل «3».
و وصف سلطانه تعالى بالامتناع بلا جنود و لا أعوان، تنزيه له عن الاستعانة بالغير، إذ كان ذلك من لوازم الضعف و العجز و النقصان. و إنّما يحتاج إلى الجنود و الأعوان ذو العجز و النقصان، في ملكه الذي لا يستطيع أن يمتنع بنفسه، دون الاستعانة بغيره. و هو سبحانه المنزّه عن الضعف و العجز، و الغنيّ المطلق في كلّ شيء، عن كلّ شيء، و الغرض تنزيهه تعالى عن صفات المخلوقين، و خواصّ المحدثين.
[ 922] و العزّ: خلاف الذلّ و الغلبة و الرفعة و الامتناع. و رجل عزيز: منيع لا يغلب و لا يقهر.
و بقي الشيء- من باب رضي- بقاء- بالمدّ-: فهو باق لم ينفد، و لم يغن.
و «على» بمعنى مع نحو: «و إنّ ربّك لذو مغفرة للنّاس على ظلمهم» أي: مع ظلمهم.
و مرّ يمرّ مرورا: ذهب أي الباقي مع ذهاب الدهور و انقضائها، و هي جمع دهر،
__________________________________________________
(1) محكم اللغة: ج 2 ص 264 و فيه: [الظهر].
(2) أساس البلاغة: ص 440.
(3) مغني اللبيب: ص 322.
18
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثاني و الثلاثين ص 11
..........
بمعنى الزمان الطويل. و جمعه باعتبار أجزائه التي كلّ واحد منها زمان.
قال الفارسيّ: الدهر: زمان من ليل و نهار، و ليس بينهما فرق، إلّا أنّ في الدهر أزمنة كثيرة.
و قال ابن السيّد: الدهر مدّة الأشياء الساكنة، و الزمن مدّة الأشياء المتحركة «1».
و يقال: الزمن مدّة الأشياء المحسوسة، و الدهر مدّة الأشياء المعقولة.
و خوالي الأعوام: مواضيها، جمع خالية، من خلى بمعنى مضى. و منه قوله تعالى:
«بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ» «2»، و إضافتها إلى الأعوام من إضافة الصفة إلى الموصوف.
و الأعوام: السنون، جمع عام. و فرّق بعضهم بين العام و السنة، و قد تقدّم ذكره.
و الأزمان: جمع زمن، كسبب و أسباب، و هو اسم لقليل الوقت و كثيرة، كالزمان.
و قال الحكماء: هو مقدار حركة الفلك الأعظم. و هو ينقسم إلى الأعوام و الشهور و الأسابيع و الأيّام و الساعات و الدقائق.
و الأيّام: جمع يوم، أصله: أيوام، كعون و أعوان، قلبت الواو ياء، و أدغمت فيها الياء. و هو جزء من الزمان، أوّله طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس.
و بقاء عزّه تعالى: عبارة عن بقاء قدرته و غلبته على الممكنات، و ذلك عين ذاته سبحانه، فاستحال أن يسبقه عدم، أو يلحقه انقطاع، بل هو باق أزلا و أبدا، و إن مرّت الدهور و الأعوام، و مضت الأزمان و الأيّام، إذ لا غاية له من الزّمان ينتهي إليها و لا مدّة مضروبة منه يقف عليها، كما يكون للزمانيّات من زمانها، لأنّ الدهور
__________________________________________________
(1) لا يوجد لدينا كتابه.
(2) سورة الحاقّة: الآية 24.
19
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثاني و الثلاثين ص 11
..........
و الأزمان، و الأعوام و الأيّام من جملة مخلوقاته. و وجوده تعالى و إن كان مساوقا لوجود الزمان، بمعنى أنّه معه في الوجود، إذ كان تعالى هو موجده و خالقه، إلّا أن مساوقة الزمان لا تقتضي الكون في الزّمان كالعالم فإنّه مع الخردلة، و ليس في الخردلة، و إذا كان تعالى ليس في الزمان، لم تكن له غاية منه يقف عندها، فثبت أنّه تعالى باق دائم على مرّ الدهور و الأزمان.
و لمّا كان البقاء لغة أعمّ من الدوام، الذي هو استمرار الوجود بلا انقطاع، قيّد عليه السّلام الباقي بقوله: «على مرّ الدهور» الى آخره نصّا على أنّ المراد بالباقي في صفته تعالى هو بمعنى الدائم، و لذلك قال بعضهم: وصفه تعالى بالباقي معناه أنّه الذي لا ينتهي تقدير وجوده في الاستقبال إلى آخر. انته.
و تضمّن مع ذلك الإشارة إلى تنزيهه تعالى عمّا يلحق الزمانيّات من التغيّر و البلى، كما قال جدّه سيّد الأوصياء عليه السّلام: لا تبليه الليالي و الأيّام، و لا يغيّره الضياء و الظلام «1»، و ذلك لأنّه تعالى ليس بزمانيّ يدخل تحت تصريف «2» الزمان حتى يبليه أو يغيّره، بخلاف غيره من الممكنات الزمانيّة، الّتي مرّ الدهور و الأزمان من الأسباب المعدّة لتغيّرها و بلاها، كما قال الشاعر:
إنّ الجديدين إذا ما استوليا على جديد أدنياه للبلى «3»
و قال الآخر:
أفنى الشباب الذي أبليت جدّته كرّ الجديدين من آت و منطلق «4»
و قال الآخر:
__________________________________________________
(1) نهج البلاغة: ص 274 ص الخطب 186.
(2) «ألف» تصرّف.
(3) «ألف» اوتياه.
(4) لم نعثر عليه.
20
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثاني و الثلاثين ص 11
عزّ سلطانك عزّا لا حدّ له بأوّليّة، و لا منته له بآخريّة، و استعلى
من عاش أخلقت الأيّام جدّته و خانه ثقتاه السّمع و البصر «1»
و نسبة ذلك إلى الزمان، و إسناده إليه إنّما هو جري على ما في أوهام العرب، و إن كان الفاعل هو اللّه تعالى و إنّما للزمان الإعداد.
و قد ينسبون ذلك إلى الشمس، كما قال:
منع البقاء تقلّب الشّمس و طلوعها من حيث لا تمسي «2»
و قد ينسب إلى القمرين كما وقع في خطبة لأمير المؤمنين عليه السّلام «و الشمس و القمر دائبان، يبليان كلّ جديد، و يقرّبان كلّ بعيد» «3».
و ذلك لكون حركاتهما من الأسباب المعدّة لحدوث الحوادث في هذا العالم و تغيّراته، و اللّه أعلم.
(تبصرة) قال جدّنا العلامة أستاذ البشر السيّد غياث الدين منصور- قدّس اللّه سرّه- في تذكرته: الواجب بالذات ممتنع العدم دائما، لأنّه واجب الوجود دائما. و كلّ واجب الوجود دائما ممتنع العدم دائما، لأنّ كلّ ما كان واجب الوجود لذاته في وقت فهو واجب الوجود في جميع الأوقات أزلا و أبدا ما دام الذات، لأن الواجب بالذات ما يكون مجرّد ذاته كافيا في كونه واجب الوجود، و كلّ ما كان مجرّد ذاته كافيا في كونه واجبا وجب وجوده في كلّ وقت، إذ لو وجد في وقت دون وقت آخر لزم الترجيح بلا مرجّح، أو الوقوع بسبب. انته.
[ 923] العزّ: الرفعة و الغلبة و الامتناع.
__________________________________________________
(1) لم نعثر عليه.
(2) شرح شذور الذهب: ص 98، الشاهد: 41.
(3) نهج البلاغة: ص 123، الخطب 90.
21
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثاني و الثلاثين ص 11
ملكك علوّا سقطت الأشياء دون بلوغ أمده، و لا يبلغ أدنى ما استأثرت به من ذلك أقصى نعت النّاعتين.
و الحدّ: مصدر حدّ الشيء حدّا، إذا ميّزه بغاية ينتهي إليها.
و المراد بالأوّليّة و الآخريّة: الابتداء و الانتهاء، فإنّ ياء النسبة إذا لحقت آخر الاسم، و بعدها تاء التأنيث أفادت معنى المصدر، نحو الانسانيّة.
الباء: للملابسة في الموضعين، أي: لا حدّ له ملتبسا بأوّليّة، و لا منته له ملتبسا بآخريّة.
و المعنى: أنّه لا أوّل له، هو مبدأه، و لا آخر له يقف عنده، و ينتهي إليه، بل هو دائم سرمديّ، لأنّه ممتنع العدم دائما كما عرفت. و كلّ ما امتنع عدمه كان سرمديّا ضرورة، أي لا أوّل له و لا آخر.
و عزّ سلطانه- جلّ شأنه- عبارة عن تمام قدرته الباهرة، و كمال غلبته القاهرة، و ذلك عين ذاته المقدّسة، و لذلك وصفه بالسرمديّة.
[ 924] و استعلى الشيء علا، أي ارتفع. فالاستفعال هنا بمعنى الفعل.
و علّوا: مصدر جار على غير الفعل، فهو نائب عن «استعلاء»، نحو: «و اللّه أنبتكم من الأرض نباتا» «1» و «تبتّل إليه تبتيلا» «2».
و استعلاء ملكه تعالى: عبارة عن عظمته، باعتبار كمال اقتداره، و تمام استيلائه على مخلوقاته.
و لمّا كانت ذاته المقدّسة هي مبدء كلّ موجود حسّيّ و عقليّ، و علّته التامّة المطلقة التي لا يتصوّر فيها نقصان بوجه، و كان أعلى مراتب الكمال العقليّ هو مرتبة العليّة كان المراد بعلوّه تعالى العلوّ العقليّ المطلق، بمعنى أنّه لا رتبة فوق رتبته.
فكانت مرتبة ملكه و اقتداره، الذي هو عين ذاته المقدّسة، أعلى المراتب العقليّة مطلقا، و لها الفوق المطلق في الوجود العاري عن الإضافة إلى شيء، و عن إمكان أن
__________________________________________________
(1) سورة نوح: الآية 17.
(2) سورة المزمّل: الآية 8.
22
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثاني و الثلاثين ص 11
..........
يكون في مرتبته أو فوقها شيء، و ذلك معنى استعلاء ملكه علوّا سقطت الأشياء دون بلوغ أمده، لتفرّده في العلوّ المطلق، و فواته لكلّ شيء غيره أن يلحقه فيه. فهو في أوج الكمال الأعلى و كلّ شيء سواه في حضيض النقصان الذاتيّ، بذلّ الحاجة و خضوع الافتقار.
و سقط الشيء سقوطا- من باب قعد-: وقع من أعلى إلى أسفل.
و «دون»: نقيض فوق، و هو تقصير عن الغاية. و قد سبق الكلام عليه مستوفىّ.
و الأمد: الغاية. و سقوط الأشياء دون بلوغ أمده، أي: قبل الوصول إلى غاية علوّ ملكه، عبارة عن عجزها و قصورها عن إدراك ما لقدرته من التمام و الكمال الذي لا نهاية له، حتى لو ارتفعت لتدرك منقطع علوّ قدرته لسقطت دونه، و وقعت قبل الوصول إليه. و هذا من باب نفي الشيء بنفي لازمه، أي: لا أمد له و لا منقطع، فلا بلوغ و لا إدراك، كقوله: «و لا ترى الضبّ بها ينجحر» «1» أي: لا ضبّ و لا انجحار. و قد مرّ نظير ذلك في الروضة الأولى، و بسطنا الكلام على بيانه هناك، فليرجع إليه.
[ 925] قوله عليه السّلام «و لا يبلغ أدنى ما استأثرت به من ذلك أقصى نعت الناعتين» أدنى: أفعل تفضيل من دنى يدنو دنوّا، بمعنى: قرب.
و استأثر بالشيء استبدّ به، و خصّ به نفسه.
و الأقصى: الأبعد.
و نعته نعتا- من باب نفع-: وصفه.
قال في محكم اللغة: نعته: وصفه، و رجل ناعت: واصف، من قوم نعّاة، قال:
أنعتها إنّي من نعّاتها. و النّعت: ما نعت به، و الجمع نعوت، لا يكسر على غير ذلك «2».
__________________________________________________
(1) شرح نهج البلاغة لابن ميثم: ج 1 ص 115.
(2) محكم اللغة: ج 2 ص 39.
23
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثاني و الثلاثين ص 11
..........
و في النهاية لابن الأثير: النعت وصف الشيء بما هو فيه من حسن. و لا يقال:
في القبيح إلّا أن يتكلّف متكلّف فيقول: نعت سوء، و الوصف يقال: في الحسن و القبيح «1». انته.
و الإشارة بذلك إلى عزّ سلطانه، و علوّ ملكه- جلّ شأنه- و ما فيه من معنى البعد، مع قرب العهد بالمشار إليه، للإيذان ببعده في مراتب العلوّ، و كونه في الغاية القصوى من العظمة و الجلال، تنزيلا لبعد درجته، و رفعة محلّه منزلة بعد المسافة.
و المعنى: أنّ غاية نعت جميع الناعتين- لأنّ الجمع المحلّى باللام يفيد الاستغراق- لا تدرك أدنى ما خصّ به نفسه تعالى من عزّ السلطان، و علوّ الملك، لأنّ الناعتين إن بالغوا في النعت، و انتهوا به إلى أقصى غاياته، لم ينعتوه بما هو نعته، و لم يصفوه بما هو حقّه، و لم ينالوا حقيقة وصفه على الوجه اللائق به، لأنّ لسان النعت و التعبير إنّما يخبر عمّا في الضمير، و كلّ ما هو في الضمير مخلوق مثله، كما دلّ عليه قول الباقر عليه السّلام «كلّ ما ميّزتموه بأوهامكم في أدّق معانيه مصنوع مثلكم، مردود اليكم» «2».
فإن قلت: قوله عليه السّلام «أدنى ما استأثرت به من ذلك» يقتضي أنّ عزّ سلطانه، و علوّ ملكه، ينقسم إلى أدنى و أعلى، فيلزم أن يتطرّق إليه الزيادة و النقصان، و لا شيء من كمال الواجب الأوّل سبحانه كذلك، لتنزّهه عن النقصان و التفاوت بوجه ما.
قلت: هو إمّا على حذف مضاف، أي أدنى نعت ما استأثرت به، و إمّا على أنّ الدنوّ و العلوّ و التفضيل فيهما إنّما هو بالإضافة إلى نظر الناظرين، و معقولهم بحسب متعلّقات القدرة و آثارها، و إلّا فعزّ السلطان، و علوّ الملك، اللذان هما عبارة عن تمام الاقتدار، و كمال القدرة لا تفاوت فيه رأسا، و على ذلك جرى قوله تعالى:
__________________________________________________
(1) النهاية لابن الأثير: ج 5 ص 79.
(2) شرح مسألة العلم: ص 43.
24
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثاني و الثلاثين ص 11
ضلّت فيك الصّفات، و تفسّخت دونك النّعوت، و حارت في «و هو الذي يبدؤا الخلق ثمّ يعيده و هو أهون عليه» «1»، أي بالإضافة إلى نظركم و قياسكم من أنّ الإعادة أهون من الإبداء، و إلّا فهما عليه سواء، لا تفاوت في قدرته القاهرة عليهما حتّى يقع التفضيل على حدّه. و مثله قوله تعالى: «لَخَلْقُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ» «2» أي بالإضافة إلى عقول البشر، و إذعانها بأنّها خلق عظيم، لا يقادر «3» قدره، و خلق الناس بالقياس إليه شيء قليل مهين، و إلّا فالخلقان عند قدرته عزّ و جلّ على حدّ سواء.
إذا عرفت ذلك، فالمراد ب «أدنى ما استأثرت به من ذلك» قدرته المتعلّقة بأدنى مقدوراته عند بديهة العقل، كالبعوضة مثلا، فإنّ في خلقها من العجائب و الغرائب و الإعجاز ما تقصر عن معرفة الطريق إليه أرباب الألباب، و تتحيّر في كيفيّته حكمة الحكماء، و تتناهى دون علم ذلك عقول العقلاء، و ترجع خاسئة حسيرة، معترفة بالعجز عن الاطلاع على كنه صنعه في إنشائها، مقرّة بالقصور عن نعت حقيقة إيجادها و تكوينها. و إلى هذا المعنى يشير قول أمير المؤمنين عليه السّلام، في خطبة له:
«سبحانك ما أعظم ما نرى من خلقك، و ما أصغر عظيمة في جنب قدرتك، و ما أهول ما نرى من ملكوتك، و ما أحقر ذلك فيما غاب عنّا من سلطانك «4».
أي بالقياس إلى ما تعتبره العقول من مقدوراته تعالى، و ما يمكن في كمال قدرته من الممكنات الغير المتناهية. و اللّه أعلم.
[ 926] ضلّ الرجل يضلّ- من باب ضرب- ضلالا و ضلالة: عدل عن الطريق، فلم يهتد إليه. و الضلال في الدين: العدول عن الحق. و لم يعطف الجملة على ما قبلها لما بينهما من كمال الاتّصال لكونها مؤكّدة للاولى، و يحتمل الاستيناف البيانيّ.
و تفسّخت الفأرة في الماء: تقطعت. و تفسّخ الفصيل تحت الحمل الثقيل:
__________________________________________________
(1) سورة الروم: الآية 27.
(2) سورة غافر: الآية 57.
(3) «ألف»: بقادر.
(4) نهج البلاغة: ص 158- 159، الخطبة: 109.
25
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثاني و الثلاثين ص 11
كبريائك لطائف الأوهام، كذلك أنت اللّه، الأوّل في أوّليّتك، و على ذلك أنت دائم لا تزول.
ضعف و عجز.
و المعنى: أنّ الصفات لم تهتد إلى طريق ما يجب له، و يليق بشأنه تعالى، من مراتب الكمال، لأنّ ذلك موقوف على تعقلها كما هي، و هو بعيد عن مدارك العقل الواهي.
و كذلك النعوت تقطعت أو ضعفت و عجزت قبل الوصول إلى ما يستحقه- جلّ شأنه- من المدح و الثناء. فهي و إن بولغ فيها بالتعظيم و التكريم، كان له- عزّ شأنه- وراء ذلك أطوار من استحقاق المدحة و الثناء تقف دونها بمراحل، كما قال سيّد المرسلين عليه الصلاة و السّلام:
لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك «1».
و حار في أمره يحار حيرة- من باب تعب-: لم يدر وجه الصواب.
و الكبرياء: الشرف و العظمة، و التجبّر كالكبر، و صاحبها متكبّر. و هي صفة مدح للّه تعالى، و ذمّ لغيره. و ذلك أنّ حقيقة الكبر هيئة نفسانيّة، تنشأ من تصوّر الإنسان في نفسه أمرين أحدهما: كونه أكمل من غيره، و الثاني: كونه أعلى رتبة ممّن سواه.
و لمّا كان هذان الاعتباران إنّما يصدقان حقيقة على اللّه سبحانه، لعلمه بكمال ذاته المقدّسة، و شرفه و علوّه على مخلوقاته كان الكبر و الكبرياء له صفة مدح، و لغيره صفة ذمّ. و لذلك ورد في الحديث عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: يقول اللّه عزّ و جلّ:
«الكبرياء ردائي، و العظمة إزاري، فمن نازعني واحدا منهما ألقيته في جهنّم» «2».
و الأوهام: جمع وهم. و هو قوّة جسمانيّة، محلّها آخر التجويف الأوسط من الدماغ، من شأنها إدراك المعاني الجزئية المتعلّقة بالمحسوسات، كشجاعة زيد،
__________________________________________________
(1) سنن أبي داود: ج 1 ص 232 ح 879.
(2) المحجّة البيضاء: ج 6 ص 213.
26
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثاني و الثلاثين ص 11
..........
و سخاوة عمرو. و هذه القوّة هي التي تحكم في الشاة بأنّ الذّئب مهروب عنه، و أنّ الولد معطوف عليه. و هي قوّة حاكمة على القوى الجسمانيّة كلّها، مستخدمة إيّاها استخدام العقل القويّ العقليّة بأسرها.
و إضافة اللطائف إلى الأوهام، إمّا من باب إضافة النوع إلى الجنس مثل:
أكابر الناس، أي ما لطف و دقّ من الأوهام، أو من باب إضافة الفعل إلى الفاعل، أي ما لطف و دقّ من ملاحظة الأوهام و مداركها. و على كلّ تقدير، فالغرض تنزيه ساحة كبريائه تعالى عن مدارك الأوهام، إذ كانت الأوهام إنّما تتعلّق بالمعاني الجزئية، المتعلّقة بالمحسوسات ذات الصور و الأحياز و المحالّ الجسمانيّة. فالوهم و إن تلطّف في إرسال طرفه إلى قبلة وجوب الوجود، و تعمّق في تقليب حدقته نحو حرم ذي الكبرياء و الجود، فلن يرجع إلّا حيرانا خاسئا حسيرا، إذ كان غايته أن يرجع بمعنى جزئيّ يتعلّق بمحسوس لا بدّ له في إدراكه من بعث المتخيّلة على تشبيحه بمثال من الصّور الجسمانية ليثبته، حتى أنّ الوهم إنّما يدرك نفسه في مثال من صورة و حجم و مقدار. فأنّى له إدراك ما ليس داخل العالم و لا خارجه، و لا في جهة، و ليس بجسم، و لا عرض و هو لا يثبت موجودا بهذه الصفة، و لا يتصوّره بل ينكره، لأنّ من شأنه إنكار ما لا يتصوره، و من هنا كان أكثر الناس يرى ربّه في جهة و يشير إليه، متحيّزا ذا مقدار و صورة، و لذلك وردت الكتب الإلهيّة، و النواميس الشرعيّة مشحونة بصفات التجسّم كالعين و اليد و الإصبع. و الاستواء على العرش و نحو ذلك خطابا للخلق بما تدركه أوهامهم، و توطينا لهم، و إيناسا، حتّى أنّ الشارع لو أخذ في مبدء الأمر، يبيّن لهم أنّ الصانع ليس بجسم و لا عرض، و لا هو في مكان و لا زمان إلى غير ذلك من صفاته جلّ شأنه لاشتدّ نفار أكثرهم عن قبوله، و عظم إنكارهم له، لما علمت من أنّ الوهم في طبيعته لا يثبت هذا القسم من الموجودات بل ينكره.
و الخطابات الشرعيّة و إن وردت بصفات التجسيم، إلّا أنّ الألفاظ الموهمة
27
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثاني و الثلاثين ص 11
..........
لذلك لمّا كانت قابلة للتأويل محتملة له، كانت وافية بالمقاصد، إذ العاميّ المغمور في ظلمات الجهل يحمله على ظاهره، و يحصل بذلك تقيّده عن تشتّت اعتقاده، و ذو البصيرة المترقّي عن تلك الدرجة يحمله على ما يحتمله عقله من التأويل، و كذلك حال من هو أعلى منه، و الناس في ذلك على مراتب، فكان إيرادها حسنا و حكمة.
قال بعض أصحابنا المحقّقين: و يمكن أن يراد بالأوهام النفس و قواها، لأنّ النّفس في معرفة الصانع- جلّ شأنه- كالوهم، في أنّ ما أحاطت به ليس هو الصانع سبحانه.
و يمكن أن يقال: إنّ التنزيه عن إدراك الأوهام يستلزم التنزيه عن إدراك سائر القوى الباطنة، لأنّ الوهم أعمّ إدراكا منها، لأنّه يدرك كلّ ما يدركه غيره من القوى الباطنة من غير عكس.
و الأولى: أن يكون المراد بالوهم الإدراك المتعلّق بالقوّة العقليّة المتعلّقة بالمعقولات، و القوّة الوهميّة المتعلّقة بالمحسوسات جميعا، و قد شاع ذلك في الاستعمال، و دلّ عليه مضامين الأخبار دون الأخير فقط، و قد أوضحنا ذلك في الروضة الأولى، فليرجع إليه.
[ 927] قوله عليه السّلام «كذلك أنت الأوّل في أوّليّتك» إلى آخره كلام مستأنف للثناء عليه سبحانه بثبوت ما ذكر من المادح له جلّ شأنه، أزلا و أبدا، لأنّ صفة القديم لا تكون إلّا قديمة، لأنّ القديم لا يحدث له شيء، و لا يزول عنه شيء، كما عرف ذلك في محلّه، و ذلك إشارة إلى جميع ما ذكره عليه السّلام من الصفات و النعوت، و ما فيه من معنى البعد، للإشعار ببعد مرتبته في الشرف و العلوّ.
و الجار و المجرور في محلّ رفع على أنّه خبر، و «أنت» مبتدأ، و التقديم لإفادة القصر.
و «اللّه الأوّل» بيان على جهة المدح، كالبيت الحرام من قوله تعالى: «جَعَل
28
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثاني و الثلاثين ص 11
..........
اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ» «1».
و «في أوّليّتك» حال، أي على نحو هذه الصفة أنت كائنا في أوّليتك قبل وجود الممكنات، و ليس ذلك طارئا عليك، و حادثا لك بعد أن لم يكن.
و الأوّليّة: عدم المسبوقيّة بالغير مع السابقيّة على الكلّ. و التشبيه ب «كذلك» من باب تشبيه الشيء بنفسه في حالين، لأنّ الغرض بيان ثبوت ذلك له سبحانه أزلا، كثبوته له حالا.
و قوله عليه السّلام «و على ذلك أنت» بيان لثبوته له أبدا، فأنت مبتدأ، و على ذلك خبر.
و «دائم» عطف بيان أو بدل كأحد من «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» «2».
و جملة «لا تزول» نعت لدائم، يقتضي توكيده، كنفخة واحدة، لدفع توهّم كون المراد بالدوام طول البقاء لاشتهار ذلك عرفا، نحو قولهم: أدام اللّه عزّك.
فإن قلت: قد ورد في كثير من الروايات عن أهل البيت عليهم السّلام نفي الأوّلية و الآخرية عنه تعالى، كقول أمير المؤمنين عليه السّلام: سبحان الذي ليس له أوّل مبتدأ، و لا غاية منته «3»، و كقول سيّد العابدين عليه السّلام فيما تقدّم من هذا الدعاء «عزّ سلطانك عزّا لا حدّ له بأوّليّة»، فكيف أثبت له الأوّليّة هنا؟
قلت: المراد بالأوّليّة و الآخرية المنفيّتين «4» عنه- عزّ شأنه- هما الزمانيّتان، المعبّر عنهما بالابتداء و الانتهاء، و المراد بالأوّليّة و الآخريّة اللتين تثبتان له كونه قبل وجود الممكنات، و بقاؤه بعد فنائها، أو أنّ أوّليّته عبارة عن قدمه، و آخريّته عن استحالة عدمه، فلا منافاة في إثباتهما له، و نفيهما عنه تعالى.
و من العجيب ما وقع لبعض المعاصرين في إعراب هذه الجملة من الدعاء
__________________________________________________
(1) سورة المائدة: الآية 97.
(2) سورة الإخلاص: الآية 1.
(3) الكافي: ج 1 ص 134- 135، ح 1.
(4) «ألف» المنفّتيين.
29
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثاني و الثلاثين ص 11
و أنا العبد الضّعيف عملا، الجسيم أملا، خرجت من يدي أسباب الوصلات، إلّا ما وصله رحمتك، و تقطّعت عني عصم الآمال، إلّا ما أنا معتصم به من عفوك.
و تفسيرها، و عبارته:
قوله عليه السّلام: «و كذلك» خبر مبتدأ محذوف، و التقدير: ذلك كذلك، ليكون تأكيدا لجميع الجمل السابقة و «أنت» مبتدأ، و «اللّه» الخبر، و «الأوّل» نعت، أو خبر ثان و «في أوّليّتك» حال منه، أي ليست الأوّليّة بالإضافة إلى شيء كأوّليّة غيرك، بل أوّليّتك ذاتيّة، أي: منسوبة إلى ذلك «و على ذلك» حال من المبتدأ و هو «أنت» و «دائم» الخبر، و «لا تزول» خبر ثان انته بنصّه.
فلينظر إلى هذا الإعراب في المعنى و الإعراب، و اللّه يقول الحقّ، و هو يهدي السبيل.
[ 928] «الواو» للاستئناف، لا عاطفة، كما توهّمه بعضهم.
و «عملا، و أملا» تمييزان رافعان إجمال نسبة، محوّلان عن الفاعل، و الأصل:
الضعيف عمله، الجسيم أمله فحول الإسناد إلى الضمير، و نصبا على التمييز مبالغة و توكيدا، لأنّ ذكر الشيء مبهما، ثمّ مفسرا أوقع من ذكره من أوّل الأمر مفسّرا.
و العمل لغة: فعل الجارحة، كما أنّ العلم فعل القلب، و شرعا: هو الفعل الإنساني سواء كان بالقلب أو بالقالب. و لذلك روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه فسّر قوله تعالى: «لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا»* «1» بقوله: أيّكم أحسن عقلا، و أورع عن «2» محارم اللّه، و أسرع في طاعة اللّه تعالى «3».
و ضعف العمل قد يكون من جهة الكميّة كقلّة الحسنات، و قد يكون من جهة الكيفيّة كعدم خلوصه من الشوائب، و ضعفه من هذه الجهة أشدّ ضررا من ضعفه
__________________________________________________
(1) سورة هود: الآية 7.
(2) في نسخة «ألف» لم تكن واضحة ما أثبتناه هو الظاهر.
(3) تفسير الكشاف: ج 2 ص 380.
30
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثاني و الثلاثين ص 11
..........
من الجهة الأولى، كما روي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في قوله تعالى: «لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا»* قال: ليس يعني أكثركم عملا، و لكن أصوبكم عملا، و إنّما الإصابة خشية اللّه، و النيّة الصادقة «1».
و عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله: أتمّكم عقلا و أشدّكم للّه خوفا، و أورع عن محارم اللّه، و أسرع في طاعة اللّه، و إن كان أقلّكم تطوّعا «2».
و جسم جسامة مثل ضخم ضخامة: عظم، فهو جسيم. و أصله في الجسم و هو الجسد، ثمّ استعمل في المعاني مجازا.
قال في الأساس: و من المجاز أمر جسيم، و هو من أجسام الأمور و جسيمات الخطوب «3».
و الأمل: الطمع و الرجاء. و عرّف بأنّه ارتياح النفس لانتظار ما هو محبوب عندها، و المراد به هنا الأمل لرحمة اللّه تعالى و عفوه و رضوانه. و في هاتين الفقرتين إشارة إلى أمور:
أحدها: الإقرار بالتقصير في العمل، و هو من أشرف مقامات العبودية، لشرف مبدأه و ثمرته.
أمّا مبدأه: فهو استشعار عظمة اللّه سبحانه و عزّ جلاله، فإنّ من أشعر قلبه عظمة ربّه، و جلال كبريائه علم أن ليس أحد- و إن اشتدّ في طلب مرضاة اللّه حرصه، و طال في العمل اجتهاده- يبالغ حقيقة ما اللّه سبحانه أهله من الطاعة له، حتّى أنّ الأنبياء و الأوصياء عليهم السّلام- مع إتيانهم بما هو المطلوب من الإنسان على نهاية ما يتصور من القدرة و الإمكان- اعترفوا بالتقصير، و نظروا إلى أعمالهم بعين التحقير. و في الصحيح أنّ الكاظم عليه السّلام قال لبعض ولده: يا بنيّ عليك
__________________________________________________
(1) تفسير نور الثقلين: ج 2 ص 340.
(2) مجمع البيان: ج 9- 10 ص 322.
(3) أساس البلاغة: ص 94.
31
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثاني و الثلاثين ص 11
..........
بالجدّ، لا تخرجنّ نفسك من حدّ التقصير في عبادة اللّه- عزّ و جلّ- و طاعته، فإنّ اللّه لا يعبد حقّ عبادته «1».
و أمّا ثمرته: فنفي العجب الذي هو من المهلكات، كما قال عليه السّلام: ثلاث مهلكات: شحّ مطاع، و هوى متّبع، و إعجاب المرء بنفسه «2»، و إثبات الذّل و الانكسار، فإنّ من عرف تقصير نفسه، و ضعف عمله، كان في مقام الذلّ و الحاجة و الانكسار، و لا عبوديّة أشرف منها.
الثاني: استضعاف العمل تفاديا عن الاتكال عليه، و الإخلاد إليه في النّجاة و الفوز بنيل الدرجات، بل الرّجاء لفضل اللّه و رحمته، و الوثوق بكرمه و منّته، هو التسبب الأقوى، و الذريعة العظمى، كما جاء في الصحيح عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: قال اللّه تبارك و تعالى: «لا يتّكل العاملون لي على أعمالهم التي يعملونها لثوابي، فإنّهم لو اجتهدوا و أتعبوا أنفسهم أعمارهم في عبادتي، كانوا مقصّرين غير بالغين في عبادتهم كنه عبادتي، فيما يطلبون عندي من كرامتي، و النعيم في جنّاتي، و رفيع الدرجات العلى في جواري، و لكن برحمتي فليثقوا، و فضلي فليرجوا، و إلى حسن الظنّ بي فليطمئنّوا، فإنّ رحمتي عند ذلك تدركهم، و منّي يبلغهم رضواني، و مغفرتي تلبسهم عفوي، فإنّي أنا اللّه الرحمن الرحيم و بذلك تسمّيت» «3».
الثالث: كون ضعف العمل لا يوجب ضعف الأمل، بل ينبغي لمن ضعف عمله أن يعظم في اللّه سبحانه أمله، و هذا أمر يشهد بإثباته العقل، إذ كان العبد عند إنارة العناية الإلهيّة بصيرته، يعلم استناد جميع الموجودات كليّتها و جزئيّتها إلى مدبّر حكيم و ربّ رءوف رحيم، فيظهر له من ذلك أنّ إيجاده له و أخذ العهد عليه
__________________________________________________
(1) الكافي: ج 2 ص 72 ح 1.
(2) المحجّة البيضاء: ج 6 ص 272.
(3) الأمالي للشيخ الطوسي: ج 1 ص 215.
32
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثاني و الثلاثين ص 11
..........
بالطاعة و العبادة، ليس إلّا لينجذب إلى موطنه الأصليّ، و مبدئه الأوّل بالتوحيد المحقّق، و الحمد المطلق، عن نار اجّجت، و جحيم سعّرت، فلا ييأس من روح اللّه تعالى عند وقوع تقصير منه في أسباب ذلك الانجذاب، بل يكون برجائه أوثق، و قلبه بشمول العناية له أعلق، فإنّه لا ييأس من روح اللّه الّا الذين عميت أبصار بصائرهم عن أسرار اللّه، فهم في طغيانهم يعمهون، و أولئك هم الخاسرون، كما قال سبحانه «و من يقنط من رحمة ربّه إلّا الضالّون» «1».
(تنبيه) اعلم: أنّ الأمر المحبوب الذي تتوقّعه النفس، و تنتظره في المستقبل لا بدّ و أن يكون لسبب، فإن كان توقّعه لأجل حصول أكثر أسبابه فاسم الرجاء و الأمل صادق عليه، و إن كان سببه غير معلوم الوجود و الانتفاء فاسم التمنّي أصدق على توقّعه، و إن كان سببه معلوم الانتفاء فاسم الغرور و الحمق أصدق على انتظاره.
إذا عرفت ذلك فاعلم: أنّ أرباب العرفان قد علموا أنّ الدنيا مزرعة الآخرة، فالنفس هي الأرض، و بذرها حبّ المعارف الإلهيّة، و سائر أنواع الطاعات جارية مجرى إصلاح هذه الأرض، من تقليبها و تنقيتها و إعدادها للزراعة، و سياقة الماء إليها. و النفس المستغرقة بحبّ الدنيا و الميل إليها كالأرض السبخة التي لا تقبل الزرع و الإنبات، لمخالطة الأجزاء الملحيّة، و يوم القيامة يوم الحصاد، فلا حصاد إلّا من زرع، و لا زرع «2» إلّا من بذر، و كما لا ينفع الزرع في أرض سبخة كذلك لا ينفع عمل مع خبث النفس، و سوء الأخلاق المنافية للإيمان، فينبغي أن يقاس عمل العبد و رجاؤه لرضوان اللّه بأمل صاحب الزرع و رجائه، و الناس في ذلك على ثلاث درجات، سابق، و لاحق، و مقصّر:
__________________________________________________
(1) سورة الحجر: الآية 56.
(2) «ألف»: يزرع.
33
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثاني و الثلاثين ص 11
..........
فالأوّل: من طيّب أرضا، و بذرها في وقت الزراعة بذرا غير متعفن و لا متآكل، ثمّ أمدّه بالماء العذب و سائر ما يحتاج إليه في أوقاته، ثمّ نقّاه و صانه عمّا يمنع نباته و يفسده من النباتات الخبيثة، ثمّ انتظر من فضل اللّه تعالى منع الآفات المفسدة له إلى تمام زرعه، و بلوغ غايته، فذلك أمله و رجاؤه في محلّه، إذ كان في مظنة أن يفوز مقصوده «1» من ذلك الزرع. و هكذا حال العبد إذا بذر المعارف الإلهيّة في أرض نفسه في وقته، و أبّانه، و هو مقتبل العمر، و مبدء التكليف، و دام على سقيه بالطاعات، و اجتهد في طهارة نفسه عن شوائب الأخلاق الرديّة التي تمنع نماء العلم و زيادة الإيمان، و توقّع من فضل اللّه تعالى و كرمه أن يثبته على ذلك إلى زمان وصوله، و حصاد عمله، فذلك التوقّع هو الأمل المحمود و الرجاء الممدوح، و هو درجة السابقين.
و الثاني: من بذر في أرض طيّبة كذلك، إلّا أنّه بذر في اخريات الناس، و لم يبادر إليه في أوّل وقته، أو قصّر في بعض أسبابه، ثم أخذ ينتظر ثمرة ذلك الزرع، و يرجو اللّه في سلامته له، فهو من جملة المؤمّلين و الراجين أيضا، و كذلك العبد إذا ألقى بذر الإيمان في نفسه، لكنّه قصّر في بعض أسبابه، إمّا ببطنه في البذر أو في السقي، إلى غير ذلك ممّا يوجب ضعفه، ثمّ أخذ ينتظر وقت الحصاد، و يتوقّع من فضل اللّه تعالى أن يبارك له فيه، و يعتمد على أنّه هو الرزّاق ذو القوّة المتين، فيصدق عليه أنّه ذو أمل و رجاء أيضا، إذ أكثر أسباب المطلوب التي من جهته حاصلة، و هذه درجة اللاحقين.
و الثالث: من لم يحصل على بذر، أو بذر في أرض سبخة، أو ذات شاغل عن الإنبات، ثمّ أخذ يتوقّع الحصاد، فتوقعه هو الحمق و الغرور، و مثله حال العبد إذا لم يزرع من قواعد الإيمان في نفسه شيئا أصلا، أو زرع و لم يلتفت إلى سقيه بماء
__________________________________________________
(1) «ألف»: بمقصوده.
34
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثاني و الثلاثين ص 11
..........
الطاعة، و لا صيانته عن موجبات فساده، من شوك الأخلاق الرديّة، بل انهمك في طلب آفات الدنيا، ثمّ جعل ينتظر الفضل من اللّه، و يتوقّع نيل الحسنى لديه، فذلك الانتظار و التوقّع غرور و حمق، و ليس بأمل في الحقيقة، و هذه درجة المقصّرين.
فتبيّن: أنّ اسم الأمل و الرجاء إنّما يصدق على توقّع ما حصل جميع أسبابه، أو أكثرها، الداخلة تحت اختيار العبد، و لم يبق إلّا ما لا يدخل تحت اختياره، و هو فضل اللّه، بصرف القواطع و المفسدات.
فاحذر أن يغرّك الشيطان، و يثبّطك عن العمل، و يريك الحمق و الغرور في صورة الرجاء و الأمل، فإنّ من هذه حاله، لا يأمن أن يكون من أهل الحسرة و الندامة، في يوم القيامة يقول «يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي. فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ. وَ لا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ» «1»، و في المعنى ما قيل:
إذا أنت لم تزرع و عاينت حاصدا ندمت على التفريط في زمن البذر
و عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله: الأحمق من اتبع نفسه هواها، و تمنّى على اللّه «2».
و عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن قوم يعملون بالمعاصي و يقولون: نرجو، فقال: هؤلاء قوم يترجّحون في الأماني، كذبوا، ليسوا براجين، من رجاء شيئا طلبه، و من خاف من شيء هرب منه «3».
و في رواية أولئك قوم ترجّحت بهم الأماني، من رجا شيئا عمل له، و من خاف من شيء هرب منه «4».
و إلى الأقسام الثلاثة المذكورة أشار أمير المؤمنين عليه السّلام بقوله: ساع سريع
__________________________________________________
(1) سورة الفجر: الآية 24- 26.
(2) إحياء علوم الدين: ج 4 ص 143.
(3) الكافي: ج 2 ص 68 ح 5.
(4) الكافي: ج 2 ص 68 ح 6.
35
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثاني و الثلاثين ص 11
..........
نجا، و طالب بطيء رجا، و مقصّر في النار «1».
و إنّما خصّ عليه السّلام القسم الثاني بالرجاء، إذ كان كما علمت، عمدته.
ضعف عمله، و قلّة الأسباب من جهته.
و إليها الإشارة أيضا بقوله تعالى: فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَ مِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَ مِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ «2».
قوله عليه السّلام: «خرجت من يدي أسباب الوصلات» جملة مستأنفة.
و الأسباب: جمع سبب، و هو كلّ شيء يتوصّل به إلى أمر من الأمور، و أصله الحبل.
و الوصلات: جمع وصلة- بالضمّ- على وزن غرفة، يقال: بينهما وصلة، أي:
اتصال. و الوصلة أيضا ما يتوصّل به إلى الشيء، يقال: هذا وصلة إلى كذا.
و في القاموس: الوصلة- بالضمّ- الاتصال، و كلّ ما اتصل بشيء فما بينهما وصلة، و الجمع كصرد «3».
قال بعض المترجمين: الموجود في نسخ الصحيفة الشريفة ضبط الوصلات- بالضمّتين-. و الظاهر من عبارة القاموس المذكورة فتح الصّاد. انته.
و هذا جهل منه بعلم الصّرف، فقد نصّ علماء العربيّة، أنّ الاسم الثلاثي المؤنث إذا كان مضموم الفاء، ساكن العين، غير معتلّها، و لا مدغمها، و لم تكن لامه ياء، جاز في عينه الفتح للخفّة، و الضمّ للاتباع، و السكون في لغة تميم، سواء في ذلك صحيح الفاء و معتلها، كغرفة و ظلمة و وصلة و وكنة، قال امرؤ القيس:
و قد اعتدى و الطير في وكناتها «4»
__________________________________________________
(1) نهج البلاغة: ص 58، الخطب 16.
(2) سورة فاطر: الآية 32.
(3) القاموس المحيط: ج 4 ص 64.
(4) شرح المعلّقات السبعة للزوزني: ص 39- 40.
36
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثاني و الثلاثين ص 11
..........
قال الشارح أبو عبد اللّه الزوزني: الوكنات: مواقع الطير، واحدتها وكنة- بالضمّ- ثمّ تجمع الوكنة على الوكنات- بضمّ الفاء و العين-، و على الوكنات- بضمّ الفاء و فتح العين-، و على الوكنات- بضمّ الفاء و سكون العين، و تكسّر على الوكن، و هكذا حكم فعلة نحو ظلمة و ظلمات و ظلم «1». انته بنصّه.
و مثله في الصحاح للجوهريّ «2».
و الاستثناء من قوله عليه السّلام: «إلّا ما وصله رحمتك» يجوز أن يكون متّصلا و هو الظاهر، فالموصول في محلّ نصب على الاستثناء، أي: إلّا السبب الذي وصله رحمتك، فإنّه لم يخرج من يدي. و يجوز أن يكون منقطعا على أنّ «ما» مبتدأ، حذف خبره، فتكون الجملة في محلّ نصب على الاستثناء أي لكنّ ما وصله رحمتك لم يخرج من يدي.
نبّه على ذلك ابن مالك في شواهد التوضيح حيث قال: حقّ المستثنى ب «إلّا» من كلام تامّ موجب أن ينصب، و لا يعرف أكثر المتأخّرين فيه إلّا النّصب، و قد أغفلوا و روده مرفوعا بالابتداء، ثابت الخبر و محذوفه فمن الأوّل قول أبي قتادة: أحرموا كلّهم إلّا أبو قتادة لم يحرم، فإلّا بمعنى لكنّ، و أبو قتادة مبتدأ، و لم يحرم خبره. و من الثاني: قوله عليه السّلام: «كلّ أمّتي معا في إلّا المجاهرون» أي المجاهرون بالمعاصي لا يعافون «3». انته.
و في نسخة ابن إدريس «إلّا وصلة رحمتك» بالنّصب على أنّه مستثنى متّصل، و المراد: أنّه قد فاتتني الأسباب التي يتوصّل بها إلى السعادات الاخرويّة إلّا السبب الذي هو رحمتك، فإنّه لا يفوت من أحد.
[ 929] قوله عليه السّلام: «و تقطعت عني عصم الآمال» العصم: جمع عصمة. قال
__________________________________________________
(1) شرح المعلّقات السبعة المزوزني: ص 39- 40.
(2) الصّحاح: ج 6 ص 2215.
(3) لم نعثر عليه.
37
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثاني و الثلاثين ص 11
قلّ عندي ما أعتدّ به من طاعتك، و كثر عليّ ما أبوء به من معصيتك، و لن يضيق عليك عفو عن عبدك و إن أساء، فاعف عنّي.
الفارابيّ في ديوان الأدب: العصمة: الحبل، قال اللّه تعالى «وَ لا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ «1».
و في الكشّاف: العصمة: ما يعتصم به من عقد و سبب «2». انته.
و أصله من العَصْم، و هو المنع، يقال: عصمه اللّه، أي: منعه و وقاه، و اعتصم باللّه: امتنع. و إنّما سمّي الحبل و نحوه عصمة، لأنّ المتمسّك به يعتصم به من السقوط و نحوه.
و قوله: «إلّا ما أنا معتصم به من عفوك» أي: من رجاء عفوك.
و الكلام في الفقرتين استعارة، و الغرض التبرّي من جميع الوسائل التي يتوصّل بها إلى اللّه سبحانه من الطاعات و الأعمال الصالحة، و التمسّك بمحض رجاء رحمة اللّه تعالى و عفوه، إيذانا بعدم اتّكاله و اعتماده عليه السّلام على شيء من ذلك سوى رحمة ربّه، و رجاء عفوه عملا بمقتضى الحديث القدسيّ المقدّم ذكره. و اللّه أعلم بمقاصد أوليائه.
[ 930] قد يكون المراد بالقلّة ضدّ الكثرة، و قد يكون المراد بها العدم، فإنّهم كثيرا ما يعبّرون بالقلّة عن العدم، و منه حديث «كان صلّى اللّه عليه و آله يقلّ اللغو» «3»، أي لا يلغو أصلا، و عليه حمل قوله تعالى: فَقَلِيلًا ما يُؤْمِنُونَ «4»، أي لا إيمان لهم أصلا، و هو المراد هنا، لدلالة ما قبله و ما بعده عليه.
و اعتددت بالشيء- على افتعلت-: أدخلته في العدّ و الحساب، فهو معتدّ به، محسوب غير ساقط.
__________________________________________________
(1) ديوان الأدب: ج 1 ص 201.
(2) تفسير الكشاف: ج 4 ص 518.
(3) النهاية لابن الأثير: ج 4 ص 104.
(4) سورة البقرة: الآية 88.
38
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثاني و الثلاثين ص 11
..........
و إنّما قال: «كثر عليّ» و لم يقل: «عندي» كما قال في الفقرة الأولى، لأنّ ما يؤبه «1» من المعصية أمر يكرهه و يستثقله، فجاء ب «على» إيذانا بأنّه قد علاه و بهظه ثقله.
قال ابن جنّي: تستعمل «على» في الأفعال الشّاقّة المستثقلة، من حيث كانت كلفا و مشاقّ تخفض الإنسان و تضعه و تعلوه و تتقرّعه «2»، تقول: قد سرنا عشرا، و بقيت علينا ليلتان، و كذلك يقال في الاعتداد على الإنسان بذنوبه، و قبح أفعاله «3». انته.
و باء بذنبه يبوء بوءا: أي احتمله، و قيل: اعترف به، و قيل: ثقل به، و قيل:
رجع به.
و قال الفارابيّ في ديوان الأدب: باء بإثمه: أي احتمله، و باءوا بغضب: أي رجعوا، و باء بحقه: أي أقرّ.
فإن قلت: كيف فصل قوله: «قلّ عندي ما أعتدّ به من طاعتك» و لم يعطفه على ما قبله؟
قلت: يحتمل أن يكون فصله للاستئناف على وجه التعليل، كأنّه سئل: كيف خرجت من يدك أسباب الوصلات، و تقطعت عنك عصم الآمال؟ فقال: لأنّه قلّ عندي ما أعتدّ به من طاعتك، و كثر عليّ ما أبوء به من معصيتك، و يحتمل أن يكون فصله لأنّه بصدد تعداد أحواله.
قوله عليه السّلام: «و لن يضيق عليك عفو عن عبدك». الواو: عاطفة، أو للاستئناف، و لا يتوهّم أنّها للحال، فإنّ الجملة الحاليّة لا تصدّر بدليل استقبال.
و «لن» لنفي المستقبل ك «لا» غير أنّ النّفي بها أبلغ من النفي ب «لا»، فهي لتأكيد
__________________________________________________
(1) «ألف»: ما ينويه.
(2) «ألف»: تتفرّغه.
(3) لسان العرب: ج 15 ص 88 نقلا عن ابن جنّي مع تقديم و تأخير.
39
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثاني و الثلاثين ص 11
..........
النفي كما ذكره الزمخشري «1» و ابن الخبّاز «2». حتّى قال بعضهم: إنّ منعه مكابرة.
و ادّعى الزمخشريّ أيضا: أنّها لتأبيد النفي «3»، كقوله تعالى: لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً «4» وَ لَنْ تَفْعَلُوا «5»، و وافقه على ذلك ابن عطيّة.
و ضاق عليه الأمر: شقّ عليه، كأنّه لم يجد فيه مقرّا تطمئنّ إليه نفسه كمن لا يسعه مكانه. و منه قولهم: ضاقت عليه الحيلة، فهو استعارة بالكناية قصد فيه إلى تشبيه العفو بالمكان في عدم الاتّساع، و جعل إثبات الضيق تنبيها على ذلك، و لك جعله استعارة تبعيّة و تمثيليّة كما تقدّم بيانه في نظيره.
و قوله «عن عبدك و إن أساء»، أصله عنّي و إن أسأت، لكنّه وضع الظاهر موضع المضمر للاستعطاف، فإنّ في ذكر عبدك من استحقاق الرحمة، و ترقب الشفقة و العطف ما ليس في لفظ عنّي، كقوله: «إلهي عبدك العاصي أتاك».
قال السيّد الشريف: هو على ترك الحكاية عن النفس إلى المظهر، ليكون أدخل في الاستعطاف، فإنّ لفظ «العبد» فيه أدخل من الضمير، خصوصا إذا أضيف إلى المخاطب. انته.
و في لفظ «عبدك» في عبارة الدعاء مع ما ذكر إيماء إلى أنّه سبحانه لا يضيق عليه عفو عمّن اتّصف بعبوديّته تعالى، كائنا من كان، هو أو غيره، إظهارا لسعة عفوه جلّ شأنه.
قوله عليه السّلام: «و إن أساء» و إنّ هذه هي المسمّاة بالوصليّة، و هي إن الشرطيّة. و ما تقدّم من الكلام كالعوض عن جزائها، لدلالته عليه.
و الواو للعطف على جملة شرط حاليّة محذوفة، و الأصل: إن لم يسيء و إن أساء، كما تقول: آتيك إن لم تهجرني و إن هجرتني.
__________________________________________________
(1) تفسير الكشّاف: ج 1 ص 102 و ج 3 ص 171.
(2) همع الهوامع: ج 2 ص 4.
(3) لم نعثر عليه.
(4) سورة الحج: الآية 73.
(5) سورة البقرة: الآية 24.
40
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثاني و الثلاثين ص 11
..........
و يجوز في الجملة الشرطيّة أن تقع حالا إذا شرط فيه الشيء و نقيضه، نحو:
لأضربنّه إن ذهب و إن مكث، و ذلك لانسلاخ معنى الشرط، من جهة أنّ الشيء الواحد لا يكون مشروطا بالشيء و نقيضه، فتعيّن كون الشرط غير مراد. و الذي سوّغ حذف الشرطيّة الأولى أن الثانية أبدا منافية لثبوت الحكم، و الأولى مناسبة لثبوته، و إذا ثبت الحكم على تقدير وجود المنافي، دلّ ذلك على ثبوته على تقدير المناسب من باب الأولى، و دلّ هذا على ذلك المقدّر، و متى أسقطت الواو من مثل هذه العبارة فسد المعنى.
و لذلك قال بعض المحقّقين: كلمة «إن» في هذا المقام ليست لقصد التعليق و الاستقبال، فلا يلاحظ لها جواب قد حذف تعويلا على دلالة ما قبلها عليه ملاحظة قصديّة إلّا عند القصد إلى بيان الإعراب على القواعد الصناعيّة، بل هي لبيان تحقّق ما يفيده الكلام السابق من الحكم على كلّ حال مفروض من الأحوال المقارنة له على الإجمال بإدخالها على أبعدها منه، و أشدّها منافاة، ليظهر بثبوته معه ثبوته مع ما عداه من الأحوال بطريق الأولويّة، لأنّ الشيء إذا تحقّق مع المنافي القويّ، فلأن يتحقّق مع غيره أولى. و لهذا لا يذكر معه شيء من سائر الأحوال، و يكتفى عنه بذكر الواو العاطفة على نظيرتها المقابلة لها، المتناولة لجميع الأحوال المغايرة لها، و هذا معنى قولهم: إنّها لاستقصاء «1» الأحوال على وجه الإجمال.
و على هذا السرّ يدور ما في «لو» و «إن» الوصليّتين من المبالغة و التأكيد.
و مآل الكلام: لن يضيق عليك عفو عن عبدك، حال عدم إساته، و حال إساءته.
و قيل: الواو حاليّة، و ليس بواضح.
و قيل: اعتراضيّة، و ليس بسديد. و الحقّ ما ذكرناه، و قد تقدّم الكلام على ذلك
__________________________________________________
(1) «ألف»: استقصاء.
41
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثاني و الثلاثين ص 11
..........
في أوائل الروضة الثانية فليرجع إليه.
فإن قلت: عفو اللّه سبحانه: هو محو السيّئة، و التجاوز عنها، و ترك العقوبة عليها، فلا يتحقّق معنى العفو مع عدم الإساءة، فكيف تكون الإساءة منافية للعفو، و عدمها مناسبا لثبوته حتّى يصحّ أنّه إذا ثبت الحكم على تقدير وجود المنافي، دلّ ذلك على ثبوته، على تقدير المناسب من باب الأولى؟! قلت: ليس المراد بالإساءة في قوله عليه السّلام: «و إن أساء» الإساءة مطلقا، بل التي يقارنها العفو، و يكون العبد ملتبسا «1» بها وقت حصول العفو عنه، و هي الإساءة مع الإصرار، و عدم التوبة كما تفيده الحاليّة، لأن الغرض من الحال تخصيص وقوع مضمون عاملها بوقت حصول مضمون الحال. و هذا معنى المقارنة:
و لا شكّ أن الاساءة مع الإصرار و عدم التوبة منافية للعفو، لاستحقاق العبد العقوبة معها، لا العفو، و في هذا دليل على جواز العفو مع عدم التّوبة.
و أمّا الإساءة قبل التوبة فالعفو عنها لا يكون مقارنا لها و ليس العبد ملتبسا «2» بها وقت حصول العفو عنه، فصحّ أنّ العفو عنه لم يكن في حال إساءته. و بهذا تبيّن ما ذكرناه من أنّ مآل التقدير من قولنا: إن لم يسيء و إن أساء، حال عدم إساءته، و حال إساءته.
و نظير عبارة الدعاء قوله تعالى: «وَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ «3».
قال القاضي: التقييد بقوله: «على ظلمهم» دليل جواز العفو قبل التوبة، فإنّ التائب ليس على ظلمه «4».
و قال السيّد المرتضى: في هذا دلالة على جواز المغفرة للمذنبين من أهل القبلة، لأنّه تعالى دلّنا على أنّه يغفر لهم مع كونهم ظالمين، و يجري مجرى قول القائل: أنا أودّ
__________________________________________________
(1) «ألف»: متلبسا.
(2) «ألف» متلبّسا.
(3) سورة الرعد: الآية 6.
(4) أنوار التنزيل و أسرار التأويل للبيضاويّ: ج 1 ص 514.
42
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثاني و الثلاثين ص 11
..........
فلانا على غدره، و أصله على هجره «1».
و قال صاحب الكشف: الأسلوب يدلّ على أنّه تعالى بليغ المغفرة للناس مع استحقاقهم لخلافها، لتلبّسهم بما العقاب أولى بهم عنده «2». انته.
و الدلالة المذكورة إنّما جاءت من كون قوله: «على ظلمهم» حالا مقارنة لعاملها، و هو المغفرة. كما أنّ قوله: «و إن أساء» في الدعاء حال مقارنة لعاملها، و هو العفو.
و من هنا فسّرت إحدى العبارتين بالأخرى، فقال العماديّ في تفسيره: أي على ظلمهم أنفسهم بالذنوب و المعاصي، و محلّها النصب على الحاليّة، أي ظالمين، و العامل فيه المغفرة، و المعنى: و انّ ربّك لغفور للناس لا يعجّل لهم العقوبة و إن كانوا ظالمين «3».
و قال الإمام المرزوقيّ في شرح الحماسة عند الكلام على قوله:
سأشكر عمرا إن تراخت منيّتي أيادي لم تمنن، و إن هي جلّت
يعني أنّ آلائه و نعمه صافية من المنّ و الأذى على جلالتها و فخامتها «4». انته.
فترى هذين الإمامين كيف فسّر كلّ منهما إحدى العبارتين بالأخرى، و ما ذلك إلّا للوجه الذي ذكرناه.
فإن قلت: قد قررت أنّ المراد بقوله عليه السّلام: «عن عبدك و إن أساء» نفسه على ترك الحكاية إلى المظهر، فكيف يجوز أن يكون المراد بالإساءة من قوله «و إن أساء» الإساءة مع الإصرار، و عدم التوبة.
قلت: لمّا اعترف عليه السّلام في الجملة السابقة بعدم ما يعتدّ به من الطاعة
__________________________________________________
(1) لم نعثر عليه.
(2) لا يوجد لدينا الكتاب المذكور.
(3) تفسير أبي السعود: ج 5 ص 7.
(4) لا يوجد لدينا الكتاب المذكور.
43
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثاني و الثلاثين ص 11
اللّهمّ و قد أشرف على خفايا الأعمال علمك، و انكشف كلّ مستور دون خبرك، و لا تنطوي عنك دقائق الأمور، و لا تعزب عنك غيّبات السّرائر.
لديه، و كثرة ما يبوء به من المعصية لديه، و كانت التوبة طاعة معتدّا بها، داخلة فيما اعترف بعدمه لديه، تعيّن أنّ المراد بالإساءة من قوله: و إن أساء» الإساءة المذكورة، و كان ذلك منه عليه السّلام من باب عدم الالتفات إلى طاعته و توبته، و الانقطاع إلى محض عفو اللّه و رحمته. و اللّه أعلم بمقاصد أوليائه.
قوله عليه السّلام «فاعف عنّي» «الفاء»: فصيحة- أي إذا كان لن يضيق عليك عفو عن عبدك، و إن أساء فاعف عنيّ- و عدل عن الغيبة إلى التكلّم و لم يقل: فاعف عنه، إيثارا لما هو أدلّ على المقصود من طلب العفو لنفسه، و تنبيها على أنّه هو المراد بذلك العبد المسيء في قوله: «عن عبدك و إن أساء». و اللّه أعلم.
[ 931] أشرف على الشيء إشرافا: إطلع عليه من فوق.
و الخفايا: جمع خفيّة، كهدايا جمع هديّة، من خفي الشيء يخفى- من باب علم- خفا- بالفتح و المد-: أي استتر فلم يظهر، فهو خاف و خفيّ.
و كشفت الشيء كشفا- من باب ضرب- فانكشف: أظهرته فظهر. و أصله رفع شيء عمّا يواريه و يستره، كرفع الثوب و الغطاء.
و دون: بمعنى عند، أي عند خبرك، و منه الحديث «من قتل دون ماله» «1» أي:
عنده، و في رواية ابن أبي الحديد: «عند خبرك».
و الخبر- بالضمّ-: العلم، و منه: صدق الخبر الخبر.
[ 932] و طويت عنه الحديث: كتمته و أخفيته، و أصله من طيّ الثوب، و هو ضدّ نشره.
__________________________________________________
(1) الجامع الصغيرة: ج 2 ص 178 و مجمع البحرين: ج 6 ص 248.
44
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثاني و الثلاثين ص 11
..........
و دقائق الأمور: غوامضها، من دقّ الشيء فهو دقيق إذا لم يتّضح. أو جمع دقيقة، خلاف الجليلة، و منه ما دقّ و ما جلّ.
و الأمور: جمع أمر، بمعنى الشأن و الحال.
و عزب الشيء- من باب قتل، و ضرب-: غاب و خفي، و منه: «لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ» «1»، أي: لا يغيب.
و الغيّبات: جمع غيّبة، مؤنث غيّب، على وزن فيعل- بكسر العين- بمعنى الغائب، كطيّبات و طيّبة.
و الغيب- بالتخفيف- بمعنى الغائب مخفّف منه، بحذف الياء الثانية أو الأولى، لاجتماع ياءين و كسرة.
قال الزمخشريّ و غيره من المفسرين في قوله تعالى: «يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ»: هو بمعنى الغائب، امّا تسميته بالمصدر مبالغة، و إمّا أن يكون فيعلا فخفّف كما قيل «2». قيل:
و ميت و هين، و أصلها قيل: ميّت و هيّن بالتشديد.
و قول العماديّ: «لكن لم يستعمل فيه الأصل كما استعمل في نظائره» «3» مردود بعبارة الدعاء، و كفى بها شاهدا.
و في رواية «غائبات السرائر»، و رواية ابن أبي الحديد «خبايا السرائر».
و أمّا «غنبات»- بالنون قبل الباء الموحدة- على ما يوجد في هوامش كثير من النسخ، معزّوا إلى نسخة ابن إدريس، و أنّه كذا بخطه و ضبطه، فلا أعرف له معنى يناسب المقام. و أغرب من فسّره فقال: الغنب- بالفتح-: الغنيمة الكثيرة.
و السرائر: جمع سريرة، و هي السرّ.
__________________________________________________
(1) سبأ: الآية 3.
(2) تفسير الكشاف: ج 1 ص 39.
(3) تفسير أبي السعود: ج 1 ص 30.
45
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثاني و الثلاثين ص 11
و قد استحوذ عليّ عدوّك الّذي استنظرك لغوايتي فأنظرته، و استمهلك إلى يوم الدّين لإضلالي فأمهلته، فأوقعني و قد هربت إليك من صغائر ذنوب موبقة، و كبائر أعمال مردية.
و في الكشّاف: السرائر ما أسرّ في القلوب من العقائد و النيّات و غيرها و ما أخفي من الأعمال «1».
و إضافة الغيّبات إلى السرائر بيانيّة، أي الغائبات من السرائر، و هي التي لا يحيط بها إلّا علم اللطيف الخبير.
و مدار هذه الفقرات على الثناء عليه سبحانه بنفوذ علمه في كلّ خفيّ و مستتر، و عدم خفاء شيء عليه من دقائق الأحوال و غوامضها، و مكنونات الأسرار و غوايبها، بحيث لا يشذّ شيء منها عن إحاطة علمه. إذ كان الخفاء و الستر و الغيب إنّما تطلق بالقياس إلى مخفيّ عنه، و مستور و غائب عنه، و هي القلوب المحجوبة بحجب الطبيعة و أستار الهيئة البدنيّة، و الأرواح المستولي عليها نقصان الإمكان، الحاكم عليها بجهل ما خفي عليها، و استتر و غاب عنها، و كلّ ذلك لما ينزّه قدس الحضرة الإلهيّة عنه.
و كرّر عليه السّلام بيان إحاطة علمه تعالى بذلك، دفعا للأحكام الفاسدة الوهميّة، كما توهّم بعض القاصرين أنّه لا علم له سبحانه بالأشياء قبل وجودها، و بعضهم أنّه لا علم له بالجزئيات، تعالى اللّه عمّا يقول الظالمون علوّا كبيرا.
[ 933] استحوذ عليه الشيطان: غلبه، و استماله إلى ما يريد منه.
قال الجوهريّ: و هذا جاء بالواو على أصله، كما جاء استروح، و استصوب.
و قال أبو زيد: هذا الباب كلّه يجوز أن يتكلّم به على الأصل. تقول العرب:
استصاب و استصوب، و استجاب و استجوب، و هو قياس مطّرد عندهم. و قوله تعالى: أَ لَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ، أي: ألم نغلب على أموركم، و نستولي على مودّتكم «2».
__________________________________________________
(1) تفسير الكشاف: ج 4 ص 736.
(2) الصحاح: ج 2 ص 563.
46
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثاني و الثلاثين ص 11
..........
انته.
و في اطراد ذلك خلاف. و الصحيح الذي عليه الجمهور المنع من القياس مطلقا. و فصّل ابن مالك، فقال في التسهيل: و ربّما صحّح الإفعال و الاستفعال و فروعهما، و لا يقاس على ذلك مطلقا خلافا لأبي زيد، بل إذا أهمل الثلاثي كاستنوق «1». انته. و هو قول ثالث في المسألة.
و نصّ سيبويه: على أنّ استحوذ من الشواذّ التي لم يسمع إعلالها «2».
و قال في شرح التسهيل: إنّه من المصحّح فقط «3».
و العدوّ: ضد الوليّ. قال تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَ عَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ» «4».
و المراد بعداوته تعالى: مخالفة أمره عنادا، و الخروج عن طاعته مكابرة، أو عداوة خواصّه و مقرّبيه.
و في إضافته إلى ضمير المخاطب هنا تحريض على قمعه و إذلاله، و تنبيه على السبب، كما تقول: عدوّك بالباب، و عدوّك يمكر بك. و منه: «أهل الإسلام في الجنّة، و أهل الكفر في النار».
و قوله: «الذي استنظرك» إلى آخره وصف للتوضيح، أعني دفع الاحتمال.
و استنظرته: طلبت إنظاره، أي: تأخيره و إمهاله.
فأنظرني: أي أمهلني، و الاسم منه النظرة على وزن كلمة، و منه «فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ» «5»، أي فتأخير و إمهال.
و الغواية- بالفتح-: اسم من غوى- من باب ضرب- أي ضلّ و انهمك في الجهل.
__________________________________________________
(1) لا يوجد لدينا كتابه.
(2) كتاب سيبويه: ج 2، ص 437.
(3) لا يوجد لدينا كتابه.
(4) سورة الممتحنة: الآية 1.
(5) سورة البقرة: الآية 280.
47
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثاني و الثلاثين ص 11
..........
و في الصحاح: غوى- بالفتح- يغوي غيّا و غواية «1»، فهي على هذا مصدر.
و جعل صاحب القاموس: الغيّ مصدر غوى- من باب ضرب-، و الغواية مصدر غوي من باب علم، و عبارته: غوى يغوي غيّا، و غوي غواية، و لا يكسر «2». انته.
و على كلّ تقدير فالغواية- بالفتح- بمعنى الضّلال لا الإضلال، فالمعنى:
استنظرك ليكون داعيا لضلالي.
و استمهلته: طلبت إمهاله، فأمهلني.
و «اليوم» في العرف: عبارة عمّا بين طلوع الشمس و غروبها من الزمان، و في الشرع: عمّا بين طلوع الفجر الثاني و غروب الشمس.
و المراد هاهنا مطلق الوقت.
و الدين: الجزاء، خيرا كان أو شرا. و إضافة اليوم إليه لأدنى ملابسة كإضافة سائر الظروف الزمانيّة إلى ما وقع فيها من الحوادث، كيوم الأحزاب، و ليلة القدر، و عام الفتح. و تخصيصه هنا من بين سائر ما يقع فيه كالقيامة و الجمع و الحساب لكونه أدخل في الدلالة على أنّه إن أمهله فلن يهمله. و ما ذكر من القيامة و غيرها من مبادي الجزاء و مقدماته.
و الفقرة الثانية تأكيد للأولى، و مضمونها تلميح إلى قوله تعالى في سورة الأعراف حكاية عن إبليس: قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ. قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ قالَ: فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ «3». و في سورة الحجر قالَ: رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ. قالَ: فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ. إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ. قالَ: رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ، وَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ «4»، و في سورة ص قالَ: رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ. قالَ: فَإِنَّكَ
__________________________________________________
(1) الصحاح: ج 6 ص 2450.
(2) القاموس المحيط: ج 4 ص 372.
(3) سورة الأعراف: الآية 14- 16.
(4) سورة الحجر: الآية 36- 40.
48
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثاني و الثلاثين ص 11
..........
مِنَ الْمُنْظَرِينَ. إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ. قالَ: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ «1».
و إنّما أورد سبحانه هذه الحكاية على أساليب متعدّدة مع أنّ استنظار اللعين إنّما صدر عنه مرّة واحدة لا غير، و كذا جوابه لم يقع إلّا دفعة، قصدا للتفنّن الذي هو من مقتضيات البلاغة، على أنّ كلّ أسلوب من أساليب النّظم الكريم لا بدّ أن يكون له مقام يقتضيه مغاير لمقام غيره.
(تنبيهات) الأوّل: صريح عبارة الدعاء أنّ إنظار اللعين و إمهاله كان إجابة لدعائه، و هو الذي دلّت عليه الآثار، و عليه أكثر المفسّرين:
قال العلامة الطبرسيّ: و أمّا الوجه في مسألة إبليس الإنظار مع علمه بأنّه ملعون مطرود فعلمه بأنّ اللّه سبحانه يظاهر على عباده النعم، و يعمّهم بالفضل و الكرم، فلم يصرفه ارتكابه المعصية عن مسألته و الطمع في الإجابة، فأجابه اللّه «2». انته.
و من هنا قال سفيان بن عيينه: لا يمنعنّ أحدكم من الدعاء ما يعلم من نفسه، فإنّ اللّه تعالى أجاب شر الخلق إبليس، إذ قال: أنظرني «3».
و ذهب جماعة: إلى أنّ إجابة دعاء الكافر لا تجوز، لأنّها كرامة، فقوله تعالى:
فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ بيان ما سبق به التقدير لا الإجابة.
قال العماديّ في تفسيره: ورود الجواب بالجملة الاسميّة مع التعرض لشمول ما سأله الآخرين على وجه يؤذن بكون السائل تبعا لهم في ذلك، دليل على أنّه إخبار
__________________________________________________
(1) سورة ص: الآية 79- 83.
(2) مجمع البيان: ج 3- 4 ص 403.
(3) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 6 ص 197.
49
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثاني و الثلاثين ص 11
..........
بالإنظار المقدّر لهم أزلا لا إنشاء لإنظار خاصّ به وقع إجابة لدعائه، أي إنك من جملة الذين أخرت آجالهم، أزلا حسبما تقتضيه الحكمة التكوينيّة «1». انته.
و أجيب: بأنّ الإجابة لا يلزم أن تكون كرامة، بل هي كالنعمة في احتمالها أن تكون ثوابا و تعظيما، و أن تكون استصلاحا و تفضّلا في الدنيا.
الثاني: ظاهر قوله عليه السّلام «استمهلك إلى يوم الدين لإضلالي فأمهلته» أنّ الإمهال وقع حسب السؤال إلى يوم الدين، فيكون المراد بيوم الوقت المعلوم في الآيتين هو يوم الدين، و هو يؤيّد قول صاحب الكشّاف: إنّ يوم الدين، و يوم يبعثون و يوم الوقت المعلوم في معنى واحد، و لكن خولف بين العبارات سلوكا بالكلام طريق البلاغة «2». انته.
و قال بعضهم: يجوز أن يكون المراد بالأيّام الثلاثة يوم القيامة. و الاختلاف في العبارات لاختلاف الاعتبارات. فالتعبير بيوم البعث، لأنّ غرض اللعين به يتحقّق، إذ به يحصل العلم بانقطاع التكليف، و اليأس من التضليل. و بيوم الوقت المعلوم، لاستئثاره تعالى بعلمه، أو للعلم بأنّه يصعق فيه من في السماوات و الأرض.
و بيوم الدين، للإيذان بتأخير عقابه و جزائه إليه.
و لا يلزم من ذلك أن لا يموت، فلعلّ كلّا من هلاك الخلق جميعا و بعثتهم و جزائهم في يوم واحد يموت اللعين في أوّله، و يبعث في أواسطه، و يعاقب في بقيّته.
و عن الصادق عليه السّلام: «يوم الوقت المعلوم يوم ينفخ في الصّور نفخة واحدة، فيموت إبليس ما بين النفخة الأولى و الثانية» «3».
و ذهب بعض المعتزلة: إلى أنّ المراد بيوم الوقت المعلوم وقت موته و هلاكه في علم اللّه لا يوم القيامة، و كل مكلّف من الجنّ و الأنس منظر إلى وقت معلوم عند اللّه.
__________________________________________________
(1) تفسير أبي السعود: ج 3 ص 217.
(2) تفسير الكشّاف: ج 2 ص 578.
(3) تفسير نور الثقلين: ج 3 ص 14.
50
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثاني و الثلاثين ص 11
..........
و الدليل على ذلك: أنّ إبليس مكلّف، و المكلّف لا يجوز أن يعلم أجله لما فيه من الإغراء بالقبيح، لأنّه إذا علم أجله أقدم على المعصية بقلب فارغ حتّى إذا قرب أجله تاب فتقبل توبته.
و أجيب: بأنّ من علم اللّه تعالى من حاله أنّه يموت على الطهارة و العصمة كالأنبياء، أو على الكفر و المعصية كإبليس، فإنّ إعلامه بوقت أجله لا يكون إغراء على القبيح، لأنّه لا يتفاوت حاله بسبب ذلك التعريف و الإعلام.
الثالث: قالت الأشاعرة: في إنظار إبليس و إمهاله دلالة على أنّه لا يجب على اللّه سبحانه رعاية مصالح العبد في دينه و لا في دنياه، و إلّا لم يمهل إبليس حين استمهله مع علمه بالمفاسد و الغوائل المترتبة على ذلك. و ممّا يؤيّد ذلك أنّه بعث الأنبياء دعاء للخلق إلى الحق، و علم من حال إبليس أنّه لا يدعو إلّا إلى الكفر و الضلال. ثمّ أنّه أمات الأنبياء و أبقى إبليس، و من كان يريد مصالح العباد امتنع منه أن يفعل ذلك.
و هذه الشبهة هي الشبهة السابعة من شبهات إبليس اللعين التي ذكرناها في الروضة السابعة عشرة، و قد تقدّم الجواب عنها هناك.
و أجابت المعتزلة عن ذلك: بأنّ اللّه تعالى خلق آدم و ذريّته قادرين على دفع إبليس عن أنفسهم، فهم الذين اختاروا الكفر و الفساد. أقصى ما في الباب أن يقال: إنّ الاحتراز عن القبيح حال عدم إبليس أسهل منه حال وجوده، إلّا أنّ على هذا التقدير تصير وسوسته سببا لزيادة المشقّة في أداء الطاعات فيزداد المكلّف بتكلّفها ثوابا، كما قال عليه السّلام «أفضل الأعمال أحمزها» «1»، أي أشقّها.
و ذلك لا يمنع الحكيم من فعله، كما أنّ إنزال المشاقّ و الآلام، و إنزال المتشابهات صار سببا لزيادة الشبهات، و مع ذلك لم يمتنع فعلها من اللّه تعالى.
__________________________________________________
(1) مفتاح الفلاح: ص 32.
51
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثاني و الثلاثين ص 11
..........
و هذا قريب من قول أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه في خطبة له «فأعطاه اللّه النظرة استحقاقا للسخطة، و استتماما للبليّة، و إنجازا للعدّة، فقال: إنّك من المنظرين. إلى يوم الوقت المعلوم» «1».
[ 934] قوله عليه السّلام: «فأوقعني و قد هربت» إلى آخره. الفاء: عاطفة للجملة على استحوذ.
و وقع وقوعا: سقط، و أوقعه غيره إيقاعا: أسقطه.
و في الأساس: وقع الشيء على الأرض وقوعا، و أوقعته إيقاعا «2».
و في ديوان الأدب: أوقعه فوقع «3» و جملة قوله «و قد هربت» حاليّة، و أي أوقعني و الحال إنّي قد هربت، أي: حال هربي إليك.
و الهرب إليه تعالى من الذنوب: عبارة عن الإقبال عليه تعالى، و الإعراض عنها، و العزم على اجتنابها.
فالمراد بايقاع الشيطان له حال هربه، إمّا معناه الحقيقي و هو الإسقاط على الأرض، فيكون الكلام استعارة تمثيليّة، شبّه صورة تعويق الشيطان له عن النجاة من الذنوب و المعاصي- بالإقبال على اللّه تعالى، و الإعراض عنها- بصورة تعويق من أسقط هاربا من مخوف، و أوقعه على الأرض من «4» النجاة ممّا يخافه بالهرب منه.
فالمشبّه به هيئة منتزعة من الهارب، و طرحه على الأرض و تعويقه عن النجاة ممّا هرب منه. و المشبّه منتزعة من نفسه، و فسخ الشيطان لعزيمته من الفرار إلى اللّه تعالى من الذنوب، بتسويله و تعويقه عن اجتناب الذنوب و الخلاص منها. فلا تكون كلمة «أوقعني» استعارة بل هي باقية على معناها الحقيقي، كما قرروه في قولهم
__________________________________________________
(1) نهج البلاغة: ص 42 الحطب 1.
(2) أساس البلاغة: ص 686.
(3) ديوان الأدب: ج 3 ص 268.
(4) «ألف»: على الأرض و تعويقه عن النجاة.
52
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثاني و الثلاثين ص 11
حتّى إذا قارفت معصيتك، و استوجبت بسوء سعيي سخطتك، أراك تقدّم رجلا و تؤخّر أخرى.
و إمّا معناه المجازيّ، فيكون مستعارا لجعله إيّاه متلبّسا بما يكرهه، و الجامع التلبّس، و هي استعارة تصريحيّة، لذكر المستعار منه دون المستعار له. و حذف المتلبّس به إمّا للتعيم و الاختصار، أي: فألقاني في كلّ معصية، أو لمجرد الاختصار، أي فألقاني في حبائله و مصائده، بقرينة قوله: «استحوذ عليّ».
و أمّا ما وقع لبعض المترجمين من أنّ صاحب القاموس لم يذكر «أوقع» متعدّيا، و لكن قال: أوقع بهم: بالغ في قتالهم، و لعلّه ضمّن أوقعني معنى حاربني، فيكون معنى أوقعني بالغ في حربي، فهو خبط لا يلتفت إليه.
و قول بعضهم: إنّ جملة قوله: «و قد هربت إليك» استئنافيّة، بمعزل عن اسلوب نظم الكلام، كما لا يخفى على من له أدنى ذوق.
و الموبقة: المهلكة، من الوبوق: و هو الهلاك. يقال: و بق يبق- من باب وعد و- ورث- و وبق يوبق- من باب وجل، و بوقا و موبقا: أي: هلك.
و يتعدّى بالهمزة فيقال: أوبقته، و هو يرتكب الموبقات، أي: المعاصي، لأنّهن مهلكات.
[ 935] و المردية: المهلكة. يقال: ردي «1»- من باب تعب- أي هلك، و أراده غيره.
و اللّه أعلم.
«حتى» هنا ابتدائية دخلت على الجملة الشرطيّة، و هي مع ذلك غاية لما قبلها. و هو استحواذ الشيطان عليه، و إيقاعه له أي قد استحوذ عليّ فأوقعني إلى أن قارفت معصيتك، هذا قول الجمهور، و قد سبق الكلام عليه مستوفى في الروضة الثانية عشرة.
و قارف الذنب: خالطه و قاربه.
__________________________________________________
(1) «ألف» ردي، يردى.
53
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثاني و الثلاثين ص 11
قتل عنّي عذار غدره، و تلقّاني بكلمة كفره، و تولّى البراءة منّي، و أدبر مولّيا عنّي، فأصحرني لغضبك فريدا، و أخرجني إلى فناء نقمتك طريدا، لا شفيع يشفع لي إليك، و لا خفير يؤمنني عليك، و لا حصن يحجبني عنك، و لا ملاذ ألجأ إليه منك.
و قال الزمخشريّ في القائق: قارف الذنب و اقترفه، إذا التبس به، و يقال لقشر كلّ شيء قرفه، لأنّه ملتبس به «1». انته.
و استوجب الشيء: استحقّه.
و السوء- بالضمّ-: القبيح.
و السعي: يكون بمعنى العدو و المضيّ، و يكون بمعنى التصرّف و العمل، و هو المراد هنا. و يعدّي بالمعنى الأوّل ب «إلى»، و بالمعني الثاني باللام.
و في محكم اللغة: السعي: الكسب. و كلّ عمل من خير أو شر سعي «2».
و قال الفيّوميّ في المصباح: أصل السعي التصرّف في كلّ عمل، و عليه قوله تعالى: وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى. وَ أَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى «3».
و السخط: الغضب. و هو من الإنسان تغيير يحصل عند غليان دم القلب لشهوة الانتقام، و من اللّه تعالى سبحانه إرادة الانتقام و إنزال العقوبة المستحقّة.
و فتله يفتله فتلا- من باب ضرب لواه، يقال: فتل عنّي وجهه، أي لواه و صرفه.
و في الصحاح: فتله عن وجهه فانفتل. أي صرفه فانصرف، و هو قلب لفت «4».
و العذار: العارض، و هو صفحة الخدّ. و منه عذر الغلام إذا نبت شعر عذاره، يعني صفحة خدّه، و سمّي السير الذي على خدّ الدابة من اللجام عذارا، باسم موضعه.
__________________________________________________
(1) الفائق في غريب الحديث: ج 3 ص 175.
(2) محكم اللغة: ج 2 ص 159.
(3) المصباح المنير: ص 377.
(4) الصحّاح: ج 5 ص 1788.
54
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثاني و الثلاثين ص 11
..........
و الغدر: نقض العهد، و هو ضدّ الوفاء. و قد يطلق على الخديعة، و هي كلّ فعل يقصد به فاعله خلاف ما يقتضيه ظاهره. و منه الحديث «إن بين يدي السّاعة سنين غدّارة، يكثر فيها المطر، و يقلّ فيها النبات» «1».
قال الزمخشريّ في الفائق: أي: تطمعهم في الخصب بالمطر ثمّ تخلف، فجعل ذلك غدرا منها و خديعة «2». و هذا المعنى هو المراد هنا، لأنّ معنى فتل عنّي عذار غدره صرف عنّي وجه غدره، أي: أعرض عن الغدر و تركه لحصول مطلوبه من الإغواء و الإضلال عند مقارفة المعصية، و استيجاب السخطة، فلم يكن يحتاج إليه بعد ذلك. و هذا المعنى لا يناسبه إلّا الغدر بمعنى الخديعة، لا الغدر بمعنى نقض العهد، كما لا يخفى.
و لو كان المراد بالغدر نقض العهد لكان مقتضى المقام أن يقول: أظهر لي غدره. و لمّا كان الغدر بمعنى نقض العهد مستلزما للخديعة- بإظهار فاعله خلاف ما سيفعله في أوّل الأمر- أطلق عليها لفظ الغدر من باب إطلاق اسم الملزوم على اللازم.
قال شيخنا البهائيّ في المفتاح: المراد أنّ الشيطان بعد حصول مراده، من إيقاعه لي في المعصية بالحيلة و الغدر، صرف عنّي عنان غدره، حيث حصل منّي مراده «3». انته.
فحمل الغدر على معنى الحيلة، و هي الخديعة، و إنّما فسّر العذار بالعنان، لأنّه حمله على ما يقع على خدّ الفرس من اللجام، و هو صحيح، فإنّ من صرف عذار دابّته، فقد صرف عنانها.
و الكلام على كلّ تقدير استعارة بالكناية مع الترشيح، شبّه الغدر بالشخص أو
__________________________________________________
(1) النهاية لابن الأثير: ج 3 ص 345 مع اختلاف يسير في العبارة.
(2) الفائق في غريب الحديث: ج 3 ص 55.
(3) مفتاح الفلاح: ص 278.
55
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثاني و الثلاثين ص 11
..........
الدابة، بجامع قبول التصرف و الانقياد، و أثبت له عذارا، و رشّح ذلك بالفتل لملائمته للعذار. يقال: فتل عذاره، و لوى عذاره، إذا أعرض و صدّ.
قال الزمخشريّ في الأساس: لوى عذاره عنه إذا عصاه «1».
[ 936] قوله عليه السّلام «و تلقّاني بكلمة كفره» تلقّاه: أي استقبله.
و «الباء» للملابسة، أي ملتبسا بكلمة كفره.
قال شيخنا البهائيّ: هو إشارة إلى ما حكاه سبحانه عنه بقوله تعالى: «إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ، فَلَمَّا كَفَرَ، قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ» «2». انته.
و الأولى أن يكون إشارة إلى قوله تعالى حكاية عنه «إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ» «3»، أي بإشراككم إيّاي مع اللّه في الطاعة، بمعنى تبرّأت منه و استنكرته.
قال صاحب الكشّاف: معنى كفره بإشراكهم: تبرّؤه منه، و استنكاره له، كقوله: «إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَ مِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ» «4».
و في حديث أهل البيت عليهم السّلام: الكفر في هذه الآية البراءة «5».
و قوله: «و تولّى البراءة منّي» تولّى الأمر: إذا تقلّده: و قام به.
و البراءة: قطع العلقة، يقال: برئ منه براءة- من باب تعب- أي: قطع علقته منه.
و قوله: «و أدبر مولّيا»، أي: ذهب و رجع عنّي.
و مولّيا: حال مؤكدة لعاملها، و هي التي يستفاد معناها بدونها، و نحوه قوله تعالى: وَلَّى مُدْبِراً* «6».
و مدار هذه الفقرات على إنكار الشيطان ما كان يحثّ عليه، و يزيّنه للإنسان،
__________________________________________________
(1) أساس البلاغة: ص 412.
(2) مفتاح الفلاح: ص 278.
(3) سورة إبراهيم: الآية 22.
(4) تفسير الكشّاف: ج 2 ص 551.
(5) الكافي: ج 2 ص 390 ح 1.
(6) سورة النمل: الآية 10.
56
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثاني و الثلاثين ص 11
..........
من سيّئات الجرائم، و قبائح المعاصي عند استحقاقه للعقوبة، و استيجابه للعذاب.
و نظير ذلك قول أمير المؤمنين عليه السّلام في خطبته الغرّاء: «أوصيكم بتقوى اللَّه الّذي أعذر بما أنذر، و احتجّ بما نهج، و حذّركم عدوّا نفذ في الصدور خفيّا، و نفث في الأذان نجيّا، فأضلّ و أردى، و وعد فمنّى، و زيّن سيئات الجرائم، و هوّن موبقات العظائم، حتّى إذا استدرج قرينته، و استغلق رهينته أنكر ما زيّن، و استعظم ما هوّن، و حذّر ما أمّن» «1».
قال ابن أبي الحديد: القرينة هاهنا الإنسان الذي قارنه الشيطان، و يقال:
غلق الرهن إذا لم يفتكه الراهن في الوقت المشروط، فاستحقّه المرتهن، قال: و هذا الكلام مأخوذ من قوله تعالى: وَ قالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ: إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ، وَ وَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَ ما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَ لُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَ ما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ «2».
(تنبيه) في قوله عليه السّلام: «و استوجبت بسوء سعيي سخطتك» دلالة على أنّ الإنسان هو الذي يختار بسعيه الشقاوة، و ليس من الشيطان إلّا التسويل و التزيين، و هو مدلول الآية المذكورة. و لذلك قال: المحقّقون: الشيطان الأصلي هو النفس، و ذلك أنّ الإنسان إذا أحسّ بشيء أو أدركه، ترتّب عليه شعوره بكونه ملائما له، أو منافرا له. و يتبع هذا الشعور الميل الجازم إلى الفعل أو إلى الترك. و كلّ هذه
__________________________________________________
(1) نهج البلاغة: ص 112 الخطب 83.
(2) شرح نهج البلاغة لابن أبي حديد: ج 6 ص 268- 269.
57
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثاني و الثلاثين ص 11
..........
الأشياء من شأن النفس، و لا مدخل للشيطان في شيء من هذه المقامات، إلّا بأن يذكّره شيئا مثل: أنّ الإنسان كان غافلا عن صورة امرأة فيلقي الشيطان حديثها في خاطره.
قال العلّامة الطبرسيّ: في الآية المذكورة دلالة على أنّ الشيطان لا يقدر على أكثر من الدعاء و الإغواء، و أنّه ليس عليه عقاب معاصيهم، و إنّما عليه عقاب الدعوة فحسب «1».
قوله عليه السّلام: «فأصحرني لغضبك فريدا»، «الفاء» عاطفة، و تفيد هنا ثلاثة أمور: الترتيب، و التعقيب و السببيّة.
و أصحر الرجل للصحراء إصحارا برز لهما، و هو غير متعدّ، لكنّه وقع هنا متعدّيا، كما وقع في حديث أمّ سلمة رضوان اللّه عليها لعائشة: سكّن اللّه عقيراك فلا تصحريها «2».
قال الزمخشريّ في الفائق: أصحر: أي خرج إلى الصحراء، و أصحر به غيره، و قد جاء هنا معدّى على حذف الجار و إيصال الفعل «3». انته.
و قال ابن الأثير في النهاية في حديث عليّ عليه السّلام «فأصحر لعدوّك، و امض على بصيرتك» أي كن من أمره على أمر واضح منكشف، من أصحر الرجل إذا خرج إلى الصحراء، و منه حديث الدعاء «فأصحرني لغضبك فريدا»، و حديث أمّ سلمة لعائشة «فلا تصحريها» أي لا تبرزيها إلى الصحراء، هكذا جاء في هذا الحديث، متعدّيا على حذف الجار و إيصال الفعل، فإنّه غير متعدّ «4». انته.
و ظاهر كلامه، أنّه في حديث الدعاء بالباء الموحّدة لا بنون الوقاية، لكن اتّفقت نسخ الصحيفة الشريفة على النون.
__________________________________________________
(1) مجمع البيان: ج 5- 6 ص 311.
(2) النهاية لابن الأثير: ج 3 ص 12.
(3) الفائق في غريب الحديث: ج 2 ص 169.
(4) النهاية لابن الأثير: ج 3 ص 12- 13.
58
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثاني و الثلاثين ص 11
..........
قال شيخنا البهائي قدّس سرّه: و المراد هنا: جعلني تائها في بيداء الضلال، متصدّيا لحلول غضبك عليّ «1». انته.
قلت: و هو استعارة بالكناية، شبّه نفسه بشخص أخرج إلى الصحراء في عدم تمكّنه من الاستتار بشيء يقيه، و جعل إثبات الإصحار له تنبيها على ذلك، و يمكن حمله على الاستعارة التمثيليّة و التبعيّة أيضا، كما لا يخفى.
و قوله: «فريدا» حال من ضمير المتكلّم، أي مؤاخذا و معاقبا بما قارفته دون غيري. و فيه دلالة على أنّ الشيطان لا يؤاخذ بمعاصي العبد، كما تقدّم.
قوله عليه السّلام: «و أخرجني إلى فناء نقمتك طريدا».
الفناء- بالكسر و المدّ- السعة أمام الدار، و قيل: ما امتدّ من جوانبها، و منه فناء الكعبة.
و النقمة: مثل كلمة، و تخفّف مثلها: اسم من «نقمت منه»،- من باب ضرب- و انتقمت: أي عاقبت.
و الطرد: الإبعاد، طرده طردا- من باب قتل- فهو طريد و مطرود. و نصبه على الحال، و الظاهر أنّها مبنيّة، و تحتمل التأكيد.
[ 937] قوله عليه السّلام: «لا شفيع يشفع لي إليك» جملة حالية، أو مستأنفة استئنافا نحويّا، و لا لنفي الجنس.
و روي فيما بعدها في الفقرات الأربع الرفع- على جواز الإلغاء عند التكرار، و على الإعمال كليس-، و الفتح على الأصل من جعلها في المواضع كلّها لنفي الجنس فيكون مبنيّا.
و جملة «يشفع لي» خبر «لا».
و الخفير: فعيل، من خفرت الرجل- من باب ضرب- أي حميته و أجرته من
__________________________________________________
(1) مفتاح الفلاح: ص 278.
59
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثاني و الثلاثين ص 11
فهذا مقام العائذ بك، و محلّ المعترف لك، فلا يضيقنّ عنّي طالب، و الاسم الخفارة- بالضمّ و الكسر-.
و آمنت الخائف- بالمدّ- سلّمته ممّا يخاف، و الأسير أعطيته الأمان. و تعدّيته ب «على» لتضمينه معنى النصرة، أي: يؤمنني، ناصرا لي عليك، و نظيره تعدية الإجارة بها في قوله تعالى: وَ هُوَ يُجِيرُ وَ لا يُجارُ عَلَيْهِ «1»، أي: يمنع ما يشاء، و لا يمنع أحد بالنصر عليه.
و الحصن- بالكسر-: المكان الذي لا يقدر عليه لارتفاعه.
و في القاموس: كلّ موضع حصين لا يوصل إلى جوفه «2».
و حجبه حجبا- من باب قتل-: منعه. و منه قيل للستر: حجاب، لأنّه يمنع من المشاهدة.
و الملاذ: الملجأ. من لاذ به، يلوذ، لواذا، مثلثة، أي التجأ إليه، و اعتصم به.
يقال: لجأ إلى الحصن و غيره لجأ- مهموزتين من بابي نفع و تعب-، و التجأ إليه، أي استند إليه و اعتصم به.
و مفاد هذه الفقرات تأكيد نفي الاستطاعة عن نفسه، و بيان عجزه، على معنى أنّ اللّه تعالى إن أراد عذابه لم يكن له شفيع يدرأ عنه العذاب، و لا مجير يجيره منه، و لا يصحّ أن يكون له حصن يمنعه عنه، و لا ملاذ يعتصم به منه، و هو معنى قوله تعالى: قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَ لَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً «3». و اللَّه أعلم.
[ 938] «الفاء» للدلالة على ترتب ما بعدها على ما قبلها. و القول بأنّها للاستئناف و هم.
و عاذ به يعوذ عوذا و عياذا، و معاذا: اعتصم.
و اعترف بالشيء اعترافا: أقرّ به على نفسه. و حذف المعترف به للتعميم
__________________________________________________
(1) سورة المؤمنون: الآية 88.
(2) القاموس المحيط: ج 4 ص 214.
(3) سورة الجنّ: الآية 22.
60
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثاني و الثلاثين ص 11
فضلك، و لا يقصرنّ دوني عفوك، و لا أكن أخيب عبادك التّائبين، و لا أقنط وفودك الآملين، و اغفر لي، إنّك خير الغافرين.
و الاختصار.
و «الفاء» من قوله: «فلا يضيقنّ» فصيحة، و لا دعائيّة، و أصلها النهي.
و ضاق الشيء: خلاف اتّسع.
و الفضل: الإحسان.
و قصر السّهم عن الهدف قصورا- من باب قعد-: لم يبلغه.
و دون: نقيض فوق، و هي تقصير عن الغاية.
[ 939] و قوله: «و لا أكن» فيه استعمال «لا» في فعل المتكلّم، و هو و إن كان نادرا لكنّه ثابت في الفصيح، كقوله:
لا أعرفن ربربا حورا مدامعها
و قول آخر:
إذا ما خرجنا من دمشق فلا نعد
و هي في هذا تحتمل النهي «1» و الدعاء، نصّ عليه ابن هشام في المغني «2».
و الكلام في هذه الفقرات من باب توجيه النهي إلى المسبّب و المراد النهي عن السبب، بأبلغ وجه، على أسلوب الكناية.
و الأصل: لا تمنعني واسع فضلك فيضيق عنّي، و لا عفوك فيقصر دوني، و لا تردّني و تجبهني فأكون أخيب عبادك التائبين، و لا تحرمني رفدك فأكون أقنط وفودك الآملين، فعدل عن ذلك إلى توجيه الدعاء إلى الفضل في عدم الضيق، و إلى العفو في عدم القصور، و إلى نفسه في عدم كونه الأخيب و الأقنط على طريقة: «فلا يكن في صدرك حرج» و قولهم: لا أرينّك هاهنا، أي: لا تشكّ فيكون في صدرك
__________________________________________________
(1) مغني اللبيب: ص 324.
(2) مغني اللبيب: ص 326.
61
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثاني و الثلاثين ص 11
..........
حرج، و لا تكن هاهنا فأراك، فعدل عن ذلك إلى توجيه النهي إلى الحرج عن أن يكون في صدره، و إلى نفسه عن أن يراه.
قال النيسابوريّ: توجيه النهي إلى الحرج كقولهم: لا أرينّك هاهنا، و المراد نهيه عن كونه بحضرته فإنّ ذلك سبب رؤيته «1».
قال الزمخشريّ: فإن قلت: النهي في قوله «فلا يكن» متوجّه إلى الحرج فما وجهه.
قلت: هو من قولهم: لا أرينّك هاهنا «2».
قال صاحب الكشف: ظاهره أنّ المتكلّم ينهى نفسه، و المراد نهي المخاطب بأبلغ وجه على اسلوب الكناية «3».
و قال التفتازانيّ: يعني ليس الحرج ممّا يؤمر و ينهى بالكون في الصدر، أو اللاكون. كيف و قد فسّروا النهي بطلب الكف عن الفعل أو الترك!! فجعله من باب ذكر اللازم و إرادة الملزوم. فالمنهي عدم كون المخاطب في حرج، و قد عبّر عنه بعدم كون الحرج في صدره، كما عبر في «لا أرينّك» هاهنا عن عدم كون المخاطب في هذا المكان بعدم رؤية المتكلّم إياه. و مثله في الأمر قوله تعالى: وَ لْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً «4» عبّر عن أمير المؤمنين بأن يغلظوا على الكفّار بأمر الكفّار أن يجدوا في المؤمنين غلظة، لأنّ هذا لازمه «5» انته.
و قال ابن هشام في المغني: قولهم «لا أرينّك»، هاهنا ممّا أقيم فيه المسبب مقام السبب، و الأصل: لا تكن هاهنا فأراك. و مثله في الأمر «و ليجدوا فيكم غلظة»، أي و اغلظوا عليهم ليجدوا ذلك. و إنّما عدل إلى الأمر بالوجدان تنبيها على أنّه
__________________________________________________
(1) تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان: ج 2 ص 119.
(2) تفسير الكشاف: ج 2 ص 86.
(3) الكشف: لا يوجد لدينا الكتاب المذكور.
(4) سورة التوبة: الآية 123.
(5) لم نعثر عليه.
62
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثاني و الثلاثين ص 11
..........
المقصود لذاته، و أمّا الإغلاظ فلم يقصد لذاته بل ليجدوه «1». انته.
و إنّما لم يكن الإغلاظ مقصودا لذاته، لأنّه ليس من الأخلاق الحسنة، فلا يكون مأمورا به إلّا لعارض كإرهاب العدوّ. و اللّه أعلم.
قوله عليه السّلام: «أخيب عبادك التائبين، و لا أقنط وفودك الآملين» خاب يخيب خيبة: لم يظفر بما طلب.
و قنط يقنط- من بابي ضرب و تعب-، قنوطا: يئس.
و الوفود: جمع وفد، و هو جمع وافد، كصحب و صاحب. يقال: وفد عليه يفد وفودا، أي ورد و قدم.
و قال ابن الأثير: الوفد: القوم يجتمعون و يردون البلاد، واحدهم وافد، و كذلك الذين يقصدون الأمراء لزيارة و استرفاد و انتجاع و غير ذلك «2». انته.
و أفعل التفضيل هنا مقصود به أصل الفعل لا الزيادة، إذ ليس في عباده التائبين خائب، و لا في وفوده الآملين قانط. فهو كقولهم: نصيب أشعر الحبشة، أي: شاعرهم، إذ لا شاعر فيهم غيره، و قولهم: الناقص و الأشجّ أعدلا بني مروان، أي عادلاهم، لأنّه لم يشاركهما أحد من بني مروان في العدل. فأفعل هنا بمعنى اسم الفاعل في انفراده بالوصف من غير مشاركة فيه.
قوله عليه السّلام: «و اغفر لي إنّك خير الغافرين» غفر اللّه له: ستر خطيئته و صفح عن عقوبته.
و جملة «إنّك خير الغافرين» تعليل، و مزيد استدعاء للإجابة، أي: خير الساترين على عباده، و المتجاوزين لهم عن ذنوبهم لأنّ غفرانك غير متوقف على جلب منفعة، أو دفع مضرّة، بل لمحض الفضل و الكرم.
__________________________________________________
(1) المغني: ص 324.
(2) النهاية: لابن الأثير: ج 5 ص 209.
63
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثاني و الثلاثين ص 11
اللّهمّ إنّك أمرتني فتركت، و نهيتني فركبت، و سوّل لي الخطاء خاطر السّوء ففرّطت.
[ 940] تأكيد الجملة لغرض كمال قوّة اعترافه بمضمونها. و لم يتعرض لمتعلّق الأمر و الترك و لا النهي و الركوب، إمّا لظهور أنّ المراد: أمرتني بالخير و الإحسان فتركت ما أمرتني به، و نهيتني عن الفحشاء و المنكر، فركبت ما نهيتني عنه، بدليل «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ وَ إِيتاءِ ذِي الْقُرْبى، وَ يَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ وَ الْبَغْيِ» «1».
و إمّا لأنّ المراد: وجد منك الأمر و النهي، فوجد منّي الترك و الركوب، كقولهم: أمرته فعصاني.
قال الزمخشريّ: المأمور به في هذا الكلام غير مدلول عليه، و لا منويّ، لأنّ من يتكلّم بهذا الكلام فإنّه لا ينوي لأمره ما مأمورا به و كأنّه يقول: كان منّي أمر، فلم تكن منه طاعة، كما أنّ من يقول: فلان يعطي و يمنع، و يأمر و ينهى، غير قاصد إلى مفعول «2». انته. و هذا الوجه أولى.
و ركب الأمر، و ارتكبه: باشره، و منه ركب ذنبا، و لا يستعمل إلّا في ما فيه صعوبة أو قبح.
و التسويل: تحسين الشيء و تزيينه و تحبيبه إلى الإنسان ليفعله أو يقوله.
و في القاموس: سوّلت له نفسه كذا: زيّنت، و سوّل له الشيطان: أغواه «3».
و الخطاء: بفتحتين، ضدّ الصواب. و يحتمل أن يراد به هنا الإثم، و الذنب لغة في الخطأ- بالكسر و السكون- و قد قرئ قوله تعالى: إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً بالوجهين «4».
قال المفسّرون: الخطأ- بالكسر و السكون- الإثم، يقال: خطأ خطأ كأثم إثما،
__________________________________________________
(1) سورة النحل: الآية 90.
(2) لم نعثر عليه.
(3) القاموس المحيط: ج 3 ص 399.
(4) سورة الإسراء: الآية 31.
64
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثاني و الثلاثين ص 11
و لا أستشهد على صيامي نهارا، و لا أستجير بتهجّدي ليلا، و لا وزنا و معنى.
و قرئ بفتحتين بمعناه، كالمثل و المثل، و الحذر و الحذر.
و قيل: ضدّ الصواب.
و الخاطر: ما يرد على القلب، و يمرّ بالبال، و هو أقسام:
رحمانيّ: و هو ما كان باعثا على ما فيه صلاح و قربة، و يسمّى إلهاما.
و نفسانيّ: و هو ما فيه حظّ للنفس، و يسمّى هاجسا.
و شيطانيّ: و هو ما يدعو إلى مخالفة الحق، و يسمّى وسواسا.
و قد تقدّم الكلام على ذلك بأبسط من هذا.
و لمّا كان ينقسم إلى حسن و قبيح قيّده عليه السّلام بالإضافة إلى السوء، و هو في النسخة المقابلة على نسخة الشهيد بخطّه بفتح السين، و في غيرها بالضمّ، و قرئ قوله تعالى: عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ* «1» بالوجهين.
قيل: هما لغتان من «ساء، يسوء» إذا قبح. غير أنّ المفتوح غلب في أن يضاف إليه ما يراد ذمّه، و المضموم جرى مجرى الشرّ، و كلاهما في الأصل مصدر. و قيل: هو بالفتح مصدر، و بالضم اسم منه.
و قيل: المفتوح: الرداءة و الفساد، و المضموم: الشرّ و الضرر.
و فرّط في الأمر تفريطا: قصّر فيه و ضيّعه و عدم التعرّض للمفرّط فيه، لأنّ المراد وجد منّي التفريط، كما يقال: فلان يعطي و يمنع.
و تقديم المفعول، أعني الخطاء على الفاعل، و هو خاطر السوء، للاهتمام به من حيث إنّه نصب عينيه، و إنّ التفات خاطره إليه أشدّ. و اللّه أعلم.
[ 941] الواو عاطفة. و جعلها للاستئناف كما زعم بعضهم لا داعي إليه، لعدم انقطاع الجملة ممّا قبلها.
__________________________________________________
(1) سورة الفتح: الآية 6.
65
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثاني و الثلاثين ص 11
تثني عليّ بإحيائها سنّة حاشا فروضك التي من ضيّعها هلك.
و أستشهد به: طلبت منه أن يشهد.
و النهار: من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، و هو مرادف لليوم.
و استجارة: طلبت منه أن يجيره، أي يؤمنه، و يمنعه.
و الليل: من غروب الشمس إلى طلوع الفجر الصادق.
و التهجّد: تفعّل من الهجود، قال أبو عبيدة و ابن الأعرابي و الفارابيّ و الجوهريّ:
هجد و تهجّد. أي نام ليلا، و هجد و تهجّد. أي: سهر، و هو من الأضداد، و منه قيل:
لصلاة الليل التهجّد «1».
و قال الأزهريّ و جماعة: الهجود في الأصل هو النوم بالليل، و لكن تاء التفعّل فيه لأجل التجنّب. و منه تأثّم و تحرّج إذا ألقى الإثم و الحرج عن نفسه، فكأنّ المتهجّد يدفع الهجود عن نفسه «2».
و في الأساس: تهجّد الرجل: ترك الهجود للصلاة «3».
و قال المبرّد: التهجّد: السهر للصلاة، أو لذكر اللّه «4».
و عن ابن عبّاس في قوله تعالى: وَ مِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ «5» أي فصلّ بالقرآن «6».
و قال عليّ بن إبراهيم: التّهجّد: صلاة الليل «7».
و أكثر المفسّرين على أنّ التهجّد لا يكون إلّا بعد النوم «8»، و قال بعضهم:
ما تنّفلت به في كلّ اللّيل يسمّى تهجّدا «9».
قال بعض المحشّين: قوله عليه السّلام «نهارا» إمّا مفعول أستشهد، و إمّا متعلّق بصيامي، و المفعول مقدّر، و التقدير: و لا صمت نهارا صياما مبرورا، فأستشهد
__________________________________________________
(1) الصحاح: ج 2 ص 555.
(2) التهذيب للأزهريّ: ج 6 ص 36 نقلا بالمعنى.
(3) أساس البلاغة: ص 694.
(4) مجمع البيان: ج 5- 6 ص 433.
(5) سورة الأسراء: الآية 79.
(6) مجمع البيان: ج 5- 6 ص 434.
(7) تفسير عليّ بن إبراهيم: ج 2 ص 25.
(8) تفسير روح المعاني: ج 15 ص 138.
(9) تفسير روح المعاني: ج 15 ص 138.
66
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثاني و الثلاثين ص 11
..........
النهار، أو اللّه، أو الملائكة على ذلك. و كذلك قوله «ليلا» متعلّق ب «تهجّدي»، أي: و لا تهجّدت ليلا تهجّدا مقبولا فأستجير به «1». انته.
و قال آخرون: كلّ من النهار و الليل مفعول به، لا ظرف، و التقدير: لا أستشهد نهارا على صيامي، و لا أستجير ليلا بتهجّدي، أي لا أطلب من نهار أن يشهد لي على صيامي فيه، و لا أطلب من اللّيل «2» أن يجيرني بسبب تهجّدي فيه.
أقول: و العبارة تحتمل معنى آخر لم يتعرّض له أحد، و لعلّه أنسب ممّا ذكر «3»، و هو أن يكون المراد بقوله عليه السّلام «لا أستشهد و لا أستجير» لا يكون منّي استشهاد و لا استجارة، تنزيلا للمتعدّي منزلة اللازم، من غير اعتبار تعلّقه بمستشهد و مستجار عامّ أو خاصّ، على حدّ قولهم: من يسمع يخل، أي يكن منه خيلة، أي ظنّ.
و نهارا و ليلا منصوبان على الظرفية للصيام و التهجّد، و المعنى لا يكون منّي استشهاد على صيامي في نهار، و لا يكون منّي استجارة بسبب تهجّدي في ليل.
و غرضه نفي الصيام و التهجّد مطلقا، من باب نفي الشيء بنفي لازمه، أي: لا صيام لي في نهار فأستشهد عليه، و لا تهجّد لي بليل فأستجير بسببه، كقوله: و لا ترى الضبّ بها ينجحر «4»، أي لا ضبّ و لا انجحار.
فإن قلت: الصيام لا يكون إلّا نهارا، و التهجّد لا يكون إلّا ليلا، فما فائدة حملهما على الظرفيّة؟
قلت: فائدته الدلالة على البعضيّة من حيث الأفراد بما فيهما من التنكير الدال على البعضيّة، فإنّ قولك: ركبت نهارا و سرت ليلا يفيد بعضيّة زمان سيرك من الأيّام و الليالي، ألا ترى: أنّ المحقّقين من المفسّرين قالوا في قوله تعالى: «سُبْحانَ
__________________________________________________
(1) تفسير روح المعاني: ج 15 ص 138.
(2) «ألف» من ليل.
(3) «ألف»: ممّا يذكر.
(4) شرح نهج البلاغة لابن ميثم: ج 1 ص 115.
67
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثاني و الثلاثين ص 11
..........
الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا» «1»، إنّ قوله: «ليلا» مع أنّ الإسراء إنّما يكون ليلا:
لإفادة قلّة زمان الإسراء بما فيه من التنكير الدال على البعضيّة من حيث الأجزاء، دلالته على البعضيّة من حيث الأفراد «2».
فإنّ قولك سرت ليلا، كما يفيد بعضيّة زمان سيرك من الليالي يفيد بعضيّته من فرد واحد منها، بخلاف ما إذا قلت: سرت الليل، فإنّه يفيد استيعاب السير له جميعا فيكون معيارا للسير لا ظرفا له، و اللّه أعلم.
قوله عليه السّلام «و لا تثني عليّ بإحيائها سنّة» أثنيت على زيد: ذكرته بالجميل أو أتيت بما يشعر بتعظيمه مطلقا، و الاسم الثناء- بالفتح و المدّ-.
و أمّا ما ذكره ابن القطاع و غيره من أنّ الثناء يستعمل في الجميل و القبيح، فقال الإمام البطليوسيّ: هو مردود، بأنّ المستعمل فيهما إنّما هو النثاء بتقديم النون على الثاء المثلّثة، و أمّا الثناء بتقديم الثاء على النون فاستعماله في القبيح إنّما هو على ضرب من التأويل كالمشاكلة و الاستعارة التهكّميّة.
و الضمير في إحيائها راجع إلى السنّة، و جاز إعادة الضمير إلى المتأخّر لتقدّمه في الرتبة، إذ هو فاعل. و الأصل فيه أن يتّصل بفعله.
و السنّة في الأصل: الطريقة و السيرة، و في الشرع: ما رغب فيه الشارع و لم يوجبه.
قال بعضهم: السنّة و المندوب و التطوّع و النفل و المرغّب فيه و المستحب كلّها بمعنى واحد، و هو ما كان فعله راجحا على تركه، و لا إثم في تركه، سواء دلّ عليه كتاب أو سنّة.
و قد يراد بها ما أمر به النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و نهى عنه، و ندب إليه قولا و فعلا ممّا لم يأت به الكتاب العزيز، و لهذا يقال في أدلّة الشرع: الكتاب و السنّة، أي القرآن و الحديث.
و قد يراد بها مطلق الطريقة النبويّة، و الشريعة المحمديّة، الشاملة لما ورد به
__________________________________________________
(1) سورة الإسراء: الآية 1.
(2) روح المعاني: ج 15 ص 4- 5 نقلا بالمعنى.
68
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثاني و الثلاثين ص 11
..........
الكتاب و الحديث، فرضا كان أو مستحبا، و عليه قول أمير المؤمنين صلوات اللّه و سلامه عليه: السنّة: سنّتان، سنّة في فريضة، الأخذ بها هدى، و تركها ضلالة، و سنّة في غير فريضة، الأخذ بها فضيلة، و تركها إلى غير خطيئة «1».
و المراد بإحيائها إقامتها و الاعتناء بها، و المواظبة عليها، و المحافظة على حدودها.
و «الباء»: للسببيّة، أي بسبب إحيائها.
و تقديمه على الفاعل للعناية و الاهتمام. و قول بعضهم: يمكن أن يكون الضمير من «إحيائها» عائد إلى اللّيل، و المعنى لا تثني على سنّة بإحياء ليل، لا يخفى بعده:
و إسناد الثناء إلى السنّة مجاز عقليّ، من باب إسناد الشيء إلى سببه، أو استعارة بالكناية، بجعل السنّة استعارة عن الفاعل الحقيقيّ بواسطة المبالغة في التشبيه، و جعل نسبة الثناء إليها قرينة للاستعارة، و هو مذهب صاحب المفتاح «2».
قوله عليه السّلام «حاشا فروضك التي من ضيّعها هلك».
«حاشا» هنا استثنائيّة، فذهب سيبويه و أكثر البصريّين إلى أنّها حرف دائما بمنزلة «إلّا»، و أنكروا النصب بعدها «3».
و ذهب المبرّد و الزجاج و الأخفش و آخرون إلى أنها تستعمل كثيرا حرفا جارّا، و قليلا فعلا متعدّيا جامدا، لتضمّنه معنى «إلّا». فتنصب ما بعدها. و فاعلها ضمير مستتر وجوبا، و سمع: اللّهمّ اغفر لي و لمن يسمع، حاشا الشيطان و أبا الأصبغ «4».
و الرواية في الدعاء واردة بالوجهين، فالجرّ على أنّها حرف، و النصب على أنّها فعل بمعنى جانب. و فاعلها مستتر عائد إمّا إلى مصدر متصيّد من الكلام الذي قبلها، و المعنى جانب اعترافي بعدم قيامي بالطاعات المذكورة- فروضك، أو إلى اسم فاعل مفهوم منه، أي جانب المعترف منّي فروضك.
و هذان قولان في مرجع الضمير، الأوّل للكوفيّين، و الثاني لسيبويه، و ذهب
__________________________________________________
(1) الكافي: ج 1 ص 71 ح 12.
(2) مفتاح العلوم: 166.
(4) مغني اللبيب: ص 165.
(3) مغني اللبيب: ص 165.
69
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثاني و الثلاثين ص 11
..........
الفرّاء إلى أنّها فعل لا فاعل له «1»، كقلّما، لما أشربته من معنى «إلّا».
و إنّما استثنى عليه السّلام بحاشا، لما فيها من معنى التنزيه، تنزيها لفروضه تعالى من تضييعها.
و لذلك قال ابن الحاجب: إنّما يستثنى ب «حاشا» حيث يتعلّق الاستثناء بما فيه تنزيه، كقولك: ضربت القوم حاشا زيد، و لا يحسن: صلّى الناس حاشا زيد، لفوات معنى التنزيه «2».
و الاستثناء هنا متّصل، لأنّه من مضمون الكلام السابق، و هو الاعتراف بالتفريط في الطاعات و العبادات، أو من السنّة الشاملة للفرض و الندب، و إن كان العطف محتويا على ثلاثة أشياء، كقوله عليه السّلام «ألا إنّ كلّ دم و مال و مأثرة كانت في الجاهليّة، فهي تحت قدميّ هاتين إلّا سدانة الكعبة، و سقاية الحاج «3».
قال الزمخشريّ: هذا استثناء عن المأثرة، و إن احتوى العطف على ثلاثة أشياء، و نظيره قولك: جاءني بنو ضبّه و بنو الحرث و بنو عبس إلّا قيس بن زهير، و ذلك لأنّ المعنى يدعوه إلى متعلّقه «4». انته.
يعني أنّ قيسا من بني عبس، فلا يتعلّق إلّا به. إذا عرفت ذلك، فقول بعضهم:
الاستثناء بحاشا هنا منقطع، ليس كما ينبغي.
و الفروض: جمع فرض، و هو لغة: التقدير، و شرعا: ما أمر اللّه تعالى عباده ليفعلوه، كالصلاة و الزكاة و الصوم و الحجّ، و جمعه باعتبار أفراده.
و تضييع الفروض عبارة عن تركها و عدم القيام بها. يقال: ضيّعه تضييعا، و أضاعه إضاعة، قال تعالى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ «5».
__________________________________________________
(1) همع الهوامع للسيوطي: ص 233.
(2) تحفة الغريب بهامش المنصف من الكلام: ج 1 ص 252.
(3) مسند أحمد: ج 2 ص 103 و الفائق في غريب الحديث: ج 1 ص 22.
(4) الفائق في غريب الحديث: ج 1 ص 22.
(5) سورة مريم: الآية 59.
70
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثاني و الثلاثين ص 11
و لست أتوسّل إليك بفضل نافلة مع كثير ما أغفلت من وظائف فروضك، و تعدّيت عن مقامات حدودك إلى حرمات انتهكتها، و كبائر ذنوب اجترحتها، كانت عافيتك لي من فضائحها سترا.
و المراد بالهلاك هنا استيجاب العذاب و استحقاق السخط من اللّه تعالى نعوذ باللّه من ذلك.
و مدار هذه الفقرات على اعترافه عليه السّلام بعدم قيامه بالطاعات سوى الفرائض باعتبار عدم الاعتداد به، و إلى هذا المعنى أشار صاحب البردة بقوله:
و ما تزوّدت قبل الموت نافلة و لم أصلّ سوى فرض، و لم أصم «1».
و من العجيب ما قاله بعضهم هنا: إنّ الاستثناء في قوله عليه السّلام «حاشا فروضك» نظير قوله:
و لا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم بهنّ فلول من قراع الكتائب «2»
فيكون المعنى خصوصا فروضك.
و لو كان الاستثناء على حقيقته لكان المعنى ما أحييت من السنن إلّا الفروض، و مقام الاعتراف بالتقصير، غير مناسب لذلك. انته.
و مثل هذا الكلام لا يصدر إلّا عن ذهن مئوف، نسأل اللّه العافية.
[ 942] توسّل إلى ربّه بعمل: تقرّب إليه به، و يقال: وسل، يسل أيضا- من باب وعد-، و منه اشتقاق الوسيلة، و هي ما يتقرّب به إلى الشيء.
و الفضل: الزيادة، و هو خلاف النقص. يقال: فضل فضلا- من باب قتل- أي زاد، و «خذ الفضل» أي الزيادة و يطلق على الكمال و الشرف و الدرجة الرفيعة، كالفضيلة و النافلة: من النفل، و هو لغة: الزيادة، و شرعا: اسم لما شرّع زيادة في العبادات على المفروضات. و يسمّى مندوبا، و مستحبّا و تطوّعا، و تنويها للتفخيم، أي نافلة يعتدّ بها.
__________________________________________________
(1) تخميس قصيدة البردة: ص 19.
(2) مغني اللبيب: ص 155.
71
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثاني و الثلاثين ص 11
..........
و «مع» في الأصل: ظرف، و هي اسم لمكان الاجتماع، أو وقته، تقول: زيد مع عمرو، و جئت مع العصر. و هل هو معرب أو مبنيّ؟ خلاف. و قد يراد بها مجرد الاجتماع من غير ملاحظة الزمان و المكان، و هي هنا كذلك. و لمّا كان أصلها الظرفيّة فلا بدّ لها من متعلّق، و متعلّقها هنا قوله: «أتوسّل».
و أغفلت الشيء إغفالا: تركته من غير نسيان، و المفعول محذوف، أي أغفلته.
و «من»: بيانية.
و الوظائف: جمع وظيفة، و هي ما يقدّر من عمل و رزق و نحو ذلك. و تطلق على الشرط كما في القاموس «1»، و لعلّه المراد هنا بقرينة استثناء الفروض سابقا، فيكون المراد بها شرائط الفروض للقبول دون الأجزاء كمحض الإخلاص، و حضور القلب و غير ذلك، ففي الصحيح «إنّما لك من صلاتك ما أقبلت عليه» «2».
و فيه عن أبي جعفر عليه السّلام: إنّ العبد ليرفع له من صلاته نصفها أو ثلثها أو ربعها أو خمسها، فما يرفع له إلّا ما أقبل عليه بقلبه، و إنّما أمرنا بالنافلة ليتمّ لهم بها ما نقّصوا من الفريضة «3».
أو المراد بها الآداب الموظفة التي يكون بها المفروض على أكمل الوجوه كما ورد في الحسن عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال: للصلاة أربعة آلاف حد «4»، و في رواية أخرى للصلاة أربعة آلاف باب «5».
و على كلّ تقدير فغرضه من ذلك أن لا يخرج نفسه من حدّ التقصير في فرض و لا ندب.
و تعدّيت الشيء: تجاوزته إلى غيره. و إنّما عدّاه ب «عن» لتضمينه معنى الإعراض و الصدّ.
__________________________________________________
(1) القاموس المحيط: ج 3 ص 205.
(2) الكافي: ج 3 ص 363 ح 4.
(3) الكافي: ج 3 ص 363 ح 2.
(4) الكافي: ج 3 ص 272 ح 6.
(5) الكافي: ج 3 ص 272 ح 6.
72
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثاني و الثلاثين ص 11
..........
و في القاموس «1» و المحكم: عدّى عن الأمر جازه إلى غيره فلا حاجة إلى التضمين «2».
و المقامات: جمع مقامة، و هي- بالفتح-: القيام و موضعه، و- بالضمّ- الإقامة و موضعها، و الرواية في الدعاء بالوجهين.
و الحدّ في الأصل: المنع و الفصل بين الشيئين، و حدّ الدار ما يمنع غيرها أن يدخل فيها.
فحدود اللّه: ما منع من مخالفتها بعد أن قدّرها بتقادير مخصوصة، و صفات مضبوطة، قال تعالى: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَ مَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ «3» أي أحكامه و فرائضه، و عن الحسن: حرماته «4»، و بالجملة ما أمر به و نهى عن مخالفته.
و إضافة المقامات إليها، إمّا بمعنى المصدر من قام بالأمر، و أقامه: إذا حفظه و لم يضيّعه، أو بمعنى الموضع، أي مواضع قيامها أو إقامتها، و المراد بها المواضع التي نيطت بها حدوده و أحكامه تعالى، من الأفعال و التروك.
و قوله عليه السّلام: «إلى حرمات انتهكتها» متعلّق ب «تعدّيت»، يقال:
تعدّيت هذا الأمر إلى غيره: أي جاوزته إليه.
و الحرمات: جمع حرمة- بالضمّ و بالضمّتين- و هي ما لا يحلّ انتهاكه.
و حرمات اللّه: قيل: فروضه، و قيل: ما وجب القيام به، و حرم التفريط فيه، و قيل: ما حرّمه، و أمر باجتنابه. من حرم الشيء- بالضمّ- إذا امتنع فعله. و هي في الأصل اسم من الاحترام، كالفرقة من الافتراق.
و انتهك الحرمة: تناولها بما لا يحلّ، و أصله من النهك، و هو المبالغة في كلّ شيء،
__________________________________________________
(1) القاموس المحيط: ج 4 ص 360.
(2) محكم اللغة: ج 2 ص 228.
(3) سورة البقرة: الآية 229.
(4) الجامع لأحكام القرآن: ج 3 ص 138.
73
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثاني و الثلاثين ص 11
و هذا مقام من استحيى لنفسه منك، و سخط عليها، و رضي عنك، فتلقّاك بنفس خاشعة، و رقبة خاضعة، و ظهر مثل من الخطايا، فكأنّ المنتهك للحرمة بالغ في خرق محارم الشرع، و إتيانها.
[ 943] و اجترح الذنب: اكتسبه، أخذا من الجوارح، أي أعضاء الإنسان التي يكتسب بها، لأنّه يعمل بجوارحه.
و قوله: «كانت عافيتك لي من فضائحها» جملة في محلّ الخفض، نعت للحرمات و الكبائر.
و العافية: المعافاة، مصدر جاء على فاعله، من عافاه اللّه، أي سلّمه من المكروه، كالخاتمة بمعنى الختم و الكاذبة بمعنى الكذب.
و الفضائح: جمع فضيحة، و هي اسم من فضحه، كمنعه، أي كشف مساوئه و عيوبه.
و الظرف من قوله: «لي» متعلّق بالعافية.
و «من فضائحها»: يحتمل تعلّقه بها أيضا، و هو الظاهر، و يحتمل أن يكون متعلّقا بقوله: «سترا»، و هو و إن كان اسما لما يستتر به إلّا أنّه يصحّ التعلّق به، لتأوّله ب «ساتر» المشبّه للفعل، و نظير ذلك قول الشاعر:
و إنّ لساني شهدة يشتفى بها و هو على من صبّه اللّه علقم «1»
قال ابن هشام: أصله: علقم على من صبّه اللّه عليه، فعلى المحذوفة متعلّقة ب «صبّ»، و المذكورة متعلّقة ب «علق» لتأوله ب «صعب، أو شاقّ، أو شديد» «2» و اللّه أعلم.
[ 944] الاستحياء: استفعال من الحياء، و هو تغيّر النفس، و انقباضها ممّا تعاب به، أو تذمّ عليه، يقال: استحييته، و استحييت منه، فيعدّي بنفسه، و يحرف الجرّ. و فيه لغتان:
إحداهما بيائين، و هي لغة أهل الحجاز، و بها جاء القرآن، و عليها عبارة الدعاء.
__________________________________________________
(1) مغني اللبيب: ص 567.
(2) مغني اللبيب: ص 567- 568.
74
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثاني و الثلاثين ص 11
واقفا بين الرّغبة إليك و الرّهبة منك، و أنت أولى من رجاه، و أحقّ من خشيه و اتّقاه، فأعطني يا ربّ ما رجوت، و آمِنّي ما حذرت، و عد عليّ بعائدة رحمتك، إنّك أكرم المسئولين.
و الثانية: بياء واحدة، و هي لغة تميم، و منها قوله:
ألا تستحي منا الملوك و تتّقي
و المراد بالاستحياء منه تعالى ترك ما يكرهه، و يستقبحه، و يؤاخذ عليه، فاستحياؤه لنفسه منه سبحانه عبارة عن زجره لها، و كفّها عن ارتكاب ما لا يرضاه.
و سخط عليه سخطا- من باب تعب-: غضب، و السخط- بالضمّ- اسم منه.
و الرضا عن اللّه سبحانه عبارة عن الابتهاج بقضائه، و أحكامه و إحسانه و إنعامه، و حمله عن تعجيل المؤاخذة و الانتقام، و فتح باب التوبة و العفو عن الآثام.
و تلقّيت الرجل: استقبلته.
و التلقّي هنا استعارة تبعيّة لتوجّهه بكليته إليه تعالى، و الإنابة إلى باب كرمه و عفوه.
و الباء من قوله: «بنفس» للملابسة، أي: ملتبسا بنفس خاشعة.
قال الرضيّ: و لا تكون بهذا المعنى إلّا مستقرّا «1».
و قال الشمنيّ: الظاهر أنّه لا منع من كونها لغوا «2».
و خشع خشوعا: ذلّ و استكان و سكن، فهو خاشع، و خشع في صلاته و دعائه:
أقبل بقلبه على ذلك، و هو مأخوذ من خشعت الأرض إذا سكنت و اطمأنّت.
و عن مجاهد: الخشوع: الخوف الدائم في القلب «3».
و خضع خضوعا: تطأمن و تواضع.
و في القاموس: الخشوع، الخضوع، أو قريب من الخضوع، أو هو في البدن
__________________________________________________
(1) شرح الكافية في النحو: ج 2 ص 327.
(2) شرح الكافية في النحو: ج 2 ص 327.
(3) لم نعثر عليه بل وجدناه عن الحسن في تفسير التبيان: ج 3 ص 94 مع اختلاف يسير.
75
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثاني و الثلاثين ص 11
..........
و الخشوع في الصوت و البصر «1».
و قال الفيّوميّ: الخضوع قريب من الخشوع، إلّا أنّ الخشوع أكثر ما يستعمل في الصّوت، و الخضوع في الأعناق «2».
[ 945] و أثقله الشيء، بالألف، إثقالا: أجهده. شبّه الخطايا في ثقلها عليه، و صعوبة احتمالها بالأحمال التي تثقل الحامل و تقدحه «3»، و تنقض ظهره، فرشّحها بذكر الظهر و الأثقال، و لك جعله من باب التمثيل.
و نصب «واقفا» على الحال.
و «بين» هنا ظرف مستعار لما بين الحدثين مكانا.
قال الرضيّ: «بين» إن أضيف إلى الأمكنة أو جثث غيرها فهو للمكان نحو بين الدار و بين زيد و عمرو، و إن أضيف إلى الأزمنة فهو للزمان نحو بين يوم الجمعة و يوم الأحد، و كذا إن أضيف إلى الأحداث نحو: بين قيام زيد و قعوده، إلّا أن يراد به مجازا لمكان نحو قولك: زيد بين الخوف و الرجاء، استعيرت لما بين الحدثين مكانا، فلهذا وقع «بين» خبرا عن الجثّة «4». انته.
و رغب إليه في كذا: طلبه منه، و سأله إيّاه، و قيل: أمّله و رجاه.
و رهبته و رهبت منه: خفته، أي واقفا بين الرغبة إليك في رحمتك و عفوك، و الرهبة من عقابك و سخطك، و المراد بالوقوف بينهما تساويهما عنده، و اتّصافه بهما على حد سواء قال بعضهم: اجتماع الرغبة و الرهبة و الخوف و الرجاء على تضادّ هما في حالة واحدة من قبل توارد أسبابهما عليه، و هو كما يجتمع الإخبات و الطمأنينة مع الوجل الذي هو ضدّ هما، كما قال اللّه عزّ و جلّ «وَ بَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ. الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ» «5».
__________________________________________________
(1) القاموس المحيط: ج 3 ص 18.
(2) المصباح المنير: ص 236.
(3) «ألف»: تفدحه.
(4) شرح الكافية في النحو: ج 2 ص 113- 114.
(5) سورة الحجّ: الآية 34 و 35.
76
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثاني و الثلاثين ص 11
..........
و قال بعض العارفين: الرّجاء و الخوف كجناحي الطائر إذا استويا استوى الطائر، فتمّ طيرانه، و إذا نقص أحدهما كان جاذبا له، فيسقط على رأسه، و إذا ذهب هلك الطائر «1».
و قال أبو عثمان المغربيّ: من حمل نفسه على الرجاء تعطل، و من حمل نفسه على الخوف قنط، و لكن ينبغي أن يخاف العبد راجيا، و يرجو خائفا «2».
و في الحسن عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: كان أبي يقول: ليس من عبد مؤمن إلّا و في قلبه نوران: نور خيفة، و نور رجاء، لو وزن هذا لم يزد على هذا، و لو وزن هذا لم يزد على هذا «3».
قال بعض الأصحاب: و ذلك لأنّ المؤمن لا يخلو من قصور أسباب الخوف و الرجاء، و تجويز وقوع مقتضى كلّ واحد منهما بدلا من الآخر بحيث لا يرجّح أحدهما على الآخر، إذ لو رجّح الرجاء لزم الأمن في غير موضعه أَ فَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ «4»، و لو رجّح الخوف لزم اليأس الموجب للهلاك «إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ» «5»، و منه ظهر أنّ الخوف غير القنوط، و أنّه و الرجاء ينبغي أن يكونا متساويين مطلقا «6».
[ 946] قوله عليه السّلام «و أنت أولى من رجاه». أولى: أفعل تفضيل، و أصله من الولي، بمعنى القرب و الدنوّ، فهو في الأصل بمعنى أقرب، ثمّ استعمل بمعنى أحقّ مطلقا، يقال: زيد أولى بهذا من عمرو، أي أحقّ و أحرى و أجدر.
و كان سبحانه و تعالى أولى من رجاه لمعرفته بسعة رحمته و فضله و لطفه و رأفته و إحسانه على عباده، و إجراء نعمه عليهم، ظاهرة و باطنة، جليّة و خفيّة، ضروريّة و غير ضروريّة، حين كونهم أجنّة في بطون امّهاتهم، بلا سبق استحقاق، و لا تقدّم
__________________________________________________
(1) آداب النفس: ج 2 ص 9.
(2) آداب النفس: ج 2 ص 9.
(3) الكافي: ج 2 ص 67 ح 1 و ص 71 ح 13.
(4) سورة الأعراف: الآية 99.
(5) سورة يوسف: الآية 87.
(6) شرح الكافي للمولى محمّد صالح المازندراني: ج 8 ص 206.
77
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثاني و الثلاثين ص 11
اللّهمّ و إذ سترتني بعفوك، و تغمّدتني بفضلك في دار الفناء بحضرة الأكفاء، فأجرني من فضيحات دار البقاء عند مواقف الأشهاد، استيجاب، و للعلم بغنائه عن طاعتهم و عبادتهم، و تعذيبهم مع عجزهم و مسكنتهم و ضعفهم و فقرهم بين يديه، فمن كان بهذه الصفات كان أولى من رجاه راج، و أمّله محتاج.
و إنّما كان أحقّ من خشيه و اتّقاه لمعرفته بجلاله و عظمته و كبريائه و غنائه عن خلقه، و شدّة غضبه و قهره، و كمال قدرته على الخلق، و عدم مبالاته بتعذيبهم و إهلاكهم متى أراد، فهو سبحانه أحقّ من خشيه الخاشون، و اتّقاه المتّقون.
و الفاء من قوله: «فأعطني» سببيّة، أي إذا كنت بهذه الصفة فأعطني.
[ 947] و حذرته أحذره حذرا- من باب تعب-: خفته.
و عاد عليه بمعروفه يعود عودا- من باب قال-: أفضل. و العائدة: المعروف و الصلة و المنفعة.
و الجملة من قوله عليه السّلام: «إنّك أكرم المسئولين» تعليل للدعاء، و مزيد استدعاء للإجابة. و اللّه أعلم () [ 948] «إذ»: للتعليل، كقوله تعالى: وَ إِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَ ما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ «1».
و هل هي حرف بمنزلة لام العلّة، أو ظرف، و التعليل مستفاد من قوّة الكلام، لا من اللّفظ؟ قولان: الأوّل: منسوب إلى سيبويه «2».
و استشكل الثاني: بأنّ «إذ» لما مضى من الزمان، و قوله: «فأجرني» في عبارة الدعاء، و قوله: «فأووا» في الآية مستقبل، و الماضيّ و الاستقبال متنافيان.
__________________________________________________
(1) سورة الكهف: الآية 16.
(2) شرح الكافية في النحو: ج 2 ص 399.
78
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثاني و الثلاثين ص 11
و الصّالحين، من جار كنت أكاتمه سيّئاتي، و من ذي رحم كنت أحتشم منه في سريراتي، لم أثق بهم ربّ في السّتر عليّ، و وثقت بك ربّ في المغفرة لي، و أنت أولى من وثق به، و أعطى من رغب إليه، و أرأف من استرحم فأرحمني.
و حمل الرضيّ ذلك على إجراء الظرف مجرى كلمة الشرط، قال: و أمّا قوله تعالى: «وَ إِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ» و قوله: «وَ إِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَ ما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ» و قوله: «فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَ تابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ» فلإجراء الظرف مجرى حكمة الشّرط، كما ذكره سيبويه في نحو: زيد حين لقيته فأنا أكرمه، و هو في «إذا» مطرد، قال: و يجوز أن يكون من باب «و الرجز فاهجر» أي:
ممّا أضمر فيه أمّا، و إنّما جاز إعمال المستقبل- الذي هو «فسيقولون، و أووا و أقيموا»- في الظروف الماضية- التي هي «إذ لم يهتدوا، و إذ اعتزلتموهم و إذ لم تفعلوا»- و إن كان وقوع المستقبل في الزمن الماضي محالا لما ذكرنا في نحو: أمّا زيد فمنطلق، من أنّ الغرض المعنويّ هو قصد الملازمة حتّى كأن هذه الأفعال المستقبلة وقعت في الأزمنة الماضية، و صارت لازمة لها، كلّ ذلك لقصد المبالغة «1». انته.
و قال أبو البقاء في إعراب قوله تعالى: «فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَ تابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ»: قيل:
إذ بمعنى إن الشرطيّة، و قيل: على بابها، ماضية، و المعنى إنّكم تركتم ذلك فيما مضى فتداركوه بإقامة الصّلاة «2». انته.
و الباء من قوله: «بعفوك» تحتمل الاستعانة و السببيّة و الملابسة.
و تغمّده اللّه برحمته: غمره بها، و تغمّدت فلانا: سترت ما كان منه و غطيته، كذا في الصحاح «3».
__________________________________________________
(1) شرح الكافية في النحو: ج 2 ص 399- 400.
(2) تفسير التبيان في اعراب القرآن: ذيل الآية 14 من سورة المجادلة.
(3) الصحاح: ج 2 ص 517.
79
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثاني و الثلاثين ص 11
..........
فإن حملته على الأوّل فالباء للاستعانة، و إن حملته على الثاني فهي للسببيّة.
و في الأساس: تغمّده اللّه برحمته: ستره «1».
و قال ابن الأثير في النهاية: فيه إلّا أن يتغمّدني اللّه برحمته، أي يلبسنيها، و يسترني بها، مأخوذ من غمد السيف، و هو غلافه، يقال: غمدت السيف و اغمدته «2».
و دار الفناء: عبارة عن الدنيا، سمّيت بذلك لأن كلّ ما فيها صائر إلى الفناء، و هو العدم بعد الوجود.
و الباء من قوله: «بحضرة الأكفاء» ظرفيّة.
و الأكفاء: جمع كفؤ، مثل قفل، و هو المثل و النظير و المساوي.
و الحضرة: بمعنى الحضور، يقال: كلّمته بحضرة فلان، أي بحضوره.
[ 949] و الفاء من قوله: «فأجرني» إن جعلت إذ للتعليل فهي عاطفة على محذوف، أي لأجل سترك في دار الفناء بحضرة الأكفاء استرني فأجرني، كما تقدّم في حكاية سيبويه: كما أنّه لا يعلم فتجاوز اللّه عنه.
و إن جعلت ظرفا أجري مجرى كلمة الشرط، فهي رابطة لشبه الجواب بشبه الشرط.
و قول بعضهم: إنّها للسببيّة، خبط.
و أجاره إجارة: آمنه ممّا يخاف.
و الفضيحة: اسم من فضحه، كمنعه، إذا كشف مساوئه، و أظهر عيوبه، و إضافة الفضيحات إلى دار البقاء بمعنى «في» كشهيد الدار.
و «عند» تحتمل الظرفيّة الزمانيّة و المكانيّة.
و المواقف: جمع موقف، و هو إما اسم مكان الوقوف أو مصدر ميميّ.
و الأشهاد: جمع شهيد، كشريف و أشراف، و هو فعيل بمعنى فاعل، من شهدت على الشيء، أي اطلعت عليه و عاينته، أو من شهدت المجلس، أي حضرته، فأنا شاهد و شهيد
__________________________________________________
(1) أساس البلاغة: ص 455.
(2) النهاية لابن أبي الأثير: ج 3 ص 383.
80
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثاني و الثلاثين ص 11
من الملائكة المقرّبين، و الرّسل المكرّمين، و الشّهداء و «من الملائكة» بيان للأشهاد.
و المقرّبون: إمّا صفة لمجرّد المدح، على أنّ المراد بالملائكة مطلقهم، لأنّهم جميعهم مقرّبون، إذ كانوا أسبق السابقين في كلّ العبادات وَ السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ. أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ «1»، و لأنّهم أعلم خلق اللّه تعالى به، و أكثرهم طاعة له، و خوفا منه، و خشية له، و من كان بهذه الصفات كان مقرّبا عند اللّه.
و إمّا للتوضيح على أنّ المراد بالملائكة نوع خاص.
قال بعض العلماء: الملائكة على أنواع كثيرة، و مراتب متفاوتة، أولاها الملائكة المقرّبون، كما قال تعالى: لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَ لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ «2»، و هم الذّوات المقدّسة عن الجسميّة و الجهة، و عن حاجتها إلى القيام بها و عن تدبيرها. و اللّه أعلم.
و كرّمه تكريما، و أكرمه إكراما: عظّمه، و خصّه بفضيلة دون غيره.
و الشهداء: جمع شهيد، و هو من قتله الكفّار في الحرب، فعيل بمعنى مفعول، لأنّ اللّه تعالى شهد له بالجنّة، أو شهدت الملائكة نقل روحه إلى الجنّة، أو بمعنى فاعل، لأنّه يشهد ملكوت اللّه و ملكه، أو لأنّه ممّن يشهد يوم القيامة على الأمم الخالية، و قيل: غير ذلك. و قد تقدّم.
و الصالحين: جمع صالح.
قال الزجّاج في قوله تعالى في صفة يحيى عليه السّلام «وَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ»، الصّالح: هو الذي يؤدّي إلى اللّه ما افترض عليه، و يؤدّي إلى النّاس حقوقهم «3».
و قال صاحب مطالع الأنوار: الرجل الصالح هو المقيم بما يلزمه من حقوق اللّه
__________________________________________________
(1) سورة الواقعة: الآية 10 و 11.
(2) سورة النساء: الآية 172.
(3) تهذيب الأسماء و اللغات للنوويّ: الجزء الأول من القسم الثاني ص 179 نقلا عن المعاني القرآن للزّجاج.
81
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثاني و الثلاثين ص 11
..........
سبحانه و حقوق الناس «1».
[ 950] قوله عليه السّلام: «من جار كنت اكاتمه سيّئاتي».
قال بعضهم: هو و ما بعده بيان للأكفاء، و كونه للصالحين، غير مناسب، لمقام عموم الصالحين و ما قبله. و تعلّقه بفضيحات بمعنى: أجرني من فضيحاتي من الجارّ و ما بعده محتمل على بعد. انته.
و قول بعضهم: إنّ «من» للتعليل أبعد، و الظاهر تعلّقها ب «فضيحات» لاستلزامها معنى الاستحياء و الاحتشام، كما قالوا: وا فضيحتي منك، لمّا دخله معنى وا حيائي منك.
و من قواعدهم أنهم يعطون الشيء حكم ما أشبهه في معناه كقوله:
. سود المحاجر لا يقرأن بالسّور. «2».
قال السهيليّ: عدّى يقرأن بالباء، لما دخله معنى يتبرّكن «3».
و في نسخة «و كم من جار كنت أكاتمه سيّئاتي» و كتمت زيدا الحديث كتما- من باب قتل- و كتمانا- بالكسر-: أخفيته عنه، يتعدّى إلى مفعولين. و فاعل هنا للتكثير لا للمشاركة، أي كثّرت كتمي لسيّئاتي عنده.
قال الرضيّ: بمعنى فعّل أي يكون للتكثير، كفعّل، نحو ضاعفت الشيء، أي:
كثّرت أضعافه كضعّفه، و ناعمه اللّه كنعّمه، أي كثّر نعمته بفتح النون «4». انته.
و ذي رحم، أي ذي قرابة، سمّيت القرابة رحما، باسم الرحم التي هي موضع تكوين الولد من الأم.
و احتشمت منه احتشاما: استحييت.
__________________________________________________
(1) تهذيب الأسماء و اللغات للنوويّ: بعد الجزء الأول من القسم الثاني ص 179 نقلا من صاحب مطالع الأنوار.
(2) مغني اللبيب: ص 45.
(3) لم نعثر عليه.
(4) شرح الشافية: ج 1 ص 99.
82
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثاني و الثلاثين ص 11
..........
قال الزمخشريّ في الأساس: أنا أحتشمك و أحتشم منك: استحي «1».
و السرائر: جمع سريرة، بمعنى السرّ، و هو ما يكتمه الإنسان و يخفيه، يقال: أفشى سرّه و سريرته و أسراره و سرائره.
[ 951] و وثقت به أثق ثقة: اعتمدت على وفائه.
و ستر عليه: أخفى مساوئه و عيبوبه.
و الضمير من «بهم» عائد إلى المعنى، لأنّ المراد بالجارّ و ذي الرحم الجنس، و لو أعيد إلى الملفوظ به لثنّاه.
و توسيط النداء في الفقرتين و التعرّض لعنوان الربوبيّة للمبالغة في التضرع و الاستعطاف.
و ما أحسن قوله عليه السّلام: «في المغفرة لي»، إذ كان أصل الغفر الستر، و حدّ المغفرة ستر الخطيئة برفع العقوبة.
[ 952] قوله عليه السّلام: «و أنت أولى من وثق به»، أي أحقّ من اعتمد على وفائه، إذ كان الوفاء من كلّ أحد لمن اعتمد عليه من صفات الكمال بقضيّة العقل و الكمال للواجب تعالى أولى و أحقّ و أقدم و أتمّ من غيره.
و قوله: «و أعطى من رغب إليه»، أي أكثر من سئل و رجي العطاء.
و فيه شاهد لجواز بناء أفعل التفضيل من «أفعل» مع كونه ذا زيادة، و هو قياس عند سيبويه «2».
قال الرضيّ: و يؤيّده كثرة الاستعمال كقولهم: هو أعطاهم للدينار، و أولادهم للمعروف، و أنت أكرم لي من فلان، و هو عند غير سيبويه سماعيّ مع كثرته «3».
و الرأفة: أشدّ الرحمة. و قيل: هي مبالغة في رحمة «4» خاصّة، هي دفع المكروه،
__________________________________________________
(1) أساس البلاغة: ص 127.
(2) شرح الكافية في النحو: ج 2 ص 213.
(3) شرح الكافية في النحو: ج 2 ص 213- 214.
(4) «ألف»: رحمته.
83
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثاني و الثلاثين ص 11
اللّهمّ و أنت حدرتني ماء مهينا من صلب متضائق العظام، حرج المسالك إلى رحم ضيّقة، سترتها بالحجب، تصرّفني حالا عن حال حتّى انتهيت بي إلى تمام الصّورة، و أثبتّ فيّ الجوارح، كما نعتّ في كتابك، نطفة ثمّ علقة ثمّ مضغة ثمّ عظاما، ثمّ كسوت العظام لحما، ثمّ أنشأتني خلقا آخر كما شئت.
و إزالة الضرر، و الرحمة اسم جامع. و قيل: الرحمة أكثر من الرأفة، و الرأفة أقوى منها في الكيفيّة، لأنّها عبارة عن إيصال النعم صافية عن ألم و الرحمة إيصال النعم مطلقا، و كان سبحانه أرأف من استرحم، لأنّ رأفته بلا غاية، و رحمته بلا نهاية.
و الفاء من قوله: «فارحمني» للسببيّة، أي إذا كنت كذلك فارحمني.
حدرت الشيء حدرا و حدورا- من باب قعد-: أنزلته إلى موضع منحدر، أي منخفض.
و في الصحاح: حدرت السفينة أحدرها حدرا أرسلتها إلى أسفل، و لا يقال:
أحدرتها «1».
و «ماء» نصب على الحال.
و المهين: فعيل من مهن الشيء- بالضمّ- مهانة: أي حقر و ضعف، و فيه تلميح إلى قوله تعالى في السجدة: ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ «2» و في المرسلات «أَ لَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ» «3».
قال الطبرسيّ: أي ضعيف، عن قتادة. و قيل: حقير مهان، إشارة إلى أنّه من شيء حقير، لا قيمة له، و إنما يصير ذا قيمة بالعلم و العمل «4». انته.
و الصلب- بالضمّ-: عظم يبتدئ من حدّ عظم الرأس المؤخّر، و ينتهي إلى عظم العصعص.
قال صاحب الكامل: و عظم الصلب ينقسم إلى أربعة أجزاء: أحدها: العنق،
__________________________________________________
(1) الصحاح: ج 2 ص 625.
(2) سورة السجدة: الآية 8.
(3) سورة المرسلات: الآية 20.
(4) مجمع البيان: ج 7- 8 ص 327.
84
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثاني و الثلاثين ص 11
..........
و هو الرقبة، و الثاني: الظهر، و الثالث: الحقو، و يقال له: القطن، و الرابع، العجز، و هو العظم العريض.
أمّا العنق فمركّب من سبع فقرات، و أمّا الظهر فمركب من اثنتي عشرة فقرة، و أمّا الحقو فمركّب من خمس فقرات، و أمّا العجز فمركّب من جزأين: أحدهما يسمّى خاصة عظم العجز، و هو عظم عريض يتصل بالفقرة الآخرة من فقار الحقو، و الثاني: يقال له العصعص، و هو مؤلّف من ثلاثة عظام شبيهة بالغضروف «1».
انته ملخّصا.
و سمّي الصلب صلبا، لصلابته.
قال الرئيس في القانون: إنّ الصلب خلق ليكون مبنى لجميع عظام البدن، مثل الخشبة التي تهيّأ في نجر السفينة أوّلا، ثمّ يركز فيها، و يربط بها سائر الخشب ثانيا، و لذلك خلق الصلب صلبا «2» انته.
و التضائق: تفاعل من الضيق، و هو خلاف السعة.
قال الجوهريّ: تضائق القوم إذا لم يتّسعوا في خلق أو مكان «3».
و المراد بتضائق العظام من الصلب اتّصال فقراته كلّ منها بالأخرى اتصالا مفصليّا، و دخول كلّ واحدة منها في حفرة معمولة في الأخرى كما شرح في علم التشريح، فكأنّ العظام ضائق بعضها بعضا لتلاصقها و انتظامها، حتّى كأنّها عظم واحد.
و حرج المكان حرجا- من باب تعب-: ضاق، فهو حرج، ككتف.
و المسالك: جمع مسلك، و هو الطريق. من سلكت الطريق سلوكا- من باب قعد-: ذهبت فيه.
__________________________________________________
(1) كامل الصناعة: ص 55- 57.
(2) القانون في الطبّ: ج 1 ص 28.
(3) الصحاح: ج 4 ص 1511.
85
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثاني و الثلاثين ص 11
..........
و المراد بحرج مسالكه: ضيق تجاويف فقراته و ثقبها، فإنّ الفقرة عظم، مستدير، مجوّف، في وسطه ثقب ينفذ فيه النخاع.
[ 953] و إسناد الحدر إلى اللّه تعالى من باب إسناد الفعل إلى سببه الأوّل، إذ كان تعالى هو الأوّل في وجوده، و وجود سائر أسبابه.
و كون الماء من الصلب، إمّا باعتبار أنّ مبدء ماء الرجل من صلبه، لأنّ مادّته من النخاع الآتي من الدماغ، و ينحدر في فقرات الصلب إلى العصعص، كما ذهب إليه جمّ غفير، و إمّا باعتبار كون الدماغ أعظم الأعضاء معونة في توليد المني، و ممرّه على الصلب.
قال الرئيس في القانون: أبقراط يقول ما معناه: إنّ جمهور مادة المني هو من الدماغ، و إنّه ينزل في العرقين اللذين خلف الأذنين، و لذلك يقطع فصدهما النسل، و يورث العقر، و يكون دمه لبنيّا، و وصلا بالنخاع لئلا يبعدا عن الدماغ و ما يشبهه مسافة طويلة، فيتغيّر مزاج ذلك الدم، بل يصبّان إلى النخاع، ثمّ إلى الكلية، ثمّ إلى العروق التي تأتي الأنثيين «1». انته.
فيكون الصلب ممرّا للمني لا مبدءا له، و تخصيصه بالذكر، على هذا، لكونه عمود البدن، كما تقدّم. و اللّه أعلم.
قوله عليه السّلام: «إلى رحم ضيّقة» متعلّق بحدرتني.
و الرحم: على وزن كتف- و يخفّف بسكون الحاء، فتح الراء و مع كسرها أيضا في لغة بني كلاب، و في لغة لهم بكسر الحاء إتباعا لكسرة الراء-: آلة التوليد للإناث، و هي مؤنثة. و قد تذكّر إذا استعملت بمعنى القرابة، و هو الأكثر.
و وصفها بالضيق لأنّ مقدارها على ما قاله جماعة من أرباب التشريح أقلّ ما يكون ستّ أصابع، و أكثر ما يكون أحد عشر إصبعا.
__________________________________________________
(1) القانون في الطبّ: ج 2 ص 534.
86
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثاني و الثلاثين ص 11
..........
قال الشيخ في القانون: طولها المعتدل في النساء ما بين ستّ أصابع إلى أحد عشر إصبعا، و ما بين ذلك، و قد يقصر و يطول باستعمال الجماع و تركه «1». انته.
و الحجب: جمع حجاب، ككتب و كتاب، و هو الجسم الساتر، و المراد بها الأغشية المحيطة بها، و ما يليها من الأعضاء من كلّ الجهات، فإنّها حجب ساترة لها.
و الجملة في محلّ خفض نعت ثان للرحم.
[ 954] قوله عليه السّلام: «تصرّفني حالا عن حال».
صرّفت الشيء تصريفا: قلّبته من حالة إلى حالة.
و الجملة في محلّ نصب على الحال.
و الحال: التغيير، و صفة الشيء تذكّر و تؤنّث، فيقال: حال حسنة، و هو الأفصح، و قد يؤنّث لفظها، فيقال: حالة.
و في القاموس: الحال كنية الإنسان، و ما هو عليه كالحالة «2».
و «حالا» نصب على المصدر النوعيّ لقيامه مقامه، و الأصل تصريف حال عن حال، فحذف المضاف و أقيم المضاف إليه مقامه، كما قال بعضهم في نحو: بعته يدا بيد، و قبّلته فما بفم هو على حذف مضاف، أي بيع يد بيد، و تقبيل فم بفم.
قال ابن هشام: و هذا تقدير حسن سهل «3».
و يجوز أن يحمل على أنّه حال من مصدر الفعل المفهوم منه، و التقدير: تصرفني حال كون التصريف حالا عن حال، كما ذهب إليه سيبويه في نحو: «وَ كُلا مِنْها رَغَداً» «4» على أنّ الحال بمعنى التغيير «5» أو حال نائبة مناب جاعلا كما ذهب إليه الفارسي في نحو: كلّمته فاه إلى فيّ، من أنّ فاه حال نائبة مناب جاعل ثمّ حذف، و صار العامل كلّمته «6».
__________________________________________________
(1) القانون في الطبّ: ج 2 ص 556.
(2) القاموس المحيط: ج 3 ص 364.
(3) لم نعثر عليه.
(4) سورة البقرة: الآية 35.
(5) لم نعثر عليه.
(6) لا يوجد لدينا الكتاب المذكور.
87
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثاني و الثلاثين ص 11
..........
و «عن» من قوله عليه السّلام: «عن حال» بمعنى بعد، أي بعد حال، كقوله تعالى: لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ «1»، أي حالة بعد حالة «2».
و قال شارح اللباب: و الأولى أن نقول: إنّ «عن» باقية على معناها من المجاوزة، و يكون المعنى: طبقا متجاوزا في الشدّة عن طبق آخر دونه «3».
و المراد بقوله عليه السّلام: «حالا عن حال» و قوله تعالى: طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ، التكثير و التكرير، لا حالان و طبقان فقط، كما يدلّ عليه تمام عبارة الدعاء.
و قال الرضيّ: قوله: «عن طبق» صفة طبقا، و ليس المقصود طبقين فقط، بل المراد أطباق كلّ واحد منها أعظم من الآخر، فهو مثل التثنية في لبيّك و كرّتين، في أنّ المراد التكثير و التكرير، فاقتصر على أقلّ مراتب التكرير، و هو الاثنان تخفيفا.
و كذا قولهم: ورث السيادة كابرا عن كابر، أي متجاوزا في الفضل عن كابر آخر، و قال بعضهم: أي بعد كابر، و الأولى إبقاء الحروف على معناها ما أمكن «4».
انته.
و قد فسّر قوله تعالى: طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ بمعنى قوله عليه السّلام: «حالا عن حال» قال الطبرسيّ: قيل: معناه حالا بعد حال، نطفة ثمّ علقة، ثمّ مضغة، ثمّ عظما، ثمّ خلقا آخر. و قيل: شدّة بعد شدّة، حياة ثمّ موتا ثمّ بعثا، ثمّ جزاء، و قيل:
أمرا بعد أمر، رخاء بعد شدّة، و شدّة بعد رخاء، و فقرا بعد غنى، و غنى بعد فقر، و صحّة بعد سقم، و سقما بعد صحّة، و قيل: غير ذلك. و اللّه أعلم «5».
قوله عليه السّلام: «حتّى انتهيت بي إلى تمام الصورة» متعلّق ب «تصرفني».
و «حتّى» لانتهاء الغاية ك «إلى»، لكنّ «حتّى» موضوعة لإفادة تقضّي الفعل قبلها شيئا فشيئا، و «إلى» ليست كذلك.
__________________________________________________
(1) سورة الانشقاق: الآية 19.
(2) مغني اللبيب: ص 197.
(3) المنصف من الكلام: ج 1 ص 295.
(4) شرح الكافية في النحو: ج 2 ص 342. ما 13- 14.
(5) مجمع البيان: ج 9- 10 ص 462.
88
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثاني و الثلاثين ص 11
..........
و الباء من قوله «بي» للتعدية، و تسمّى باء النقل أيضا. و هي المعاقبة للهمزة في تصيير الفاعل مفعولا.
و الصورة: هيئة حاصلة للشيء عند إيقاع التأليف بين أجزائه، و يقال: صورة الشيء ما به يحصل الشيء بالفعل.
و «أل» في «الصورة» للعهد، أي تمام الصورة المعهدة للإنسان.
و أثبت الشيء اثباتا: جعله ثابتا، مستقرا في مكانه.
و الجوارح: الأعضاء، جمع جارحة.
و الواو من قوله عليه السّلام: «و أثبت في الجوارح» عاطفة، من باب عطف الشيء على لاحقه نحو: كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَ إِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ «1»، لأنّ الانتهاء إلى تمام الصورة لا يكون إلّا بعد إثبات الجوارح، و كأنّ تخصيصها بالذكر لمزيد الانتفاع بها، و شدّة الافتقار إليها، فهو من قبيل ذكر الشيء اهتماما بشأنه.
قوله عليه السّلام «كما نعتّ في كتابك» الظرف في محلّ النصب على أنّه نعت لقوله عليه السّلام: «حالا عن حال»، أو نعت لمصدر محذوف، أي تصريفا مماثلا لنعتك. فما مصدريّة، أو كافّة كما في «ربّما» فإنّها تكفّ الحرف عن العمل، و تصحّح دخولها على الجملة، و تكون للتشبيه بين مضموني الجملتين، كما ذهب إليه الزمخشريّ و ابن عطيّة و غيرهما «2».
قال ابن هشام: و فيه إخراج الكاف عمّا ثبت لها من عمل الجرّ لغير مقتض «3»، و هو في محلّه.
[ 955] قوله عليه السّلام: «نطفة ثمّ علقة»، قال شيخنا البهائيّ قدّس سرّه: نصب النطفة و المعطوفات عليها إمّا على حكاية ما وقع في القرآن المجيد، أو على إضمار
__________________________________________________
(1) سورة الشورى: الآية 2.
(2) مغنى اللبيب: ص 234.
(3) مغني اللبيب: ص 234.
89
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثاني و الثلاثين ص 11
..........
عامل كخلقتني و نحوه «1». انتهی.
و على الأوّل: فهي و ما عطف عليها في محل نصب على المفعوليّة إمّا بنعتّ لمرادفته قلت، و إمّا بقول محذوف وقع حالا، أي قائلا. و الحال كثيرا مّا تحذف إذا كانت قولا أغنى عنه المقول نحو: وَ الْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ. سَلامٌ عَلَيْكُمْ «2»، أي: قائلين ذلك.
و النطفة- بالضمّ-: المني، قيل: من النطف الذي هو الصبّ، يقال: نطفت الماء، أي صببته، و نطف الماء: إذا سال سيلا تامّا، و قيل: من نطف الماء إذا قطر قليلا قليلا.
قال في النهاية: سمّي المني نطفة لقلّته «3».
قال الشيخ الرئيس في القانون، المني: هو فضلة الهضم الرابع الذي يكون عند توزّع الغذاء في الأعضاء راشحا عن العروق و قد استوفى الهضم، الثالث. و هو من جملة الرطوبة الغريزيّة القريبة العهد بالانعقاد «4».
و العلقة: القطعة الجامدة من الدم.
قال الأزهريّ: العلقة الدم الجامد الغليظ، و منه قيل: لهذه الدابة التي تكون في الماء علقة، لأنّها حمراء، و كلّ دم غليظ علق «5».
و قال الماورديّ في تفسيره: العلقة قطعة من دم رطب سمّيت بذلك لأنّها تعلّق لرطوبتها بما تمرّ عليه، فإذا جفّت لم تكن علقة «6».
__________________________________________________
(1) مفتاح الفلاح: ص 279.
(2) سورة الرعد: الآية 23- 24.
(3) النهاية لابن الأثير: ج 5 ص 75.
(4) القانون في الطبّ: ج 2 ص 533.
(5) تهذيب اللغة: ج 1 ص 243.
(6) تفسير الماورديّ: لم يطبع كما في «أدب الدنيا و الدين» للماورديّ في مقدمة الكتاب، ص 5.
90
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثاني و الثلاثين ص 11
..........
و قال صاحب المحكم: العلق: الدم ما كان، و قيل: هو الجامد قبل أن ييبس، و قيل: هو ما اشتدّت حمرته، و القطعة منه علقة «1». انته.
و المراد بها هنا المني المستحيل دما غليظا منجمدا.
و المضغة- بالضمّ-: في الأصل مقدار ما يمضغ، و المراد بها هنا قطعة من اللحم مستحيلة من العلقة.
و العظم: جسم جامد صلب بسيط، كائن من تصلّب الأخلاط. و المراد بالبسيط ما ساوى بعضه كلّه في الاسم و الحدّ و الصفة، و يسمّى متشابه الأجزاء.
و اللحم: كذلك، إلا أنّه جسم جامد رخوه «2» و المشهور في الرواية إفراد العظم أوّلا، ثمّ جمعه، و هي قراءة زيد عن يعقوب في الآية الشريفة، و روي بالإفراد فيهما و هي قراءة ابن عامر و أبي بكر، و بالجمع فيهما و هي قراءة الحرميين و أبي عمر و حفص و حمزة و الكسائيّ، و روى القطعيّ عن أبي زيد الجمع أوّلا ثمّ الإفراد، عكس الأوّل.
و وجه الجمع اختلاف العظام في الهيئة و الصلابة، و الإفراد اكتفاء بالجنس.
(تنبيه) قوله عليه السّلام «كما نعتّ في كتابك نطفة ثمّ علقة» إشارة إلى قوله تعالى في سورة المؤمنون: وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ. ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ. ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ «3».
قال ابن عباس و عكرمة و قتادة و مقاتل: المراد بالإنسان آدم عليه السّلام، لأنّه
__________________________________________________
(1) محكم اللغة: ج 1 ص 123.
(2) «ألف»: رخو.
(3) سورة المؤمنون: 12- 13- 14.
91
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثاني و الثلاثين ص 11
..........
استلّ من الطين «1».
و الضمير في «جعلناه» عائد إلى الإنسان الذي هو ولده، إمّا على حذف مضاف، أي نسله، أو على طريقة الاستخدام.
و قال الآخرون: الإنسان هاهنا هو ولد آدم، أي الجنس و الطين آدم.
و السلالة: هي الأجزاء الكليّة المبتوتة في أعضائه التي تجتمع منيا في أوعيته.
قال النيسابوريّ: و يحتمل أن يقال: كل نسل آدم حاله كذلك، لأنّ غذاه ينتهي إلى النبات المتولّد من صفو الأرض و الماء المسمّى بالسلالة، ثمّ إنّ تلك السلالة تصير منيا «2».
و في تفسير القميّ قال: السلالة الصفوة من الطعام، و الشراب الذي يصير نطفة، و النطفة أصلها من السلالة، و السلالة هي من صفو الطعام و الشراب، و الطعام من أصل الطين فهذا معنى قوله: «مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ» «3». انته.
و على هذا فكلتا لفظتي «من» للابتداء.
و قال الزمخشريّ: الأولى للابتداء، و الثانية للبيان «4».
و هو مبنيّ على التفسير الأوّل فقط.
و قال العماديّ: المراد بالإنسان: الجنس، أي خلقنا جنس الإنسان في ضمن خلق آدم عليه السّلام خلقا إجماليّا «5». فإنّ كلّ فرد من أفراد البشر له حظّ من خلقه عليه السّلام، إذ لم تكن فطرته الشريفة مقصورة على نفسه، بل كانت انموذجا منطويا على فطرة سائر أفراد الجنس، انطواء إجماليا مستتبعا لجريان آثارها على
__________________________________________________
(1) مجمع البيان: ج 7- 8 ص 101 مع اختلاف يسير في العبارة.
(2) غرائب القرآن و رغائب الفرقان: ج 3 في ذيل الآية 12 من سورة المؤمنون.
(3) تفسير القميّ: ج 2 ص 89.
(4) تفسير الكشاف: ج 3 ص 178.
(5) تفسير أبي السعود: ج 6 ص 126.
92
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثاني و الثلاثين ص 11
..........
الكلّ، فكان خلقه عليه السّلام من الطين خلقا للكلّ منه «1»، و قوله تعالى «ثُمَّ جَعَلْناهُ» أي: الجنس باعتبار أفراده المغايرة لآدم عليه السّلام «2». انته.
و هو تحقيق نفيس.
و قوله: «نطفة» أي بأن خلقناه منها، أو ثمّ جعلنا السلالة نطفة، و التذكير بتأويل الجوهر، أو المسلوك أو الماء.
و قوله: «في قرار» أي في مستقرّ، و هو الرحم، عبّر عنها بالقرار الذي هو المصدر مبالغة.
و قوله تعالى: «مَكِينٍ» و صف لها بصفة ما استقرّ فيها، مثل طريق سالك، أو لمكانتها في نفسها، فإنّها مكنت بحيث هي.
و قوله تعالى: «ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً» أي دما جامدا، قابلا للتمدّد و التخلّق بالزوجة و التماسك بحيث أحلنا النطفة البيضاء علقة حمراء.
و قوله: «فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً» أي قطعة لحم، بأن أحلناها جسما صلبا قابلا للتفصيل و التخطيط و التّصوير و الحفظ.
و قوله: «فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً» أي صلّبناها حتّى اشتدّت، و قبلت الربط، و التوثيق و الإحكام و الضبط.
و قوله: «فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً»، أي من بقية النطفة أو ممّا أنبتنا عليها بقدرتنا ممّا يصل إليها من الدم الغاذي، أي كسونا كلّ عظم من تلك العظام ما يليق به من اللحم، على مقدار لائق به، و هيئة مناسبة له.
و قوله تعالى: «ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ»، أي خلقا آخر مباينا للأوّل، بنفخ الروح، حيث جعله حيوانا، و كان جمادا.
و في الآية دقائق:
__________________________________________________
(1) تفسير أبي السعود: ج 6 ص 93.
(2) تفسير أبي السعود: ج 6 ص 126.
93
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثاني و الثلاثين ص 11
..........
الأولى: عبّر في الأوّل بخلقنا لصدقه على الاختراع و الإيجاد، لعدم سبق المادّة الأصليّة، و في الثاني بجعلنا، لصدقه على تحويل المادة. ثمّ عبّر في الثالثة و ما بعدها كالأوّل، لأنّه أيضا إيجاد ما لم يسبق.
الثانية: أشار بقوله: «سُلالَةٍ»- و هي الخلاصة المختارة من الكيفيّات الأصليّة بعد الامتزاج- إلى أنّ المواليد كلّها أصول للإنسان و أنّه المقصود بالذات، الجامع لأصولها.
الثالثة: قوله: «فَكَسَوْنَا» فيه إشارة إلى أنّ اللحم ليس من أصل الخلقة الملازمة للصورة، بل كالثياب المتّخذة للزينة و الجمال، و أنّ الاعتماد على الأعضاء و النفس خاصّة.
الرابعة: قوله: «ثُمَّ أَنْشَأْناهُ» سمّاه بعد نفخ الروح إنشاء، لأنّه حينئذ قد تحقّق بالصورة الجامعة.
الخامسة: قوله: «خَلْقاً آخَرَ» و لم يقل: إنسانا، و لا آدميّا، و لا بشرا لأنّ النظر فيه حينئذ لما سيفاض عليه من خلع الأسرار الإلهيّة فقدان خروجه من السجن، و إلباس المواهب فقد يتخلّق بالأخلاق الملكيّة فيكون خلقا ملكيّا قدسيّا، أو بالبهيميّة فيكون كذلك، أو بالحجريّة، إلى غير ذلك، فلذلك أبهم الأمر، و أحاله على مشيّته و اختياره، كما صرّح به عليه السّلام بقوله: «كما شئت».
السادسة: عطف جعل النطفة على الطينة بثمّ، لبعد الزمان بينهما لتوليد الأغذية أوّلا، ثمّ التنمية، ثمّ فصل النطفة، ثمّ وضعها في القرار.
و عطف جعل العلقة على النطفة، كذلك لبعد الزمان أيضا لأنّ اكتناف النطفة حتّى تأخذ في التخلّق أمر دقيق، يستدعي زمنا، ثمّ إحاطة الأغشية بها، ثمّ تسليط الحرارة، ثمّ انفتاح فوهات العروق للتغذية النباتيّة.
و عطف الباقي بالفاء التّي لا تقتضي المهلة، لسهولة الانتقال في هذه المراتب، إذ تحوّل العلقة إلى المضغة ليس إلّا بالتصلّب، و هي إلى العظام بزيادته، و اكتساء
94
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثاني و الثلاثين ص 11
..........
العظام اللحم موقوف على الغذاء، و هو متيسّر، فجاء بالفاء نظرا إلى تيسّر الانتقال و سهولته، و إن كان صيرورة العلقة مضغة، و المضغة عظاما يستدعي زمنا.
ثمّ أشار إلى المرتبة السابعة التي هي «النشأة خلقا جديدا» عاطفا لها بالعاطف الأوّل- أعني ثمّ- لأنّها نفخ الأرواح الصادر على جهة الاختراع. فمهلة الزمان هنا مهلة صعوبة و تهويل على سوى الحكيم الأوّل، و حكمته التزام النفوس الإقرار بعظمته القاهرة و قدرته الباهرة، فتنقاد خاضعة، بخلاف العطف الأوّل، فإنّه مع ما ذكر يستدعي طول الزمان.
و الحاصل أنّ ثمّ هنا لترتّب الإنشاء و تراخيه في الإعجاب و ظهور القدرة، لا لترتّب الزمان و تراخيه، بخلافه في الأوّل.
و إنّما وقع العطف كلّه بثمّ في عبارة الدعاء، لأنّ الفاء في الآية الشريفة بمعنى ثمّ، لحصول المهلة و التراخي في معطوفها، نظرا إلى حصوله بتمامه، فإنّه يستدعي مدّة، و إن تفاوتت مدّة التراخي في السرعة و البطء.
و قد نصّ على ذلك ابن هشام في المغني، فقال: الفاءات في «فخلقنا العلقة» و في «فخلقنا المضغة» و في «فكسونا» بمعنى ثمّ لتراخي معطوفاتها «1».
و في جمع الجوامع و شرحه: تقع الفاء موقع ثمّ في إفادته الترتيب بمهلة كقوله تعالى ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً فالفاء في الثلاثة بمعنى ثمّ «2». انته.
و لا ينافي ذلك ما قرّرناه من أنّ اختلاف العواطف في الآية الشريفة للتنبيه على تفاوت الاستحالات، فإنّ التفاوت فيها بالنظر إلى السرعة و البطء و السهولة و عدمها، لا لحصول التراخي و عدمه مطلقا.
__________________________________________________
(1) مغني اللبيب: ص 214- 215.
(2) همع الهوامع شرح جمع الجوامع: ج 2 ص 131.
95
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثاني و الثلاثين ص 11
حتّى إذا احتجت إلى رزقك و لم أستغن عن غياث فضلك جعلت لي قوتا من فضل طعام و شراب أجريته لأمتك الّتي أسكنتني جوفها، و أودعتني قرار رحمها.
قال البدر الدمامينيّ في تحفة الغريب: الذي يظهر من كلام الجماعة أنّ استعمال الفاء فيما تراخى زمان وقوعه عن الأوّل، سواء استقصر في العرف أو لا إنّما هو بطريق المجاز «1». انته.
و للرضيّ رحمه اللّه في ذلك تقرير آخر، فإنّه قال: اعلم أنّ إفادة الفاء للترتيب بلا مهلة لا ينافيها كون الثاني المترتب يحصل بتمامه في زمان طويل، إذا كان أوّل أجزائه متعقّبا لما تقدّم، كقوله تعالى: أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً، فإنّ اخضرار الأرض يبتدئ بعد نزول المطر، لكن يتمّ في مدّة و مهلة فجيء بالفاء. و قال: فتصبح، نظرا إلى أنّه لا فصل بين نزول المطر، و ابتداء الاخضرار، و لو قيل: مثلا ثمّ تصبح الأرض مخضرّة، نظرا إلى تمام الاخضرار، جاز.
و كذا قوله تعالى: ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً، نظرا إلى تمام صيرورتها علقة، ثمّ قال: فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً، فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً نظرا إلى ابتداء كلّ طور. ثمّ قال: ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ، إمّا نظرا إلى تمام الطور الأخير، و إمّا استبعادا لمرتبة هذا الطور الذي فيه كمال الإنسانيّة من الأطوار المتقدّمة «2». انته. كلامه.
و ما قرّرناه أوّلا أولى كما لا يخفى. و اللّه أعلم.
[ 956] حتّى: حرف ابتداء داخل على الجملة بأسرها، و لا عمل له عند الجمهور.
و «إذا»: ظرفيّة كما مرّ مرارا.
__________________________________________________
(1) تحفة الغريب بهامش كتاب المنصف من الكلام: ج 1 ص 317.
(2) شرح الكافية في النحو: ج 2 ص 367.
96
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثاني و الثلاثين ص 11
..........
و الغياث- بالكسر-: اسم من أغاثه اللّه برحمته: إذا كشف شدّته.
و الفضل هنا بمعنى الإفضال و الإحسان.
[ 957] و القوت- بالضمّ:- ما يقوّم به بدن الإنسان من الغذاء.
و فضل فضلا- من باب قتل-: زاد، و «خذ الفضل»، أي الزيادة، أي زيادة طعام و شراب.
و أجريت له نفقة: جعلتها جارية، أي دارّة متّصلة.
و الأمة: المملوكة، و هي محذوفة اللام، و لامها واو، و الأصل أموة، و لهذا تردّ في التصغير فيقال: أميّة، و الأصل أميوه.
و الجوف من كلّ شيء: باطنه و داخله، و جوف الإنسان بطنه.
و أودعت زيدا مالا: جعلته عنده، ليكون وديعة.
و القرار ما قرّ فيه الشيء، أي ثبت و سكر، كالمقرّ.
و في القاموس: مقرّ الرحم: آخرها، و مستقرّ الحمل منه «1»، و الإشارة بذلك إلى ما هيّأه اللّه تعالى للجنين من الغذاء و القوت في بطن أمّه.
قال أبقراط: غذاء الجنين من غذاء أمّه، و إنّما يغتذي بسرّته «2».
و قال شارح الأسباب: الجنين في بطن أمّه يغتذي بدم الطمث، و بعد الخروج باللبن، و هو دم الطمث بعينه. و هذا الدم فضل من فضول بدن الأمّ يغتذي بأجود ما فيه «3».
و قال الشيخ الرئيس في القانون: و اعلم: أنّ دم الطمث في الحامل ينقسم ثلاثة أقسام، قسم ينصرف في الغذاء، و قسم يصعد إلى الثدي، و قسم هو فضل، يتوقف إلى أن يأتي وقت النفاس «4».
__________________________________________________
(1) القاموس المحيط: ج 2 ص 115.
(2) لم نعثر عليه.
(3) لا يوجد لدينا كتابه.
(4) القانون في الطبّ: ج 2 ص 559.
97
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثاني و الثلاثين ص 11
و لو تكلني يا ربّ في تلك الحالات إلى حولي، أو تضطرّني إلى قوّتي، لكان الحول عنّي معتزلا، و لكانت القوّة منّي بعيدة.
فغذوتني بفضلك غذاء البرّ اللطيف، تفعل ذلك بي تطوّلا عليّ و قال البصير الأنطاكيّ: و مبدأ «1» غذاء الجنين من الدم في اليوم الخامس و الستين من وقوع المني في الرحم، و ذلك في ذكر معتدل فتكون «2» منه الدمويّات كاللّحم. و اللّه أعلم.
[ 958] و كلت الأمر إليه و كلا من باب وعد- و وكولا: فوضته إليه، و تركته يقوم به.
و الحول هنا: بمعنى الاحتيال و هو تقليب الفكر حتّى يهتدي إلى المقصود، و القدرة على التصرّف في الأمور.
و اضطرّه إلى كذا: بمعنى ألجأه إليه، و ليس له منه بدّ.
و اعتزل عنه، و اعتزله: تنحّى عنه جانبا، من عزلت الشيء عن غيره- من باب ضرب-: نحّيته عنه.
و بعد القوّة: عبارة عن عدم تأنيّها له، و قدرته عليها، فجعلها بمنزلة من بعد مكانه عنه.
و مفاد هذا الفصل من الدعاء الاذعان له تعالى، و الاعتراف بلطفه به، و اعتنائه بأمره، إذ قام له بما يحتاج إليه في تلك الحالات و الأطوار، التي لا يتمكّن فيها من حول و لا قوّة، و لا يقتدر فيها على جلب منفعة و دفع مضرّة، فسبحانه من خالق حكيم لطيف.
[ 959] غذوت الصبيّ أغذوه: أطعمته الغذاء، و هو ما يغتذى به من طعام و شراب.
و «الفاء» للترتيب الذكريّ، و مفادها كون ما بعدها كلاما مرتّبا على
__________________________________________________
(1) «ألف»: يبدأ
(2) «ألف»: فتتكوّن.
98
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثاني و الثلاثين ص 11
إلى غايتي هذه، لا أعدم برّك، و لا يبطئ بي حسن صنيعك، و لا تتأكّد مع ذلك ثقتي، فأتفرّغ لما هو أحظى لي عندك، قد ملك الشّيطان عناني في سوء الظّن، و ضعف اليقين، فأنا أشكو سوء مجاورته لي، و طاعة نفسي له، و أستعصمك من ملكته.
ما «1» قبلها، إلّا «2» أنّ مضمون ما بعدها عقيب مضمون ما قبلها في الزمان.
و غذاء منصوب على المصدر النوعي كقوله تعالى: فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ «3».
و قال العلامة سنان الچلبيّ: الظاهر أنّه منصوب على المصدر، لا على نزع الخافض، إذ لا ضرورة يصار بها إلى التشبيه «4».
[ 960] و البرّ- بالفتح-: هو العطوف على العباد ببرّه و لطفه.
و اللطيف: هو الذي اجتمع له الرفق في الفعل، و العلم بدقائق المصالح، و إيصالها إلى من قدّرها له. و هو فعيل، من لطف به- من باب طلب- إذا رفق به، و أمّا لطف- بالضمّ- فبمعنى صغر و دقّ.
و جملة قوله عليه السّلام: «تفعل ذلك بي تطوّلا» مستأنفة مبيّنة «5» لوجه جعل القوّة له في تلك الحالة، و غذاؤه إيّاه غذاء البر اللطيف.
و التطوّل: الإفضال و الإحسان، بلا غرض سابق و لا حق.
و نصبه يحتمل المصدريّة و الحاليّة و المفعول لأجله، أي فعل تطوّل، أو متطوّلا، أو للتطوّل.
و الظرف من قوله عليه السّلام: «إلى عنايتي هذه» لغو متعلّق ب «تفعل» أو
__________________________________________________
(1) «ألف»: عليها.
(2) «ألف»: لا.
(3) سورة القمر: الآية 42.
(4) لم نعثر عليه.
(5) «ألف» مبنيّة.
99
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثاني و الثلاثين ص 11
..........
ب «تطوّلا»، أو مستقرّ صفة للتطوّل. و يحتمل أن يكون لغوا متعلّقا بقوله: «لا أعدم» قدّم للاهتمام و العناية، من حيث إنّه بصدد بيان استمرار برّه تعالى به، و اتّصال إفضاله عليه.
و على الأوّل فجملة «لا أعدم برّك» مؤكّدة لفعله به، أو لتطوّله تعالى عليه إلى غايته تلك.
و الأحسن أن تكون مستأنفة على وجه التعليل للحكم باستمرار الفعل، أو التطوّل إلى غايته تلك، أي لأنّي لا أعدم برّك و لا يبطئ بي حسن صنيعك، و نظيره قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا «1».
قال صاحب الكشّاف: يجوز أن تكون جملة «لا يألونكم» صفة للبطانه، كأنّه قيل: بطانة غير آليكم خبالا، و أحسن منه و أبلغ أن تكون مستأنفة على وجه التعليل للنهي عن اتّخاذهم بطانة «2».
قال السعد التفتازانيّ: و ذلك لما في الاستيناف من الفائدة، أي: لا تتّخذوا منهم بطانة، لأنّهم لا يألونكم خبالا «3». انته.
و إن جعلت الظرف مقدّما على متعلّقة فالجملة مستأنفة استئنافا نحويّا، أي منقطعة عمّا قبلها.
و ما أفهمه كلام بعضهم- من احتمال كون الجملتين من قوله: «لا أعدم برك، و لا يبطئ بي حسن صنيعك» دعائيّتين- عن مساق الكلام بمعزل.
و عدمت الشّيء، أعدمه- من باب تعب- فقدته، و الاسم العدم، مثل قفل، و يتعدّى إلى الثّاني بهمزة، فيقال: لا أعدمني اللّه فضله.
و البرّ- بالكسر- الخير و الصلة، و الاتّساع في الإحسان.
و أبطأ الرجل: تأخّر مجيئه.
__________________________________________________
(1) سورة آل عمران: الآية 118.
(2) الكشاف: ج 1 ص 406.
(3) لم نعثر عليه.
100
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثاني و الثلاثين ص 11
..........
و الظرف من قوله «بي» متعلّق ب «صنيعك» لا ب «يبطئ» كما توهّمه غير واحد، لفساد المعنى، لأنّه لا يقال أبطأ به إلّا بمعنى أخّره، كما ورد في الحديث «من أبطأ به عمله لم ينفعه نسبه» «1»، أي: من أخّره عمله السيّئ لم ينفعه في الآخرة شرف نسبه.
و ليس معنى العبارة «و لا يؤخّر بي حسن صنيعك» بل «لا يتأخّر حسن صنيعك بي».
و المنع من تقديم معمول المصدر عليه إنّما هو في غير الظرف و شبهه، كما تقدّم بيانه.
و إن حملت الباء على معنى عند من أثبت ذلك، فهي متعلّقة ب «يبطئ» غير أنّ البصريّين لم يثبتوه.
و الصنيع: الإحسان كما في القاموس «2».
و في رواية «صنعك» و هو بمعناه، يقال: ما أحسن صنع اللّه- بالضمّ- و صنيع اللّه عندك.
و أكّدته تأكيدا فتأكّد، قوّيته فتقوّى، أي و لا تتقوّى مع عدم عدمي برّك، و تأخّر صنيعك بي.
ثقتي بك، أي اعتمادي على وفائك، من وثق به ثقة، أي اعتمد على وفائه.
و «الفاء» من قوله: «فأتفرّغ» للسببيّة، و الفعل بعدها منصوب ب «أن» مضمرة لسبقها بنفي محض، كقوله تعالى: لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا «3».
و تفرّغ للشيء: تخلّى عمّا يشغله عنه.
و حظى عند الناس يحظى- من باب تعب- حظة، و زان عدة و حظوة- بضم
__________________________________________________
(1) النهاية لابن الأثير: ج 1 ص 134.
(2) القاموس المحيط: ج 3، ص 52.
(3) سورة فاطر: الآية 36.
101
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثاني و الثلاثين ص 11
..........
الحاء و كسرها- إذا أحبّوه و رفعوا منزلته فهو حظيّ، على فعيل، و المرأة حظيّة إذا كانت عند زوجها كذلك.
و يتعدّى بالهمزة، فيقال: أحظيته، إذا جعلته حظيّا.
و أحظى من عبارة الدعاء أفعل تفضيل من ذلك، لا من حظى المجرّد. و قد تقدّم في صدر هذه الروضة أنّ بناءه من ذي الزيادة قياس عند سيبويه، كقولهم:
أنت أكرم لي من فلان أي لما هو أشدّ إحظاء لي عندك.
[ 961] و جملة قوله عليه السّلام «قد ملك الشيطان عناني» مستأنفة استينافيا بيانيّا، كأنّه سئل: كيف لا تتأكّد مع ذلك ثقتك؟ فقال: قد ملك الشيطان عناني.
و ملك عنانه: عبارة عن استيلائه عليه و تمكّنه منه، و هي استعارة تمثيليّة أو مكنيّة مرشّحا.
و «في» من قوله: «في سوء الظنّ» للظرفيّة المجازيّة متعلّقة بملك، جعل سوء الظن و ضعف اليقين كالمحلّ لملك الشيطان عنانه.
[ 962] و «الفاء» من قوله: «فأنا أشكو» للسببيّة.
و المجاورة: مصدر جاوره إذا لاصقه في السكن. و مجاورة الشيطان له كناية عن قربه منه دائما، كما نطق به الخبر النبويّ: إنّ الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم» «1»، و في خبر آخر «لو لا أنّ الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السّماوات» «2». و قرب من كان كذلك ظاهر.
و الطاعة: اسم من أطاعه إطاعة، أي انقاد له.
قالوا: و لا تكون الطاعة إلّا عن أمر، كما أنّ الجواب لا يكون إلّا عن قول.
و أستعصمك: أي أسألك العصمة، و هي الحفظ و الوقاية، من عصمه اللّه من
__________________________________________________
(1) سفينة البحار: ج 1 ص 698. و سنن الدارميّ: ج 2 ص 320. و عوالي اللئالي: ج 4 ص 113.
(2) التفسير الكبير لفخر الرازيّ: ج 1 ص 83.
102
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثاني و الثلاثين ص 11
و أتضرّع إليك في أن تسهّل إلى رزقي سبيلا، فلك الحمد على ابتلائك بالنّعم الجسام، و إلهامك الشكر على الإحسان و الإنعام.
المكروه يعصمه- من باب ضرب-، أي حفظه و وقاه.
و الملكة- محرّكة الملك-: مصدر ملكت الشيء».
قال في القاموس: ملكه يملكه ملكا- مثلّثة- و ملكة- محرّكة- احتواه قادرا على الاستبداد به «1». انته.
و قد يفسّر الملك بأنّه اتّصال بين الإنسان و بين شيء يكون مبيحا لتصرّفه فيه، و مانعا عن تصرّف غيره فيه، و هو هنا مجاز عن استيلائه و استحواذه عليه. و اللّه أعلم.
قال شيخنا البهائيّ قدّس سرّه: المراد بهذا الفصل من الدعاء و معناه أنّه كان ينبغي أن يكون وثوقي بك و اعتمادي عليك في إيصال رزقي، و كفاية مهمّاتي مؤكّدا حتّى لا أصرف غالب أوقاتي في السعي في ذلك، بل أكون فارغا مشتغلا بما يوجب زيادة حظّي من عبادتك و الانقطاع إليك، و العكوف على بابك «2». انته.
و من كلام بعض العارفين: من أراد أن يذوق شيئا من أحوال أهل العرفان فليكن كما كان في بطن أمّه مدبّرا غير مدبّر، و مرزوقا من حيث لا يعلم. و اللّه أعلم ().
تضرّع إلى اللّه ابتهل، أي اجتهد و بالغ في الدعاء.
و في القاموس: تضرّع إلى اللّه: ابتهل و تذلّل، أو تعرّض بطلب الحاجة «3».
[ 963] و سهّل اللّه الشيء- بالتشديد- جعله سهلا، غير صعب.
و السبيل هنا، يحتمل أن يكون بمعنى الطريق، و يحتمل أن يكون بمعنى السبب
__________________________________________________
(1) القاموس المحيط: ج 3 ص 320.
(2) مفتاح الفلاح: ص 275.
(3) القاموس المحيط: ج 3 ص 56.
103
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثاني و الثلاثين ص 11
فصلّ على محمّد و آله، و سهّل عليّ رزقي، و أن تقنعني بتقديرك لي و أن ترضيني بحصّتي فيما قسمت لي، و أن تجعل ما ذهب من جسمي و عمري في سبيل طاعتك، إنّك خير الرّازقين.
و الوصلة، و منه قوله تعالى: يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا «1».
قال الجوهريّ: أي سببا و وصلة «2».
و الذي ذكره المفسّرون: أنّه بمعنى الطريق.
و «الفاء» من قوله: «فلك الحمد» للترتيب الذكريّ، نحو: فَنِعْمَ الْماهِدُونَ «3».
و النعم: جمع نعمة، و هي ما قصد به الإحسان و النفع.
و في مجمل اللغة: النعمة: اليد البيضاء الصالحة «4».
و نعمة اللّه: ما أعطاه العبد ممّا لا يمكن غيره أن يعطيه كالسمع و البصر.
و جسم الشيء جسامة، كضخم ضخامة: عظم فهو جسيم، و هي جسيمة، و الجمع جسام.
[ 964] و الإلهام: أن يلقي اللّه في نفس العبد بطريق الفيض أمرا يبعثه على الفعل أو الترك. قالوا: و هو نوع من الوحي يخصّ اللّه به من يشاء من عباده.
و الإحسان: فعل ما يحسن فعله من الخير.
و الإنعام: إيصال النّعمة.
و تسهيل الرزق: تيسيره.
و قوله عليه السّلام: «و أن تقنعني» معطوف على قوله سابقا: «أن تسهّل إلى رزقي سبيلا». و في رواية: «و اقنعني بتقديرك» و هو معطوف على ما قبله و هو قوله:
__________________________________________________
(1) سورة الفرقان: الآية 27.
(2) الصحاح: ج 5 ص 1724.
(3) سورة الذاريات: الآية 48.
(4) محكم اللغة: ج 9 ص 78.
104
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثاني و الثلاثين ص 11
..........
«و سهّل عليّ رزقي».
و قنع بالشيء يقنع قنعا و قناعة- من باب تعب-، رضي به، و يتعدّى بالهمزة، فيقال: أقنعني، و قد يعدّى بالتضعيف كما وردت به الرواية الأولى في الدعاء.
قال الزمخشريّ في الأساس: قنع بالشيء، و أقتنع، و تقنّع «1». انته.
فقوله: «و تقنّع» مطاوع قنّعه بالتضعيف. و يحتمل أن يكون التضعيف في عبارة الدعاء للتكثير و التأكيد.
و تقدير الشيء: جعله بمقدار خاصّ، و المراد هنا تقدير رزقه المخصوص بمقدار خاصّ.
[ 965] و الحصّة- بالكسر- النصيب.
و قسم اللّه له الرزق: عيّنه و فرزه من غيره حسب ما تقتضيه مشيئته و حكمته تعالى، كما قال تعالى نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ رَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ «2».
و «أن تجعل»: أي تصيّر، من الجعل بمعنى التصيير المتعدّي إلى مفعولين نحو:
جعلت الفضّة خاتما، و أوّل المفعولين: «ما ذهب» و الثاني: الظرف، و التقدير:
كائنا في سبيل طاعتك، فإنّ خبر صار في الحقيقة هو الكون المقدّر العامل في الظرف.
و الغرض سؤاله تعالى أن تصير جملة ما ذهب من جسمه و عمره معدودا في سبيل طاعته، بتبديل ما ذهب فيه منهما من غير الطاعة طاعة، من باب تبديل السيّئات حسنات، كما قال تعالى: إِلَّا مَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ عَمَلًا صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ «3».
__________________________________________________
(1) أساس البلاغة: ص 524.
(2) سورة الزخرف: الآية 32.
(3) سورة الفرقان: الآية 70.
105
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثاني و الثلاثين ص 11
اللّهُمَّ إنّي أعوذ بك من نار تغلّظت بها على من عصاك و توعّدت بها من صدف عن رضاك، و من نار نورها ظلمة، و هيّنها أليم، و بعيدها قريب.
و جملة قوله عليه السّلام: «إنّك خير الرازقين» تعليل لما تقدّم من السؤال، و تحريك لسلسلة الإجابة.
و كونه تعالى خير الرازقين، لأنّه خالق الأرزاق و معطيها بلا عوض، و لأنّه يعطي المزيد من يشكره على رزقه.
قال العلامة الطبرسيّ في قوله وَ ارْزُقْنا وَ أَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ «1»: في هذا دلالة على أنّ العباد قد يرزق بعضهم بعضا، لأنّه لو لم يكن كذلك لم يصحّ أن يقال له سبحانه: أنت خير الرازقين، كما لا يجوز أن يقال: أنت خير الالهة، لما لم يكن غيره إلها «2»، و اللّه أعلم.
[ 966] غلظ الشيء- بالضمّ- غلظا- كعنب-: خلاف رقّ، و غلظ على خصمه و تغلّظ عليه: تشدّد. و منه يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَ الْمُنافِقِينَ وَ اغْلُظْ عَلَيْهِمْ* «3».
و توعّده: تهدّده.
و صدف عنه يصدف- من باب ضرب- صدوفا: أعرض.
و الباء في الموضعين مثلها في كتبت بالقلم، و قطعت بالسكين.
قال الزمخشريّ في الكشّاف: و النار جوهر لطيف مضيء، حارّ محرق، و النور ضوؤها و ضوء كلّ نيّر، و هو نقيض الظلمة. و اشتقاقها من نار ينور، إذا نفر، لأنّ فيها حركة و اضطرابا، و النّور مشتق منها «4»، و الظلمة عبارة عن عدم النور و انطماسه «5». انته.
قال صاحب الكشف: أورد عليه أنّ الإضاءة لا تعتبر في حقيقتها، و ليست
__________________________________________________
(1) سورة المائدة: الآية 114.
(2) مجمع البيان: ج 3- 4 ص 265.
(3) سورة التوبة: الآية 73.
(4) تفسير الكشاف: ج 1 ص 73.
(5) تفسير الكشاف: ج 1 ص 74.
106
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثاني و الثلاثين ص 11
..........
شاملة لما ثبت في الكتب الحكمية أنّ النار الأصليّة حيث الأثير شفّافة، لا لون لها، و كذلك أورد بعضهم في الإحراق.
و الجواب أنّ البحث فيما وضع له اللفظ بحسب اللغة، و لا شك في اعتبار هذا المجموع فيه. و أمّا النار التي عند الأثير فمن يسلّم وجودها؟ و إن سلّم، فأنّى لأجلاف العرب العلم بها، إن قلنا: إنّ الأسماء اصطلاحيّة، و إن قلنا: إنّها توقيفيّة فلا شكّ أنّها لإعلام من يقصد بالخطاب، و أنّ العرب توارثها صاغرا عن كابر إلى أن انته إلى ذلك الموحى إليه و الملهم. و حيث لم يعلمهم بأنّ اللفظ موضوع لذلك أيضا، أو للقدر المشترك، دلّ على أنّه بمعزل عن نظره في هذا الإطلاق، و إن كان عالما به كما هو.
و أمّا الإحراق فلا شكّ أنّه من أخصّ أوصافها، التي إذا زال عنها لم يميّز بينها و بين ذي ضوء آخر. اللّهمّ إلّا أن يسبق العلم بأنّ عدم الإحراق لمانع، كنار الخليل صلوات اللّه عليه.
و قوله: «و النّور ضوؤها فيه توسّع. و التحقيق أنّ الضّوء فرع النور، يطلق على الشعاع المنبسط، و النور يطلق على ما للشيء في نفسه كالنور القائم بنفس الشمس، و لهذا يقع على الذوات الجوهريّة، بخلاف الضوء.
و قوله: «و الظلمة عبارة عن عدم النور» هو المطابق للّغة و عليه المحقّقون، و زيادة عمّا من شأنه النور غير مسموعة «1». انته.
قال السعد التفتازانيّ: إذا أجري عدم النور على إطلاقه كان بين النور و الظلمة تقابل الإيجاب و السلب، و إن زيد عمّا من شأنه فبينهما تقابل الملكة و العدم، و عند بعض المتكلّمين هي عرض ينافي النور، فبينهما تقابل التضادّ «2». انته.
و هي على هذا وجوديّة، و على الأوّلين عدميّة. و على التقادير يصحّ أنّ النور
__________________________________________________
(1) لا يوجد لدينا كتاب الكشف.
(2) لم نعثر عليه.
107
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثاني و الثلاثين ص 11
..........
نقيض للظلمة، أي: مناف لها.
إذا عرفت ذلك فقوله عليه السّلام: «و من نار نورها ظلمة» وصف لتلك النار بما يميّزها عن نيران الدنيا، و يبيّن هولها و فظاعة أمرها، إذ كان النور لا ينفكّ عن شيء من النيران المعهدة، و كون نورها ظلمة ممّا يهول النفوس، و يروع القلوب.
و المعنى: أنّه لا نور لها، بل هي سوداء مظلمة، و إنّما عبّر عن ذلك بقوله: «نورها ظلمة»، لما تقرّر في النفوس من أنّ النار لا تكون إلّا ذات نور، فحكم بأنّ نور هذه النار ظلمة، لعدم استنارتها و إشراقها، بمعنى أنّ الظلمة فيها بمنزلة النور. و لم يقل:
لا نور لها لئلا يتوهّم أنّها شفّافة لا ضوء لها، كما يقوله الحكماء في كرة الأثير.
و قد ورد في الحديث ما يطابق معنى هذه الصفة لنار الآخرة.
روى الترمذيّ و غيره أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: اوقد على النار ألف سنة حتّى احمرّت، ثمّ أوقد عليها ألف سنة حتّى ابيضّت، ثمّ أوقد عليها ألف سنة حتّى اسودّت، فهي سوداء مظلمة «1».
زاد في رواية: كسواد الليل «2».
و في رواية فهي أشدّ سوادا من القار «3». أي «4» الزفت.
و في حديث آخر: أنّ جهنّم سوداء مظلمة، لا ضوء لها و لا للهبها «5».
و كان سلمان الفارسي- رضي اللّه عليه- يقول: نار الآخرة سوداء مظلمة لا يضيء لهبها و لا حرّها «6».
__________________________________________________
(1) سنن الترمذيّ: ج 4 ص 710 ح 2591.
(2) الترغيب و الترهيب: ج 4 ص 464 ح 28.
(3) الترغيب و الترهيب: ج 4 ص 464.
(4) «ألف» يعنى.
(5) الترغيب و الترهيب: ج 4 ص 458 ح 15 مع اختلاف يسير في العبارة.
(6) الترغيب و الترهيب: ج 4 ص 465 ح 30 الا انه. «عن أنس».
108
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثاني و الثلاثين ص 11
..........
[ 967] قوله عليه السّلام «و هيّنها أليم» هان الشيء هونا: لان و سهل، فهو هيّن.
و الأليم: الموجع. قال العلّامة الطبرسيّ: هو فعيل بمعنى مفعل، كالسميع بمعنى المسمع، و النذير: بمعنى المنذر، و البديع: بمعنى المبدع «1».
و قال الجوهريّ: الأليم المؤلم، مثل السميع بمعنى المسمع «2».
و في القاموس: الأليم المؤلم، و من العذاب الذي يبلغ إيجاعه غاية البلوغ.
انته «3».
و ما قاله بعضهم من أنّ فعيلا بمعنى المفعل ليس يثبت لا التفات إليه بعد نصّ أساطين أهل اللغة عليه. و المعنى ظاهر.
و عن ابن عبّاس لو أنّ قطرة من الزقّوم قطرت في الأرض، لأمرّت على أهل الأرض معيشتهم، فكيف بمن هو طعامه، ليس له طعام غيره «4».
قوله عليه السّلام: «و بعيدها قريب» يحتمل وجوها من التفسير:
أحدها: أن يكون المراد بالبعيد ما يستبعد وقوعه، و يستعظم شأنه، و بالقريب خلافه.
قال ابن الأثير في النهاية: يقال: هذا أمر بعيد، أي لا يقع مثله لعظمه «5».
فيكون المعنى: أنّ ما تستبعده العقول من أمرها قريب الوقوع فيها، لا بعد فيه، فاعتبار البعد و القرب بالنسبة إلى الإمكان.
و به فسر الزمخشريّ و غيره قوله تعالى في سورة المعارج: إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَ نَراهُ قَرِيباً، قال في الكشّاف: المراد بالبعيد البعيد من الإمكان، و بالقريب القريب
__________________________________________________
(1) مجمع البيان: ج 1- 2 ص 48.
(2) الصحاح: ج 5 ص 1863.
(3) القاموس المحيط: ج 4 ص 75.
(4) سنن ابن ماجة: ج 2 ص 1446 مع اختلاف يسير في العبارة.
(5) النهاية لابن الأثير: ج 1 ص 140.
109
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثاني و الثلاثين ص 11
و من نار يأكل بعضها بعضا، و يصول بعضها على بعض، و من نار تذر العظام رميما، و تسقى أهلها حميما.
منه «1».
الثاني: أنّ البعيد منها مكانا لا يمنعه بعده من إصابة حرّها و عذابها، بل هو قريب بالنسبة إليها، كما روي: لو أنّ رجلا كان بالمشرق، و جهنّم بالمغرب، ثمّ كشف عن غطاء منها لغلت جمجمته «2».
و في رواية: لو كان أحدكم بالمشرق، و كانت النار بالمغرب ثمّ كشف عنها لخرج دماغ أحدكم من منخريه من شدّة حرّها «3».
الثالث: أن يكون تلميحا إلى قوله تعالى في العنكبوت: يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ «4»، أي محيطة بهم الآن، تنزيلا لشيء سيقع قريبا منزلة الواقع.
و قيل: هو على حقيقته من معنى الحال، فإنّ مبادئ إحاطة النار بهم من الكفر و المعاصي المتشكّلة في هذه النشأة بصورة الأعمال و الأخلاق، هي بعينها جهنّم الّتي ستظهر في النشأة الأخرويّة بصورة النار و عقاربها و حيّاتها، كما نصّ عليه كثير من أرباب العرفان.
و كون بعيدها قريبا على هذين القولين ظاهر، لا خفاء به. و اللّه أعلم بمقاصد أوليائه.
الأكل حقيقة: بلغ الطعام بعد مضغه، ثمّ استعير للإحراق في النار.
قال الزمخشري في الأساس: و من المجاز أكلت النار الحطب. و اتكلت النار اشتدّ التهابها، كأنّما يأكل بعضها بعضا «5». انته.
__________________________________________________
(1) الكشّاف: ج 4 ص 609.
(2) سفينة البحار: ج 2 ص 619.
(3) سفينة البحار: ج 2 ص 619.
(4) سورة العنكبوت: الآية 54.
(5) أساس البلاغة: ص 19.
110
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثاني و الثلاثين ص 11
..........
و في الحديث عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: اشتكت النار إلى ربّها، فقالت: ربّ، أكل بعضي بعضا، فجعل لها نفسين، نفسا في الشتاء، و نفسا في الصيف، فشدة ما تجدون من البرد من زمهريرها، و شدّة ما تجدون من الحرّ من سمومها «1».
و صال على قرنه يصول صولا حمل عليه و سطا به، و في خطبة لأمير المؤمنين عليه السّلام: «أ علمتم أنّ مالكا إذا غضب على النار حطم بعضها بعضا لغضبه» «2».
قال ابن أبي الحديد: و حطم بعضها بعضا: كسره أو أكله «3».
[ 968] و تذر العظام رميما، أي تتركها رميما من «و ذرت الشيء أذره وذرا، أي تركته». قالوا: و أماتت العرب ما ضيه و مصدره، فإذا أريد الماضي قيل: ترك، و لا يستعمل منه اسم الفاعل.
و رمّ العظم يرمّ- من باب ضرب-، إذا بلى، فهو رميم.
قال الجوهريّ: و إنّما قال تعالى: قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ، لأنّ فعيلا و فعولا قد يستوي فيهما المذكّر و المؤنّث و الجمع، مثل رسول و عدوّ و صديق «4».
و قال الزمخشريّ في الكشّاف: الرميم اسم لما بلي من العظام غير صفة، كالرمّة و الرفات، فلا يقال: لم يؤنّث، و قد وقع خبرا لمؤنّث، و لا هو فعيل بمعنى فاعل أو مفعول «5».
و الحميم: الماء الحار الشديد الحرارة، و قد تكرّر ذكره في القرآن المجيد.
و إسناد السقي إلى النار مجاز عقليّ، لأنّها سبب لشربهم له. و اللّه أعلم.
__________________________________________________
(1) سنن ابن ماجة: ج 2 ص 1444 ح 4319.
(2) نهج البلاغة: ص 267، الخطب 183.
(3) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 10 ص 124.
(4) الصحاح: ج 5 ص 1937.
(5) الكشّاف: ج 4 ص 31.
111
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثاني و الثلاثين ص 11
و من نار لا تبقي على من تضرّع إليها، و لا ترحم من استعطفها، و لا تقدر على التّخفيف عمّن خشع لها و استسلم إليها، تلقى سكّانها بأحرّ ما لديها من أليم النّكال، و شديد الوبال.
قال ابن الأثير في النهاية: في حديث الدعاء «لا تبقي من تضرّع إليها»، يعني النار، يقال: أبقيت عليه، أبقى، إبقاء: إذا رحمته، و اشفقت عليه. و الاسم البقيا «1».
و قال الجوهريّ: أبقيت على فلان إذا أرعيت عليه، و رحمته، يقال: لا أبقى اللّه عليك إن أبقيت عليّ و الاسم منه البقيا، قال:
و ما بقيا عليّ تركتماني و لكن خفتما صرد النبال «2»
و استعطفه: سأله أن يعطف عليه، أي يشفق عليه، و يرقّ له.
[ 969] و قدر على الشيء يقدر- من باب ضرب-: قوي عليه و تمكّن منه.
و خشع له يخشع خشوعا: ذلّ و خضع.
و استسلم: أذعن له و انقاد.
و التخفيف: أعمّ من أن يكون كمّا و كيفا. فما وقع في بعض التفاسير في قوله تعالى: خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ* «3»، أنّ الجملة «لا يخفّف» مستأنفة لبيان كثرة عذابهم من حيث الكيف، إثر كثرته من حيث الكمّ، ليس بمتعيّن.
و الجملة من قوله: «تلقى سكّانها» مستأنفة استئنافا بيانيّا، كأنّه سئل: كيف لا تبقي على من تضرّع إليها، فقال: تلقى سكّانها بأحرّ ما لديها.
و النكال- بالفتح- العقوبة التي ينكل الناس عن فعل ما جعلت له جزاء من نكل عن الأمر، إذا أحجم و امتنع.
__________________________________________________
(1) النهاية لابن أبي الأثير: ج 1 ص 147.
(2) الصحاح: ج 6 ص 2283.
(3) سورة البقرة: الآية 162.
112
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثاني و الثلاثين ص 11
و أعوذ بك من عقاربها الفاغرة أفواهها، و حيّاتها الصّالقة بأنيابها، و قال الزمخشريّ في الأساس: نكل عن العدوّ نكولا، و نكلته عن كذا: فطمته، و نكّلت به تنكيلا، جعلت غيره ينكل أن يفعل مثل فعله، و هو النكال «1».
و الوبال: سوء العاقبة. قال الفيّوميّ: الوبال- بالفتح- من وبل المرتع- بالضمّ- وبالا و وبالة. بمعنى وخم، سواء كان المرعى رطبا، أو يابسا. و لمّا كان عاقبة المرعى الوخيم إلى شرّ، قيل في سوء العاقبة: وبال «2».
و في الأساس: أخذ وبيل: شديد. و منه الوبال لسوء العاقبة «3».
و في القاموس: الوبال: الشدّة، و الثقل «4».
و في الحديث: إنّ النار تأكل أهلها حتّى إذا اطلعت على أفئدتهم، انتهت، ثمّ تعود كما كانت ثمّ تستقبل العبد أيضا، فتطلع على فؤاده، فهي كذلك أبدا «5»، نعوذ باللّه من النار.
(تنبيه) تكرير ذكر النار مع أنّ المراد بها نار واحدة، للإيذان بأنّ كلّ واحدة من الصفات المذكورة صفة هائلة خطيرة، جديرة بأن يفرد لها موصوف مستقلّ، و لا تجعل كلّها لموصوف واحد. و اللّه أعلم.
[ 970] العقارب: جمع عقرب، و هي دويبة من ذوات السموم تكون للذكر و الأنثى بلفظ واحد، و قد يقال للأنثى: عقربة و عقرباء- ممدودا-، غير مصروف.
و فغر فوه فغرا- من باب نفع-: انفتح، و فغر فاه: فتحه، يتعدّى و لا يتعدّى.
و الرواية في الدعاء بضمّ أفواهها و فتحها على الوجهين.
__________________________________________________
(1) أساس البلاغة: ص 655.
(2) المصباح المنير: ص 889.
(3) أساس البلاغة: ص 664.
(4) القاموس المحيط: ج 4 ص 63.
(5) الاختصاص: 357.
113
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثاني و الثلاثين ص 11
و شرابها الّذي يقطّع أمعاء و أفئدة سكّانها، و ينزع قلوبهم، و أستهديك لما باعد منها، و أخّر عنها.
و الحيّات: جمع حيّة، و هو اسم يطلق على الذكر و الأنثى فإن أردت التمييز، قلت: هذا حيّة ذكر، و هذه حيّة أنثى.
قال المبرّد في الكامل: و إنّما دخله الهاء، لأنّه واحد من جنس كبطة و دجاجة.
على أنّه قد روي عن بعض العرب، رأيت حيّا على حيّة، أي ذكرا على أنثى «1».
و صلق صلقا- من باب ضرب-: صوّت صوتا شديدا، كأصلق إصلاقا و صلق الفحل بنابه، و اصطلق: صوّت.
قال الجوهريّ: و أصلق لغة في صلق، و منه قول العجّاج يصف الحمار: أصلق ناباه صياح العصفور، و الفحل يصطلق بنابه، و ذلك صريفه. انته «2».
قال الزمخشري في الفائق: الصريف: ان يشدّ نابا على ناب فيصوتا. و هو في الفحولة من إيعاد، و في الإناث من إعياء، و ربّما كان من نشاد «3». انته.
فمعنى قوله عليه السّلام «الصالقة بأنيابها» أي الصارفة بها. و هو أولى من تفسيره بالضاربة، من قولهم: صلقه بالعصا، أي: ضربه بها، لأنّ في الصّريف من التحويل ما ليس في الضرب.
و قد تواترت الأخبار بعقارب النار و حيّاتها، نعوذ باللّه منها.
فروي: إنّ جهنّم واديا يدعى أثاما، فيه حيّات و عقارب في كلّ فقارة من ذنب ذلك العقرب من السمّ أربعون قلّة، كلّ عقرب منهنّ قدر البغلة الموكفة «4»، يلدغ الرجل فينسى حرّ جهنّم من حرارة لدغتها «5».
و في رواية: إنّ في جهنّم نهرا يسمّى موبقا يسيل نارا على حافتيه حيّات مثل
__________________________________________________
(1) لا يوجد لدينا الكتاب المذكور.
(2) الصحاح: ج 4 ص 1509.
(3) الفائق في غريب الحديث: ج 2 ص 295.
(4) الموكفة: الضخمة السمينة غزيرة اللحم.
(5) الترغيب و الترهيب: ج 4 ص 469 مع اختلاف يسير.
114
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثاني و الثلاثين ص 11
..........
البغال الدهم. فإذا ثارت إليهم لتأخذهم استغاثوا منها بالاقتحام في النار «1».
و في رواية: إنّ لجهنّم ساحلا كساحل البحر، فيه هو أمّ حيّات كالبخت، و عقارب كالبغال الدهم، نعوذ باللّه منها «2».
[ 971] و الأمعاء: جمع معي- بالكسر، و قصره أشهر من المدّ، و ألفه ياء، لأنّ مثنّاه معيان، و تذكيره أكثر من التأنيث، فيقال: هو المعا و هو المصران، و جمع الممدود أمعية، كحمار و أحمرة.
و الأفئدة: جمع فؤاد، و هو القلب، و قيل: هو ما يتعلّق بالمريء من كبد و رئة و قلب.
و نزعته من موضعه نزعا، من باب ضرب: قلعته.
و قوله عليه السّلام: «يقطّع أمعاء و أفئدة سكّانها»، و من باب إضافة المفردين إلى اسم ظاهر بجعل الأوّل مضافا في النيّة، دون اللفظ، و الثاني في اللفظ و النية معا، نحو: غلام و ثوب زيد، و هو كثير في كلامهم، نثرا و نظما، و شاهده من الحديث قول النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «تحيّضي في علم اللّه ستة أو سبعة أيّام» و من كلام العرب نثرا قول بعضهم: قطع اللّه يد و رجل من قالها. و قولهم: خذ ربع و نصف ما حصل، و من الشعر قوله:
يا من رأى عارضا أسرّ به بين ذراعي و جبهة الأسد «3»
فذهب المبرّد و أكثر المتأخّرين إلى أنّ ذلك كلّه على حذف المضاف إليه من الأوّل لفظا، لانيّة، لدلالة الثاني عليه «4»: و لذلك قال بعضهم: إنّ هذه المسألة لها شبه بباب التنازع، فإنّ المضافين يتنازعان المضاف إليه، فأعمل الثاني لقربه، و حذف معمول الأوّل، لأنّه فضلة.
__________________________________________________
(1) الدر المنثور: ج 4 ص 228.
(2) سفينة البحار: ج 2 ص 620.
(3) مغني اللبيب: ص 498 رقم الشاهد: 707.
(4) شرح الكافية في النحو: ج 1 ص 292.
115
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثاني و الثلاثين ص 11
..........
و اشترط الفراء فيها اصطحاب المضافين، كالأمعاء و الأفئدة في عبارة الدعاء، و الستة و السبعة في الحديث، و اليد و الرجل، و الربع و النصف، و الذراع و الجبهة، بخلاف غلام و ثوب، فلا يقال: اشتريت غلام و ثوب زيد.
و ذهب سيبويه إلى أنّ ذلك من باب الفصل بين المضاف و المضاف إليه، و الأصل في نحو: خذ ربع و نصف ما حصل، خذ ربع ما حصل و نصفه، ثمّ أقحم و نصفه بين المضاف و المضاف إليه، فصار: ربع و نصفه ما حصل، ثمّ حذفت الهاء إصلاحا للّفظ، فصار: ربع و نصف ما حصل.
قال الرضيّ: و مذهب المبرّد أقرب، لما يلزم سيبويه من الفصل بين المضاف و المضاف إليه في السّعة «1».
و مضمون هذه العبارة من الدعاء نطق به القرآن المجيد في مواضع، منها قوله تعالى في سورة محمّد صلّى اللّه عليه و آله: وَ سُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ «2»، و قوله سبحانه في سورة الحجّ: «يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ. يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَ الْجُلُودُ «3»، أي يذاب بذلك الحميم ما في بطونهم من الأمعاء و الأحشاء.
روي: أنّه يصبّ على رءوسهم الحميم فينفذ إلى أجوافهم فيسلت ما فيها «4».
و في الحديث في قوله تعالى: «وَ يُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ وَ لا يَكادُ يُسِيغُهُ»، قال: يقرّب إلى فيه، فإذا دنا من وجهه شوى وجهه، و وقعت فروة رأسه، فإذا شربه قطع أمعاءه حتّى تخرج من دبره «5»، و الأخبار في هذا المعنى كثيرة.
قوله عليه السّلام «و أستهديك لما باعد منها، و أخّر عنها».
استهداه: طلب أن يهديه، و الغرض سؤال التوفيق للطاعة الموجبة للنجاة من النار.
و باعد بمعنى أبعد، و فيه تلميح إلى قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا
__________________________________________________
(1) شرح الكافية في النحو: ج 1 ص 293.
(2) سورة محمّد: الآية 15.
(3) سورة الحجّ: الآية 19- 20.
(4) مجمع البيان: ج 7- 8 ص 78.
(5) سنن الترمذي: ج 4 ص 705.
116
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثاني و الثلاثين ص 11
..........
الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ» «1»، قيل: المراد بالحسنى التوفيق للطاعة و بالإبعاد عنها: الإبعاد من عذابها، لا عن نفسها، إذ لا بدّ لكلّ أحد من ورودها بنصّ قوله تعالى: وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا. ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَ نَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا «2».
و استشكل بأنّ المؤمنين كيف يردون النار؟
و أجيب بما روي عن جابر بن عبد اللّه أنّه سأل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن ذلك، فقال: إذا دخل أهل الجنّة الجنّة، قال بعضهم لبعض، أ ليس وعدنا ربّنا أن نرد النّار؟ فيقال لهم: قد وردتموها و هي خامدة «3».
و عنه أيضا أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، قال: الورود الدخول، لا يبقى برّ و لا فاجر إلّا دخلها، فتكون على المؤمنين بردا و سلاما، كما كانت على إبراهيم عليه السّلام، حتّى أنّ للنار ضجيجا من بردها «4».
و في رواية: أنّ النار تقول للمؤمن يوم القيامة: جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي «5».
فان قيل: ما الفائدة في إيراد المؤمنين النار، إذا لم يتعذّبوا بها؟
قيل: فيه وجوه:
منها: أن يزدادوا سرورا إذا رأوا الخلاص منها.
و منها: افتضاح الكافرين إذا اطلع المؤمنون عليهم.
و منها: أنّ المؤمنين يوبّخون الكفّار، و يسخرون منهم، كما سخروا منهم في الدنيا.
و منها: أن يزيد التذاذهم بالجنّة و نعيمها، فبضدها يتبيّن الأشياء.
__________________________________________________
(1) سورة الأنبياء: الآية 101.
(2) سورة مريم: الآية 71- 72.
(3) تفسير الكشّاف: ج 3 ص 35.
(4) مجمع البيان: ج 5- 6 ص 526.
(5) مجمع البيان: ج 5- 6 ص 526.
117
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثاني و الثلاثين ص 11
اللّهمّ صلّ على محمّد و آله، و أجرني منها بفضل رحمتك، و أقلني عثراتي بحسن إقالتك، و لا تخذلني، يا خير المجيرين، إنّك تقي الكريهة، و تعطي الحسنة، و تفعل ما تريد، و أنت على كلّ شيء قدير.
و قيل: المراد بالإبعاد عنها، أنّهم لا يدخلون النار، و لا يقربونها البتّة، لأنّ من جعل بعيدا عن شيء ابتداء، يحسن أن يقال: إنّه أبعد عنه.
و هؤلاء لم يفسروا الورود في قوله تعالى: وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها بالدخول، و احتجّوا بقول ابن عباس: قد يرد الشيء الشّيء و لم يدخله، كقوله تعالى: وَ لَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ «1»، و معلوم أنّ موسى عليه السّلام لم يدخل الماء، و لكنّه قرب منه، فالمراد بالورود جثّوهم حولها.
و عن ابن مسعود «2» و الحسن «3» و قتادة «4» هو الجواز على الصراط، لأنّ الصراط ممدود عليها.
و قيل: هو مسّ الحمّى في الدنيا، لقوله عليه السّلام: الحمّى من قيح جهنّم.
و في رواية: الحمّى حظ كلّ مؤمن من النار «5». و اللّه أعلم.
قوله عليه السّلام «و أخّر عنها» أخّرته ضدّ قدّمته، فتأخّر، هذا هو الأصل، لكنّه إذا عدّي ب «عن»، فالمراد التنحية و الإبعاد، يقال: أخّر عنّي جهلك، أي نحّه و أبعده. و قد يستعمل بمعنى التخليف، تقول: ما أخّرك عن صلاة الجماعة، أي ما خلّفك و أقعدك حتّى لم تحضرها.
و هذه الفقرة تأكيد للّتي قبلها. و اللّه أعلم.
[ 972] أجرني: أي أعذني و آمنّي منها، يقال: أجاره ممّا يخاف، أي أعاذه و آمنه.
و الفضل: الزيادة، أي بمزيد رحمتك.
__________________________________________________
(1) سورة القصص: الآية 23.
(2) تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان: ج 2 ص 517.
(3) تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان: ج 2 ص 517.
(4) تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان: ج 2 ص 517.
(5) تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان: ج 2 ص 517.
118
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثاني و الثلاثين ص 11
اللّهمّ صلّ على محمّد و آله إذ ذكر الأبرار، و صلّ على محمّد و آله ما اختلف الليل و النّهار، صلاة لا ينقطع مددها، و لا يحصى و أقال اللّه عثرته: رفعه من سقوطه. و منه: الإقالة في البيع، لأنّها رفع للعقد.
و العثرات: جمع عثرة، و هي في الأصل المرّة من عثر الرجل يعثر من باب قتل، أي كبا و سقط. و المراد بها هنا الخطيئة و الزلّة، لأنّها سقوط في الإثم.
و خذله خذلا- من باب قتل-: ترك نصرته و إعانته، و الاسم الخذلان- بالكسر-:
[ 973] و وقاه اللّه السوء يقيه وقاية- بالكسر-: حفظه منه.
و الكريهة: النازلة و الشدّة. يقال: لقيت منه كرايه الدهر، أي نوازله و شدائده.
الحسنة: ضدّ السيّئة.
و تفعل ما تريد: أي كلّ ما تريده، لا يمنعك مانع، و لا تعجز عن شيء.
و الجمل المتعاطفة المبدوء أوّلها بحرف التأكيد كلّها تعليل للدعاء، و مزيد استدعاء للإجابة بطريق التحقيق. و الجملة الأخيرة تذييل مقرّر لما قبله، من وقايته الكريهة، و إعطائه الحسنة، و فعله ما يريد. فإنّ كمال قدرته تعالى على جميع الأشياء موجب لقدرته تعالى على ذلك.
[ 974] «إذا» ظرف زمن مستقبل، متضمّنه معنى الشرط. و جوابها هنا محذوف وجوبا للاستغناء عنه بما دلّ عليه متقدّما، و هو قوله: «صلّ على محمّد و آله». و التقدير:
إذا ذكر الأبرار فصلّ على محمّد و آله.
و إنّما لم يجعل المتقدّم جوابا، لأنّ للشرط صدر الكلام، فلم يجز تقديم جوابه عليه، هذا مذهب البصريّين.
و ذهب الكوفيّون إلى أنّ المتقدّم هو الجواب، و إنّما لم يصدّر بالفاء لتقدّمه.
و ذهب ابن عصفور إلى أنّ «إذا» الشرطية تفيد التكرار ككلّما. فإذا قلت: «إذا جاءك زيد فأكرمه» أفادت: أنّ كلّما جاءك زيد فأكرمه، و قال: هذا هو
119
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثاني و الثلاثين ص 11
عددها، صلاة تشحن الهواء، و تملأ الأرض و السّماء، صلّى اللّه عليه حتّى يرضى، و صلّى اللّه عليه و آله بعد الرّضا، صلاة لاحدّ لها و لا منته، يا أرحم الراحمين.
الصّحيح.
و على هذا فمعنى عبارة الدعاء: صلّ على محمّد و آله كلّما ذكر الأبرار، و هو حسن.
فإن قلت: لأيّ معنى قيّد الصّلاة عليهم بزمان ذكر الأبرار؟
قلت: لأمرين: أحدهما: أنّه زمان فيض و رحمة، كما ورد في الحديث، عند ذكر الصّالحين تنزل الرّحمة.
الثاني: إظهار عظمتهم و كرامتهم لديه سبحانه، إذ كانوا سادات الأبرار و رؤساءهم.
قوله عليه السّلام «ما اختلف الليل و النهار» «ما» مصدريّة ظرفيّة، أي مدّة اختلاف الليل و النهار.
و اختلافهما: إمّا بمعنى تعاقبهما مجيئا و ذهابا، و كون كلّ منهما خلفا للآخر كقوله تعالى: وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ خِلْفَةً «1»، أي ذوي خلفة يخلف كلّ منهما الآخر، بأن يقوم مقامه، و هي اسم للحالة من خلفه، أي: قام مقامه، كالركبة و الجلسة- بالكسر فيهما- من «ركب و جلس».
أو بمعنى اختلافهما في أنفسهما، بازدياد كلّ منهما بانتقاص الآخر، و انتقاصه بازدياده، باختلاف حال الشمس إلينا قربا و بعدا بحسب الأزمنة، أو باختلاف البلدان. فإنّ البلد كلما ازداد عرضا عن خط الاستواء، و هو الموضع المحاذي لمنطقة الفلك الأعظم المسمّاة معدّل النهار، ازداد نهاره في الصيف طولا، و في الشتاء
__________________________________________________
(1) سورة الفرقان: الآية 62.
120
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثاني و الثلاثين ص 11
..........
قصرا، و بالعكس في الليل. و قد يرتقي طول النهار بحسب تزايد ارتفاع القطب إلى حيث يصير اليوم بليلته نهارا كلّه و بإزائه الليل، ثمّ إلى أكثر من ذلك إلى حيث يزيد الليل الأطول على يوم بليلته، و إلى حيث يكون نصف السنة نهارا، و نصفها الآخر ليلا، و ذلك إذا صار قطب الفلك الأعظم محاذ لسمت الرأس.
و لا عمارة هناك، لشدّة البرد اللازم من قبل انخفاض الشمس، أو اختلافهما في الأمكنة، فإنّ كروية الأرض تقتضي «1» أن يكون بعض الأوقات في بعض الأماكن ليلا، و في مقابله نهارا، و في بعضها صباحا، و في بعضها ظهرا أو عصرا، أو غير ذلك. و اللّه أعلم.
[ 975] قوله عليه السّلام «لا ينقطع مددها» إلى آخره.
مدد الشيء: ما يمدّ به و يزاد «2» و يكثر.
و الغرض طلب استمرار الصلاة عليهم.
و العدد: الكميّة المتألفة من الوحدات، و قيل: صورة تنطبع في نفس العاد «3» من تكرار الواحد.
أي لا يضبط عددها، أو لا يطاق عدّها و ضبطها. من أحصيت الشيء إذا أطقته، فيكون العدد بمعنى المصدر. و الغرض طلب كثرة الصلاة عليهم.
و شحنت البيت و غيره شحنا- من باب نفع-: ملأته.
و الهواء بالمدّ: الجوّ، و هو ما بين السماء و الأرض. و المراد بكونها تشحن الهواء أو تملأ الأرض و السماء التمثيل لكثرة عددها، أي لو قدّرت أجساما لبلغت من كثرتها أن تملأ ذلك، و يحتمل أن يكون على معنى التعظيم و التفخيم لشأنها، أو لشأن أجرها و ثوابها، و الأوّل أظهر.
[ 976] قوله عليه السّلام «صلّى اللّه عليه حتّى يرضى» جملة منقطعة ممّا قبلها لفظا،
__________________________________________________
(1) «ألف» يقتضى.
(2) «ألف» يزداد.
(3) «ألف» المعاد.
121
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثاني و الثلاثين ص 11
..........
مستأنفة استئنافا نحويّا.
و «حتّى» للغاية، أي إلى أن يقول: «رضيت»، و لمّا كان الغاية تستلزم الانتهاء، لأنّ كلّ شيء إذا بلغ غايته انته و وقف عندها، لم يرض عليه السّلام بذلك بل سأل أن تكون الصلاة عليه بعد الرضا أيضا، فقال: و صلّى اللّه عليه و آله بعد الرضا»، لتكون الصلاة عليه جارية مستمرّة أبدا، لا تقف عند حدّ، و لا تنتهي عند غاية، ثمّ بيّن ذلك بقوله: «صلاة لا حدّ لها، و لا منته».
و الحدّ: النهاية. و المنته: مصدر ميميّ من انته الأمر، أي بلغ النهاية. و لمّا كانت الصلاة من اللّه تعالى الرّحمة ذيّل طلبها بقوله: يا أرحم الراحمين، و الأولى أن تكون كلمة استعطاف ختم بها الدعاء مبالغة في طلب الإجابة لجميع ما تضمّنه الدعاء من المسائل كما يشير إليه التعرّض للوصف بغاية الرحمة. و اللّه أعلم. [] هذا آخر الروضة الثانية و الثلاثين من رياض السالكين، و قد وفّق اللّه سبحانه لإتمامها و اجتناء زهرها من كمامها، عشية يوم السبت لإحدى عشرة خلت من شعبان أحد شهور سنة أربع و مائة و ألف، أحسن اللّه ختامها بدار السرور برهان ينور، و للّه الحمد.
122
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
الروضة الثالثة و الثلاثون ص 123
الروضة الثالثة و الثلاثون
123
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
و كان من دعائه عليه السلام في الاستخارة ص 124
و كان من دعائه عليه السّلام في الاستخارة
اللّهمّ إنّى استخيرك بعلمك فصلّ على محمّد و آله و اقض لي بالخيرة و الهمنا معرفة الاختبار و اجعل ذلك ذريعة إلى الرّضا بما قضيت لنا و التّسليم لما حكمت فازح عنّا ريب الارتياب و ايّدنا بيقين المخلصين و لا تسمنا عجز المعرفة عمّا تخيّرت فنغمط قدرك و نكره موضع رضاك و نجنح إلى الّتى هي أبعد من حسن العاقبة و أقرب الى ضدّ العافية حبب إلينا ما نكره من قضائك و سهّل علينا ما نستصعب من حكمك و الهمنا الانقياد لما أوردت علينا من مشيّتك حتّى لا نحبّ تأخير ما عجّلت و لا تعجيل ما اخّرت و لا نكره ما أحببت و لا نتخيّر ما كرهت و اختم لنا بالّتى هي أحمد عاقبة و أكرم مصيرا انّك تفيد الكريمة و تعطى الجسيمة و تفعل ما تريد و أنت على كلّ شيء قدير
124
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
مقدمة الشارح ص 125
[مقدمة الشارح]
[] (الروضة الثالثة و الثلاثون) بسم اللّه الرّحمن الرّحيم و إيّاه نستعين الحمد للّه الذي يخلق ما يشاء و يختار، ما كان لهم الخيرة، سبحان اللّه و تعالى عمّا يشركون. و هو اللّه لا إله إلّا هو، له الحمد في الأولى و الآخرة، و له الحكم، و إليه ترجعون. و الصلاة و السّلام على نبيّه المختار، من أشرف نجار، الصادع بقوله الصادق، «ما حار من استخار، و لا ندم من استشار» «1» و على آله شموس الولاية، و نجوم الهداية، السادة الأطهار، و القادة الأبرار.
و بعد: فهذه الروضة الثالثة و الثلاثون من رياض السالكين، في شرح الدعاء الثالث و الثلاثين من صحيفة سيد العابدين عليه السّلام، إملاء راجي فضل ربّه السني، علي بن أحمد الحسيني الحسني خار اللّه لهما، و بلّغهما أملهما.
__________________________________________________
(1) الأمالي للشيخ الطوسي: ج 1 ص 135.
125
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثالث و الثلاثين ص 126
شرح الدعاء الثالث و الثلاثين
و كان من دعائه عليه السّلام في الاستخارة.
استخرت اللّه استخارة: طلبت منه الخيرة، و هي اسم من الاختيار، كالفدية من الافتداء.
و في الأساس: استخرت اللّه في ذلك، فخار لي: أي طلبت منه خير الأمرين، فاختاره لي «1».
و أصل الاستخارة: الاستخيار، على وزن استفعال. نقلت حركة عينه إلى فائه الساكنة قبلها، و قلبت العين ألفا، ثمّ حذفت لالتقاء الساكنين، و عوّض عنها تاء التأنيث. و هذا مطّرد في مصدر «استفعل» معتلّ العين، كاستقام استقامة، و استعاذ استعاذة «2».
فالاستخارة: استفعال من الخير.
و قال محمّد بن إدريس العجليّ قدّس اللّه روحه في كتابه المترجم بالسرائر:
الاستخارة في كلام العرب: الدعاء. و هو من استخارة الوحش، و ذلك أن يأخذ القانص ولد الظبية فيعرك أذنه فيبغم، فإذا سمعت أمّه بغامه لم تملك أن تأتيه،
__________________________________________________
(1) أساس البلاغة: ص 179.
(2) «الف»: استفاد استفادة.
126
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثالث و الثلاثين ص 126
..........
فترمي بنفسها عليه فيأخذها القانص. قال حميد بن ثور الهلالي، و ذكر ظبية و ولدها، و دعاؤه لها لمّا أخذه القانص، فقال:
رأت مستخيرا فاستزال فؤادها بمحنته يبدو لها و يغيب
أراد رأت داعيا. فكان معنى استخرت اللّه: استدعيته إرشادي «1». انته كلامه.
و هو عجيب، فإنّ استخارة الوحش- بالمعنى الذي ذكره- استفعال من الخوار- بالضمّ- و هو صوت البقر و الغنم و الظباء. و هو معتلّ، واويّ، لأنّ العين منه واو.
و الاستخارة بمعنى الدعاء للإرشاد إلى خير الأمرين معتلّ يأتي، فكيف يكون هذا من ذاك؟ «2» على أنّ الذي نصّ عليه أئمة اللغة كالزمخشريّ و الجوهريّ أنّ المنقول من استخارة الوحش، إنّما هو الاستخارة بمعنى الاستعطاف، لا بمعنى الدعاء.
قال الزمخشريّ في الأساس: استخار الرجل صاحبه: استعطفه فخار عليه.
و أصله من أن يثغو الغزال و الجؤذر إلى أمّه: يستخيرها، أي يطلب خوارها. ثمّ كثر حتّى استعمل في كلّ استعطاف و استرحام «3».
قال الجوهريّ: الاستخارة: الاستعطاف. يقال: هو من الخوار و الصوت.
و أصله: أنّ الصائد يأتي ولد الظبية في كناسة فيعرك أذنه فيخور- أي يصيح- يستعطف بذلك أمه كي يصيدها. قال الهذلي:
لعلّك أمّا أمّ عمرو تبدلت سواك خليلا شاتمي تستخيرها «4»
انته.
و بالجملة فجعل الاستخارة بمعنى طلب الخيرة منقولا من استخارة الوحش إمّا غلط منشأه اشتباه اللفظين عليه، أو تعسف لا داعي إليه. و اللّه أعلم.
__________________________________________________
(1) السرائر: ص 69.
(2) «ألف»: ذلك.
(3) أساس البلاغة: ص 177.
(4) الصحاح: ج 2 ص 651.
127
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثالث و الثلاثين ص 126
..........
(مقدّمة) لا ريب في استحباب الاستخارة عند العامّة و الخاصّة، و الأخبار بذلك مستفيضة من الطريقين:
أمّا من طريق العامّة. فروى البخاريّ في صحيحه عن جابر بن عبد اللّه قال:
كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يعلّمنا الاستخارة في الأمور كلّها كالسورة من القرآن. يقول: «إذا همّ أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثمّ ليقل: اللّهمّ إنّي أستخيرك بعلمك، و أستقدرك بقدرك ...» «1» إلى آخر الدعاء و سيأتي.
و روى الترمذي بإسناده إلى أبي بكر: أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان إذا أراد الأمر، قال: اللّهمّ خرلي، و اختر لي «2».
و عن أنس قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يا أنس إذا هممت بأمر فاستخر ربّك فيه سبع مرّات، ثمّ انظر إلى الذي سبق إلى قلبك، فإنّ الخير فيه «3».
و روى الحاكم بسنده في صحيح المستدرك عنه صلّى اللّه عليه و آله قال: «من سعادة ابن آدم استخارته اللّه، و «4» من شقوته تركه استخارة اللّه» «5».
و أمّا من طريق الخاصّة: فالروايات فيها أكثر من أن تحصى. فمن ذلك ما رواه
__________________________________________________
(1) صحيح البخاري: ج 8 ص 101.
(2) لم نعثر عليه في سنن الترمذي و لكنه موجود في تفسير الجامع لاحكام القرآن (للقرطبي) ج 13، ص 307.
(3) الجامع لاحكام القرآن: ج 13 ص 307.
(4) «الف»: و أما من.
(5) المستدرك للحاكم: ج 1، ص 518.
128
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثالث و الثلاثين ص 126
..........
ثقة الإسلام في الكافي بسند صحيح قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: صلّ ركعتين، و استخر اللّه. فو اللّه ما استخار اللّه مسلم إلّا خار له البتّة «1».
و روى البرقيّ في محاسنه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال اللّه عزّ و جلّ:
من شقاء عبدي أن يعمل الأعمال فلا يستخيرني «2».
و عنه عليه السّلام: أنّه قال: ما أبالي إذا استخرت على أيّ طرفيّ وقعت. و كان أبي يعلّمني الاستخارة كما يعلّمني السّورة من القرآن «3».
و عنه عليه السّلام: من دخل في أمر بغير استخارة ثمّ ابتلي لم يؤجر «4».
و روى الطوسيّ في أماليه عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: لمّا و لّاني النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله على اليمن، قال لي و هو يوصيني: يا عليّ ما حار «5» من استخار، و لا ندم من استشار «6».
إلى غير ذلك من الأخبار البالغة جملتها حدّ التواتر.
إذا عرفت ذلك فهنا مسائل:
(الأولى:) ذكر الشيخ المفيد قدّس سرّه في الرسالة العزيّة: أنّه لا ينبغي للإنسان أن يستخير اللّه تعالى في شيء ممّا نهاه عنه، و لا في أداء فرض. و إنّما الاستخارة في المباح، و ترك نفل إلى نفل لا يمكنه الجمع بينهما كالحج و الجهاد تطوعا، أو لزيارة مشهد دون آخر، أو صلة أخ دون آخر «7».
(الثانية:) من آداب المستخير أن يطهّر ظاهره من الحدث و الخبث، و باطنه من الشك و الريب، و ان يصلّي ركعتين، يقرأ فيهما بعد الحمد ما شاء و يقنت في الثانية، و أن يتأدّب في صلاته كما يتأدب السائل المسكين، و أن يقبل على اللّه بقلبه في
__________________________________________________
(1) الكافي: ج 3، ص 470.
(2) المحاسن: ص 598.
(3) بحار الأنوار: ج 91، ص 223.
(4) المحاسن: ص 598.
(5) «الف» خار.
(6) الأمالي للشيخ الطوسي: ج 1، ص 135.
(7) بحار الأنوار: ج 91، ص 229، نقلا عنه في رسالته.
129
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثالث و الثلاثين ص 126
..........
صلاته و دعائه إلى وقت فراغه، و أن لا يكلّم أحدا في أثناء الاستخارة. فعن الصادق عليه السّلام: كان أبي إذا أراد الاستخارة في الأمر، توضأ و صلّى ركعتين، و إن كانت الخادمة لتكلّمه، فيقول: سبحان اللّه، و لا يتكلّم حتّى يفرغ «1».
و قال الجواد عليه السّلام لعليّ بن أسباط: و لا تكلّم أحدا بين اضعاف الاستخارة حتّى تتمّ مائة مرّة «2».
و إذا خرجت الاستخارة مخالفة لمراده فلا يقابلها بالكراهة، بل بالشّكر على أن جعله اللّه تعالى أهلا لأن يستشيره.
(الثالثة:) للاستخارة أنواع وردت بها الأخبار عنهم (عليهم السّلام):
(منها:) الاستخارة بالدعاء. و فيها روايات:
(منها:) ما رواه الطبرسي في مكارم الأخلاق مرفوعا عن جابر بن عبد اللّه قال:
«كان رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) يعلّمنا الاستخارة كما يعلّمنا السّورة من القرآن. يقول: إذا همّ أحدكم بأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثمّ ليقل:
اللّهمّ إنّي أستخيرك بعلمك، و أستقدرك بقدرتك و أسألك من فضلك العظيم، فإنّك تقدر و لا أقدر، و تعلم و لا أعلم، و أنت علّام الغيوب. اللّهمّ إن كنت تعلم هذا الأمر، و تسمّيه خيرا لي في ديني و معاشي و عاقبة أمري فاقدره لي، و يسّره لي، و بارك لي فيه. و إن كنت تعلم أنّه شرّ لي في ديني و معاشي و عاقبة أمري فاصرفه عنّي، و اصرفني عنه، و أقدر لي «3» الخير حيثما كان، و رضّني به» «4».
و هذه الرواية هي التي ذكرها البخاري في صحيحة مع تفاوت يسير في الفاظ الدعاء «5».
قال النووي: «و إذا استخار مضى بعد هذا لما شرح له صدره» «6».
__________________________________________________
(1) وسائل الشيعة: ج 5 ص 206 ح 8.
(2) وسائل الشيعة: ج 5 ص 215 ح 8.
(3) «الف»: إليّ.
(4) مكارم الأخلاق: ص 323.
(5) صحيح البخاري: ج 8، ص 101.
(6) لا يوجد لدينا كتابه.
130
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثالث و الثلاثين ص 126
..........
(و منها) ما رواه الطبرسي- أيضا- في الكتاب المذكور، قال: «كان أمير المؤمنين عليه السّلام يصلّي ركعتين و يقول في دبرهما: أستخير اللّه مائة مرّة، ثمّ يقول: اللّهمّ إنّي قد هممت بأمر قد علمته، فإن كنت تعلم أنّه خير في ديني و دنياي و آخرتي فيسّره لي. و إن كنت تعلم أنّه شرّ لي في ديني و دنياي و آخرتي، فاصرفه عنّي كرهت نفسي ذلك أم أحبّت. فإنّك تعلم، و لا أعلم، و أنت علام الغيوب ثمّ يعزم» «1».
(و منها:) ما رواه ثقة الإسلام في الكافي بسنده عن جابر عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «كان عليّ بن الحسين عليه السّلام إذا همّ بأمر حجّ أو عمرة أو بيع أو شراء أو عتق تطهّر ثمّ صلّى ركعتي الاستخارة، فقرأ فيهما بسورة الرّحمن و الحشر و المعوذتين و قل هو اللّه أحد، ثمّ قال: اللّهمّ إن كان كذا و كذا خيرا لي في ديني و دنياي و آخرتي، و عاجل أمري و آجله فيسّره لي على أحسن الوجوه و أجملها. و إن كان كذا و كذا شرّا لي في ديني و دنياي و آخرتي و عاجل أمري و آجله، فاصرفه عنّي على أحسن الوجوه. ربّ أعزم على رشدي، و إن كرهت ذلك و أبته نفسي» «2».
و في رواية: أخرى: «و إن كرهت أو أحبّت ذلك نفسي. بسم اللّه الرّحمن الرّحيم ما شاء اللّه لا حول و لا قوّة إلّا باللّه، حسبي اللّه و نعم الوكيل ثمّ يمضي و يعزم» «3».
(و منها:) ما ذكره في مكارم الأخلاق: أنّ رجلا جاء إلى أبي عبد اللّه عليه السّلام، فقال له: جعلت فداك، إنّي ربما ركبت الحاجة، فأندم عليها، فقال له: «أين أنت عن الاستخارة؟ فقال: إذا صلّيت صلاة الفجر، فقل بعد أن ترفع يديك، حذاء وجهك: اللّهمّ إنّك تعلم و لا أعلم، و أنت علام الغيوب، فصلّ على محمّد
__________________________________________________
(1) مكارم الأخلاق: ص 320.
(2) الكافي: ج 3 ص 470.
(3) مكارم الأخلاق: ص 322- 323.
131
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثالث و الثلاثين ص 126
..........
و آله، و خرلي في جميع ما عزمت به من أموري خيار بركة و عافية» «1».
(و منها:) ما رواه في كتاب من لا يحضره الفقيه: أنّ محمّد بن خالد القسريّ، سأل أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الاستخارة، فقال: «استخر اللّه في آخر ركعة من صلاة اللّيل، و أنت ساجد، قال: كيف أقول؟ قال: تقول: أستخير اللّه برحمته، أستخير اللّه برحمته» «2».
(و منها:) ما رواه ثقة الاسلام في الكافي، و شيخ الطائفة في التهذيب، عن إسحاق بن عمار، قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: ربما أردت الأمر تفرّق منّي فريقان، أحدهما يأمرني و الآخر ينهاني. فقال لي: «إذا كنت كذلك فصلّ ركعتين، و استخر اللّه مائة و مرّة و مرّة، ثمّ انظر أحزم الأمرين لك فافعله فإنّ الخيرة فيه إن شاء اللّه. و لتكن استخارتك في عافية، فإنّه ربما خير للرّجل في قطع يده، و موت ولده، و ذهاب ماله» «3».
(و منها:) ما رواه ثقة الإسلام، و رئيس المحدّثين في الفقيه عن مرازم، قال: قال لي أبو عبد اللّه عليه السّلام: «إذا أراد أحدكم شيئا فليصلّ ركعتين، ثمّ ليحمد اللّه و ليثن عليه، و ليصلّ على محمّد و على أهل بيته، و يقول: اللّهمّ إن كان هذا الأمر خيرا لي في ديني و دنياي فيسّره لي و أقدره. و إن كان غير ذلك فاصرفه عنّي» فسألته: أيّ شيء أقرأ فيهما؟ فقال: «اقرأ فيهما ما شئت، إن شئت قرأت فيهما قل هو اللّه أحد، و قل يا أيّها الكافرون» «4».
و في رواية الفقيه: «و قل هو اللّه أحد تعدل ثلث القرآن» «5».
__________________________________________________
(1) مكارم الأخلاق: ص 320.
(2) من لا يحضره الفقيه: ج 1، ص 563.
(3) الكافي: ج 3 ص 472. و تهذيب الاحكام: ج 3 ص 181 ح 5.
(4) الكافي: ج 3 ص 472.
(5) من لا يحضره الفقيه: ج 1 ص 562.
132
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثالث و الثلاثين ص 126
..........
(و منها:) ما روي عن الصادق عليه السّلام قال: «إذا عرضت لأحدكم حاجة فليستشر ربّه. فإن أشار عليه أتبع، و إن لم يشر عليه توقّف. فقيل له: كيف يفعل؟ قال: «يسجد عقيب المكتوبة، و يقول: اللّهمّ خرلي ثمّ ينظر ما الهم فيفعل.
فهو الذي أشار عليه ربّه عزّ و جلّ» «1».
(و منها:) ما رواه البرقي بإسناده عن هارون بن خارجة، قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام، يقول: «إذا أراد أحدكم أمرا فلا يشاورنّ فيه أحدا حتّى يبدأ فيشاور اللّه»، قلت: و ما مشاورة اللّه؟ قال: «يبدأ فيستخير اللّه فيه أوّلا، ثمّ يشاور فيه. فإنّه إذا بدأ باللّه تبارك و تعالى أجرى اللّه الخيرة له على لسان من يشاء من الخلق» «2».
(و منها:) ما رواه رئيس المحدّثين في الفقيه عن حماد بن عثمان، عن الصادق عليه السّلام قال: في الاستخارة، أن يستخير اللّه الرجل في آخر سجدة من ركعتي الفجر مائة مرّة و مرّة، و يحمد اللّه و يصلّي على النّبيّ و آله، ثمّ يستخير اللّه خمسين مرّة، ثمّ يحمد اللّه و يصلّي على النّبيّ و آله و يتمّ المائة و مرّة» «3».
(و منها:) ما رأيته في كتاب عندنا منسوب إلى الرّضا عليه السّلام: «إذا أردت أمرا فصلّ ركعتين، و استخر اللّه مائة مرّة و مرّة و قل في دعائك: لا اله إلّا اللّه العليّ العظيم، لا إله إلّا اللّه الحليم الكريم، ربّ بحق محمّد و عليّ، خر لي في أمر كذا و كذا للدنيا و الآخرة خيرة من عندك، مالك فيه رضا و لي فيه صلاح، في خير و عافية، يا ذا المنّ و الطّول» «4».
(و منها:) ما رواه ثقة الإسلام في الكافي بإسناده عن ابن فضّال، قال: سأل الحسن بن الجهم أبا الحسن عليه السّلام، لابن أسباط، فقال: ما ترى له- و ابن
__________________________________________________
(1) لأمالي للشيخ الطوسي: ج 1 ص 281.
(2) المحاسن: ص 598.
(3) من لا يحضره الفقيه: ج 1 ص 563 ح 1553.
(4) بحار الأنوار: ج 91 ص 261 ح 13.
133
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثالث و الثلاثين ص 126
..........
أسباط حاضر، و نحن جميعا- يركب البرّ أو البحر إلى مصر، و أخبره بخبر طريق البرّ؟ فقال: «فأت المسجد في غير وقت صلاة الفريضة، فصلّ ركعتين، و استخر اللّه مائة مرّة، ثمّ انظر، أيّ شيء يقع في قلبك فاعمل به. و قال له الحسن: البرّ أحبّ إليّ، قال: «و إليّ» «1».
(و منها:) الاستخارة بالمصحف. و هي أنواع:
(منها:) ما رواه شيخ الطائفة في التهذيب بسنده إلى اليسع القميّ، قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: أريد الشيء فأستخير اللّه، فلا يوفّق فيه الرّأي، أفعله أو أدعه؟ فقال: «انظر إذا قمت إلى الصّلاة- فإنّ الشيطان أبعد ما يكون من الإنسان إذا قام إلى الصّلاة- أيّ شيء يقع في قلبك فخذ به. و افتح المصحف، فانظر إلى أوّل ما ترى فيه فخذ به إن شاء اللّه» «2».
(و منها:) ما ذكره الطبرسي في كتاب مكارم الأخلاق: «يصلّي صلاة جعفر فإذا فرغ دعى بدعائها ثمّ ينوي فرج آل محمّد، بدءا و عودا، ثمّ يقول: اللّهمّ إن كان في قضائك و قدرك أن تفرّج عن وليّك و حجّتك في خلقك في عامنا هذا، أو شهرنا هذا، فأخرج لنا رأس آية من كتابك، نستدلّ بها على ذلك. ثمّ يعدّ سبع و رقات، و يعدّ عشرة أسطر من ظهر الورقة السّابعة، و ينظر ما يأتيه في الحادي عشر من السّطور، ثمّ يعيد الفعل ثانيا لنفسه، فإنّه تتبيّن حاجته إن شاء اللّه» «3».
(و منها:) ما نقل من خطّ العلامة الحسن بن المطهّر الحلّي (طاب ثراه) روي عن الصادق عليه السّلام قال: «إذا أردت الاستخارة من الكتاب العزيز، فقل بعد البسملة: اللّهمّ إن كان في قضائك و قدرك أن تمنّ على شيعة آل محمّد بفرج وليّك و حجّتك على خلقك، فأخرج إلينا آية من كتابك، نستدل بها على ذلك.
__________________________________________________
(1) الكافي: ج 3 ص 471- ح 4.
(2) تهذيب الاحكام: ج 3، ص 310، ح 6.
(3) مكارم الأخلاق: ص 324.
134
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثالث و الثلاثين ص 126
..........
ثمّ تفتح المصحف، و تعدّ ستّ و رقات، و من السّابعة ستّة أسطر، و تنظر ما فيه» «1».
(و منها:) ما ذكره السيّد الجليل علي بن طاووس في كتاب الاستخارات. إنّ المتفئل بالمصحف يقرأ الحمد و آية الكرسي، و قوله تعالى: «وَ عِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ» «2» الآية. ثمّ يقول: اللّهمّ إن كان في قضائك و قدرك أن تمنّ على أمّة نبيّك بظهور وليّك و ابن بنت نبيّك، فعجّل ذلك و سهّله و يسّره و كمّله، و أخرج لي آية أستدلّ بها على أمر فأئتمر، أو نهي فأنتهي، و ما أريد الفأل فيه في عافية. ثمّ افتح المصحف و عدّ سبع قوائم، ثمّ عدّ ما في الصفحة اليمنى من الورقة السّابعة، و ما في اليسرى من الورقة الثامنة من لفظ الجلالة، ثمّ عدّ قوائم بعدد الجلالات، ثمّ عدّ من الصّفحة اليمنى من القائمة التي ينتهي إليها العدد أسطرا بعدد لفظ الجلالة، و تفأل بآخر سطر من ذلك يتبيّن لك الفأل إن شاء اللّه تعالى» «3».
(و منها:) ما نقل و اشتهر عن السيد المذكور أيضا: من أراد الاستخارة بالقرآن المجيد، فليقرأ آية الكرسي إلى «هم فيها خالدون» و آية «وَ عِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ» إلى «مُبِينٍ»، ثمّ يصلّي على النبي عشرا، ثمّ يدعو بهذا الدعاء «اللّهمّ إنّي توكّلت عليك، و تفألت بكتابك، فأرني ما هو المكتوم في سرّك، المخزون في غيبك، يا ذا الجلال و الإكرام. اللّهمّ أنت الحقّ، و أنزلت الحقّ بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله.
اللّهمّ أرني الحقّ حقّا حتّى أتبعه، و أرني الباطل باطلا حتّى أجتنبه، برحمتك يا أرحم الراحمين. ثمّ تفتح المصحف و تعدّ الجلالات من الصفحة اليمنى، و تعدّ بعدد الجلالات أوراقا من الصفحة اليسرى، ثمّ تعدّ الأسطر بعدد الأوراق من الصفحة اليسرى، فما يأتي بعد ذلك فهو بمنزلة الوحي.
__________________________________________________
(1) بحار الأنوار: ج 91 ص 245.
(2) سورة الأنعام: الآية 59.
(3) بحار الأنوار: ج 91 ص 242 ح 4.
135
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثالث و الثلاثين ص 126
..........
(و منها)، الاستخارة بالرقاع. و في كيفيّتها روايات:
(منها:) ما رواه ثقة الإسلام في الكافي عن علي بن محمّد، رفعه عنهم عليهم السّلام: أنّه قال لبعض أصحابه، و قد سأله عن الأمر يمضي فيه، و لا يجد أحدا يشاوره، فكيف يصنع؟ قال: شاور ربّك. قال فقال له: كيف؟ قال: انو الحاجة في نفسك، ثمّ اكتب رقعتين، في واحدة «لا»، و في واحدة «نعم»، و اجعلهما في بندقتين من طين، ثمّ صلّ ركعتين، و اجعلهما تحت ذيلك، و قل: يا اللّه إنّي أشاورك في أمري هذا، و أنت خير مستشار و مشير، فأشر عليّ بما فيه صلاح و حسن عاقبة. ثمّ أدخل يدك فإن كان فيها «نعم»، فافعل. و إن كان فيها «لا»، لا تفعل. هكذا تشاور ربّك «1».
(و منها:) ما روي عن أمير المؤمنين عليه السّلام: يكتب بسم اللّه الرّحمن الرّحيم، اللّهمّ إنّي أستخيرك خيار من فوّض إليك أمره، و أسلم إليك نفسه، و خلالك وجهه، و توكّل عليك فيما تأمره به. اللّهمّ انصرني و لا تنصر عليّ، و اهدني إلى الخيرات، و لا تضلّني. اللّهمّ إن كان الخير لي، أو لفلان، في كذا فخر لي أوله، إنّك على كلّ شيء قدير. و يكتب في رقعة «افعل» و في أخرى «لا»، و يجعلان في بندقتين، و يلقيان في الماء، فأيّهما شقّت الماء و ظهرت على الماء، «2» عمل عليها و أهملت الأخرى «3».
(و منها:) ما ذكره الطبرسي في المكارم عن عبد الرحمن بن سبابة قال: خرجت سنة إلى مكّة، و متاعي بزّ قد كسد عليّ، قال: فأشار عليّ أصحابنا إلى أن أبعثه إلى مصر، أو إلى اليمن، و اختلفت عليّ آراؤهم. فدخلت على العبد الصّالح، بعد النفر بيوم و نحن بمكّة فأخبرته بما أشار به أصحابنا، و قلت له: جعلت فداك، فما
__________________________________________________
(1) الكافي: ج 3 ص 473.
(2) «الف»: عملت.
(3) بحار الأنوار: ج 91 ص 238 ح 4 مع اختلاف يسير في بعض الالفاظ.
136
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثالث و الثلاثين ص 126
..........
ترى حتّى أنتهي إلى ما تأمرني به؟ فقال لي: ساهم بين مصر و اليمن، ثمّ فوّض في ذلك أمرك إلى اللّه، فأيّ بلدة خرج سهمها من الأسهم فابعثّ متاعك إليها، قلت: جعلت فداك، و كيف أساهم؟ قال: اكتب في رقعة «بسم اللّه الرّحمن الرّحيم، اللّهمّ أنت اللّه الذي لا إله إلّا أنت، عالم الغيب و الشهادة، أنت العالم، و أنا المعلّم «1»، فانظرني في أيّ الأمرين خير لي، حتّى أتوكّل عليك «2»، و أعمل به»، ثمّ اكتب «مصر إن شاء اللّه»، ثم اكتب رقعة أخرى مثل ما في الرقعة الأولى شيئا فشيئا، ثم اكتب «اليمن»، ثم اكتب رقعة أخرى مثل ما في الرقعتين شيئا شيئا، ثمّ اكتب «يحبس «3» المتاع و لا يبعث إلى بلد منهما»، ثم اجمع الرقاع و ادفعهن إلى بعض أصحابك فليسترها عنك «4»، ثمّ ادخل يدك، فخذ رقعة من الثلاث، فأيّها وقعت في يدك، فتوكل على اللّه، و اعمل بما فيها إن شاء اللّه «5».
قال المؤلّف: عملت بهذه الاستخارة عند التردّد في سلوك طريقين مخوفين «6» و التوقف عن السفر، فخرجت رقعة بسلوك واحد من الطريقين، فسلكته، و لم أر إلّا خيرا.
(و منها:) الاستخارة المشهورة التي مدار عمل الأصحاب عليها، و هي ما رواه ثقة الإسلام في الكافي عن غير واحد، عن سهل بن زياد، عن أحمد بن محمّد البصري، عن القاسم بن عبد الرحمن الهاشمي، عن هارون بن خارجة، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: إذا أردت أمرا فخذ ست رقاع، فاكتب في ثلاث منها «بسم اللّه الرحمن الرحيم، خيرة من اللّه العزيز الحكيم لفلان بن فلانة، افعل» و في ثلاث منها «بسم اللّه الرحمن الرحيم، خيرة من اللّه العزيز الحكيم لفلان بن فلانة، لا تفعل»،
__________________________________________________
(1) هكذا في الأصل، و الظاهر: «و أنا المتعلم».
(2) و في المصدر: اتوكل عليك فيه و هذا أنسب.
(3) «ألف» بحبس.
(4) «الف»: منك.
(5) مكارم الأخلاق: ص 255.
(6) «الف»: طريقتين مخوفتين.
137
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثالث و الثلاثين ص 126
..........
ثم ضعها تحت مصلاك، ثم صل ركعتين، فإذا فرغت فاسجد سجدة، و قل فيها مائة مرة: «أستخير اللّه برحمته، خيرة في عافية» ثم استو جالسا، و قل: «اللّهمّ خرلي، و اختر لي في جميع أموري في يسر منك و عافية، ثم اضرب بيدك إلى الرّقاع فشوشها و اخرج واحدة، فإن خرج ثلاث متواليات «افعل»، فافعل الأمر الذي تريده، و إن خرج ثلاث متواليات «لا تفعل»، فلا تفعله، و إن خرجت واحدة «افعل»، و الأخرى «لا تفعل»، فاخرج من الرقاع إلى خمس، فانظر أكثرها فاعمل به، و دع السادسة، لا تحتاج إليها «1».
و ذكر هذه الرواية شيخ الطائفة في التهذيب أيضا لكن عن ثقة الاسلام، بالسند المذكور «2».
و أنكر ابن إدريس الاستخارة بالرقاع مطلقا، فقال في السرائر: أما الرقاع و البنادق و القرعة فمن أضعف أخبار الآحاد و شواذّ الأخبار، لأنّ من رواتها فطحيّة مطعونون، مثل زرعة و رفاعة، و غيرهما، فلا يلتفت إلى ما اختصّا بروايته، و لا يعرج عليه. و المحصّلون من أصحابنا ما اختاروا في كتب الفقه إلّا ما اخترناه من الاستخارة بالدعاء، و لا يذكرون البنادق و الرقاع و القرعة إلّا في كتب العبادات، دون كتب الفقه، و شيخنا أبو جعفر الطوسيّ لم يذكر في نهايته و مبسوطه و اقتصاده إلّا ما ذكرناه و اخترناه و لم يتعرّض للبنادق، و كذلك المفيد في رسالته إلى ولده لم يتعرّض للرقاع و البنادق، بل أورد روايات كثيرة، فيها صلوات و أدعية، و لم يتعرّض لشيء من الرقاع «3» انته.
و تعقّبه العلّامة الحلّي في كتاب المختلف، فقال: هذا الكلام في غاية الرداءة، و أيّ فارق بين ذكره في كتب الفقه، و كتب العبادات؟ فإنّ كتب العبادات هي
__________________________________________________
(1) الكافي: ج 3 ص 471.
(2) تهذيب الاحكام: ج 3 ص 181.
(3) السرائر: ص 69 مع اختلاف جدا يسير في العبارة.
138
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثالث و الثلاثين ص 126
..........
المختصّة به. و مع ذلك فقد ذكره المفيد في المقنعة، و هي كتاب فقه و فتوى، و ذكره الشيخ في التهذيب، و هو أصول الفقه، و أيّ محصّل أعظم من هذين؟ و هل استفيد الفقه إلّا منهما؟
و أمّا نسبة الرواية إلى زرعة و رفاعة فخطأ، فإنّ المنقول فيه روايتان:
إحداهما: رواها هارون بن خارجة عن الصادق عليه السّلام. و الثانية: رواها محمّد بن يعقوب الكليني، عن علي بن محمّد رفعه عنهم عليهم السّلام.
و ليس في طريق الروايتين زرعة و لا رفاعة. و أمّا نسبة زرعة و رفاعة إلى الفطحيّة فخطأ، أمّا زرعة فإنّه واقفي، و كان ثقة، و أمّا رفاعة، فإنّه ثقة صحيح المذهب. و هذا كلّه يدلّ على قلّة معرفته بالروايات و الرجال، و كيف يجوز ممّن حاله هذا أن يقدم على ردّ الروايات و الفتاوى، و يستبعد ما نصّ عليه الأئمة عليهم السّلام. و هلا استبعد القرعة، و هي مشروعة إجماعا في حقّ الأحكام الشرعيّة، و القضاء بين الناس، و شرعها دائم في حقّ جميع المكلفين. و أمر الاستخارة سهل يستخرج منه الإنسان معرفة ما فيه الخيرة في بعض أفعاله المباحة المشتبهة عليه منافعها و مضارّها الدنيويّة «1». انته كلامه.
و قال الشيخ الشهيد محمّد بن مكي في كتاب الذكرى ما نصّه: إنكار ابن إدريس الاستخارة بالرّقاع، لا مأخذ له، لاشتهارها بين الأصحاب، و عدم رادّ لها سواه، و من أخذ أخذه كالشيخ نجم الدين في المعتبر، حيث قال: هي في حيّز الشذوذ فلا عبرة بها. و كيف تكون شاذّة و قد دوّنها المحدّثون في كتبهم، و المصنّفون في مصنّفاتهم، و قد صنّف السيد العالم العابد صاحب الكرامات الظاهرة، و المآثر الباهرة رضي الدين أبو الحسن علي بن طاووس الحسني رحمة اللّه كتابا ضخما في الاستخارات و اعتمد فيه على رواية الرقاع، و ذكر من آثارها عجائب و غرائب أراه
__________________________________________________
(1) مختلف الشيعة: ص 128.
139
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثالث و الثلاثين ص 126
..........
اللّه تعالى إيّاها، و قال: إذا توالى الأمر في الرقاع فهو خير محض، و إن توالى النهي، فذلك النهي شرّ محض، و إن تفرّقت كان الخير و الشرّ موزّعا بحسب تفرّقها على أزمنة ذلك الأمر بحسب ترتبها «1». انته كلامه، رفع مقامه.
(و منها:) الاستخارة بالسبحة، و كيفيّتها على وجوه:
الأوّل: ما ذكره صاحب كتاب السعادات مرويّا عن الصادق عليه السّلام:
تقرأ الحمد مرّة، و الإخلاص ثلاثا، و تصلّى على محمّد و آله خمس عشرة مرّة، ثم تقول: «اللّهمّ إنّي أسألك بحق الحسين و جدّه، و أبيه و أمه و أخيه و الأئمة من ذريّته، أن تصلّي على محمّد و آل محمّد، و أن تجعل لي الخيرة في هذه السبحة، و أن تريني ما هو الأصلح لي في الدين و الدّنيا، اللّهمّ إن كان الأصلح لي في ديني و دنياي و عاجل أمري و آجله فعل ما أنا عازم عليه فأمرني، و إلّا فانهني، إنك على كلّ شيء قدير». ثم تقبض قبضة من السبحة و تعدّها، و تقول: «سبحان اللّه و الحمد للّه و لا إله إلّا اللّه» إلى آخر القبضة، فإن كانت الأخيرة «سبحان اللّه» فهو مخير بين الفعل و الترك، و إن كان الحمد للّه فهو أمر، و إن كان لا إله إلّا اللّه فهو نهي «2».
الثاني: ما ذكره الشهيد قدّس سرّه في كتاب الذكرى قال: و لم تكن هذه مشهورة في العصور الماضية، قبل زمان السيد الكبير العابد رضيّ الدين محمّد بن محمّد الآوي الحسيني المجاور بالمشهد المقدّس الغرويّ رضي اللّه عنه، و قد رويناها عنه. و جميع مرويّاته، عن عدّة من مشايخنا، عن الشيخ الكبير الفاضل جمال الدين ابن المطهّر، عن والده رضي اللّه عنهما، عن السيد رضيّ الدين، عن صاحب الأمر عليه الصلاة و السّلام: يقرأ الفاتحة عشرا، و أقله ثلاث، و دونه مرّة، ثمّ يقرأ القدر عشرا، ثمّ يقول هذا الدعاء ثلاثا: «اللّهمّ إنّي أستخيرك لعلمك بعاقبة الأمور،
__________________________________________________
(1) ذكرى الشيعة: ص 252.
(2) بحار الأنوار: ج 91 ص 250- 251، ح 5 نقلا من كتاب السعادات.
140
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثالث و الثلاثين ص 126
و أستشيرك لحسن ظنّي بك في المأمور و المحذور، اللّهمّ إن كان الأمر الفلاني ممّا قد نيطت «1» بالبركات أعجازه «2» و بواديه «3» و حفّت بالكرامة أيامه و لياليه، فخر لي اللّهمّ فيه خيرة تردّ شموسه ذلولا و تقعض «4» أيامه سرورا، اللّهمّ إمّا أمر فأئتمر، و إمّا نهي فأنتهي، اللّهمّ إنّي استخيرك برحمتك خيرة في عافية». ثم يقبض على قطعة من السبحة، و يضمر حاجته، فإن كان عدد تلك القطعة زوجا، فهو «افعل»، و ان كان فردا «لا تفعل»، او بالعكس «5».
و ذكر ابن طاووس قدّس سرّه هذه الاستخارة في كتاب الاستخارات، فقال:
وجدته بخط أخي الصالح الرضي الآوي محمّد بن محمّد بن محمّد الحسيني «ضاعف اللّه سيادته، و شرّف خاتمته» ما هذه لفظه عن الصادق عليه السّلام: من أراد أن يستخير اللّه تعالى، فليقرأ الحمد عشر مرّات، و إنّا أنزلناه عشر مرّات، ثم يقول و ذكر الدعاء، إلّا أنّه قال عقيب قوله «و المحذور»: «اللّهمّ إن كان أمري هذا قد نيطت بالبركات اعجازه و بواديه»، و عقيب قوله: «أيّامه سرورا» «يا اللّه إمّا أمر فائتمر، و إمّا نهي فانتهي، اللّهمّ خرلي برحمتك خيرة في عافية» ثلاث مرّات، ثمّ يأخذ كفّا من الحصى أو سبّحة «6».
الثالث: ما رواه الشيخ المرحوم يوسف بن حسين ابن أبي «طاب ثراه»، عن الشيخ الشهيد محمّد بن مكي عطر اللّه مرقده، تقرأ «إنّا أنزلناه» عشر مرات، ثم تدعو بهذا الدعاء «اللّهمّ إنّي أستخيرك لعلمك بعاقبة الأمور، و أستشيرك لحسن ظنّي بك في
__________________________________________________
(1) نيطت: أي تعلقت، و ناط الشيء: تعلق.
(2) اعجازه: أي آخره.
(3) بوادية: أي أوّله.
(4) قعضت العوذ عطفته، كما تعطف عروش الكرم و الهودج.
(5) ذكرى الشيعة: ص 252.
(6) بحار الأنوار: ج 91 ص 247 ح 1.
141
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثالث و الثلاثين ص 126
..........
المأمول و المحذور، اللّهم إن كان الأمر الذي عزمت عليه ممّا نيطت البركة بأعجازه و بواديه، و حفّت بالكرامة أيامه و لياليه، فاسألك بمحمّد و علي و فاطمة و الحسن و الحسين و علي و محمّد و جعفر و موسى و علي و محمّد و علي و الحسن و الحجّة القائم عليه السّلام، أن تصلّي على محمّد و عليهم أجمعين، و ان تخير لي فيه خيرة ترد شموسه ذلولا، و تقعض «1» ايامه سرورا، اللهمّ إن كان أمرا فاجعله في قبضة الفرد، و إن كان نهيا فاجعله في قبضة الزوج» ثم تقبض على السبحة و تعمل على ما يخرج «2».
(تتمّة) الأدعية المأثورة للاستخارة كثيرة جدّا.
فمنها، و هو من أدعية السرّ: يا محمّد من هم بأمرين فأحب أن اختار له ارضاهما إليّ فالزمه إيّاه، فليقل حين يريد ذلك: «اللّهمّ اختر لي بعلمك، و وفقني بعلمك لرضاك و محبّتك، اللّهمّ اختر لي بقدرتك، و جنّبني بعزتك مقتك و سخطك، اللّهمّ فاختر لي بما «3» أريد من هذين الأمرين- و يسمّيهما- أحبّهما إليك، و أرضاهما لك، و أقر بهما منك، اللّهمّ إنّي أسألك بالقدرة الّتي زويت بها علم الأشياء عن جميع خلقك، أن تصلّي على محمّد و آل محمّد، و اغلب بالي و هواي و سريرتي و علانيتي بأخذك، و اسفع بناصيتي إلى ما تراه لك رضا ولي صلاحا فيما أستخيرك، حتّى تلزمني من ذلك أمرا أرضى فيه بحكمك، و اتّكل فيه على قضائك، و اكتفي فيه بقدرتك، و لا تقلبني، و هواي لهواك مخالف، و لا ما أريد لما تريد مجانب، اغلب بقدرتك- التي تقضي بها ما أحببت على ما أحببت- بهواك هواي، و يسّرني لليسرى التي ترضى بها عن صاحبها، و لا تخذلني بعد تفويضي إليك أمري برحمتك التي
__________________________________________________
(1) «الف»: تقعص.
(2) بحار الأنوار: ج 91 ص 251 ح 6.
(3) «الف» ما.
142
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثالث و الثلاثين ص 126
..........
وسعت كلّ شيء اللّهمّ أوقع خيرتك في قلبي، و افتح قلبي للزومها، يا كريم آمين» فإنّه إذا قال ذلك أخذت له منافعه في العاجل و الآجل «1».
(و منها:) ما روي عن الرضا عليه السّلام، و هو من أدعية الوسائل إلى المسائل «اللّهمّ إنّ خيرتك فيما أستخيرك فيه، تنيل الرغائب و تجزل المواهب و تغنم المطالب، و تطيب المكاسب، و تهدى إلى أجمل المذاهب، و تسوق إلى أحمد العواقب، و تقي مخوف النوائب. اللّهمّ إنّي أستخيرك فيما عزم رأيي عليه، و قادني عقلي إليه، فسهّل- اللّهمّ- منه ما توعّر، و يسّر منه ما تعسّر، و اكفني فيه المهمّ و ادفع عنّي كلّ ملمّ، و اجعل- ربّ- عواقبه غنما، و مخوفه سلما، و بعده قربا، و جدبه خصبا، و أرسل- اللّهمّ- إجابتي، و أنجح طلبتي، و اقض حاجتي، و اقطع عوائقها، و امنع بوائقها، و أعطني- اللّهمّ- لواء الظفر بالخيرة فيما استخرتك، و وفور النّعم فيما دعوتك، و عوائد الإفضال فيما رجوتك، و اقرنه اللّهمّ- ربّ- بالنجاح، و حطه بالصّلاح، و أرني أسباب الخيرة واضحة، و أعلام غنمها لائحة، و اشدد خناق تعسّرها، و أنعش صريع تيسرها، و بيّن- اللّهمّ- ملتبسها، و اطلق محتبسها، و مكّن اسّها حتى تكون خيرة مقبلة بالغنم، مزيلة للغرم، و عاجلة النفع، باقية الصنع، إنّك ولي المزيد، مبتدئ بالجود» «2».
(و منها:) ما رواه معاوية بن ميسرة عن الصادق عليه السّلام، أنّه قال: ما استخار اللّه عبد سبعين مرّة بهذه الاستخارة إلّا رماه اللّه بالخيرة. يقول: «يا أبصر الناظرين، و يا اسمع السامعين، و يا أسرع الحاسبين، و يا أرحم الراحمين، و يا أحكم الحاكمين، صلّ على محمّد و أهل بيته، و خرلي في كذا و كذا» «3».
(و منها:) ما روي عن أمير المؤمنين صلوات اللّه و سلامه عليه و هو: اللّهمّ إنّي
__________________________________________________
(1) بحار الأنوار: ج 91 ص 268 مع اختلاف يسير في بعض الالفاظ.
(2) بحار الأنوار: ج 91 ص 280- 281.
(3) وسائل الشيعة: ج 5 ص 214 ح 3.
143
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثالث و الثلاثين ص 126
..........
أستخيرك خيرة من فوّض إليك أمره، و أسلم إليك نفسه، و استسلم إليك في أمره، و خلالك وجهه، و توكّل عليك فيما نزل به، اللّهمّ خرلي، و لا تخر عليّ، و كن لي و لا تكن عليّ، و انصرني و لا تنصر عليّ، و أعني و لا تعن عليّ، و أمكني و لا تمكن منّي، و اهدني إلى الخير و لا تضلّني، و أرضني بقضائك، و بارك لي في قدرتك، إنّك تفعل ما تشاء و تحكم ما تريد، و أنت على كلّ شيء قدير. اللّهمّ إن كان لي الخيرة في أمري هذا في ديني و دنياي و عاقبة أمري فسهّله لي، و إن كان غير ذلك فاصرفه عنّي، يا أرحم الراحمين، إنّك على كل شيء قدير، و حسبنا اللّه و نعم الوكيل «1».
(و منها:) ما روي عن القائم عليه السّلام يدعى به للاستخارة و الحاجة و هو: «بسم اللّه الرّحمن الرّحيم، اللّهمّ إنّي أسألك باسمك الذي عزمت به على السماوات و الأرض فقلت لهما «ائتيا طوعا أو كرها، قالتا أتينا طائعين» و باسمك الذي عزمت به على عصا موسى، فإذا هي تلقف ما يأفكون. و أسألك باسمك الذي صرفت به قلوب السحرة إليك، حتّى قالوا: آمنّا بربّ العالمين. و أسألك بالقدرة التي تبلي بها كلّ جديد، و تجدّد بها كلّ بال، و أسألك بكلّ حقّ هو لك، و بكلّ حقّ جعلته عليك، إن كان هذا الأمر خيرا لي، في ديني و دنياي و آخرتي، أن تصلّي على محمّد و آل محمّد، و تسلّم عليهم تسليما، و تهيّئه لي، و تسهّله عليّ، و تلطف لي فيه، برحمتك يا أرحم الراحمين، و إن كان شرّا لي في ديني و دنياي و آخرتي، أن تصلّي على محمّد و آل محمّد، و تسلّم عليهم تسليما، و أن تصرفه عنّي بما شئت، و كيف شئت، و ترضيني بقضائك، و تبارك لي في قدرك، حتى لا أحبّ تعجيل شيء أخّرته، و لا تأخير شيء عجلته، فإنّه لا حول و لا قوّة إلّا بك، يا عليّ يا عظيم، يا ذا الجلال و الاكرام» «2».
__________________________________________________
(1) بحار الأنوار: ج 91 ص 284.
(2) بحار الأنوار: ج 91 ص 276.
144
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثالث و الثلاثين ص 126
قال صلوات اللّه و سلامه عليه:
اللّهمّ إنّي أستخيرك بعلمك، فصلّ على محمّد و آله و اقض لي بالخيرة، و ألهمنا معرفة الاختيار، و اجعل ذلك ذريعة إلى الرضا بما قضيت لنا، و التسليم لما حكمت.
و لنكتف منها بهذا المقدار، فإنّ فيه الكفاية إن شاء اللّه تعالى، و نشرع الآن في شرح الدعاء.
[] أستخيرك أي أطلب منك أنّ تختار لي أصلح الأمرين أو الأمور.
و الباء من قوله: «بعلمك»، إمّا للسببيّة، أي بسبب علمك بخيري و شرّي، أو للملابسة، أي ملتبسا بعلمك بخيري و شرّي، أو للاستعانة، أي مستعينا بعلمك فإنّي لا أعلم فيم خيري، أو للقسم الاستعطافي، أي بحقّ علمك.
و اقض لي بالخيرة أي احكم لي بالخيرة، من القضاء بمعنى الحكم، أو أوجب لي الخيرة من قضى بمعنى أوجب.
قال الأزهريّ: القضاء لغة على وجوه، مرجعها إلى انقطاع الشيء و تمامه، و كلّ ما احكم عليه «1» أو أتمّ او حتم أو ادّي: إذا وجب أو انفذ أو أمضى فقد قضي «2».
و الخيرة بسكون الياء و فتحها، يقال: هما لغتان بمعنى واحد. و قيل: الأولى اسم من الاختيار، كالفدية اسم من الافتداء. و الثانية اسم من تخيّرت الشيء، كالطيرة أسم من تطيّر. و قيل: هي بفتح الياء بمعنى الخيار. و الخيار هو الاختيار.
[ 978] و ألهمه اللّه الأمر: ألقاه في روعه و قلبه، و لقّنه إيّاه.
و الاختيار: فعل ما هو خير و أخذه.
و الذريعة: الوسيلة.
__________________________________________________
(1) «ألف»: علمه.
(2) تهذيب اللغة: ج 9 ص 211 نقلا بالمعنى.
145
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثالث و الثلاثين ص 126
فأزح عنّا ريب الارتياب، و أيّدنا بيقين المخلصين، و لا تسمنا عجز المعرفة عمّا تخيّرت فنغمط قدرك، و نكره موضع رضاك، و نجنح إلى التي هي أبعد من حسن العاقبة، و أقرب إلى ضدّ العافية.
و الإشارة بذلك إلى الإلهام، أو إلى معرفة الاختيار. و المراد معرفة اختياره تعالى لما يختاره له، أي وجه الحكمة و المصلحة فيه، ليكون سببا للرضا بقضائه تعالى، و التسليم لحكمه. لأنّه إذا عرف خيريّة ما اختاره اللّه تعالى، تلقّاه بالقبول و الرضا، و أخلص التسليم لما حكم و قضى.
و غرضه عليه السّلام بذلك تأييد إيقانه، و ازدياد قلبه اطمئنانا إلى اطمئنانه، كما قال إبراهيم عليه السّلام «بلى و لكنْ ليطمئنّ قلبي» «1» و إلّا فالعلم بأنّه تعالى عدل حكيم، لا يفعل شيئا إلّا على ما تقتضيه الحكمة، و تستدعيه المصلحة كاف في الرضا و التسليم. على أنّ للرضا مبدأ و منته، فمبدأه سكون القلب إلى أحكام اللّه تعالى، و منتهاه فرح القلب و سروره بنزول الأحكام في الحلو و المرّ. فسؤاله عليه السّلام معرفة الاختيار لحصول المنته، و إن كان الأوّل حاصلا، و هو من باب سؤال حقّ اليقين بعد علم اليقين. و اللّه أعلم.
[ 979] الفاء: عاطفة سببيّة.
و زاح الشيء يزيح زيحا: بعد و ذهب، و أزاحه غيره.
و في الأساس: أزاح اللّه العلل، و أزحت علته فيما يحتاج إليه، و زاحت علّته و انزاحت، و هذا ممّا تنزاح به الشكوك عن القلوب «2».
و الريب: قلق النفس و اضطرابها.
و الارتياب: الشكّ، مصدر ارتاب في الأمر، إذا شكّ فيه. أي أذهب عنّا القلق و الاضطراب الذي يوجبه الشكّ، أو ما يقلق النفس، و يشخص بالقلب من
__________________________________________________
(1) سورة البقرة: الآية 260.
(2) أساس البلاغة: ص 280.
146
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثالث و الثلاثين ص 126
..........
الشكّ و الارتياب، كقولهم: ريب المنون و ريب الزمان.
قال الزمخشري في الكشّاف: الريب مصدر رابني إذا حصل فيه «1» الريبة، و حقيقة الريبة قلق النفس و اضطرابها. و منه ما روى الحسن بن علي عليهما السّلام، قال: سمعت رسول اللّه، صلّى اللّه عليه و آله، يقول: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك فإنّ الشك ريبة، و الصدق طمأنينة» أي فانّ كون الأمر مشكوكا فيه ممّا تقلق له النفس، و لا تستقرّ، و كونه صحيحا صادقا ممّا تطمئنّ له و تسكن. و منه ريب الزمان، و هو ما يقلق النفوس، و يشخص بالقلوب من نوائبه «2». انته.
و يحتمل أن يكون المراد بالريب التهمة. فإنها من معانيه، كما نصّ عليه الفيروزآبادي في القاموس «3».
و على كلّ حال فالمراد بالارتياب و الشكّ خلاف اليقين بأن يتوهّم أو يظنّ أنّ أفعاله تعالى قد تجري على خلاف العدل، أو أنّ حكمته سبحانه قد يفوتها شيء من المصالح، فيريبه ذلك و يقلقه و لا تطمئنّ نفسه إذا وقع الأمر على خلاف هواه، أو يحمله ذلك على تهمته- تعالى عن ذلك علوّا كبيرا- بأنّه فعل به غير الأصلح، أو اختار له شرّ الأمرين.
روى البرقي في محاسنه عمّن ذكره، عن بعض أصحابه، قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: من أكرم الخلق على اللّه؟ قال: أكثرهم ذكرا للّه، و أعملهم بطاعته. قلت: فمن أبغض الخلق إلى اللّه؟ قال: من يتّهم اللّه، قلت: و أحد يتّهم اللّه؟ قال: نعم، من استخار فجاءته الخيرة بما يكره فسخط، فذلك يتهم اللّه «4».
و من كلام أمير المؤمنين عليه السّلام: التوحيد أن لا تتوهّمه، و العدل أن لا تتّهمه «5».
__________________________________________________
(1) «الف»: منك.
(2) تفسير الكشاف: ج 1 ص 34.
(3) القاموس المحيط: ج 1 ص 77.
(4) المحاسن للبرقي: ص 598.
(5) نهج البلاغة: ص 558 الحكم 470.
147
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثالث و الثلاثين ص 126
..........
و المراد بإزاحة ريب الارتياب إزاحة الارتياب مطلقا، من باب نفي الشيء بنفي لازمه، كقوله:
من أناس ليس في أخلاقهم، عاجل الفحش و لا سوء الجزع. أي لا فحش و لا جزع أصلا.
فإن قلت: قد قررت أنّ سؤاله عليه السّلام إلهام معرفة الاختيار و جعله ذريعة إلى الرضا و التسليم لتأييد الإيقان، و ازدياد الاطمئنان، و قضيّته عدم حصول الشكّ و الارتياب رأسا، فكيف يكون قوله: «فأزح عنّا ريب الارتياب» متسبّبا عن ذلك السؤال، و إزاحة الشيء و إذهابه إنّما يكون بعد حصوله و تحقّقه.
قلت: ليس المراد بالإزاحة و الإذهاب هنا، إزالة ريب الارتياب بعد كونه و حصوله، و إن كان ذلك معناه في أصل الوضع. بل هو من قبيل قوله تعالى: «إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» «1» و معناه حسم أسباب الرجس، و عدم الإعداد له رأسا لا إزالته بعد حصوله. و لذلك قال الزمخشري: بيّن تعالى بهذه الآية أنّه إنّما يريد أن لا يقارف أهل البيت رسول اللّه، المآثم، و أن يتصوّنوا عنها بالتقوى «2».
و في الحديث عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال: الرّجس في هذه الآية هو الشكّ «3».
و في رواية: عنه عليه السّلام: و اللّه لا نشكّ في ربّنا أبدا «4».
و التعبير عن حسم الأسباب و عدم الإعداد بالإزاحة و الإذهاب، من باب سبحان من صغّر البعوض و كبّر الفيل، أي أنشأهما كذلك، و قولك للحفّار: ضيّق فمّ الركيّة و وسّع أسفلها، أي احفرها كذلك.
__________________________________________________
(1) سورة الأحزاب: الآية 33.
(2) تفسير الكشّاف: ج 3 ص 538.
(3) تفسير البرهان: ج 3 ص 310 ح 5.
(4) تفسير البرهان: ج 3 ص 309 ح 2.
148
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثالث و الثلاثين ص 126
..........
قال الزمخشري: و ليس ثمّ نقل من كبر إلى صغر، و لا من صغر إلى كبر، و لا من ضيق إلى سعة، و لا من سعة إلى ضيق، و إنّما أردت الإنشاء على تلك الصفات.
و السبب في صحّته أنّ الصغر و الكبر جائزان معا على المصنوع الواحد من غير ترجيح لأحدهما على الآخر. و كذلك الضيق و السعة، فإذا اختار الصانع أحد الجائزين، و هو متمكّن منهما على السواء، فقد صرف المصنوع عن الجائز الآخر، فجعل صرفه منه كنقله منه «1». انته.
و استعمال هذا المجاز وقع في القرآن المجيد في غير موضع:
منه قوله تعالى: «وَ جَعَلْنَا اللَّيْلَ وَ النَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ» «2» الآية.
قال العلّامة العمادي: محوها جعلها محوة الضوء، مطموسة. لكن لا بعد أن لم تكن كذلك، بل إبداعها كذلك، كما في قولهم: سبحان من صغّر البعوض و كبّر الفيل «3».
و منه قوله تعالى: «رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَ أَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ» «4».
قال الزمخشري: أراد بالإماتتين: خلقهم أمواتا أوّلا، و إماتتهم عند انقضاء آجالهم. و صحّ تسمية خلقهم أمواتا إماتة، كما صحّ أن تقول: سبحان من صغّر البعوضة و كبّر جسم الفيل «5». انته. و اللّه أعلم.
قوله عليه السّلام: «و أيدنا بيقين المخلصين».
التأييد من اللّه سبحانه: تقوية أمر الإنسان من داخل بالبصيرة، و من خارج بقوّة البطش. و الأوّل قال تعالى: «إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ» «6».
و اليقين: العلم مع زوال الشكّ و عدم طريانه.
__________________________________________________
(1) تفسير الكشاف: ج 4 ص 154.
(2) سورة الأسراء: الآية 12.
(3) تفسير أبي السعود: ج 5 ص 159.
(4) سورة غافر: الآية 11.
(5) تفسير الكشاف: ج 4 ص 154.
(6) سورة المائدة: الآية 109.
149
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثالث و الثلاثين ص 126
..........
و المخلصين على صيغة الفاعل: هم الذين أخلصوا الدين و العبادة اللّه، فلم يشركوا به، و لم يعصوه.
و قيل: هم الذين يخفون حسناتهم كما يخفون سيّئاتهم.
و لمّا كان لليقين مراتب مرتّبة في الفضل، أوّلها علم اليقين، و ثانيها حقّ اليقين، و ثالثها عين اليقين، و كان الأوّل حاصلا بالبرهان، و الثاني و الثالث حاصلين بالكشف و المجاهدات و الرياضات النفسانيّة، و الهدايات الخاصّة بالأولياء المخلصين، سأل عليه السّلام التأييد بيقينهم.
[ 980] قوله عليه السّلام: «و لا تسمنا عجز المعرفة عمّا تخيّرت». سمت فلانا الأمر سوما: كلّفته إيّاه.
و في كتاب العين: السوم: أن تجشّم إنسانا مشقّة أو خطة شرّ «1».
و قال الراغب: السوم: الذهاب في ابتغاء الشيء، فهو لفظ لمعنى مركّب من الذهاب و الابتغاء، فأجري مجرى الذهاب في قولهم: سامت الإبل، فهي سائمة، و مجرى الابتغاء، في قولهم: سمت كذا، قال تعالى: «يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ»*.
و قيل: سيم فلان الخسف، و منه: السوم في البيع «2». انته.
و سؤال عدم السوم و التكليف بعجز المعرفة من قبيل «اللّهمّ لا تسلّط علينا من لا يرحمنا» أي لا تخلّ بيننا و بين من لا يرحمنا، فيسلّط علينا، فكأنّه قال: لا تخل بيننا و بين أنفسنا بمنعك التوفيق و اللطف عنا، فتعجز معرفتنا عمّا تخيّرت. و هذا فزع منه عليه السّلام إلى ألطاف اللّه تعالى جريا على سنن الأنبياء و الأوصياء و الصالحين في قصد نيل الخيرات، و النجاة من الشرور على جناب اللّه عزّ و جلّ، و سلب القوى و القدر عن أنفسهم، و مبالغة في استدعاء لطفه تعالى في صرف الجهل
__________________________________________________
(1) كتاب العين: ج 7 ص 320. و فيه: «و خطة من الشر».
(2) المفردات: ص 250.
150
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثالث و الثلاثين ص 126
..........
بما يختاره له بإظهار أن لا قدرة له بمعرفته و العلم به ما لم يعرفه.
و في رواية «و لا تسمّنا» بكسر السين، من وسمه يسمه وسما، من باب وعد، و الاسم السمة، و هي العلّامة و الأثر.
و قال الجوهري: و سمه وسما وسمة إذا أثّر فيه بسمة و كيّ «1».
قال الزمخشري في الأساس: و من المجاز وسمه بالهجاء و هو موسوم بالخير و الشر «2». انته.
و الأصل: و لا تسمنا بعجز المعرفة، فحذف الجار و أوصل الفعل، كما قالوا:
أمرتك الخير، و الأصل أمرتك بالخير و مثله كثير في كلامهم.
قوله عليه السّلام: «فنغمط قدرك، و نكره موضع رضاك». «الفاء»: عاطفة سببيّة.
و غمطه يغمطه غمطا، من باب- ضرب و قتل و سمع- ازدراه و احتقره، و النعمة كفرها فلم يشكرها.
القدر- بالسكون-: إمّا بمعنى القدر- بالتحريك- أي التقدير، و منه ليلة القدر.
قال في الكشّاف: معنى ليلة القدر: ليلة تقدير الأمور و قضائها من قوله: «فيها يفرق كلّ أمر حكيم» «3» انته.
و إمّا بمعنى الخطر و عظم الشأن، و منه: «و ما قدروا اللّه حقّ قدره» «4»، أي ما عظّموه حقّ عظمته، و قيل «في ليلة القدر» سمّيت بذلك لخطرها و شرفها على سائر الليالي.
و المعنى على الأوّل: فنحتقر تقديرك المشتمل على المصلحة، أو نكفره و لا نشكره.
__________________________________________________
(1) الصحاح: ج 5 ص 2051.
(2) أساس البلاغة: ص 675.
(3) تفسير الكشاف: ج 4 ص 780.
(4) سورة الأنعام: الآية 91.
151
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثالث و الثلاثين ص 126
..........
و على الثاني: فنحتقر عظم شأنك بالكراهة لما تخيّرت.
[ 981] و موضع رضاه تعالى: كناية عمّا اختاره و قدّره و قضاه سبحانه لتعلّق مشيئته و رضاه به، فكأنّه موضع و محلّ لرضاه سبحانه. و هذا يسمّيه أرباب البديع الإرداف، و هو أن يريد المتكلّم معنى فلا يعبّر عنه بلفظه «1» الموضوع له، بل بلفظ هو ردفه و تابعه كقول الشاعر:
كأنّ ظباه المشرفيّة من كرى فما تبتغي إلّا مقرّ المحاجر
أراد بمقر المحاجر الرءوس. و المحاجر: جمع محجر، كمسجد، و هو ما حول العين.
قوله عليه السّلام: «و نجنح إلى التي هي أبعد من حسن العاقبة» إلى آخره.
جنح إلى الشيء يجنح- بفتحتين- و جنح جنوحا، من باب- قعد- لغة: مال إليه، من قولهم: جنحت السفينة، أي مالت إلى أحد جانبيها.
أي يميل إلى الحالة التي هي أبعد الحالات من حسن العاقبة، أو إلى الخصلة أو الطريقة. و في حذف الموصوف و إبهامه فخامة يعرفها أهل البلاغة لعموم الاعتبار، و ذهاب الوهم كلّ مذهب.
قال الزمخشري: أيّما قدرت من الموصوفات في هذا المقام لم تجد مع الإثبات ذوق البلاغة التي تجده مع الحذف لما في إبهام الموصوف بحذفه من فخامة تفقد مع إيضاحه «2». انته.
قال صاحب الكشف: و ذلك لما في الإبهام من الدلالة على أنّه جرى الوادي فطم على الركى «3». انته.
و حسن العاقبة: أي حسن الخاتمة، و عاقبة كلّ شيء و عقباه، خاتمته.
و ضدّ الشيء: ما لا يجتمع معه، كالسواد الذي هو ضدّ البياض.
__________________________________________________
(1) «الف»: بلفظ.
(2) يحتمل في الناس لا يوجد فيه.
(3) لم نتحقّقه.
152
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثالث و الثلاثين ص 126
حبّب إلينا ما نكره من قضائك، و سهّل علينا ما نستصعب من حكمك، و ألهمنا الانقياد لما أوردت علينا من مشيّتك، حتّى لا نحبّ تأخير ما عجّلت، و لا تعجيل ما أخرت، و لا نكره ما أحببت، و لا نتخيّر ما كرهت.
و ما أبلغ قوله عليه السّلام: «و أقرب إلى ضدّ العافية» فإنّ العافية متناولة لدفع جميع المكروهات في الظاهر و الباطن، و الدين و الدنيا و الآخرة، فيكون ضدّها متناولا لجلب جميع المكروهات، فيما ذكر و في هاتين الفقرتين من البديع الطباق، بين «أبعد، و أقرب»، و جناس التصحيف في «العاقبة و العافية». و اللّه أعلم.
فصل عليه السّلام الجملة الأولى عمّا قبلها: لكمال الاتّصال، لكونها و ما بعدها كالبدل من الكلام السابق، إذ كانت أوفى بتأدية المراد، الذي هو سؤال عدم الكراهة لما اختاره سبحانه، و ما يترتّب عليها من استصعاب حكمه و عدم التسليم لمشيئته تعالى، فإنّ هذا المعنى تضمّنه الكلام السابق، لكن لا يدلّ عليه دلالة هذه الجمل، فإنّ دلالتها عليه بالمطابقة، و ذلك بالالتزام، فكانت أوفى بتأدية المراد منه.
[ 982] و حبّبت إليه الشيء: جعلته محبوبا لديه. و تحبيبه تعالى للطاعات و نحوها إلى عباده يكون بإضافة «1» وجوه الألطاف و التوفيق. فلا دلالة في ذلك على مسألة خلق الأعمال، كما تزعمه الأشاعرة.
و استصعبت الأمر: وجدته صعبا.
و تسهيله ما يستصعب من حكمه يكون بعنايته المهيئة للذهن و النفس قبول ذلك بسهولة.
[ 983] و إلهامه الانقياد لمشيّته: «2» يكون بتأييد خاصّ باطني، يقوّي به عقله على قهر نفسه الأمّارة بالسوء، فتنقاد و تذعن لذلك، و مرجع ذلك كلّه إلى الألطاف الداعية إليه.
__________________________________________________
(1) «ألف»: بافاضته.
(2) «الف»: لمشيئته.
153
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثالث و الثلاثين ص 126
..........
و المراد بالكراهة و الاستصعاب المذكورين: كراهة الطباع و استصعابها لا على وجه السخط، فقد يكون الشيء مكروها صعبا عند الإنسان في طبعه، و من حيث تنفر نفسه عنه، و يشقّ عليها، و إن كان يريده. لأنّ اللّه تعالى أمر به، كالصوم في الصيف، و الإحرام في الشتاء. فسؤاله عليه السّلام تحبيب ذلك، و تسهيله: جعله ملائما للطبع، مقبولا عند النفس، غير شاقّ عليها، لتزول الكراهة و الاستصعاب، بمقتضى الطبع.
و «حتى» مرادفة ل «كي» التعليليّة، أي «كي لا نحبّ تأخير ما عجّلت» إلى آخره، و ذلك أنّ علمه تعالى فعليّ، يعلم الأسباب و ما يترتّب عليها. و الحوادث و ما نشأت هي منها، فهو محيط بالمبادئ و الغايات، و لا يعزب عنه مثقال ذرّة في الأرض و السماوات، فما يعجّله و ما يؤخّره، و ما يحبّه و ما يكرهه لا يكون إلّا عن مصلحة و حكمة، فهو لا يختار للعبد إلّا ما فيه خيره و صلاحه.
و أمّا علم البشر فهو انفعاليّ، فربّما عكس التصورات فظنّ المبادئ غايات، و بالعكس، و المصالح مفاسد، و بالضد. فيجب على العبد أن يتصوّر قصور نفسه، و كمال علم ربّه تعالى، فيتحقّق و يتيقّن انّ كلّ ما اختاره له هو عين مصلحته، فيلزم نفسه قبوله، و التسليم له، و إن كرهه طبعه، و نفرت عنه نفسه، فزع إليه- سبحانه- بالدعاء في جعل إرادته موافقة لإرادته سبحانه، كما فعل سيّد العابدين عليه السّلام، ليخلص من المخالفة طبعا و اعتقادا، و قد بيّن سبحانه و تعالى هذا المعنى أوضح بيان بقوله: وَ عَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ عَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَ هُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ «1».
و المحبّة من العبد: ميل نفسه إلى ما تتصوّر كونه موافقا و ملائما لها.
و من اللّه تعالى: إرادة هي مبدأ فعل ما، و تعود إلى علمه باشتمال الفعل على
__________________________________________________
(1) سورة البقرة: الآية 216.
154
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثالث و الثلاثين ص 126
و اختم لنا بالتي هي أحمد عاقبة، و أكرم مصيرا، إنّك تفيد الكريمة، و تعطي الجسيمة، و تفعل ما تريد، و أنت على كلّ شيء قدير.
المصلحة الداعية إلى إيجاده.
و الكراهيّة في العبد: ميل نفسه عمّا تتصوّر كونه مضرّا و مؤلما لها.
و من اللّه تعالى: خلاف الإرادة، و تعود إلى علمه، باشتمال الفعل على المفسدة الصارفة عن إيجاده.
قال بعضهم: و لمّا كانت حقيقة المحبّة و الكراهة، إنّما هو ميل النفس الإنسانيّة و نفورها، كان إطلاقهما في حقّه تعالى على علمه المخصوص مجازا، من باب إطلاق اسم اللازم على الملزوم. و اللّه أعلم.
[ 984] ختم القرآن، و كلّ عمل يختمه ختما، من باب- ضرب- إذا أتمّه و فرغ منه، أي اختم لنا أمرنا بالحالة الّتي هي أحمد الحالات عافية.
و حذف المفعول لتعيّنه، و لأنّ الغرض سؤاله المختوم به.
و أحمد هنا أفعل تفضيل من حمد، مبنيّا للمفعول على غير القياس، أي أكثر محموديّة.
و بيان ذلك: إنّ شرط نصب التمييز الواقع بعد اسم التفضيل أن يكون سببيّا، و ذلك بأن يجعل مكان اسم التفضيل فعل من لفظه و معناه، و يرفع التمييز به مع صحّة المعنى فنقول في «زيد أكثر مالا»، زيد كثر مالا بالبناء للفاعل، و في «زيد أحمد عاقبة»، زيد حمدت عاقبته بالبناء للمفعول، فلو جعلت الفعل هنا مبنيّا للفاعل لم يصحّ المعنى، لأنّ العاقبة إنّما تكون محمودة لا حامدة. و أمّا أكرم مصيرا فهو للفاعل على القياس من كرم الشيء إذا انتفت عنه النقائص، و اتّصف بالمحامد.
و المصير: المرجع و المآل. مصدر ميمي من صار الأمر إلى كذا، أي رجع و آل إليه.
و أفدته مالا: أعطيته.
155
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثالث و الثلاثين ص 126
..........
و الكريمة: النفيسة الجيّدة من كلّ شيء، و منه حديث الزكاة «و اتّق كرائم أموالهم» «1» أي نفائسها، من كرم الشيء كرما، أي نفس و عزّ. و كلّ شيء يعز و يشرف في بابه يوصف بالكرم.
و الجسيمة: العظيمة. من جسم الشيء جسامة، أي عظم، فهو جسيم، و هي جسيمة.
و الجمل تعليل للدعاء و مزيد لاستدعاء الإجابة. فإنّ من يفيد الكريمة، و يعطي الجسيمة، و يفعل ما يريد، و هو على كلّ شيء قدير، أولى و أجدر بإيصال كلّ المنافع، و أقرب من دعاه الداعون، و رجاه الراجون، و أمّل ما لديه الراغبون و اللّه سبحانه و تعالى أعلم. [] هذا آخر الروضة الثالثة و الثلاثين من رياض السالكين، وفق اللّه لإتمامها لثلاث بقين من شعبان، سنة أربع و مائة و ألف.
__________________________________________________
(1) النهاية لابن الأثير: ج 4 ص 167.
156
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
الروضة الرابعة و الثلاثون ص 157
الروضة الرابعة و الثلاثون
157
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
و كان من دعائه عليه السلام إذا ابتلى أو رأى مبتلى بفضيحة بذنب ص 158
..........
و كان من دعائه عليه السّلام إذا ابتلى أو رأى مبتلى بفضيحة بذنب
اللّهمّ لك الحمد على سترك بعد علمك و معافاتك بعد خبرك فكلّنا قد اقترب العائبة فلم تشهره و ارتكب الفاحشة فلم تفضحه و تستّر بالمساوى فلم تدلل عليه كم نهى لك قد اتيناه و امر قد وقفتنا عليه فتعدّيناه و سيّئة اكتسبناها و خطيئة ارتكبناها كنت المطّلع عليها دون النّاظرين و القادر على اعلانها فوق القادرين كانت عافيتك لنا حجابا دون أبصارهم و ردما دون اسماعهم فاجعل ما سترت من العورة و اخفيت من الدّخيلة واعظا لنا و زاجرا عن سوء الخلق و اقتراف الخطيئة و سعيا إلى التّوبة الماحية و الطّريق المحمودة و قرّب الوقت فيه و لا تسمنا الغفلة عنك إنّا إليك راغبون و من الذّنوب تائبون و صلّ على خيرتك اللّهمّ من خلقك محمّد و عترته الصّفوة من بربّتك الطّاهرين و اجعلنا لهم سامعين و مطيعين كما أمرت
158
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
مقدمة الشارح ص 159
[مقدمة الشارح]
[] (الروضة الرابعة و الثلاثون) بسم اللّه الرحمن الرحيم و إيّاه نستعين الحمد للَّه ساتر الفضائح و القبائح، و غافر الجرائر و الجرائح، و الصلاة و السّلام على نبيّه المنعوت بأشرف المدائح، و أهل بيته المخصوصين بأكرم المنائح.
و بعد: فهذه الروضة الرابعة و الثلاثون من رياض السالكين، في شرح صحيفة سيّد العابدين صلوات اللّه عليه و على آبائه و أبنائه الطاهرين، إملاء راجي فضل ربّه السنيّ علي الصدر الحسينيّ الحسنيّ، أحسن اللّه إليه، و أسبل ستر غفرانه عليه.
159
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الرابع و الثلاثين ص 160
شرح الدعاء الرابع و الثلاثين
و كان من دعائه عليه السّلام إذا ابتلي أو رأى مبتلى بفضيحة بذنب.
قال الراغب: بلى الثوب بلى و بلاء، أي: خلق. و بلوته: اختبرته كأنّي أخلقته من كثرة اختباري له «1».
و ابتلاء اللّه لعباده تارة بالمسارّ ليشكروا، و تارة بالمضارّ ليصبروا، فصارت المنحة و المحنة جميعا بلاء.
فالمحنة مقتضية للصبر، و المنحة مقتضية للشكر، قال تعالى: «وَ نَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَ الْخَيْرِ فِتْنَةً» «2».
و إذا قيل: ابتلى فلان بكذا تضمّن أمرين:
أحدهما: تعرّف حاله و الوقوف على ما يجهل من أمره.
و الثاني: ظهور جودته و رداءته.
و ربما قصد به الأمران، و ربما قصد به أحدهما. فإذا قيل: بلاه اللّه بكذا و ابتلاه، فليس المراد إلّا ظهور جودته و رداءته، دون التعرّف لحاله و الوقوف على ما يجهل منه، إذ كان اللّه تعالى علام الغيوب. و على هذا قوله تعالى «وَ إِذِ ابْتَلى
__________________________________________________
(1) المفردات: ص 61.
(2) سورة الأنبياء: الآية 35.
160
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الرابع و الثلاثين ص 160
قال صلوات اللّه و سلامه عليه.
اللّهمّ لك الحمد على سترك بعد علمك، و معافاتك بعد خبرك، فكلّنا قد اقترف العائبة فلم تشهره، و ارتكب الفاحشة فلم تفضحه، و تستّر بالمساويء فلم تدلل عليه.
«إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ» «1».
و الفضيحة: اسم من فضحه فضحا، من باب منع، إذا كشف مساوية، و بيّنها للنّاس.
و الباء من قوله: «بذنب» للاستعانة أو للسببيّة، متعلّق بفضيحة، فعلى الأوّل يكون الذنب بمنزلة الآلة للفضيحة، لأنّ باء الاستعانة هي الداخلة على آلة الفعل نحو كتبت بالقلم، و على الثاني يكون سببا للفضيحة.
[ 985] افتتح الدعاء بالنداء بوصف الالوهيّة الجامعة لجميع الكمالات، إظهارا لغاية التضرّع، و مبالغة في ابتداء الإجابة.
و تعريف «الحمد» للتعميم. و تقديم الخبر للتخصيص، أي لك الحمد كلّه، لا لأحد غيرك.
و سترت الشيء سترا- من باب قتل-: غطيته. و الستر بالكسر: ما يستتر به، و جمعه ستور.
و لم يتعرّض للمستور، لأنّ غرضه الحمد على حصول أصل الستر منه تعالى، من غير اعتبار تعلّقه بمستور عامّ أو خاصّ.
و لمّا كان المعنى لك الحمد على حصول الستر منك، و كانت اللام فيه للحقيقة، كان قوله عليه السّلام: «على سترك» مفيدا لعموم أفراد الستر، دفعا للتحكّم اللازم من حمله على فرد دون آخر، على ما حقّقه السعدّ التفتازاني في شرح التلخيص «2».
__________________________________________________
(1) سورة البقرة: الآية 124.
(2) شرح المختصر للتفتازاني: ص 7.
161
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الرابع و الثلاثين ص 160
..........
و قال الشريف العلّامة: الأظهر أن يقال: المفيد لعموم الأفراد هو المقام، أو الفعل بمعونة المقام «1».
و «بعد» ظرف زمان متراخ عن زمان سابق، فإذا قلت: جاء زيد بعد عمرو، كان معناه انّ زمان مجيئه كان متراخيا عن زمان مجيئه عمرو. لكن ليس المراد بها هنا مجرّد هذا المعنى، لأنّ الستر من كلّ أحد لا يتحقّق معناه إلّا بعد العلم بالمستور و الاطلاع عليه، و لهذا لا يقال للجاهل بالشيء: ستره، بل الغرض استعظام ستره تعالى، إذ كان هو الخصم و المنتقم الذي يقتضي علمه المؤاخذة و الانتقام. فستره بعد علمه ليس إلّا لمزيد الكرم، و نهاية الإحسان. و قس على ذلك.
قوله عليه السّلام: «و معافاتك بعد خبرك» و المعافاة: مصدر، عافاه اللّه، أي أعفاه إذا وهب له العافية.
قال في الأساس: العافية دفاع اللّه عن العبد، عافاه اللّه من المكروه معافاة، و عافية: و هب له العافية من العلل و البلايا كأعفاه «2».
و قال الرضي في شرح الشافية، في باب ما جاء من فاعل بمعنى فعل: عافاك اللّه. أي جعلك ذا عافية «3» انته.
فما وقع في بعض التراجم من أنّ معنى المعافاة هنا أن يعافيك اللّه من النّاس، و يعافيهم منك، بمعزل عن المقام.
و الخبر- بالضم-: العلم، لكن إذا أضيف إلى الخفايا الباطنة فهو أخصّ من مطلق العلم.
و قال الراغب: العلم بالأشياء المعلومة من جهة الخبر «4». و قيل: المعرفة ببواطن
__________________________________________________
(1) لا يوجد لدينا كتابه.
(2) لم نعثر عليه في أساس البلاغة للزمخشري بل وجدناه في القاموس المحيط: ج 4 ص 364.
(3) شرح الشافية: ج 1 ص 99.
(4) المفردات: ص 141.
162
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الرابع و الثلاثين ص 160
..........
الأمور، و قوله تعالى: «وَ اللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ»* «1» أي عالم بأخبار أعمالكم.
و قيل: «2» عالم ببواطن أموركم.
قوله عليه السّلام: «فكلّنا قد اقترف العائبة فلم تشهره».
الفاء: للترتيب الذكري، و هو عطف مفصّل على مجمل.
و اقتراف الإثم: اكتسابه و فعله.
قال الراغب: أصل القرف و الاقتراف قشر اللحاء عن الشجرة و الجلدة عن الجرح «3».
و استعير الاقتراف للاكتساب حسنا كان أو سوءا، و في الإساءة أكثر استعمالا، و لهذا يقال: الاعتراف يزيل الاقتراف.
و العائبة: العيب، مصدر جاء على فاعله، كالعافية و العاقبة.
و الشهرة- بالضم-: ظهور الشيء في شنعة «4»، شهره: كمنعه.
[ 986] و ارتكب الذنب: اجترحه.
و الفاحشة: ما عظم قبحه من الأفعال و الأقوال، كالفحش و الفحشاء.
و فضحه يفضحه، من باب- منع-: أظهر معائبه و بيّنها للناس.
و تستّر استتر: أي تغطّى و اختفى.
و الباء: للملابسة، أي ملتبسا بالمساوي، كقوله تعالى: «وَ قَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ» «5».
و من العجب ما وقع في بعض التراجم من حملها على الاستعانة تارة، و جعل المساوي هي المستتر «6» بها، فقال: معناه جعل المساوي لباسا له، و ستر بها نفسه،
__________________________________________________
(1) سورة آل عمران: الآية 153.
(2) «الف»: أي عالم.
(3) المفردات: ص 401.
(4) «الف»: و شهره.
(5) سورة المائدة: الآية 61.
(6) «الف»: المستتر بها.
163
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الرابع و الثلاثين ص 160
كم نهي لك قد أتيناه، و أمر قد وقفتنا عليه فتعدّيناه، و سيّئة اكتسبناها، و خطيئة ارتكبناها، كنت المطّلع عليها دون النّاظرين، و القادر على إعلانها فوق القادرين، كانت عافيتك لنا حجابا دون أبصارهم، و ردما دون أسماعهم.
فصار مغمورا بالذنوب. و على الزيادة أخرى، فقال: معناه أنّه أخفى الذنوب، و لم يرد أن يطلع عليها أحد، و كلّ ذلك خبط ظاهر.
و المساوي: النقائص و المعائب.
قال أبو الفضل الميداني في مجمع الأمثال: قال اللحياني: لا واحد للمساوي.
و مثلها المحاسن و المقاليد «1»، و كذا في فقه اللغة للثعالبيّ «2».
و دللت على الشيء و إليه، من باب- قتل- دلالة: أو صلت إلى معرفته، و كشفت أمره.
و فكّ الإدغام في المضاعف المجزوم لغة الحجاز، و الإدغام لغة أهل نجد، و كلّ فصيح، غير أنّ الأولى هي التي جاء بها التنزيل، قال تعالى: «وَ لَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ» «3».
[ 987] «كم» في محلّ رفع على الابتداء، و هي هنا خبريّة بمعنى كثير، و المراد بها التكثير. و «نهي» مميّز لها مجرور بإضافتها إليه.
و ذهب الفراء: إلى أنّ جرّه ب «من» مقدّرة، و عمل الجار المقدر، و إن كان في غير هذا الموضع نادرا، إلّا أنّه لما كثر دخول من على مميّزكم الخبريّة نحو: «و كم من
__________________________________________________
(1) مجمع الأمثال للميداني: ج 1 ص 238 رقم 1259.
(2) فقه اللغة: ص 332 و 333.
(3) سورة النور: الآية 35.
164
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الرابع و الثلاثين ص 160
..........
قرية» و «كم من آية» ساغ عمله مقدّرا، لأنّ الشيء إذا عرف في موضع جاز تركه، لقوّة الدلالة عليه «1».
و هذا القول نقله ابن مالك في شرح الكافية عن الخليل «2».
و في نسخة «كم نهيا لك» بالنصب، و هي إمّا على لغة من ينصب مميّز «كم» الخبريّة.
قال ابن هاشم في المغني: و زعم قوم انّ لغة تميم الجواز نصب تمييز «كم» الخبريّة إذا كان مفردا «3».
و قال الرضيّ: و بعض العرب ينصب مميّز «كم» الخبريّة مفردا كان أو جمعا بلا فصل، اعتمادا في التمييز بينها و بين الاستفهاميّة على قرينة الحال «4».
و إمّا على أنّ كم استفهامية لأنّ مميّزها لا يكون إلّا منصوبا. لكن ليس المراد بها حقيقة الاستفهام، بل معنى التكثير أيضا، فهي في تقدير الخبريّة، كأنّه أظهر الذهول عن كميّة العدد لكثرته، فهو يسأل عنه، أي ذلك كثير لا أعرف عدده، فأخبرني عن عدده.
و هذا المعنى أبلغ من معنى الخبريّة في توبيخ النفس بارتكاب العصيان، و الاعتراف للّه سبحانه بكثرة المعاصي، لما فيه من التهويل.
و محلّ «كم» على كل تقدير الرفع على الابتداء، و خبرها قوله: «قد أتيناه، فهي على كونها خبريّة بمنزلة قولك: كثير من النهي قد أتيناه، و على كونها استفهاميّة بمنزلة أ عشرون نهيا قد أتيناه.
و لك جعل «كم» في محلّ النصب على المفعوليّة، و الناصب مضمر على شريطة التفسير، و يقدّر بعد «كم»، لئلا تقع غير صدر الكلام، أي كم نهي لك او كم
__________________________________________________
(1) شرح الكافية في النحو: ج 2 ص 96- 97.
(2) شرح الكافية في النحو: ج 2 ص 96.
(3) المغني: ص 245.
(4) شرح الكافية في النحو: ج 2 ص 97.
165
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الرابع و الثلاثين ص 160
..........
نهيا لك قد أتينا قد اتيناه.
و الأوّل أولى، لسلامته عن الحذف و التقدير.
و في قوله: «لك» تعظيم للنهي و إتيانه ببيان اختصاصه به تعالى.
و النهي: قيل: قول يستدعي به ترك الفعل ممّن هو دونه. و قيل: هو طلب امتناع الفعل. و قيل: طلب الكف عن فعل.
و قال الراغب: النهي: الزجر عن الشيء، و هو من حيث المعنى لا فرق بين أن يكون بالقول أو بغيره. و ما كان بالقول لا فرق بين أن يكون بلفظة افعل نحو:
اجتنب هذا، أو بلفظة نحو: لا تفعل، و من حيث اللفظ هو قولهم: لا تفعل كذا، فإذا قيل: لا تفعل كذا فهو نهي من حيث اللفظ و المعنى جميعا نحو «وَ لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ»* و قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ وَ إِيتاءِ ذِي الْقُرْبى، وَ يَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ» أي يحثّ على فعل الخير و يزجر عن الشرّ، و ذلك بعضه بالعقل الذي ركّبه فينا، و بعضه بالشرع الذي شرّعه لنا «1». انته.
و أتيناه: أي: تعاطيناه و استعمال الإتيان هنا كاستعمال المجيء في قوله تعالى: «لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا» «2».
و إيثار صيغة المتكلّم مع الغير هنا، و في سائر الأفعال الآتية، للإشعار باشتراك سائر الموحّدين، له في ذلك.
و الأمر: قيل: طلب وجود الفعل على جهة الاستعلاء. و قيل: استدعاء الفعل بالقول ممّن هو دونه و قيل: طلب فعل غير كفّ.
و قال الراغب: هو التقدّم بالشيء، سواء كان ذلك بقولهم: افعل و ليفعل، أو كان ذلك بلفظ خبر نحو: «وَ الْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ»، أو كان بإشارة، أو غير ذلك، أ لا ترى أنّه قد سمّى ما رأى إبراهيم عليه السّلام في المقام من ذبح ابنه أمرا،
__________________________________________________
(1) المفردات: ص 507.
(2) سورة مريم: الآية 27.
166
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الرابع و الثلاثين ص 160
..........
حيث قال «يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ» «1».
و وقفتنا عليه، أي: أمرتنا بالوقوف عنده، لا نتعدّاه، و لا نتجاوزه كما يدلّ عليه قوله عليه السّلام: «فتعدّيناه». و يجوز أن يكون بمعنى اطلعتنا عليه و بيّنته لنا، من وقفته على «2» عيبه إذا اطلعته عليه.
و في نسخة «أوقفتنا» بالألف، و هي لغة في وقفتنا. و أنكرها بعضهم، و الصحيح ثبوتها، كما نصّ عليه صاحب القاموس «3».
و تعدّيناه: أي تجاوزناه إلى غيره.
و السيّئة: الفعلة القبيحة، و هي ضدّ الحسنة.
و اكتسابها: تحمّلها.
و الخطيئة: الذنب. و قيل: الكبيرة. و قيل: الفرق بين السيئة و الخطيئة أنّ الأولى: تطلق على ما يقصد بالذات، و الثانية: تغلب على ما يقصد بالعرض، لأنّها من الخطأ، كمن رمى صيدا فأصاب إنسانا، أو شرب مسكرا فجنى جناية في سكره.
و ارتكب الذنب: فعله.
[ 988] و جملة قوله عليه السّلام: «كنت المطلع عليها» في محلّ نصب على الحاليّة.
و الضمير من «عليها» إمّا عائد إلى جملة ما ذكره من النهي و الأمر و السيّئة و الخطيئة، و هي أشياء يعود الضمير عليها مؤنثا. و إمّا إلى السيّئة و الخطيئة، و إنّما أفرد الضمير و المذكور شيئان، لأنّ المراد سيّئات و خطيئات كثيرة، كما يدلّ عليه «كم» و «دون» الناظرين، أي متجاوزا للناظرين، لم يطلع عليها منهم غيرك، على ما عرفت فيما سبق من أنّ «دون» بمعنى أدنى مكان ثمّ اتّسع فيه، فاستعمل في كلّ
__________________________________________________
(1) المفردات: ص 24- 25.
(2) «الف» علم.
(3) القاموس المحيط: ج 3 ص 205.
167
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الرابع و الثلاثين ص 160
..........
تجاوز حدّ إلى حدّ، و تخطي أمر إلى أمر.
و علن الأمر علونا، من باب- قعد-: ظهر و انتشر، فهو عالن، و علن علنا- من باب تعب لغة- فهو علن، و الاسم: العلانية- مخفّف- «1» و يعدّى بالألف، فيقال:
أعلنته إعلانا.
و فوق: ظرف مكان نقيض تحت. و قد استعير للاستعلاء الحكمي، و معناه الزيادة و الفضل، يقال: هذا فوق ذاك، أي أفضل منه و أزيد.
أي و كنت القادر على إظهارها زائدا على القادرين.
[ 989] قوله عليه السّلام: «كانت عافيتك لنا حجابا» إلى آخره، جملة مستأنفة.
و العافية: هنا بمعنى المعافاة، أي كانت معافاتك لنا حجابا دون أبصارهم.
و الحجاب: الستر، من حجبه حجبا- من باب قتل- أي منعه، لأنّ الستر يمنع المشاهدة. و الأصل فيه جسم حائل بين جسمين، ثمّ استعمل في المعاني فقيل:
المعصية حجاب بين العبد و بين ربّه، و منه عبارة الدعاء.
و «دون» هنا بمعنى قدّام، كقول الأعشى يصف زجاجة الكأس:
تريك القذى من دونها و هي دونه «2»
أي تريك القذى قدّامها، و هي قدّامه، لرقّتها و صفائها. و الحجاب إذا كان قدّام البصر كان مانعا له من المشاهدة.
و الردم: السدّ.
قال الجوهري: ردمت الثلمة أردمها- بالكسر- ردما سددتها، و الردم أيضا الاسم، و هو السدّ «3».
و قال الزمخشري في قوله تعالى: «فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ رَدْماً» أي
__________________________________________________
(1) «الف»: فحفّف.
(2) لسان العرب: ج 13 ص 165.
(3) الصحاح: ج 5 ص 1930.
168
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الرابع و الثلاثين ص 160
فاجعل ما سترت من العورة، و أخفيت من الدّخيلة، واعظا لنا، و زاجرا عن سوء الخلق، و اقتراف الخطيئة، و سعيا إلى التّوبة، و الماحية، و الطّريق المحمودة، و قرّب الوقت فيه، و لا تسمنا الغفلة عنك، إنّا إليك راغبون، و من الذّنوب تائبون.
حاجزا حصينا موثّقا و الردم: أكبر من السدّ و أوثق، من قولهم: ثوب مردوم، أي:
رقاع فوق رقاع «1». انته.
و لمّا كان الحجاب بمعنى الستر قد لا يمنع السمع من السماع آثر لفظ الردم في جانب الإسماع، لأنّه حاجز حصين، و برزخ متين. و اللّه أعلم.
[ 990] العورة: كلّ ما يستحيي منه إذا ظهر، و أصلها من العار و ذلك ما يلحق في ظهورها من العار، أي المذمّة.
و في المصباح: كل شيء يستره الإنسان أنفة أو حياء، فهو عورة «2».
و الدخيلة هنا بمعنى الدخل- بالتحريك- و هو العيب و الغش و الفساد.
و قال الزمخشري في الفائق: و حقيقته ان يدخل في الأمر ما ليس منه «3».
و وعظه يعظه وعظا و عظة و موعظة: أمره بالطاعة، و وصّاه بها، فهو واعظ. و منه قوله تعالى: «إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ» «4»، أي أوصيكم و آمركم. و قيل: الوعظ: زجر مقترن بتخويف.
و قال الخليل: هو التذكير بالخير بما يرقّ له القلب «5».
و الزجر: الطرد و المنع، زجره زجرا- من باب قتل- فهو زاجر، و منه قوله تعالى:
__________________________________________________
(1) تفسير الكشاف: ج 2 ص 747.
(2) المصباح المنير: ص 598.
(3) الفائق في غريب الحديث: ص 420.
(4) سورة سبأ: الآية 46.
(5) كتاب العين: ج 2 ص 228.
169
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الرابع و الثلاثين ص 160
..........
«وَ لَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ» «1»، أي طرد و منع عن ارتكاب المآثم.
و الخلق: كيفيّة نفسانيّة تصدر عنها الأفعال بسهولة. فإن كان الصادر عنها الأفعال الجميلة عقلا و شرعا سمّيت الكيفيّة خلقا حسنا، و إن كان الصادر عنها الأفعال القبيحة، سمّيت الكيفيّة التي هي المصدر، خلقا سيئا.
و المعنى: اجعل ذلك سببا لاتّعاظنا و انزجارنا عن سوء الخلق بأن يعتبر به فيكفّ نفسه، و ينزجر عن القبيح.
و لمّا كان الفعل قد ينسب إلى سببه سمّاه واعظا و زاجرا، و منه قولهم: كفى بالشيب واعظا «2»، و كفى بالإسلام ناهيا «3»، و عليه ما ورد في الحديث «و على رأس الصّراط واعظ اللّه في قلب كلّ مسلم» قال ابن الأثير: يعني حجّته التي تنهاه عن الدخول فيما منعه اللّه منه و حرّمه عليه، و البصائر التي جعلها فيه «4».
[ 991] و اقتراف الخطيئة: أي ارتكاب المعصية.
و السعي: المشي السريع: و هو دون العدو، و يستعمل للجدّ في الأمر خيرا كان أو شرّا، قال تعالى: «وَ سَعى فِي خَرابِها» «5».
قال الراغب: و أكثر ما يستعمل السعي في الأفعال المحمودة «6».
أي: و اجعل ذلك سببا للسعي إلى التوبة، أي: الجدّ فيها. و هو من باب إطلاق المسبّب على السبب.
و الماحية: المزيلة للذنب من المحو، و هو إزالة الأثر. و من كلامهم: التوبة تمحو الحوبة.
و الطريق: السبيل الذي يطرق بالأرجل، أي يضرب، يذكّر و يؤنّث، ثم استعير
__________________________________________________
(1) سورة القمر: الآية 4.
(2) كنوز الحقائق بهامش الجامع الصغير: ج 2 ص 37.
(3) الجامع الصغير: ج 2 ص 115.
(4) النهاية لابن الأثير: ج 5 ص 206.
(5) سورة البقرة: الآية 114.
(6) المفردات: ص 233.
170
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الرابع و الثلاثين ص 160
..........
لكلّ مسلك يسلكه الإنسان في فعل، محمودا كان أو مذموما.
[ 992] و القرب: خلاف البعد، و يستعمل في الزمان و المكان.
و الوقت مقدار من الزمان مفروض لأمر ما، و لهذا لا يكاد يستعمل إلّا مقيّدا، نحو قولهم: وقت كذا.
و الضمير من «فيه» عائد إلى السعي. و «في» للظرفية المجازيّة، جعل السعي ظرفا للوقت مجازا كما يقال: اصرف وقتك في الطاعة.
و سمته الذل، أي أوليته إيّاه.
و في الأساس: سمت المرأة المعانقة، أي أردتها منها، و عرضتها عليها «1».
و معنى سومه تعالى الغفلة: التخلية بين العبد و بين الأسباب المؤدّية إلى الغفلة، و جعله غافلا بالخذلان، لا إرادته إيّاها منه.
و معنى الغفلة عنه سبحانه، الغفلة عن جنابه و ذكره و الانهماك في الحسّيات المؤدّية إلى البعد عن الحقّ.
و في الفقرة تلميح إلى قوله تعالى: وَ لا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا «2».
و الرغبة إلى اللّه تعالى: الابتهال إليه، و هو الاجتهاد في الدعاء و إخلاصه. و قيل:
هي التضرّع إليه، و المسألة منه. و فسّر قوله تعالى: وَ إِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ «3» بالرغبة في المسألة، أي ارفع حوائجك إلى ربّك، و لا ترفعها إلى غيره و قوله تعالى: إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ «4» أي راجون العفو، طالبون الخير.
و «إلى» لانتهاء الرغبة أو لتضمّنها معنى الرجوع.
و تقديم الظرف في الفقرة الأولى للتخصيص، و في الثانية للسجع، و التأكيد:
للإنباء عن صدق الرغبة، و وفور النشاد. و الجملتان تعليل لاستدعاء الإجابة. و اللّه أعلم.
__________________________________________________
(1) أساس البلاغة: ص 315.
(2) سورة الكهف: الآية 28.
(3) سورة الشرح: الآية 8.
(4) سورة القلم: الآية 32.
171
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الرابع و الثلاثين ص 160
و صلّ على خيرتك- اللّهمّ- من خلقك محمّد و عترته الصّفوة من بريّتك الطّاهرين، و اجعلنا لهم سامعين و مطيعين كما أمرت.
[ 993] الخيرة: بالكسر و السكون و «1» كعنبة اسم من الاختيار، أي الاصطفاء، يقال: محمّد خيرة اللّه، و خيرته، بالوجهين. و قد وردت بهما الرواية في الدعاء.
و عترة الرجل: نسله.
قال الأزهريّ: و روى تغلب عن ابن الأنباري: أن العترة ولد الرجل و ذريّته و عقبه من صلبه «2»، و لا تعرف العرب من العترة غير ذلك. و قيل: رهطه الأدنون «3»، و يقال: أقرباؤه.
و قال الزمخشري: في الفائق: العترة: العشيرة، سمّيت بالعترة- و هي المرزنجوشة- لأنّها لا تنبت إلّا شعبا متفرّقة «4».
و في العين: عترة الرجل: أقرباؤه من ولده و ولد ولده و بني عمّه «5».
قال ابن الأثير في النهاية: عترة الرجل أخصّ أقاربه، و عترة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بنو عبد المطلب. و قيل: أهل بيته الأقربون و هم أولاده، و عليّ و أولاده عليهم السّلام. و قيل: عترته: الأقربون و الأبعدون منهم. و المعروف المشهور أنّ عترته أهل بيته الذين حرّمت عليهم الزكاة «6». انته.
و صفوة الشيء مثلّثة- ما صفا منه، و خلص من الشوب و الكدر كصفوه.
و البريّة: الخلق فعلية بمعنى مفعولة، من برء اللّه الخلق يبرؤهم، أي خلقهم «7».
قال الجوهريّ: و قد تركت العرب همزته. قال الفرّاء: و إن أخذت البريّة من
__________________________________________________
(1) الواو وردت في «ألف» و الحجرية.
(2) تهذيب اللغة: ج 2 ص 264.
(3) تهذيب اللغة: ج 2 ص 264 نقلا عن أبي عبيدة.
(4) الفائق في غريب الحديث: ج 1 ص 170.
(5) كتاب العين: ج 2 ص 66.
(6) النهاية لابن الأثير: ج 3 ص 177.
(7) النهاية لابن الأثير: ج 1 ص 122- 123.
172
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الرابع و الثلاثين ص 160
..........
البراء- و هو التراب- فأصله غير الهمز، تقول: منه براه اللّه يبروه بروا، أي خلقه «1».
و «الطاهرين» أي: النقيّين من دنس المولد و العمل، البريئين من صغائر الذنوب و كبائرها، كما قال تعالى «إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ، وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً «2».
[ 994] و اجعلنا سامعين أي: مجيبين لأمرهم، قابلين لحكمهم. و أصل السماع الإصغاء، لكنّهم استعملوه في الإجابة، و قبول الأمر كثيرا، كما تقول سمع فلان ما قلت له، و منه قولهم: سمع القاضي البيّنة، أي قبلها.
و مطيعين: أي منقادين، من أطاعه إطاعة، أي انقاد له.
و قوله عليه السّلام: «كما أمرت»، الظرف في محلّ نصب على أنّه نعت لمصدر محذوف. و «ما» مصدريّة، أي إطاعة مثل الإطاعة التي أمرت بها. و نظيره فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ «3»، و هو إشارة إلى قوله تعالى في سورة النساء: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ «4».
قال الصادق عليه السّلام: إيّانا عنى خاصّة، أمر جميع المؤمنين إلى يوم القيامة بطاعتنا «5».
و في حديث جابر بن عبد اللّه لمّا نزلت هذه الآية، قلت: يا رسول اللّه، عرفنا اللّه و رسوله، فمن أولوا الأمر الذين قرن اللّه طاعتهم بطاعتك؟ فقال: هم خلفائي يا جابر و أئمة المسلمين من بعدي أوّلهم عليّ بن أبي طالب، ثم الحسن، ثمّ الحسين، ثمّ علي بن الحسين ثمّ محمّد بن عليّ المعروف في التّوراة بالباقر، و ستدركه يا جابر، فإذا لقيته فأقرأه مني السلام، ثم الصادق جعفر بن محمّد، ثمّ موسى بن جعفر، ثم علي بن
__________________________________________________
(1) الصحاح: ج 6 ص 2280 نقلا عنه.
(2) سورة الأحزاب: الآية 33.
(3) سورة هود: الآية 112.
(4) سورة النساء: 59.
(5) تفسير نور الثقلين: ج 1 ص 497.
173
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الرابع و الثلاثين ص 160
..........
موسى، ثم محمّد بن علي، ثم عليّ بن محمّد، ثم الحسن بن علي، ثم سميّ محمّد، و كني حجّة اللّه في أرضه، و بقيّته في عباده ابن الحسن بن علي، ذاك الذي يفتح اللّه على يديه مشارق الأرض و مغاربها، ذاك الذي يغيب عن شيعته و أوليائه غيبة لا يثبت فيها على القول بإمامته إلّا من امتحن اللّه قلبه للإيمان. قال جابر، فقلت له: يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فهل لشيعته الانتفاع في غيبته؟ قال: أي و الذي بعثني بالنبوّة، إنّهم يستضيئون بنوره و ينتفعون بولايته في غيبته كانتفاع الناس بالشمس و إن تجلاها سحاب، يا جابر هذا من مكنون سرّ اللّه، و مخزون علم اللّه، فأكتمه إلّا عن أهله «1». و اللّه أعلم. [] هذا آخر الروضة الرابعة و الثلاثين من رياض السالكين، وفق اللّه سبحانه لإتمامها عشيّة يوم الخميس لست مضين من شوال، سنة أربع و مائة و ألف، و للّه الحمد.
__________________________________________________
(1) تفسير نور الثقلين: ج 1 ص 499.
174
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
الروضة الخامسة و الثلاثون ص 175
الروضة الخامسة و الثلاثون
175
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
و كان من دعائه عليه السلام في الرضا إذا نظر إلى أصحاب الدنيا ص 177
و كان من دعائه عليه السّلام في الرّضا إذا نظر إلى أصحاب الدّنيا
الحمد للّه رضى بحكم اللّه شهدت انّ اللّه قسم معايش عباده بالعدل و أخذ على جميع خلقه بالفضل اللّهمّ صلّ على محمّد و آله و لا تفتنّى بما اعطيتهم و لا تفتنهم بما منعتنى فأحسد خلقك و أغمط حكمك اللّهمّ صلّ على محمّد و آله و طيّب بقضاءك نفسي و وسّع بمواقع حكمك صدري و هب لي الثّقة لأقرّ معها بأنّ قضاءك لم يجر الّا بالخيرة و اجعل شكرى لك على ما زويت عنّى أوفر من شكرى إيّاك على ما خوّلتنى و اعصمنى من ان اظنّ بذي عدم خساسة او اظنّ بصاحب ثروة فضلا فانّ الشّريف من شرّفته طاعتك و العزيز من أعزّته عبادتك فصلّ على محمّد و اله و متّعنا بثروة لا تنفد و أيّدنا بعزّ لا يفقدوا سرحنا في ملك الأبد إنّك الواحد الأحد الصّمد الّذى لم تلد و لم تولد و لم يكن له كفوا أحد.
177
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
مقدمة الشارح ص 178
[مقدمة الشارح]
[] (الرّوضة الخامسة و الثلاثون) بسم اللّه الرحمن الرحيم و به نستعين «1» الحمد للّه الّذي جعل الدار الآخرة هي العليا، و شرّف الراغبين فيها على أصحاب الدنيا، و الصلاة و السلام على نبيّه الهادي إلى رضائه، و على أهل بيته الراضين بحكمه و قضائه.
و بعد: فهذه الروضة الخامسة و الثلاثون من رياض السالكين، في شرح الدعاء الخامس و الثلاثين من صحيفة سيد العابدين، صلوات اللّه عليه و على آبائه و أبنائه الأئمة الراشدين، إملاء راجي فضل ربّه السنيّ علي صدر الدين الحسيني الحسني وفّقه اللّه لمراضيه، و جعل غابره خيرا من ماضيه.
__________________________________________________
(1) «الف» و به ثقتي.
178
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الخامس و الثلاثين ص 179
شرح الدعاء الخامس و الثلاثين
و كان من دعائه عليه السّلام في الرّضا إذا نظر إلى أصحاب الدنيا.
الرضا لغة: خلاف السخط. قال الجوهري: هو- مقصورا- مصدر محض.
و الاسم الرضاء بالمدّ عن الأخفش «1».
و عرفا: سرور القلب بجريان القضاء و يقال: رضيت الشيء، و رضيت به، إذا اخترته، كارتضيته، و قد يقال: رضيت بالشيء إذا قنعت «2» به.
قال النووي في شرح مسلم: رضي باللّه ربّا. أي قنع به و لم يطلب معه غيره، بأن يسلك غير ما شرعه «3».
و إرادة هذا المعنى هنا صحيحة.
و النظر: تقليب البصر، أو البصيرة، لرؤية الشيء و إدراكه. و يقال: نظرت إليه إذا رأيته، و هو المراد هنا.
و الأصحاب: جمع صاحب، و هو الملازم لشيء إنسانا كان أو غيره. و لا فرق بين أن يكون مصاحبه بالبدن، و هو الأصل و الأكثر، أو العناية و الهمّة، و لا يقال في
__________________________________________________
(1) الصحاح: ج 6 ص 2357.
(2) «الف»: اقتنعت به.
(3) شرح مسلم للنووي: ج 2 ص 2 مع اختلاف يسير في العبارة.
179
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الخامس و الثلاثين ص 179
قال صلوات اللّه عليه:
الحمد للّه رضا بحكم اللّه، شهدت أنّ اللّه قسم معايش عباده بالعدل، و أخذ على جميع خلقه بالفضل.
العرف إلّا لمن كثرت ملازمته، و يقال لمالك المال: هو صاحبه، و كذلك من يملك التصرّف فيه. و منه عبارة المتن.
و الدنيا: نقيض الآخرة، و هي تأنيث الأدنى، سمّيت بها هذه الدار لدنوّها.
و الأصل الدار الدنيا، فحذفت «1» موصوفها، و أجريت مجرى الأسماء، فانسلخت عن معنى الوصفيّة. و المراد أصحاب متاع الدنيا، فهي مجاز مرسل من باب تسمية الشيء باسم محلّه، نحو «فليدع ناديه» «2» «وَ سْئَلِ الْقَرْيَةَ» «3». و اللّه أعلم.
[ 995] «رضا» إمّا مفعول مطلق، أي حمد رضا، أو حال، أي راضيا، أو مفعول لأجله، أي للرضا: و أيّا ما كان فالعامل الحمد المذكور، لأنّه مصدر، و هو يعمل عمل فعله.
و ما وقع لبعضهم، أنّ العامل محذوف لئلا يلزم عمل المصدر المعرّف مبنيّ على مذهب بعضهم، و فيه أربعة مذاهب:
مذهب الخليل و سيبويه جوازه مطلقا من غير قبح «4» سواء عاقبت آلة التعريف فيه الضمير أم لا «5».
و الحكم: القضاء، و أصله المنع، يقال: حكم بكذا، إذا منع من خلافه.
و وضع الظاهر موضع المضمر و لم يقل: بحكمه لتعظيم الحكم، و قصد تقوية داعية الرضا.
__________________________________________________
(1) هكذا في النسخ، و الصحيح فحذفت.
(2) سورة العلق: الآية 17.
(3) سورة يوسف: الآية 82.
(4) «الف»: قبيح.
(5) كتاب سيبويه: ج 1 ص 137.
180
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الخامس و الثلاثين ص 179
..........
و شهدت: أي علمت. و أصله من الشهود، بمعنى الحضور مع المشاهدة بالبصر، ثمّ أطلق على المشاهدة بالبصيرة أيضا، و هي العلم، و منه أشهد أن لا إله إلّا اللّه.
و القسم: إفراز النصيب، يقال: قسمت كذا قسما- من باب ضرب- و منه قسمة الغنيمة، و هو تفريقها على أربابها، بإفراز نصيب كلّ منها.
و المعايش: جمع معيشة، و هي ما يعيش به الإنسان من المطاعم و الملابس، و غيرهما ممّا يتعلّق به البقاء. و اشتقاقها من العيش، و هو الحياة المختصّة بالحيوان، فهو أخصّ من مطلق الحياة، لأنّ الحياة تطلق على الحيوان، و على الباري تعالى بخلاف العيش، فالميم في المعيشة زائدة.
و وزن المعايش مفاعل فلا تهمز و به قرأ السبعة و قرأ الأعرج، و أبو جعفر المدني بالهمز تشبيها لها بالشمائل.
و قال الفيومي في المصباح: و قيل: هي من معش، فالميم أصليّة، و وزن معيشة و معائش فعيلة و فعائل «1». انته. و هو غريب.
و العدل: التقسيط على سواء. فتارة يراد به السواء، باعتبار المقدار، و منه قوله سبحانه: وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ «2» أي في مقدار المحبّة، إشارة إلى ما عليه جبلّة الإنسان من الميل، فالإنسان لا يقدر أن يسوّي بينهنّ في المحبّة، و تارة باعتبار الحكمة و الانتظام، و منه ما روي: بالعدل قامت السماوات و الأرض «3» تنبيها على أنّه لو كان شيء ممّا قامتا به، زائدا عمّا هو عليه، أو ناقصا عنه على غير ما اقتضته الحكمة لم يكن العالم منتظما. فانتظامه بتقدير ذلك على ما يليق بقوامه و قيامه. و هذا المعنى هو المراد هنا، أي بعدل اقتضته الحكمة البالغة. و لذلك متى وصف اللّه سبحانه بالعدل فإنّما يراد أن أفعاله واقعة على نهاية الحكمة و الانتظام.
__________________________________________________
(1) المصباح المنير: ص 602.
(2) سورة النساء: الآية 129.
(3) عوالى اللئالي: ج 4 ص 103.
181
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الخامس و الثلاثين ص 179
..........
و في الدعاء إشارة إلى قوله سبحانه: «نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا» «1» فانّ العدل لا يكون قسمة إلّا عدلا، و لا يتجاوز إلى إفراط و تفريط. و في الحديث القدسي «و إنَّ من عبادي «2» لا يصلحه إلّا الفقر، و لو أغنيته لأفسده ذلك، و إنّ من عبادي من لا يصلحه إلّا الغنى، و لو افقرته لأفسده ذلك» «3». فإغناء من لا يصلحه إلّا الفقر إفراط، و إفقار من لا يصلحه إلّا الغنى تفريط، و العدل هو ما به إصلاح كل منهما، فثبت اتّصاف قسمته تعالى بالعدل.
قوله عليه السّلام: «و أخذ على جميع خلقه بالفضل».
«أخذ» هنا من الأخذ بمعنى السيرة، يقال: لو كنت منّا لأخذت بأخذنا، أي:
سوت بسيرتنا، و منه الحديث «لا تقوم السّاعة حتى تأخذ أمّتي بأخذ القرون» «4».
قال الكرماني: هو- بكسر الهمزة و فتحها-: السيرة «5».
أي تسير أمّتي بسيرتهم. فقوله: «بالفضل» متعلّق بأخذ. و قوله: «على جميع خلقه» متعلّق بالفضل، كقوله تعالى: وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ* «6».
و لا يمنع من تعلّقه به ما اشتهر من أنّ معمول المصدر لا يتقدّم عليه. لأنّ ذلك حيث يتقدّر بأن المصدر بأن و الفعل، لأنّه حينئذ من باب تقديم الصلة على الموصول، و هو ممتنع، كقولك: أعجبني عن الشرّ بعدك، أي: أن تبعد، فالظرف متعلّق بعامل مقدّر يفسّره المتأخّر، و التقدير: أعجبني بعدك عن الشرّ بعدك و أما إذا لم يقدّر المصدر بأن و الفعل فيجوز تقديم معموله عليه إذا كان ظرفا و شبهه، لانتفاء المانع نحو
__________________________________________________
(1) الزخرف: الآية 32.
(2) في المصدر: من لا يصلحه.
(3) الكافي: ج 2 ص 352 ج 8 مع اختلاف يسير في العبارة.
(4) صحيح البخاري: ج 9 ص 126 كتاب الاعتصام باب 14.
(5) البخاري بشرح الكرماني: ج 25 ص 62.
(6) النور: الآية 10.
182
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الخامس و الثلاثين ص 179
..........
«وَ لا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ» «1». و منه قول كعب في قصيدته المشهورة.
ضخم مقلّدها فعم «2» مقيّدها في خلقها عن بنات الفحل تفضيل
قال ابن هشام في شرحه لهذه القصيدة: «عن» بمعنى «على»، و هي متعلّقة بتفضيل و إن كان مصدرا لأنّه ليس منحلا ل (أن و الفعل). و من ظنّ أن المصدر لا يتقدّمه معموله مطلقا فهو و أهم انته.
و الفضل هنا بمعنى الإفضال و الطول، و هو كلّ إحسان لا يلزم المحسن أن يفعله، بل يكون إبتداء منه.
و المعنى: أنّه تعالى سار في جميع خلقه بالفضل عليهم و الإحسان إليهم. و ذلك أنّه مبتدئ بما لا يلزمه، و الابتداء بما لا يلزم هو الفضل، فأفعاله كلّها عدل، و عدله كلّه فضل.
إذا عرفت ذلك، فاعلم أنّه وقع لجماعة ممّن كتب على الصحيفة الشريفة هنا تفسيرات عجيبة.
منها: تفسير بعضهم أخذ بمعنى تناول، من قولهم: أخذ بيده إذا أعانه و أمدّه.
قال: و مفعول أخذ محذوف بقرينة جميع خلقه. و تعلّق على بأخذ لتضمين معنى الاستيلاء و الغلبة، يعني أخذ بيد جميع المخلوقات بفضله في حالة استيلائه و غلبته على جميع مخلوقاته. انته بالمعنى.
و منها: تفسير بعضهم أخذ بمعنى ألزم، أي ألزمهم الفضل، يعني أن يتفضّل بعضهم على بعض.
و منها: قول بعضهم الأخذ يكون بمعنى السيرة فيتعدى ب «على». و على و بالفضل، متعلّقان بأخذ. انته.
فاعجب لقوم هذا مبلغهم من العلم كيف سوّلت لهم أنفسهم التصدّي لكلام
__________________________________________________
(1) سورة النور: الآية 2.
(2) «ألف». نعم.
183
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الخامس و الثلاثين ص 179
184
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الخامس و الثلاثين ص 179
اللّهمّ صلّ على محمّد و آله، و طيّب بقضائك نفسي، و وسّع أحدكم لأخيه زيادة في ولد أو رزق أو عمر أو غير ذلك، فلا يكونن ذلك له فتنة، تفضي به إلى الحسد.
و قوله: «لا تفتنهم بما منعتني» أي لا توقعهم في بليّة بسبب ما حرمتني من الدنيا، بأن يروني حقيرا مهانا، أو يطغوا أو يتكبّروا فيأثموا.
قوله: «فأحسد خلقك» «الفاء»: للسببيّة، و الفعل بعدها منصوب بأن مضمرة لسبقها بالطلب. و حدّ الحسد أن تغتاظ ممّا رزقه غيرك، و تتمنّى أنّه زال عنه، و صار إليك، و قد تقدّم الكلام عليه مبسوطا.
قوله: «و أغمط حكمك».
غمطه يغمطه غمطا- من باب ضرب و سمع-: استحقره، و العافية لم يشكرها، و النعمة بطرها و حقّرها. أي و أحتقر قضاءك بما منحتني، و لا أشكر حكمك فيما أعطيتني، إذ كان دون ما أعطيتهم، أو لا أرضى بحكمك و قضائك فيما أعطيتني و منعتني فأتسخّطه و أحتقره.
و في الكتب القديمة يقول اللّه عزّ و جلّ: الحاسد عدوّ نعمتي، متسخّط لفعلي، غير راض بقسمتي «1».
و نظم بعضهم هذا المعنى فقال:
ألا قل لمن راح لي حاسدا أ تدري على من أسأت الأدب؟
أسأت على اللّه سبحانه لأنّك لم ترض لي ما وهب
[ 997] أصل الطيب: ما تستلذّه الحواس و النفس. و طابت نفسه بالشيء إذا قبلته و رضيته، و لم تكرهه. أي رضّ بقضائك نفسي و اجعلها قابلة له، راضية به.
و اتّسع صدره للأمر إذا سهل عليه تحمّله و لم يشقّ عليه. و عكسه ضاق صدره
__________________________________________________
(1) عيون الاخبار: المجلد الثاني، ج 4 ص 10 مع اختلاف يسير في بعض الفاظ الحديث.
185
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الخامس و الثلاثين ص 179
بمواقع حكمك صدري، و هب لي الثقة، لأقرّ معها بأنّ قضاءك لم يجر إلّا بالخيرة.
بالشيء إذا شقّ عليه.
و مواقع الحكم: ما وقع به الحكم، و تعلّق به، أي اجعل صدري واسعا غير حرج و لا ضيق بما يوقعه حكمك من الأمور التي يشقّ على النفس تحمّلها و الغرض سؤال مقام الرضا الذي هو سرور النفس مهر «1» القضاء.
[ 998] و وثق به وثوقا و ثقة: سكن إليه و اعتمد عليه، أي وهب لي السكون إلى تقديرك، و الاعتماد عليه في أنّه لا يكون إلّا عن حكمة بالغة.
و الإقرار: إثبات الشيء، إمّا بالقلب، أو باللسان، أو بهما. لكن المراد به هنا ما كان بالقلب، سواء أضافه اللسان أم لا.
و «مع» اسم يقتضي الصحبة، أي مصاحبا لها. و الضمير عائد إلى الثقة.
و المعنى: لأعترف بحصول الثقة لي بأنّ قضاءك و حكمك في أعيان الموجودات- على ما هي عليه من الأحوال الجارية في الأزل إلى الأبد- لم يقع إلّا بالاختيار لما هو الخير و الأصلح.
و الخيرة- بسكون الياء و فتحها- اسم من الاختيار، و هو أخذ ما يراه الخير، أو فعله. تقول: خيّرته بين الأمرين فاختار أحدهما. و استعمال الجري في وقوع القضاء، لسرعة مروره.
و «الباء» من قوله: «بالخيرة» للملابسة، و الظرف في محلّ نصب على الحال، أي: ملتبسا بالخيرة.
و الاستثناء مفرّغ، و التقدير: لم يجر في حال من الأحوال إلّا حال التباسه بالخيرة. و الغرض سؤال إعداده عليه السّلام للاطمئنان بقضاء اللّه تعالى و أنّه
__________________________________________________
(1) «الف»: بمر.
186
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الخامس و الثلاثين ص 179
و اجعل شكري لك على ما زويت عنّي أوفر من شكري إيّاك على ما خوّلتني.
لا يكون إلّا عن حكمة و مصلحة، فتطيب نفسه، و ينشرح صدره لجريانه و نفاذه فيه بما هو عليه، و لا يتسخّط عدم ثروته، و فقده ما أوتي غيره من متاع الدنيا و حطامها.
و اللّه أعلم.
الشكر: الاعتراف بالنعمة، و قيل هو الثناء على المحسن بذكر إحسانه. و يتعدّى تارة باللام فيقال: شكرت له، و أخرى بنفسه فيقال: شكرته.
و زويت عنه الشيء: صرفته و قبضته عنه، و منه الحديث «أعطاني ربّي اثنين، و زوى عنّي واحدا» «1».
و وفر الشيء يفر و فورا- من باب وعد-: ثمّ و كمل. و قيل زاد و كثر.
و خوّله اللّه مالا: أعطاه، و منه قوله تعالى: وَ تَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ «2»، أي أعطيناكم.
قال الراغب: و التخويل في الأصل إعطاء الخول «3». و هو كالخدم و الحشم، وزنا و معنى.
و إنّما سأل عليه السّلام جعل شكره له على ما قبضه عنه أتمّ و أكمل من شكره له على ما أعطاه، لأنّ قبض ما قبضه عنه هو عين صلاحه حتّى لو لم يقبضه عنه لأضرّ به و أفسده كما ورد في الحديث «و إنّ من عبادي من لا يصلحه إلّا الفقر، فلو أغنيته لأفسده ذلك» «4»، و دفع الضرر أهمّ من جلب النفع. فيجب أن يكون الشكر على الأهمّ أكمل و أتمّ. و اللّه أعلم.
__________________________________________________
(1) النهاية لابن الأثير: ج 2 ص 320.
(2) سورة الأنعام: الآية 94.
(3) المفردات: ص 163.
(4) الكافي: ج 2 ص 352 ح 8.
187
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الخامس و الثلاثين ص 179
[ 999] و اعصمني من أن أظنّ بذي عدم خساسة، أو أظنّ بصاحب ثروة فضلا، فإنّ الشّريف من شرّفته طاعتك، و العزيز من أعزّته عبادتك.
عصمه اللّه من المكروه يعصمه- من باب ضرب-: حفظه و وقاه.
و الظنّ: خلاف اليقين، و قد يستعمل في معنى اليقين، كقوله تعالى: الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ «1»، و هو هنا محتمل للمعنيين، أي احفظني من أن أتوهّم بذي عدم خساسة، أو أعتقد به ذلك.
و العدم- بفتحتين-: الفقر فضمّ عينه مع الإسكان لغة فيه، كالحزن و الحزن، و الرشد و الرّشد. و أصله الفقدان، يقال: عدمته عدما- من باب تعب-: أي فقدته، ثم غلب على فقدان المال.
و الخساسة: الحقارة.
قال الفيّومي: خسّ الشيء يخسّ- من بابي ضرب و تعب- خساسة: حقر فهو خسيس «2».
و قيل: الخساسة حالة يكون عليها الخسيس و هو الدنيء.
و الثروة: كثرة المال، يقال: أثرى إثراء، أي استغنى، و الاسم الثراء بالفتح و المدّ.
و الفضل هنا: بمعنى الفضيلة، و هو خلاف النقيصة. و لمّا كان أكثر الناس يحتقرون الفقير، و يستخسّون بطباعهم، و يعظمون صاحب المال، و يفضّلونه بغضا للفقر، و حبّا للغنى، و كان ذلك من ذميم الأخلاق المهلكة، سأل عليه السّلام ربّه أن يعصمه من ذلك.
و كان بعض الأكابر يقول: المفلس عند الناس أكذب من لمعان السراب، و من رؤيا الكظة، و من مرآة اللقوة، و من سحاب تموز، لا يسال عنه إن تخلّف، و لا يسلّم
__________________________________________________
(1) سورة البقرة: الآية 46.
(2) المصباح المنير: ص 231.
188
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الخامس و الثلاثين ص 179
..........
عليه إن قدم، إذا غاب شتموه، و إن حضر طنزوا به، و إن غضب صفعوه، مصافحته تنقض الوضوء، و قراءته تقطع الصلاة، أثقل من الأمانة، و أبغض من المبرم الملحف، و الناس لصاحب المال ألزم من الشعاع للشمس، و من الذنب للمصرّ، و من الحكم للمقرّ، و هو عندهم أرفع من السماء، و أعذب من الماء، و أحلى من الشهد، و أزكى من الورد، خطأه صواب، و سيّئته حسنة، و قوله مقبول، و حديثه معسول، يغشى مجلسه، و لا تملّ صحبته. و كان ينشد لعروة الصعاليك:
ذريني للغنى أسعى فإنّي رأيت الناس شرّهم الفقير
و أهونهم و أحقرهم عليهم و إن أمسى له حسب و خير «1»
و يكرهه النديّ و تزدريه حليلته و ينهره الصغير
و يلقى ذو الغنى و له جلال يكاد فؤاد صاحبه يطير
قليل ذنبه و الذنب جمّ و لكنّ الغنى ربّ غفور «2»
و النثر و النظم في هذا المعنى كثير.
و في الحديث عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: من استذلّ مؤمنا، أو احتقره لقلّة ذات يده و لفقره شهره اللّه يوم القيامة على رءوس الخلائق «3».
و عن أمير المؤمنين صلوات اللّه و سلامه عليه: من أتى غنيا فتواضع له لغناه ذهب ثلثا دينه «4».
و الأخبار في ذلك أكثر من أن تحصى.
قوله عليه السّلام: «فإنّ الشريف من شرّفته طاعتك» «الفاء»: للسببيّة.
و الشرف: علوّ للمنزلة. شرف كعظم فهو شريف. و قيل: الشرف كمال يتعلّق
__________________________________________________
(1) «ألف»: ذخير.
(2) عيون الأخبار: المجلد الأوّل: الجزء الثالث ص 241- 242 مع اختلاف يسير في بعض الالفاظ.
(3) الكافي: ج 2 ص 353 ح 9.
(4) نهج البلاغة: ص 508 الحكم 228.
189
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الخامس و الثلاثين ص 179
..........
بالذات و الحقيقة، و لهذا يقال: فلان شريف الذات.
و الطاعة: اسم من أطاعه، أي انقاد له، لكن كثر استعمال الطاعة في امتثال الأمر، و لذلك عرّفوها بموافقة الأمر.
و العزّة: الرفعة و الامتناع. و رجل عزيز: منيع لا يغلب و لا يقهر.
و قد يراد بالعزيز: الكريم، من عزّ عليّ يعزّ عزّا و عزّة و عزازة: أي كرم، فهو عزيز. و أعززته: أكرمته و عظمته فهو عزيز أيضا. و هذا المعنى أنسب بعبارة الدعاء من الأوّل.
و العبادة في أصل اللغة الخضوع و الانقياد، و في الاصطلاح فعل المكلّف على خلاف نفسه تعظيما لربّه. و قيل: هو فعل اختياري مباين للشهوات البدنيّة، يصدر عن نيّة يراد بها التقرب إلى اللّه تعالى، طاعة للشريعة.
و قال صاحب الكشف: العبادة قد تطلق على أعمال الجوارح بقصد القربة، و منه قوله صلّى اللّه عليه و آله: لفقيه واحد أشدّ على الشّيطان من ألف عابد. و هي على هذا غير الإيمان بمعنى التصديق و النيّة و الإخلاص، بل مشروطة به.
و قد تطلق على التحقّق بالعبديّة بارتسام ما أمر السيد جلّ و علا، أو نهى، و على هذا تتناول الأعمال و العقائد القلبيّة أيضا، فدخل فيها الإيمان و هو عبادة في نفسه، و شرط لسائر العبادات. انته.
و قصر اسم إنّ على خبرها في الفقرتين للمبالغة في شرف من شرّفته طاعة اللّه تعالى، و عزّة من أعزّته عبادته، كأنّه لا شريف و لا عزيز غيره، على ما قالوه في نحو:
«الأمير زيد، و الشجاع عمرو» من أنّ اللام إن حمل في المقام الخطابي على الاستغراق كان بمنزلة كلّ أمير زيد، و كلّ شجاع عمرو، و إن حمل على الجنس أفاد أنّ زيدا و جنس الأمير، و عمرا و جنس الشجاع متّحدان في الخارج. و كيف كان فالقصر الادّعائي حاصل.
190
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الخامس و الثلاثين ص 179
فصلّ على محمّد و آله، و متّعنا بثروة لا تنفد، و أيّدنا بعزّ لا يفقد، و أسرحنا في ملك الأبد، إنّك الواحد الأحد الصّمد الّذي لم تلد و لم تولد، و لم يكن لك كفوا أحد.
[ 1000] «الفاء» فصيحة لصلاحيّة تقدير إذا الشرطيّة قبلها، أي إذا كان الأمر هكذا فصلّ على محمّد و آله.
و متّعنا: أي أعطنا ثروة لا تنفد ننتفع بها. يقال: متّعته بكذا تمتيعا، و أمتعته به إمتاعا: أعطيته إيّاه لينتفع به. و منه المتاع، و هو كلّ ما ينتفع به من طعام و أثاث.
و نفذ الشيء ينفذ من باب تعب نفاذا: فنى و انقطع.
و الأيد: القوّة الشديدة. و أيّدته تأييدا: قوّيته، و منه قوله تعالى: «أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ» «1».
و الفقد: عدم الشيء بعد وجوده، فهو أخصّ من العدم، لأنّ العدم يقال فيه و فيما لا يوجد.
و سرحت الإبل سرحا و سروحا- من باب نفع-: رعت بنفسها، و سرحتها سرحا أيضا: أرسلتها للرعي، و هو من الأفعال اللازمة و المتعدّية. و سرّحتها- بالتثقيل- مبالغة و تكثيرا. و أمّا أسرحتها بالهمز فلم. أقف عليه في شيء من كتب اللغة، فما وقع في نسخة ابن إدريس من ضبط قوله عليه السّلام: «و أسرحنا» بقطع الألف ينبغي تحريره.
و المراد بالسرح هنا التخلية، و عدم المنع كما تسرح الماشية في المرعى، و هو استعارة تبعيّة أو مكنيّة.
و الملك: السلطنة و العزّ و العظمة.
و الأبد: الدهر الطويل الذي ليس بمحدود. و قيل: هو استمرار الوجود في أزمنة
__________________________________________________
(1) سورة المائدة: الآية 110.
191
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الخامس و الثلاثين ص 179
..........
مقدّرة غير متناهية في جانب المستقبل.
و إضافة الملك إلى الأبد، إمّا بمعنى «في» كمكر الليل، و إمّا بمعنى لام الاختصاص كدار المقامة، و هو الصواب.
قال الرضيّ: و لا يلزم في الإضافة بمعنى اللام أن يجوز التصريح بها بل يكفي إفادة الاختصاص الذي هو مدلول اللام، فقولك طور سينا و يوم الأحد، بمعنى اللام، و لا يصحّ إظهار اللام في مثله، فالأولى أن تقول نحو: مكر الليل و ضرب اليوم بمعنى اللام «1».
و في الفقرة تلميح إلى قوله تعالى: «وَ إِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَ مُلْكاً كَبِيراً» «2».
قال العلّامة الطبرسي: أي إذا رميت ببصرك، ثم يعني الجنة، رأيت نعيما خطيرا، و ملكا كبيرا لا يزول و لا يفنى، عن الصادق عليه السّلام و قيل: هو الملك الدائم الأبدي في نفاذ «3» الأمر و حصول الأماني «4». انته ملخّصا.
و ما وقع لبعض المترجمين من أنّ المراد بملك الأبد الجنّة بقرينة المقام. لأنّ النار أيضا أبديّة، لكن المسلمون لا يأبدون فيها، لا يخفى سخافته.
[ 1001] قوله عليه السّلام: «إنّك الواحد الأحد» إلى آخره تعليل للدعاء، و مزيد استدعاء للإجابة و تأكيد الجملة للإذعان بمضمونها.
و الواحد: اسم فاعل من وحد يحد وحدا من باب وعد. أي انفرد، فالواحد بمعنى المنفرد.
و الأحد: أصله وحد، صفة مشبّهة منه كحسن، أبدلت الواو همزة شذوذا.
قال بعض المحققين: الواحد: الفرد الذي لم يزل وحده، و لم يكن معه آخر،
__________________________________________________
(1) شرح الكافية في النحو: ج 1 ص 274.
(2) سورة الإنسان: الآية 20.
(3) «ألف»: نفاد.
(4) مجمع البيان: ج 9- 10، ص 411.
192
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الخامس و الثلاثين ص 179
..........
و الأحد: الفرد الذي لا يتجزّى، و لا يقبل الانقسام فالواحد: هو المنفرد بالذات في عدم المثل، و الأحد: هو المتفرّد بالمعنى، و قيل: المراد بالواحد: نفي التركيب و الأجزاء الخارجيّة و الذهنيّة عنه تعالى، و بالأحد: نفي الشريك عنه في ذاته و صفاته و قيل:
الواحديّة: لنفي المشاركة في الصفات، و الأحديّة: لتفرّد الذات، و لمّا لم ينفكّ عن شأنه تعالى أحدهما عن الآخر.
قيل: الواحد: الأحد في حكم اسم واحد، و قد يفرّق بينهما في الاستعمال من وجوه:
أحدها: إنّ الواحد: يستعمل وصفا مطلقا، و الأحد: يختصّ بوصف اللّه تعالى نحو: «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» «1».
الثاني: إنّ الواحد: أعمّ موردا، لأنّه يطلق على من يعقل و غيره، و الأحد لا يطلق إلّا على من يعقل.
الثالث: إنّ الواحد يجوز أن يجعل له ثان، لأنّه لا يستوعب جنسه، بخلاف الأحد، ألا ترى أنّك لو قلت: فلان لا يقاومه واحد جاز أن يقاومه اثنان فأكثر، و لو قلت: لا يقاومه أحد لم يجز أن يقاومه اثنان و لا أكثر فهو أبلغ.
الرابع: انّ الواحد يدخل الحساب و الضرب و العدد و العدد و القسمة، و الأحد يمتنع دخوله في ذلك.
الخامس: انّ الواحد يؤنّث بالتاء، و الأحد يستوي فيه المذكّر و المؤنّث، قال اللّه تعالى: «لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ» «2»، و لا يجوز كواحد من النساء بل كواحدة.
السادس: انّ الواحد لا يصلح للإفراد و الجمع، بخلاف الأحد، فإنّه يصلح لهما، و لهذا وصف بالجمع في قوله تعالى: «مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ» «3».
__________________________________________________
(1) سورة الإخلاص: الآية 1.
(2) سورة الأحزاب: الآية 32.
(3) سورة الحاقة: الآية 47.
193
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الخامس و الثلاثين ص 179
..........
السابع: انّ الواحد لا جمع له من لفظه، فلا يقال: واحدون، و الأحد له جمع من لفظه، و هو أحدون و آحاد.
و الصمد: السيد المصمود إليه في الحوائج، أي المقصود إليه من صمد إليه، أي قصد، فهو فعل بمعنى مفعول. و قد أسلفنا الكلام عليه في الروضة الثانية و العشرين مبسوطا فأغنى عن الإعادة.
قوله عليه السّلام «لم تلد» أي لم يصدر عنه ولد، لأنّه لا يجانسه شيء يمكن أن يكون له من جنسه صاحبة فيتوالد، كما نطق به قوله تعالى: «أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَ لَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ» «1»، و لأنّه لا يفتقر إلى ما يعينه و يخلفه، لاستحالة الحاجة و الفناء عليه سبحانه.
و فيه تنصيص على إبطال زعم المفترين في حقّ الملائكة و المسيح و عزير، و لذلك ورد النفي على صيغة الماضي.
و لم تولد: أي لم يصدر عن شيء لاستحالة نسبة العدم إليه سابقا و لا حقا، و عدم افتقاره إلى شيء.
و لم يكن له كفوا أحد، أي لم يكن أحد يكافئك و يماثلك من صاحبة و غيرها.
و الكفو- بضم الكاف و سكون الفاء، و بضمتين-: النظير و المماثل.
و المقصود أنّه تعالى لم يماثله أحد في ذاته و صفاته الذاتيّة و الفعليّة، و هو تنزيه مطلق له عن المشابهة بالخلق بنحو من الأنحاء كما قال: و «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ» «2».
و الغرض نفي إمكان وجود الكفو له، لا بيان عدمه مع إمكانه.
و قال بعض المفسّرين: الآيات الثلاث إشارة إلى نفي من يماثله، و هو إمّا لا حق، و أبطله بقوله: «لم يلد»، و إمّا سابق و أبطله بقوله: «و لم يولد» و إمّا مقارن في الوجود، و زيّفه بقوله: «و لم يكن له كفوا أحد». و يجوز أن يكون الأوّلان إشارة
__________________________________________________
(1) سورة الأنعام: الآية 101.
(2) سورة الشورى: الآية 11.
194
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الخامس و الثلاثين ص 179
إلى نفي من يماثله بطريق التولّد أو التوالد، و الثالث تعميما بعد التخصيص.
و يحتمل أن يراد بالأخيرة نفي الصاحبة، لأنّ المصاهرة تستدعي الكفاءة شرعا و عقلا، فيكون ردّا على من حكى اللّه عنهم في قوله: «وَ جَعَلُوا بَيْنَهُ وَ بَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً» «1» تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.
و الأكثر على أنّ أحد اسم كان، و كفوا خبرها، و «له» صلة كفوا، فهو ظرف لغو، و أورد أنّ تقديم الظرف إذا كان لغوا غير مستحسن كما نصّ عليه سيبويه في كتابه «2».
و أجيب: بأنّه إنّما قدّم اللغو فيه لأنّه معقد الفائدة، إذ ليس الغرض نفي الكفو مطلقا، بل نفي الكفو له تعالى، فقدّم اهتماما بما هو المقصود معنى، و رعاية للفواصل لفظا.
و قال مكّي في إعرابه: و قيل: «له» هو الخبر، و هو قياس قول سيبويه، لأنّه يقبح عنده إلغاء الظرف إذا تقدّم. و خالفه المبرّد، و أجازه على غير قبح، و استشهد بالآية، و لا شاهد للمبرّد في الآية، لأنّه يمكن أن يكون «كفوا» حالا من أحد مقدّما عليه، لأنّ نعت النكرة إذا تقدّم عليها نصب على الحال «3». انته.
و جوّز أبو البقاء: أن يكون «له» حال من كفوا، و أن يكون متعلّقا ب «يكن»، و الخبر هو كفوا «4».
و اعلم أنّه عليه السّلام إنّما آثر الخطاب في العائد إلى الموصول على الغيبة، فقال:
«لم تلد، و لم تولد، و لم يكن لك كفوا أحد»- مع أنّ الأكثر في الموصول أو موصوفه إذا كان خبرا أن يكون العائد إليه غائبا نحو: أنت الرجل الذي قال كذا- حملا على المعنى، و تلذّذا بالخطاب، و لأنّ الإقرار و الإذعان و الشهادة بوحدانيّته و أحديّته
__________________________________________________
(1) سورة الصافات: الآية 158.
(2) كتاب سيبويه: ج 1 ص 139- 140.
(3) مشكل اعراب القرآن: ج 2 ص 510.
(4) إملاء ما منّ به الرحمن: ج 2 ص 297.
195
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الخامس و الثلاثين ص 179
..........
و صمديّته و تنزيهه عن المماثل مطلقا في الحضور أتمّ منه في الغيبة، فأجرى جملة الكلام على و تيرة واحدة في الخطاب، على أنّ رواية ابن إدريس على الغيبة. و اللّه أعلم. [] هذا آخر الروضة الخامسة و الثلاثين من رياض السالكين، وفّق اللّه عزّ شأنه لإتمامها راد الضحى من يوم الخميس، لثلاث عشرة خلون من شوّال عام أربع و مائة و ألف، بدار السرور برهانپور على يد مؤلّفه و للّه الحمد.
196
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
الروضة السادسة و الثلاثون ص 197
الروضة السادسة و الثلاثون
197
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
و كان من دعائه عليه السلام إذا نظر إلى السحاب و البرق و سمع صوت الرعد ص 199
و كان من دعائه عليه السّلام إذا نظر إلى السّحاب و البرق و سمع صوت الرّعد
اللّهمّ إنّ هذين آيتان من آياتك و هذين عونان من اعوانك يبتدران طاعتك برحمة نافعة او نقمة ضارّة فلا تمطرنا بهما مطر السّوء و لا تلبسنا بهما لباس البلاء اللّهمّ صلّ على محمّد و آله و انزل علينا نفع هذه السّحائب و بركتها و اصرف عنّا أذاها و مضرّتها و لا تصبنا فيها بافة و لا ترسل على معايشنا عاهة اللّهمّ و ان كنت بعثتها نقمة و ارسلتها سخطة فانّا نستجيرك من غضبك و نبتهل إليك في سؤال عفوك فمل بالغضب إلى المشركين و ادر رحى نقمتك على الملحدين اللّهمّ اذهب محل بلادنا بسقياك و أخرج وحر صدورنا برزقك و لا تشغلنا عنك بغيرك و لا تقطع عن كافّتنا مادّة برّك فانّ الغنىّ من اغنيت و انّ السّالم من وقيت ما عند أحد دونك دفاع و لا بأحد من سطوتك امتناع تحكم بما شئت على من شئت و تقضى بما أردت فيمن أردت فلك الحمد على ما وقيتنا من البلاء و لك الشّكر على ما خوّلتنا من النّعماء حمدا يخلّف حمد الحامدين وراءه حمدا يملأ ارضه و سماءه انّك المنّان بجسيم المنن الوهّاب لعظيم النّعم القابل يسير الحمد الشّاكر قليل الشّكر المحسن المجمل ذو الطّول لا اله الّا أنت إليك المصير
199
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء السادس و الثلاثين ص 201
[مقدمة الشارح]
[] (الروضة السادسة و الثلاثون) بسم اللّه الرحمن الرحيم و به نستعين «1» الحمد للّه الذي يري عباده البرق خوفا و طمعا، و يسبّح الرّعد بحمده و الملائكة من خيفته معا، و الصلاة و السّلام على نبيّه الذي يستسقى بوجهه الغمام و أهل بيته سحب الرحمة الواكفة على الأنام.
و بعد، فهذه الروضة السادسة و الثلاثون من رياض السالكين في شرح صحيفة سيد العابدين، سلام اللّه عليه و على آبائه و أبنائه الطاهرين، إملاء راجي فضل ربّه السني عليّ صدر الدين الحسينيّ الحسنيّ، نظر اللّه بعين رحمته إليه، و أسبل سحاب جوده و كرمه عليه.
__________________________________________________
(1) «ألف»: و به ثقتي.
200
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء السادس و الثلاثين ص 201
شرح الدعاء السادس و الثلاثين
و كان من دعائه عليه السّلام إذا نظر إلى السحاب و البرق، و سمع صوت الرعد.
السحاب بالفتح: الغيم، كان فيه ماء أو لم يكن. و لهذا يقال: سحاب جهام، أي لا ماء فيه. و أصله من السحب، و هو الجرّ كسحب الذيل و الإنسان على وجهه، سمّي بذلك لجر الريح له لانجراره في مرّة. الواحدة سحابة، و الجمع سحب- بضمتين-.
و البرق: لمعان السحاب، و الرعد: صوته. و إضافة الصوت إليه من إضافة العام إلى الخاصّ، و في الحديث: إنّ البرق سوط من نار بيد ملك من ملائكة اللّه يزجر به السحاب «1» و الرعد: اسم ذلك الملك الموكّل بالسحاب، و قد ذكرنا ذلك مبسوطا في الروضة الثالثة، مع ما قاله الطبيعيون في ذلك، فليرجع إليه «2».
__________________________________________________
(1) الكشكول للشيخ البهائي: ص 165 مع اختلاف يسير في العبارة.
(2) ج 2 ص 51.
201
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء السادس و الثلاثين ص 201
[ 1002] قال صلوات اللّه و سلامه عليه:
اللّهمّ إنّ هذين آيتان من آياتك، و هذين عونان من أعوانك يبتدران طاعتك برحمة نافعة، أو نقمة ضارّة فلا تمطرنا بهما مطر السّوء، و لا تلبسنا بهما لباس البلاء.
تأكيد الجملة، لرواجه عند المخاطب، و بيان أنّ الحكم عن اعتقاد ثابت، و صميم قلب، و صدق رغبة فيه. و الظاهر أنّ المشار إليهما بهذين البرق و الرعد، و يحتمل أن يكون السحاب و البرق، أو السحاب و الرعد.
و الآية: العلامة الظاهرة.
قال الراغب: و حقيقته كلّ شيء ظاهر، هو ملازم لشيء لا يظهر مظهره. فمتى أدرك مدرك الظاهر منهما علم أنّه أدرك الآخر الذي لم يدركه بذاته، إذ كان حكمهما سواء. و ذلك ظاهر في المحسوسات و المعقولات، فمن علم ملازمة العلم للطريق المنهج، ثمّ وجد العلم، علم أنّه وجد الطريق. و كذا إذا علم شيئا مصنوعا علم أنّه لا بدّ له من صانع.
و اشتقاقها إمّا من أيّ، و هي التي تبيّن أيّا من أيّ «1».
أو من قولهم: آوى إليه، أي رجع، لأنّها يرجع إليها لمعرفة ذي العلامة، و قد تقدّم الكلام على بنائها، و نقل الخلاف فيه في شرح الأسناد.
و معنى «آيتان من آياتك» أي علامتان من علاماتك الدالّة على وحدانيّتك و قدرتك، كما قال تعالى: «وَ مِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَ طَمَعاً» «2».
و العون: المعين و الظهير على الأمر، و اشتهر اختصاصه بمن يخدم السلطان، و ينفذه السلطان في أوامره و نواهيه. و هذا المعنى هو المراد هنا، أي خادمان من خدمك نافذان في أمرك. و هو مجاز مرسل، من باب إطلاق اسم اللازم على الملزوم،
__________________________________________________
(1) المفردات: ص 33.
(2) سورة الروم: الآية 24.
202
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء السادس و الثلاثين ص 201
..........
لأنّ الخدمة و تنفيذ الأمر لازمان للإعانة و المظاهرة.
و ما قيل: من أنّ المراد أنّهما عونان للخلق، و إضافة الأعوان إليه تعالى من باب إضافة الشيء إلى فاعله، و المعنى أنّهما من جملة الأشياء التي جعلتها أعوانا لخلقك، لا يخفى عدم مناسبته لسياق الكلام.
و يبتدران طاعتك، أي: يتسارعان إليها.
قال الفارابي «1» و الجوهري «2»: ابتدر القوم السلاح تسارعوا إلى أخذه.
و في القاموس: بادره مبادرة و بدارا و ابتدره، و بدر غيره إليه: عاجله «3».
و الجملة في محل رفع على الوصفيّة، أو خبر ثان. و إيثار تصديرها بالمضارع، لإفادة الاستمرار.
قال الرضيّ: جرت العادة منهم إذا قصدوا معنى الاستمرار بأن يعبّروا عنه بلفظ المضارع، لمشابهته للاسم الذي أصل وضعه الإطلاق، كقولك زيد يؤمن باللّه و يسخو بموجوده، أي هذه عادته «4».
و «الباء» من قوله: «برحمة» إمّا متعلّقة ب «يبتدران» لتضمينه معنى يأتيان، أي يبتدران طاعتك آتيين برحمة على ما عرفت فيما تقدّم في بيان التضمين، من أنّه استعمال الفعل في معناه الحقيقي مع حذف حال مأخوذة من الفعل الآخر، بمعونة القرينة اللفظية. فقولنا: أحمد إليك فلانا، معناه: أحمده منهيّا إليك حمده، و يقلّب كفّيه على كذا، أي نادما عليه. أو بالأمر المدلول عليه بالطاعة على حذف مضاف، أي طاعة أمرك بنعمة أو نقمة، فحذف المضاف إليه لدلالة المضاف عليه، لأنّ الطاعة هنا بمعنى امتثال الأمر لا مطلق الانقياد، و إذا كان بهذا المعنى كان متعلّقها الأمر دون الذات، كقوله تعالى: «فَاتَّبِعُونِي وَ أَطِيعُوا أَمْرِي» «5».
__________________________________________________
(1) ديوان الأدب: ج 2 ص 400.
(2) الصحاح: ج 2 ص 587.
(3) القاموس المحيط: ج 1 ص 369.
(4) شرح الكافية في النحو: ج 1 ص 279.
(5) سورة طه: الآية 90.
203
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء السادس و الثلاثين ص 201
..........
و المراد بالرحمة هنا: المطر و الخصب التابع له، سمّي ذلك رحمة لتسبّبه عن الرحمة التي هي من اللّه الإحسان.
و النفع: الخير، و هو ما يتوصّل به الإنسان إلى مطلوبه، يقال: نفعني الشيء نفعا و هو نافع.
و قال الراغب: النفع ما يستعان به في الوصول إلى الخيرات، و ما يتوصل به إلى الخير فهو خير «1».
و نعت الرحمة به: للمدح.
و النقمة على وزن كلمة، و تخفّف مثلها العقوبة، و هي اسم من الانتقام، يقال: انتقمت منه، أي عاقبته.
و ضرّه يضرّه ضرّا- من باب قتل-: إذا أوقع «2» به مكروها فهو ضارّ. و نعت النقمة به: للذم.
و المراد بالنقمة: إمّا الصواعق التي يرسلها اللّه سبحانه على من يشاء كما قال في محكم كتابه: «وَ يُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ» «3»، أو مطلق الضرر الواقع بسبب السحاب و البرق و الرعد من السيول المغرقة، و الصواعق المحرقة، و هدم البيوت، و فساد الزرع عند إيناعه، و إسقاط الثمار عند نضاجها، إلى غير ذلك من المفاسد المترتّبة على بعض الأمطار.
و قد فسّر قوله تعالى: «هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَ طَمَعاً» «4» بالخوف من الصواعق، و الطمع في الغيث، بالخوف و الطمع كلاهما من المطر، لكن الخائف منه غير الطامع فيه كالمسافر الذي يخاف تعويقه له عن المسير، و كالخرّار «5» و الجزّار
__________________________________________________
(1) المفردات: ص 502.
(2) «ألف»: وقع.
(3) سورة الرعد: الآية 13.
(4) سورة الرعد: الآية 12.
(5) «ألف»: كالخرار.
204
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء السادس و الثلاثين ص 201
..........
و بعض أهل البلاد الذين لا ينتفعون بالمطر بل يضرّهم كأهل مصر، و يطمع فيه من له فيه نفع.
و تقديم الرحمة على النقمة في الدعاء إشعار بسبق الرحمة على الغضب، على ما ورد في الحديث القدسي «سبقت رحمتي غضبي» «1».
و تقديم الخوف على الطمع في الآية، لأنّ الخوف عتيد حاصل في الحال، و المطموع فيه مترقّب، و هو الرزق و الخصب المتوقّع من إنزال الغيث. و اللّه أعلم.
[ 1003] قوله عليه السّلام: «فلا تمطرنا بهما مطر السوء»، «الفاء» فصيحة، أي إذا كان الأمر كذلك فلا تمطرنا.
قال أبو عبيدة: مطر في الرحمة، و أمطر في العذاب «2».
و قال الراغب: مطر في الخير، و أمطر في العذاب «3».
و قال الفيروزآبادي في القاموس: أمطرهم اللّه، لا يقال إلّا في العذاب «4».
و «الباء» من قوله: «بهما» هي الداخلة على آلة الفعل نحو: كتبت بالقلم، و تسمّى باء الاستعانة، و أدرجها ابن مالك في باء السببيّة «5»، تفاديا من إطلاق الاستعانة في الأفعال المنسوبة إلى اللّه سبحانه.
و السّوء- بالفتح- مصدر ساءه يسوءه: إذا فعل به ما يكره، ثمّ أطلق على كلّ ضرر و شرّ و فساد. و أضيف إليه المطر ذمّا كما يقال: رجل سوء، و هو من باب إضافة الموصوف إلى صفته، فوصف في الأصل بالمصدر للمبالغة، ثمّ أضيف إلى صفته.
و اتّفق القرّاء على فتح السين في قوله تعالى: «أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ» «6».
و انتصاب مطر، إمّا على أنّه مصدر مؤكّد بحذف الزوائد، كما قيل في «أنبتها اللَّه
__________________________________________________
(1) صحيح البخاري: كتاب التوحيد: ج 9 ص 165.
(2) مجاز القرآن لأبي عبيدة: ج 1 ص 245.
(3) المفردات: ص 470.
(4) القاموس المحيط: ج 2 ص 135.
(5) شرح ابن عقيل: ج 2 ص 19.
(6) سورة الفرقان: الآية 40.
205
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء السادس و الثلاثين ص 201
اللّهمّ صلّ على محمّد و آله، و أنزل علينا نفع هذه السّحاب و بركتها، و اصرف عنّا أذاها و مضرّتها، و لا تصبنا فيها بآفة، و لا ترسل على معايشنا عاهة.
نباتا حسنا» «1»، أي إمطار السّوء أو على أنّه مفعول ثان، و المعنى فلا تعطنا و لا تولنا مطر السوء.
قال أبو البقاء: و يجوز أن يكون نعتا لمحذوف، أي: إمطارا مثل أمطار السوء «2».
قوله عليه السّلام: «و لا تلبسنا بهما لباس البلاء» اللباس بالكسر: ما يلبس.
و البلاء: المحنة و الشدّة و الإصابة بالمكروه و الغم، لأنّه يبلي الجسم.
و الكلام استعارة مرشحّة، شبّه ما يغشى الإنسان عند البلاء من بعض الحوادث باللباس، لاشتماله على اللابس، فاستعار له اللباس، ثمّ فرّع عليها ما يلائم اللباس من الإلباس و هو الترشيح.
[ 1004] أنزل علينا: أي أعطنا و أولنا «3». و هو مجاز مرسل، من باب إطلاق السبب على المسبّب، لأنّ إعطاء النفع متسبّب عن إنزال غيث السحاب.
قال الراغب: النزول في الأصل هو انحطاط من علوّ «4».
و أنزل اللّه نعمه على الخلق: أعطاها إيّاهم، و ذلك إمّا بإنزال الشيء نفسه كإنزال القرآن. و إمّا بإنزال أسبابه، كإنزال اللباس و الرزق، قال اللّه تعالى: «قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً» «5» «يُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً» «6».
و السحاب يؤنّث باعتبار المعنى، لأنّ واحدته سحابة، و يذكّر باعتبار اللفظ.
__________________________________________________
(1) سورة آل عمران: الآية 37.
(2) تفسير التبيان في اعراب القرآن لأبي البقاء: ذيل آية 40 من سورة الفرقان.
(3) «ألف» أدلنا.
(4) المفردات: ص 488.
(5) سورة الاعراف: الآية 26.
(6) سورة غافر: الآية 13.
206
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء السادس و الثلاثين ص 201
اللّهمّ و إن كنت بعثتها نقمة، و أرسلتها سخطة، فإنّا نستجيرك من و البركة: ثبوت الخير الآلهي في الشيء، مأخوذ من برك البعير إذا ألقى بركه، أي صدره على الأرض. و تطلق على كلّ نماء و زيادة غير محسوسين، لكون الخير الآلهي يصدر من حيث لا يحسّ، و على وجه لا يحصى و لا يحصر.
[ 1005] و صرف اللّه عنه السوء صرفا- من باب ضرب-: ردّه عنه.
و الأزدى: قيل: المكروه اليسير، و قيل: ما يلحق الحيوان من ضرر في نفسه أو ماله.
و المضرّة: الضرر. و أصبته بمكروه: أوقعته به.
و الآفة: عرض يفسد ما أصابه، و هي في تقدير فعلة بفتح العين.
و الظرف من قوله: «فيها» في محلّ نصب على الحال من آفة، لتقدّمه عليها. و هو في الأصل صفة لها، فلمّا قدّم عليها نصب على الحال، كقوله تعالى: «وَ لَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ» «1».
و ما قيل: من تعلّقه ب «تصبنا» فغير صواب.
و لا ترسل: أي لا تسلّط، و لذلك عدّاه ب «على» و إلّا فالأصل في الإرسال أن يتعدّى ب «إلى».
و العاهة: كالآفة وزنا و معنى. يقال: عيه الزرع من باب تعب، إذا أصابته العاهة، فهو معيه، و معوه في لغة باب الواو.
[ 1006] تصدير الجملة بحرف الشكّ للإيذان باستواء الخوف و الطمع عنده من بعث هذه السحاب، من غير ترجيح لأحدهما على الآخر.
و إنّما قال: «و إن كنت بعثتها» و لم يقل: و إن بعثتها، للإشعار بتقدّم بعثها في علمه تعالى.
__________________________________________________
(1) سورة البقرة: الآية 179.
207
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء السادس و الثلاثين ص 201
غضبك، و نبتهل إليك في سؤال عفوك، فمل بالغضب إلى المشركين، و أدر رحى نقمتك على الملحدين.
و بعثتها و أرسلتها: أي وجّهتها.
و السّخطة: فعلة من السخط- بالضمّ- و السخط- بفتحتين و هو الغضب الشديد المقتضي للعقوبة، و هو من اللّه سبحانه إيقاع العقوبة.
و انتصاب نقمة و سخطة إمّا على المصدريّة أي بعث نقمة و إرسال سخطة، أو على المفعول لأجله أي للنقمة و للسخطة، أو على الحاليّة على حذف مضاف، أي بعثتها ذات نقمة، و أرسلتها ذات سخطة، أو حال كونها نقمة و سخطة، كأنّها في نفسها نقمة و سخطة.
و استجاره: طلب منه أن يجيره، أي: يؤمّنه ممّا يخاف و يحفظه منه.
[ 1007] و الابتهال: التضرّع في الدعاء.
و الميل: الانحراف. يقال: مال عنه. أي انحرف، و أماله و مال به. أي حرفه، كما يقال: أذهبه و ذهب به. و المعنى احرف الغضب، و اصرفه عنّا إلى المشركين.
و المشرك: اسم فاعل من أشرك باللّه، أي أثبت له شريكا في الألوهيّة.
قال الراغب: أكثر الفقهاء يحملون المشركين على الكافرين جميعا فيدخل فيهم أهل الكتاب، لقوله تعالى: «قالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَ قالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ» «1».
و قيل: هم من عدا أهل الكتاب لقوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هادُوا وَ الصَّابِئِينَ وَ النَّصارى وَ الْمَجُوسَ وَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا» «2» فأفرد المشركين عن اليهود و النصارى.
و أدر رحى نقمتك: أي شدّد عليهم انتقامك، من قولهم: دارت رحى الحرب، أي اشتدّ القتال. و رحى الحرب حومتها و شدّتها، استعارة من الرحى التي هي
__________________________________________________
(1) المفردات: ص 260.
(2) سورة الحج: الآية 17.
208
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء السادس و الثلاثين ص 201
اللّهمّ أذهب محل بلادنا بسقياك، و أخرج و حر صدورنا برزقك، و لا تشغلنا عنك بغيرك، و لا تقطع عن كافّتنا مادّة برّك، فإنّ الغنيّ من أغنيت، و إنّ السّالم من وقيت.
الطاحونة بجامع الإفناء و الإذهاب. و لذلك يقال: طحنتهم الحرب، أي أفنتهم و أهلكتهم، كما تطحن الرحى البرّ. و قد تقدّم بيان هذه الاستعارة في شرح الإسناد.
و يحتمل أن يكون المراد: أنزل بهم نقمتك، من قولهم: دارت عليه رحى الموت، إذا نزل به.
و الملحد: اسم فاعل من ألحد أي مال عن الحقّ. و يطلق على الشرك، و عبادة غير اللّه تعالى، و هو المراد هنا.
[ 1008] أذهب اللّه البأس: أزاله، كذهب به.
و قال الزمخشريّ: أذهبه: جعله ذاهبا، و ذهب به: مرّ به مع نفسه «1».
و قد تقدّم الكلام على ذلك مبسوطا.
و المحل: الجدب و القحط، و انقطاع المطر.
و السقيا- بالضمّ- على فعلى: اسم من سقاه اللّه الغيث أنزله له. و منه حديث الدعاء «سقيا رحمة و لا سقيا عذاب» «2»، أي اسقنا غيثا نافعا بلا ضرر و لا إفساد.
و الوخر- بفتحتين و بالسّكون- و قال الجوهري: هو بالتحريك مصدر، و بالتسكين اسم «3».
قال ابن الأثير في النهاية: فيه الصوم يذهب و حر الصدر، هو بالتحريك وساوسه و غشه. و قيل: الحقد و الغيط. و قيل: العداوة. و قيل: أشدّ الغضب «4».
و قال الزمخشري في الفائق: هو الغلّ، يقال: وحر صدره و وغر. و أصله من
__________________________________________________
(1) أساس البلاغة، ص 211.
(2) المصباح المنير: ص 381.
(3) الصحاح: ج 2 ص 844.
(4) النهاية لابن الأثير: ج 5 ص 160.
209
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء السادس و الثلاثين ص 201
..........
الوحرة، و هي دويبة تلزق بالأرض، و نظيره تسميتهم الحقد بالضبّ «1».
و لا تشغلنا عنك: أي عن ذكرك و دعائك و عبادتك بسؤال غيرك، أو تأميله، أو بالاهتمام بأمر الرزق و الفكر فيه، و ذلك بحسم أسباب الشغل عنه تعالى بغيره، و من جملتها محل البلاد، و وحر الصدور.
[ 1009] و كافّتنا: أي: جميعنا. و فيه شاهد على استعمال كافّة غير منصوب على الحال، خلافا لمن زعم أنّه لا يستعمل إلّا كذلك. و قد استوفينا الكلام على ذلك في الروضة السادسة و العشرين «2»، فليرجع إليه.
و المادّة: الزيادة المتّصلة.
و البرّ- بالكسر- الخير و التوسّع في الإحسان.
قوله عليه السّلام: «فإنّ الغنيّ من أغنيت»، «الفاء» للسببيّة، أو للترتيب الذكري، كأنّه تفصيل لما أفهمه الكلام السابق إجمالا من سؤال الغنى و السلامة من الحاجة و الفقر.
قال بعضهم: يقال: الغنى على ثلاثة وجوه:
أحدها: عدم الحاجة مطلقا، و ليس ذلك إلّا اللّه تعالى و هو المذكور في قوله تعالى: «وَ اللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ» «3».
و الثاني: قلّة الحاجات، و القناعة و هو المشار إليه بقوله تعالى: «وَ وَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى» «4»، أي فأغنى قلبك بالقناعة، و هو المذكور في قوله عليه السّلام: «الغنى غنى النفس» «5».
و الثالث: كثرة المقتنيات بحسب ضروب الناس. و منه قوله تعالى: «وَ مَنْ كانَ
__________________________________________________
(1) الفائق في غريب الحديث: ج 4 ص 47.
(2) ج 4 ص 163.
(3) فاطر: الآية 15.
(4) الضحى: الآية 8.
(5) من لا يحضره الفقيه: ج 4 ص 402 ح 5868.
210
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء السادس و الثلاثين ص 201
ما عند أحد دونك دفاع، و لا بأحد عن سطوتك امتناع، تحكم بما شئت على من شئت و تقضي بما أردت فيمن أردت.
«غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ» «1».
و السلامة: الخلوص من الآفات.
و وقيته وقاية: حفظته ممّا يؤذيه و يضرّه، قال تعالى: «فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ» «2».
و قصر اسم إنّ على خبرها في الفقرتين للمبالغة في غناء من أغناه اللّه تعالى، و سلامة من وقاه و حفظه، كأنّه لا غنيّ و لا سالم غيره، حسب ما تقدّم بيانه في الروضة السابقة و غيرها.
و مفعولا «أغنيت و وقيت» محذوفان، أي أغنيته و وقيته، و قد اطرد حذف المفعول إذا كان ضميرا عائدا إلى الموصول، و قد مرّ نظير ذلك غير مرّة.
[ 1010] الجملة الأولى مستأنفة للتعليل، كأنّه سئل: لما ذا كان السالم من وقيت؟
فقال: لأنّه ما عند أحد دونك دفاع.
و «عند» هنا للحضور المعنوي نحو: «قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ» «3».
و «دون» بمعنى التجاوز، ظرف مستقرّ وقع حالا من أحد. و العامل متعلّق الظرف أعني عند أي ما استقرّ أو ما يكون عند أحد دفاع حال كونه متجاوزا إيّاك.
و «دون» هنا مثلها في قول الشاعر:
يا نفس مالك دون اللّه من واق
أي إذا تجاوزت وقاية اللّه، و لم تبال بها لم يقك غيره.
و يحتمل أن تكون بمعنى «غير» عند من أثبته، أي ما عند أحد غيرك دفاع.
__________________________________________________
(1) سورة النساء: الآية 6.
(2) سورة الانسان: الآية 11.
(3) سورة النمل: الآية 40.
211
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء السادس و الثلاثين ص 201
..........
و الدفاع: الحماية، مصدر دافع عنه دفاعا و مدافعة أي حماه.
قال الجوهريّ: دافع عنه و دفع بمعنى، تقول منه دافع اللّه عنك السوء دفاعا «1».
و قيل في قوله تعالى «إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا» «2» صيغة المفاعلة إمّا للمبالغة أو للدلالة على تكرر الدفع. فإنّها قد تجرّد عن وقوع الفعل للتكرّر من الجانبين، فيبقى تكرّره كما في الممارسة، أي يبالغ في دفع السوء و الضرر عنهم.
و «الباء» من قوله: «بأحد» مثلها في قوله تعالى: «وَ ما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ» «3». فقيل: هي للملابسة و المصاحبة.
قال العمادي: أي: أيّ شيء يلابسكم و يصاحبكم من نعمة فمن اللّه «4».
و قيل: للظرفيّة. قال بعض المعربين «بكم» بمعنى فيكم، كما تقول: به عيب.
و على الأول: فالتقدير في عبارة الدعاء و لا يلتبس بأحد عن سطوتك امتناع.
و على الثاني: و لا يكون في أحد عن سطوتك امتناع. و ارتفاع دفاع و امتناع على الفاعليّة بالظرف في الأوّل، و بالجار و المجرور في الثاني لاعتماد هما على النفي، نحو:
ما عندك أحد و لا في الدار أحد. هذا اختيار ابن مالك و ابن هشام في الشذور «5».
و وجهه أنّ الأصل عدم التقديم و التأخير. و نقل ابن هشام الخضراوي وجوب ذلك عن الأكثرين «6».
و رجّح بعضهم الارتفاع على الابتدائيّة، و الجار و المجرور «7» و الظرف خبران، مع جواز الفاعليّة، و على القول بارتفاعهما على الفاعليّة، فهل عامل الفاعل الفعل المقدّر، أو الظرف و الجار و المجرور لنيابتهما عن الفعل، و قربهما منه لاعتمادهما؟ فيه خلاف:
__________________________________________________
(1) الصحاح: ج 3 ص 1208.
(2) سورة الحج: الآية 38.
(3) سورة النحل: الآية 53.
(4) تفسير أبي المسعود: ج 5 ص 120.
(5) شذور الذهب لابن هشام: ص 410.
(6) مغني اللبيب: ص 579.
(7) «ألف»: و الظرف و الجار.
212
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء السادس و الثلاثين ص 201
..........
قال ابن هشام: و المختار الثاني، لامتناع تقديم الحال في نحو: زيد في الدار جالسا، و لو كان العامل الفعل لم يمتنع «1».
وسطا به يسطو سطوا و سطوة: قهره و أذلّه، و صال عليه.
و امتنع زيد عمّن يريده بسوء امتناعا: حمى نفسه بقوّته، أو بعشيرته. و أصل المنع: تحجير الشيء، و لهذا يقال في ضدّ العطاء.
قوله عليه السّلام: «تحكم بما شئت على من شئت» جملة مستأنفة للتعليل أيضا، كالجملة المتقدّمة لقصر السلامة على من وقاه اللّه تعالى. و ترك عطفها تنبيها على كونها علّة بالاستقلال، و يجوز أن تكون تعليلا للكلام السابق عليها، كما أنّ الجملة الأولى تعليل لسابقها. و نظير ذلك قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا وَدُّوا ما عَنِتُّمْ، قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَ ما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ» «2».
قال الزمخشريّ: الأحسن و الأبلغ أن تكون هذه الجمل مستأنفات كلّها على وجه التعليل للنهي عن اتّخاذهم بطانة من دون المسلمين «3».
قال السعد التفتازانيّ: ليس معنى قوله: مستأنفات كلّها أنّ الكلّ علّة واحدة بالاجتماع، بل بمعنى أنّ كلّا منها علّة للنهي بالاستقلال، و ترك تعاطفها تنبيها على الاستقلال، كما في قوله تعالى: «ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا»* «ذلِكَ بِما عَصَوْا»* أو على أنّها مستأنفات على طريق الترتيب بأن يكون اللاحق علّة للسابق إلى أن تكون الأولى علّة للنهي، و يتمّ التعليل بالمجموع، أي: لا تتخذوهم «4» بطانة، لأنهم لا يألونكم خبالا لأنّهم يودّون شدّة ضرركم، بدليل أنّه قد تبدو البغضاء من أفواههم، و إن كانوا يخفون الكثير «5». انته.
__________________________________________________
(1) مغني اللبيب: ص 579.
(2) سورة آل عمران: الآية 118.
(3) الكشاف: ج 1 ص 406.
(4) «ألف»: لا تتخذونهم.
(5) التفتازاني.
213
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء السادس و الثلاثين ص 201
فلك الحمد على ما وقيتنا من البلاء، و لك الشّكر على ما خوّلتنا من النّعماء، حمدا يخلّف حمد الحامدين وراءه، حمدا يملأ أرضه و سماءه.
و المشيئة و الإرادة: بمعنى واحد بحسب اللغة، و عند أكثر المتكلّمين. و فرّق بعضهم بينهما، بأنّ المشيئة من اللّه تقتضي وجود الشيء، و لذلك قيل: ما شاء اللّه كان، و ما لم يشأ لم يكن، و الإرادة منه تعالى لا تقتضي وجود المراد لا محالة، ألا ترى أنّه قال: «يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَ لا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ» «1»، و قال: «وَ مَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ» «2»، و معلوم أنّه قد يحصل العسر و الظلم فيما بين الناس.
و قال بعض المحققين: مشيئة اللّه عبارة عن تجلّيه بالعناية السابقة لإيجاد المعدوم، أو إعدام الموجود، و إرادته عبارة عن تجلّيه لإيجاد المعدوم، فهي لا تتعلّق أبدا إلّا بالمعدوم، فتكون صفة تخصص أمرا بالحصول و وجوده، كما قال تعالى:
«إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» «3». و المشيئة أعمّ من الإرادة من وجه، قال: و من تتبّع مواضع استعمالات المشيئة و الإرادة في القرآن يعلم ذلك، و إن كان بحسب اللغة يستعمل أحدهما مكان الآخر انته.
و على هذا فمفاد الفقرة الثانية أخصّ من مفاد الأولى.
و المعنى: إنّك تحكم بما شئت على من شئت، حسب ما تشاء، و تقضي بما أردت على من أردت حسب ما تريد، من غير أن يوجبه عليك موجب، أو يمنعك منه مانع.
و اللّه أعلم.
[ 1011] «الفاء»: سببيّة. و تقديم الحمد على الوقاية من البلاء على الشكر على تخويل النعماء، لما تقرّر من أنّ دفع الضرر أهم من جلب النفع، و التخلية مقدّمة على التحلية، و إيثار الشكر في النعماء ظاهر، لأنّه لا يقال إلّا في مقابلة نعمة.
__________________________________________________
(1) سورة البقرة: الآية 185.
(2) سورة غافر: الآية 31.
(3) سورة يس: الآية 82.
214
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء السادس و الثلاثين ص 201
إنّك المنّان بجسيم المنن، الوهّاب لعظيم النّعم، القابل يسير الحمد، الشّاكر قليل الشّكر، المحسن المجمل ذو الطّول، لا إله إلّا أنت، إليك المصير.
[ 1012] و خلّفت الشيء تخليفا: تركته خلفي، أي ورائي و هو نقيض قدّام.
و وراء: نصب على الظرفيّة، لا على أنّه مفعول ثان ليخلّف كما توهّمه بعضهم.
و جملة «يخلّف»- في محلّ نصب- نعت ل «حمدا» المنصوب على المفعوليّة المطلقة.
و الكلام تمثيل لرجحان حمده على سائر الحمد، و تصوير لإنافته و فضله على كلّ حمد كمّا، و كيفا بما هو علم في الرجحان و الفضل من شرف السابق المجاوز لأمثاله و أقرانه، المخلّف لهم وراء ظهره عليهم جميعا، و مداره على تصوير المعقول بصورة المحسوس و إبراز الغائب عن الحس في صورة الشاهد حتّى كأنّه محسوس مشاهد.
و مثله قوله عليه السّلام «يملأ أرضه و سماءه» فإنّه تمثيل و تصوير أيضا، لكثرة الحمد بكثرة ما يملأ الأرض و السماء.
و الضمير في كلّ من أرضه و سمائه إمّا عائد إلى اللّه تعالى فيكون من باب الالتفات، أو إلى الحمد، و الإضافة لأدنى ملابسة لوقوعه فيهما «1» كما قال تعالى:
«وَ لَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ» «2». و اللَّه أعلم [ 1013] المنّان: صيغة مبالغة من المنّة، و هي النعمة الثقيلة، يقال: «منّ عليه» إذا أثقله بالنعمة الثقيلة، و على ذلك قوله تعالى: «لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ» «3»، و ذلك في الحقيقة لا يكون إلّا اللّه تعالى.
و الجسيم في الأصل: العظيم الجسم، و هو ما له طول و عرض و عمق، ثمّ استعمل في المعاني أيضا.
__________________________________________________
(1) «ألف»: بينهما.
(2) سورة الروم: الآية 18.
(3) سورة آل عمران: الآية 164.
215
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء السادس و الثلاثين ص 201
..........
قال في الأساس: و من المجاز أمر جسيم، و هو من أجسام الأمور، و جسيمات الخطوب «1».
و المنن: جمع منّة، مثل سدرة و سدر.
و الوهّاب: من أبنية المبالغة أيضا، و هو من الهبة، و هي أن تجعل ملكك لغيرك من غير عوض.
و العظيم في أصل الوضع: من عظم الرجل إذا كبر عظمه، ثمّ استعمل لكلّ كبير، محسوسا كان أو معقولا، عينا كان أو معنى.
و النعم: جمع نعمة بالكسر، و هي في الأصل للحالة الحسنة كالركبة و الجلسة، ثمّ أطلقت فيما قصد به الإحسان و النفع.
و قبلت الهدية- من باب تعب- قبولا، أي أخذتها. قالوا: و القبول يقتضي الرضا و الإثابة، و لذلك لا يقال إلّا في أخذ الشيء على وجه يقتضي ثوابا، كالهديّة.
و قبول اللّه تعالى للعمل عبارة عن أن يكون العمل بحيث يرضاه و يثيب عليه.
شبّه الفعل من العبد بالهديّة، و رضا «2» اللّه تعالى به و إثابته عليه بالقبول.
و اليسير: فعيل من يسر الشيء- من باب قرب-: بمعنى قلّ فهو يسير، أي:
قليل.
و الشاكر و الشكور في وصفه تعالى: قيل: هو المجازي على الشكر. و قيل:
المثيب الكثير على القليل. و قيل: المثني على من شكره و أطاعه.
[ 1014] و المحسن: من الإحسان، و يقال على وجهين:
أحدهما: الإنعام على الغير، و منه قوله تعالى: «وَ قَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ» «3».
__________________________________________________
(1) أساس البلاغة: ص 94.
(2) «ألف»: رضاه.
(3) سورة يوسف: الآية 100.
216
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء السادس و الثلاثين ص 201
..........
الثاني: إحسان في نفسه، و ذلك إذا علم علما حسنا، أو عمل عملا حسنا، و منه قوله تعالى: «الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ» «1».
و المجمل: من أجمل الصنيعة، أي أجزلها و وفّرها، كأنّه أعطاها جملا.
و في القاموس: أجمل الصنيعة: حسّنها، و كثّرها «2». انته.
فيكون على الأوّل: من الجمال، و هو الحسن، و على الثاني من الجملة.
و الطّول- بالفتح-: الفضل و المنّ. و عن ابن عباس في قوله تعالى: «ذِي الطَّوْلِ» أي ذي النعم على عباده، و عن مجاهد، أي ذي الغنى و السعة. و عن الحسن و قتادة، أي ذي التفضّل على المؤمنين «3». و قيل: أي ذي الفضل بترك العقاب المستحقّ.
و لمّا وصفه تعالى بالصفات التي لا تليق إلّا بالإله وحده بالألوهيّة، فقال:
لا إله إلّا أنت، أي أنت الموصوف بهذه الصفات دون غيرك، و لا يستحقّها سواك.
ثمّ أتبعه بقوله: «إليك المصير» أي إليك المرجع فحسب، لا إلى غيرك، لا استقلالا و لا اشتراكا.
و المعنى: إنّ الامور تئول إلى حيث لا يملك أحد النفع و الضرّر، و الأمر و النهي غيرك. و اللّه أعلم. [] تمّ ضحى يوم الجمعة واحد و عشرين شوّال.
__________________________________________________
(1) سورة السجدة: الآية 7.
(2) القاموس المحيط: ج 3 ص 351.
(3) مجمع البيان: ج 7- 8 ص 513.
217
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
الروضة السابعة و الثلاثون ص 219
الروضة السابعة و الثلاثون
219
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
و كان من دعائه عليه السلام إذا اعترف بالتقصير عن تأدية الشكر ص 221
و كان من دعائه عليه السّلام إذا اعترف بالتقصير عن تأدية الشكر
اللهمّ إنّ أحدا لا يبلغ من شكرك غاية إلّا حصل عليه من إحسانك ما يلزمه شكرا و لا يبلغ مبلغا من طاعتك و ان اجتهد إلّا كان مقصّرا دون استحقاقك بفضلك فاشكر عبادك عاجز عن شكرك و اعبدهم مقصّر عن طاعتك لا يجب لأحد ان تغفر له باستحقاقه و لا ان ترضى عنه باستيجابه فمن غفرت له فبطولك و من رضيت عنه فبفضلك تشكر يسير ما شكرته و تثيب على قليل ما تطاع فيه حتّى كأنّ شكر عبادك الّذي أوجبت عليه ثوابهم و اعظمت عنه جزاءهم أمر ملكوا استطاعة الامتناع منه دونك فكافيتهم او لم يكن سببه بيدك فجازيتهم بل ملكت يا إلهي امرهم قبل أن يملكوا عبادتك و اعددت ثوابهم قبل ان يفيضوا في طاعتك و ذلك انّ سنّتك الافضال و عادتك الاحسان و سبيلك العفو فكلّ البريّة معترفة بأنّك غير ظالم لمن عاقبت و شاهدة بأنّك متفضّل على من عافيت و كلّ مقرّ على نفسه بالتّقصير عمّا استوجبت فلو لا انّ الشّيطان يختدعهم عن طاعتك ما عصاك عاص و لو لا أنّه صوّر لهم الباطل في مثال الحقّ ما ضلّ عن طريقك
221
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
و كان من دعائه عليه السلام إذا اعترف بالتقصير عن تأدية الشكر ص 221
ضآلّ فسبحانك ما أبين كرمك في معاملة من اطاعك او عصاك تشكر للمطيع ما أنت تولّيته له و تملى للعاصى فيما تملك معاجلته فيه أعطيت كلّا منهما ما لم يجب له و تفضّلت على كلّ منهما بما يقصر عمله عنه و لو كافات المطيع على ما أنت توليّته لأوشك ان يفقد ثوابك و ان تزول عنه نعمتك و لكنّك بكرمك جازيته على المدّة القصيرة الفانية بالمدّة الطّويلة الخالدة و على الغاية القريبة الزّائلة بالغاية المديدة الباقية ثمّ لم تسمه القصاص فيما أكل من رزقك الّذي يقوى به على طاعتك و لم تحمله على المناقشات في الالات الّتي تسبّب باستعمالها إلى مغفرتك و لو فعلت ذلك به لذهب بجميع ما كدح له و جملة ما سعى فيه جزاء للصّغرى من اياديك و مننك و لبقى رهينا بين يديك بسائر نعمك فمتى كان يستحقّ شيئا من ثوابك لا متى هذا يا إلهي حال من اطاعك و سبيل من تعبّد لك فامّا العاصي أمرك و المواقع نهيك فلم تعاجله بنقمتك لكى يستبدل بحاله في معصيتك حال الانابة إلى طاعتك و لقد كان يستحقّ في اوّل ما همّ بعصيانك كلّ ما اعددت لجميع خلقك
222
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
و كان من دعائه عليه السلام إذا اعترف بالتقصير عن تأدية الشكر ص 221
من عقوبتك فجميع ما أخرت عنه من العذاب و أبطأت به عليه من سطوات النقمة و العقاب ترك من حقّك و رضى بدون واجبك فمن أكرم منك يا إلهي و من اشقى ممّن هلك عليك لا من فتباركت ان توصف الّا بالإحسان و كرمت أن يخاف منك الّا العدل لا يخشى جورك على من عصاك و لا يخاف اغفالك ثواب من ارضاك فصلّ على محمّد و آله و هب لي املى و زدني من هداك ما أصل به الى التّوفيق في عملي انّك منّان كريم
223
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
مقدمة الشارح ص 224
[مقدمة الشارح]
[] (الروضة السابعة و الثلاثون) بسم اللّه الرحمن الرحيم و ايّاه نستعين الحمد للّه الذي اعترف بالتقصير عن أداء شكره الشاكرون، و اغترف بالتبصير من بحار ذكره الذاكرون، و الصلاة و السّلام على نبيّه الذي مهد نهج الحمد و سبيله، و على أهل بيته الذين و ردوا سلسل الشكر و سلسبيله.
و بعد: فهذه الروضة السابعة و الثلاثون من رياض السالكين، تتضمّن شرح الدعاء السابع و الثلاثين من صحيفة سيّد العابدين صلوات اللّه و سلامه عليه و على آبائه و أبنائه الأئمة الراشدين، إملاء راجي فضل ربّه السنيّ علي صدر الدين الحسينيّ الحسنيّ، وفّقه اللّه لشكره و حمده، و تجاوز بمنّه عن خطأه و عمده.
224
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء السابع و الثلاثين ص 225
شرح الدعاء السابع و الثلاثين
و كان من دعائه عليه السّلام إذا اعترف بالتقصير عن تأدية الشكر.
اعترف بالشيء اعترافا: أقرّ به على نفسه و التقصير يقال على وجهين.
أحدهما: بمعنى العجز عن الشيء، يقال فيه: قصر عنه قصورا- من باب قعد- و قصر عنه تقصيرا: أي عجز عنه و لم يبلغه.
و الثاني: التواني في الأمر، يقال: قصّر فلان في حاجتي تقصيرا إذا توانى فيها.
و هو بالمعنى الأوّل يتعدّي ب «عن» و بالمعنى الثاني يتعدّى ب «في»، و المراد هنا المعنى الأول لتعديته ب «عن».
و التأدية: مصدر أدّى الحقّ إذا أوصله وافيا، و الاسم الأداء.
قال الراغب: الأداء دفع ما يحقّ دفعه و توفيته، كأداء الجزية و أداء «1» الأمانة.
(مقدّمة) الشكر: قيل: هو الثناء على المحسن بذكر إحسانه.
و قيل: هو تصوّر المنعم عليه النعمة و إظهارها.
__________________________________________________
(1) المفردات: ص 14 مع اختلاف يسير في بعض الألفاظ.
225
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء السابع و الثلاثين ص 225
..........
و قيل: هو عبارة عن معروف يقابل النعمة، سواء كان باللسان أو بالأركان أو بالجنان. فالشكر باللسان: هو الثناء على المنعم بالجميل، و الشكر بالأركان: هو مكافاته بقدر استحقاقه، و الشكر بالجنان: هو تصوّر النعمة.
و قيل: الشكر باللسان: هو الاعتراف على وجه الاستكانة بجلالة النعمة و الشكر بالأركان: الاتّصاف بالوفاق، و الخدمة، و الشكر بالجنان: هو الاعتكاف على بساط الشهود بإدامة الحرمة.
و قال الأكثرون: الشكر قسمان لغوي و عرفي.
فاللغويّ: فعل ينبئ عن تعظيم المنعم بسبب الإنعام سواء كان ذكرا باللسان، أو اعتقادا و محبّة بالجنان، أو عملا و خدمة بالأركان.
و العرفيّ: هو صرف العبد جميع ما أنعم اللّه عليه من السمع و البصر و غيرهما إلى ما خلقه اللّه لأجله. فبين الشكر اللغوي و الشكر العرفي عموم و خصوص مطلقا.
و قال المحقق النصير الطوسيّ: اعلم أنّ الشكر مقابلة «1» النعمة بالقول و الفعل و النيّة. و له أركان ثلاثة:
الأوّل: معرفة المنعم و صفاته اللائقة به، و معرفة النعمة من حيث إنّها نعمة، و لا تتمّ تلك المعرفة إلّا بأن تعرف أنّ النعم كلّها جليّها و خفيّها من اللّه سبحانه، أنّه المنعم الحقيقي، و أنّ الأوساط كلّها منقادة لحكمه مسخّرة لأمره.
الثاني: الحالة التي هي ثمرة تلك المعرفة، و هي الخضوع و التواضع، و السرور بالنعم، لا من حيث إنّها موافقة لغرض النفس، فإنّ في ذلك متابعة لهواها، و قصر الهمّة على رضاها، بل من حيث إنّها هديّة دالة على عناية المنعم بك، و علامة ذلك أن لا تفرح من نعم الدنيا إلّا بما يوجب القرب منه.
الثالث: العمل الذي هو ثمرة تلك الحال، فإنّ تلك الحال إذا حصلت في
__________________________________________________
(1) «ألف»: مقابله.
226
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء السابع و الثلاثين ص 225
..........
القلب حصل فيه نشاط للعمل الموجب للقرب منه تعالى، و هذا العمل يتعلّق بالقلب و اللسان و الجوارح.
أمّا عمل القلب فالقصد إلى تعظيم المنعم و تمجيده و تحميده و التفكّر في صنائعه و أفعاله و آثار لطفه، و العزم على إيصال الخير و الإحسان إلى عامّة الخلق.
و أمّا عمل اللسان فإظهار ما قصدته و نويته من التمجيد و التعظيم بتهليله و تحميده و تسبيحه و الثناء عليه. و إرشاد الخلق بالأمر بالمعروف و النهي عن المنكر إلى غير ذلك.
و أمّا عمل الجوارح فاستعمال نعمه الظاهرة و الباطنة في طاعته و عبادته، و عدم استعمالها في معصيته و مخالفة أمره، كإعمال العين في النظر إلى عجيب مصنوعاته و آياته، و النظر في كتابه، و استعمال السمع في استماع دلائله و براهينه، و الإنصات لقراءة كتابه، و قس على ذلك سائر الجوارح.
و من هنا ظهر أنّ الشكر من أشرف معارج السالكين و أعلى مدارج العارفين، و لا يبلغ حقيقته إلّا من ترك الدنيا وراء ظهره، و هم قليلون. و لذلك عزّ من قائل:
«وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ» «1» انته.
و قال بعض العارفين: كما أنّ لكل من اللسان و الجنان و الأركان في الشكر تعلّقا بك، فكلّ منها تعلّق بغيرك. و لا يتمّ شكر اللّه به ما لم توفّر على غيرك حقّه منه. أمّا بالجنان: فان تنوي الخير و تعتقد الشفقة على كافّة الخلق. و أمّا باللسان:
فان تحسن القول لهم. و أمّا بالأركان: فبالتوقّي ممّا يرجع عليهم بسوء حتّى أن شكر العين أن تستر كلّ عيب تراه فيهم، و شكر السمع أن تستر كلّ قبيح تسمعه منهم، و حتى إذا لقيت معارفك فلا تسائلهم على العادة في التلطّف و التحفّي في
__________________________________________________
(1) شرح الكافي للمولى محمّد صالح المازندراني: ج 8 ص 276- 277، نقلا عن المحقّق الطوسي «قدّس سرّه».
227
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء السابع و الثلاثين ص 225
قال عليه السّلام:
اللّهمّ إنّ أحدا لا يبلغ من شكرك غاية إلّا حصل عليه من إحسانك ما يلزمه شكرا، و لا يبلغ مبلغا من طاعتك، و إن اجتهد إلّا كان مقصّرا دون استحقاقك بفضلك، فأشكر عبادك عاجز عن شكرك، و أعبدهم مقصّر عن طاعتك.
مسألة الحال شوقا و اهتماما، و لكن على استخراج الشكر منهم و التأدّي بهم إلى أن يحمدوا اللّه، و تحمده معهم، كما جاء في الحديث أنّه صلّى اللّه عليه و آله قال لرجل:
«كيف أصبحت؟ فقال: بخير. فأعاد السؤال، حتى قال في الثالثة: بخير أحمد اللّه و أشكره. فقال عليه السّلام: هذا الذي أردت و حمد اللّه معه» «1».
و بالجملة فأداء شكر اللّه أمر تعجز عنه العباد، و لو بعد السعي و الاجتهاد.
[ 1015] و التأكيد ب «إنّ» لتهيئة النكرة لأن تصلح أن يخبر عنها مع ما فيه من أنّ الحكم عن اعتقاد و صميم قلب، و من أنّه ممّا يجب أن يبالغ في تأكيده و تحقيقه، و من كونه رائجا مقبولا عند المخاطب، إلى غير ذلك من كمال العناية و الاهتمام و وفور نشاط المتكلّم و صدق رغبته، و إظهار كمال التضرّع و الابتهال.
و «أحدا» هنا اسم لمن يصلح أن يخاطب، يستوي فيه المذكّر و المؤنّث و المثنى و المجموع. و قيل «2»: ليس هو بمعنى واحد، و لذلك ذهب الفارسيّ و جماعة أنّ همزته أصليّة، لا بدل من الواو «3».
و قال الرضيّ: كأنّه لمّا لم ير في نحو: «ما جاءني أحد» معنى الوحدة، ارتكب كون الهمزة أصلا، و الأولى أن يقال: همزته في كلّ موضع بدل من الواو، و معنى ما جاءني أحد، ما جاءني واحد، فكيف ما فوقه «4». انته.
__________________________________________________
(1) المحجة البيضاء: ج 7 ص 148.
(2) «ألف»: قيل: و ليس هو.
(3) شرح الكافية في النحو: ج 2 ص 146.
(4) شرح الكافية في النحو: ج 2 ص 146.
228
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء السابع و الثلاثين ص 225
..........
و هو هنا يعمّ جنس الإنس بحيث لم يبق منهم أحد، لأنّ النكرة الواقعة في موضع ورد فيه النفي بأن ينسحب عليها حكم النفي تكون للعموم و الاستغراق. و هي هنا كذلك في المعنى، لأنّ المعنى لا يبلغ أحد غاية، و ذلك لاختصاص أحد بالنفي.
و قال ابن هشام في المغني: قولهم: «إنّ أحدا لا يقول ذلك» إنّما أوقع أحدا في الإثبات، لأنّه نفس الضمير المستتر في يقول و الضمير في سياق النفي، فكان أحد كذلك «1» انته.
(فائدة) قال الراغب: أحد يستعمل على ضربين: أحدهما في النفي فقط، و الثاني في الإثبات.
أمّا الأوّل: فلاستغراق جنس الناطقين، و يتناول القليل و الكثير على طريق الاجتماع و الافتراق، نحو: ما في الدار أحد، أي لا واحد و لا اثنان فصاعدا، لا مجتمعين و لا مفترقين. و لهذا المعنى لم يصحّ استعماله في الإثبات، لأنّ نفي المتضادين يصحّ، و لا يصحّ إثباتهما، فلو قيل: في الدار أحد، لكان فيه إثبات واحد منفرد، مع إثبات ما فوق الواحد مجتمعين و مفترقين، و ذلك ظاهر الإحالة. و لتناول ذلك ما فوق الواحد يصحّ أن يقال: ما من أحد فاضلين، كقوله تعالى: «فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ» «2».
و أمّا الثاني: و هو المستعمل في الإثبات فعلى ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يستعمل في العدد مع العشرات نحو: أحد عشر، و أحد و عشرين.
و الثاني: أن يستعمل مضافا و مضافا إليه بمعنى الأوّل كقوله تعالى: «أَمَّا
__________________________________________________
(1) مغني اللبيب: ص 888.
(2) سورة الحاقة: الآية 47.
229
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء السابع و الثلاثين ص 225
..........
أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً»، و قولهم: يوم الأحد، أي يوم الأوّل، لقولهم يوم الاثنين.
و الثالث: أن يستعمل مطلقا وصفا، و ليس ذلك إلّا في وصف اللّه تعالى نحو:
«قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ». و أصله وحد، و لكنّ وحدا يستعمل في غيره تعالى، كقول النابغة:
على مستأنس وحد «1»
انته.
و بلغت الغاية بلوغا- من باب قعد-: انتهيت إليها. و يطلق البلوغ على الانتهاء إلى أقصى الأمد و منتهاه مكانا كان أو زمانا أو أمرا من الأمور المقدّرة. و غاية كلّ شيء: مداه و منتهاه.
قوله عليه السّلام: «إلّا حصل عليه من إحسانك ما يلزمه شكرا» استثناء مفرّغ من أعمّ الأحوال، محلّه النصب على الحاليّة من فاعل يبلغ، أي: لا يبلغ أحد غاية من شكرك في حال من الأحوال، إلا حال كونه حاصلا عليه من إحسانك ما يلزمه شكرا، و نظيره قوله تعالى: «وَ لا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَ أَحْسَنَ تَفْسِيراً» «2». و مفاد ما قبل إلّا و ما بعدها هنا مفاد الشرط و الجزاء من لزوم الثاني للأوّل، إذ المقصود لزوم تعقّب مضمون إلّا لمضمون ما قبلها.
و حاصل المعنى: أنّه كلّما بلغ من الشكر غاية حصل عليه من إحسانك ما يلزمه شكرا.
و ما وقع لبعض القاصرين- من أنّ الاستثناء في «إلّا حصل» منقطع كما في «ما زاد إلّا ما نقص»، لكنّ مستثنى هذا مفرد، و مستثنى ذلك جملة، و إن كان المستثنى في ذلك عند التأويل مفردا. و المعنى: لا يعرض له عارض عند بلوغ غاية من غايات الشكر إلّا حصول نعمة من نعمك عليه، يلزمه شكرها فهو خبط صريح،
__________________________________________________
(1) المفردات: ص 12 مع اختلاف يسير في العبارة.
(2) سورة الفرقان: الآية 33.
230
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء السابع و الثلاثين ص 225
..........
ناشئ عن جهل قبيح.
و «من» في قوله: «من شكرك» و «من إحسانك» مبيّنة لما بعدها، و هي و مخفوضها في موضع نصب على الحال منه.
قال الرضي: و إنّما جاز تقديم «من» المبيّنة على المبهم في نحو قولك: أنا من خطّه في روضة، لأنّ المبهم مقدّم تقديرا، كأنّك قلت: أنا في شيء من خطه في روضة، فالمبيّن فيه محذوف «1». و ما بعد «من» عطف بيان له حذف المعطوف عليه و أقيم المعطوف مقامه كما يحذف المستثنى منه و يقام المستثنى مقامه «2». انته.
و عدّى حصل ب «على»، و المعروف تعديته باللام، لأنّه هنا بمعنى ثبت عليه، كأنّ ما يلزمه شكرا استعلى عليه، و لزمه لزوم الراكب لمركوبه.
و ألزمته المال و العمل إلزاما: أوجبته و أثبتّه عليه.
[ 1016] و المبلغ: إمّا اسم مكان من البلوغ، أو مصدر ميمي.
و في الصحاح: شيء بالغ: أي جيّد، و قد بلغ في الجودة مبلغا «3».
و دون: نقيض فوق، و هو تقصير عن «4» الغاية.
و استحقّ فلان الأمر استحقاقا: استوجبه.
و «الباء» من قوله: «بفضلك» للسببيّة. و الفضل هنا إمّا بمعنى الإحسان.
قال الراغب: كلّ عطيّة لا تلزم من يعطي يقال لها: فضل، نحو قوله تعالى:
«وَ سْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ» «5».
و إمّا بمعنى الكمال و الفضيلة.
[ 1017] قوله عليه السّلام: «فأشكر عبادك». «الفاء»: فصيحة، أي إذا كان الأمر هكذا فأشكر عبادك عاجز عن شكرك، أي غير قادر عليه، و أعبدهم مقصّر عن
__________________________________________________
(1) شرح الكافية في النحو: ج 2 ص 322.
(2) شرح الكافية في النحو: ج 1 ص 343.
(3) الصحاح: ج 4 ص 1316.
(4) «ألف»: على.
(5) المفردات: ص 382.
231
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء السابع و الثلاثين ص 225
..........
طاعتك، أي: عاجز عنها، من قصّر عن الشيء تقصيرا إذا عجز عنه.
و الطاعة هنا: إمّا بمعنى موافقة الإرادة، أو بمعنى العبادة،- كقولهم: تقبّل اللّه طاعتك- إطلاقا للعامّ على الخاصّ، كما قد تطلق العبادة على الطاعة في عكس ذلك.
و مدار هذا الفصل من الدعاء على أمرين:
أحدهما: بيان العجز عن شكره تعالى.
و الثاني: بيان العجز عن ما يستحقّه سبحانه من الطاعة و العبادة أمّا الأوّل:
فبيّنه عليه السّلام بلزوم التسلسل، و هو ترتيب أمور غير متناهية، لأنّه إذا أحدث شكرا على نعمة، أحدث اللّه عليه نعمة أخرى يجب عليه شكرها، فيحتاج أن يشكرها كشكره الأولى. و كذلك الحال في الثالثة و الرابعة، و هذا يؤدّي إلى ما لا يتناهى، و هو غير مقدور للعبد.
و لزوم هذا الجزاء لشرطه بحكم وعد اللّه تعالى في قوله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه: وَ إِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ «1»، أي: آذن إيذانا بليغا، و أخبر إخبارا مؤكدا، لا تبقى معه شائبة شبهة، لما في صيغة التفعّل من معنى التكلّف المحمول في حقّه تعالى على غايته التي هي الكمال.
و أجري مجرى فعل القسم في الجزم بالجزاء نحو: علم اللّه، و شهد اللّه، و لذلك أدخلت اللام الموطئة في الشرط، و النون المؤكّدة في الجزاء فقيل: لئن شكرتم لأزيدنكم، أي لئن شكرتم نعمتى لأزيدنكم نعمة إلى نعمة.
و في تفسير عليّ بن إبراهيم، قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: أيما عبد انعم اللّه عليه بنعمة فعرفها بقلبه، و حمد اللّه عليها بلسانه لم ينفد كلامه حتى يامر اللّه له بالزيادة، و هو قوله «لئن شكرتم لأزيدنّكم» «2».
__________________________________________________
(1) سورة إبراهيم: الآية 7.
(2) تفسير عليّ بن إبراهيم القميّ: ج 1 ص 368.
232
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء السابع و الثلاثين ص 225
..........
و روى ثقة الإسلام في الكافي بإسناده عنه قال: من أعطي الشكر أعطي الزيادة، يقول اللّه عزّ و جلّ «لئن شكرتم لأزيدنّكم» «1».
و لذلك أجمع العقلاء على أن تمام الشكر للّه تعالى لا يبلغه العباد حتى أنّ الأنبياء عنه قاصرون، و الأولياء مقصّرون، و للّه درّ القائل:
متى تشكر النعمى التي قد صنعتها إذا كنت تولى نعمة حين تشكر
و يحتمل أن يكون المراد بقوله عليه السّلام: «إلّا حصل عليه من إحسانك ما يلزمه شكرا» هو التوفيق للشكر، فإنّه من أعظم الإحسان، و أجلّ النعم، ألا ترى إلى مناجاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أنت يا ربّ أسبغت عليّ النعم السوابغ، فشكرتك عليها، فكيف لي بشكر شكرك، فقال اللّه تعالى: تعلمت العلم الذي لا يفوته علم بحسبك أن تعلم أن ذلك من عندي «2».
و عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: أوحى اللّه عزّ و جلّ إلى موسى عليه السّلام، يا موسى اشكرني حق شكري، فقال: يا ربّ، و كيف أشكرك حق شكرك، و ليس من شكر أشكرك به، إلّا و أنت أنعمت به عليّ؟ قال: يا موسى، الآن شكرتني، حين علمت أنّ ذلك منّي «3»:
و في رواية قال موسى عليه السّلام: إلهي أمرتني بالشكر على نعمك، و شكري إيّاك نعمة من نعمك «4».
و من هذا أخذ الشاعر فقال:
إذا كان شكري نعمة اللّه نعمة عليّ له في مثلها يجب الشكر
فكيف بلوغ الشكر إلّا بفضله و إن طالت الأيام و اتصل العمر «5»
__________________________________________________
(1) الكافي: ج 2 ص 95 ح 8.
(2) منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: ج 1 ص 300.
(3) الكافي: ج 2 ص 98 ح 27.
(4) الذريعة إلى مكارم الشريعة: ص 140.
(5) الذريعة إلى مكارم الشريعة: ص 140.
233
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء السابع و الثلاثين ص 225
..........
و لهذا قيل: كلّ نعمة يمكن شكرها إلّا نعمة اللّه تعالى، فإنّ غاية شكرها الاعتراف بالعجز عنها، و ذلك أنّ شكر نعمته نعمة منه، فيجب على العبد شكرها، ثم يجب عليه الشكر على الشكر، و هكذا إلى ما لا ينته و ما لا نهاية له فنهايته في بدايته. فينبغي أن يسند العبد من الابتداء على العجز ظهره، و يبني على الاعتراف بالتقصير أمره، فيكون معرفة التقصير عن الشكر شكرا، و إلّا فأنّى يبلغ شكر العباد نعم الربّ الجواد! و أين يقع الحالي من الأزلي، و الذي لا يبقى من الذي لا يفنى! بل الجزء الذي لا يتجزى من الشيء الذي لا يتناهى.
و أين التماد «1» البرض من فيض أبحر «2»، و أين نزيل الأرض عند الكواكب.
و في مناجاة بعضهم: إلهي أنت تعلم عجزي عن مواقع شكرك فاشكر نفسك عنّي.
و قد فسّر العلماء قوله صلّى اللّه عليه و آله لربّه تعالى و تقدّس: «قلت فكّ رهاني و ثقّل ميزاني» «3» فإنّ المراد فكّ رهانه بالشكر، فإنّ النفوس مرتهنة بالنعمة، و إنّما يفكّها الشكر، و لا يبلغ العباد كنه الشكر للّه عزّ و جلّ، ففزع صلّى اللّه عليه و آله إلى ربّه أن يتولى فكّ رهانه بجوده و إحسانه:
إلهي لقد أحسنت عودا و بدأة إليّ فأوزعني إلهي لأشكرا
و لو أنّ لي في كلّ منبت شعرة لسانا يقول الشكر فيك لقصّرا
إلهي كم أسديت لي منك نعمة و فضلا فلم ينهض بإنعامك الشكر
فمن كان ذا عذر لديك و حجة فعذري و إقراري بأن ليس لي عذر
أمّا الثاني:- و هو بيان العجز عمّا يستحقّه سبحانه من الطاعة و العبادة- فبيّنه بذكر سبب استحقاقه للعبادة و الطاعة، و هو فضله الذي لا نهاية له حيث قال:
__________________________________________________
(1) «ألف»: الثمار.
(2) «ألف»: بحر.
(3) الدر المنثور: ج 3 ص 72. ذيل الآية 10 من سورة الأعراف.
234
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء السابع و الثلاثين ص 225
..........
«دون استحقاقك بفضلك» و الفضل كما تقدّم، إمّا بمعنى الإحسان أو بمعنى الكمال و الفضيلة.
أما على الأوّل، فيجب أن تكون عبادة العباد و طاعتهم بقدر إحسان المعبود و فضله عليهم، و هذا أمر ليس في طاقة أحد من البشر، لأنّه سبحانه يستحقّ بكلّ نعمة طاعة و شكرا، و نعمه غير محصورة كما قال: وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها «1» أي لا تقدرون على تعدادها، لكثرتها، بل لعدم تناهيها. فأين يقع القليل من الكثير، و الذي يتناهى من الذي لا يتناهى!! قال الحكيم: إذا أخذت اللقمة الواحدة لتضعها في فمك فانظر إلى ما قبلها و إلى ما بعدها، أمّا ما قبلها فكالخبز و الطحن و الزرع، و غير ذلك من الآلات المعينة، و الأسباب و الفاعليّة، و القابلية، حتى تنتهي إلى الأفلاك و العناصر. و أمّا ما بعدها فكالقوى المعينة على الجذب و الإمساك، و الهضم و الدفع، و كالأعضاء الحاملة لتلك القوى، و كسائر الامور النافعة في ذلك خارجة عن البدن، أو داخلة فيه، فإنّها لا تكاد تنحصر. و إذا كانت نعم اللّه تعالى في تناول لقمة واحدة تبلغ هذا المبلغ، فكيف فيما جاوز ذلك!! فتبيّن أنّ العبد- و إن اشتدّ على الطاعة حرصه، و طال في العبادة اجتهاده- لم يكن بالغا ما يستحقّه اللّه سبحانه منهما بفضله و نعمته عليه. فكيف بمن تطغيه النعمة، و تبطره الدّعة حتى يستعين بنعمته على معصيته، و يتكبّر بإحسانه على خليقته! و لذلك ختم سبحانه الآية المذكورة في سورة إبراهيم عليه السّلام بقوله إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ «2» و في سورة النحل بقوله: إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ «3» فسجّل في الأوّل بالظلم و الكفران و في الثاني باستحقاق النقمة لو لا الرحمة و الغفران، فكأنّه
__________________________________________________
(1) سورة إبراهيم: الآية 34، و سورة النحل: الآية 18.
(2) سورة إبراهيم: الآية 34.
(3) سورة النحل: الآية 18.
235
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء السابع و الثلاثين ص 225
..........
قال: إن كنت ظلوما كفورا، فلم أزل رحيما غفورا، لا أقابل منك التقصير إلّا بالإحسان و التوفير، و لا أجازي منك الجفاء إلّا باللطف و الوفاء، تلك شيمتك في الأخذ، و هذه شيمتي في العطاء.
و أمّا على الثاني- و هو حمل الفضل على معنى الكمال و الفضيلة- فبيانه: أنّ كمال العبادة و مطابقتها للأمر المطاع بحسب العلم بكمال المعبود، و علوّ شأنه و عظمته. و لمّا كانت ذات الحقّ سبحانه و عظمتها و كما لها أمرا أعظم من أن يطلع عليه بالكنه ملك مقرّب أو نبيّ مرسل، لا جرم كانت عبادة العباد من الملائكة و البشر بحسب معارفهم القاصرة عن كنه حقيقته، لا بحسب كماله على هو كما عليه. فكلّ من كان علمه و معرفته أتمّ و أكمل كانت عبادة من دونه مستحقرة في جنب عبادته، حتى لو زادت معرفته به و أمكن اطلاعه على كنه حقيقته لزادت عبادته، و كانت أتمّ و أكمل.
فإذن كلّ طاعة و عبادة قاصرة عمّا يستحقّه كماله المطلق و كلّ طائع و عابد حاجز و مقصّر عنه و إن خبّ و أعنق. و إلى هذا المعنى أشار أمير المؤمنين عليه السّلام، بقوله في صفة الملائكة: لو عاينوا كنه ما خفي عليهم منك لحقّروا أعمالهم، و لأزروا على أنفسهم، و عرفوا أنهم لم يعبدوك حقّ عبادتك، و لم يطيعوك حقّ طاعتك «1».
و كلا المعنيين يشمله قوله تعالى، و هو أصدق القائلين: «و ما قدروا اللّه حقّ قدره» «2».
فإن قلت: كيف يحمل الفضل على معنى الكمال في عبارة الدعاء، و قد نصّ بعضهم على أن الفضل إنّما يستعمل للكمال في حقّ غير اللّه تعالى؟
قلت: لا نسلّم ذلك، فقد تقدّم في دعاء التحميد، و هو الدعاء الأوّل قوله
__________________________________________________
(1) نهج البلاغة: ص 159 الخطبة 109.
(2) سورة الانعام: الآية 91.
236
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء السابع و الثلاثين ص 225
لا يجب لأحد أن تغفر له باستحقاقه، و لا أن ترضى عنه باستيجابه، فمن غفرت له فبطولك، و من رضيت عنه فبفضلك.
عليه السّلام «حمدا يفضل سائر الحمد كفضل ربّنا على خلقه» و كفى به شاهدا.
و قد ورد في بعض الأدعية أيضا وصفه تعالى بالفاضل. و اللّه أعلم.
[ 1018] الجملة الأولى مستأنفة استئنافا بيانيّا، كأنّه قيل: كيف تراهم مع العجز عن الشكر. و التقصير عن الطاعة في استحقاق المغفرة و استيجاب الرضا؟ فقال:
«لا يجب لأحد أن تغفر له باستحقاقه» إلى آخره.
و تأخير الرضا عن المغفرة رعاية لاسلوب الترقّي إلى الأعلى لأنّ الرضا فوق المغفرة، فقد «1» يغفر السيد ذنب عبده، و ليس براض عنه، و على ذلك ما ورد في الدعاء: اغفر لي خطيئتي و ارض عنّي، فإن لم ترض عنّي فاعف عني، و قد يعفو السيّد عن عبده و ليس براض عنه.
و ما حكي أنّ رجلا غضب على عبده، فاستشفع إليه بشفيع فشفّعه، فجعل العبد يبكي و يتضرّع، فقال له الشفيع: ما هذا البكاء و قد عفى عنك؟ فقال السيد:
إنّه يطلب الرضا، و ليس ذلك إليه، فإنّما يبكي لأجله.
و إنّما نفى عليه السّلام وجوب المغفرة و الرضا لأحد عن استحقاق و استيجاب، لأنّ المغفرة و الرضا تفضّل و إحسان منه تعالى إن شاء فعل، و إن شاء لم يفعل. فلا يجب عليه سبحانه أن يغفر لأحد أو يرضى عنه لاستحقاقه و استيجابه، و إن تاب و أناب، لأنّ الغفران مع التوبة عندنا على وجه التفضّل أيضا، لا على وجه الوجوب، خلافا للمعتزلة.
[ 1019] و «الفاء» من قوله: «فمن غفرت له» للترتيب الذكري، أو فصيحة.
و الطول و الفضل بمعنى، يقال: طال عليه طولا- من باب قال- أي أفضل عليه، و أحسن إليه.
__________________________________________________
(1) «ألف»: و قد.
237
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء السابع و الثلاثين ص 225
تشكر يسير ما شكرته، و تثيب على قليل ما تطاع فيه، حتّى كأنّ شكر عبادك الّذي أوجبت عليه ثوابهم، و أعظمت عنه جزاءهم، أمر ملكوا استطاعة الامتناع منه دونك فكافيتهم، أو لم يكن سببه بيدك فجازيتهم.
[ 1020] وصفه تعالى بالشكر، قيل: المراد به مجازاته على اليسير من الطاعة بالكثير من الثواب، لأنّه يعطي بالعمل في أيّام معدودة نعما في الآخرة غير محدودة. و من جازى الحسنة بأضعافها صحّ أن يقال: إنّه شكر تلك الحسنة.
و قيل: المراد به قبول اليسير من الطاعة و الثناء على فعلها و فاعلها، و قد وصف سبحانه تعالى نفسه بالشكور في غير موضع من القرآن المجيد، فقال في سورة فاطر:
«إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ» «1»، و قال فيها: «إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ «2»، و قال في سورة الشورى: وَ مَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ «3».
قال العلّامة الطبرسيّ: أي شكور للطاعات، يعامل عباده معاملة الشاكر في توفية الحقّ حتّى كأنّه ممّن وصل إليه النفع فشكره «4».
و قال في سورة التغابن: إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ وَ اللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ» «5».
قال القاضي: أي يعطي الجزيل بالقليل «6».
و قد تواترت النسخ المشهورة من الصحيفة الشريفة بضبط «شكرته» بفتح الشين المعجمة، و الكاف، و تاء الخطاب على البناء للفاعل.
فالمعنى تشكر يسير ما قبلته من العمل، و أثنيت عليه، أي تجازي بالكثير عليه.
و ما قيل: إنّ المعنى: تشكر يسير الشكر، فليس بظاهر، إلّا أن يضبط «شكرته»
__________________________________________________
(1) سورة فاطر: الآية 30 و 34.
(2) سورة فاطر: الآية 30 و 34.
(3) سورة الشورى: الآية 23.
(4) مجمع البيان: ج 9- 10 ص 29.
(5) سورة التغابن: الآية 17.
(6) أنوار التنزيل و أسرار التأويل: ج 2 ص 482.
238
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء السابع و الثلاثين ص 225
..........
بالبناء، للمفعول، و لم نقف عليه في شيء من النسخ.
و قول بعضهم: المراد أنّه يشكر يسير ما شكره- أي شكرناه به، لأنّ شكرنا بأمره، و لأنّ أسبابه و التوفيق له منه فكأنّه هو الشاكر لنفسه- لا يخفى ما فيه من التعسّف.
و في النسخة الشهيد رحمة اللّه: «تشكر يسير ما تشكر به» بالبناء للمفعول في الثاني، و هو أظهر في المعنى، و أنسب لما بعده.
و أثابه إثابة: أعطاه ثواب عمله، أي جزاءه و منه قوله تعالى: فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ «1». و أكثر ما تستعمل في المحبوب، و قد تستعمل في المكروه على الاستعارة، كاستعمال البشارة فيه، و منه قوله تعالى: فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ «2».
و قوله: «فيه» ظرفيّة مجازيّة، أي تعطي الثواب على قليل العمل الذي تطاع فيه، جعل العمل كأنّه ظرف و محلّه الطاعة «3».
و «حتّى» حرف ابتداء، و الجملة بعدها مستأنفة لا محلّ لها من الإعراب، خلافا للزجّاج زعم أنّها في محلّ جر ب «حتّى» «4»، و يردّه أنّ الحروف الجارّة لا تدخل عاملة إلّا على مفرد، و مؤوّل به، و فائدة حتّى هنا التعظيم.
قال الرضيّ: فائدة حتى الابتدائيّة، إمّا التحقير، كقوله:
فوا عجبا حتّى كليب تسبّني
أو التعظيم، كقوله:
فما زالت القتلى تمجّ دماءها بدجلة حتّى ماء دجلة أشكل «5».
قلت: و وجهه إنّها غاية لما قبلها، إمّا في نقص أو «6» زيادة فجاء من النقص التحقير، و من الزيادة التعظيم.
و عليه و عنه متعلّقان بالمصدرين بعدهما كقول كعب:
__________________________________________________
(1) سورة المائدة: الآية 85.
(2) سورة آل عمران: الآية 153.
(3) «ألف» و محلّ للطاعة.
(4) مغني اللبيب: ص 176.
(5) شرح الكافية في النحو: ج 2 ص 327.
(6) «ألف»: او في.
239
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء السابع و الثلاثين ص 225
..........
في خلقها عن بنات الفحل تفضيل
و وجب الحقّ يجب وجوبا: لزم و ثبت، و أوجبته إيجابا: أثبتّه و ألزمته، أي جعلته لازما «1» ثابتا.
[ 1021] و أعظم اللّه له الأجر إعظاما: جعله عظيما.
و الأمر: لفظ عامّ يطلق على الأفعال و الأقوال كلّها، و منه قوله تعالى: «إِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ» «2».
و ملكت الشيء ملكه- من باب ضرب- ملكا و ملكا، بالفتح و الكسر، تمكّنت من التصرّف فيه من غير مانع، و الجملة- في محلّ الرفع- نعت لأمر.
و الاستطاعة: استفعالة من الطوع، و هو الانقياد، فهي في الأصل بمعنى طلب انقياد الشيء و تأتيه، ثمّ استعملت في القدرة التامّة التي يتمكّن بها الإنسان ممّا يريده. و عرّفت بأنّها عرض يخلقه اللّه في الإنسان، يفعل به الأفعال الاختيارية.
و امتنع من الشيء و عنه امتناعا: كفّ عنه.
و دون: بمعنى التجاوز كما مرّ مرارا، فهي ظرف مستقر وقع حالا من ضمير العباد في ملكوا، أي ملكوا استطاعة الامتناع منه حال كونهم متجاوزين لك، أي مستبدّين بها من غير أن يكون لك مدخل في حصولها لهم.
و «الفاء» من قوله: «فكافيتهم» سببيّة عاطفة على محذوف تقديره «ففعلوه فكافيتهم»، كقوله تعالى: «اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ» «3» أي ضرب فانفجرت، و تسمّى فصيحة، لإفصاحها عن المحذوف و قس على ذلك قوله:
«فجازيتهم».
و المكافاة: المجازاة، و أصله الهمز. و كلمة «أو» للإيذان بتساوي الأمرين في
__________________________________________________
(1) «ألف»: و ثابتا.
(2) هود: الآية 123.
(3) البقرة: الآية 60.
240
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء السابع و الثلاثين ص 225
..........
الاستقلال بوجه التشبيه، و بصحّة التشبيه بكلّ واحد منهما و بهما معا، كقوله تعالى:
أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ «1».
و جملة «لم يكن»- في محلّ رفع- وصف لموصوف محذوف، و التقدير: أو أمر لم يكن سببه بيدك، يقال: الأمر بيد فلان، أي في تصرّفه.
و حاصل معنى هذا الفصل من الدعاء أنّ إحسانه تعالى إلى عباده في مقابلة شكرهم له، و إنعامه عليهم بإزاء طاعتهم و عبادتهم إيّاه، إنّما هو تفضّل منه تعالى، إذ كان إيقاع الشكر و الطاعة و العبادة منهم بإقداره لهم على ذلك و توفيقه إيّاهم له، لأنّ كلّ فاعل سواه إنّما يستحقّ القدرة على الفعل من جوده تعالى، لا لذاته استقلالا و تفرّدا به، على ما علم في مظانّه. و مع ذلك فقد جعل سبحانه ثوابهم على شكره، و جزاءهم على طاعته ثوابا واجبا و أجرا مستحقّا، فأشبه شكرهم و طاعتهم أمرا استقلّوا لذواتهم بالقدرة على إيجاده، و كانوا يستطيعون أن لا يوجدوه، و أن يمتنعوا منه، أو أمرا استبدّوا بتسبيب سببه في إيقاعه، فاستوجبوا بذلك الثواب، و استحقّوا به الجزاء. و ليس الأمر كذلك، بل هو سبحانه الذي أقدرهم على ذلك، و وفّقهم له، و قادهم بزمام اللطف و العناية إليه. فلو أرادوا أن يمتنعوا منه، و أن لا يفعلوه بدون ما ركّبه فيهم من الأسباب ما استطاعوا، و كان أسباب صدوره منهم و حصوله عنهم بقدره و إعداده عزّ و جلّ، فإنّى لهم الاستقلال و الاستبداد في نسبته إليهم؟! و من هنا قال موسى عليه السّلام: «إلهي أمرتني بالشكر على نعمك، و شكري إيّاك نعمة من نعمك» «2». و عليه قوله تعالى: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ «3».
__________________________________________________
(1) سورة البقرة: الآية 19.
(2) الذريعة إلى مكارم الشريعة: ص 140.
(3) سورة الحجرات: الآية 17.
241
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء السابع و الثلاثين ص 225
بل ملكت يا إلهي أمرهم قبل أن يملكوا عبادتك، و أعددت و إنّما قال عليه السّلام: «أمرا ملكوا استطاعة الامتناع منه دونك» و لم يقل:
ملكوا استطاعة إيجاده دونك، للمبالغة في تحقّق عجزهم، لأنّ من لا يملك استطاعة الامتناع من الشيء فهو عن استطاعة فعله و إيجاده أعجز. و هذا لا ينافي الاختيار كما سنبيّنه.
و أمّا قول بعضهم: معنى قوله عليه السّلام: «أمر ملكوا استطاعة الامتناع منه دونك». أنّ لهم أن يتركوا شكرك لاستغنائهم و علمهم بكرمك فلا ينتقص من ثوابهم شيء، أو معناه أنت المالك للثواب، و لك أن تثيبهم من غير شكر، لكن لكثرة صدور هذا التفضّل منك صاروا كأنّهم مالكين لتحصيل الثواب من غير شكر، و قادرين على ذلك، فهو تخييل عجيب، و توهّم غريب، و كأنّه أراد بهذا التأويل الذي لا يدلّ عليه منطوق الكلام و لا مفهومه، التفادي عمّا يوهمه ظاهر العبارة من نفي اختيار العبد.
و يكفي في التفصّي عن ذلك أنّ مراده عليه السّلام عدم استطاعتهم على كفّ أنفسهم عنه بدون ما أوجده سبحانه فيهم من الحياة و الآلة و العقل و الهمّة إلى غير ذلك من الأسباب التي هي منه سبحانه. و في ذلك مندوحة عن هذا التأويل البارد. و اللّه يقول الحقّ، و هو يهدي السبيل. و إلى إبطال الشبه المذكورة أشار عليه السّلام بقوله: «1». [ 1022] «بل» حرف إضراب، و معناها هنا إبطال ما قبلها من كون شكرهم أمرا ملكوا استطاعة الامتناع منه دونه تعالى، أو لم يكن سببه بيده سبحانه، أي ليس الأمر كذلك، بل كنت مالكا أمرهم قبل تمكّنهم من عبادتك و إيجادهم لها.
و توسيط النداء لمزيد الخضوع و الابتهال. و الغرض أنّهم لم يقدروا على عبادتك، و لا استطاعوا فعلها إلّا بإقدارك لهم عليها، و توفيقك إيّاهم لها، و لو شئت ما فعلوها،
__________________________________________________
(1) أي: الدعاء المذكور في أعلى الصفحة.
242
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء السابع و الثلاثين ص 225
ثوابهم قبل أن يفيضوا في طاعتك، و ذلك أنّ سنّتك الإفضال، و عادتك الإحسان، و سبيلك العفو.
إذ كلّ موجود سواه فهو في تصريف قدرته و مشيئته قبل وجوده و بعده، لأنّهما مستند وجوده.
و أعددت الشيء إعدادا: هيّأته.
و أفاض في الأمر إفاضة: دخل فيه.
و مضمون هذه الفقرة تقرير لما قبلها، لأنّ إعداده سبحانه ثوابهم قبل إفاضتهم في طاعته قاض، بأنّ قضاءه قد جرى بتوفيقهم للدخول في الطاعة قبل دخولهم فيها، و بأنّ لطفه قد أخذ بعنان مشيئتهم إليها، و أقام جواد إرادتهم عليها، و إلّا لم يكن لإعداد الثواب فائدة.
[ 1023] و الواو من قوله: «و ذلك» استئنافيّة. و الإشارة إلى ما ذكر من شكره تعالى ليسير الشكر، و الإثابة على قليل الطاعة على وجه الإيجاب، مع أنّ وقوعهما من الشاكر و المطيع إنّما هو بإقداره و لطفه و توفيقه سبحانه. و ما في اسم الإشارة من معنى البعد للإيذان بكون ذلك في الغاية القصوى من العظم و الجلالة.
و هو مبتدأ خبره قوله: «أنّ سنتك الإفضال» أي لأنّ سنتك أو بأن سنتك الإفضال، و التقدير: و ذلك واقع لأجل أنّ سنّتك الإفضال، أو بسبب أنّ سنّتك الإفضال. و حذف الجارّ مطرد مع «أنّ و أن» المصدريّتين.
و السنّة: الطريقة التي يسلكها الحيّ في أفعاله، و السيرة التي يكون عليها.
و الإفضال: مصدر أفضل عليه، إذا أعطاه ما لا يلزمه أن يعطيه.
و العادة: اسم لتكرير الفعل من عاد يعود.
و الإحسان: مصدر أحسن، أي فعل الحسن، فإن كان الفعل متعدّيا إلى الغير، قيل: أحسن إليه، و إن كان لازما بالفاعل، قيل: أحسن.
و السبيل: الطريق الذي فيه سهولة، و يستعار لسيرة الحيّ التي يكون عليها في أفعاله.
243
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء السابع و الثلاثين ص 225
فكلّ البريّة معترفة بأنّك غير ظالم لمن عاقبت، و شاهدة بأنّك متفضّل على من عافيت، و كلّ مقرّ على نفسه بالتّقصير عمّا استوجبت، فلو لا أنّ الشّيطان يختدعهم عن طاعتك ما عصاك عاص، و لو لا أنّه صوّر لهم الباطل في مثال الحقّ ما ضلّ عن طريقك ضالّ.
و العفو: ترك المؤاخذة بالتقصير و الذنب.
و مدار هذه الفقرات أنّ إفاضته تعالى شآبيب كرمه، وجوده على عباده غير موقوف على الاستحقاق و الاستيجاب، بل هي شأنه و ديدنه.
و فيه ردّ على من زعم أنّ الثواب مترتّب على العمل ترتّب الشبع على الأكل.
و اللّه أعلم.
[ 1024] «الفاء»: سببيّة، أي فبسبب «1» كون سنّتك الإفضال، و عادتك الإحسان، و سبيلك العفو، كلّ البريّة معترفة بأنّك غير ظالم، إلى آخره، لجزم العقل بأنّ من شأنه ذلك لا يريد ظلما، فضلا عن أن يوقعه.
و «كلّ» هنا لاستغراق أفراد المضاف إليه. و هو مبتدأ خبره قوله: «معترفة».
و تأنيثه باعتبار المعنى، أو لاكتساب المضاف التأنيث من المضاف إليه، لصحّة الاستغناء بالمضاف إليه عن المضاف، كما يقال: سقطت بعض أصابعه.
و في نسخة ابن إدريس «و كلّ معترف و شاهد» و هو أحسن.
و عافاه اللّه: و هب له العافية من المكروه دنيويّا كان أو أخرويّا. و بين عاقبت و عافيت من البديع جناس التصحيف.
فإن قلت: كيف يصحّ هذا الاستغراق و كثير من الناس لا يعترف بوجوده فضلا عن عدله وجوده؟
قلت: يجوز أن يكون الاستغراق عرفيّا، فالمراد بالبريّة الموحّدون منهم، و أن يكون
__________________________________________________
(1) «ألف»: فسبب.
244
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء السابع و الثلاثين ص 225
..........
حقيقيّا، و المراد بالاعتراف أعمّ من أن يكون صريحا أو لزوما و اضطرارا. أمّا الأوّل:
فهو الاعتراف من المؤمنين. و أمّا الثاني: فهو الشامل لكلّ أحد مؤمنا كان أو كافرا، و ذلك أنّ العقول متّفقة على وجود الصانع سبحانه، و الانقطاع إليه عند تضائق حلق البلاء عليه، كما أشار إليه سبحانه بقوله: وَ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ «1»، و هذا أمر مجبول عليه كلّ أحد، و لا تجد أحدا إلّا و فزعه و انقطاعه إلى خالقه من كون في نفسه و طبعه.
و قد نبّه بعضهم على هذا المعنى فقال: التوكّل على الخالق و الانقطاع إليه من طباع الخلق للعجز المعجون بجبلّتهم، و الحاجة المركّبة في طبيعتهم. و ممّا يدلّك على ذلك أنّك لو فاتحت الأمة البلهاء، و المرأة الورهاء، و الشيخ المنجد، و الشابّ الغرير «2»، و البدويّ القحّ، و الفارسيّ الأعجم، و الهنديّ الأبكم، و الروميّ الطمطمانيّ، و الكيّس الزكيّ، و الغمر الغبيّ، لوجدت في أثناء حديثهم، و أعراض كلامهم، تسليما إلى غيرهم، و تفويضا إلى سواهم، و انقطاعا عن إصابتهم باستطاعتهم، و لو ذانا بما يجدون المراد بتسهيله عليهم و لا شكّ أنّ هذا أصل في الجوهر، و أوّل في الكون.
و من الظاهر البيّن أنّ ذلك يستلزم ضرورة الاعتراف بكون هذا المنقطع عليه و المفزوع إليه قادرا غير عاجز، و قويّا غير ضعيف، و غنيّا غير فقير، و عالما غير جاهل، و مالكا غير مملوك، و ربّا غير مربوب، فلزم بحكم العقل الإذعان له بأنّ إفاضته سجال خيره على غيره لا عن حاجة به إليه، و لا غرض يعود نفعه عليه، بل هو إفضال منه و إحسان، و من شأنه ذلك، فلا داعي له إلى الظلم لمن عاقب، سوى العدل، و لا غرض له بمعافاة من عافى سوى الفضل، فصحّ الاستغراق الحقيقي في كلامه عليه السّلام. و نظير قوله تعالى في محكم كتابه: «وَ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ*
__________________________________________________
(1) سورة الإسراء: الآية 67.
(2) «ألف»: العزيز.
245
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء السابع و الثلاثين ص 225
..........
و الأرض كلّ له قانتون» «1» و قوله: «يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ» «2».
و لك حمل الاعتراف على كونه يوم القيامة، كما حمل بعض المفسّرين قوله تعالى:
كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ* على ذلك. و اللّه أعلم.
قوله عليه السّلام: «و كلّ مقرّ على نفسه بالتقصير عمّا استوجبت» أي من الطاعة و العبادة، إقرارا مستمرّا بلسان المقال أو الحال، فإنّهم و إن بالغوا و اجتهدوا كانوا مقصّرين، غير بالغين كنه عبادته سبحانه و حقيقتها، إذ لا قدر لها في جنب نعمه عليهم سابقا و لاحقا، بل هي بمعزل عمّا يجب لعظمته و جلاله و كبريائه، و إذا كانت الملائكة المقرّبون، و الأنبياء و المرسلون يقولون: سبحانك ما عبدناك حقّ عبادتك، فما الظنّ بسواهم؟! و إلى هذا المعنى أشار أمير المؤمنين عليه السّلام بقوله في بعض خطبه: و تا اللّه لو أنماثت قلوبكم انمياثا، و سالت عيونكم من رغبة إليه، أو رهبة منه دما، ثمّ عمّرتم في الدنيا ما الدّنيا باقية ما جزت أعمالكم عنكم و لو لم تبقوا شيئا من جهدكم أنعمه عليكم العظام، و هداه إيّاكم للإيمان «3».
[ 1025] قوله عليه السّلام: «فلو لا أنّ الشيطان يختدعهم» إلى آخره.
لو لا: حرف الامتناع «4» وجود الشيء لوجود غيره، و الممتنع هو الجواب، و الوجود هو وجود الاسم الواقع بعدها.
و «أنّ» و معمولها في عبارة الدعاء في محلّ رفع على الابتداء عند الجمهور.
فقيل: الخبر كون مطلق محذوف وجوبا، و التقدير: لو لا اختداع الشيطان لهم كائن أو ثابت.
و قال سيبويه: لا حاجة إلى الخبر لاشتمال صلة «أنّ» على المسند و المسند
__________________________________________________
(1) سورة الروم: الآية 26.
(2) سورة الرحمن: الآية 29.
(3) نهج البلاغة: ص 90 الخطب 52.
(4) «ألف»: امتناع.
246
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء السابع و الثلاثين ص 225
..........
إليه «1». و ذهب المبرّد و الزجاج و الكوفيون إلى أنّ الرفع على الفاعليّة ب «ثبت» محذوفا «2»، أي لو لا ثبت أنّ الشيطان يختدعهم.
و ما وقع لبعضهم: من أنّ «أنّ و ما بعدها» في تأويل مصدر مرفوع بالابتداء، و جملة يختدعهم الخبر- و حيث لم يكن التعليق على نفس الشيطان، بل على اختداعه لم يستغن عن الخبر، و لم يجب حذفه- خبط صريح ناشيء عن فهم قريح. فإنّ المؤوّل بالمصدر المرفوع بالابتداء هو اسم أنّ و خبرها معا، أعني الشيطان و جملة يختدعهم، و التأويل لو لا اختداع الشيطان. فكيف تكون جملة يختدعهم خبرا؟ و هل يصدر مثل هذا الكلام إلّا عن ذهن مئوف؟ نسأل اللّه العافية.
و خدعه خدعا- من باب نفع- و اختدعه اختداعا فانخدع: أراد به المكروه من حيث لا يعلم. و قيل: أوهمه خلاف ما يريد به من المكروه ليوقعه فيه من حيث لا يحتسب.
و قال الراغب: الخدع و الخداع إنزال الغير عمّا هو بصدده بأمر يبديه على خلاف ما يخفيه «3».
و تعديته ب «عن» لتضمّينه معنى الصدّ أو المنع، أي يختدعهم صادّا لهم، أو مانعا عن طاعتك.
و قوله عليه السّلام: «ما عصاك عاص» هو جواب لو لا.
قال ابن هشام: و زعم ابن الطراوة أنّ جواب لو لا أبدا هو خبر المبتدأ، و يرده أنّه لا رابط بينهما «4».
قوله عليه السّلام: «و لو لا أنّه صوّر لهم الباطل» إلى آخره صوّرت الشيء تصويرا: جعلته ذا صورة. و صورة الشيء ما به الشيء بالفعل.
__________________________________________________
(1) شرح التصريح على التوضيح: ج 2 ص 259.
(2) شرح التصريح على التوضيح: ج 2 ص 259.
(3) المفردات: ص 143.
(4) مغني اللبيب: ص 360.
247
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء السابع و الثلاثين ص 225
..........
و الباطل: نقيض الحقّ. و عرّف بأنّه الذي لا يكون صحيحا بأصله.
و المثال بمعنى الصورة.
و الحقّ لغة: الثابت الذي لا يسوغ إنكاره، و عرفا: الحكم المطابق للواقع، يطلق على الأقوال و الاعتقادات و الملل باعتبار اشتمالها على ذلك، و يقابله الباطل.
و الضلال: العدول عن الطريق المستقيم.
و طريقه تعالى: سبيله الذي نهج لعباده من الإيمان به و توحيده و طاعته و عبادته و سائر ما دعا إليه، و أمر به.
و قيل: سبيله تعالى كلّ عمل خالص، و سلك به طريق التقرّب إلى اللّه، بأداء الفرائض و النوافل، و أنواع التطوّعات. و إضافته إليه تعالى لأنّه المبيّن له، أو لأنّه الموصل إليه سبحانه.
(تبصرة) قال بعض العلماء: أنّ أصل الضلال و العمى و الجهل من الشيطان. و هو أوّل من سلك سبيل الغيّ و الضلال، و طرده الحقّ عن عالم رحمته، و وقع عليه اسم إبليس، و هو جوهر نطقيّ شرّير متولّد من طبقة ناريّة دخانيّة، لها نفس ملكوتيّة، ظهرت بجهة ظلمانيّة، رديّة، شأنه الإغواء، و سبيله الإضلال، كما قال تعالى حكاية عن اللعين: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ «1» و قوله: فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ «2»، و ذلك لأنّ له سلطنة بحسب الطبع على الأجسام الدخانيّة و البخاريّة و نفوسها الجزئيّة، و الطبائع الوهمانيّة، و تطيعها تلك النفوس و القوى الوهمانيّة لمناسبة النقص و الشرارة، و كونه مجبولا على الإغواء أو الإفساد و الاستكبار و ادعاؤه العلوّ، كما في قوله سبحانه: أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ
__________________________________________________
(1) سورة ص: الآيتان 82 و 83.
(2) سورة الأعراف: الآية 16.
248
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء السابع و الثلاثين ص 225
فسبحانك ما أبين كرمك في معاملة من أطاعك أو عصاك، تشكر للمطيع ما أنت تولّيته له، و تملي للعاصي فيما تملك معاجلته فيه، أعطيت كلّا منهما ما لم يجب له، و تفضّلت على كلّ منهما بما يقصر عمله عنه.
الْعالِينَ «1» إنّما هو بمقتضى طبعه الغالب عليه الناريّة الموجبة للإهلاك و العلوّ.
و وجه تأثيره في نفوس الآدميّين:
أمّا من جانب المؤثّر، فللطافته و سرعة نفوذه في عروقهم، و لطائف أعضائهم، و أخلاطهم التي هي محالّ الشعور و الاعتقاد، و اقتداره على إضلالهم بالوسوسة و الإضلال.
و أمّا من جانب القابل، فلقصور القوى الإدراكيّة لأكثر النّاس و ضعفها عن المعارضة و المجاهدة مع جنوده و أعوانه من القوى الشهويّة و الغضبيّة و غيرهما، لا سيّما الوهميّة إلّا من عصمه اللّه تعالى من عباده المخلصين الذين أيّدهم اللّه بالعقل، و هداهم إلى الصراط المستقيم، «أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ «2».
[ 1026] «الفاء» للترتيب الذكري.
و سبحانك للتعجب من عموم كرمه تعالى و عظمه. و إفادة هذا اللفظ للتعجّب مرّ بيانه في الروضة الثالثة عشرة.
و «ما أبين» صيغة التعجّب. و «ما» فيها اسم في محلّ رفع على الابتداء.
و اختلفوا هل هي نكرة تامّة بمعنى شيء، و ابتدئ بها لتضمّنها معنى التعجّب، و ما بعدها خبرها فموضعه رفع؟ أو هي موصولة بمعنى الذي، و ما بعدها صلتها فلا محلّ لها من الإعراب، و الخبر محذوف وجوبا و التقدير: الذي أبان كرمك شيء عظيم،
__________________________________________________
(1) سورة ص: الآية 75.
(2) سورة المجادلة: الآية 22.
249
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء السابع و الثلاثين ص 225
..........
و بان الأمر يبين و تبين و استبان: اتّضح و انكشف، و الاسم البيان.
و الكرم هنا عبارة عن التفضّل و السبق بالإنعام، و إيثار الصفح عن الجاني، و الإحسان إلى المسيء.
و المعاملة: مفاعلة من العمل، و هو الفعل عن قصد.
و «أو» من قوله: «أو عصاك» للإيذان بتساوي المعاملتين في بيان الكرم المتعجّب منه، و أنّ كلّ واحدة منهما مستقلّة بظهوره، فإن تعجّب منه في كلّ منهما كان في محلّه، و إن تعجب منه فيهما جميعا فكذلك.
قوله عليه السّلام: «تشكر للمطيع ما أنت تولّيته»، جملة مستأنفة استئنافا بيانيّا، كأنّه سئل: كيف بان كرمي في معاملة من أطاعني أو عصاني؟ فقال:
تشكر للمطيع ... إلى آخره، أي تجازي المطيع بالكثير على العمل الذي أنت تولّيته، أي قمت به لأجله، يقال: و ليت الأمر، و توليّته، أي قمت به «وَ الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ» «1» أي وليه و قام به.
و الغرض أنّه تعالى هو الذي أقدر المطيع على الطاعة له، و وفّقه بلطف عنايته لها، ثمّ شكره عليها، و هذا منته الكرم و غاية الجود.
و الإملاء: التأخير و الإمهال، يقال: أمليت له: إذا أنظرته، و أمهلته، و منه قوله تعالى: وَ أُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ* «2» أي أمهلهم.
و عاجله بذنبه إذا أخذه به، و لم يمهله.
أي تمهل العاصي، و لا تأخذه بذنبه سريعا، و أنت قادر على معاجلته، و عدم إمهاله إحسانا إليه، و رفقا به.
[ 1027] قوله عليه السّلام «أعطيت كلا منهما» إلى آخره. فصل الجملة عمّا قبلها، لما بينهما من كمال الاتّصال لكونها أوفى بتأدية المراد، فتكون بدل اشتمال. و يجوز
__________________________________________________
(1) سورة النور: الآية 11.
(2) سورة الأعراف: الآية 183.
250
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء السابع و الثلاثين ص 225
و لو كافأت المطيع على ما أنت تولّيته، لأوشك أن يفقد ثوابك، و أن تزول عنه نعمتك، و لكنّك بكرمك جازيته على المدّة القصيرة الفانية، بالمدّة الطويلة الخالدة، و على الغاية القريبة الزائلة، بالغاية المديدة الباقية.
أن تكون استئنافا ثانيا- كالأولى- على وجه التعليل لبيان كرمه في معاملة من أطاعه أو عصاه.
و لا يخفى ما في التعبير عن الشكر و الإملاء بصيغة المضارع المؤذنة بالاستمرار، و عن الإعطاء و التفضّل بصيغة الماضي الدالّة على الوقوع و الانقضاء من اللطف، فإنّه يؤذن بأنّ الشكر و الإملاء مستمرّان، و أنّ التفضّل و الإعطاء قد جرى بهما قلم القضاء، فلا مثنويّة «1» في ذلك و هكذا فليكن حسن البيان.
[ 1028] المكافأة: مفاعلة من الكفو و هو المثل و المساوي، فأصل كافأته: ساويته. ثم اتّسع فيه فاستعمل بمعنى المجازاة.
قال الزمخشريّ في الأساس: كافأته ساويته، و هو مكافئ له. و كافأته بصنعه:
جازيته جزاء مكافئا لما صنع، أي مساويا له «2».
و لمّا كان ما تولّاه سبحانه لا يقتضي مكافأة بالثواب عليه، لأنّ الإنسان لا يستحقّ بعمل غيره ثوابا، كان معنى المكافأة عليه عدم الإثابة به، لأنّ معنى المكافأة: المساواة بمقابلة الفعل بالفعل، و عدمه بعدمه.
فمعنى قوله عليه السّلام «لو كافأت المطيع على ما أنت تولّيته»: لو لم تثبه على ما أنت تولّيته، بل كافأته عليه بعدم الإثابة عليه لعدم قيامه به، و صدوره عنه لأوشك أن يفقد «3» ثوابك.
__________________________________________________
(1) هكذا في النسخ، و الصحيح ظاهرا المثوبة.
(2) أساس البلاغة: ص 546.
(3) «ألف»: يفتقد.
251
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء السابع و الثلاثين ص 225
..........
و ما وقع لأكثر الأصحاب في ترجمة هذه العبارة- بأنّ المعنى لو جازيت المطيع على مجرّد علمه دون ما أنت توليّته، أو فيما أنت توليته- بمعزل عن مدلولها، و إن كان معنى صحيحا في نفسه.
و اللام من قوله: «لأوشك» لام جواب «لو» لا جواب قسم مقدّر، خلافا لابن جنّي «1». و أوشك. فعل ماض من أفعال المقاربة الدالّة على قرب ثبوت خبرها لاسمها، فمعنى أو شك قرب و دنى، فإذا قلت أو شك زيد أن يقوم، كان معناه قرب و دنا قيامه. و قال بعضهم: معناها مقاربة الاسم للخبر. فمعنى أوشك زيد أن يقوم: قارب زيد القيام أو قرب زيد من القيام. و إذا بني أوشك على اسم قبله- كعبارة الدعاء- جاز فيه الوجهان:
أحدهما: إسناده إلى ضميره. فيكون اسما له، و جعل أن و الفعل في موضع نصب على أنّه خبر له.
و الثاني: تفريغه عن الضمير و إسناده إلى أن و الفعل، فيكون أن و الفعل اسما مؤوّلا مكتفى به عن الخبر. و محلّه الرفع على الفاعليّة.
و يكون أوشك على الأوّل فعلا ناقصا، و على الثاني فعلا تامّا. و تقدير عبارة الدعاء على الأوّل: لأوشك المطيع أن يفقد ثوابك، و على الثاني لأوشك فقدان المطيع ثوابك، أي: لقرب و دنا فقدانه لثوابك.
و استشكل الأوّل بأنّ أن و الفعل في تأويل المصدر، فيلزم الإخبار بالحدث عن الذات. و أجيب بأنّه من باب زيد صوم و عدل، أو على تقدير مضاف، كأنّه قيل:
لأوشك أمر المطيع أن يفقد. و الأولى ما ذهب إليه سيبويه على ما نقله عنه ابن مالك من أنّ أن و الفعل ليس خبرا، بل هو مفعول به منصوب على نزع الخافض، و الفعل تامّ بمعنى قرب «2».
__________________________________________________
(1) راجع مغني اللبيب: ص 310.
(2) راجع كتاب سيبويه: ج 1 ص 555.
252
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء السابع و الثلاثين ص 225
..........
و التقدير في عبارة الدعاء: لقرب المطيع من أن يفقد «1» ثوابك، ثمّ حذف الجار توسّعا. أو يجعل الفعل بمعنى قارب فلا حذف، و المعنى قارب المطيع فقدان ثوابك.
و في عبارته عليه السّلام شاهد على أمرين:
أحدهما: ورود أوشك بصيغة الماضي، و فيه ردّ على الأصمعي و أبي علي حيث أنكرا ذلك، كما حكاه عنهما ابن مالك و غيره. و شاهده أيضا من الشعر قول الشاعر:
و لو سئل الناس التراب لأوشكوا إذا قيل هاتوا أن يملّوا و يمنعوا «2»
الثاني: كون أو شك للمقاربة، بمعنى كاد، و هو مذهب أكثر المتأخّرين، و جماعة من المتقدّمين، و فيه ردّ على الشلوبين و تلامذته حيث ذهبوا إلى أنّه للترجّي بمعنى عسى «3»، فإنّ الترجّي لا يلائم عبارة الدعاء.
[ 1029] قوله عليه السّلام «و لكنّك بكرمك جازيته» إلى آخره الواو للعطف عند الجمهور.
و قال الرضيّ: يجوز كونها عاطفة للجملة على الجملة «4».
و جعلها اعتراضيّة أظهر من حيث المعنى. و دخولها على «لكن» مشدّدة و مخفّفة جائز و لا واجب.
و معنى «لكنّ» الاستدراك، و فسّر بأن ينسب لما بعدها حكم مخالف لما «5» قبلها، و لذلك قالوا: يجب توسطها بين متغايرين معنى، أي في النفي و الإثبات كعبارة الدعاء، فإنّ معنى قوله عليه السّلام: «و لكنّك بكرمك جازيته» و لكنّك لم تكافئ المطيع على ما تولّيته بل جازيته إلى آخره.
__________________________________________________
(1) «ألف»: يفتقد.
(2) شرح ابن عقيل: ج 1 ص 338.
(3) شرح الكافية في النحو: ج 2 ص 369.
(4) شرح الكافية في النحو: ج 2 ص 369.
(5) «ألف»: لحكم ما قبلها.
253
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء السابع و الثلاثين ص 225
..........
و قال جماعة منهم صاحب البسيط: هي بعد لو و جوابها للتوكيد لا للاستدراك، إذ فائدتها تأكيد ما أفادته لو من الامتناع «1». و الأوّل هو المشهور.
و الباء من قوله: «بكرمك» للسببيّة متعلّقة بالفعل بعدها و تقديمها مع مجرورها لإفادة الاختصاص، أي بسبب كرمك لا لأمر آخر، و يجوز أن تكون للملابسة، فتكون مع مجرورها ظرفا مستقرا متعلّقة بحال محذوفة، و التقدير: و لكنّك ملتبسا بكرمك جازيته.
و المدّة: البرهة و الطائفة من الزمان تقع على القليل و الكثير.
و القصر: خلاف الطول، و هما من الأسماء المتضائفة التي تعتبر بغيرها.
و فنى الشيء يفنى فناء- من باب رضي-: عدم بعد الوجود.
و خلد يخلد خلودا- من باب قعد-: طال بقاؤه.
قال الراغب: كلّ ما يتباطأ عنه التغير و الفساد تصفه العرب بالخلود، لقولهم للأيّام: خوالد، و ذلك لطول مكثها لا لدوام بقائها، ثم استعير للبقاء دائما، و الخلود في الجنة بقاء الأشياء على الحالة من غير اعتراض الكون و الفساد عليها «2». انته.
و غاية الشيء: مداه و منتهاه. و الكلام على حذف مضاف، أي على ذي الغاية القريبة الزائلة بذي الغاية المديدة الباقية، إذ الغاية لا يتعلّق بها جزاء، و إنّما يتعلّق بالمغيّى «3».
و المراد بالجزاء على المدّة القصيرة بالمدّة الطويلة، الجزاء على العمل فيها بالثواب عليه في المدّة الطويلة، فهو من باب إطلاق اسم المظروف على الظرف، و هو شائع في الاستعمال.
و أمّا قوله عليه السّلام: «و على القريبة بالغاية المديدة» فلا يتعيّن أن يراد بالغاية
__________________________________________________
(1) لا يوجد لدينا كتابه.
(2) المفردات: ص 154 مع اختلاف يسير في بعض الألفاظ.
(3) «ألف»: بالغاية.
254
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء السابع و الثلاثين ص 225
ثمّ لم تسمه القصاص فيما أكل من رزقك الّذي يقوى به على طاعتك، و لم تحمله على المناقشات في الآلات التي تسبّب الزمان أيضا إطلاقا لاسم الجزء على الكلّ بل العمل نفسه و الثواب نفسه، فكأنّه قال: و جازيته على العمل ذي الغاية القريبة الفانية بالثواب ذي الغاية المديدة الباقية. ثمّ من المتعيّن كون المراد بالغاية في المجازى به مدّته، و إنّما عبّر عنها بالغاية على سبيل المشاكلة، لوقوعها في صحبة ذي الغاية، و إلّا فلا غاية له، بدليل وصفها بالبقاء. لأنّ المراد به البقاء الأخروي، و هو التأبيد لا إلى منته و لا غاية، و لو لا ذلك لاستحال الكلام.
و المديدة: الطويلة، و منه في الحديث: «تزوّجت امرأة مديدة» «1» أي طويلة.
(تبصرة) روى ثقة الإسلام في الكافي بسنده عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال: إنّما خلد أهل النار في النار لأنّ نيّاتهم كانت في الدنيا أن لو خلدوا فيها أن يعصوا اللّه أبدا، و إنّما خلد أهل الجنّة في الجنة لأنّ نياتهم كانت في الدنيا أن لو بقوا فيها أن يطيعوا اللّه أبدا، فبالنيّات خلد هؤلاء و هؤلاء، ثمّ تلا قوله تعالى: « «قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ» قال على نيّته «2». و اللّه أعلم.
[ 1030] «ثمّ» هنا للترتيب في الذكر، و التدرّج في درج الارتقاء، و ذكر ما هو الأولى ثم الأولى من غير اعتبار التراخي و المهلة بين تلك الدرج، و لأنّ الثاني بعد الأوّل في الزمان. فإنّ عدم سومه القصاص على ما أكل من رزقه، و عدم حمله على المناقشات في الآلات متقدّم على المجازاة المذكورة، كما هو ظاهر. لكن لمّا كان الغرض ترتيب تفضّله تعالى بذكر الأخص فالأخص و الأعجب فالأعجب جاء ب «ثم»
__________________________________________________
(1) النهاية لابن الأثير: ج 4 ص 309.
(2) الكافي. ج 2 ص 85 ح 5.
255
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء السابع و الثلاثين ص 225
باستعمالها إلى مغفرتك، و لو فعلت ذلك به لذهب بجميع ما كدح له، و جملة ما سعى فيه، جزاء للصغرى من أياديك و مننك، و لبقي رهينا بين يديك بسائر نعمك، فمتى كان يستحقّ شيئا من ثوابك، لا متى هذا يا إلهي حال من أطاعك، و سبيل من تعبّد لك.
تنبيها على ذلك، و نظير ذلك قوله تعالى: «خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها» «1».
قال الزمخشريّ: هما آيتان من جملة الآيات التي عدّدها دالّا على وحدانيّته و قدرته تشعيب هذا الخلق- الفائت للحصر- من نفس آدم، و خلق حوّاء من قصيراه، إلّا أنّ أحداهما جعلها اللّه عادة مستمرة، و الأخرى لم تجر بها العادة، و لم يخلق أنثى غير حوّاء من قصيرى رجل، فكانت أدخل في كونها آية، و أجلب لعجب السامع، فعطفها ب «ثمّ» على الآية الأولى للدلالة على مباينتها لها فضلا و مزيّة، و تراخيها عنها فيما يرجع إلى زيادة كونها آية، فهو من التراخي في الحال و المنزلة لا من التراخي في الوجود «2». انته.
و لم تسمه القصاص: أي لم ترده منه. قال في الأساس: و من المجاز سمت المرأة المعانقة: أردتها منها و عرضتها عليها «3».
و القصاص: مصدر قاصّه مقاصّة و قصاصا- من باب قاتل-.
قال الزمخشريّ: قاصصته بما كان لي قبله: أي حبست عنه مثل ذلك، مأخوذ من مقاصّة وليّ القتيل القاتل «4».
فمعنى عبارة الدعاء: لم تحبس عليه من الجزاء مثل ما أكل من رزقك.
و قوى بالشيء- من باب رضي- و تقوّى به: استعان به، و الرواية في الدعاء
__________________________________________________
(1) سورة الزمر: الآية 6.
(2) تفسير الكشّاف: ج 4 ص 113- 114.
(3) أساس البلاغة: 315.
(4) أساس البلاغة: 510- 511.
256
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء السابع و الثلاثين ص 225
..........
واردة بالوجهين.
و حملته على الأمر: ألزمته به، كأنّك جعلته راكبا عليه.
و المناقشة: الاستقصاء في الحساب.
قال في الفائق: ناقشه الحساب إذا عاسره فيه و استقصى، فلم يترك قليلا و لا كثيرا، و أصل المناقشة من نقش الشوكة و هو استخراجها كلّها و منه: انتقشت منه جميع حقّي «1». انته.
و الآلات جمع آلة، و هي الأداة التي يعمل بها.
و قال في القاموس: هي ما اعتملت به من أداة تكون واحدا و جمعا، أو هي جمع بلا واحدة، و جمعها آلات «2». انته.
و عرفت بأنّها ما يؤثّر الفاعل في منفعله القريب بواسطته.
و تسبّبت إلى الشيء: توصلت إليه بسبب، و تسبّبت بكذا إلى كذا: جعلته سببا إلى الوصول إليه.
و المعنى: أنّك لم تلزمه المناقشة، و لم تستقص في محاسبته على الآلات التي توصّل بسبب استعمالها إلى فوزه بمغفرتك مع أنّ الآلات من مخلوقاتك، لا مدخل لعمله فيها، و لولاها لم «3» يمكنه التوصّل إلى مغفرتك.
و المراد بالآلات جميع القوى الظاهرة و الباطنة و الجوارح و الأمور و الأشياء المتعلّقة بنفسه و بدنه و الخارجة عنه. و بالجملة جميع ما له مدخل في القيام بالعمل من جوهر و عرض.
[ 1031] و الكدح: العمل و السعي و الكسب و الكدّ، يقال: كدح لكذا و فيه يكدح- باب منع- أي عمل له و سعى و كسب و كدّ و جهد.
__________________________________________________
(1) الفائق في غريب الحديث: ج 4 ص 16.
(2) القاموس المحيط: ج 3 ص 331.
(3) «ألف» لا.
257
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء السابع و الثلاثين ص 225
..........
و «جزاء»- بالنصب- يحتمل المصدريّة و الحاليّة و المفعول لأجله.
و الصغرى: مؤنّث الأصغر من الصغر باعتبار القدر و المنزلة.
و «من» بيانيّة.
و الأيادي: جمع يد، بمعنى النعمة و الإحسان، مستعارة من الجارحة.
و المنن: جمع منّة، و هي النعمة الثقيلة.
و الرهن: ما يوضع ثقة للدين. و أصله الحبس، و لذلك كان معناه شرعا: حبس الشيء بحق يمكن أخذه منه كالدين، يقال: رهنت الشيء رهنا، فهو رهين و مرهون، ثم استعمل في كلّ شيء لزمه أمر لا يمكنه انفكاكه منه.
قال جار اللّه في قوله تعالى: «كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ»: أي مرهون. كأنّ نفس العبد رهن عند اللّه بالعمل الصالح الذي هو مطالب به- كما يرهن الرجل عبده بدين عليه- فإن عمل صالحا فكّها و خلّصها و إلّا أوبقها «1». انته.
و لمّا كانت النفوس بهذا المعنى مرهونة بنعمة من نعم اللّه تعالى لا يفكّها إلّا الشكر بالطاعة و العمل الصالح، و ليس له من ذلك إلّا ما لو لا مسامحته سبحانه له، و عدم استقصائه عليه لذهب بجميع عمله و طاعته في مقابلة أصغر نعمه و مننه، لا جرم يبقى رهينا بسائر نعمه تعالى مطالبا بها لا انفكاك له منها، و لذلك فزع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى ربّه في فكاك رهانه حيث قال: «فكّ رهاني، و ثقّل ميزاني» «2».
ففزع صلّى اللّه عليه و آله إليه سبحانه أن يكون هو الذي يتولّى فكاك رهانه لعلمه عليه السّلام بعجزه عنه، فما الظنّ بغيره.
و قوله: «بين يديك» أي بحضرتك بحيث لا يمكنه فكاك نفسه بوجه، و بين
__________________________________________________
(1) تفسير الكشاف: ج 4 ص 411.
(2) الدر المنثور: ج 3 ص 72. ذيل الآية 10 من سورة الأعراف.
258
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء السابع و الثلاثين ص 225
..........
اليدين مستعار ممّا بين الجهتين المسامتتين ليدي الإنسان، و هو من باب التمثيل، و قد سبق الكلام على ذلك مبسوطا فأغنى عن الإعادة.
[ 1032] قوله عليه السّلام: «فمتى كان يستحقّ من ثوابك شيئا لا متى». «الفاء» فصيحة، أي إذا كان الأمر هكذا متى كان يستحقّ.
و «متى» ظرف يكون استفهاما عن زمان فعل فيه أو يفعل.
و ليس الاستفهام هنا على حقيقته، بل الغرض منه استبعاد كونه مستحقّا للثواب حينئذ و نفيه كقوله تعالى: «أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى» «1» في استبعاد الاتّعاظ.
و «لا» من قوله: «لا متى» نافية، و مفادها إمّا النفي صريحا لما أفهمه الكلام السابق من نفي الاستحقاق لزوما، فإنّ الاستفهام عن زمان الشيء يستلزم الجهل بزمانه، و الجهل به يستلزم استبعاد وقوعه، لأنّ ما هو قريب الوقوع ينبغي أن يكون معلوما، فلا داعي إلى الاستفهام عنه، و استبعاد وقوع الشيء يستلزم نفيه. و إمّا الاحتراز عمّا قد يتوهّم أو يسبق إلى الذهن من أنّ الاستفهام على صرافته، فجاء بالنفي نصّا على المقصود.
و التقدير على الوجهين، لا لم يكن يستحق من ثوابك شيئا و إنّما حذف المنفيّ رأسا، لأنّ «لا» من الحروف التي تؤدي معنى الجملة و تحذف معها في الغالب، و نظيره قول بعضهم في قوله تعالى: «لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ وَ لا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ» «2». إن «لا» نافية، و منفيها إنكار البعث المعهد من الكافرين، كأنّهم أنكروا البعث، فقيل: لا، أي ليس الأمر كذلك، ثم استؤنف القسم فقيل: أقسم بيوم القيامة كقولك: لا و اللّه إنّ البعث حقّ.
و قوله: «متى» استفهام إنكار مستأنف، أي متى كان يستحقّ؟ و مفاده تقرير النفي السابق و تأكيده، و هو الذي يسمّى الإنكار الإبطالي، لأنّه يقتضي أنّ ما بعده
__________________________________________________
(1) سورة الدخان: الآية 13.
(2) سورة القيامة: الآية 1 و 2.
259
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء السابع و الثلاثين ص 225
فأمّا العاصي أمرك، و المواقع نهيك فلم تعاجله بنقمتك، لكي منفيّ، غير واقع، و إنّ مدعيه كاذب، و التقدير: متى كان يستحق، أي لم يكن يستحقّ. و إنّما آثر تقرير النفي ب «متى» ليكون بوجه برهانيّ و هو الاستدلال بانتفاء اللازم على انتفاء الملزوم.
و بيانه: أنّ استحقاق شيء من الثواب يستلزم زمانا ضرورة. و هو معدوم، إذ لو كان موجودا لكان معلوما غير مجهول، فلم يحتج إلى الاستفهام عنه. فإذا لم يكن له زمان وجب أن لا يكون له وجود أصلا، إذ لا بدّ لكلّ حادث من زمان يقع فيه. و هذا معنى قولهم: الإنكار بمتى و أين بمعنى أنّه ليس، لأنّ زمانه و مكانه ليس، فهو إنكار على وجه برهاني، و إنّما حذف الجملة بعد متى، لدلالة ما قبله عليه، و قد مرّ نظير هذه العبارة في الدعاء الأوّل و ذكرنا فيه وجوها أخر، غير أنّه كان قد بقي في النفس منه شيء فاستوفيناه هنا بحمد اللّه تعالى.
[ 1033] قوله عليه السّلام: «هذا يا إلهي حال من أطاعك»، الإشارة إلى ما فصّله عليه السّلام من تفضّله تعالى على المطيع و مسامحته له، و عدم استحقاقه- لو لا ذلك- شيئا من ثوابه سبحانه.
و سبيل من تعبّد لك: أي سيرته و حالته و طريقته، و منه قوله تعالى: «قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَ مَنِ اتَّبَعَنِي» «1».
و تعبّد الرجل: بالغ في العبادة و اجتهد فيها.
و في الصحاح: التعبّد: التنسّك «2»، و هو التطوع بقربة، و اللّه أعلم.
«الفاء: للعطف و الترتيب الذكري. و «أمّا»: حرف متضمّن لمعنى الشرط و فعله، و لذلك يجاب بالفاء. و فائدته تاكيد ما صدّر به، و تفصيل ما في نفس المتكلّم من الأقسام، نحو: هؤلاء فضلاء، أمّا زيد ففقيه، و أمّا عمرو فمتكلّم، و أمّا بكر
__________________________________________________
(1) سورة يوسف: الآية 108.
(2) الصحاح: ج 2 ص 503.
260
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء السابع و الثلاثين ص 225
يستبدل بحاله في معصيتك حال الإنابة إلى طاعتك، و لقد كان يستحقّ في أوّل ما همّ بعصيانك كلّ ما أعددت لجميع خلقك من عقوبتك فجميع ما أخرت عنه من العذاب، و أبطأت به عليه من سطوات النّقمة و العقاب ترك من حقّك، و رضى بدون واجبك، فمن أكرم منك يا إلهي، و من أشقى ممّن هلك عليك لا من.
فمحدّث. ثمّ قد تذكر الأقسام جميعا كالمثال، و قد يقتصر على واحد منها استغناء بكلام يذكر بعدها أو قبلها في موضع القسيم.
فالأوّل: كقوله تعالى: «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَ ابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا» «1»، فاستغني بقوله: و الراسخون في العلم عن ذكر قسيم فأمّا الذين في قلوبهم زيغ، فكأنّه قيل: و أمّا الراسخون في العلم فيقولون آمنا به.
و الثاني: كعبارة الدعاء، فإنّ ذكر حال المطيع قبل أمّا أغنى عن ذكر قسيم ما بعدها، و قد يستغنى بذكر أحد القسيمين عن الآخر كقوله تعالى: «فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ اعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَ فَضْلٍ» «2»، أي و أمّا الذين كفروا باللَّه فلهم كذا و كذا.
و عصيان الأمر: ترك الانتقاد له.
و واقع الذنب: ارتكبه و خالطه.
و قال في المجمل: واقع الأمور مواقعة و وقاعا: داناها «3»
__________________________________________________
(1) سورة آل عمران: الآية 7.
(2) سورة النساء: الآية 175.
(3) لم نعثر عليه في المجمل بل وجدناه في محكم اللغة: ج 2 ص 198 و لعلّه من سهو النسّاخ.
261
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء السابع و الثلاثين ص 225
..........
و عاجله في النقمة: أي انتقم منه و عاقبه من غير إمهال.
و اللام من قوله: «لكي» تعليليّة، و «كي» مصدريّة، بمنزلة أن المصدريّة معنى و عملا لصحّة حلول أن محلّها، و قول الكوفيّين: «إنّها حرف تعليل مصدريّ» يدفعه أنّها لو كانت حرف تعليل لم يدخل عليها حرف تعليل.
و الاستبدال جعل الشيء مكان آخر.
قال الراغب: و هو أعمّ من العوض، فإنّ العوض هو أنّ يصير لك الثاني بإعطاء الأوّل، و التبديل يقال: للتغيير و إن لم تأت ببدله «1».
و «الباء» من قوله: «بحاله» للمقابلة، و مدخولها أبدا هو الذاهب الزائل دون الآتي الحاصل كقوله تعالى: «أَ تَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ» «2»، و المعنى: لكي يأخذ و يختار لنفسه بدلا من حاله في معصيتك حال الإنابة إلى طاعتك.
و أناب إلى اللّه إنابة و منابا: رجع. و في الحديث «لو علم اللّه ان عبدا ينيب إليه آخر الدهر لمدّ في عمره إلى ذلك الوقت».
[ 1034] قوله عليه السّلام: «و لقد كان يستحقّ» جملة مستأنفة سيقت «3» لتقرير مضمون ما قبلها من إمهاله تعالى لعبده العاصي، و عدم معاجلته له بالانتقام. و اللام جواب لقسم محذوف أي و باللّه لقد كان يستحقّ، و تصدير الجملة بالقسم لزيادة تحقيق مضمونها.
و أوّل الشيء: ابتداؤه.
قال الزجّاج: معنى الأوّل في اللغة ابتداء الشيء، ثمّ يجوز أن يكون له ثان، و يجوز أن لا يكون، كما تقول: هذا أوّل ما كسبته، جائز أن يكون بعده كسب،
__________________________________________________
(1) المفردات: ص 39.
(2) سورة البقرة: الآية 61.
(3) «ألف»: سبقت.
262
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء السابع و الثلاثين ص 225
..........
و جائز أن لا يكون، و مرادك هذا ابتداء كسبي «1». انته.
و على هذا قوله عليه السّلام «في أوّل ما همّ»، أي في ابتداء همّه، جائز أن يكون بعده همّ، و أن لا يكون.
و همّ بالشيء همّا- من باب قتل-: إذا أراده و لم يفعله، و ما مصدريّة، هي و صلتها في محلّ جرّ على الإضافة.
«و كلّ ما اعددت»، أي جميع ماهيّاته، ف «ما» إمّا نكرة موصوفة، أو موصولة.
و الجملة بعدها إمّا صفة أو صلة.
و يقع في بعض النسخ من الصحيفة الشريفة هنا كتابة كلّ متّصلة ب «ما» و هو غلط من النسّاخ، و القاعدة المقرّرة أنّ (ما) إنّما توصل بكلّ إذا لم يعمل فيها ما قبلها نحو: «كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً» «2»، فإنّها تكون حينئذ ظرفا منصوبا بما بعدها، فإن عمل فيها ما قبلها فصلت عنها نحو: « «وَ آتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ» «3»، و منه عبارة الدعاء، ف «ما» حينئذ اسم مضاف إليه.
و «من» في قوله: «من عقوبتك» لبيان «ما» المضاف إليها كلّ.
[ 1035] و «الفاء» من قوله: «فجميع ما أخرت» سببيّة.
و البطء أصله تأخّر الانبعاث في السير، ثمّ استعمل في مطلق التأخّر، يقال:
ما أبطأك عنّا؟ أي: ما أخّرك؟ و في نسخة «بطؤت به عليه» و هي من باب قرب لغة في أبطأ.
قال في الأساس: يقال: ما أبطأ بك عنا؟ و ما بطؤبك؟ و ما بطأ؟ «4»- بالتثقيل-.
و في القاموس: بطأ عليه بالأمر تبطيئا، و أبطأ به: أخّره «5». انته.
__________________________________________________
(1) تهذيب الأسماء و اللغات، القسم الثاني: ج 1 ص 14.
(2) سورة آل عمران: الآية 37.
(3) سورة إبراهيم: الآية 34.
(4) أساس البلاغة: ص 42.
(5) القاموس المحيط: ج 1 ص 8.
263
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء السابع و الثلاثين ص 225
فتباركت أن توصف إلّا بالإحسان و كرمت أن يخاف منك إلّا العدل، لا يخشى جورك على من عصاك، و لا يخاف إغفالك ثواب من وسطا عليه و به سطوا و سطوة: قهره و أذلّه و هو البطش و الأخذ بعنف و شدّة.
و النقمة: الانتقام و هو بمعنى العقوبة.
و تركت المنزل تركا- من باب قتل-: رحلت عنه، و الرجل فارقته ثم استعير للإسقاط في المعاني، فقيل: ترك حقّه، إذا أسقطه.
و الرضي: خلاف السخط، يقال: رضيت بالشيء، و رضيته إذا اخترته و لم أكرهه.
و «دون» هنا بمعنى غير، أي بغير ما يجب لك، أو بمعنى القاصر، أو الأقلّ، أي بما هو قاصر عن واجبك، أو بأقلّ ما هو واجب لك، فإنّ تأخير العذاب و عدم المعاجلة به ضرب من دون ما يجب له سبحانه، نظرا إلى عظيم سلطانه و كبريائه و اقتداره جلّت قدرته.
[ 1036] و قوله: «فمن أكرم منك» «الفاء» فيه سببيّة، و الاستفهام للتعظيم أو الإنكار لأن يكون أحد أكرم منه.
و «لا» نافية، و من بعدها للإنكار أيضا، تقريرا لما قبلها، و بيانا لاستحالة كون أحد أكرم منه، على قياس ما حرّرناه في قوله: «لا متى» و قس عليه قوله:
«و من أشقى ممّن هلك عليك لا من»، إلّا أنّ حمل الاستفهام هنا أوّلا على التهويل و التخويف، و ثانيا على الإنكار، أنسب بشهادة الذوق.
و وجه تعدية الهلاك ب «على» قد تقدّم بيانه في الروضة الأولى بما لا مزيد عليه، فليرجع إليه.
«الفاء»: مبيّنة. و البركة: النماء و الزيادة حسّيّة كانت أو عقليّة، و كثرة الخير و دوامه، فقوله: «تباركت» إمّا بمعنى تزايدت و تعاليت، نظرا إلى البركة بمعنى الزيادة، أو بمعنى كثر خيرك، نظرا إلى معنى كثرة الخير و دوامه.
264
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء السابع و الثلاثين ص 225
أرضاك. فصلّ على محمّد و آل محمّد، و هب لي أملي، و زدني من هداك ما أصل به إلى التّوفيق في عملي، إنّك منّان كريم.
فالأوّل: باعتبار كمال الذات في نفسها، و الثاني: باعتبار كمال الفعل، و عبارة الدعاء تناسب المعنيين.
و صيغة التفاعل للمبالغة.
و قوله: «أن توصف» أي عن أن توصف، و حذف الجار مع أن و أنّ المخفّفة و المثقّلة مطرد إذا أمن اللبس.
و الاستثناء مفرّغ، و التقدير: تباركت أن توصف بشيء إلّا بالاحسان و جاء التفريغ مع الإيجاب لتأويله بالنفي، أي لم يجز عليك، أو لم ترض لعلوّ ذاتك أو لكثرة خيرك أن توصف إلّا بالاحسان.
قال الرضيّ: و يجوز التفريغ في موجب مؤوّل بالنفي كما في قوله تعالى: «فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً»* «1».
[ 1037] و كرمت: أي تنزّهت و تقدّست. يقال: كرم زيد عن السوء يكرم- بالضم فيهما- و تكرم و تكارم. أي تنزّه. و هو من الكرم، بمعنى انتفاء النقائص، و الاتصاف بجميع المحامد، أو من الكرم بمعنى شرف الذات، و علوّ المقدار.
و المراد بالعدل المساواة في المكافاة، إن خيرا فخير و إن شرّا فشرّ، و بالإحسان أن يقابل الخير بأكثر منه، و الشر باقلّ منه، و لذلك قيل: العدل مساواة، و الإحسان زيادة. و سنّة العدل الإيفاء و الاستيفاء بحسب الاستحقاق، و سنّة الإحسان الزيادة على الواجب في الإيفاء، و الإغماض دون الواجب في الاستيفاء بحسب الاستحقاق.
و عن أمير المؤمنين عليه السّلام في قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ
__________________________________________________
(1) شرح الكافية في النحو: ج 1 ص 235.
265
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء السابع و الثلاثين ص 225
..........
وَ الْإِحْسانِ»، العدل: الإنصاف، و الإحسان: التفضّل «1».
هذا و لمّا كان مع العدل الاستقصاء إذ ليس هو إلّا توفية الحقوق و استيفاءها بقدر الاستحقاق، و كان العبد ما عليه أكثر ممّا له بل كان ما له بالنسبة إلى ما عليه كالجزء الذي لا يتجزّى من الشيء الذي لا يتناهى، لا جرم وجب بحكم العقل الخوف من عدله سبحانه. و أمّا الجور و الظلم فمستحيل عليه و ممتنع منه، و لهذا صحّ أن لا يخاف منه إلّا العدل.
و في دعاء أمير المؤمنين عليه السّلام «اللّهمّ احملني على عفوك و لا تحملني على عدلك» «2». و من كلامه صلوات اللّه عليه: «احذروا يوما لا يخاف من الحاكم فيه إلّا العدل» «3».
قوله عليه السّلام: لا يخشى جورك على من عصاك: جملة مستأنفة استئنافا بيانيا، كأنّه سئل: كيف يخشى منّي الّا العدل، فقال: لأنّه لا يخشى جورك على من عصاك ... إلى آخره.
و الجور: نقيض العدل. و أصله من جار عن الطريق إذا مال عنه، ثم جعل أصلا في العدول عن كلّ حقّ.
و أغفلت الشيء إغفالا: تركته إهمالا من غير نسيان.
و إرضاؤه تعالى: عبارة عن امتثال أوامره، و اجتناب مناهيه.
[ 1038] و الأمل: الرجاء. و المراد به هنا المأمول، من باب إطلاق المصدر على اسم المفعول مجازا.
و الزيادة: أن يضمّ إلى ما عليه الشيء شيء آخر. يقال: زدته فازداد، أي أعطني من هدايتك قدرا زائدا على ما أنا عليه منها «4»، كما قال تعالى: «وَ الَّذِينَ
__________________________________________________
(1) نهج البلاغة: ص 509 الحكم: 231.
(2) نهج البلاغة: ص 350 الخطب 227.
(3) لم نعثر عليه.
(4) «ألف»: منه.
266
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء السابع و الثلاثين ص 225
..........
اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً» «1». و في نسخة «زوّدني» من الزاد، و هو ما يعدّ للسفر من الطعام، أي اجعل لي من هداك زادا، و هو إمّا استعارة تبعيّة أو مكنيّة، و لك جعلها تمثيليّة كما مرّ بيانه غير مرّة.
و الهدى: مصدر كالسرى، قالوا: و اضطرب كلام سيبويه فيه فتارة يقول: هو عوض من المصدر، لأنّ فعلا- بضمّ الفاء و فتح العين- لا يكون مصدرا، و أخرى يقول: هو مصدر هدى و قال أيضا: قلّما يكون ما ضمّ أوّله من المصادر إلّا منقوصا، لأنّ فعلا لا يكاد يرى مصدرا من غير بنات الواو و الياء، فدلّ على أنّه مصدر كالبكى و السرى.
و فسّر الهدى بالدلالة مطلقا. و قيل: بل بشرط كونها موصلة للمطلوب، بدليل وقوعه في مقابلة الضلالة في قوله تعالى: «أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى»* «2» و قوله تعالى: «لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» «3». و لا شكّ أنّ عدم الوصول معتبر في مفهوم الضلالة، فلو لم يعتبر الوصول في مفهوم الهدى لم يتقابل الجواز الجمع بينهما.
و أجيب: بأنّ المذكور في مقابلة الضلالة هو الهدى اللازم بمعنى الاهتداء إمّا مجازا أو اشتراكا و في الصحاح: هدى و اهتدى بمعنى «4». و كلامنا في المتعدّي، و يقابله الإضلال. و لا استدلال به، إذ ربّما يفسّر بالدلالة على ما لا يوصل لا بجعله ضالا، أي غير واصل. و على كل تقدير فالمراد بالهدى في عبارة الدعاء هو الموصل إلى المطلوب، فإنّ الهدى على مراتب.
قال الراغب: هداية اللّه تعالى للإنسان في الدنيا على مراتب بعضها مترتّب على بعض، لا تحصل المرتبة الثانية إلّا بعد الأولى، و لا الثانية إلّا بعد الثالثة.
فالأولى: إعطاؤه العبد القوى التي بها يهتدي إلى مصالحه، إمّا تسخيرا و إمّا
__________________________________________________
(1) سورة محمّد: الآية 17.
(2) سورة البقرة: الآية 16.
(3) سورة سبأ: الآية 24.
(4) الصحاح: ج 6 ص 2533.
267
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء السابع و الثلاثين ص 225
..........
طوعا، كالحواسّ الخمس، و القوّة المفكّرة، و على ذلك قوله تعالى: «أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى» «1» «وَ الَّذِي قَدَّرَ فَهَدى» «2».
الثانية: الهداية بالدعاء، و بعثة الأنبياء و إياها عنى بقوله سبحانه: «وَ جَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا» «3».
الثالثة: هداية يوليها من اهتدى من صالحي عباده و يمدّهم بها آنا فآنا، و حالا فحالا بحسب اكتسابهم للخيرات و استزادتهم من العلم و العمل الصالح، و إيّاها عنى بقوله «وَ الَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً» «4» وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا» «5». و بتحرّي هذه المراتب الثلاثة يتوصل إلى الهداية إلى الجنة المذكورة في قوله تعالى «وَ قالُوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَ ما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللَّهُ» «6» انته.
و لا شكّ أنّ المرتبة الثالثة هي المقصودة في الدعاء بدليل طلب الزيادة بقوله:
«و زدني من هداك».
و التوفيق: جعل اللّه فعل عبده و عمله موافقا لما يحبّه و يرضاه.
و المنّان: المعطي للمنّة كثيرا، و هي النعمة الثقيلة. و قيل: الكثير المنّ، و هو الإحسان من غير طلب جزاء و لا مثوبة. و منه قوله تعالى: «فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَ إِمَّا فِداءً» «7». فالمنّ إشارة إلى الإطلاق بلا عوض.
و الكريم و الجواد: المفضل، و الكرم يستعمل على وجوه:
أحدها: إيثار الصفح عن الجاني، و الإحسان إلى المسيء، و السبق بالإنعام.
الثاني: انتفاء النقائص، و الاتّصاف بجميع المحامد.
__________________________________________________
(1) سورة طه: الآية 50.
(2) سورة الأعلى: الآية 3.
(3) سورة السجدة: الآية 24.
(4) سورة محمّد: الآية 17.
(5) سورة العنكبوت: الآية 69.
(6) المفردات: ص 538 نقلا بالمضمون.
(7) سورة محمّد: الآية 4.
268
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء السابع و الثلاثين ص 225
..........
الثالث: الجاه و السؤدد اللذان يكونان عن بذل المعروف، و التحلّي بالمحمود من أخلاق و صفات.
الرابع: طيب الذات، و شرف النفس، و علوّ القدر نسبا «1» و حسبا.
و على أيّ وجه من هذه الوجوه فسّر الكريم في وصفه تعالى جاز.
و الجملة تعليل للدعاء، و مزيد استدعاء للإجابة، و تصديرها بحرف التأكيد لغرض كمال قوّة يقينه بمضمونها. و اللّه أعلم. [] هذا آخر الروضة السابعة و الثلاثين من رياض السالكين وفّق اللّه لإتمامها، و اجتلاء بدر تمامها ضحى يوم الأربعاء لسبع عشرة خلون من ذي القعدة الحرام، أحد شهور أربع و مائة و ألف على يد مؤلّفها كان اللّه له، آمين.
__________________________________________________
(1) «ألف»: حسبا و نسبا.
269
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
الروضة الثامنة و الثلاثون ص 271
الروضة الثّامنة و الثلاثون
271
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
و كان من دعائه عليه السلام في الاعتذار من تبعات العباد و من التقصير فى حقوقهم و في فكاك رقبته من النار. ص 273
و كان من دعائه عليه السّلام في الاعتذار من تبعات العباد و من التقصير فى حقوقهم و في فكاك رقبته من النّار.
اللّهمّ إنّى اعتذر إليك من مظلوم ظلم بحضرتي فلم انصره و من معروف اسدى إلىّ فلم اشكره و من مسىء اعتذر إلىّ فلم اعذره و من ذي فاقة سألني فلم اوثره و من حقّ ذي حقّ لزمنى لمؤمن فلم أوفّره و من عيب مؤمن ظهر لى فلم استره و من كلّ اثم عرض لي فلم اهجره اعتذر إليك يا إلهي منهنّ و من نظائرهنّ اعتذار ندامة يكون واعظا لما بين يديّ من اشباههنّ فصلّ على محمّد و آله و اجعل ندامتي على ما وقعت فيه من الزّلات و عزمى على ترك ما يعرض لي من السّيّئات توبة توجب لي محبّتك يا محبّ التّوّابين
273
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
مقدمة الشارح ص 274
[مقدمة الشارح]
(بسم اللّه الرحمن الرحيم و ايّاه نستعين) الحمد للّه قابل عذر من اعتذر إليه، و غافر تبعات من اعتمد عليه، و الصلاة و السلام على أكرم خلقه لديه، و على أهل بيته الذين شرّفهم بالمسئول بين يديه.
و بعد: فهذه الروضة الثامنة و الثلاثون من رياض السالكين في شرح صحيفة سيّد العابدين، صلّى اللّه عليه و على آبائه و أنبائه الائمة الهادين، إملاء راجي فضل ربّه السنيّ عليّ صدر الدين الحسيني الحسني، و فّقه اللّه لجميل التوبة و الاعتذار، و من عليه بفكاك رقبته من النار.
274
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثامن و الثلاثين ص 275
شرح الدعاء الثامن و الثلاثين
و كان من دعائه عليه السّلام: «في الاعتذار من تبعات العباد، و من التقصير في حقوقهم، و في فكاك رقبته من النّار».
الاعتذار: مصدر اعتذرت إليه إذا أتيت بعذر.
قال الراغب: العذر هو تحرّي الإنسان ما يمحو به ذنوبه. و ذلك ثلاثة أضرب، أن يقول: لم أفعل، أو يقول: فعلت لأجل كذا، فيذكر ما يخرجه عن كونه مذنبا، أو يقول: فعلت و لا أعود، و نحو ذلك. و هذا الثالث هو التوبة. فكلّ توبة عذر، و ليس كلّ عذر توبة «1» انته.
و المراد بالاعتذار هنا هو الضرب الثالث أعني التوبة، و منه قوله تعالى: «هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ. وَ لا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ» «2» أي لا يؤذن لهم في الاعتذار فهم لا يعتذرون. أراد أنّه لا يكون لهم إذن في التوبة. و اعتذار أي توبة متعقبة للإذن من غير أن يجعل الاعتذار متسبّبا عن الإذن كما لو نصب. و إنّما لا يؤذن لهم لأنّه ليس وقت توبة فإنّ التوبة محلّها الدنيا.
و ظنّ بعضهم إنّ الاعتذار لا يكون إلا بمعنى الضرب الثاني أي فعلت لأجل
__________________________________________________
(1) المفردات: ص 327.
(2) سورة المرسلات: 35 و 36.
275
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثامن و الثلاثين ص 275
..........
كذا فجعل المعلّل به النسيان و الجهل و إن لم يصرّح به في الدعاء. و هو خطأ، فإنّ قوله عليه السّلام: في أثناء الدعاء أعتذر إليك يا إلهي منهنّ و من نظائر هنّ اعتذار ندامة صريح في معنى التوبة.
و التبعات: جمع تبعة على وزن كلمة ما يطلبه الإنسان من ظلامة و غيرها.
و في الأساس: لي قبل فلان تبعة و تباعة و هي الظلامة «1».
و العباد: جمع عبد و هو يطلق على وجهين.
أحدهما: المملوك بحكم الشرع و هو الإنسان الذي يصحّ بيعه و ابتياعه.
و الثاني: المملوك بالإيجاد. و ليس ذلك إلّا للّه تعالى، و هو بهذا المعنى يطلق على الإنسان حرّا كان أو رقّا، و الناس كلّهم عباد اللّه.
و هذا المعنى هو المراد هنا. و متى أطلق لفظ العباد فالمراد بهم جميع الناس، و لذلك جعل بعضهم «عباد» للّه، و العبيد و الأعبد و غيرهما من الجموع للّه و للمخلوقين.
و قصّر في الأمر تقصيرا: توانى فيه و لم يهتمّ به و لا احتفل له.
و فكاك رقبته: أي خلاصها. من فكّ الرهن أي خلّصه و الأسير أطلقه، و كلّ شيء أطلقته فقد فككته. و الاسم الفكاك بالفتح كالخلاص، و الكسر لغة حكاها ابن السكيت و أنكرها الأصمعيّ «2».
و قوله تعالى: «فَكُّ رَقَبَةٍ» «3» قيل: المراد بها إعتاق نسمة.
و قيل: بل هو فكّ الإنسان رقبته من عذاب اللّه بالتوبة و العمل الصالح.
و الرّقبة: اسم للعضو المخصوص، ثمّ يعبّر بها عن الجملة و قد مرّ بيان ذلك و اللّه أعلم.
__________________________________________________
(1) أساس البلاغة: ص 59.
(2) المصباح المنير: ص 656.
(3) سورة البلد: الآية 13.
276
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثامن و الثلاثين ص 275
[ 1039] قال صلوات اللّه و سلامه عليه:
اللّهمّ إنّي أعتذر إليك من مظلوم ظلم بحضرتي فلم أنصره، و من معروف أسدي إليّ فلم أشكره، و من مسيء اعتذر إليّ فلم أعذره، و من ذي فاقة سألني فلم أوثره، و من حقّ ذي حقّ لزمني لمؤمن فلم أوفّره، و من عيب مؤمن ظهر لي فلم أستره، و من كلّ إثم عرض لي فلم أهجره.
الكلام في هذه الفقرات كلّها على حذف مضاف، و في كلّ فقرة قرينة دالّة عليه معيّنة له كما سنبيّنه.
فقوله عليه السّلام: «أعتذر إليك من مظلوم ظلم بحضرتي فلم أنصره» أي:
أتوب إليك من خذلان مظلوم ظلم بحضرتي فلم أنصره، أي خذلاني له بدليل قوله:
«فلم أنصره». لأنّ عدم النصر هو الخذلان. و هذا التقدير متحتّم إذ لا معنى للاعتذار من ذات المظلوم و لا من حيث اتّصافه بالمظلوميّة هنا. أمّا الأوّل فظاهر، و أمّا الثاني فلانّه لم يظلمه بل ظلمه غيره، و لا وجه للاعتذار من ظلم الغير. و بعين ذلك ما تقرّر من أنّ الكلام إذا وقع فيه تقييد بوجه ما كان هو الغرض و المقصود من الكلام. و لا شكّ أنّ قوله: «فلم أنصره» تقييد للمظلوم. فكان هو الغرض الذي قصد الاعتذار منه.
فان قلت: هلا حملت «من» على معنى التعليل ليكون المعنى أعتذر إليك من أجل مظلوم، و لا حاجة حينئذ إلى تقدير المضاف؟
قلت: يعيّن كونها ابتدائيّة أمران:
أحدهما: إنّ «من» المتعلّقة بالاعتذار في جميع الموارد لا تكون إلّا ابتدائيّة، لأنّ الاعتذار ناشئ من مدخولها. و يؤكّده هنا أنّ المراد بالاعتذار التوبة. و «من» في قولك: «ثبت إلى اللّه من كذا» ابتدائيّة قطعا لا تعليليّة.
الثاني: مقابلتها ب «إلى» قال الرضيّ: و تعرف «من» الابتدائيّة بأن تحسن في
277
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثامن و الثلاثين ص 275
مقابلتها إلى «1» نحو تبرّأت من فلان إلى فلان، على أنّه قال: «من» التعليليّة نحو «لم آتك من سوء أدبك» كأنّها ابتدائيّة لأنّ ترك الإتيان حصل من سوء الأدب «2»، انته.
و تعدية الاعتذار ب «إلى» لأنّه بمعنى التوبة.
و الحضرة: الحضور. يقال: كلّمته بحضرة فلان أي بحضوره و مشهده. و قد يراد بها فناء الشيء و قربه.
و «الفاء» من قوله: «فلم أنصره» و نظائره لمجرّد التعقيب و جعل ما بعدها تابعا لما قبلها، واقعا عقيبه.
و إنّما اعتذر عليه السّلام من عدم نصره للمظلوم بحضرته لأنّ نصرة المؤمن حق واجب على المؤمن يؤاخذ بتركه كما تظافرت به النصوص عنهم عليهم السّلام.
فعن صاحب الدّعاء عليه السّلام: و أمّا حقّ أخيك فان تعلم إنّه يدك و عزتك و قوتك، فلا تتخّذه سلاحا على معصية اللّه، و لا عدّة للظلم لخلق اللّه، و لا تدع نصرته على عدوّه و النصيحة له «3».
و عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: حقّ المؤمن على المؤمن المودّة له في صدره، و المواساة له في ماله، و الخلف له في أهله، و النصرة له على من ظلمه «4».
و عنه عليه السّلام: ما من مؤمن ينصر أخاه و هو يقدر على نصرته إلّا نصره اللّه في الآخرة. و ما من مؤمن يخذل أخاه و هو قادر على نصرته إلّا خذله اللّه في الدنيا و الآخرة «5».
و الأخبار في هذا المعنى كثيرة.
[ 1040] قوله عليه السّلام «و من معروف أسدي الّتي فلم أشكره». أي من كفران
__________________________________________________
(1) شرح الكافية في النحو: ج 2 ص 321.
(2) شرح الكافية في النحو: ج 2 ص 323.
(3) وسائل الشيعة: ج 11 ص 135.
(4) الكافي: ج 2 ص 171 ح 7.
(5) وسائل الشيعة: ج 8 ص 607 ح 4.
278
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثامن و الثلاثين ص 275
..........
معروف بقرينة قوله: «فلم أشكره» لأنّ عدم شكر المعروف هو كفرانه.
و المعروف: الخير و الإحسان.
و في مجمل اللّغة: المعروف: الجود «1».
و قيل: هو ما تبذله و تعطيه.
و أسديت إليه معروفا: اتخذته عنده.
و في النهاية لابن الأثير: فيه «من اسدى إليكم معروفا فكافئوه» أسدى و أولى و أعطى بمعنى، يقال أسديت إليه معروفا أسدى إسداء «2» انته.
و في نسخة «من معروف أزل إلي» و هو بمعنى أسدى.
قال في القاموس: أزلّ إليه نعمة: أسداها. و الزلّة: الصنيعة و تضمّ «3».
و في المصباح: الزلّة: العطيّة. يقال: أزللت إليه إزلالا إذا أعطيته أو أسديت إليه صنيعا. و في الحديث (من أزلت إليه نعمة فليشكرها) أي: من صنعت عنده نعمة «4».
و قال الزمخشريّ في الفائق: الزليل: نوع من انتقال الجسم من مكان إلى مكان. فاستعير لانتقال النعمة من المنعم إلى المنعم عليه، فقيل: زلّت منه إلى فلان نعمة، و أزلّها إليه «5» انته.
و وقع لبعض أعاظم السادة هنا زلّة أحببناه التنبيه عليها فانّه قال في تعليقته:
يقال فلان أزلّ إليّ نعمة او معروفا أي أسداها. و أزلّ إليّ شيئا من حقّي أي أعطاني، إيّاه. و منه الزلّة بالفتح: و هي ما يؤخذ من مائدة و يحمل إلى صديق قال
__________________________________________________
(1) لم نعثر عليه في مجمل اللغة بل وجدناه في لسان العرب: ج 9 ص 239.
(2) النهاية لابن الأثير: ج 2 ص 356.
(3) القاموس المحيط: ج 3 ص 389.
(4) المصباح المنير: ص 347.
(5) الفائق في غريب الحديث: ج 2 ص 119.
279
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثامن و الثلاثين ص 275
..........
صاحب القاموس: عراقيّة أو عاميّة و الحقّ: إنّها حجازيّة و عربيّة صراح، إذ أصل ذلك من الزليل، ثمّ نقل عن ابن الأثير ما نقلناه عن الزمخشريّ في الفائق من معنى الزليل. و منه أخذ ابن الأثير «1».
و هذا الكلام من السيّد المشار إليه خطأ محض من وجهين.
أحدهما: دعواه إنّها حجازيّة و ذلك إنّما يثبت بأحد أمرين، إمّا سماعه من أهل الحجاز استعمال هذا اللّفظ لهذا المعنى استعمالا فاشيا.
و إمّا استناده إلى نصّ هو أضبط لما يحكيه، و أوثق لما يرويه من صاحب القاموس و كلّ من الأمرين دونه خرط القتاد، على أنّ صاحب القاموس لم يتفرّد بالقول بأنها عراقيّة «2» بل سبقه إلى ذلك اللّيث كما حكاه الفيومي في المصباح:
و نصّه قال الليث: الزلّة: عراقيّة اسم لما يحمل من المائدة لقريب أو صديق «3» انته.
فإذا ثبت عن هذين الإمامين أنّ هذه اللفظة لم تسمع لهذا المعنى إلّا من أهل العراق.
كيف يجوز لأحد أن يردّ عليهما و يدّعي إنّها حجازيّة من غير استناد إلى نصّ قاطع أو استعمال شائع؟
أ لا ترى إلى الإمام أبي عليّ المرزوقيّ، و هو النحرير الذي لا يدفع فضله حيث أراد أن يردّ على الأصمعيّ دعواه في لفظة أنّها مولّدة لم يعتمد في الردّ إلّا على النصّ ممّن هو أرسخ قدما و أوسع علما في العربيّة منه. و ذلك قوله في شرح الفصيح: قال الأصمعيّ: إنّ قولهم كلبة صارف بمعنى مشتهية للنكاح ليس من كلام العرب و إنّما ولّده أهل الأمصار. و ليس كما قال فقد حكى هذه اللفظة أبو زيد و ابن الأعرابيّ و الناس «4»، انته.
__________________________________________________
(1) شرح الصحيفة الكاملة السجاديّة للسيّد الداماء: ص 313.
(2) القاموس: ج 3 ص 389.
(3) المصباح المنير: ص 347.
(4) حكاه الازهري في تهذيب اللغة: ج 2 ص 163.
280
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثامن و الثلاثين ص 275
..........
الثاني: إنّ قوله «و عربيّة صراح» إذ أصل ذلك من الزليل إثبات اللّغة بالقياس. و الذي استقرّ عليه آراء المحقّقين من العلماء أنّ اللغة لا تثبت قياسا و لا يجري القياس فيها.
قال إمام الحرمين في البرهان: الذي نرتضيه أنّ إثبات اللغات قياسا باطل، لعلمنا أنّ العرب لا تلتزم طرد الاشتقاق. و أقرب مثال أنّ الخمر إنّما هي من المخامرة أو التخمير فلو ساغ الاستمساك بالاشتقاق لكان كلّما يخمر العقل أو يخامره خمرا و ليس الأمر كذلك «1».
و قال الغزاليّ: إطباقهم على أنّ البنج لا يسمّى خمرا- مع كونه مخمّرا- بنفي القياس. فإن سمّوه فليسمّوا الدار قارورة لمشاركتها القارورة في هذا المعنى «2»، انته.
فبطل استناده في دعوى كونها عربيّة إلى صحّة اشتقاقها من الزليل. على أنّ أئمة اللغة نصّوا على كلمات كثيرة أنّها مولّدة ليست بعربيّة، مع نصّهم على أنّ القياس لا يدفعها و لا يأبى عربيّتها.
فمن ذلك قول الموفّق البغداديّ في ذيل الفصيح: الفطرة- بالضمّ- لغة مولّدة، و كلام العرب صدقة الفطرة- بالكسر-. مع أنّ القياس لا يدفعه كالغرفة و القبضة «3»- بالضمّ فيهما- لمقدار ما يؤخذ من الشيء.
و منه قول النوويّ في تجريد التنبيه: التفرّج لفظة مولّدة لعلّها من انفراج الضم و هو انكشافه «4».
و قول الثعالبيّ في فقه اللّغة: يقال للرجل الذي إذا لا يبقي و لا يذر قحطيّ و هو من كلام الحاضرة دون البادية «5».
__________________________________________________
(1) لا يوجد لدينا كتابه.
(2) لا يوجد لدينا كتابة.
(3) «ألف»: النغفة.
(4) لا يوجد لدينا كتابه.
(5) فقه اللغة: ص 141.
281
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثامن و الثلاثين ص 275
..........
قال الأزهري: أظنّه ينسب إلى القحط كأنّه نجا من القحط» «1».
و قال الزبيديّ في الاستدراك على كتاب العين:- الأطبّاء يسمّون بالتغيير الذي يحصل للعليل دفعة في الأمراض الحادّة بحرانا يقولون هذا يوم بحران بالإضافة و يوم باحوريّ على غير قياس. فكأنّه منسوب إلى باحور و باحوراء و هو شدّة الحرّ في تموز و جميع ذلك مولّد «2». انته.
فترى هؤلاء الائمة لم يحكموا على الألفاظ المذكورة بكونها عربيّة مع صحّة إمكان كونها مأخوذة من أصل عربيّ صحيح، لأنّ مفردات اللغة لا تثبت إلّا بالنقل لا بصحّة الاشتقاق. فكيف جاز لسيّدنا المشار إليه دعوى كون الزلّة بالمعنى المذكور حجازيّة عربيّة صراحا؟ إذ أصلها من الزليل لو لا عدم الوقوف على الطريق إلى معرفة اللغة العربيّة فاللّه يرحمه و يتجاوز عنه، و لقد خرجنا بهذا الكلام عمّا بصدده، و ليس الغرض من ذلك تتبّع عثرة، أو إشاعة زلّة. و لكنّي رأيت بعض من اشتهر بالفضل تبعه على ذلك، فأحببت التنبيه على خطأه، لئلا يغترّ غيره بكلامه، و اللّه يقول الحقّ، و هو يهدى السبيل.
هذا و لمّا كان شكر المعروف واجبا- سواء كان المسدي له خالقا أو مخلوقا- اعتذر عليه السّلام من معروف أسدي إليه فلم يشكره.
و من الأحاديث المشهورة عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: اشكر لمن أنعم عليك و أنعم على من شكرك «3».
و عنه عليه السّلام: من أزل إليه معروف فليشكره [1].
__________________________________________________
(1) تهذيب اللغة: ج 4 ص 29.
(2) تاج العروس: ج 3 ص 30.
(3) الذريعة إلى مكارم الشريعة: ص 140.
__________________________________________________
[1] لم نعثر عليه بألفاظه، بل وجدنا ما يقرب منه في المصباح المنير: ص 347 و إليك نصّه: «من أزلّت إليه نعمة فليشكرها».
282
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثامن و الثلاثين ص 275
..........
و روى ثقة الإسلام في الكافي بسنده عن عمّار الذهبي قال: سمعت علي بن الحسين عليهما السّلام يقول: إنّ اللّه يحبّ كل قلب حزين، و يحب كلّ عبد شكور يقول اللّه تبارك و تعالى لعبد من عبيده يوم القيامة أشكرت فلانا؟ فيقول: بل شكرتك يا رب فيقول: لم تشكرني إذ لم تشكره، ثمّ قال: أشكركم للّه أشكركم للناس «1».
و عنه عليه السّلام في حديث الحقوق: و أما حق ذي المعروف عليك فان تشكره، و تذكر معروفه، و تكسبه المقالة الحسنة، و تخلص له الدعاء فيما بينك و بين اللّه تعالى. فإذا فعلت ذلك كنت قد شكرته سرّا و علانية ثم إن قدرت على مكافاته يوما كافيته «2».
و عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:
من أتي إليه معروف فليكاف به، فإن عجز، فليثن عليه. فان لم يفعل، فقد كفر النعمة «3».
و عنه عليه السّلام: لعن اللّه قاطعي سبيل المعروف قيل: و ما قاطعو سبيل «4» المعروف؟ قال: الرجل يصنع إليه المعروف، فيكفره، فيمتنع صاحبه من أن يصنع ذلك إلى غيره «5».
و عنه عليه السّلام: ما أقلّ من شكر المعروف «6».
و الروايات في هذا المعنى أكثر من أن تحصى، و ما أحسن قول بعضهم في شكر المعروف و كفره:
لعمرك ما المعروف في غير أهله و في أهله إلّا كبعض الودائع
فمستودع قد ضاع ما كان عنده و مستودع ما عنده غير ضائع
__________________________________________________
(1) الكافي: ج 2 ص 99 ح 30.
(2) وسائل الشيعة: ج 11 ص 136.
(3) الكافي: ج 4 ص 33 ح 3. و فيه.
(4) «ألف»: سبل.
(5) «ألف»: سبل ص 33 ح 1. و فيه: «سبل المعروف».
(6) «ألف»: سبل ص 33 ح 2.
283
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثامن و الثلاثين ص 275
..........
و ما الناس في شكر الصنائع عندهم و في كفرها إلّا كبعض المزارع
فمزرعة طابت فأسرع زرعها و مزرعة أكدت على كلّ زارع
قوله عليه السّلام: «و من مسيء اعتذر إليّ فلم أعذره» أي: من لوم مسيء اعتذر اليّ فلم أعذره، أي لم أقبل عذره و لم أرفع عنه اللوم.
يقال: عذرته عذرا- من باب ضرب- أي: رفعت عنه اللّوم. فهو معذور أي غير ملوم. و الاسم العذر- بالضم- و تضمّ الذال الإتباع و تسكّن.
و في وصيّة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لأمير المؤمنين عليه السّلام: يا علي، من لم يقبل العذر من متنصل- صادقا كان أو كاذبا- لم تنله شفاعتي «1».
و في رواية: من اعتذر إليه أخوه بمعذرة، فلم يقبلها، كان عليه من الخطيئة مثل صاحب مكس «2». و هو ما يأخذه أعوان السلطان ظالما عند البيع و الشراء.
و في وصيّة أمير المؤمنين عليه السّلام لابنه محمّد ابن الحنفيّة رضي اللّه عنه: اقبل من متنصل عذره، فتنالك الشفاعة «3».
و في النهاية لابن الأثير: و في الحديث «من تنصّل إليه أخوه، فلم يقبل» أي أن انتفى من ذنبه و اعتذر إليه» «4».
و قال الزمخشريّ في الفائق و الأساس: نصل علينا فلان: إذا خرج عليك من طريق أو ظهر من حجاب. و منه تنصّل من ذنبه «5».
و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: من لم يقبل من متنصل- صادقا أو كاذبا- لم يرد عليّ الحوض «6»، انته.
[ 1041] قوله عليه السّلام: «و من ذي فاقة سألني فلم أوثره» أي و من منع ذي فاقة
__________________________________________________
(1) من لا يحضره الفقيه: ج 4 ص 353.
(2) كنز العمال: ج 3 ص 378.
(3) من لا يحضره الفقيه: ج 4 ص 391.
(4) النهاية لابن الأثير: ج 5 ص 67.
(5) الفائق في غريب الحديث: ج 3 ص 436.
(6) أساس البلاغة: ص 636.
284
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثامن و الثلاثين ص 275
..........
سألني فلم أوثره.
و الفاقة: الحاجة. يقال: افتاق افتياقا إذا احتاج، و هو ذو فاقة.
و آثرت السّائل إيثارا: أعطيته ما سأل و قدّمته على نفسي و منه قوله تعالى:
«يُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَ لَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ» «1» أي يقدّمون من هاجر إليهم على أنفسهم في كلّ شيء من أسباب المعاش.
روى ثقة الإسلام بسنده إلى أبان بن تغلب، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قلت:
أخبرني عن حق المؤمن على المؤمن. فقال: يا أبان. دعه لا ترده، قلت: بلى جعلت فداك. فلم أزل اردّد عليه، فقال: يا أبان، تقاسمه شطر ما لك ثمّ نظر إليّ فرأى ما دخلني فقال: يا أبان، أ ما تعلم أنّ اللّه عزّ و جلّ قد ذكر المؤثرين على أنفسهم؟
قلت: بلى جعلت فداك فقال: إذا قاسمته فلم تؤثره بعد إنّما أنت و هو سواء إنّما تؤثره إذا أعطيته من النصف الآخر «2».
و بسنده عن عليّ بن سويد السائي، عن أبي الحسن موسى عليه السّلام قال:
قلت له أوصني، فقال: آمرك بتقوى اللّه، ثمّ سكت، فشكوت إليه قلّة ذات يدي و قلت: و اللّه لقد عريت حتى بلغ من عريتي أن أبا فلان نزع ثوبين كانا عليه و كسانيهما فقال: صم و تصدّق. قلت: أتصدّق ممّا وصلني به أخواني. قال تصدّق بما رزقك اللّه و لو آثرت على نفسك «3».
قوله عليه السّلام: «و من حق ذي حق لزمني فلم أوفره» أي: و من إهمال حقّ ذي حقّ، أو منع حق ذي حق لزمني فلم أو فرّه عليه أي لم أوفه إيّاه.
يقال: و فرّت على فلان حقه توفيرا: أي وفيته إيّاه.
قال الفيّوميّ في المصباح: وفّرت عليه حقه توفيرا، أعطيته الجميع فاستوفره،
__________________________________________________
(1) سورة الحشر: الآية 9.
(2) الكافي: ج 2 ص 171- 172 ح 8.
(3) الكافي: ج 4 ص 18 ح 2.
285
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثامن و الثلاثين ص 275
..........
أي استوفاه «1».
و في المغرب: وفّرت على فلان حقّه فاستوفره: أي وفيته إيّاه فاستوفاه «2».
و وقع لصاحب القاموس: في هذه الكلمة و هم عجيب، و غلط غريب، فإنّه رأى الجوهريّ قال: و وفّر عليه حقّه توفيرا و استوفره: أي استوفاه «3»، فتوهّم أنّ قوله: أي استوفاه تفسير لوفّر و استوفر معا.
فقال في القاموس: استوفر عليه حقّه استوفاه كوفّره «4».
و هو غلط بلا شك أوقعه فيه سوء فهمه لعبارة الجوهريّ. و لم يقصد الجوهريّ بقوله: «أي استوفاه» إلّا تفسير استوفره فقط. و تبع في ذلك خاله أبا إبراهيم الفارابيّ في ديوان الأدب، فإنّه قال في باب التفعيل من كتاب المثال. وفّر عليه حقه «5» و لم يفسّره، ثمّ قال في باب الاستفعال: و استوفر أي استوفى «6»، فجمع الجوهريّ بين العبارتين. و هو كثيرا ما ينقل عنه عبارته بنصّها كما يظهر لمن تتبّع الكتابين.
و اعلم أنّ النسخ من الصحيفة الشريفة اختلفت في هذه الفقرة من الدعاء فوقع في بعضها «و من حق لزمني فلم أوفره» بدون إضافته إلى ذي حقّ، و في بعضها و من حق ذي حق لزمني فلم أوفّره بإضافة حقّ إلى ذي حقّ، و في بعضها: و من حقّ ذي حق لزمني لمؤمن بزيادة لمؤمن.
فقال بعضهم: لمّا كان الحقّ يطلق على الأمر الثابت المتحقّق في نفس الأمر، و على ما يستحقّه ذو حقّ، أي يستوجبه شرعا أو عقلا كان قوله: «ذي حقّ» احترازا عن المعنى الأوّل. لأنّ المعنى الثاني هو المراد. فقوله: حق ذي حقّ بمنزلة حقّ من
__________________________________________________
(1) المصباح المنير: ص 919.
(2) المغرب: ج 2 ص 256.
(3) الصحاح: ج 2 ص 847.
(4) القاموس المحيط: ج 2 ص 155.
(5) ديوان الأدب للفارابي: ج 3 ص 273.
(6) ديوان الأدب للفارابي: ج 3 ص 282.
286
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثامن و الثلاثين ص 275
..........
حقوق الناس انته.
و الحقّ أن إضافة حق إلى ذي حق ليس للاحتراز عن الحقّ بمعنى الثابت المتحقّق في نفس الأمر لأنّ قوله: لزمني فلم أوفّره معيّن أنّ المراد المستحقّ للغير فلا احتمال لمعنى آخر، و إنّما الإضافة على النسخة التي وقعت فيها لقصد تعظيم شأن المضاف ببيان أنّ له صاحبا مطالبا له، فإنّ تعظيم الذنب حال الاعتراف و الاعتذار أدعى لقبول التوبة. و يؤكّد هذا المعنى الوصف بذي دون صاحب، لاقتضائها تعظيم الموصوف بها و ما أضيفت إليه، بخلاف صاحب. و تضمّن الإضافة تعظيم المضاف أو المضاف إليه أو غيرهما أو غير ذلك من النكت المنصوص عليها في علم المعاني لا يختص بالإضافة إلى المعرفة، كما نبه عليه العلّامة نجم الدين الكرمانيّ في شرح التبيان.
أمّا النسخة الثالثة التي وقعت فيها زيادة لمؤمن فقيل «لمؤمن» متعلّق بمحذوف، و هو حال من حقّ المضاف لذي حقّ، أي من حقّ ذي حقّ لزمني حال كونه «لمؤمن». و لا يجوز أن يكون بدلا من ذي حقّ لمكان اللام انته.
و هذا غلط صريح: فإنّ الحال يجب أن يكون عين صاحبها، لأنّها خبر في المعنى.
فكما يجب أن يكون الخبر عين المبتدأ، فكذلك الحال، ألا ترى أنّ الراكب من «جاء زيدا راكبا» هو زيد بعينه، كما أنّ الرّاكب من زيد راكب كذلك. و ليس الكائن لمؤمن هو حقّ ذي حقّ كائنا من كان بعينه فكيف يصحّ جعله حالا منه.
و الصواب: أنّ قوله: لمؤمن ظرف لغو متعلّق بلزمني. و الجملة مفسّرة، لحقّ ذي حقّ، و لا محلّ لها من الإعراب، كما هو رأي الجمهور، خلافا للشلوبين. و نظير ذلك قوله تعالى: «إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» «1». فقوله: « «خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ» و ما بعده تفسير لمثل آدم باعتبار الخروج عن
__________________________________________________
(1) سورة آل عمران: الآية 59.
287
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثامن و الثلاثين ص 275
..........
مستمرّ العادة، و هو التولّد بين الأبوين، لا باعتبار ما يعطيه ظاهر اللّفظ من كونه قدّر جسدا من طين ثمّ كوّن «1».
فان قلت: ما فائدة تقييد الحق بكونه لمؤمن؟ فإنّ توفير الحقّ على صاحبه واجب- سواء كان مؤمنا أو كافرا-.
كما ورد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: أدّوا الأمانات إلى أهلها و لو كانوا مجوسا «2».
إلى غير ذلك من النصوص الصريحة في هذا المعنى.
قلت: ليس المراد بالحقّ- إذا قيّد بالمؤمن- إلّا أحد الحقوق التي توجبها أخوّة الإيمان.
و هو الذي أشار إليه أبو عبد اللّه عليه السّلام: بقوله: ما عبد اللّه بشيء أفضل من أداء حقّ المؤمن «3».
و قد عقد له في الكافي بابا و ترجمه بباب حقّ المؤمن على أخيه و أداء حقّه «4».
فممّا رواه في هذا الباب بإسناده عن معلّى بن خنيس عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قلت له: ما حقّ المسلم على المسلم؟ قال: له سبع حقوق واجبات، ما منهن حق إلّا و هو عليه واجب، إن ضيّع منها شيئا خرج من ولاية اللّه و طاعته، و لم يكن للّه فيه نصيب. قلت له: جعلت فداك، و ما هي؟ قال: يا معلى إني عليك شفيق، أخاف أن تضيّع و لا تحفظ و تعلم و لا تعمل قال قلت: لا قوّة إلّا باللّه، قال: أيسر حقّ منها أن تحبّ له ما تحبّ لنفسك، و تكره له ما تكره لنفسك.
و الحقّ الثاني، أن تجتنب سخطه، و تتبع مرضاته، و تطيع أمره. و الحقّ الثالث، أن تعينه بنفسك و مالك و لسانك و يدك و رجلك. و الحقّ الرابع، أن تكون عينه و دليله
__________________________________________________
(1) مغني اللبيب: ص 522.
(2) وسائل الشيعة: ج 13 ص 223.
(3) الكافي: ج 2 ص 170 ح 4.
(4) الكافي: ج 2 ص 169.
288
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثامن و الثلاثين ص 275
..........
و مرآته. و الحقّ الخامس، أن لا تشبع و يجوع، و لا تروى و يظمأ، و لا تلبس و يعرى.
و الحق السادس، أن يكون لك خادم و ليس لأخيك خادم. فواجب عليك أن تبعث خادمك فيغسل ثيابه، و يصنع طعامه، و يمهّد فراشه. و الحقّ السابع، أن تبرّ قسمه، و تجيب دعوته، و تعود مريضه، و تشهد جنازته، و إذا علمت أن له حاجة تبادره إلى قضائها، و لا تلجئه إلى أن يسألكها، و لكن تبادره مبادرة، فإذا فعلت ذلك وصلت ولايتك بولايته و ولايته بولايتك «1».
و عن أبي جعفر عليه السّلام: من حقّ المؤمن على أخيه أن يشبع جوعته، و يواري عورته، و يفرّج عنه كربته، و يقضي دينه، و إذا مات خلفه في أهله و ولده «2».
و عن معلّى بن خنيس قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن حق المؤمن، فقال: سبعون حقا، لا أخبرك إلّا بسبعة فإني عليك مشفق، أخشى أن لا تحتمل.
فقلت: بلى إن شاء اللّه تعالى، فقال: لا تشبع و يجوع، و لا تكتسي و يعرى، و تكون دليله و قميصه الذي يلبسه، و لسانه الذي يتكلم به، و تحبّ له ما تحبّ لنفسك، و إن كانت لك جارية بعثتها لتمهد فراشه، و تسعى في حوائجه بالليل و النهار. فإذا فعلت ذلك وصلت ولايتك بولايتنا، و ولايتنا بولاية اللّه «3».
و عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: ما أعظم حقّ المسلم على أخيه المسلم «4».
و عنه عليه السّلام: من حق المؤمن على المؤمن: المودّة له في صدره، و المواساة له في ماله، و الخلف له، في أهله، و النصرة على من ظلمه، و إن كان نافلة، في المسلمين و كان غائبا أخذ له بنصيبه، و إذا مات الزيارة إلى قبره، و أن لا يظلمه، و أن لا يغشه، و أن لا يخونه، و أن لا يخذله، و أن لا يكذبه، و أن لا يقول له أف، و إن قال له أف
__________________________________________________
(1) الكافي: ج 2 ص 169 ح 2.
(2) الكافي: ج 2 ص 169 ح 1.
(3) الكافي: ج 2 ص 174 ح 14.
(4) وسائل الشيعة: ج 8 ص 545 ح 8.
289
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثامن و الثلاثين ص 275
..........
فليس بينهما ولاية، و إذا قال له: أنت عدوّي فقد كفر أحدهما، و إذا: اتّهمه انماث الإيمان في قلبه كما ينماث الملح في الماء «1».
و روى الشيخ زين الملّة و الدين- قدّس اللّه سرّه- في رسالة الغيبة، بسند له متّصل عن أمير المؤمنين صلوات اللّه و سلامه عليه أنه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: للمؤمن على أخيه ثلاثون حقا، لا براءة له منها إلّا باداء أو بالعفو يغفر زلّته، و يرحم غربته، و يستر عورته، و يقيل عثرته، و يقبل معذرته، و يردّ غيبته، و يديم نصيحته، و يحفظ خلّته، و يرعى ذمّته، و يعود مرضته، و يشهد ميته، و يجيب دعوته، و يقبل هديته، و يكافي صلته، و يشكر نعمته، و يحسن نصرته، و يحفظ حليلته، و يقضي حاجته، و يشفع مسألته، و يسمت عطسته، و يرشد ضالّته، و يردّ سلامه، و يطيب كلامه، و يبرّ أنعامه، و يصدّق أقسامه، و يواليه، و لا يعاديه، و ينصره ظالما و مظلوما، فأما نصرته ظالما فيرده عن ظلمه. و أمّا نصرته مظلوما فيعينه على أخذ حقّه، و لا يسلمه، و لا يخذله، و يجب له من الخير ما يحبّ لنفسه، و يكره له من الشرّ ما يكره لنفسه. ثمّ قال عليّ عليه السّلام: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: إن أحدكم ليدع من حقوق أخيه شيئا فيطالبه به يوم القيامة فيقضى له عليه «2».
و الرّوايات عنهم عليهم السّلام في هذا المعنى كثيرة، و في هذا المقدار كفاية إن شاء اللّه تعالى. و اللّه المستعان.
[ 1042] قوله عليه السّلام: «و من عيب مؤمن ظهر لي فلم أستره» أي و من إظهار عيب مؤمن.
قال الراغب: العيب و العاب: الأمر الذي يصير به الشيء عيبة أي مقرا
__________________________________________________
(1) الكافي: ج 2 ص 171 ح 7.
(2) كشف الريبة في أحكام الغيبة: ص 115.
290
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثامن و الثلاثين ص 275
..........
للنقص «1».
و عن أبي عبد اللّه عليه السّلام حدّثني أبي، عن آبائه عن عليّ عليه السّلام عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: أدنى الكفر أن يسمع الرجل عن أخيه الكلمة، فيحفظها عليه يريد أن يفضحه بها، أولئك لاخلاق لهم «2».
و عنه عليه السّلام: حدّثني أبي، عن آبائه، عن عليّ عليه السّلام قال: من قال في مؤمن ما رأت عيناه و سمعت أذناه ممّا يشينه، و يهدم مروّته فهو من الذين قال اللّه عزّ و جلّ إنّ الذين يحبّون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب اليم في الدّنيا و الآخرة «3».
قوله عليه السّلام: «و من كلّ إثم عرض لي فلم أهجره» أي: و من ارتكاب كلّ إثم.
و عرض له الأمر عرضا: أمكنه أن يفعله كأنّه أبدى له عرضه و هجرت الشيء هجرا: تركته و رفضته.
و قال الراغب: الهجر: مفارقة الإنسان غيره إمّا بالبدن أو باللسان أو بالقلب «4».
و قوله تعالى: «وَ الرُّجْزَ فَاهْجُرْ» «5» حثّ على المفارقة بالوجوه كلّها. و يوجد في بعض النسخ: «و من شيخ مؤمن عاشرته فلم اوقّره» أي و من احتقار شيخ مؤمن. و الشيخ:
يقال لمن طعن في السّن.
و في القاموس: الشيخ و الشيخون: من استبانت فيه السنّ أو من خمسين أو من إحدى و خمسين إلى آخر عمره أو إلى الثمانين «6».
__________________________________________________
(1) المفردات: ص 351.
(2) كشف الريبة عن احكام الغيبة: ص 130.
(3) كشف الريبة عن احكام الغيبة: ص 130.
(4) المفردات: ص 536.
(5) المدثر: الآية 5.
(6) القاموس المحيط: ج 1 ص 263.
291
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثامن و الثلاثين ص 275
أعتذر إليك يا إلهي منهنّ، و من نظائر هنّ اعتذار ندامة، يكون واعظا لما بين يديّ من أشباههنّ، فصلّ على محمّد و آله، و اجعل و قال الراغب: و قد يعبّر به فيما بيننا عمّن يكثر علمه، لما كان من شأن الشيخ أن يكثر تجاربه و معارفه، يقال شيخ بيّن الشيخوخة و التشيخ «1».
و عاشرته معاشرة: خالطته.
و وقّرته توقيرا: عظمته. و هو من الوقار بمعنى العظمة و السّكون و الحلم.
و في الحديث عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: إن من إجلال اللّه تعالى إجلال الشيخ الكبير «2».
و عنه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: من عرف فضل كبير لسنّه، فوقّره آمنه اللّه من فزع يوم القيامة «3».
و عنه عليه السّلام: من إجلال اللّه إجلال المؤمن ذي شيبة، و من أكرم مؤمنا فبكرامة اللّه بدأ، و من استخف بمؤمن ذي شيبة أرسل اللّه إليه من يستخفّ به قبل موته «4».
و عنه عليه السّلام: ليس منّا من لم يوقّر كبيرنا، و يرحم صغيرنا «5».
و عنه عليه السّلام: ثلاثة لا يجهل حقهم إلّا منافق معروف بالنفاق ذو الشيبة في الإسلام، و حامل القرآن، و الإمام العادل «6».
[ 1043] جملة: «أعتذر» في محلّ رفع على البدليّة من الجملة الواقعة خبرا لأن في قوله:
«اللّهمّ إنّي أعتذر إليك».
و الضمير في «منهنّ» و نظائرهنّ عائد إلى السّيئات المذكورة.
و النظائر: جمع نظيرة مؤنّث نظير، و هو المثل مأخوذ من المناظرة. كأنّ كلّ واحد
__________________________________________________
(1) المفردات: ص 270.
(2) وسائل الشيعة: ج 8 ص 466 ح 1.
(3) وسائل الشيعة: ج 8 ص 467 ح 9.
(4) وسائل الشيعة: ج 8 ص 467 ح 4.
(5) وسائل الشيعة: ج 8 ص 467 ح 3.
(6) وسائل الشيعة: ج 8 ص 467 ح 5.
292
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثامن و الثلاثين ص 275
ندامتي على ما وقعت فيه من الزلّات، و عزمي على ترك ما يعرض لي من السّيّئات، توبة توجب لي محبّتك، يا محبّ التّوّابين.
منهما ينظر إلى صاحبه، فيباريه.
و الندامة: الندم. و هو تمنّي الإنسان أنّ ما وقع منه لم يقع.
و قيل: التحسّر من تغيّر رأي في أمر فائت. و أصله من منادمة الحزن له.
و الوعظ: زجر مقترن بتخويف. و إسناده إلى الاعتذار مجاز عقليّ، من باب الإسناد إلى السبب الغائيّ، أي يكون عقلي واعظا من أجله و بسببه، لما بين يديّ من أشباههنّ، كقولك: «أقدمني بلدك حقّ لي على فلان»، أي أقدمتني نفسي لأجل حقّ لي عليه.
و بين اليدين: حقيقة في المكان، ثمّ اشتهر للزّمان مستعارا. فتارة يطلق على الماضي المتقدّم، و منه قوله تعالى: «وَ هذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ» «1» أي من الكتب السماويّة التي قبله.
قال الطيّبيّ: بين اليدين استعارة تمثيلية. و الأصل فيه بين الجهتين المسامتتين لليمين و الشمال، ثمّ استعمل في ظرف المكان بمعنى قدّام، ثمّ في ظرف الزمان بمعنى قبل، و تارة يطلق على المستقبل المتأخّر، لأنّ الإنسان مستقبل لما سيأتي، فكأنه بين يديه. و منه قول الشاعر:
ترفّق بدمعك لا تفنه ... فبين يديك بكاء طويل.
و قال القاضي في قوله تعالى: «يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ»* ما قبلهم و ما بعدهم أو بالعكس، لأنّه مستقبل المستقبل، و مستدبر الماضي «2» انته.
و هذا المعنى هو المراد هنا. أي واعظا لما يكون في المستقبل من أشباه السيّئات المذكورة، و يحتمل أن يكون المراد لما هو بالقرب منّي من أشباههنّ.
__________________________________________________
(1) سورة الأنعام: الآية 92.
(2) أنوار التنزيل و أسرار التأويل: ج 1 ص 133.
293
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثامن و الثلاثين ص 275
..........
قال الراغب: يقال هو بين يديك أي قريبا منك «1» انته.
و منه قوله تعالى: «إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ» «2» كأنّ العذاب تال له، و هو منذر له بوصوله، ماش «3» قدّامه.
و «من» في قوله: «من أشباههنّ» مبيّنة لقوله: «لما بين يديّ».
و إيقاع الوعظ على أشباه السيّئات المذكورة مجاز حكمي أيضا، و إنّما الغرض أن يكون واعظا له من ارتكاب ما يستقبله من أشباههن، فوقع الوعظ على السيئات للدلالة على المبالغة، كقوله تعالى: «وَ لا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ» «4» و قوله: «وَ أَطِيعُوا أَمْرِي» «5».
قال الزمخشريّ: جعل الأمر مطاعا على المجاز الحكمي، و المراد الأمر كقولهم:
إمرة مطاعة «6» انته.
و حاصله: أنّ السيئات لمّا كان سببا موجبا للوعظ، و الأمر سببا موجبا للإطاعة، أوقع الفعل عليهما قصدا للمبالغة.
و من زعم أن اللام من قوله: «لما بين يديّ» للتعليل فقد تكلّف. و مآل هذه الفقرة من الدّعاء إلى أنّ اعتذاره هنا «7» ثابت مستمرّ، زاجر له عن ارتكاب أشباه هذه الجرائم، فيما يستقبله من الزمان.
[ 1044] و «الفاء» من قوله: «فصلّ» سببيّة.
و وقعت فيه من الزلّات: أي سقطت، و الزّلات: جمع زلّة.
قال الراغب: الزلّة في الأصل استرسال الرجل من غير قصد. و قيل للذنب من غير قصد زلّة، تشبيها بزلّة الرجل، قال تعالى: «فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ
__________________________________________________
(1) المفردات: ص 68.
(2) سورة سبأ: الآية 46.
(3) «ألف»: ما بين.
(4) سورة الشعراء: الآية 151.
(5) طه: الآية 90.
(6) تفسير الكشاف: ج 3 ص 328.
(7) «ألف»: هذا.
294
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثامن و الثلاثين ص 275
..........
الْبَيِّناتُ»» «1» «2».
[ 1045] و الوجوب: الثبوت، يقال: أوجبت له ذلك أي أثبته له.
و محبتك: أي محبتّك لي، بدليل قوله: «يا محبّ التّوابين». و قد تقدّم الكلام على بيان محبّته تعالى لعباده مستوفى في الروضة السادسة فاغنى من الاعادة.
و قوله عليه السّلام: «يا محبّ التوّابين» تلميح إلى قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَ يُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ» «3» و قد مرّ الكلام عليه في الروضة الحادية و الثلاثين فليرجع إليه.
قال بعض العلماء: اعلم أنّ للمذنب التائب- إذا تاب توبة نصوحا- فضيلة على من لم يذنب من ثلاثة أوجه.
الأوّل: من جرّب العيوب و الذنوب، و عرف مداخل الشيطان على الإنسان يكون أهدى إلى الاحتراز. فقد قيل لحكيم: «فلان لا يعرف الشر». فقال: ذاك أجدر أن يقع فيه.
الثاني: أنّ المذنب التائب محتشم، فقد غلب الخوف على قلبه، فيأتي باب مولاه خزيان منكسرا. و من لم يذنب ربما يعجب بنفسه، و يدلّ بفعله، و ليس خدمة من عصى ملكا، و خرج عليه خارجيّا «4» ثمّ عاد إليه وجلا، فتجوفي عنه، كخدمة من أدلّ بطاعته.
الثالث: أنّ التائب حلب الدهر شطريه، خيره و شرّه و حلوه و مرّه، فهو أرفق بالمذنبين، و أوفق لهم، و أصلح للرئاسة ممّن يظنّ أنّ الذنب شيء خارج عن طبيعة الإنسان «5»، فيعجب بنفسه، و يزري بغيره.
__________________________________________________
(1) سورة البقرة: الآية 209.
(2) المفردات: ص 214.
(3) سورة البقرة: الآية 222.
(4) هكذا في النسخ، و الصحيح خارجيّ.
(5) «ألف»: الإنسانيّة.
295
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء الثامن و الثلاثين ص 275
..........
و سئل سعيد بن جبير: من أعبد النّاس، فقال رجل: اجترح الذنوب فكلّما ذكر ذنوبه احتقر عمله «1». و اللّه أعلم. [] هذا آخر الروضة الثامنة و الثلاثين من رياض السالكين، وفّق اللّه لإتمامها و اجتلاء حسن ختامها أصيل يوم الاثنين لثمان بقين من ذي القعدة الحرام، و اللّه الموفّق للتمام و للّه الحمد.
__________________________________________________
(1) ربيع الأبرار: المخطوط ص 46 باب الجنايات. و الذنوب و ما يتعلق بها من العفو و العقاب.
296
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
الروضة التاسعة و الثلاثون ص 297
الروضة التاسعة و الثلاثون
297
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
و كان من دعائه عليه السلام في طلب العفو و الرحمة ص 299
و كان من دعائه عليه السّلام في طلب العفو و الرّحمة
اللّهمّ صلّ على محمّد و آله و اكسر شهوتي عن كلّ محرم و ازو حرصى عن كلّ ما ثم و امنعني عن أذى كلّ من مؤمن و مؤمنة و مسلم و مسلمة اللّهمّ و ايّما عبد نال منّى ما حظرت عليه و انتهك منّى ما حجرت عليه فمضى بظلامتى ميّتا او حصلت لي قبله حيّا فاغفر له ما المّ به منّى و اعف له عمّا ادبر به عنّى و لا تقفه على ما ارتكب فيّ و لا تكشفه عمّا اكتسب بي و اجعل ما سمحت به من العفو عنهم و تبرّعت به من الصّدقة عليهم ازكى صدقات المتصدّقين و أعلى صلات المتقرّبين و عوّضنى من عفوى عنهم عفوك و من دعائي لهم رحمتك حتّى يسعد كلّ واحد منّا بفضلك و ينجو كلّ منّا بمنّك اللّهمّ و ايّما عبد من عبيدك ادركه منّى درك او مسّه من ناحيتى أذى او لحقه بي او بسببي ظلم ففتّه بحقّه او سبقته بمظلمته فصلّ على محمّد و آله و ارضه عنّى من وجدك و أوفه حقّه من عندك ثمّ قنى ما يوجب له حكمك و خلّصني ممّا يحكم به عدلك فانّ قوّتي لا تستقلّ بنقمتك و انّ طاقتى لا تنهض بسخطك فانّك ان تكافني بالحقّ تهلكنى و الّا تغمّدنى
299
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
و كان من دعائه عليه السلام في طلب العفو و الرحمة ص 299
برحمتك توبقنى اللّهمّ إنّى استوهبك يا إلهي ما لا ينقصك بذله و استحملك ما لا يبهضك حمله استوهبك يا إلهي نفسي الّتي لم تخلقها لتمتنع بها من سوء او لتطرّق بها إلى نفع و لكن انشاتها اثباتا لقدرتك على مثلها و احتجاجا بها على شكلها و استحملك من ذنوبي ما قد بهظنى حمله و استعين بك على ما قد فدحنى ثقله فصلّ على محمّد و اله و هب لنفسي على ظلمها نفسي و وكلّ رحمتك باحتمال اصرى فكم قد لحقت رحمتك بالمسيئين و كم قد شمل عفوك الظّالمين فصلّ على محمّد و آله و اجعلني أسوة من قد انهضته بتجاوزك عن مصارع الخاطئين و خلّصته بتوفيقك من ورطات المجرمين فاصبح طليق عفوك من اسار سخطك و عتيق صنعك من وثاق عدلك انّك ان تفعل ذلك يا إلهي تفعله بمن لا يجحد استحقاق عقوبتك و لا يبرّئ نفسه من استيجاب نقمتك تفعل ذلك يا إلهي بمن خوفه منك أكثر من طمعه فيك و بمن يأسه من النّجاة او كد من رجائه للخلاص لا أن يكون يأسه قنوطا او أن يكون طمعه اغترارا بل لقلّة حسناته بين سيّئاته و ضعف حججه في جميع تبعاته فامّا أنت يا إلهي فاهل ان لا يغترّ بك
300
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
و كان من دعائه عليه السلام في طلب العفو و الرحمة ص 299
الصّدّيقون و لا ييأس منك المجرمون لأنّك الرّبّ العظيم الّذي لا يمنع احدا فضله و لا يستقصى من أحد حقّه تعالى ذكرك عن المذكورين و تقدّست اسماؤك عن المنسوبين و فشت نعمتك في جميع المخلوقين فلك الحمد على ذلك يا ربّ العالمين
301
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
مقدمة الشارح ص 302
مقدمة الشارح
[] (الروضة التاسعة و الثلاثون) بسم اللّه الرحمن الرحيم و إيّاه نستعين الحمد للّه المطلوب عفوه و غفرانه، المسئول رحمته و إحسانه، و الصلاة و السّلام على نبيّه محمّد العليّ شأنه، و على آله الذين هم أنصار الحقّ و أعوانه.
و بعد فهذه الروضة التاسعة و الثلاثون من رياض السالكين، في شرح صحيفة سيّد العابدين صلّى اللّه عليه و على آبائه و أبنائه الخلفاء الراشدين، إملاء راجي فضل ربّه السنيّ عليّ صدر الدين الحسيني الحسني، أناله اللّه عفوه و رحمته، و فرّج عليه من ضيق الكروب رحمته.
302
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء التاسع و الثلاثين ص 303
شرح الدعاء التاسع و الثلاثين
و كان من دعائه عليه السّلام: في طلب العفو و الرحمة.
العفو: التجاوز عن الذنب و ترك العقاب.
قال ابن الأثير: و أصله المحو و الطمس. و منه عفت الريح الأثر إذا محته «1».
و قال الراغب: العفو: القصد لتناول الشيء. يقال: عفاه و اعتفاه: أي قصده متناولا ما عنده، و منه العافي لكلّ طالب رزق من طائر أو بهيمة أو إنسان. و عفت الريح التراب: قصدته متناولة إثارته. و عفت الدار كأنّها قصدت نحو البلى. و عفى الشعر و النبت قصد تناول الزيادة كقولك: أخذ النبت في الزيادة و عفى عنه كأنّه قصد إزالة ذنبه صارفا له عنه. فالمفعول في الحقيقة متروك عن متعلّقه بمضمر.
فالعفو هو التجاوز عن الذنب و ترك العقوبة «2».
و الرحمة: رقّة القلب و انعطاف، أي ميل روحاني يقتضي التفضّل و الإحسان، و إذا وصف اللّه تعالى بها كان المراد بها غايتها أعني التفضّل و الإحسان، لأنّ الرّقّة من الكيفيّات و المزاجيّة التابعة للتأثّر و الانفعال، و اللّه سبحانه منزّه عنها. و هو: إمّا من باب المجاز المرسل، بذكر السبب و إرادة المسبّب، فانّ الرحمة و الرقّة سبب
__________________________________________________
(1) النهاية لابن الأثير: ج 3 ص 265.
(2) المفردات: ص 339.
303
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء التاسع و الثلاثين ص 303
قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:
اللّهمّ صلّ على محمّد و آل محمّد، و اكسر شهوتي عن كلّ محرم، و ازو حرصي عن كلّ مأثم، و امنعني عن أذى كلّ مؤمن و مؤمنة، و مسلم و مسلمة.
التفضّل و الإحسان.
و إمّا على طريقة التمثيل، بأن شبّه حاله تعالى- بالقياس إلى المرحومين في إيصال الخير إليهم- بحال الملك إذا عطف على رعيّته و رقّ لهم، فأصابهم بمعروفه و إنعامه، فاستعير الكلام الموضوع للهيئة الثانية للأولى، من غير أن يتمحّل في شيء من مفرداته. و قس على ذلك سائر الصفات التي لا يصحّ اتّصافه تعالى بها سواء كانت انفعالات كالرحمة و الحياء و الغضب، أو لا كالاستهزاء و المكر، أو الخدع.
و رحمته تعالى: تنقسم إلى عامّة: و هي إفاضة الوجود و ما يليق من الأغراض و الحاجات. و خاصّة: و هي التي تخصّص بعض العبيد بالتقريب إليه سبحانه، و هذه الرحمة هي المطلوبة هنا، فافهم.
[ 1046] كسرت الرجل عن مراده: ثنيته و صرفته. و أصله من كسر العود و نحوه، و هو مجاز مرسل بعلاقة السببيّة، لأنّ الكسر يقتضي تغيّر المكسور عمّا كان عليه، و صرفه عمّا أعدّ له، أي اصرف شهوتي عن كلّ محرم.
و الشهوة: نزوع النفس إلى ما تريده. و عرّفت: بأنّها قوّة نفسانيّة باعثة على جلب النفع. و يقابلها الغضب، و هي قوّة نفسانيّة باعثة على دفع الضرر، و قد تقدّم في الروضة الثامنة بيان أن أصعب القوى النفسانيّة مداواة و إصلاحا القوّة الشهويّة، فانّ قمعها و كسرها عسير جدّا، لأنّها أقدم القوى وجودا في الإنسان، و أشدّها به تشبّثا، و أكثرها منه تمكنّا، فإنّها تولد معه، و توجد فيه قبل قوّة الغضب، و قبل قوّة الفكر و النطق و التمييز «1». و لذلك بدأ عليه السّلام الدعاء بسؤال كسرها و صرفها
__________________________________________________
(1) «ألف»: التميّز.
304
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء التاسع و الثلاثين ص 303
..........
عن كلّ محرم، و لأنّ الإنسان لا يصير حرّا تقيّا و غنيّا و سخيّا إلّا بقمعها و إماتتها كما سبق بيانه، فإنّها إذا قهرت و اميتت، صار العبد ملكا روحانيّا، و إلهيّا ربّانيّا، خارجا عن الفواسق البهيميّة، سارحا في مشارق الأنوار الملكيّة.
و المحرم- بفتح الميم و الراء المهملة المخفّفة-: الحرام، و حقيقة موضع الحرمة. و هو الممنوع منه شرعا.
و في نسخة محرّم- بضمّ الميم و تشديد الرّاء المهملة- و هو اسم مفعول من حرّم اللّه الشيء تحريما: إذا منع منه.
[ 1047] و زويت الشيء: جمعته و قبضته، ثمّ استعمل مجازا في التنحية و الصرف. و منه حديث الدعاء: و ما زويت عني ممّا أحبّ «1» أي صرفته و نحيّته.
و الحرص: فرط الرغبة و الإرادة.
و قيل: طلب الشيء باجتهاد. و منه قوله تعالى: «إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ» «2» أي إن تفرط إرادتك في هدايتهم، أو إن تجتهد في طلب هدايتهم. و قد تقدم الكلام على الحرص مستوفى في الروضة الثامنة.
و المأثم: الإثم. و هو الذنب و هو مصدر ميميّ وضع موضع الاسم.
و قيل: هو الأمر الذي يأثم به الإنسان أي يقع به في الإثم و منعته عن الأمر:
كففته عنه.
و آذاه يؤذيه أذى أذاة و أذيّة: أوقع به مكروها و ضررا في نفسه أو جسمه أو ماله دنيويّا كان أو أخرويّا.
و عطف المسلم و المسلمة على المؤمن و المؤمنة، امّا من باب التتميم بناء على أنّ الإسلام دون الإيمان، أو من باب الترّقي من الأدنى إلى الأعلى بناء على أنّ الإسلام فوق الإيمان.
__________________________________________________
(1) النهاية لابن الأثير: ج 2 ص 320.
(2) سورة النحل: الآية 37.
305
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء التاسع و الثلاثين ص 303
اللّهمّ و أيّما عبد نال منّي ما حظرت عليه، و انتهك منّي ما حجزت عليه، فمضى بظلامتي ميّتا، أو حصلت لي قبله حيّا، فاغفر له ما ألمّ به منّي، و اعف له عمّا أدبر به عنّي، و لا تقفه على ما ارتكب فيّ، و لا تكشفه عمّا اكتسب بي.
قال الراغب: الإسلام في الشرع على ضربين:
أحدهما: دون الإيمان، و هو الاعتراف باللسان. و به يحقن الدّم، حصل معه الاعتقاد أو لم يحصل، و إيّاه قصد بقوله تعالى: قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا «1».
و الثاني: فوق الإيمان، و هو أن يكون مع الاعتراف اعتقاد بالقلب، و وفاء بالفعل، و استسلام للّه تعالى في جميع ما قضى و قدّر، كما ذكر عن إبراهيم عليه السّلام في قوله: إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ «2» و قوله:
إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ «3» و قوله: تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَ أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ «4» أي اجعلني ممّن استسلم لرضاك، و قوله: إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ* «5» أي منقادون للحق مذعنون له «6». انته.
و قد استوفينا الكلام على مباحث الإسلام و الإيمان فيما تقدّم فأغنى عن الإعادة.
[ 1048] «أيّ»: اسم شرط مرفوع بالابتداء.
«و ما»: زائدة لتأكيد الإبهام في أيّ.
و عبد: محفوظ باضافة أيّ إليه. و قيل: «ما» نكرة و «عبد» بدل منها، و الخبر هو جملة نال منّي.
__________________________________________________
(1) سورة الحجرات: الآية 14.
(2) سورة البقرة: الآية 131.
(3) سورة آل عمران: الآية 19.
(4) سورة يوسف: الآية 101.
(5) سورة النمل: الآية 81.
(6) المفردات: ص 240.
306
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء التاسع و الثلاثين ص 303
..........
و قيل: هو جملة الجزاء، و هو قوله: فاغفر له.
و قيل: الشرط مع جزائه هو الخبر، و قد مرّ الكلام على ذلك مستوفى في الروضة الحادية و الثلاثين، فليرجع إليه.
و نال الشيء يناله نيلا: أصابه.
و الحظر: المنع. يقال: حظرته حظرا- من باب قتل- أي منعته و أدّاه بعلى لتضمينه معنى التحريم. و مفعول حظرت محذوف اطرادا، أي حظرته عليه.
و انتهك الرجل الحرمة تناولها بما لا يحلّ.
و حجّر عليه الشيء حجرا- من باب قتل-: حرّمه عليه، و منعه من التصرف فيه. و يقال للممنوع منه: بتحريمه حجر، و منه قوله تعالى: وَ قالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَ حَرْثٌ حِجْرٌ «1».
و في نسخة حجزت عليه بالزاء المعجمة. و هو من الحجز بمعنى الفصل، و يرجع إلى معنى المنع.
و الظلامة- بالضم-: اسم لما يطلبه المظلوم عند الظالم كالمظلمة.
و ميّتا: نصب على الحال.
و «أو» لأحد الأمرين.
و حصل الشيء حصولا- من باب قعد- و حصل لي عليه كذا: ثبت و وجب.
و القبل:- على وزن عنب- بمعنى عند.
قال الفارابيّ في ديوان الأدب: يقال: لي قبل فلان حقّ أي عنده «2».
أي ثبتت لي ظلامتي عنده حال كونه حيّا.
و قول بعضهم: قبله أي من جانبه، تمحّل لا داعي إليه إلّا عدم اطلاعه على ورود قبل بمعنى عند.
__________________________________________________
(1) سورة الأنعام: الآية 138.
(2) ديوان الأدب: ج 1 ص 265.
307
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء التاسع و الثلاثين ص 303
..........
و ألمّ بالذنب إلماما: فعله.
و مني: أي من ظلمني.
[ 1049] و أدبر بالشيء: ذهب به.
قال بعضهم: المراد بما ألمّ به ما أقام عليه من الظلم من الإلمام بالمنزل، و هو النزول به، و بما أدبر به ما فعله من الظلم، ثمّ مضى و انقضى.
و قال آخر: المراد بقوله: «اغفر له ما ألمّ به منّي» ما نزل من البلاء بسبب ظلامتي.
و كلّ هذا تخرّص لا يفهمه ظاهر العبارة، بل الظاهر أنّ المراد بقوله: «ما ألمّ به منّي» ما فعله من ظلمي، و بقوله: «عمّا أدبر به عنّي» ما ذهب به من حقّي، كمال و نحوه يريد التعميم في ما جناه عليه، سواء كان ظلما في نفس و عرض أو مال و قنية. و اللّه أعلم بمراد أوليائه.
و لا تقفه على ما ارتكب فيّ: أي لا تطلعه عليه أو لا تبكّته و لا تقبّح عليه فعله.
قال الجوهريّ: وقفته على ذنبه: أي أطلعته عليه «1».
و قال أبو عبيدة: وقفته على ذنوبه إذا بكّته بها، أي قبّحت عليه فعله لها، و أصله من الوقوف «2».
قال في الأساس: و من المجاز وقفته على ذنبه، و على سوء صنيعه «3».
و ارتكب الذنب ارتكابا: أتاه و فعله.
«و فيّ» أي بسببي، كقوله عليه السّلام: إنّ امرأة دخلت النّار في هرّة حبستها «4»، و ترجع إلى الظرفيّة كأنّ السبب متضمّن للمسبّب تضمّن الظرف
__________________________________________________
(1) الصحاح: ج 4 ص 1440.
(2) لم نعثر عليه في المصباح و اللسان و الصحاح و الأساس و تاج العروس و الأقرب.
(3) أساس البلاغة: ص 686 و الفائق في غريب الحديث و النهاية.
(4) مسند أحمد: ج 2 ص 507.
308
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء التاسع و الثلاثين ص 303
و اجعل ما سمحت به من العفو عنهم، و تبرّعت به من الصّدقة عليهم أزكى صدقات المتصدّقين، و أعلى صلات المتقرّبين، للمظروف.
و لا تكشفه: أي لا تفضحه. يقال: كشفته الكواشف: أي فضحته. و أصله من الكشف و هو الإظهار، و رفع الشيء عمّا يواريه و يغطيه.
«و عن» في قوله: «عمّا اكتسب» سببيّة مثلها في قوله تعالى: وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى «1».
قال الرضيّ: أي نطقا صادرا عن الهوى «2».
فالجارّ و المجرور صفة للمصدر، فعن في مثله تفيد السببيّة كما في قولك: قلت هذا عن علم.
و في القاموس: الكشف كالتكشيف- و كشفته عن كذا تكشيفا: أكرهته على إظهاره «3».
و إرادة هذا المعنى هنا حسنة، أي لا تكرهه على إظهار ما اكتسب فيّ أي بسببي. و يجوز أن تكون «الباء» فيه هي الباء الداخلة على آلة الفعل نحو كتبت بالقلم، و قطعت بالسكين، جعل نفسه في اكتساب الظالم للإثم كالآلة له من حيث إنّ ظلمه مقصور عليه. و اللّه أعلم.
[ 1050] سمح بكذا يسمح بفتحتين سماحا و سماحة: جاد و أعطى و وافق على ما أريد منه، و أسمح بالألف لغة.
و قال الأصمعيّ: سمح- ثلاثيّا- بماله، و أسمح- رباعيّا- بمفاده. و سامحه بكذا أعطاه. و تسامح و أصله الاتّساع، و منه يقال: في الحقّ مسمح: أي متّسع و مندوحة
__________________________________________________
(1) سورة النجم: الآية 3.
(2) شرح الكافية في النحو: ج 2 ص 342.
(3) القاموس المحيط: ج 3 ص 190.
309
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء التاسع و الثلاثين ص 303
و عوّضني من عفوي عنهم عفوك، و من دعائي لهم رحمتك، حتّى يسعد كلّ واحد منّا بفضلك، و ينجو كلّ منّا بمنّك.
عن الباطل «1».
و تبرّع بالأمر: فعله غير طالب عوضا.
و في القاموس: تبرّع بالعطاء تفضّل بما لا يجب عليه «2».
و قال صاحب المحكم: تبرّع بالعطاء أعطى من غير سؤال «3».
و هو موافق لما في الأساس حيث قال: فعل ذلك تبرعا من غير طلب إليه، كأنّه يتكلّف البراعة فيه و الكرم «4».
و تصدّق بكذا: أعطاه صدقة، و هي ما يخرجه الإنسان من ماله على وجه القربة، كالزكاة. لكنّ الصدقة في الأصل يقال للمتبرّع به، و الزكاة للواجب.
و قيل: يسمّى، الواجب صدقة إذا تحرّى صاحبه الصدق في فعله. قال تعالى:
خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً «5». و يقال لما تجافى عنه الإنسان و تركه: من حقّه تصدّق به، و عليه عبارة الدعاء. و منه قوله سبحانه: فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ «6» و قوله تعالى: وَ دِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا «7» فسمّى اعفاءه صدقة.
و الزكاء بالمدّ: النماء و الزيادة، يقال: زكا الزرع إذا حصل منه نموّ و زيادة و منه الزكاة لما يخرجه الإنسان من حق اللّه سبحانه إلى الفقراء، لأنّه سبب يرجى به الزكاء و البركة.
و أعلى: أي أشرف و أفضل.
و الصلات: جمع صلة بالكسر. و أصلها وصل حذفت الواو و عوض منها هاء في
__________________________________________________
(1) المصباح المنير: ص 391. و فيه رباعيّا بقياده.
(2) القاموس المحيط: ج 3 ص 4.
(3) محكم اللغة: ج 2 ص 104.
(4) أساس البلاغة: 37.
(5) سورة التوبة: الآية 103.
(6) سورة المائدة: الآية 45.
(7) سورة النساء: الآية 92.
310
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء التاسع و الثلاثين ص 303
..........
آخرها. يقال: وصله وصلا و صلة- من باب وعد-. و أصله من اتّصال الأشياء بعضها ببعض، ثمّ استعمل في العطاء، فقيل: وصله بألف دينار، أي أعطاه.
و سمّوا العطيّة صلة، وضعا للمصدر موضع الاسم، و عليه عبارة الدعاء، أي أشرف عطايا المتقرّبين.
و تقرّب إلى اللّه بكذا: طلب قربه تعالى بسببه و هو قرب روحانيّ لا بدنيّ.
و منه الحديث القدسيّ: ما تقرّب إليّ عبد بمثل أداء الفرائض «1».
[ 1051] و عوّضه تعويضا: أعطاه عوض ما أخذ منه.
أي اجعل عفوك عنّي عوضا من عفوي عنهم، و رحمتك عوضا من دعائي لهم بالغفران و العفو و الإغماض و الستر.
و (حتّى) يجوز أن تكون تعليليّة مرادفة ل «كي» أي كي يسعد كلّ منّا. و يجوز أن تكون بمعنى «إلى»، فيكون المراد منه حينئذ الدوام.
و سعد فلان يسعد- من باب تعب- في دين أو دنيا سعدا و سعودا: حصلت له السعادة.
و المراد بها هنا السعادة المطلقة و هي السعادة الأخروية، التي هي عبارة عن حسن الحياة في الآخرة، و هي المشار إليها بقوله تعالى: وَ أَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها «2».
و «الباء» من قوله: «بفضلك» إمّا سببيّة، أو للملابسة أي ملتبسا بفضلك.
و نجا من الهلاك ينجو نجاة: خلص.
و منّ عليه يمنّ منّا: أنعم عليه و أحسن إليه.
قال بعضهم: يحتمل أن يكون معنى قوله عليه السّلام «حتى يسعد كلّ منّا بفضلك» أي حتى أسعد أنا بفضلك الذي عوّضتني إيّاه عن عفوي عنه، و يسعد هو
__________________________________________________
(1) مسند أحمد بن حنبل: ج 6 ص 256.
(2) سورة هود: الآية 108.
311
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء التاسع و الثلاثين ص 303
اللّهمّ و أيّما عبد من عبيدك أدركه منّي درك، أو مسّه من ناحيتي أذى، أو لحقه بي أو بسببي ظلم ففته بحقّه، أو سبقته بمظلمته، فصلّ على محمّد و آله و أرضه عنّي من وجدك، و أوفه حقّه من عندك.
بفضلك الذي لو لا عفوي عنه لعاقبته، أو أسعد أنا بعفوي و بما عوّضتني، و ذلك فضل منك، فإنّك أنت الذي وفّقتني للعفو. و سعادته أيضا كائنة بفضلك، فإنّك كما تفضّلت عليّ بالعفو عنه، تفضّلت عليه بعفوي عنه، و قبلت عفوي.
و لعلّ هذا أنسب بقوله عليه السّلام: «و ينجو كلّ منّا بمنك» و اللّه أعلم.
قلت: لا حاجة إلى هذا التمحّل بل تجعل السعادة و النجاة لكلّ منهما غاية لطلبه- عليه السّلام- الغفران و العفو للظالم، و تعويضه عن ذلك عفوه تعالى، و رحمته له. و هو ظاهر لا غبار عليه.
[ 1052] أدركه إدراكا: أي لحقه و هو هنا لحوق معنويّ. و الدرك- بفتحتين- اسم منه.
و منه: لا تَخافُ دَرَكاً وَ لا تَخْشى «1» أي لا تخاف أن يدركك فرعون من خلفك، ثمّ أطلق على ما فيه إثم يلحق به الإنسان، عقوبة، كما سمي ذلك بالتبعة أيضا لما يتبعه من العقوبة. و قد يطلق الدرك و التبعة على الظلامة التي يلحق المظلوم بها الظالم، «2» و يتبعه لأجلها.
و قد يقال الدرك لما يلحق الإنسان من عقوبة التبعة و الإثم. و به فسّر ما ورد في الحديث: و ما أدركه من درك فعليّ خلاصه «3».
قال الزمخشريّ: في الأساس أي ما يلحقه من التبعة «4».
و كلّ هذه المعاني يحسن حمل عبارة الدعاء عليه.
و مسّه الأذى: ناله و أصابه.
__________________________________________________
(1) سورة طه: الآية 77.
(2) «ألف»: او يتبعه.
(3) أساس البلاغة: ص 186.
(4) أساس البلاغة: ص 186.
312
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء التاسع و الثلاثين ص 303
..........
قال الراغب: و المسّ: يقال في كلّ ما ينال الإنسان من أذى، نحو قوله تعالى:
مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَ الضَّرَّاءُ «1» انته.
و أصله من مسّه يمسّه- من باب تعب، و قتل-: إذا أفضى إليه بيده من غير حائل.
و قوله «بي أو بسببي» يريد به ما كان بمباشرتي أنا له، أو ما كان بمباشرة غيري و كنت أنا السبب فيه، فالباء الأولى للإلصاق، لا للسببيّة. و متعلّقها قوله: «ظلم» أي لحقه ظلم ملتصق فعله بي، أو كائن بسببي. و لا داعي لجعل المتعلّق قوله:
«لحقه»، لما علمت غير مرّة من أنّ المصدر إذا لم يكن منحلا إلى أن وصلتها جاز تقديم معموله عليه.
قال ابن هشام: و من ظنّ أنّ المصدر لا يتقدّمه معموله مطلقا فهو واهم «2».
قوله عليه السّلام: «ففتّه بحقه» الفوت: بعد الشيء عن الإنسان بحيث يتعذّر عليه إدراكه.
قال في الأساس: فاتني بكذا سبقني به و ذهب به عنّي «3».
و أصل السبق: التقدم في السير، ثمّ تجوّز به في غيره، فإذا عدّي بالباء كان بمعنى الفوت، يقال سبقه به وفاته به بمعنى.
و إذا عدّي بعلى كان بمعنى الغلبة.
قال في الكشّاف: سبقته على الشيء إذا أعجزته و غلبته عليه و لم تمكّنه منه.
و منه قوله تعالى: ما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ أي إنّا قادرون على ذلك لا تغلبونني عليه «4».
قال بعضهم: قوله عليه السّلام «أو سبقته بمظلمته» عطف تفسيري على قوله:
__________________________________________________
(1) المفردات: ص 467.
(2) راجع مغني اللبيب: ج 1 ص 40.
(3) أساس البلاغة: ص 483.
(4) تفسير الكشاف: ج 4، ص 465.
313
رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين5
شرح الدعاء التاسع و الثلاثين ص 303
..........
«ففتّه بحقّه» أو تأكيد له.
و يأباه العطف ب «أو» فانّ عطف الشيء على مرادفه من خواصّ الواو، دون سائر حروف العطف عند الجمهور خلافا لابن مالك «1»، و استشهاده بقوله تعالى:
«وَ مَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً» «2» مدفوع بحمل الخطيئة على الصغيرة، أو على ما لا عمد فيه، أو على ما بين العبد و بين ربّه، و الإثم على الكبيرة، أو على ما كان عن عمد، أو على مظالم العباد. على أنّ ابن مالك معترف بقلّته.
فالأولى أن تجعل الفقرة الثانية تأسيسا، بحمل الفقرة الأولى على الفوت بحقه في دار الدنيا، بأن يكون قد مات، أو يكون بعيد الدار فلا يمكنه استرداد حقّه، أو يكون ضعيفا عن استرداده، و الفقرة الثانية على السبق بالمظلمة إلى الدار الآخرة، أو بحمل الحقّ في الأولى على غير المظلمة، كحقوق الأخوّة و نحوها، و المظلمة في الثانية على الحق الذي ظلمه إيّاه من مال و نحوه، فانّ التأسيس خير من التأكيد.
و المظلمة: بمعنى الظلامة.
قال في الأساس: عند فلان ظلامتي، و مظلمتي حقّي الذي ظلمنيه «3&