×
☰ فهرست و مشخصات
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

الروضة الثالثة و العشرون ص : 3

الجزء الرابع‏

الروضة الثالثة و العشرون‏

3
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

و كان من دعائه عليه السلام إذا سأل الله العافية و شكرها ص : 5

و كان من دعائه عليه السلام إذا سأل اللّه العافية و شكرها

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلى‏ مُحَمَّدٍ وَ آلِهِ وَ الْبِسْنى‏ عافِيَتَكَ وَ جَلِّلْنى‏ عافِيَتَكَ وَ حَصِّنى‏ بِعَافِيَتِكَ وَ اكْرِمْنِى‏ بِعافِيَتِكَ وَ اغْنِنى‏ بِعافِيَتِكَ وَ تَصَدَّقْ عَلَىَّ بِعَافِيَتِكَ وَ هَبْ لي‏ عافِيَتَكَ وَ افْرِشنى‏ عافِيَتَكَ وَ اصْلِحْ لي‏ عافِيَتَكَ وَ لا تَفَرَّقْ بَيْنى‏ وَ بَيْنَ عافِيَتِكَ فِى الدُّنْيا وَ الاخِرَةِ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلى‏ مُحَمَّدٍ وَ آلِهِ وَ عافِنى‏ عافِيَةً كافِيَةً شافِيَةً عالِيَةً نامِيَةً عافِيَةً تُوَلِّدْ في‏ بَدَنِى الْعافِيَةَ عافِيَةَ الدُّنْيا وَ الاخِرَةِ وَ امْنُنْ عَلَىَّ بِالصِّحَّةِ وَ الْأَمْنِ وَ السَّلامَةِ في‏ دِينى‏ وَ بَدَنى‏ وَ الْبَصيرَةِ في‏ قَلْبي‏ وَ النَّفاذِ في‏ امُورى‏ وَ الْخَشْيَةِ لَكَ وَ الْخَوفِ مِنْكَ وَ القُّوَّةِ عَلى‏ ما امَرْتَنى‏ بِهِ مِنْ طاعَتِكَ وَ الاجْتِنابِ لِما نَهَيْتَنى‏ عَنْهُ مِنْ مَعْصِيَتِكَ اللَّهُمَّ وَ امْنُنْ عَلَىَّ بِالْحَجِّ وَ الْعُمْرَةِ وَ زِيارَةِ قَبْرِ رَسُولِكَ صَلَواتُكَ عَلَيْهِ وَ رَحْمَتُكَ وَ بَرَكاتُكَ عَلَيْهِ وَ عَلى‏ آلِهِ وَ آلِ رَسُولِكَ عَلَيْهِمُ السَّلامُ ابَداً ما أَبْقَيْتَنِى‏ في‏ عامِى هذا وَ في‏ كُلِّ عامٍ وَ اجْعَلْ ذلِكَ مَقْبُولاً مَشْكوُراً مَذْكوُراً لَدَيْكَ مَذْخوُراً عِنْدَكَ وَ انْطِقْ بِحَمْدِكَ وَ شُكْرِكَ و ذِكْرِكَ وَ حُسْنِ الثَّناءِ عَلَيْكَ لِسانِى وَ اشْرَحْ لِمَراشِدِ دِينِكَ قَلبْى‏ وَ اعِذْنى‏ وَ ذُرِّيَّتى‏ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيم وَ مِنْ شَرِّ السّامَّةِ وَ ..........

5
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

و كان من دعائه عليه السلام إذا سأل الله العافية و شكرها ص : 5

الْهامَّةِ وَ الْعامَّةِ وَ اللاَّمَّةِ وَ مِنْ شَرِّ كُلِّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ وَ مِنْ شَرِّ كُلِّ سُلْطانٍ عَنيدٍ وَ مِنْ شَرِّ كُلِّ مُتْرِفٍ حَفيدٍ وَ مِنْ شَرِّ كُلِّ ضَعيفٍ وَ شَديدٍ وَ مِنْ شَرِّ كُلِّ شَريف وَ وَضيعٍ وَ مِنْ شَرِّ كُلِّ صَغيرٍ وَ كَبيرٍ وَ مِنْ شَرِّ كُلِّ قَريبٍ وَ بَعيدٍ وَ مِنْ شَرِّ كُلِّ مَنْ نَصَبَ لِرَسُولِكَ وَ لِأَهْلِ بَيْتِهِ حَرْبًا مِنَ الجِنِّ وَ الْإِنْسِ وَ مِنْ شَرِّ كُلِّ دابَّةٍ انْتَ آخِذٌ بناصِيَتِها انَّكَ عَلى‏ صِراطٍ مُسْتَقيمٍ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلى‏ مُحَمَّدٍ وَ آلِهِ وَ مَنْ ارادَنى بِسُوءٍ فَاصْرِفْهُ عَنّى وَ ادْحَرْ عَنّى‏ مَكْرَهُ وَ ادْرَأْ عَنّى‏ شَرَّهُ وَ رُدَّ كَيْدَهُ في‏ نَحْرِهِ وَ اجْعَلْ بَيْنَ يَدَيْهِ سَدًّا حَتّى‏ تُعْمِىَ عَنّى‏ بَصَرَهُ وَ تُصِمَّ عَنْ ذِكْرى‏ سَمْعَهُ وَ تُقْفِلَ دُونَ اخْطارى‏ قَلْبَهُ وَ تُخْرِسَ عَنِّى‏ لِسانَهُ وَ تَقْمَعَ رَأْسَهُ وَ تُذِلَّ عِزَّهُ وَ تَكْسِرَ جَبَروُتَهُ وَ تُذِلَّ رَقَبَتَهُ وَ تَفْسَخَ كِبْرَهُ وَ تُؤْمِنَنى‏ مِنْ جَميعِ ضَرِّهِ وَ شَرِّهِ وَ غَمْزِهِ وَ هَمْزِهِ وَ لَمْزِهِ وَ حَسَدِهِ وَ عَداوَتِهِ وَ حَبائِلِهِ وَ مَصائدِهِ وَ رَجْلِهِ وَ خَيْلِهِ انَّكَ عَزيزٌ قَديرٌ ..........

6
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

و كان من دعائه عليه السلام إذا سأل الله العافية و شكرها ص : 5

.......... [] بسم اللّه الرحمن الرحيم و به نستعين الحمد للّه الذي إذا مرضت فهو يشفين، و إذا اضطررت فهو يكفين و الصّلاة و السّلام على رسوله أشرف المرسلين، و على أهل بيته عصمة المتوسّلين.

و بعد فهذه الروضة الثالثة و العشرون من رياض السالكين، تتضمّن شرح الدعاء الثالث و العشرين، من صحيفة زين العابدين و سيّد الزاهدين صلّى اللّه عليه و على آبائه و أبنائه الطاهرين، إملاء راجي فضل ربّه السني، عليّ صدر الدين الحسينيّ الحسنيّ، شفاه اللّه و كفاه، و منّ عليه بالعفو و العافية و المعافاة.

7
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء الثالث و العشرين ص : 9

شرح الدعاء الثالث و العشرين‏

وَ كانَ مِنْ دُعائِهِ عَلَيهِ السَّلامُ إذا سَأَلَ اللَّه العافِيةَ وَ شُكرها.

العافية: اسم من عافاه اللّه معافاة أي: أصحّه و محى عنه الأسقام.

و قال الجوهري: و توضع موضع المصدر و يقال: عافاه اللّه عافية «1».

و في القاموس: العافية: دفاع اللّه عن العبد، عافاه اللّه من المكروه و معافاة و عافية: و هب له العافية من العلل و البلايا «2»، انته.

و قال الفيومي: هي مصدر جاءت على فاعلة، و مثلها ناشئة الليل بمعنى نشؤ الليل‏ «3».

و الخاتمة: بمعنى الختم.

و العافية: بمعنى العقب، و قال بعضهم: إطلاق العافية، و نحوها من المصادر التي جاءت على فاعلة، على المصدر من باب المجاز اللغوي، و هو استعمال اللفظ في غير ما وضع له.

قال بعض العلماء: العافية متناولة لدفع جميع المكروهات في النفس و البدن، و الظاهر و الباطن، و في الدين و الدنيا و الآخرة.

و في الحديث ما سأل اللّه شيئا- يعني النبيّ صلّى اللّه عليه و آله- أحبّ إليه من أنّ يسأل اللّه العافية «4»؛ و ذلك لأنّه لفظ جامع لأنواع خير الدارين.

______________________________

 (1) الصحاح: ج 6 ص 2432.

 (2) القاموس المحيط: ج 4 ص 364.

 (3) المصباح المنير: ص 572.

 (4) سنن الترمذي: ج 5 ص 535 ح 3515.

9
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء الثالث و العشرين ص : 9

قال صلوات اللّه عليه:

اللّهُمَّ صَلِّ عَلى‏ مُحَمَّدٍ وَ آلِهِ وَ ألْبِسْني عافِيَتَكَ، وَ جَلِّلْني عافِيَتَكَ، وَ حَصِّنّي بِعافِيَتِكَ، وَ أكْرِمْني بِعافِيَتِكَ، وَ أغْنني بِعافِيَتِكَ، وَ تَصَدَّقْ عَلَيَ‏ و إيقاع الشكر على العافية مجاز عقلي، لكونها سببا فيه، و الأصل: و شكره عليها.

 [ 708] ألبسته الثوب فلبسه.

و جلّله: غطّاه، و هو من جلّل المطر الأرض إذا عمّها و طبقها فلم يدع شيئا إلاّ غطّى عليه. و يتعدّى إلى الثاني بنفسه و بالباء، فيقال: جلّله إيّاه و جلّله به، و من الأوّل ما روي: جلّلهم اللّه خزيا «1».

 [ 709] و حصّن نفسه و ماله تحصينا و أحصنه إحصانا: منعه و حفظه كأنّه أدخله الحصن، و هو المكان الذي لا يقدر عليه لارتفاعه.

و الإكرام: يكون بمعنى الإعزاز و التعظيم، و يكون بمعنى التنزيه.

قال في القاموس: أكرمه و كرّمه: عظّمه و نزّهه‏ «2».

و منه أنا أكرمك عن كذا أي: انزّهك عنه.

و الإغناء: إمّا من الغنى بالكسر و القصر بمعنى الثروة و الجدة، أو من الغناء بالفتح و المدّ بمعنى الكفاية. و قيل: هما بمعنى، و هو ضدّ الفقر.

 [ 710] و تصدّق على الفقراء بكذا: أعطاهم صدقة، و هي العطيّة يبتغي به المثوبة من اللّه.

و المراد بالتصدّق هنا مطلق العطاء دون قيد ابتغاء الثواب، من باب إطلاق الخاص على العام و المقيّد على المطلق مجازا، و آثر التعبير بالتصدّق نظرا إلى فقره و غناه تعالى، من حيث إنّ الصدقة إنما تكون للفقراء من الغني، و فيه شاهد على جواز إطلاق التصدّق على عطائه تعالى خلافا لمن منع ذلك.

قال النظام النيسابوري في تفسيره: منع العلماء أن يقال للّه تعالى: متصدّق، أو

______________________________

 (1) النهاية لابن الاثير: ج 1، ص 289.

 (2) القاموس المحيط: ج 4 ص 170.

10
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء الثالث و العشرين ص : 9

بعافِيَتِكَ، وَ هَبْ لي عافِيَتَكَ، وَ أفْرشْني عافِيَتَكَ وَ أَصْلِحْ لي عافِيَتَكَ، و لا تُفَرِّقْ بَيْني وَ بَيْنَ عافِيَتِكَ في الدُّنْيا وَ الآخِرَةِ.

اللّهم تصدّق علينا، بل يجب أن يقال: اللّهم أعطني أو تفضّل عليّ أو ارحمني، لأنّ الصدقة يرجى بها المثوبة عنداللّه‏ «1»، و هو مستحيل في حقّه جلّ شأنه. و إذا ورد ذلك في كلام المعصوم عليه السّلام فلا عبرة بكلام غيره.

و وهبت لزيد مالا: ملّكته إيّاه بلا عوض.

و أفرشت زيدا إفراشا و فرشته فرشا: بسطته له، و الرواية في الدعاء وردت بالوجهين.

 [ 711] و أصلحت الشي‏ء: أزلت فساده و جعلته منتفعا به.

و فرّقت بين الشيئين تفريقا: مبالغة في فرقت بينهما- من باب قتل- أي:

فصلت، هذا ما عليه الجمهور.

و قال ابن الأعرابي: فرقت بين الكلامين فافترقا مخفّف، و فرّقت بين العبدين فتفرّقا مثقّل فجعل المخفّف في المعاني و المثقّل في الأعيان‏ «2».

و الذي حكاه غيره أنّهما بمعنى، و الثقيل مبالغة.

و اعلم أنّ قوله عليه السّلام: «ألبسني عافيتك و جلّلني عافيتك»، و نحوه من الأفعال التي لا يتعلّق معناها الحقيقي بالعافية، من باب الاستعارة، و هي إمّا استعارة تبعيّة نحوّ: قتل البخل و أحيى السماحا، أو مكنيّة مرشّحة، و لا يبعد جعلها من باب الاستعارة التمثيلية، كما تقدّم التنبيه عليه في نظير ذلك.

و إنّما كرّر لفظ العافية بسؤالها بأنواع الطلب، و وضع الظاهر موضع المضمر فيما سوى الفقرة الأولى، لمزيد العناية و الاهتمام بشأنها، و قرعا لباب الإلحاح المندوب إليه في الدعاء، و تلذّذا للتلفظّ باسمها، و بسطا للخطاب حيث الإصغاء مطلوب.

______________________________

 (1) تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان: ج 2 ص 359.

 (2) المصباح المنير: ص 643.

11
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء الثالث و العشرين ص : 9

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلى‏ مُحَمَّدٍ وَ آلِهِ، وَ عافِني عافِيَةً كافِيَةً شافِيَةً عالِيَةً نامِيَةً، عافِيَةً تُوَلّدُ في بَدَني العافِيَةَ، عافِيَةَ الدُّنْيا وَ الآخِرَةِ.

و يحتمل تخصيص كلّ لفظ منها بمعنى، لأنّها لفظ جامع لخيرات الدارين، بأن يقال: و ألبسني عافيتك من المرض البدني، لأنّ الإلباس للثواب المخصوص للبدن.

و جلّلني عافيتك: من الفضيحة، بدليل التجليل الذي هو بمعنى التغطية و الستر.

و حصّنّي بعافيتك: ممّن يريد بي سوء، بقرينة التحصين.

و أكرمني بعافيتك: من الذلّ و المهانة أو من المعائب و القبائح، بدليل الإكرام بمعنى التعظيم أو التنزيه.

و أغنني بعافيتك: من الفقر و الحاجة، بدليل الإغناء.

و تصدّق عليّ بعافيتك: من الاضطرار إلى صدقة غيرك.

و هب لي عافيتك: من الاحتياج إلى هبة غيرك.

و أفرشني عافيتك: أي مهادها من الخوف، كما يقال: أفرشه مهاد أمنه.

و أصلح لي عافيتك: الحاصلة عندي التي قد أفسدها المرض و نحوه.

و لا تفرّق بيني و بين عافيتك: العامّة في أمور الدنيا و الآخرة.+ [ 712] عافية: منصوب على المفعوليّة المطلقة، مبيّن لنوع عامله لكونه موصوفا.

و كافية: صفة له.

و شافية و ما بعده: يحتمل الوصفيّة و الحاليّة.

و عافية الثانية: بدل من عافية الأولى بدل كلّ، و فائدتها التأكيد و التنصيص على أنّ العافية الموصوفة بالصفات المذكورة هي العافية التي تولّد في بدني العافية.

و قوله: «عافية الدنيا و الآخرة» بدل من العافية بدل الكلّ أيضا، و هو في الموضعين في حكم تكرير العامل، من حيث إنّه المقصود بالنسبة، مفيد لمتبوعه مزيد تأكيد و تقرير و إيضاح و تفسير، كما هو شأن بدل الكلّ من الكلّ.

و معنى كونها كافية أي: مغنية عن الأطباء، أو عن سؤال عافية أخرى معها.

12
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء الثالث و العشرين ص : 9

وَ امْنُنْ عَلَيَّ بِالصِحَّةِ وَ الأمْنِ وَ السَلامَةِ في ديْني وَ بَدَني، وَ البَصيرَةِ و شافية: أي معدّلة للأخلاط، فإنّ معنى الشفاء، رجوع الأخلاط إلى الاعتدال، أو مزيلة للأمراض من شفى اللّه المريض إذا أصحّه.

و عالية: أي رفيعة لا تنالها الأسقام و العلل، أو عالية للمرض قاهرة له، من علا فلان فلانا إذا غلبه و قهره.

و نامية: أي زائدة كثيرة، من نمى الشي‏ء ينمي- من باب رمى- نماء بالفتح و المدّ في لغة، ينمو نموّا- من باب قعد- أي: زاد و كثر.

و تولّد: أي تنشّأ، من تولّد الشي‏ء عن غيره أي: نشأ عنه.

و الألف و اللام في العافية للجنس باعتبار تحقّقه في ضمن جميع أفراده، و هو المعبّر عنه بالاستغراق الحقيقي، و لهذا أبدل منها قوله: «عافية الدنيا و الآخرة»، توضيحا و تفسيرا للشمول المقصود من تعريف العافية، و المعنى تولّد في بدني كلّ عافية دنيويّة و اخرويّة.

أو لاستغراق خصائص الأفراد، أي: العافية الكاملة في معناها، نحو: هو الرجل أي: الكامل في الرجوليّة، و يكون قوله: «عافية الدنيا و الآخرة» لبيان أنّ العافية الكاملة هي الدنيويّة و الاخرويّة، و المراد بالاخرويّة العافية و السلامة من مضارّ الآخرة و آفاتها. و لا ينافيه قوله: «في بدني»، لأنّ الأعمال الحاصلة للإنسان التي تكون سببا للسلامة من أهوال الآخرة و مضارّها، إنّما تحصل عن هذا البدن و تستفاد بواسطته، و اللّه أعلم+.

 [ 713] الصحّة: البرء من المرض، و البراءة من كلّ عيب.

و قال الفيومي الصحة في البدن حالة طبيعيّة تجري أفعاله معها على المجرى الطبيعي، و قد استعيرت للمعاني، فقيل: صحّت الصلاة إذا اسقطت القضاء، و صحّ العقد إذ ترتّب عليه أثره، و صحّ الخبر إذا طابق الواقع‏ «1».

______________________________

 (1) المصباح المنير: ص 454.

13
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء الثالث و العشرين ص : 9

في قَلْبِي، و النفاذِ في امُوري، وَ الخَشْيَةِ لَكَ، وَ الخَوْفِ مِنْكَ، وَ القُوّةِ عَلى‏ ما أمَرْتَني بهِ مِنْ طاعَتِكَ، و الاجْتِناب لِما نَهَيْتَني عنْهُ مِنْ مَعْصِيَتِكَ.

و قال بعضهم: الصحّة حالة أو ملكة تصدر بها الأفعال عن موضعها سليمة، و هي عند الفقهاء عبارة عن كون الفعل مسقطا للقضاء في العبادات، أو سببا لترتّب ثمراته المطلوبة منه عليه شرعا في العبادات، و بإزائه البطلان.

و قيل: هي استتباع الغاية، و بإزائها البطلان و الفساد.

و الأمن: عدم توقّع مكروه في المستقبل.

و السلامة: الخلوص من الآفات.

و دان بالإسلام دينا بالكسر تعبّد به.

و البدن في اللغة: من الجسد ما سوى الرأس و الأطراف.

و قيل: هو ما سوى المقاتل. و المراد به هنا جميع الجسد.

و البصيرة: قوّة القلب المنوّر بنور القدس يرى بها حقائق الأشياء و بواطنها، و هي بمثابة البصر للنفس ترى به صور الأشياء و ظواهرها، و هي التي تسمّيها الحكماء:

العاقلة النظرية و القوّة القدسيّة.

و نفذ في الأمر و القول- من باب قعد- نفوذا و نفاذا: مضى، و أمر نافذ أي:

ماض مطاع. و أصله من نفذ السهم إذا خرق الرمية و خرج منها.

 [ 714] و الخشية: تألم القلب بسبب توقّع مكروه في المستقبل.

و الخوف: بمعناها. و هما يكونان تارة بكثرة الجناية من العبد، و تارة بمعرفة جلال اللّه سبحانه و هيبته، و خشية الأنبياء و الأئمّة و خوفهم من هذا القبيل.

و قال بعضهم: لا يكاد اللغوي يفرّق بين الخوف و الخشية، و لا شكّ أنّ الخشية أعلى منه و هي أشدّ الخوف، فإنّها مأخوذة من قولهم: شجرة خشيّة أي: يابسة و هي فوات بالكلية، و الخوف من ناقة خوفاء: أي بها داء، و هو نقص و ليس بفوات، و لذلك خصّت الخشية باللّه في قوله تعالى: «يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَ يَخافُونَ سُوءَ

14
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء الثالث و العشرين ص : 9

.......... الْحِسابِ» «1».

و فرّق بينهما أيضا بأنّ الخشية تكون من عظم المخشي و إن كان الخاشي قويّا، و الخوف يكون من ضعف الخائف و إن كان المخوف أمرا يسيرا، و يدلّ لذلك أنّ الخاء و الشين و الياء في تقاليبها تدلّ على العظمة، نحو شيخ: للسيد الكبير، و خيش:

لما غلظ من اللباس، و لذا وردت الخشية غالبا في حقّ اللّه‏ «إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ» «2»، انته.

و قد تقدّم في الروضة السادسة عشرة كلام للمحقّق الطوسي طاب ثراه في الفرق بين الخوف و الخشية، فليرجع إليه‏ «3».

قال بعض العارفين: إذا احترقت جميع الشهوات بنار الخوف، ظهر في القلب الذبول و الخشوع و الانكسار، و زال عنه الحقد و الكبر و الحسد، و صار كلّ همّه النظر في خطر العافية، فلا يتفرّغ لغيره، و لا يصير له شغل الا المراقبة و المحاسبة و المجاهدة، و الاحتراز من تضييع الأنفاس و الأوقات، و مؤاخذة النفس في الخطوات و الخطرات، و أمّا الخوف الذي لا يترتّب عليه شي‏ء من هذه الآثار، فلا يستحقّ أن يطلق عليه اسم الخوف، و إنّما هو حديث النفس‏ «4».

و لهذا قال بعض أرباب القلوب: إذا قيل لك: هل تخاف اللّه، فاسكت عن الجواب، فإنّك إن قلت «لا» كفرت، و إن قلت: «نعم» كذبت‏ «5» و القوّة: تمكّن الحيوان من الأفعال الشاقّة، و لا يبعد أن يكون المراد بها هنا الجدّ و العزيمة، كما فسّر به قوله تعالى: «خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ»+ «6»، أي: بعزيمة و جدّ غير

______________________________

 (1) سورة الرعد: الآية 21.

 (2) سورة فاطر: الآية 28.

 (3) ج 3، ص 130.

 (4) المحجّة البيضاء: ج 7 ص 270، و احياء علوم الدين: ج 4 ص 157.

 (5) حياة القلوب في هامش قوت القلوب: ج 2 ص 194.

 (6) سورة البقرة: الآية 63 و 93، و سورة الأعراف: الآية 171.

15
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء الثالث و العشرين ص : 9

اللَّهُمَّ وَ امْنُنْ عَلَىَّ بِالْحَجِّ، وَ الْعُمْرَةِ وَ زِيارَةِ قَبْرِ رَسُولِكَ، صَلَواتُكَ عَلَيْهِ وَ رَحْمَتُكَ وَ بَرَكاتُكَ عَلَيْهِ، وَ عَلى‏ آلِهِ وَ آلِ رَسُولِكَ عَلَيْهِمُ السَّلامُ، ابَداً ما ابْقَيْتَنِي في عامِي هذا وَ في كُلِّ عامٍ، وَ اجْعَلْ ذلِكَ مَقْبُولاً مَشْكوُراً مَذْكوُراً لَدَيْكَ، مَذْخوُراً عِنْدَكَ.

متكاسلين و لا متغافلين.

و عن الصادق عليه السّلام: أنّ المراد بها قوّة الأبدان و القلوب جميعا «1».

و الاجتناب: مطاوع جنّبته الشرّ جنوبا- من باب قعد-: أبعدته و نحيّته عنه فاجتنبه، و منه‏ «وَ اجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ» «2».

و جنّبته بالتثقيل مبالغة، فتجنّبه هو، و معنى منّه تعالى عليه بالاجتناب لما نهاه عنه من المعاصي، حسم أسبابها و عدم الإعداد لها، و اللّه أعلم.+ [ 715] الحجّ لغة: القصد، حجّ حجّا- من باب قتل-: قصد فهو حاجّ، و قيل: هو القصد إلى الشي‏ء المعظم.

و شرعا: قصد بيت اللّه تعالى بصفة مخصوصة في وقت مخصوص بشرائط مخصوصة، و الاسم الحجّ بالكسر.

و العمرة: اسم من الاعتمار، و هو لغة: الزيارة أخذا من العمارة، لأنّ الزائر يعمر المكان بزيارته.

و شرعا: زيارة بيت اللّه الحرام بعمل مخصوص، و هي واجبة عندنا مثل الحجّ، و به قال الشافعي في الجديد، و تسمّى الحجّ الأصغر.

روى ثقة الإسلام في الكافي بسند حسن أو صحيح عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: لمّا أفاض آدم من منى تلقّته الملائكة، فقالوا: يا آدم برّ حجّك، أما أنّه قد حججنا هذا البيت قبل أن تحجّه بألفي عام‏ «3».

______________________________

 (1) مجمع البيان: ج 1- 2، ص 128.

 (2) سورة إبراهيم: الآية 35.

 (3) الكافي: ج 4 ص 194 ح 4.

16
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء الثالث و العشرين ص : 9

.......... و قد ورد في فضل الحجّ و العمرة و ثوابهما من الأخبار ما لا يحصى، فعن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: الحجّة ثوابها الجنّة، و العمرة كفّارة لكلّ ذنب‏ «1».

و عنه عليه السّلام: ضمان الحاجّ و المعتمر على اللّه، إن أبقاه بلغه أهله و إن أماته أدخله الجنّة «2».

و عنه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: تابعوا بين الحجّ و العمرة، فإنّهما ينفيان الفقر و الذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد «3».

و عنه عليه السّلام: الحاجّ و المعتمر وفد اللّه، إنّ سألوه أعطاهم، و إن دعوه أجابهم، و إن شفعوا شفعهم، و إن سكتوا ابتدأهم و يعوّضون بالدرهم ألف درهم‏ «4».

و لمّا كان من المستحبّات المؤكّدة أن يختم الحاجّ حجّه بالورود إلى المدينة المشرّفة، لزيارة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و زيارة أهل بيته سلام اللّه عليهم أجمعين، سأل عليه السّلام ذلك بقوله: «و زيارة قبر رسولك إلى آخره».

روى أبو حجر الأسلمي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: من أتى مكّة حاجّا و لم يزرني في المدينة جفوته يوم القيامة، و من أتاني زائرا وجبت له شفاعتي، و من وجبت له شفاعتي وجبت له الجنّة «5».

و من الأخبار المستفيضة عنه صلّى اللّه عليه و آله: من حجّ و لم يزرني فقد جفاني‏ «6».

______________________________

 (1) الكافي: ج 4 ص 253 ح 4.

 (2) الكافي: ج 4 ص 253 ح 3.

 (3) الكافي: ج 4 ص 255 ح 12.

 (4) الكافي: ج 4 ص 255 ح 14.

 (5) الكافي: ج 4 ص 548 ح 5.

 (6) مستدرك الوسائل ج 2 ص 189 أبواب المزار باب 2 ح 1.

17
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء الثالث و العشرين ص : 9

.......... و بسند صحيح عن أبي جعفر عليه السّلام قال: ابدءوا بمكّة و اختموا بنا «1».

و عن المعلّى أبي شهاب قال: قال الحسين عليه السّلام لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يا أبتا ما لمن زارك؟ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يا بنيّ من زارني حيّا أو ميّتا أو زار أباك أو زار أخاك أو زارك، كان حقّا عليّ أن أزوره يوم القيامة و اخلّصه من ذنوبه‏ «2».

قال شيخنا الشهيد قدّس سرّه في كتاب الدروس: يستحبّ للحاجّ و غيرهم زيارة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بالمدينة استحبابا مؤكّدا، و يجبر الامام الناس على ذلك لو تركوه، لقوله صلّى اللّه عليه و آله: من أتى مكّة حاجّا أو معتمرا و لم يزرني جفوته يوم القيامة، الحديث‏ «3».

قوله عليه السّلام: «صلواتك عليه و رحمتك و بركاتك عليه و على آله» جملة دعائيّة معترضة بين المعطوف و المعطوف عليه لا محلّ لها من الاعراب. و الصلاة من اللّه قيل: المغفرة و الرحمة، و قيل: الثناء، و قيل: الكرامة.

و المراد برحمته تعالى: رحمته التي وسعت كلّ شي‏ء و استتبعت كلّ خير.

و بركاته: خيراته النامية الفائضة منه بواسطة رحمته، المستتبعة لكلّ خير، الواسعة لكلّ شي‏ء.

قال بعضهم: إضافة البركات إليه تعالى باعتبار أنّ البركة، سواء كانت بمعنى الزيادة أو بمعنى الكثرة أو بمعنى الخصب، ناشئة من اللّه تعالى و كائنة بإعطائه. و أتى بالبركات بصيغة الجمع دون الرحمة اقتفاء لقوله تعالى حاكيا عن ملائكته الكرام:

 «قالُوا: أَ تَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَ بَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ» «4».

______________________________

 (1) الكافي: ج 4 ص 550 ح 1.

 (2) الكافي: ج 4 ص 548 ح 4.

 (3) الدروس: ص 151.

 (4) سورة هود: الآية 73.

18
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء الثالث و العشرين ص : 9

.......... روي أن أمير المؤمنين عليه السّلام مرّ بقوم فسلّم عليهم، فقالوا: عليك السّلام و رحمة اللّه و بركاته و مغفرته و رضوانه، فقال: لا تجاوزوا بنا ما قالت الملائكة لأبينا إبراهيم عليه السّلام: رحمة اللّه و بركاته عليكم أهل البيت إنّه حميد مجيد «1».

و اعلم أنّ في أكثر النسخ المستفيضة لفظة «عليه» بعد الصلوات و بعد البركات، فهما جملتان متعاطفتان، أي: صلواتك مستقرّة عليه و رحمتك و بركاتك مستقرّة عليه. و في نسخة ابن إدريس لفظة «عليه» بعد البركات فقط، فهي جملة واحدة.

قوله عليه السّلام: «و آل رسولك عليهم السّلام» عطف على قبر رسولك، أي:

و زيارة قبور آل رسولك. و حذف المضاف للعلم به و لدلالة ما تقدّم عليه.

روي عن أبي الحسن الرضا عليه السّلام: أنّ لكلّ إمام عهدا في عنق شيعته و أوليائه، و أنّ من تمام الوفاء بالعهد و حسن الأداء زيارة قبورهم، فمن زارهم عليهم السّلام رغبة في زيارتهم و تصديقا بما رغبوا فيه، كان أئمتهم شفعاؤهم يوم القيامة «2».

و عن زيد الشحّام، قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: ما لمن زار رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله؟ قال: كمن زار اللّه عزّ و جلّ فوق عرشه، قال: قلت: فما لمن زار أحدا منكم؟ قال: كمن زار رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله‏ «3».

 [ 716] قوله عليه السّلام: «أبدا ما أبقيتني في عامي هذا و في كلّ عام».

الأبد: الدهر الطويل، و قيل: الدهر الطويل: لا حدّ له، و نصبه على الظرف أي: دهرا طويلا، و هو متعلّق بامنن، و ما قيل: من احتمال كونه ظرفا للسلام من قوله: «عليهم السّلام»، ليس بشي‏ء.

______________________________

 (1) مجمع البيان: ج 5- 6 ص 180.

 (2) الكافي: ج 4 ص 567 ح 2.

 (3) الكافي: ج 4 ص 585 ح 5.

19
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء الثالث و العشرين ص : 9

.......... و «ما» من قوله: «ما أبقيتني»: مصدريّة زمانيّة أي: مدّة إبقائي، و الموصول و صلته في موضع نصب، على أنّه بدل أو عطف بيان من قوله «أبدا».

و قوله: «في عامي هذا» متعلّق با منن، قيل: أو بأبقيتني.

و العام: الحول، و هو في تقدير فعل بفتحتين، و لهذا يجمع على أعوام مثل سبب و أسباب.

و في القاموس: العام: السنة «1»، و قد تقدّم في الروضة الأولى عن ابن الجواليقي و صاحب التهذيب: أنّ العام أخصّ من السنة، و أنّ عدم الفرق بينهما غلط، «2» فراجعه.

و قوله: «هذا» صفة للعام بتأويل الحاضر.

و قال ابن السّراج: هو بدل منه‏ «3».

و قال السهيلي: عطف بيان‏ «4» و الأوّل هو الذي عليه الجمهور من البصريين و محقّقوا المتأخّرين.

قوله عليه السّلام: «و اجعل ذلك مقبولا» إلى آخره، ذلك إشارة إلى المذكور من الحجّ و العمرة و الزيارة، و ما فيه من معنى البعد للإشعار بعلوّ درجته و بعد منزلته في الفضل.

و المقبول: المرضي للّه أو المثاب عليه كما تقدّم في معنى المقبول، و يحتمل أن يكون الطلب متوجّها إلى جعله من جملة الأعمال المقرونة بالإخلاص، فكنّى بطلب القبول عن ذلك، فلا يرد أن طلب القبول يدلّ على أن العمل المقرون بالإخلاص‏

______________________________

 (1) القاموس المحيط: ج 4 ص 155.

 (2) المصباح المنير: ص 599- 600.

 (3) لم نعثر عليه.

 (4) لم نعثر عليه.

20
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء الثالث و العشرين ص : 9

وَ أَنْطِقْ بِحَمْدِكَ وَ شَكْرِكَ وَ ذِكْرِكَ وَ حُسْنِ الثَناءِ عَلَيْكَ لِساني، وَ اشْرَحْ لِمَراشِدِ دِينِكَ قَلْبي.

لا يجب ترتّب الثواب عليه و إلاّ لم يكن في طلبه فائدة.

و المشكور: المعامل معاملة ما يشكر عليه في حسن الجزاء.

قال العلماء: الشكر عبارة عن مجموع أمور ثلاثة: اعتقاد كون العامل محسنا في تلك الأعمال، و الثناء عليه بالقول، و الإتيان بأفعال تدلّ على كونه مطيعا عند ذلك الشاكر، و اللّه تعالى يعامل المطيعين بهذه الأمور الثلاثة، لأنّه يعلم كونهم محسنين في تلك الأعمال، و أنّه يثني عليهم بكلامه، و يعاملهم المعاملات الدالّة على كونهم مطيعين عند اللّه.

و قيل: المشكور من الأعمال: المضاعف جزاؤه، المتجاوز عمّا فيه من الخلل و النقص.

و المذكور: الحال محلّ ما يذكر في تعلّق الثواب به و إظهار الرضا و استحقاق المنزلة و الإكرام، و بإزائه المنسي المطرح الذي لا يعبأ به و لا يلتفت إليه.

و المذخور: ما اعدّ لوقت الحاجة إليه، أي: اجعل ثوابه ذخرا و عدّة ليوم فاقتي إليه و هو يوم القيامة.

 [ 717] أي: ألهم لساني النطق بذلك، و قد يراد بإنطاقه تعالى إقداره على النطق، كما في قوله تعالى: «قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ»، «1» و هذا المعنى ليس مرادا هنا، لأنّه واقع فلا فائدة في طلبه.

و شرح فلان أمره: إذا أظهره و أوضحه، و منه شرح المسألة إذا بيّنها و فسّرها و أوضح معناها، و شرح اللّه صدره للإسلام: وسّعه لقبول الحقّ. و لا شكّ أنّ توسيع الصدر و القلب غير ممكن على سبيل الحقيقة، و لكنّه كناية عن جعل القلب قابلا

______________________________

 (1) سورة فصلت: الآية 21.

21
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء الثالث و العشرين ص : 9

.......... للحقّ، مهيّئا لحلوله فيه، مصفّى عمّا يمنعه و ينافيه.

و قال النظام النيسابوري: إذا اعتقد الإنسان في عمل من الأعمال أنّ نفعه زائد و خيره راجح، مال طبعه إليه و قوى طلبه و رغبته في حصوله، و ظهر في القلب استعداد شديد لتحصيله، فسميّت هذه الحالة سعة الصدر، و إن حصل في القلب علم أو اعتقاد أو ظنّ يكون ذلك العمل مشتملا على ضرر زائد و مفسدة راجحة، دعاه ذلك إلى تركه، و حصل في النفس نبوة عن قبوله، فيقال لهذه الحالة: ضيق الصدر، لأنّ المكان إذا كان ضيّقا لم يتمكّن الداخل من الدخول فيه، و إذا كان واسعا قدر على الدخول فيه، و أكثر استعمال شرح الصدر في جانب الحقّ و الإسلام، و قد ورد في الكفر أيضا، قال تعالى: «و لكن من شرح بالكفر صدرا» «1».

قال أمين الإسلام الطبرسي: و قد وردت الرواية الصحيحة أنّه لمّا نزل قوله تعالى: «فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ» الآية، سئل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن شرح الصدر ما هو؟ فقال: نور يقذفه اللّه في قلب المؤمن، فينشرح له صدره و ينفسح، قالوا: فهل لذلك من أمارة يعرف بها؟ قال صلّى اللّه عليه و آله:

نعم، إلانابة إلى دار الخلود، و التجافي عن دار الغرور، و الاستعداد للموت قبل نزول الموت‏ «2».

قال النيسابوري: و هذا البيان مناسب لما ذكرنا، فإنّ الإنابة إلى دار الخلود لا بدّ أن يترتّب على اعتقاد أنّ عمل الآخرة زائد النفع و الخير و التجافي عن دار الغرور إنّما ينبعث عن اعتقاد كون عمل الدنيا زائد الضرّ و الضير، و الاستعداد للموت قبل نزوله نتيجة مجموع الأمرين: الزهد في الدنيا، و الرغبة في الآخرة «3».

______________________________

 (1) تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان: ج 2 ص 103.

 (2) مجمع البيان: ج 3- 4 ص 363.

 (3) تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان: ج 2 ص 103.

22
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء الثالث و العشرين ص : 9

وَ أَعِذْني وَ ذُرِّيّتي، مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيم، وَ مِنْ شَرِّ السّامَّةِ وَ الْهامَّةِ وَ العامَّةِ وَ اللامَّةِ، وَ مِنْ شَرِّ كُلِّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ، وَ مِنْ شَرِّ كُلِّ سُلْطانٍ عَنيدٍ، وَ مِنْ شَرِّ كُلِّ مُتْرَفٍ حَفيدٍ، وَ مِنْ شَرِّ كُلِّ ضَعيفٍ وَ شَديدٍ، وَ مِنْ شَرِّ كُلِّ شَريف وَ وَضيعٍ، وَ مِنْ شَرِّ كُلِّ صَغيرٍ وَ كَبيرٍ، وَ مِنْ شَرِّ كُلِّ قَريبٍ وَ بَعيدٍ، وَ مِنْ شَرِّ كُلِّ مَنْ نَصَبَ لِرَسُولِكَ وَ لِأَهْلِ بَيْتِهِ حَرْبًا، مِنَ الجِنِّ وَ الْإِنْسِ، وَ مِنْ شَرِّ كُلِّ دابَّةٍ أَنْتَ آخِذٌ بِناصِيَتِها، إِنَّكَ عَلى‏ صِراطٍ مُسْتَقيمٍ.

و المراشد: جمع مرشد، و هو إمّا مصدر ميميّ بمعنى الرشد، كالمقصد بمعنى القصد، و جمع باعتبار الأنواع، و منه قول الزمخشري في الأساس: هو يهدي إلى المراشد «1»، أو اسم موضع.

قال الجوهري: المراشد، المقاصد من الطرق‏ «2»، أي: الطرق المستقيمة، فإنّ قصد الطريق هو استقامته.

و المعنى: اشرح قلبي لقبول مراشد دينك أي: هداياته، أو لسلوك مراشده أي:

طرقه المستقيمة، و اللّه أعلم.

 [ 718] أي: أجرني بحفظك و اعصمني.

و ذرّيتي عطف على الضمير.

و الرجيم: المطرود، و أصل الرجم الرمي بالحجارة، أو لأنّه يرجم بالكواكب، لقوله تعالى: «وَ جَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ» «3»، أو من رجمته بالقول إذا شتمته و رميته بالفحش، لأنّه يسبّ و يشتم.

______________________________

 (1) أساس البلاغة: ص 232.

 (2) الصحاح: ج 2 ص 474.

 (3) سورة الملك: الآية 5.

23
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء الثالث و العشرين ص : 9

.......... و المستعاذ منه وسواسه و إغواؤه و جميع شروره، بل نفسه لأنّه بذاته شرّ يستعاذ منه.

و في الدعاء اقتباس من قول امرأة عمران: «وَ إِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَ ذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ» «1».

روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: ما من مولود يولد إلاّ و الشيطان يمسّه حين يولد، فيستهلّ صارخا من مسّه، إلاّ مريم و ابنها، فإنّ اللّه تعالى عصمهما ببركة هذه الاستعاذة «2».

و قيل: معناه أنّ الشيطان يطمع في إغواء كلّ مولود بحيث يتأثّر منه إلاّ مريم و ابنها، و قد تقدّم الكلام على الذريّة مبسوطا في الروضة الرابعة «3».

و السامّة إذا قرنت بالهامّة فالمراد بها ما يسمّ و لا يبلغ أن يقتل بسمّه كالعقرب و الزنبور.

و الهامّة: كلّ ذات سمّ يقتل كالحيّة، و إذا قرنت بالعامّة أو الحامّة فالمراد بها الخاصّة، و منه: من قال حين يمسي أو يصبح: أعوذ بك من شرّ السامّة و الحامّة و من شرّ ما خلقت، لم تضرّه دابّة، «4» قال الزمخشري في الفائق: أي: الخاصّة و العامّة.

قال العجاج:

هو الذي أنعم نعمي عمّت‏

 

 على الذين أسلموا و سمّت‏

 

 «5» انته.

و الحامّة كما تطلق على العامّة تطلق على خاصّة الرجل من أهله و ولده، لكن‏

______________________________

 (1) سورة آل عمران: الآية 36.

 (2) الدّر المنثور: ج 2 ص 19.

 (3) ج 2 ص 119.

 (4) الفائق في غريب الحديث: ج 2 ص 200.

 (5) الفائق في غريب الحديث: ج 2 ص 200.

24
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء الثالث و العشرين ص : 9

.......... عطفها على السامّة عيّن كون المراد بها المعنى الأوّل، و قد تقع الهامّة على ما يدبّ من الحشرات و إن لم يقتل.

و اللامّة: كلّ ما يخاف من فزع و شرّ، أو المراد بها العين اللامّة أي: المصيبة بسوء، و منه أعوذ بكلمات اللّه التامّة من كلّ عين لامّة «1».

أي: ذات لمم و هو طرف من الجنون، و لم يقل: ملمّة، و أصله من ألمت لمشاكلة سامّة.

و المريد: العاتي.

قال في القاموس: مرد- كنصر و كرم- مرودا و مرادة فهو مارد و متمرد: أقدم و عتا، أو هو أن يبلغ الغاية التي تخرج من جملة ما عليه ذلك الصنف‏ «2» انته.

و قيل: هو المتجرّد للفساد، و أصله العرى المنبئ عن التمحّض له كالتشمّر، و لعلّه مأخوذ من تجرّد المصارعين عند المصارعة.

و قيل: هو بمعنى الخالي من الخير، من قولهم: صخرة مرداء أي: ملساء، و منه الأمرد.

و قيل: هو المتطاول في الشرّ و الفساد، من قولهم: بناء ممرّد أي: متطاول متجاوز، و المراد إمّا إبليس و جنوده، أو رءوس أهل الفساد و الشرّ الذين يدعون من دونهم إلى الغيّ و الضلال.

 [ 719] و العنيد: الجائر عن القصد الباغي الذي يردّ الحق مع العلم به، فعيل من عند عن القصد عنودا- من باب قعد- أي: جار، و قيل: هو من عند الغرق عنودا- من باب نزل- إذا سأل و كثر ما يخرج منه فلم يرقأ.

______________________________

 (1) سنن ابن ماجة: ج 2 ص 1164- 1165 ح 3525.

 (2) القاموس المحيط: ج 1 ص 337.

25
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء الثالث و العشرين ص : 9

.......... و المترف: المتنعّم المتوسّع في ملاذّ الدنيا و شهواتها، الذي قد أترفته و أبطرته النعمة و سعة العيش.

و قال ابن عرفة: المترف: المتروك يصنع ما يشاء لا يمنع منه‏ «1».

و في القاموس: المترف: المتنعّم لا يمنع من تنعّمه، و الجبار «2».

و قال الفارابي في ديوان الأدب: أترفته النعمة: أي أطغته، و أترفه: أي نعمة «3».

و في الأساس: أترفته النعمة: أبطرته، و أترف فلان و هو مترف، و أعوذ باللّه من الإتراف و الإسراف، و استترفوا تعفرتوا و طغوا، و لم أزل معهم في ترفة أي:

نعمة «4».

و الحفيد: فعيل بمعنى مفعول، و هو الذي يخدمه أصحابه و يعظّمونه و يسرعون في خدمته، و أصله من حفد- من باب ضرب- أي: أسرع.

قال في الأساس: حفد البعير حفدا و حفودا و حفدانا: أسرع في سيره و دارك الخطو، و من المجاز: حفد فلان في الأمر و احتفد إذا أسرع فيه و خفّ في القيام به، و حفدت فلانا: خدمته و خففت إلى طاعته، و رجل محفود: مخدوم مطاع‏ «5».

و ضعف عن الشي‏ء- من باب قرب-: عجز عن احتماله فهو ضعيف. و شدّ الشي‏ء يشدّ- من باب ضرب-: قوى فهو شديد، و المراد: كلّ ضعيف و شديد جسما و معنى: و قدّم الضعيف على الشديد، لرعاية السجع و لمزيد الاهتمام بالاستعاذة من شرّه، فإنّ الشديد لشدّته يكثر الاحتراز و التوقّي شروره، بخلاف الضعيف فإنّه كثيرا ما يحتقر فلا يعبأ به لضعفه، فينفذ شره و هو مغفول عنه، كما قيل:

______________________________

 (1) تاج العروس: ج 6 ص 49.

 (2) القاموس المحيط: ج 3 ص 120.

 (3) ديوان الأدب: ج 2 ص 313.

 (4) أساس البلاغة: ص 62.

 (5) أساس البلاغة: ص 132.

26
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء الثالث و العشرين ص : 9

..........

 و لا تحتقر كيد الضعيف فربّما

 

 تموت الأفاعي من سموم العقارب‏

 

 و قال أبو عبيدة: العرب تقدّم الأخسّ غالبا، يقولون: ربيعة و مضر و سليم و عامر، و لم يترك قليلا و لا كثيرا «1».

و الشريف: الماجد الرفيع القدر.

و الوضيع: الساقط لا قدر له، [ 720] و المراد بالصغير و الكبير: إمّا باعتبار السنّ، أو باعتبار المهانة و القدر.

و قال الفيومي: صغر في عيون الناس: ذهبت مهابته فهو صغير، و منه يقال:

جاء الناس صغيرهم و كبيرهم، أي: من لا قدر له و من له قدر «2».

و القريب و البعيد: إمّا باعتبار المسافة أو باعتبار النسب. و لك حمل كلّ من الألفاظ المذكورة على معنى مجازي عام يكون كلّ واحد من المعاني المذكورة فردا حقيقيّا له.

و نصبت لزيد الحرب و العداوة: أقمتها و أظهرتها له، و منه الناصب و هو معلن العداوة لعليّ عليه السّلام و شيعته‏ «3».

قال في القاموس: النواصب و الناصبيّة. و أهل النصب: المتديّنون ببغضة عليّ عليه السّلام، لأنّهم نصبوا له أي: عادوه‏ «4».

 [ 721] و الدابّة: كلّ حيوان في الأرض، و خالف بعضهم فأخرج الطير من الدوّاب، و ردّ بالسماع، و هو قوله تعالى: «وَ اللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ» «5»، قالوا: أي خلق كلّ حيوان مميزّا كان أو غير مميّز. و أمّا تخصيص الفرس و البغل بالدابّة عند الإطلاق فعرف طارئ. و تطلق الدابّة على الذكر و الأنثى، و الجمع الدوابّ.

______________________________

 (1) مجاز القرآن لأبي عبيدة: ج 2 ص 173- 174.

 (2) المصباح المنير: ص 466.

 (3) مجمع البحرين: ج 2 ص 173.

 (4) القاموس المحيط: ج 1 ص 133.

 (5) سورة النور: الآية 45.

27
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء الثالث و العشرين ص : 9

اللّهُمَّ صَلِّ عَلى‏ مُحَمَّدٍ وَ آلِهِ، وَ مَنْ أرادنى بِسُوءٍ فَاصْرِفْهُ عَنِّى، وَ ادْحَرْ عَنّى مَكْرَهُ، وَ ادْرأ عَنّي شَرَّهُ، وَ رُدَّ كَيْدَهُ في نَحْرِهِ، وَ اجْعَلْ بَيْنَ يَدَيْهِ سُدًّا، حَتّى‏ تُعْمِىَ عَنّي بَصَرَهُ، وَ تُصِمِّ عَنْ ذِكْري سَمْعَهُ، وَ تُقْفِلَ دُونَ إخْطاري قَلْبَهُ، وَ تُخْرِسَ عَنّي لِسانَهُ، وَ تَقْمَعَ رَأْسَهُ، وَ تُذِلَّ عِزَّهُ وَ تَكْسِرَ جَبَرُوتَهُ، وَ تُذِلَّ رَقَبَتَهُ، وَ تَفْسَخَ كِبْرَهُ وَ تُؤْمِنَني مِنْ جَميعِ ضَرِّهِ وَ شَرِّهِ وَ غَمْزِهِ وَ هَمْزِهِ وَ لَمْزِهِ، وَ حَسَدِهِ وَ عَداوَتِهِ، وَ حَبائِلِهِ وَ مَصائِدِهِ، وَ رِجْلِهِ وَ خَيْلِهِ، إنَّكَ عِزيزٌ قَديرٌ.

و قوله: «أنت آخذ بناصيتها» أي: مالك لها قادر عليها تصرّفها كيف تشاء غير مستعصية عليك، فإن الأخذ بالناصية تمثيل لذلك. و إنّما خصّت الناصية لحكم الوهم بأنّه تعالى في جهة فوق فيكون أخذه بالناصية، و لأنّها أشرف ما في الدابّة فسلطانه تعالى على الأشرف يستلزم القهر و الغلبة و تمام القدرة، و قد تقدّم معنى الناصية في الروضة الحادية و العشرين عند قوله عليه السّلام: «و في قبضتك ناصيتي»، و الجملة في محلّ جرّ صفة لدابّة، و الوصف للتأبيد و التعميم لا للتقييد و التخصيص.

و قوله: «إنّك على صراط مستقيم» تعليل لما يدلّ عليه عموم طلب إعاذته من شرّ كلّ حيوان يدّب على وجه الأرض حتّى لا يكون له قدرة على إضراره، أي: إنّك على طريق الحقّ و العدل في ملكك، فلا تسلّط عليّ شيئا من ذلك، إذ لا يضيع عندك معتصم بك. و فيه اقتباس من قوله تعالى: «إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَ رَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» «1».

 [ 722] الإرادة هنا: بمعنى القصد، أي: من قصدني بسوء و أنّ حملها على معنى نزوع النفس و ميلها إلى الفعل بحيث يحملها عليه، فالكلام على حذف مضاف، أي: من‏

______________________________

 (1) سورة هود: الآية 56.

28
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء الثالث و العشرين ص : 9

.......... أراد إصابتي بسوء، لأنّها بهذا المعنى لا تتعلّق بالذوات. و الباء: للاستعانة.

و نكّر السوء مبالغة، أي: بشي‏ء يسوؤني، و كما يقال: أراده بسوء يقال: أراد به سوء، قال تعالى: «إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ» «1»، و قال: «وَ أَرادُوا بِهِ كَيْداً» «2»، فالباء في هذا للإلصاق، أي: أرادوا إلصاق كيد به.

و صرفت الشي‏ء صرفا- من باب ضرب-: رددته، أي: فردّه عنّي.

و دحره دحرا و دحورا- من باب منع-: طرده و أبعده و دفعه.

و المكر: إيصال مكروه إلى الإنسان من حيث لا يشعر.

و درأت الشي‏ء درء بالهمزة- من باب نفع-: دفعته.

و الكيد: إرادة مضرّة الغير خفية.

و النحر: موضع القلادة من الصدر، و قد يطلق على الصدر، و ردّ كيده في نحره كناية عن رجع كيده عليه و صرفه إليه، و إنّما خصّ النحر لأنّه أعظم المقاتل.

 [ 723] و بين يديه أي: قدّامه.

و السدّ بالفتح و الضمّ: الجبل و الردم و الحاجز بين الشيئين، و قيل: المضموم ما كان من خلق اللّه كالجبل، و المفتوح ما كان من عمل بني آدم، و هو تمثيل لطلب منعه عن وصوله إليه كالمسدود عليه طريقه.

و حتّى: تعليلية، أي: كي تعمي عنّي بصره.

و العمى: عدم البصر عمّا من شأنه يبصر.

و الصمّ: آفة مانعة من السماع، و أصله الصلابة و اكتناز الأشياء، و منه الحجر الأصمّ و القناة الصمّاء، سمي به فقدان حاسّة السمع، لما أنّ سببه اكتناز باطن الصماخ و انسداد منافذه، بحيث لا يكاد يدخله هواه يحصل الصوت بتموّجه.

______________________________

 (1) سورة يس: الآية 23.

 (2) سورة الأنبياء: الآية 17.

29
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء الثالث و العشرين ص : 9

.......... [ 724] و الخرس: البكم، و هو آفة في اللسان تمنع من الكلام. و ليس المراد أن يحدث هذه الآفات ببصره و سمعه و لسانه، بل المراد أن يجعله غافلا عنه، فلا يعمل بصره و سمعه و لسانه في أمره بسوء، حتّى كأنّه أعماه و أصمّه و أخرسه، و لذلك قيّده بقوله: «عنّي». و هذا عند مفلقي سحرة البيان من باب التمثيل البليغ المؤسس على تناسي التشبيه، كما في قول الشاعر:

و يصعد حتّى يظنّ الجهول‏

 

 بأنّ له حاجة في السماء «1»

 

 لا من قبيل الاستعارة التي يطوى فيها ذكر المستعارة له بالكليّة، حتّى لو لم يكن هناك قرينة يحمل على المعنى الحقيقي، كما في قوله زهير:

لدي اسد شاكي السلاح مقذف‏

 

 له لبد أظفاره لم تقلّم‏ «2»

 

 و أقفلت الباب إقفالا: وضعت عليه القفل بالضمّ، و هو الحديد الذي يغلق به الباب، فهو مقفل.

و خطر الشي‏ء في باله و على باله خطرا و خطورا- من بابي قعد و ضرب-: مرّ بفكره، و ذلك إذا ذكره بعد نسيان، و منه الخاطر و هو ما يتحرّك في القلب من رأي أو معنى، و أخطره إخطارا: أمرّه بفكره.

و دون بمعنى: عند، أي: عند إخطاري، و منه: من قتل دون ماله‏ «3». أي: عند ماله، أو بمعنى: قدّام، أي: قدّام إخطاري، و منه: من قتل دون دينه‏ «4»، أي: قدّامه، بأن قصد كافر أو مبتدع خذلانه في دينه أو توهينه فيه و هو يذبّ عنه كالحامي له.

قاله الطيبي في شرح المشكاة «5».

______________________________

 (1) الإيضاح في علوم البلاغة للخطيب القزويني: ص 434. و البيت منسوب إلى أبي تمّام.

 (2) الإيضاح في علوم البلاغة للخطيب القزويني: ص 434. منسوبا إلى زهير.

 (3) الجامع الصغير: ج 2 ص 178.

 (4) الجامع الصغير: ج 2 ص 178.

 (5) لا يوجد لدينا كتابه.

30
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء الثالث و العشرين ص : 9

.......... و قمعته قمعا- من باب منع-: ضربته بالمقمعة بكسر الأوّل، و هي خشبة يضرب بها الإنسان على رأسه ليذلّ و بهان: قاله الفيومي في المصباح‏ «1».

و في القاموس: المقمعة كمكنسة: العمود من حديد أو كالمحجن يضرب به رأس الفيل، و خشبة يضرب بها الإنسان على رأسه، الجمع مقامع، قمعه كمنعه: ضربه بها و قهره و ذلّله‏ «2»، انته.

و في المحكم: قمع الرجل يقمعه قمعا: ضرب أعلى رأسه، و المقمع و المقمعة كلاهما ما قمع به‏ «3» انته.

و المراد بقمع الرأس هنا: القهر و الإذلال و الإهانة، أو الردع و الكفّ، من قمعه قمعا: ردعه و كفّه. نصّ عليه في المحكم‏ «4».

و خصّ الرأس بالذكر لأنّه مجمع الحواس و رئيس الأعضاء.

و ذلّ ذلا- من باب ضرب- و الاسم الذلّ بالضمّ و الذلّة بالكسر و المذلة: إذا ضعف و هان، فهو ذليل.

و العزّ و العزّة بكسرهما: الرفعة و الامتناع و الشدّة و الغلبة.

و الجبروت بفتح الباء: الكبر و التعاظم و القهر، قيل: هو مصدر على زنة المبالغة، لأنّ الواو و التاء تزادان للمبالغة كالرهبوت و الملكوت، و المراد بكسره: إضعافه و إذلاله.

و الرقبة: العتق، فجعلت كناية عن جميع الذات، و قد مرّ بيانه فيما سبق.

و فسخ ثوبه- من باب منع- فسخا: نزعه، و البيع: نقضه.

و الكبر: الاسم من التكبّر، و هو العظمة، و مثله الكبرياء.

 [ 725] و آمنه ممّا يخاف بمدّ الهمزة جعله آمنا لا يخاف غائلته.

و الضرّ بفتح الضاد مصدر ضرّه يضرّه- من باب قتل-: إذا فعل به مكروها.

______________________________

 (1) المصباح المنير: ص 709.

 (2) القاموس المحيط: ج 3 ص 74.

 (3) المحكم في اللغة: ج 1 ص 152.

 (4) المحكم في اللغة: ج 1 ص 151.

31
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء الثالث و العشرين ص : 9

.......... قال ابن القوطية: كلمّا كان من سوء حال و فقر و شدّة في بدن فهو ضرّ بالضمّ، و ما كان ضدّ النفع فهو بفتحها «1».

و الشر: الفساد و الظلم.

و غمز بالحاجب و العين غمزا- من باب ضرب-: أشار، و غمز فيه طعن، و بالرجل سعى به شرّا.

و همزه همزا- من باب ضرب-: اغتابه في غيبته.

و في النهاية: الهمز: الغيبة و الوقيعة في الناس و ذكر عيوبهم‏ «2».

و لمزه لمزا- من باب ضرب أيضا-: عابه. و قيل: الهمز: العيب في الغيبة، و اللمز: العيب في الوجه، و منه الحديث: أعوذ بك من همز الشيطان و لمزه‏ «3».

و الحبائل: جمع حبالة، و هي الشرك التي يصاد بها.

و المصايد بغير همز: جمع مصيد بكسر الميم و سكون الصاد و فتح الياء، و هي آلة الصيد. و كلاهما استعارة للأمور التي يوطئها لإيقاعه بها في المكاره، و منه: فلان نصب حبائله و بثّ غوائله، و مثله نصب مصائده و بثّ مكائده.

و الخيل: الخيّالة، و هم الفرسان، و منه قوله صلّى اللّه عليه و آله: يا خيل اللّه اركبي‏ «4».

و الرجل بفتح الراء و سكون الجيم: اسم جمع للراجل كالصحب و الركب للصاحب و الراكب، قيل: هما كناية عن أعوانه من كلّ راكب و ماش، و الأقرب أنّ هذا كلام أورد مورد التمثيل، فقد يقال للرجل المجدّ في الأمر: جئتنا بخيلك و رجلك، مثّل حاله في جدّه و جهده لإيقاعه به بصاحب جند من خيّالة و رجّالة.

______________________________

 (1) كتاب الأفعال الثلاثية و الرباعية: ص 92.

 (2) النهاية لابن الأثير: ج 5 ص 273.

 (3) النهاية لابن الأثير: ج 4 ص 269.

 (4) تفسير الكشاف: ج 2 ص 677.

32
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء الثالث و العشرين ص : 9

.......... قال صاحب الكشّاف في قوله تعالى: «وَ اسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَ أَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَ رَجِلِكَ»: مثّلت حال إبليس في تسلّطه على من يغويه بمغوار أوقع على قوم، فصوّت بهم صوتا يستفزّهم من أماكنهم و يقلقهم عن مراكزهم، و أجلب عليهم بجنده من خيّالة و رجّالة حتّى استأصلهم‏ «1».

و قوله عليه السّلام: «إنّك عزيز قدير» تعليل لاستدعاء القبول، و تأكيد الجملة لقوّة عرض يقينه بمضمونها، و ذكر صفتي «العزّة و القدرة» لإظهار أنّه العزيز، أي:

الغالب الذي لا يمانعه أحد، و القدير الذي لا يعجزه شي‏ء فيدخل في ذلك ما سأله عليه السّلام من صرف من أراده بسوء إلى آخر ما تضمّنه الدعاء دخولا أوّليا، و اللّه أعلم. [] هذا آخر الروضة الثالثة و العشرين من رياض السالكين، و قد وفق اللّه سبحانه لإتمامها مع مكابدة المصائب و مقاساة النوائب التي تهدّ الجبال الرواسي و تذيب الصخور القواسي و اللّه المستعان، ضحوة الجمعة لخمس خلون من جمادى الآخرة من سنة إحدى و مائة و ألف، و الحمد للّه على كلّ حال.

______________________________

 (1) تفسير الكشاف: ج 2 ص 678.

33
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

الروضة الرابعة و العشرون ص : 35

الروضة الرابعة و العشرون‏

35
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

و كان من دعائه عليه السلام لأبويه عليهما السلام ص : 37

وَ كانَ مِنْ دُعائِهِ عَلَيهِ السَّلامُ لِأَبَوَيْهِ عَلَيْهِمَا السَّلامُ‏

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ وَ رَسوُلِكَ وَ اهْلِ بَيْتِهِ الطّاهِرينَ وَ اخْصُصْهُمْ بِافْضَلِ صَلَواتِكَ وَ رَحْمَتِكَ وَ بَرَكاتِكَ وَ سَلامِكَ وَ اخْصُصِ اللّهُمَّ والِدَىَّ بِالْكَرامَةِ لَدَيْكَ وَ الصَّلوةِ مِنْكَ يا ارْحَمَ الرَّاحِمينَ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلى‏ مُحَمَّدٍ وَ الِهِ وَ الْهِمْنى عِلْمَ ما يَجِبُ لَهُما عَلَىَّ الْهامًا وَ اجْمَعْ لي عِلْمَ ذلِكَ كُلِّهِ تَمامًا ثُمَّ اسْتَعْمِلْنى بِما تُلْهِمُنى مِنْهُ وَ وَفِّقْني لِلنُّفوُذِ فيما تُبَصِّرُنى مِنْ عِلْمِهِ حَتّى‏ لا يَفوُتَنِى اسْتِعْمالُ شَى‏ءٍ عَلَّمْتَنيهِ وَ لا تَثْقُلَ ارْكانى عَنِ الحُفوُفِ فيما الْهَمْتَنيهِ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلى‏ مُحَمَّدٍ وَ الِهِ كَما شَرَّفْتَنا بِهِ وَ صَلِّ عَلى‏ مُحَمَّدٍ وَ الِهِ كَما اوْجَبْتَ لَنَا الْحَقَّ عَلَى الْخَلْقِ بِسَبَبِهِ اللّهُمَّ اجْعَلْني اهابُهُما هَيْبَةَ السُّلْطانِ الْعَسُوفِ وَ أَبَرُّهُما بِرَّ الْأُمِّ الرَّءُوفِ وَ اجْعَلْ طاعَتِى لِوالِدَىَّ وَ بِرّى بِهِما اقَرَّ لِعَيْنى مِنْ رَقْدَةِ الْوَسْنانِ وَ اثْلَجَ لِصَدْرِى مِنْ شَرْبَةِ الظَّمْانِ حَتّى‏ اوُثِرَ عَلى‏ هَواىَ هَواهُما وَ اقَدِّمَ عَلى‏ رِضاىَ رِضاهُما وَ اسْتَكْثِرَ بِرَّهُما وَ انْ قَلَّ وَ اسْتَقِلَّ بِرّى بِهِما وَ انْ كَثُرَ اللَّهُمَّ خَفِّضْ لَهُما صَوْتى وَ اطِبْ لَهُما كَلامى وَ الِنْ لَهُما عَريكَتى‏ ..........

37
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

و كان من دعائه عليه السلام لأبويه عليهما السلام ص : 37

وَ اعْطِفْ عَلَيْهِما قَلْبِى وَ صَيِّرْنِى بِهِما رَفيقًا وَ عَلَيْهِما شَفيقًا اللَّهُمَّ اشْكُرْ لَهُما تَرْبِيَتي وَ اثِبْهُما عَلى‏ تَكْرِمَتي وَ احْفَظْ لَهُما ما حَفِظاهُ مِنّي في صِغَرى اللَّهُمَّ وَ ما مَسَّهُما مِنّى مِنْ اذًى اوْ خَلَصَ الَيْهِما عَنّى مِنْ مَكْرُوهٍ اوْ ضاعَ قِبَلى لَهُما مِنْ حَقّ فَاجْعَلْهُ حِطَّةً لِذُنُوبِهِما وَ عُلُوًّا في دَرَجاتِهِما وَ زِيادَةً في حَسَناتِهِما يا مُبَدِّلَ السَّيِّئاتِ بِأَضْعافِها مِنَ الْحَسَناتِ اللَّهُمَّ وَ ما تَعَدَّيا عَلَىَّ فِيهِ مِنْ قَوْلٍ اوْ اسْرَفا عَلَىَّ فِيهِ مِنْ فِعْلٍ اوْ ضَيَّعاهُ لي مِنْ حَقٍّ اوْ قَصَّرا بي عَنْهُ مِنْ واجِبٍ فَقَدْ وَهَبْتُهُ لَهُما وَ جُدْتُ بِهِ عَلَيْهِما وَ رَغِبْتُ الَيْكَ في وَضْعِ تَبِعَتِهِ عَنْهُما فَانّى لا اتَّهِمْهُما عَلى‏ نَفْسى وَ لا اسْتَبْطِئْهُما في بِرّي وَ لا اكْرَهُ ما تَوَلَّياهُ مِنْ امرى يا رَبِّ فَهُما اوْجَبُ حَقًّا عَلَىَّ وَ أَقْدَمُ إحْسانًا الَىَّ وَ اعْظَمُ مِنَّةً لَدَىَّ مِنْ انْ أَ قاصَّهُما بِعَدْلٍ او اجازِيَهُما عَلى‏ مِثْلٍ ايْنَ إِذًا يا الهِى طُولُ شُغْلِهِما بِتَرْبِيَتى وَ ايْنَ شِدَّةُ تَعَبِهِما في حِراسَتى وَ ايْنَ اقْتارُهُما عَلى‏ انْفُسِهِما لِلتَّوْسِعَةِ عَلَىَّ هَيْهاتَ ما يَسْتَوْفِيانِ مِنّي حَقَّهُما وَ لا ادْرِكْ ما يَجِبُ عَلَىَّ لَهُما وَ لا انَا بِقاضٍ وَظيفَةَ خِدْمَتِهِما فَصَلِّ عَلى‏ مُحَمَّدٍ وَ آلِهِ وَ اعِنّى يا خَيْرَ مَنِ اسْتُعينَ بِه وَ وَفِّقْني يا اهْدَى‏ مَنْ رُغِبَ الَيْهِ وَ لا تَجْعَلنى في أَهْلِ الْعُقُوقِ لِلاباءِ وَ الْأُمَّهاتِ‏ ..........

38
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

و كان من دعائه عليه السلام لأبويه عليهما السلام ص : 37

يَوْمَ تُجْزى‏ كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلى‏ مُحَمَّدٍ وَ آلِهِ وَ ذُرِّيَّتِهِ وَ اخْصُصْ أَبَوَيَّ بِافْضَلِ ما خَصَصْتَ بِهِ آباءَ عِبادِكَ الْمُؤْمِنِينَ وَ امَّهاتِهِمْ يا ارْحَمَ الرَّاحِمِينَ اللَّهُمَّ لا تُنْسِنى ذِكْرَهُما في ادْبارِ صَلَواتي وَ في انًا مِنْ آناءِ لَيْلي وَ في كُلِّ سَاعَةٍ مِنْ ساعاتِ نَهاري اللَّهُمَّ صَلِّ عَلى‏ مُحَمَّدٍ وَ الِهِ وَ اغْفِرْ لي بِدُعائي لَهُما وَ اغْفِرْ لَهُما بِبِرِّهِما بي مَغْفِرَةً حَتْمًا وَ ارْضَ عَنْهُما بِشَفاعَتي لَهُما رِضًى عَزْمًا وَ بَلِّغْهُما بِالْكَرامَةِ مَواطِنَ السَّلامَةِ اللَّهُمَّ وَ انْ سَبَقَتْ مَغْفِرَتُكَ لَهُما فَشَفِّعْهُما فِىَّ وَ انْ سَبَقَتْ مَغْفِرَتُكَ لي فَشَفِّعْني فيهِما حَتَّى نَجْتَمِعَ بِرَأْفَتِكَ في دارِ كَرامَتِكَ وَ مَحَلِّ مَغْفِرَتِكَ وَ رَحْمَتِكَ انَّكَ ذُو الْفَضْلِ الْعَظيمِ وَ الْمَنِّ الْقَدِيمِ وَ انْتَ ارْحَمُ الرَّاحِمِينَ‏ ..........

39
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

و كان من دعائه عليه السلام لأبويه عليهما السلام ص : 37

.......... [] بسم اللَّه الرحمن الرحيم‏ «1» الحمد للَّه الذي وصّى الإنسان بوالديه حسنا، و وعده على برّهما من لديه المقام الأسنى، و الصّلاة و السّلام على نبيّه أنجب المخلوقين أمّا و أبا، و على أهل بيته الذين فرض طاعتهم على كلّ أحد شاء أو أبى.

و بعد فهذه الروضة الرابعة و العشرون من رياض السالكين، تتضمّن شرح الدعاء الرابع و العشرين من صحيفة سيّد العابدين، صلوات اللَّه و سلامه عليه و على آبائه و أبنائه الطاهرين، إملاء العبد الراجي فضل ربّه السني، عليّ صدر الدين الحسيني. الحسنيّ غفر اللَّه له و لوالديه، و جعل خير أيّامه يوم الوقوف بين يديه.

______________________________

 (1) (ج- الف): و به ثقتي.

40
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء الرابع و العشرين ص : 41

شرح الدعاء الرابع و العشرين‏

وَ كَانَ مِن دُعَائِهِ عَليهِ السّلامُ لِابَويهِ عَلَيهما السّلامُ.

المراد بالأبوين: الأب و الأمّ، و هو من ألفاظ التغليب التي غلّب فيها أحد المتصاحبين أو المتشابهين على الآخر، بأنّ جعل الآخر موافقا له في الاسم، ثمّ ثنّي ذلك الاسم و قصد إليهما جميعا، فتارة يغلّب الأشرف كالأبوين، و تارة الأخفّ كالعمرين، و تارة المذكّر كالقمرين.

و قيل: المعتبر هو الاسم الأخفّ إلاّ أن يكون الأثقل مذكّرا كالقمرين، على أنّ هذا النوع مسموع يحفظ و لا يقاس عليه، و قد استوفيت الكلام عليه في شرح الصمدية «1» فليرجع إليه.

و اعلم أنّ تعظيم الأبوين أمر معتبر في جميع الشرائع، و مركوز في كلّ العقول، و حسبك أنّ اللَّه سبحانه نصّ على ذلك في غير موضع من كتابه المجيد، و ورد في الأخبار النبويّة ما يضيق عنه نطاق الحصر. و من تعظيمهما و الإحسان إليهما أن يحبّهما من صميم القلب، و يراعي دقائق الأدب في خدمتها و الشفقة عليهما، و يبذل وسعه في رضاهما، و لا يمنع كرائم أمواله عنهما، و يجتهد في تنفيذ وصاياهما، و يذكرهما في صالح دعائه، كما أرشد اللَّه تعالى إلى جميع ذلك في قوله سبحانه: «وَ قَضى‏ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَ لا تَنْهَرْهُما وَ قُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً. وَ اخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ

______________________________

 (1) الحدائق الندية: ص 62- 63.

41
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 42

.......... وَ قُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً» «1».

قال أمين الدين الطبرسي: معناه أدع لهما بالمغفرة و الرحمة في حياتهما و بعد مماتهما جزاء لتربيتهما إيّاك في صباك، و هذا إذا كانا مؤمنين، و في هذا دلالة على أنّ دعاء الولد لوالده الميّت مسموع و إلاّ لم يكن لأمره به معنى‏ «2».

و روى أبو اسيد الأنصاري قال: بينا نحن عند رسول اللَّه صلّى اللّه عليه و آله، إذ جاء رجل من بني سلمة فقال: يا رسول اللّه هل بقي من برّ والديّ شي‏ء أبرّهما به بعد موتهما؟ فقال: نعم، الصلاة عليهما، و الاستغفار لهما، و إنفاذ عهدهما من بعدهما، و إكرام صديقهما، و صلة الرحم التي لا توصل إلاّ بهما «3».

و روى ثقة الإسلام في الكافي بسنده عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: ما يمنع الرجل منكم أن يبر والديه حيّين و ميّتين، يصلّي عنهما و يتصدّق عنهما و يحجّ عنهما و يصوم عنهما، فيكون الذي صنع لهما، و له مثل ذلك، فيزيده اللّه عزّ و جلّ ببرّه و صلاته خيرا كثيرا «4».

و عن أبي جعفر عليه السّلام قال: إنّ العبد ليكون برّا بوالديه في حياتهما، ثمّ يموتان فلا يقضي عنهما دينهما و لا يستغفر لهما فيكتبه اللّه عاقّا، و انّه ليكون عاقا لهما في حياتهما غير بارّ بهما، فإذا ماتا قضى دينهما و استغفر لهما فيكتبه اللّه عزّ و جلّ بارّا «5».

تنبيه‏

ظاهر قوله تعالى: «وَ قُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً»: «6» أنّ الأمر للوجوب من غير تكرار، فيكفي في العمر مرّة واحدة ربّ ارحمهما.

______________________________

 (1) سورة الأسراء: آية 23، 24.

 (2) مجمع البيان: ج 5- 6، ص 410.

 (3) مجمع البيان: ج 5- 6، ص 410.

 (4) الكافي: ج 2 ص 159، ح 7.

 (5) أصول الكافي: ج 2، ص 163، ح 21.

 (6) سورة الاسراء: الآية 24.

42
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

إرشاد ص : 43

.......... و سئل سفيان: كم يدعو الإنسان لوالديه، أ في كلّ يوم مرّة أم في كلّ شهر أم في كلّ سنة؟ فقال: نرجو أن يجزيه إذا دعا لهما في آخر التشهّدات، كما انّ اللّه تعالى قال: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَ سَلِّمُوا تَسْلِيماً» «1». و كانوا يرون الصلاة عليه في التشهّد، و كما قال اللّه تعالى: «وَ اذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ» «2»، فهم يكبّرون في أدبار الصلاة «3».

و قال النظام النيسابوري: و يشبه أن يدعو لهما كلّما ذكرهما أو ذكر شيئا من أنعامهما «4».

إرشاد

قال العلماء: إنّما جعل اللّه سبحانه الإحسان إلى الوالدين تاليا لعبادته، و شكرهما تاليا لشكره، في قوله تعالى: أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً» «5»، و قوله تعالى: «أَنِ اشْكُرْ لِي وَ لِوالِدَيْكَ» «6»، لوجوه:

منها: أنّهما سبب وجود الولد كما أنّهم سبب التربية، و غير الوالدين قد يكون سبب التربية فقط، فلا إنعام بعد إنعام اللّه تعالى أعظم من إنعام الوالدين.

و منها: أن إنعامهما شبه إنعام اللّه تعالى، من حيث إنّهما لا يطلبان بذلك ثناء و لا ثوابا «إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَ لا شُكُوراً» «7».

و منها: أنّ المحبّة و المناسبة و الميل بين الوالد و ولده ذاتيّة حتّى عمّت جميع الحيوان، كما أنّ المناسبة بين الواجب و الممكن ذاتيّة لا عرضيّة، و هاهنا أسرار فلتتأمّل.

و منها: أنّه لا كمال يمكن للولد إلاّ يطلبه الوالد لأجله و برّيده عليه، كما أنّ اللّه تعالى لا خير يمكن للعبد إلاّ بريده عليه، و لهذا أرسل الرسل و أنزل الكتب و نصب‏

______________________________

 (1) سورة الأحزاب: الآية 56.

 (2) سورة البقرة: الآية 203.

 (3) تفسير روح المعاني: ج 15 ص 57.

 (4) تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان: ج 2 ص 450.

 (5) سورة الأسراء: الآية 23.

 (6) سورة لقمان: الآية 14.

 (7) سورة الإنسان: الآية 9.

43
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

إرشاد ص : 43

.......... الأدلّة و أزاح العلّة، و من غاية شفقة الوالدين أنّهما لا يحسدان ولدهما إذا كان خيرا منهما بل يتمنّيان ذلك، بخلاف غيرهما فإنّه لا يرضى أن يكون غيره خيرا منه.

إذا عرفت ذلك، فمن عظيم الجهل ما حكي أنّ بعض المتسمّين بالحكمة كان يضرب أباه و يقول: هو الذي أدخلني في عالم الكون و الفساد، و عرضني للفقر و العمى و الزمانة «1».

و ما روي عن أبي العلاء المعرّي أنّه أمر أن يكتب على قبره هذا الشعر.

هذا ما جناه أبي عليّ‏

 

 و ما جنيت على أحد «2»

 

 و قال في ترك التزوّج و الولد.

و تركت فيهم نعمة العدم التي‏

 

 سبقت و صدّت عن نعيم العاجل‏

و لو أنّهم ولدوا لعانوا شدّة

 

 ترمي بهم في موبقات الآجل‏ «3»

 

 و قال بعض الحكماء:

قبّح اللّه لذّة قد تولّت‏

 

 نالها «4» الامّهات و الاباء

نحن لولا الوجود لم نألم الفقد

 

 فإيجادنا علينا بلاء «5»

 

 و هذا كلّه جهل منهم بنعمة الوجود المستتبعة لجميع النعم و المنافع في الدارين.

و يحكى أنّ الاسكندر كان يعظّم أستاذه أكثر من تعظيمه والده، فقيل له في ذلك، فقال: إنّ الأستاذ أعظم منه، لأنّه تحمّل أنواع الشدائد و المحن عند تعليمي حتّى أوقعني في نور العلم، و أمّا الوالد فإنّه طلب لذّة الوقاع لنفسه فأخرجني إلى آفاق عالم الكون و الفساد «6».

______________________________

 (1) تفسير روح المعاني: ج 15 ص 61.

 (2) تفسير روح المعاني: ج 15 ص 61.

 (3) تفسير روح المعاني: ج 15 ص 61.

 (4) (الف- ج): أدركتها.

 (5) تفسير روح المعاني: ج 15 ص 61.

 (6) تفسير روح المعاني: ج 15 ص 61.

44
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

إرشاد ص : 43

اللّهُمَّ صَلِّ عَلى‏ مُحَمّدٍ عَبْدِكَ وَ رَسُولِكَ، وَ أَهْلِ بَيْتِهِ الطاهِرينَ، وَ اخْصُصْهُمْ بِأفْضَلِ صَلَواتِكَ وَ رَحْمَتِكَ وَ بَركاتِكَ وَ سَلامِكَ.

قال العقلاء: هب أن الوالد في أوّل الأمر طلب لذّة الوقاع، إلاّ أنّ اهتمامه بإيصال الخيرات إلى الولد و دفع الآفات عنه، من أوّل دخول الولد في الوجود إلى أوان كبره بل إلى آخر عمره، لا ينكر و لا يكفر «1»، و اللّه أعلم+.

 [ 726] قال إمام المتّقين و سيّد العابدين صلوات اللّه و سلامه عليه و على آبائه و أبنائه الطاهرين‏ «2»:

بدأ عليه السّلام بالدعاء للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله لوجوه:

أحدها: ما مرّ غير مرّة من أنّه أعظم أسباب إجابة الدعاء.

الثاني: كونه أشرف آبائه عليهم السّلام من جهة النسب الحقيقي.

الثالث: كونه صلّى اللّه عليه و آله أبا معنويا لامّته، فيجب الدعاء له على كلّ أحد من أمّته من هذه الجهة.

قال المفسّرون في قوله تعالى: «ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَ لكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَ خاتَمَ النَّبِيِّينَ» «3» معنى هذا الاستدراك هو إثبات الأبوّة من هذه الجهة، لأنّ النبيّ كالأب لأمّته من حيث الشفقة و النصيحة و رعاية حقوق التعظّم معه، و أكّد هذا المعنى بقوله «و خاتم النّبيين»، لأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إذا علم أنّ بعده نبيّا آخر فقد يترك بعض البيان و الإرشاد، بخلاف ما إذا علم أنّ ختم النبوّة عليه‏ «4».

و في الحديث عنه عليه السّلام: يا عليّ أنا و أنت أبوا هذه الأمّة «5».

الرابع: ما ثبت عند أرباب التحقيق و العرفان من أنّه صلّى اللّه عليه و آله أبو

______________________________

 (1) تفسير روح المعاني: ج 15 ص 61.

 (2) أي: ابتداء الدعاء كما في صدر الصفحة.

 (3) سورة الأحزاب: الآية 40.

 (4) التفسير الكبير للفخر الرازي: ج 25 ص 214.

 (5) المناقب لابن شهرآشوب: ج 3، ص 105.

45
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

إرشاد ص : 43

.......... الأرواح، كما أنّ آدم عليه السّلام أبو الأجساد.

قال بعض العارفين من أصحابنا المتأخّرين: أعلم أنّ الأرواح كلّها مخلوقة من روح واحدة هي روح النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فروحه أصل الأرواح، فكما كان آدم أبا البشر و خليفة اللّه في الأرض، كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أبا الأرواح و خليفة اللّه في عالم الأرواح، فالروح خليفة اللّه و مجتمع صفاته الذاتيّة، كالعلم و الحياة و القدرة و الإرادة و السمع و البصر و الكلام و البقاء، و الجسد خليفة الروح، و هو مجتمع صفاته الفعليّة، و ذلك أنّ اللّه تعالى لمّا خلق روح النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، كان اللّه و لم يكن معه شي‏ء آخر حتّى ينسب أو يضاف إليه الروح غير اللّه، بل كان روحه أوّل شي‏ء تعلّقت به القدرة الأزليّة، و لذلك شرّفه بتشريف الإضافة إلى نفسه فسمّاه روحي، كما سمّى أوّل بيت وضع للناس و شرّفه بالإضافة إلى نفسه فقال: بيتي، ثمّ حين أراد أن يخلق آدم سوّاه و نفخ فيه من روحه، أي: من الروح المضاف إلى نفسه، و هو روح النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، كما قال‏ «فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي»+ «1»، و لم يقل: نفخت فيه روحي بدون «من»، ليكون فيه دلالة على أنّ الروح المنفوخ في آدم هو بعينه روح النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، بل كان روح آدم متولّدا منه، فالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله الأب الروحاني لأب البشر و سائر الأنبياء، و أبو البشر الأب الجسماني للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سائر البشر، كما قيل:

و إنّي و إن كنت ابن آدم صورة

 

 فلي فيه معنى شاهد بأبوّتي‏

 

 و كذلك أرواح أولاد آدم مخلوقة من روح النبيّ صلى اللّه عليه و آله، لقوله تعالى: «ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ. ثُمَّ سَوَّاهُ وَ نَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ» «2»، و كذلك قال في حقّ روح عيسى عليه السلام: «فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا» «3»، فكانت النفخة لجبرئيل و الروح‏

______________________________

 (1) سورة الحجر: الآية 29.

 (2) سورة السجدة: الآية 8 و 9.

 (3) سورة الأنبياء: الآية 91.

46
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

إرشاد ص : 43

.......... من روح النبيّ صلّى اللّه عليه و آله المضاف إلى الحضرة الإلهيّة، و لأجل كون حقيقة الروح على هذه المنزلة و الشرف، قصرت أفهام الناس و تلاشت العقول من دركها، كما تتلاشى أنوار الأبصار في شعاع الشمس، و لهذا قال تعالى‏ «وَ ما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا» «1»، فافهم هذا المقال فإنّه مدرك عزيز المنال‏ «2»، انته كلامه.

قوله عليه السّلام: «و اخصصهم بأفضل صلواتك» من خصّه بكذا خصوصا- من باب قعد-: إذا جعله له دون غيره، كاختصّه به اختصاصا، و خصّصه به بالتثقيل: للمبالغة.

قال كثير من العلماء: الأصل في لفظ الخصوص و ما يتفرّع منه أن يستعمل بإدخال الباء على المقصور عليه، فيقال: خصّ المال بزيد أي: جعل المال له دون غيره، هذا هو الاستعمال العربي الذي يسبق إلى فهمهم، لكن شاع في العرف إدخال الباء على المقصور، كما وقع في عبارة الدعاء، و ذلك، إمّا بناء على جعل الخصوص مجازا عن التمييز مشهورا في العرف، أو على تضمينه معنى التمييز و الافراد فيلاحظ المعنيان معا، و حاصله يرجع إلى ملاحظة معنى التمييز، لأنّ خصوص شي‏ء بشي‏ء في قوّة تمييز الآخر به، و أبى بعضهم إلاّ هذا الاستعمال و شدّد النكير على من خالفه.

و الصلاة من اللّه تعالى: الرحمة، و جمعها للتنبيه على كثرتها و تنوّعها، و الجمع بينها و بين الرحمة للمبالغة، كما في قوله تعالى: «رَأْفَةً وَ رَحْمَةً» «3»، و «لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ»+ «4».

و بركاته تعالى: خيراته النامية المتكاثرة.

و السلام: اسم من سلّم عليه تسليما، و بمعنى السلامة من المكاره، فقوله عليه‏

______________________________

 (1) سورة الاسراء: الآية 85.

 (2) لم نعثر عليه.

 (3) سورة الحديد: الآية 27.

 (4) سورة التوبة: الآية 117.

47
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

إرشاد ص : 43

وَ اخْصُصِ اللّهُمَّ والِدَىَّ بِالْكَرامَةِ لَدَيْكَ، وَ الصَّلاةِ مِنْكَ يا أَرْحَمَ الراحِمينَ.

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلى‏ مُحَمَّدٍ وَ آلِهِ، وَ الْهِمْني عِلْمَ ما يَجِبُ لَهُما عَلَيَّ إلْهامًا، وَ اجْمَعْ لي عِلْمَ ذلِكَ كُلِّهِ تَمامًا، ثُمَّ اسْتَعْمِلْني بِما تُلْهِمُني مِنْهُ، وَ وَفِّقْني لِلنُّفُوذِ فيما تُبَصِّرُنى مِنْ عِلْمِهِ، حَتّى‏ لا يَفُوتَني اسْتِعْمالُ شَي‏ءٍ عَلَّمْتَنِيهِ، وَ لا. تَثْقُلَ أرْكاني عَنِ الحَفُوفِ فيما ألْهَمْتَنيهِ.

السّلام: «و سلامك» إمّا بمعنى تحيّتك أي: تسليمك عليه، أو بمعنى سلامتك، و الإضافة للفاعل+.

 [ 727] أي: ميّزهما و فضّلهما، و توسيط النداء بين الفعل و مفعوله لإبراز مزيد الضراعة.

و الكرامة: من الإكرام.

قال الجوهري: التكريم و الإكرام بمعنى، و الاسم منه الكرامة «1».

و لديك و منك: متعلّقان بمحذوفين حالين من الكرامة و الصلاة، أي:

بالكرامة كائنة لديك و الصلاة كائنة منك.

و الغرض كمال علوّ مرتبة الكرامة و الصلاة المطلوبتين لهما و تكرير النداء للتضرّع، و إظهار الخشوع، و الإلحاح في الدعاء، و المبالغة في الاستدعاء.

و لذلك ناداه أوّلا: بوصف الالُوهيّة الجامعة لجميع الكمالات.

و ثانيا: بوصف الرحمة الفائقة على كلّ رحمة+.

 [ 728] ألهمه اللّه خيرا: لقنّه إيّاه و ألقاه في روعه.

و قال ابن الأثير: الإلهام أن يلقي اللّه في النفس أمرا يبعثه على الفعل أو الترك، و هو نوع من الوحي يخصّ اللّه به من يشاء من عباده‏ «2».

______________________________

 (1) الصحاح: ج 5، ص 2021.

 (2) النهاية: لابن الأثير ج 4، ص 282.

48
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

إرشاد ص : 43

.......... و قوله عليه السلام «إلهاما» مصدر مؤكّد لعامله، أي: إلهاما تامّا، و التمام: نقيض النقصان، قيل: هو مصدر.

قال في القاموسّ: تمّ يتمّ تمّا و تماما مثلّثتين‏ «1».

و قيل: اسم من أتممت الشي‏ء.

قال الفيومي: يقال: أتمتمه، و الاسم التمام بالفتح‏ «2».

فهو إمّا مصدر مؤكّد لمحذوف هو حال من العلم، أي: يتمّ تماما، أو اسم أنيب مناب المصدر مؤكّد لا جمع على غير لفظه، كأنّه قيل: و أتمّ لي علم ذلك كلّه تماما نحو اغتسل غسلا، و الأصل اتماما و اغتسالا، أو مصدر بمعنى المفعول منصوب على الحاليّة أي: متمّما، أو مفعول له أي: لأجل التمام.

و ثمّ: للترتيب، لأن العمل بعد العلم.

و استعملني: أي اجعلني عاملا.

و «من» في قوله عليه السّلام «منه» للتبيين، و مثلها قوله: «من علمه».

و مفعول تلهمني و تبصرّني محذوف، أي: تلهمنيه و تبصّرني به، و حذفه في ذلك مطّرد بكثرة كما مرّ مرارا.

 [ 729] و النفوذ في الأمر: المضيّ فيه.

و بصّرته بالأمر تبصيرا فبصر به: إذا أعلمته إيّاه فعلمه، و هو من البصيرة، و أمّا بصّرته الشي‏ء فأبصره فهو بمعنى أريته إيّاه فرآه، فهو من البصر.

و حتّى: بمعنى كي التعليليّة، أي: كيلا يفوتني استعمال شي‏ء و الاستعمال هنا: بمعنى العمل بالشي‏ء يقال: استعمله إذا جعله عاملا، و استعمله إذا عمل به.

و جملة علّمتنيه: في محلّ جرّ صفة لشي‏ء.

______________________________

 (1) القاموس المحيط: ج 4، ص 83.

 (2) المصباح المنير: ص 106.

49
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

إرشاد ص : 43

.......... و الأركان: جمع ركن بالضمّ و هو جانب الشي‏ء و المراد بها هنا الجوارح.

قال ابن الأثير في النهاية في حديث الحساب: و يقال لأركانه: انطقي أي:

جوارحه، و أركان كلّ شي‏ء: جوانبه التي يستند إليها و يقوم بها «1»، انته.

و ثقل الأركان عبارة عن فتور الجوارح و عدم نهوضها للعمل.

و في القاموس: تثاقل عنه: ثقل و تباطأ «2».

و الحفوف: يروى بالحاء المهملة، فيكون بمعنى الخدمة.

قال في الكنز: الحفوف «خدمت كردن» «3».

و به فسّر بعضهم المثل: من حفّنا أو رفّنا فليقتصد «4».

قال الميداني في مجمع الأمثال: يقال: من حفّنا أي: من خدمنا و تعطّف علينا، و رفّنا أي: حاطنا، و يقال: ما لفلان حافّ و لا رافّ، و ذهب من كان يحفّه و يرفّه، أي: يخدمه و يحوطه‏ «5»، انته.

و يروى بالخاء المعجمة بمعنى الخفّة، و منه حديث: قد حان منّي خفوف، أي:

عجلة و سرعة مسير «6».

و في رواية بقافين بعد الحاء المهملة جمع حقّ.

و لمّا كانت حقوق الوالدين و ما يجب لهما على الولد حيّين و ميّتين أكثر من أن يحيط بها علم الإنسان، كان مدار هذا الفصل من الدعاء سؤاله عليه السّلام أن يلهمه سبحانه و يعلّمه جميع ذلك، ثمّ يوفّقه للقيام به.

روى ثقة الإسلام في الكافي بسند صحيح عن أبي ولاّد الحنّاط، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن قول اللّه عزّ و جلّ: «وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً»+ ما هذا

______________________________

 (1) النهاية لابن الأثير: ج 2، ص 260.

 (2) القاموس المحيط: ج 3 ص 343.

 (3) كنز اللغات: ج 1 ص 522.

 (4) النهاية لابن الأثير: ج 1 ص 409.

 (5) مجمع الأمثال: ج 2 ص 310.

 (6) النهاية لابن الأثير: ج 2 ص 55. و فيه: «قد كان منّي»

50
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

إرشاد ص : 43

.......... الإحسان؟ فقال: الإحسان أن تحسن صحبتهما، و أن لا تكلّفهما أن يسألاك شيئا ممّا يحتاجان إليه و إن كانا مستغنيين، أ ليس يقول اللّه عزّ و جلّ: «لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ»؟ قال: ثمّ قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: و أمّا قول اللّه عزّ و جلّ: «إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَ لا تَنْهَرْهُما»، قال: إن أضجراك فلا تقل لهما أفّ، و لا تنهرهما إن ضرباك، قال: «وَ قُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً»، قال: إن ضرباك فقل لهما: غفر اللّه لكما، فذلك منك قول كريم، قال:

 «وَ اخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ»، قال: لا تملأ عينيك من النظر إليهما إلاّ برحمة و رقّة، و لا ترفع صوتك فوق أصواتهما و لا يدك فوق أيديهما، و لا تقدّم قدّامهما «1».

و عن معاذ بن جبل قال: بلغنا أنّ اللّه تعالى كلّم موسى عليه السّلام ثلاثة آلاف و خمسمائة مرّة، و كان آخر كلامه. يا ربّ أوصني، قال: أوصيك بامّك حتّى قال سبع مرّات، ثمّ قال: يا موسى ألا إنّ رضاها رضاي و سخطها سخطي‏ «2».

و عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: أتى رجل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فقال: يا رسول اللّه إنّي راغب في الجهاد نشيط، قال: فقال له النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: فجاهد في سبيل اللّه، فإنّك إن تقتل تكن حيّا عند اللّه ترزق، و إن تمت فقد وقع أجرك على اللّه و إن رجعت رجعت من الذنوب كما ولدت، قال: يا رسول اللّه إنّ لي والدين كبيرين يزعمان أنّهما يأنسان بي و يكرهان خروجي، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: فقر مع والديك، فو الذي نفسي بيده لانسهما بك يوما و ليلة خير من جهاد سنة «3».

و قد دلّت هذه الأخبار على أنّ أكثر حقوق الوالدين و برّهما كما يجب، ممّا

______________________________

 (1) الكافي: ج 2 ص 157، ح 1.

 (2) كتاب المخلاة: ص 6.

 (3) الكافي: ج 2، ص 160، ح 10.

51
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تبصرة ص : 52

.......... لا يعلمه إلاّ اللّه أو من علمه اللّه، و اللّه أعلم.

تبصرة

قال شيخنا الشهيد محمّد بن مكّي في قواعد الأصول: لا ريب أنّ كلّ ما يحرم أو يجب للأجانب يحرم أو يجب للأبوين، و ينفردان بامور:

الأوّل: تحريم السفر المباح بغير إذنهما، و كذا السفر المندوب.

و قيل: يجوز سفر التجارة و طلب العلم، إذا لم يمكن استيفاء التجارة و العلم في بلدهما.

الثاني: قال بعضهم: يجب طاعتهما في فعل و إن كان شبهة، فلو أمراه بالأكل معهما من مال يعتقده شبهة أكل، لأنّ طاعتهما واجبة و ترك الشبهة مستحبّة.

الثالث: لو دعواه إلى فعل و قد حضرت الصلاة، فليؤخّر الصلاة و ليطعهما، لما قلناه.

الرابع: هل لهما منعه من الصلاة جماعة؟ الأقرب أنّه ليس لهما منعه مطلقا، بل في بعض الأحيان بما يشقّ عليهما مخالفته، كالسعي في ظلمة الليل إلى العشاء و الصبح.

الخامس: لهما منعه من الجهاد مع عدم التعيين، لما صحّ أنّ رجلا قال: يا رسول اللّه أبايعك على الهجرة و الجهاد، فقال: هل من والديك أحد؟ قال: نعم كلاهما، قال: أ فتبتغي الأجر من اللّه؟ قال: نعم، قال: فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما.

السادس: الأقرب أنّ لهما منعه من فرض الكفاية إذا علم قيام الغير أو ظنّ، لأنّه يكون حينئذ كالجهاد الممنوع منه.

السابع: قال بعض العلماء: لو دعواه في صلاة نافلة قطعها، لما صحّ عن رسول اللّه‏

52
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تتمة ص : 53

.......... صلّى اللّه عليه و آله: أنّ امرأة نادت ابنها و هو في صومعة، قالت: يا جريح، فقال:

اللّهم أمّي و صلاتي، و قالت: يا جريح، فقال: اللّهم أمّي و صلاتي، فقالت:

لا تموت حتّى تنظر في وجوه المومسات‏ «1».

و في بعض الروايات أنّه صلّى اللّه عليه و آله قال: لو كان جريح فقيها لعلم أنّ إجابة أمّه أفضل من صلاته.

و هذا الحديث يدلّ على قطع النافلة لأجلهما، و يدلّ بطريق الأولى على تحريم السفر، لأنّ غيبة الوجه فيه أعظم، و هي كانت تريد منه النظر إليها و الإقبال عليها.

الثامن: كفّ الأذى عنهما و إن كان قليلا، بحيث لا يوصله الولد إليهما و يمنع غيره من إيصاله بحسب طاقته.

التاسع: ترك الصوم ندبا إلاّ بإذن الأب، و لم أقف على نصّ في الأمّ.

العاشر: ترك اليمين و العهد إلاّ بإذنه أيضا، ما لم يكن في فعل واجب أو ترك محرّم. و لم نقف في النذر على نصّ خاصّ، إلاّ أن يقال: هو يمين يدخل في النهي عن اليمين إلاّ بإذنه.

تتمّة

برّ الوالدين لا يتوقّف على الإسلام، لقوله تعالى: «وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً» «2»، «وَ إِنْ جاهَداكَ عَلى‏ أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَ صاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً» «3» و هو نصّ، و فيه دلالة على مخالفتهما في الأمر بالمعصية.

______________________________

 (1) هكذا في الأصل، و المومسة: الفاجرة. جمهرة اللغة: ج 3 ص 258. و لكن في (ج) و (الف) و القواعد: المؤمنات.

 (2) سورة العنكبوت: الآية 8.

 (3) سورة لقمان: الآية 15.

53
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تتمة ص : 53

اللّهُمَّ صَلِّ عَلى‏ مُحَمَّدٍ وَ آلِهِ كَما شَرَّفْتَنا بِهِ، وَ صَلِّ عَلى‏ مُحَمَّدٍ وَ آلِهِ كَمَا أَوْجَبْتَ لَنا الحَقَّ عَلى‏ الخَلْقِ بِسَبَبِهِ.

و هو كقوله عليه السّلام: لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق‏ «1»+.

 [ 730] الكاف في الموضعين: للتعليل عند المثبتين له.

و ما: مصدريّة، أي: لتشريفك إيّانا به و لإيجابك لنا الحقّ على الخلق بسببه، و منه عندهم قوله تعالى: «وَ اذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ» «2» أي: لهدايته إيّاكم.

و نفى الأكثرون ورود الكاف للتعليل، و قالوا: هي في ذلك و نحوه للتشبيه.

و ما: إمّا مصدريّة، فالكاف و مجرورها في محلّ نصب نعت لمصدر محذوف، و التقدير في قوله: «كما شرّفتنا به»: صلّ على محمّد و آله صلاة مماثلة لتشريفك إيّانا به، أي: تكون جزاء لتشريفك إيّانا به، و قس عليه ما بعده و نحوه.

و إمّا كافّة لا محلّ لها من الإعراب، لأنّ الكاف حينئذ ليست بجارّة، بل لمجرّد تشبيه مضمون الجملة بالجملة، و لذا لا تطلب فعلا عاملا يفضي معناه إلى مدخولها. نصّ عليه الرضي‏ «3».

قال ابن هشام في المغني: و فيه إخراج الكاف عمّا يثبت لها من عمل الجرّ من غير مقتض و هو في محلّه‏ «4».

و قد تقدّم الكلام على هذه الكاف بأبسط من هذا في الروضة الثانية، عند قوله عليه السّلام: «كما نصب لأمرك نفسه»، فليرجع إليه.

و اعلم أنّ الضمير في قوله عليه السّلام: «كما شرّفتنا به» «و أوجبت لنا الحق على‏

______________________________

 (1) إلى هنا كان كلام الشهيد قدس سرّه، راجع القواعد و الفوائد: ج 2 ص 46- 49.

 (2) سورة البقرة: الآية 198.

 (3) شرح الكافية في النحو: ج 2، ص 348.

 (4) مغني اللبيب: ج 1، ص 177.

54
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تتمة ص : 53

.......... الخلق بسببه» إمّا أن يكون المراد به مطلق المسلمين، فتشريفهم به ما نالوه به من شرف الإسلام و شرف الذكر، إلى غير ذلك، و إيجابه لهم الحقّ على الخلق بسببه ما أوجبه تعالى من حقوق المسلمين بعضهم على بعض.

روى رئيس المحدّثين في الفقيه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

للمؤمن على المؤمن سبع حقوق واجبة من اللّه تعالى عليه: الإجلال في عينه، و الودّ له في صدره، و المواساة له في ماله، و أن يحرّم غيبته، و أن يعوده في مرضه، و أن يشيّع جنازته، و أن لا يقول فيه بعد موته إلاّ خيرا «1».

و عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: ما أعظم حقّ المسلم على أخيه المسلم‏ «2».

و سئل عليه السّلام عن حقّ المسلم على المسلم، فقال له: سبع حقوق واجبات ما منهنّ حقّ إلاّ و هو عليه واجب، إن ضيّع منها حقّا خرج من ولاية اللّه و طاعته و لم يكن للّه فيه نصيب، ثمّ شرحها عليه السّلام، و الحديث مذكور في الكافي‏ «3».

و في رواية أخرى أنّه سئل عن ذلك، فقال: سبعون حقّا «4».

و الأخبار في هذا المعنى كثيرة.

و إمّا أن يكون المراد به خصوص الأئمّة عليهم السّلام، فتشريفهم به و إيجابه لهم الحقّ على الخلق بسببه ظاهر، فإنّ جميع الحقوق التي أوجبها اللّه سبحانه لرسوله على خلقه أوجبها لهم عليهم السّلام، و كفى شاهدا على ذلك قوله تعالى: أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ» «5». و تخصيص بعض المترجمين الحقّ في الدعاء بمضمون آية القربى من ضيق العطن، و اللّه أعلم+.

______________________________

 (1) من لا يحضره الفقيه: ج 4 ص 398، ح 5850.

رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين ؛ ج‏4 ؛ ص55

 

 (2) الكافي: ج 2، ص 170، ح 5.

 (3) الكافي: ج 2 ص 169، ح 2.

 (4) الكافي: ج 2، ص 174، ح 14.

 (5) سورة محمّد: الآية 33.

55
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تتمة ص : 53

اللَّهُمَّ اجْعَلني أهابُهُما هَيْبَةَ السُلطانِ الْعَسُوفِ، وَ أَبَرُّهُما بِرَّ الأُمِّ الرَّءوفِ، وَ اجْعَلْ طاعَتي لِوالِدَيَّ وَ بِرّي بِهِما أَقَرَّ لِعَيْني مِنْ رَقْدَةِ الوَسْنانِ، وَ أَثْلَجَ لِصَدْري مِنْ شَرْبَةِ الظَّمْآنِ، حَتّى‏ اوثِرَ عَلى‏ هُوايَ هُواهُما، وَ اقَدِّمَ عَلى‏ رِضايَ رِضاهُما، وَ أسْتَكْثِرَ بِرَّهُما بي وَ إنْ قَلَّ، وَ أسْتَقِلَّ بِرّي بِهِما وَ إنْ كَثُرَ.

 [ 731] هابه يهابه- من باب تعب- هيبة: حذره.

و قال ابن فارس: الهيبة: الإجلال‏ «1»، فالفاعل هائب و المفعول مهيوب و مهيب أيضا، و يهيبه- من باب ضرب- لغة، و تهيّبته: خفته، و تهيّبني أفزعني‏ «2».

و في النهاية: يقال: هاب الشي‏ء يهابه إذا خافه و إذا عظّمه و وقّره‏ «3».

و العسوف: الظلوم.

قال ابن الأثير في النهاية: لا تبلغ شفاعتي إماما عسوفا، أي: جائرا ظلوما، و العسف في الأصل أن يأخذ المسافر على غير طريق و لا جادّة و لا علم.

و قيل: هو ركوب الأمر من غير رويّة، فنقل إلى الظلم و الجور «4»، انته.

قال الفيومي في المصباح: عسفه عسفا- من باب ضرب-: أخذه بقوّة و الفاعل عسوفّ‏ «5».

و الإضافة في هيبة السلطان من إضافة المصدر إلى المفعول، إذ المصدر هنا من المبني للمفعول، أي: كما يهاب السلطان العسوف، و إنّما استغنى عن ذكر من يهابه لأنّه ظاهر غير ملتبس.

و يجوز أن يكون من المبني للفاعل مضافا إلى المفعول في اللفظ، و هو في التقدير

______________________________

 (1) معجم مقاييس اللغة: لابن فارس: ج 6 ص 22.

 (2) المصباح المنير: ص 887 نقلا عن ابن فارس.

 (3) النهاية لابن الأثير: ج 5 ص 285- 286.

 (4) النهاية لابن الأثير: ج 3، ص 237.

 (5) المصباح المنير: ص 560.

56
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تتمة ص : 53

.......... مضاف إلى الفاعل، و تقديره: هيبة الرعيّة السلطان العسوف، كقوله تعالى:

 «يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ» «1» أي: كما يحبّ اللّه أو كحبّ المؤمنين اللّه، هذا.

و مقتضى الظاهر أن يقال: هيبة الرعيّة للسلطان العسوف، لأنّ المشبّه هو المصدر المبني للفاعل، أعني هائبيته، لا من المبني للمفعول أعني مهيبته والديه حتّى تشبّه بمهيبيّة السلطان، فلعلّه أراد التشبيه فيهما و لكنّه أوجز النظم، فذكر في جانب المشبّه الهابيته، و في جانب المشبّه به المهيبيّة، و اكتفى بما ذكر في كلّ موضع عمّا ترك في الموضع الآخر، و هذا الاسلوب يسمّى الاحتباك [1] في علم البديع، و قد بسطت القول فيه في شرح بديعيّتي، المسمّى بأنوار الربيع في أنواع البديع‏ «2»، فليرجع إليه.

و برّ الوالدين: إحسان الطاعة إليهما، و الرفق بهما، و تحرّي محابّهما، و توقّي مكارهما.

يقال: بررت والدي أبرّه- من باب علم- برّا و برورا.

و الرءوف: فعول من الرأفة و هي أشدّ الرحمة، و هو مشترك الوزن بين المذكّر و المؤنّث.

______________________________

 [1] هو أن يحذف ما أثبت مقابله في الثاني، و في الثاني ما أثبت مقابله في الأوّل، و بعبارة أخرى: هو أن يجتمع في الكلام متقابلان، فيحذف من كلّ واحد مقابله لدلالة الآخر عليه، كقوله تعالى: «وَ مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ» الآية، التقدير: و مثل الأنبياء و الكفّار كمثل الذي ينعق و الذي ينعق به، فحذف من الأوّل الأنبياء لدلالة الذي ينعق به لدلالة الذين كفروا عليه، و له في القرآن نظائر، و هو أبلغ ما يكون من الكلام و بانه في عبارة ان التقدير و اجعلني أهابهما هيبة كهيبة الرعيّة للسلطان العسوف، و اجعل هيبتهما عندي هيبة السلطان العسوف، فحذف من الأوّل كهيبة الرعيّة لدلالة قوله: هيئة السلطان العسوف عليه، و من الثاني و اجعل هيبتهما عندي لدلالة أهابهما عليه.

______________________________

 (1) سورة البقرة: الآية 165.

 (2) أنوار الربيع في أنواع البديع للمصنّف.

57
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تتمة ص : 53

.......... قال في البارع: إذا كان فعول بمعنى فاعل استوى فيه المذكّر و المؤنثّ، فلا يؤنّث بالهاء سوى عدوّ فيقال: عدوّة «1».

و كلّ من هيبة السلطان و برّ الأمّ مفعول مطلق مبيّن للنوع، إلاّ أنّه في الأوّل مضاف إلى المفعول كما عرفت، و في الثاني مضاف إلى الفاعل، أي: برّ الأمّ الرءوف لولدها.

 [ 732] و الطاعة: اسم من أطاعه، إطاعة، أي: انقاد له.

و اللام في قوله: «لوالديّ»: للتقوية، نحو: كلامي لزيد حسن، و إنّما قال:

لوالديّ و لم يقل: لهما، فوضع الظاهر موضع المضمر، للإيذان بفخامة مضمون الجملة و إظهار مزيد البرّ بهما، و تعدية البرّ بالباء لتضمينه معنى الرفق، و إلاّ فهو متعدّ بنفسه كما علمت.

و قرّت العين- من بابي ضرب و تعب- قرّة بالضمّ و قرورا: بردت سرورا، من القرّ بالضمّ و هو البرد، فهو كناية عن السرور.

و قيل: أي سكنت ببلوغ منيتها من القرار، فهو كناية عن الفوز بالمراد.

و يرجّح الأوّل قولهم: سخنت عينه، في نقيض قرّت عينه.

قال المفضّل: في قرّة العين ثلاثة أقوال:

أحدها: برد دمعها، لأنّه دليل السرور و الضحك، كما أنّ حرّه دليل الغمّ و الحزن.

و الثاني: نومها، لأنّه يكون مع فراغ الخاطر و ذهاب الحزن.

الثالث: حصول الرضا فلا تطمح لشي‏ء آخر «2».

و قد تقدّم الكلام على ذلك مبسوطا في الروضة الأولى، عند قوله عليه السّلام:

______________________________

 (1) المصباح المنير: ص 544 نقلا عن البارع.

 (2) التفسير الكبير للفخر الرازي: ج 24 ص 115.

58
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تتمة ص : 53

.......... «حمدا تقرّ به عيوننا إذا برقت الأبصار»، فليرجع إليه.

و الرقدة: فعلة من الرقود و هو النوم، ليلا كان أو نهارا، و بعضهم يخصّه بنوم الليل، و الأوّل هو الحقّ، و يشهد له المطابقة في قوله تعالى: «وَ تَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَ هُمْ رُقُودٌ» «1».

قال المفسّرون: «إذا رأيتهم حسبتهم أيقاظا» لأنّ أعينهم مفتّحة و هم نيام‏ «2».

و رجل وسنان و امرأة وسنى أي: بهما سنة و هي النعاس. و فاؤها محذوفة، و الأصل وسن بالتحريك، حذفت الفاء و عوّض عنها الهاء «3».

و إنّما خصّ رقدة الوسنان، لأنّ من ملكته السنة لا يكون أقرّ لعينه و لا أهمّ إليه من النوم.

و ثلوج الصدر، برده و بلّ غلّته.

يقال: ثلج صدره ثلوجا و ثلجا محرّكا- من باب قعد و تعب- و هو مأخوذ من الثلج، و هو صغائر القطر التي تجمد في حال الغيم و يلتزق بعضها ببعض و تنزل بالرفق.

قال الزمخشري في الأساس: ثلجت نفسه بكذا: بردت و سرّت، و أثلجت صدري بخيرك، قال الشاعر:

فقرّت بهم عيني و أفنيت جمعهم‏

 

 و أثلجت لما أن قتلتهم صدري‏ «4»

 

 انته.

و قال صاحب كتاب المجتبى: ثلج صدرك أي: سررت، فجعل كناية عن‏

______________________________

 (1) سورة الكهف: الآية 18.

 (2) التفسير الكبير للفخر الرازي: ج 21 ص 101، و تفسير القرطبيّ: ج 10 ص 399.

 (3) (ج): الثاء.

 (4) أساس البلاغة للزمخشري: ص 75، و فيه: «بخبرك».

59
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تتمة ص : 53

.......... السرور، و أصله ما ذكرناه‏ «1».

و الشربة: المرّة الواحدة من الشرب، و من الماء: ما يشرب مرّة.

قال الفارابي في ديوان الأدب: يقال: هل عندك شربة ماء أي: ما يشرب منه مرّة «2».

و الظمآن: العطشان، ظمى ظمأ مهموز مثل عطش عطشا وزنا و معنى، و هي ظمأى مثل عطشان و عطشى.

و قيل: الظمأ: أشدّ العطش، و هو الأنسب هنا.

و في أقرّ و أثلج من عبارة الدعاء شاهد على جواز بناء اسم التفضيل من أفعل مع كونه ذا زيادة، و هو قياس عند سيبويه.

قال الرضي و غيره: و يؤيّده كثرة السماع، كقولهم: هو أعطاهم للمال، و أولاهم للمعروف، و أكرمهم للضيف.

و آثرت هذا على ذاك بالمدّ إيثارا: فضّلته و رجّحته.

و الهوى: إرادة النفس، و يكون في الخير و الشرّ، كما نصّ عليه المحقّقون من أئمّة اللغة، خلافا لمن خصّه بالشرّ «3».

و تقديم كلّ من المجرورين على المفعول الصريح في الفقرتين، لإظهار الرغبة في المؤخّر بتقديم أحواله، فإنّ تأخير ما حقّه التقديم عمّا هو من أحواله المرغبّة فيه، كما يورث شوق السامع إلى وروده، ينبئ عن كمال رغبة المتكلّم فيه و اعتنائه بحصوله لا محالة.

 [ 733] و استكثرت الشي‏ء: عددته كثيرا، و نقيضه أستقللته أي: عددته قليلا.

______________________________

 (1) لا يوجد لدينا هذا الكتاب.

 (2) ديوان الأدب: ج 1 ص 134.

 (3) المصباح المنير: ص 885.

60
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تتمة ص : 53

اللّهُمَّ خَفِّضْ لَهُما صُوْتي، وَ أطِبْ لَهُما كَلامي، وَ ألنْ لَهُما عَريْكَتي، وَ اعْطِفْ عَلَيْهِما قَلْبي، وَ صَيِّرني بِهِما رَفيقاً، وَ عَلَيْهما شَفْيقاً.

و «إنْ» من قوله: «و إن قلّ و إن كثر»: و صليّتان، و قد استوفينا عليها الكلام في الرياض السابقة، و اللّه أعلم.

و الغرض من استكثار برّهما به و إن قلّ، و استقلال برّه بهما و إن كثر، استعظام برّهما به، ليزداد رغبته في محبّتهما و طاعتهما، و لا يقصّر في شكرهما و القيام بحقوقهما، و ليجهد نفسه في مزيد برّه بهما إذا رآه قليلا، فلا يكتفي و يقتصر على ما كان من برّه بهما و إن كان في نفسه كثيرا و اللّه أعلم+.

 [ 734] خفض الرجل صوته خفضا- من باب ضرب-: غضّه و لم يجهر به، و خفّضه تخفيضا بالتثقيل: للمبالغة. أي: وفّقني لرعاية الأدب معهما حتّى إذا خاطبتهما خفضت صوتي لهما، كما هو الدأب عند مخاطبة المهيب المعظّم، و حفظا على مراعاة أبهة الأبوّة و جلالة مقدارها، فإنّ رفع الصوت و الجهر به عند الخطاب خارج عن قانون الأدب، منبئ عن عدم التوقير و الإجلال، و لا سيّما في حق الوالدين.

و عن الصادق عليه السّلام في قوله تعالى: «وَ اخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ»، قال: لا تملأ عينك من النظر إليهما إلاّ برحمة و رأفة، و لا ترفع صوتك فوق أصواتهما و لا يدك فوق أيديهما، و لا تقدّم قدّامهما «1».

و أطاب الشي‏ء طيبة أي: جعله طيّبا، و الطيّب: الحسن الجيّد من كلّ شي‏ء.

و قال الشهاب الفيومي: و الطيّبات من الكلام: أفضله و أحسنه‏ «2».

أي: وفّقني لأن اطيّب لهما كلامي، و فيه إشارة إلى قوله تعالى: «وَ قُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً» «3».

______________________________

 (1) الكافي: ج 2، ص 157- 158، ح 1.

 (2) المصباح المنير: ص 522.

 (3) سورة الاسراء: الآية 23.

61
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تتمة ص : 53

.......... قال أمين الإسلام الطبرسي: أي خاطبهما بقول رفيق لطيف حسن جميل، بعيد عن اللغو و القبيح، يكون فيه كرامة لهما، و يدلّ على كرامة المقول له على القائل‏ «1».

و قيل: أي جميلا مشتملا على حسن الأدب، و رعاية دقائق المروّة و الحياء و الاحتشام.

و قيل: القول الكريم أن يقول لهما: يا أبتاه يا أمّاه دون أن يسمّيهما باسمهما.

و رجل ليّن العريكة: إذا كان سلسا مطاوعا منقادا قليل الخلاف و النفور.

و قيل: العريكة: الطبيعة، و قيل: الخلق، و قيل: النفس.

قال في المحكم: رجل ليّن العريكة أي: ليّن الخلق سلسه، و العريكة: النفس، و يقال: إنّه لصعب العريكة و سهل العريكة، أي: النفس‏ «2»، انته.

و قال الزمخشري في الأساس: فلان ليّن العريكة إذا كان سلسا، و أصله في البعير، و العريكة: السنام. «3» قال صاحب المحكم: إنّما سمّي السنام عريكة، لأنّ المشتري يعرك ذلك الموضع ليعرف سمنه و قوّته‏ «4»، انته.

و على هذا، فلين العريكة استعارة لسلاسة الطبيعة و انقيادها، كما مرّ بيانه في الروضة العشرين‏ «5».

و عطف عليه عطفا: أشفق و تحنّن، و عطفه اللّه عليه أي: جعله مشفقا عليه.

أي: اجعل قلبي عاطفا عليهما مشفقا متحنّنا.

و الرفق: اللطف، رفق به يرفق- من باب قتل- فهو رفيق.

______________________________

 (1) مجمع البيان: 5- 6 ص 409.

 (2) المحكم لابن سيده: ج 1 ص 162.

 (3) أساس البلاغة: ص 417.

 (4) المحكم لابن سيده: ج 1 ص 161.

 (5) ج 3 ص 263.

62
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تتمة ص : 53

اللّهُمَّ اشْكُرْ لَهُما تَرْبَيْتي، و أثِبْهُما عَلى‏ تَكْرِمَتي، وَ احْفَظْ لَهُما ما حَفِظاهُ مِنّي في صِغَري.

و أشفق عليه إشفاقا: رقّ له و رحمه، و الاسم الشفقة بالتحريك. و في القاموس:

الشفقة: حرص الناصح على صلاح المنصوح‏ «1».

و قال في الأساس: لي عليه شفقة و شفق: رحمة و رقّة و خوف من حلول المكروه به مع نصح، و أشفقت عليه أن يناله مكروه، و أنا مشفق عليه و شفيق و شفق‏ «2».

و تقديم المجرور على المفعول في الفقرات كلّها، لإظهار الاعتناء به و إبراز الرغبة في المؤخّر بتقديم أحواله، كما مرّ بيانه+.

 [ 735] الشكر من اللّه عزّ و جلّ: مجازاته على يسير الطاعات بجليل المثوبات.

و قيل: ثناؤه على من أطاعه.

و قال في النهاية: في أسمائه تعالى الشكور، و هو الذي يزكو عنده القليل من أعمال العباد فيضاعف لهم الجزاء، فشكره لعباده مغفرته لهم‏ «3»، انته.

قال بعضهم: لمّا كان تعالى مجازيا للمطيع على طاعته بجزيل ثوابه، جعل مجازاته لهم شكرا على طريق المجاز، كما سمّيت المكافاة مكرا.

و المعنى: اجزهما على تربيتي عظيم الجزاء.

قالوا: و الأكثر في الشكر أن يتعدّى باللام، فيقال: شكرت له، و ربّما تعدّى بنفسه فيقال: شكرته.

و أنكره الأصمعي في السعة، و قال: بابه الشعر «4».

و التحقيق أنّ الشكر إذا عدّي إلى المنعم عدّي باللام، فيقال: شكرت له، كما قال تعالى: «وَ اشْكُرُوا لِي» «5»، و إذا عدّي إلى النعمة عدّي بنفسه، فيقال:

______________________________

 (1) القاموس المحيط: ج 3، ص 250.

 (2) أساس البلاغة: ص 333.

 (3) النهاية لابن الأثير: ج 2، ص 493.

 (4) المصباح المنير: ص 439.

 (5) سورة البقرة: الآية 152.

63
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تتمة ص : 53

.......... شكر النعمة، و قد يجمع بينهما في الذكر على هذا الوجه، فيقال. شكر له نعمته، و مثله عبارة الدعاء، و ربّما عدّي إلى المنعم بنفسه على تقدير مضاف، فيقال: شكر فلانا أي: شكر نعمته.

قال الزمخشري في الأساس: شكر للّه نعمته «و اشكروا لي»، و قد يقال:

شكرت فلانا يريدون نعمة فلان، و قد جاء زياد الأعجم بهما في قوله:

و يشكر تشكر من ضامها

 

 و يشكر للّه لا تشكر «1»

 

 انته كلامه.

و ربي الصغير يربي- من باب تعب- و في لغة ربا يربو- من باب علا-: إذا نشأ و نما، و يتعدّى بالتضعيف فيقال: ربّاه يربّيه تربية فتربّى هو. و عرّفوا التربية بأنّها تبليغ الشي‏ء إلى كماله شيئا فشيئا.

و أثابه يثيبه إثابة: جازاه على صنيعه و كافاه به، و الاسم الثواب، و يكون في الخير و الشرّ و الأوّل أكثر.

و التكرمة بفتح التاء و كسر الراء: اسم من كرّمه تكريما بمعنى أكرمه إكراما.

و في القاموس: التكرمة: التكريم‏ «2».

و حفظت لزيد صنيعه: راعيته و شكرته له و كافأته به و لم أنسه. أي: و جازهما على ما صاناه من أمري و قاما به من شأني في وقت صغري.

و في هذه الفقرات إشارة إلى عجز الولد عن القيام بما يجب للوالدين، من الشكر و المكافاة لهما و مجازاته على إحسانهما إليه، فتوسّل إلى القادر على ذلك بأن يشكر لهما و يجازيهما عليه.

و في الحديث: أنّ رجلا جاء إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فقال له: يا

______________________________

 (1) أساس البلاغة: ص 335.

 (2) القاموس المحيط: ج 4، ص 170.

64
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تتمة ص : 53

اللّهُمَّ وَ ما مَسَّهُما مِنّي مِنْ أذىً، أوْ خَلَصَ إلَيْهِما عَنّي مِنْ مَكْرُوهٍ، أوضاعَ لَهُما قِبَلي مِنْ حَقٍّ فَاجْعَلْهُ حِطَّةً لِذُنُوبِهِما، وَ عُلُوّاً في دَرَجاتِهِما، وَ زيادةً في حَسَناتِهِما، يا مُبَدِّلَ السَّيئاتِ بِأضْعافِها مِنَ الحَسَناتِ.

رسول اللّه إنّ أبويّ بلغا من الكبر، إنّي ألي منهما ما وليا منّي في الصغر، فهل قضيتهما حقّهما؟ قال: لا فإنّهما كانا يفعلان ذلك و هما يحبّان بقاءك، و أنت تفعل ذلك و تريد موتهما «1».

و شكى إليه آخر سوء خلق أمّه، فقال: لم تكن سيّئة الخلق حين حملتك تسعة أشهر، قال: إنّها سيّئة الخلق قال: لم تكن كذلك حين أرضعتك حولين، قال: إنّها سيّئة الخلق، قال: لم تكن كذلك حين أسهرت لك ليلها و أظمأت نهارها، قال:

لقد جازيتها، قال: ما فعلت؟ قال: حججت بها على عاتقي، قال: ما جازيتها و لا طلقة «2». و اللّه أعلم+.

 [ 736] مسّه يمسّه- من باب تعب، و في لغة من باب قتل-: لمسه بيده.

و قال الفيومي: مسسته: أفضيت إليه بيدي من غير حائل، هكذا قيّدوه‏ «3»، انته.

و قال البيضاوي: المسّ: إيصال الشي‏ء بالبشرة بحيث تتأثّر الحاسّة، و اللمس كالطلب له، و لذلك يقال: ألمسه فلا أجده‏ «4»، انته.

يعني أنّ اللمس ينبئ عن اعتبار الطلب معه، سواء كان داخلا في مفهومه أو لازما له، فإنّه في الأصل المسّ باليد، على ما في الصحاح‏ «5» و القاموس‏ «6».

و لعدم الجزم بالدخول أورد الكاف، لا أنّ معناه مجرّد الطلب له على ما توهّم، فأورد عليه قوله تعالى: «أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ»+ «7»، و لاعتبار الطلب في مفهومه سواء

______________________________

 (1) تفسير الكشاف: ج 2 ص 659.

 (2) تفسير الكشاف: ج 2 ص 659.

 (3) المصباح المنير: ص 786.

 (4) أنوار التنزيل: ج 1، ص 65.

 (5) الصحاح: ج 3، ص 978.

 (6) القاموس المحيط: ج 2، ص 251.

 (7) سورة المائدة: الآية 6.

65
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تتمة ص : 53

.......... كان داخلا او خارجا، يقال: ألمسه أي: أطلب مسّه فلا أجده، ثمّ استعير المسّ للإصابة، و منه قوله تعالى: «إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ» «1».

قال الزمخشري في الكشّاف: المسّ مستعار لمعنى الإصابة «2».

و قال في الأساس: و من المجاز: مسّه الكبر و مسّه العذاب‏ «3».

و من: الأولى للابتداء، و الثانية للتبيين.

و الأذى: المكروه اليسير، كذا في القاموس‏ «4».

و قال بعضهم: الأذى مصدر كالأسى، يقال: آذاه يؤذيه، و الأذى نوع من الضرر، و هو الضرر اليسير، انته.

و قد يقال: لمّا كان الأذى عبارة عن يسير المكروه و الضرر، ناسب أن يعبّر عن الإصابة بالمسّ المنبئ عن أدنى مراتب الإصابة، فإنّ الإصابة أقوى من المسّ، و إن لم يفرّق بينهما صاحب الكشّاف، لكنّ المحقّقون نصّوا على ذلك في قوله تعالى:

 «إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَ إِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها» «5».

قالوا: ذكر المسّ مع الحسنة و الإصابة مع السيّئة، للإيذان بأنّ مدار مساءتهم أدنى مراتب إصابة الحسنة، و مناط فرحهم تمام إصابة السيّئة.

و قال صاحب الكشف هو السراج الفارسي: التحقيق أنّ الإصابة أقوى من المسّ، فالمعنى أنّ الحسنة أيّ قدر كان و لو مساسا تسؤهم، و أمّا الفرح بالسوء فلا يكون إلاّ إذا كان بوصول له وقع، لأنّ مقام المبالغة في الحسد و الغيظ يقتضي ذلك‏ «6»، انته.

قال النظام النيسابوري: و على هذا فلا يبعد أن يقال: التنوين في حسنة

______________________________

 (1) سوره آل عمران: الآية 120.

 (2) تفسير الكشاف: ج 1، ص 407- 408.

 (3) أساس البلاغة: ص 594.

 (4) القاموس المحيط: ج 4، ص 298.

 (5) سوره آل عمران: الآية 120.

 (6) لم نعثر عليه.

66
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تتمة ص : 53

.......... للتقليل، و في سيّئة للتعظيم‏ «1»، انته.

و الخلوص إلى الشي‏ء: الوصول إليه.

قال في الأساس: خلص إليهم: و صل، و خلص إليه الحزن و السرور «2».

و الفعل من باب قعد.

و عن: للمجاوزة، أي: متجاوزا و منفصلا عنّي، و هذا الموضع يجوز فيه استعمال «من» و «عن».

قال الرضي: إذا قصدت ب «من» مجرّد كون المجرور بها موضعا انفصل عنه الشي‏ء و خرج منه، لا كونه مبدأ لشي‏ء ممتدّ، جاز أن يقع موقعها عن، لأنّها لمجرّد التجاوز، تقول: انفصلت منه و عنه‏ «3»، انته.

و حاصل الفقرتين: ما نالهما منّي من مكروه يسير أو جليل، فيكون التنوين في مكروه للتعظيم.

قبلي بكسر القاف و فتح الباء: أي عندي.

قال الفارابي في ديوان الأدب: يقال لي قبل فلان حقّ، أي: عنده‏ «4».

و الفاء من قوله: «فاجعله»: لربط شبه الجواب بشبه الشرط. و الحطّة بالكسر:

اسم من حطّ اللّه عنه ذنبه.

قال في القاموس: استحطّه وزره: سأله أن يحطّه، و الاسم: الحطّة «5».

و قال ابن الأثير في النهاية: فيه من ابتلاه اللّه ببلاء في جسده فهو له حطّة، أي:

يحطّ عنه خطاياه و ذنوبه، و هي فعلة من حطّ الشي‏ء يحطّه: إذ أنزله و ألقاه، و منه الحديث في ذكر حطّة بني إسرائيل، و هو قوله تعالى: «وَ قُولُوا حِطَّةٌ»+ أي: قولوا حطّ

______________________________

 (1) تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان: ج 1 ص 357.

 (2) أساس البلاغة: ص 172.

 (3) الكافية في النحو: ج 2 ص 321.

 (4) ديوان الأدب: ج 1 ص 265.

 (5) القاموس المحيط: ج 2، ص 354.

67
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تتمة ص : 53

اللَّهُمَّ وَ ما تَعَدَّيا عَلَيَّ فيهِ مِنْ قَوْلٍ، أوْ أسْرَفا عَلَيَّ فيهِ مِنْ فِعْلٍ، أوْ ضَيَّعاهُ لي مِنْ حَقٍّ، اوْ قَصَّرا بي عَنْهُ مِنْ واجِبٍ، فَقَدْ وَهَبْتُهُ لَهُما، وَ جُدْتُ بِهِ عَلَيْهِما، وَ رَغِبْتُ إلَيْكَ في وَضْعِ تَبِعَتِهِ عَنْهُما، فَإنّي لا أتّهِمُهُما عَلى‏ نَفْسي، وَ لا أسْتَبْطِئُهُما في بِرّي، وَ لا أكْرَهُ ما تَوَلّياهُ مِنْ أمْري، يا رَبِّ فَهُما أوْجَبُ حَقًّا عَلَىَّ، وَ أقْدَمُ إحْسانًا إلَىَّ، وَ أعْظَمُ مِنَّةً لَدَىَّ، مِنْ أنْ اقاصَّهُما بِعَدْلٍ، أوْ اجازِيَهُما عَلى‏ مِثْلٍ، أيْنَ إذاً يا إلهِي‏ عنّا ذنوبنا «1»، انته.

أي: اجعله سببا لحطّ ذنوبهما. و قد تقدّم توجيه اعتراف المعصومين عليهم السّلام بالذنوب و الاستغفار منها، في الروضة الثانية عشرة بما لا مزيد عليه، فليرجع إليه.

 [ 737] و لمّا كان ابتلاء المؤمن بالمصائب و المكاره في هذه الدار، إمّا حطّة لأوزاره أو رفعة لمقداره، كما نطقت به مستفيضات الأخبار، سأل عليه السّلام أن يجعل اللّه تعالى ما أصاب والديه من قبله من المكاره و نالهما من التقصير من جهته، سببا لخير عائد إليهما، و هو حطّة لذنوبهما و رفعة في درجتهما و زيادة في حسناتهما، فيكون ما وقع منه من السيّئة حسنة له أيضا.

و لذلك ختم هذا الفصل بقوله عليه السّلام: يا مبدّل السيّئات بأضعافها من الحسنات.

و قد مرّ شرح هذه الفقرة مبسوطا في آخر الروضة الثانية، فأغنى عن الإعادة+.

 [ 738] عدّى عليه و تعدّى و اعتدى: ظلمه و تجاوز الحدّ.

و في: للظرفيّة المجازيّة.

و من: للبيان.

و أسرف إسرافا: جاوز المقصد، و الاسم السرف بفتحتين.

______________________________

 (1) النهاية لابن الأثير: ج 1 ص 402.

68
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تتمة ص : 53

طُولُ شُغْلِهِما بِتَرْبِيَتِى، وَ أيْنَ شِدَّةُ تَعَبِهِما في حِراسَتي، وَ أيْنَ إقْتارُهُما عَلى أنْفُسِهِما لِلتَّوْسِعَةِ عَلَىَّ، هَيْهاتَ ما يَسْتَوفِيانِ مِنّي حَقَّهُما، وَ لا أدْرِكُ ما يَجِبُ عَلَيَّ لَهُما، وَ لا أنا بِقاضٍ وَظيفَةَ خِدْمَتِهِما، فَصَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَ آلِهِ، وَ أعِنّي يا خَيْرَ مَنِ استُعينَ بِهِ، وَ وَفِّقْني يا أهْدى مَنْ رُغِبَ إِلَيْهِ، وَ لا تَجْعَلْني في أهْلِ العُقُوقِ لِلآباءِ وَ الامّهاتِ، يَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ.

قال الأزهري و غيره: السرف في الشي‏ء: مجاوزة الحدّ المعروف لمثله‏ «1»، انته.

و أكثر ما يستعمل في مجاوزة الحدّ في النفقة، و منه: لا خير في السرف كما لا سرف في الخير «2».

قال الراغب: و ليس الإسراف متعلّقا بالمال فقط، بل بكلّ شي‏ء وضع في غير موضعه اللائق به، ألا ترى أنّ اللّه تعالى وصف قوم لوط بالإسراف لوضعهم البذر في غير المحرث، فقال: «إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ»، و وصف فرعون بقوله عزّ و جلّ: «إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ»، و قوله:

 «وَ إِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَ إِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ» «3»، انته.

و حقّ الإنسان: ما كان ثابتا لازما له.

و قصّر به عن الشي‏ء تقصيرا: لم يبلغ به إليه.

يقال: قصر به- من باب قرب-، و قصّر به تقصيرا عن الشي‏ء بالتثقيل:

للمبالغة، و منه قصرت بنا النفقة: إذا لم تبلغ بنا مقصدنا.

و في الحديث: إنّ قومك قصرت بهم النفقة «4».

______________________________

 (1) تهذيب اللغة: ج 12 ص 399.

 (2) عوالي اللئالي: ج 1 ص 291 ح 154.

 (3) الذريعة إلى مكارم الشريعة: ص 216- 217.

 (4) صحيح البخاري: ج 2، ص 180.

69
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تتمة ص : 53

.......... روي بتشديد الصاد المفتوحة، و بتخفيفها مضمومة. نصّ عليه الكرماني في شرح البخاري‏ «1».

فالباء للتعدية، فهي مع المخفّف مثل خرجت به، و مع المثقّل مثل مثلّت به تمثيلا.

و المعنى: ما لم يبلغا بي إليه من واجب لي عليهما.

و الحقّ و الواجب هنا و إن كانا بمعنى، إلاّ أنّ مفاد الفقرة الأولى ضياع الحقّ جملة، و مفاد الفقرة الثانية عدم إتمام الواجب بل الوقوف دونه، فقول بعضهم: إنّ ظرفيّة الباء أولى من سببيّتها و هم أو خبط.

و «أو» في الموضعين: للتنويع.

و وهبت لزيد مالا أهبه له هبة: أعطيته بلا عوض.

 [ 739] و جاد عليه يجود- من باب قال- جودا بالضمّ: تكرّم.

و رغبت إلى اللّه: تضرّعت إليه و سألته.

و التبعة على وزن كلمة: ما تطلبه من ظلامة و نحوها.

و مدار هذا الفصل على تجاوزه عليه السّلام عن مؤاخذتهما بما وقع منهما إليه، من الإساءة في قول أو فعل، أو إضاعة حقّ، أو تقصير في واجب.

فقد روى رئيس المحدّثين بسنده عن سيّد العابدين صاحب الدعاء عليه السّلام أنّه قال في حديث طويل: و أمّا حقّ ولدك فأن تعلم أنّه منك و مضاف إليك في عاجل الدنيا بخيره و شرّه، و أنّك مسئول عمّا وليّته من حسن الأدب، و الدلالة على ربّه عزّ و جلّ، و المعونة له على طاعته، فاعمل في أمره عمل من يعلم أنّه مثاب على الإحسان إليه، معاقب على الإساءة إليه‏ «2».

______________________________

 (1) شرح صحيح البخاري: للكرماني: ج 8، ص 105.

 (2) الخصال: ص 568.

70
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تتمة ص : 53

.......... و روى ثقة الإسلام في الكافي بسنده عن زيد بن عليّ عن أبيه عن جدّه عليهم السّلام، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يلزم الوالدين من العقوق لولدهما ما يلزم الولد لهما من عقوقهما «1».

و الفاء من قوله: «فإنّي لا أتّهمهما»: للسببيّة بمعنى اللام، فهي للدلالة على سببيّة ما بعدها لما قبلها.

و اتّهمته بكذا: ظننت به، و اتّهمته في قوله: شككت في صدقه. و أصله او تهمت، لأنّه من الوهم، قلبت الواو ياء لسكونها و انكسار ما قبلها، ثمّ أبدلت منها التاء فادغمت في تاء الافتعال.

و استبطأته: اعتقدته و رأيته بطيئا، و هو استفعال من البطء بالضمّ مهموز الآخر، و هو نقيض السرعة.

و تولّى الأمر تولية: صار عليه واليا.

و كرّر النداء أوّلا بوصف الالوهيّة الجامعة لجميع الكمالات، و ثانيا بوصف الربوبيّة المنبئة عمّا فيه صلاح المربوب، إظهارا لكمال التضرّع و الابتهال و مبالغة في الاستدعاء.

 [ 740] و الفاء من قوله: «فهما أوجب»: سببيّة، إذ كان ما بعدها سببا لما قبلها، فهي لتعليل جعله عدم اتّهامهما على نفسه، و استبطائهما في برّه، و كراهيّته لما تولّياه من أمره، سببا لتجاوزه عنهما و الرغبة إليه تعالى في وضع التبعة عنهما، فكأنّه قال: إنّما جعلت حسن ظنّي بهما و ما بعده سببا لتجاوزي عن موأخذتهما، لأنّهما أوجب حقّا عليّ إلى آخره.

و لك جعلها- أعني الفاء- رابطة للجملة بما قبلها، مثلها في قوله تعالى: «وَ إِذا قِيلَ‏

______________________________

 (1) الكافي: ج 6، ص 48، ح 5.

71
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تتمة ص : 53

.......... لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ» «1».

و قول بعضهم: استئناف الفاء في «فهما» أولى من سببيّتها و هم، إذ لم يقل أحد باقتران الجملة الاستئنافيّة بالفاء مع ذكر المبتدأ فيها، بل صريح كلامهم أنّ الفاء الاستئنافيّة هي التي يقدّر ما بعدها مبنيّا على مبتدأ محذوف، نحو: ما تأتينا فتحدّثنا بالرفع، أي: فأنت تحدّثنا الآن بدلا عن ذلك، و قول الشاعر:

ألم تسأل الربع القواء فينطق‏

 

 

 

 أي: فهو ينطق.

و أوجب: أي: ألزم و أثبت، من وجب الشي‏ء: إذا لزم و ثبت.

و حقّا: منصوب على التمييز، و أصله حقّهما أوجب، فحذف المضاف و أقيم المضاف إليه و هو ضمير الغائبين مقامه، فارتفع و انفصل و صارهما أوجب، ثمّ جي‏ء بالمحذوف تمييزا، و قس عليه قوله: «أقدم إحسانا و أعظم منّة».

و توهّم بعضهم أنّ هذا التمييز محوّل عن الفاعل كاشتعل الرأس شيبا، فخبط خبط عشواء.

و أقدم: أفعل من قدم الشي‏ء بالضمّ قدما على وزن عنب بمعنى سبق، أي:

أسبق إحسانا.

و «من» في قوله: «من أن اقاصّهما»: ليست صلة لأفعل، بل متعلّقة بالبعد المفهوم من التفضيل، لعدم صحّة قصد التفضيل و المشاركة للمفضّل عليه تحقيقا أو تقديرا، بل اسم التفضيل هنا مخرج عن معناه التفضيلي إلى التجاوز و البعد الذي يلزمه، فإنّ التفضيل يستلزم بعد المفضّل عن المفضّل عليه، فكأنّه قيل: هما بعيدان من جهة الحقّ من مقاصّتي لهما، أو المعنى هما أبعد الناس حقّا من مقاصّتي لهما،

______________________________

 (1) سورة البقرة: الآية 206.

72
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تتمة ص : 53

.......... على تضمين أفعل معنى أبعد. و قد بسطنا الكلام على بيان هذه المسألة و اختلاف أقوال العلماء فيها في الروضة السادسة عشرة، فليرجع إليه.

فما وقع لبعض المعربين من أنّ «من» لابتداء الغاية جارّة للمفضّل عليه المؤوّل من أنّ المصدريّة و اقاصّ، خبط لا يلتفت إليه.

و قاصصته مقاصّة- من باب قاتل- فعلت به مثل ما فعل، و الاسم القصاص.

و يجب إدغام الفعل و المصدر و اسم الفاعل، يقال: قاصّه مقاصّة كما يقال: سارّه مسارّة و حاجّة محاجّة و ما أشبه ذلك.

و العدل: إمّا بمعنى ضدّ الجور، فالباء للاستعانة كما في كتبت بالقلم، أو للسببيّة متعلّقة باقاصّهما، جعل العدل كالآلة للقصاص أو سببا فيه. و يجوز أن تكون للملابسة فتكون متعلّقة بمحذوف حال من ضمير المتكلّم أي: ملتبسا بعدل، أو صفة لمصدر محذوف أي: مقاصّة ملتبسة بعدل.

و إمّا بمعنى المثل و النظير، فالباء للمقابلة، نحو: كافأته على إحسانه بضعف، و المعنى أن أقاصّهما بمثل ما فعلاه بي.

و جازيته بذنبه: عاقبته عليه.

و أو: للتنويع.

و على: ليست صلة لاجازيهما كما هو المتبادر، إذ لا معنى للمجازاة على فعل المثل، بل المجازاة إنّما تكون على نفس الفعل، فهي متعلّقة بمحذوف صفة لمصدر مؤكّد محذوف، و التقدير: أو اجازيهما مجازاة كائنة على مثل أي: مماثلة لفعلهما من الإساءة.

و الفرق بين المقاصّة و المجازاة أنّ المقاصّة تكون بمقابلة الفعل بفعل من جنسه، كمقابلة الضرب بالضرب و الجرح بالجرح، و المجازاة تكون بمقابلته من غير جنسه، كمقابلة الشتم بالضرب، فكان مفاد كلّ من الفقرتين غير الآخر.

73
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تتمة ص : 53

قال بعضهم: و يحتمل أن يكون المراد بفقرة المجازاة بيان عدم قدرته على مجازاة حقّهما بما يساويه و يماثله. و لا يخفى عدم ملاءمته لما قبله و ما بعده.

 [ 741] قوله عليه السّلام: «أين إذا يا إلهي طول شغلهما بتربيتي» استئناف لانقطاع تعلّق الجملة بما قبلها لفظا، و إن تعلّقت به من جهة المعنى، فهي كجملة الدعاء من قولك: مات فلان رحمه اللّه.

و أين: اسم استفهام عن المكان، و ليس الاستفهام به على حقيقته، بل المراد به استعظامه لحقّهما و اعتداده بإحسانهما إليه.

و إذن عند الجمهور حرف بسيط، و النون فيها أصل كنون لن و عن، و هي حرف جواب و جزاء.

قال البدر الدماميني: معنى كونها حرف جواب لأنّها تستعمل في كلام مقتضب ابتداء، بحيث لا يكون هناك كلام متقدّم يقتضي أن تكون الجملة التي فيها إذن جوابا له، و إنّما تستعمل حيث يكون ثمّ سؤال أو كلام ملفوظ أو مقدّر، و تكون الجملة التي وقعت إذن في صحبتها جوابا لذلك الكلام الملفوظ أو المقدّر «1».

و الجواب في الحقيقة إنّما هو تلك الجملة التي وقعت إذن في صحبتها، سواء وقعت في صدرها أو حشوها أو آخرها لا إذن وحدها، و ليس المراد بالجواب ما يراد بجزاء الشرط، و لا ما يراد في قولهم: أنّ مثل نعم، و لا حرف جواب كما توهّمه بعضهم.

و المراد بكونها للجزاء أن يكون مضمون الكلام الذي هي فيه جزاء لمضمون كلام آخر.

قال في المفصّل: إذن: جواب و جزاء، يقول الرجل: أنا آتيك، فتقول: إذن‏

______________________________

 (1) تحفة الغريب بهامش المنصف من الكلام: ج 1 ص 41- 42.

74
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تتمة ص : 53

.......... أكرمك، فقد جعلت كلامك جوابا لكلامه، و صيّرت إكرامك جزاء لاتيانه‏ «1»، انته.

قال المرادي و غيره: قال قوم منهم الشلوبين: هي للجواب و الجزاء في كلّ موضع‏ «2»، و تكلّفوا تخريج ما خفي فيه ذلك.

و قال الفارسي: في الأكثر، و قد تكون للجواب وحده، نحو أن يقال:

أحبّك، فتقول: إذن أظنّك صادقا، فلا يتصوّر هنا الجزاء «3»، انته.

و إنّما يتصوّر هنا الجزاء لما قال الرضي: إنّ الشرط و الجزاء إمّا في الاستقبال أو في الماضي، و لا يتأتّى شي‏ء منهما في الحال‏ «4».

إذا عرفت ذلك فكون إذن في عبارة الدعاء للجواب كونها جوابا عن سؤال مقدّر، كأنّه سئل عليه السّلام فقيل له: ما عليك لو قاصصهما بعدل و جازيتهما على مثل؟ فقال عليه السّلام: أين إذن طول شغلهما بتربيتي.

كما قال التبريزي في شرح الحماسة في قوله:

لو كنت من مازن لم تستبح إبلي‏

 

 بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا

إذن لقام بنصري معشر خشن‏

 

 عند الحفيظة إن ذو لوثة لانا «5»

 

 قال سيبويه: إذن: حرف جواب و جزاء، فيجوز أن يكون هذا القائل قدّر أنّ سائلا سأله، فقال: و لو كنت من مازن فما ذا كانوا يصنعون؟

فقال: إذن لقام بنصري البيت، فهذا البيت جواب لهذا السائل و جزاء للمستبيح‏ «6»، انته.

و إذن هذه هي الناصبة للمضارع إذا دخلت عليه، بشرط تصدّرها و استقباله‏

______________________________

 (1) المفصّل: ص 323.

 (2) مغني اللبيب: ص 30.

 (3) مغني اللبيب: ص 30 نقلا بالمعنى.

 (4) الكافية النحو: ج 2 ص 236.

 (5) مغني اللبيب: ص 30.

 (6) مغني اللبيب: ص 30- 31 نقلا عن سيبويه.

75
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تتمة ص : 53

.......... و اتصالهما أو انفصالهما بالقسم أو بلا النافية، و الصحيح أنّها هي الناصبة بنفسها لا بأن مضمرة.

و ذهب بعضهم إلى أنّها اسم، و الأصل في «إذن أكرمك» إذا جئتني اكرمك، ثمّ حذفت الجملة و عوّض عنها التنوين و اضمرت أن.

و قال الزركشي في البرهان: و ذكر بعض المتأخّرين أنّ إذن تكون مركّبة من إذ التي هي ظرف زمان و مضاف، و من جملة بعدها تحقيقا أو تقديرا، لكن حذفت الجملة تخفيفا و أبدل منها التنوين، كما في قولهم: حينئذ، و ليست هذه الناصبة للمضارع، لأنّ تلك تختصّ به و لذا عملت فيه، و هذه لا تختصّ بل تدخل على الماضي، نحو: «إذا لاتيناهم»، «إذا لامستكم»، «إذا لأذقناك»، و على الاسم نحو: «إنّكم إذا لمن المقرّبين»، قال: و هذا المعنى لم يذكره النحاة، لكنّه قياس ما قالوه في إذن‏ «1»، انته.

قال بعض المحقّقين: و عدم ذكر النحاة لهذا المعنى هو الوجه، لأنّ إذن هذه هي الناصبة للمضارع جزما، و القول بأنّ تلك تختصّ بالمضارع ممنوع، فقد صرّح النحويّون بعدم الاختصاص.

قال في التصريح: حكى سيبويه عن بعض العرب إلغاء إذن من عمل النصب في المضارع مع استيفاء شروط العمل، و هو القياس لأنّها لا تختصّ‏ «2»، انته.

و قال الزجّاج و الفارسي: الناصب أن مضمرة بعدها لا هي، لأنّها غير مختصّة إذ تدخل على الجمل الابتدائيّة، نحو: إذن عبد اللّه يأتيك، و تليها الأسماء مبنيّة على غير الفعل‏ «3».

______________________________

 (1) البرهان في علوم القرآن: ج 4 ص 187.

 (2) شرح التصريح على التوضيح: ج 2 ص 235.

 (3) تحفة الغريب بهامش المنصف من الكلام: ج 1 ص 41.

76
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تتمة ص : 53

.......... و قال الرضي: الذي يلوح لي في إذن و يغلب في ظنّي أنّ أصلها إذا، حذفت الجملة المضاف إليها و عوّض منها التنوين، لما قصد جعله صالحا لجميع الأزمنة الثلاثة بعد ما كان مختصا بالماضي، و ذلك أنّهم أرادوا الإشارة إلى زمان فعل مذكور، فقصدوا إلى لفظ إذا الذي هو بمعنى مطلق الوقت لخفّة لفظه، و جرّدوه عن معنى الماضي و جعلوه صالحا للأزمنة الثلاثة، و حذفوا الجملة المضاف هو إليها، لأنّهم لما قصدوا أن يشيروا به إلى زمان الفعل المذكور دلّ ذلك الفعل السابق على الجملة المضاف إليها، كما يقول لك شخص: أنا أزورك، فتقول: إذن اكرمك، أي: إذ تزورني اكرمك، أي: وقت زيارتك لي اكرمك، و عوّض التنوين من المضاف إليه لأنّه وضع في الأصل لازم الإضافة، فهو ككلّ و بعض إلاّ أنّهما معربان.

و إذ مبنيّ، فإذ- على ما تقرّر- صالح للماضي، كقوله: إذن لقام بنصري، و للمستقبل نحو: إن جئتني إذن اكرمك، و للحال نحو: إذن أظنّك كاذبا، و إذن هاهنا هي إذ في قولك: حينئذ و يومئذ، إلاّ أنّه كسر ذلك في نحو: حينئذ، لتكون في صورة ما أضيف إليه الظرف المقدّم، و إذا لم يكن قبله ظرف في صورة المضاف فالوجه فتحه، ليكون في صورة ظرف منصوب لأنّ معناه الظرف، و قد جاء كسره نادرا كقوله:

نهيتك عن طلابك أمّ عمرو

 

 بعاقبة و أنت إذ صحيح‏

 

 كما جاء فتحه في حينئذ نادرا. قال: و إنّما ارتكبت ادّعاء إذا زمانيّة محذوفة الجملة المضاف إليها، لظهور معنى الزمان فيها في جمع استعمالاتها كما في إذ، فإنّ معنى إن جئتني إذن أكرمك: في وقت المجي‏ء أكرمك، و كذا لو زرتني إذن اكرمك، و لا سيّما في قوله تعالى: «فَعَلْتُها إِذاً وَ أَنَا مِنَ الضَّالِّينَ».

و قولهم: إذن أظنّك كاذبا بالرفع، فإنّها متمحّضة للزمان و لا شرطيّة فيها، و قلب‏

77
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 78

نونها ألفا في الوقف يرجّح جانب اسميّتها «1»، انته.

و هذا القول ممّا تفرّد به الرضي و لم يقل به غيره فيما أعلم، و هو من الحسن بمكان، و عليه فمعنى إذن في عبارة الدعاء: أين إذن اقاصصهما بعدل و اجازيهما على مثل طول شغلهما بتربيتي، أي: وقت مقاصّتي و مجازاتي لهما. و إنّما بسطنا الكلام على إذن هنا، لأنّي لم أر من استوفى الكلام عليها في مثل هذه العبارة، فأردت أن أكشف عن حقيقتها، و اللّه أعلم.

تنبيه‏

اتّفقت نسخ الصحيفة الشريفة إلاّ ما شذّ على رسم إذا بالألف، و هو الموافق لرسمها في المصاحف. و اختلف النحويّون في ذلك، و جزم ابن مالك في التسهيل بأنّها تكتب بالألف مراعاة للوقف عليها، لأنّها تبدل في الوقف ألفا تشبيها لها بتنوين المنصوب‏ «2».

و عزاه ابن هشام في المغني للجمهور «3».

و قال أبو حيّان في شرح التسهيل: و ذهب المازني و الأكثرون إلى أنّها تكتب بالنون‏ «4».

و اختلف النقل عن الفراء، فقال الرضي‏ «5» و ابن هشام: قال الفرّاء: إن اعملت كتبت بالألف و إلاّ كتبت بالنون، للفرق بينهما و بين إذا الزمانيّة، و أمّا إذا عملت فالعمل يميّزها عنها «6».

و قال أبو حيّان: فصّل الفرّاء: فقال: إن الغيت كتبت بالألف لضعفها، و إن‏

______________________________

 (1) الكافية في النحو: ج 2 ص 235- 236.

 (2) التسهيل:

 (3) مغني اللبيب ص 31.

 (4) لا يوجد لدينا هذا الكتاب.

 (5) الكافية في لنحو: ج 2 ص 238.

 (6) مغني اللبيب: ص 31.

78
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 78

.......... اعملت كتبت بالنون لقوّتها «1».

و حكي عن أبي العبّاس المبرّد أنّه كان يقول: أشتهي أن أكوي يد يكتب إذن بالألف لأنّها مثل أن و لن، و لا يدخل التنوين في الحرف‏ «2».

و تعقّبه ابن هشام في حاشيته على التسهيل بما لفظه: الحقّ أن كتابتها بالألف و أنّ الوقف عليها بالألف، و كذا وقف الفرّاء، و قوله مردود برسم الصحابة بالألف على حسب الوقف، و يخشى عليه عاقبة ما قال، و لا يعذّب بالنار إلاّ خالقها «3» انته.

و الحراسة بكسر الحاء قيل: اسم من حرسه.

قال الشهاب الفيومي في المصباح: حرسه يحرسه- من باب قتل-: حفظه، و الاسم الحراسة «4».

و قيل: مصدر.

قال في القاموس: حرس حرسا و حراسة فهو حارس‏ «5».

و في الصحاح: حرسه حراسة: أي حفظه‏ «6».

و في شرح جامع الأصول لمصنّفه: الحراسة فعل الحارس، و هو من يحرسك و أنت نائم‏ «7».

و «في» من قوله: «في حراستي»: إمّا ظرفيّة مجازيّة أو سببيّة، أي: لأجل حراستي.

و قتر على نفسه و عياله قترا و قتورا- من بابي ضرب و قعد-: ضيّق في النفقة، و أقتر

______________________________

 (1) لم نعثر عليه.

 (2) لا يوجد لدينا هذا الكتاب.

 (3) لا توجد لدينا هذه الحاشية.

 (4) المصباح المنير: ص 178.

 (5) القاموس المحيط: ج 2، ص 206.

 (6) الصحاح: ج 3، ص 916.

 (7) شرح جامع الأصول:

79
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 78

.......... إقتارا و قتّر تقتيرا: مثله، ففيه ثلاث لغات، كما أنّ في وسع ثلاث لغات أيضا، يقال: وسع اللّه عليه رزقه يوسع بالتصحيح وسعا- من باب نفع- أي: بسطه و كثّره، و أوسعه إيساعا و وسّعه توسيعا و توسعة: مثله.

 [ 742] و هيهات: اسم فعل بمعنى بعد.

قال الواحدي: هو اسم سمّي به الفعل و معناه بعد، و ليس له اشتقاق، لأنّه بمنزلة الأصوات، و فيه زيادة معنى ليست في بعد، و هو أنّ المتكلّم بهيهات يخبر عن اعتقاده استبعاد ذلك الذي يخبر عن بعده، فكأنّه بمنزلة قوله بعد جدّا و ما أبعده، لا على ان يعلم المخاطب مكان ذلك الشي‏ء في البعد، ففي هيهات زيادة على بعد، و إن كان يفسّر ببعد «1»، انته.

و قال الرضي: كلّ ما هو بمعنى الخبر من أسماء الأفعال ففيه معنى التعجّب، فمعنى هيهات أي: ما أبعده، و شتّان أي: ما أشدّ الافتراق، و سرعان و بطآن أي:

ما أسرعه و ما أبطأه‏ «2».

و في تاء هيهات الحركات الثلاث، فالفتح نظرا إلى أصله حين كان مفعولا مطلقا، لأنّ أصله المصدر، و الكسر لالتقاء الساكنين، لأنّ أصل البناء السكون، و الضمّ للتنبيه بقوّة الحركة على قوّة معنى البعد فيه، إذ معناه ما أبعده كما ذكرنا، كذا يستفاد من كلام الرضي‏ «3»، و المستعمل من هذه اللغات استعمالا غالبا الفتح بلا تنوين، و فيها لغات أخرى أو صلها في القاموس إلى إحدى و خمسين لغة «4».

______________________________

 (1) تهذيب الأسماء و اللغات للنووي: الجزء الثاني من القسم الثاني ص 185.

 (2) شرح الكافية في النحو: ج 2، ص 73.

 (3) شرح الكافية في النحو: ج 2، ص 74.

 (4) القاموس المحيط: ج 4 ص 296.

80
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 78

.......... و فاعل هيهات في عبارة الدعاء ضمير مستتر عائد إلى الوفاء بحقّ الوالدين، الذي أفهمه قوله بعده: «ما يستوفيان منّي حقّهما»، كما قيل في قوله تعالى:

 «هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ» «1»: إنّ فاعله ضمير عائد إلى التصديق أو الصحّة أو الوقوع أو الإخراج، المفهوم من قوله تعالى قبله: «أَ يَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَ كُنْتُمْ تُراباً وَ عِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ» «2».

فإنّ قلت: ما قيل في الآية لا محذور فيه، لأنّه كالإضمار بعد الذكر، و أمّا ما ذكرته في الدعاء فهو كالإضمار قبل الذكر، و هو محذور.

قلت: هو كقولهم في باب التنازع في نحو ضربني و أكرمت زيدا: إن فاعل ضربني مضمر قبل الذكر لأنّه قد جاء بعده ما يفسّره على الجملة، و إن لم يجئ لمحض التفسير، كما جاء في نحو: ربّه رجلا، فلا استبعاد فيما ذكرناه، و قد قال المعربون بمثل ما قلناه في قوله تعالى: «ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ» «3»: إنّ فاعل بدا إمّا مصدره، أو الرأي المفهوم من السياق، أو المصدر المدلول عليه بقوله ليسجنّنه، و المعنى، بدا لهم بداء، أو رأي، أو سجنه، فالاحتمال الثالث هو نظير ما قلناه: في الدعاء، و من أجاز حذف الفاعل قال: هو محذوف و ليسجنّنه قائم مقامه، أي: و بدا لهم سجنه، فحذف و أقيمت الجملة مقامه.

و على هذا، فلك في عبارة الدعاء دعوى حذف فاعل هيهات و قيام الجملة بعده مقامه، و هو ظاهر.

و من الغريب ما توهّمه بعض المترجمين من جواز كون «ما» من قوله: «ما يستوفيان» مصدريّة، و هي و مسبوكها فاعل هيهات، و التقدير: هيهات استيفاؤهما منّي حقّهما، مع أنّ قوله: «و لا أدرك ما يجب عليّ لهما» لا يبقى معه لهذا التوهّم‏

______________________________

 (1) سورة المؤمنون: الآية 36.

 (2) سورة المؤمنون: الآية 35.

 (3) سورة يوسف: الآية 35.

81
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 78

.......... مجال، لأنّ لا معيّنة لكون «ما» نافية، إذ لا تقترن واو العطف بلا إلاّ إذا سبقت بنفي.

قوله عليه السّلام: «و لا أنا بقاض وظيفة خدمتهما» الباء: زائدة، و زيادتها في الخبر غير الموجب مقيس، و لا تحتاج إلى متعلّق لزيادتها.

و الوظيفة: ما يقدّر من عمل أو رزق أو طعام و نحو ذلك و وظّفت عليه العمل توظيفا: قدرته. أي: لا أستطيع قضاء ما وظّفته عليّ من خدمتهما.

و تأتي الوظيفة بمعنى الشرط، كما نصّ عليه في القاموس‏ «1».

و إرادة هذا المعنى أيضا صحيحة، أي: ما شرطته عليّ من خدمتهما. و الجملة اسمّية معطوفة على الفعليّة قبلها، و من منع عطف الجملة الاسميّة على الفعليّة و بالعكس، فله أن يقول: هي معطوفة على شي‏ء متوهّم، لأنّ معنى «ما يستوفيان منّي حقّهما و لا أدرك ما يجب عليّ لهما»: ما هما بمستوفين منّي حقّهما و لا أنا بمدرك ما يجب عليّ لهما.

و نظير ذلك قول زهير:

تقيّ نقيّ لم يكثّر غنيمة

 

 بنهكة ذي قربى و لا بحقلد «2»

 

 قال ابن هشام: سألني أبو حيّان علام عطف بحقلد؟ فقلت: حتّى أعرف ما الحقلد، فنظرنا فإذا هو السّي‏ء الخلق، فقلت: هو معطوف على شي‏ء متوهّم، إذ المعنى: ليس بمكثر غنيمة، فاستعظم ذلك‏ «3»، انته.

و من يرى الجواز مطلقا- و هو الصحيح- يجعل ما ذكرناه من المعنى المتوهّم في عبارة الدعاء رعاية للتناسب، فاعرفه فإنّه نفيس.

 [ 743] و الفاء من قوله عليه السّلام: «فصلّ على محمّد و آله»: فصيحة، أي: إذا كان‏

______________________________

 (1) القاموس المحيط: ج 3، ص 204- 205.

 (2) مغني اللبيب ص 685.

 (3) مغني اللبيب ص 685.

82
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 78

.......... الأمر على ما ذكر فصلّ على محمّد و آله و أعنّي.

و حذف المستعان عليه و الموفّق له إمّا لتعيّنهما، أو لإرادة التعميم مع الاختصار.

 [ 744] و «في» من قوله: «في أهل العقوق»: إمّا بمعنى: أي معهم، كما قيل في قوله تعالى: «فَادْخُلِي فِي عِبادِي» «1» أي: مع عبادي، أو ظرفيّة أي: في زمرة أهل العقوق.

و الأمهات: جمع أمّ.

قيل: أصلها أمهّة، و لهذا جمعت أمّهات، و أجيب بزيادة الهاء و أنّ الأصل أمّات.

قال ابن جني: دعوى الزيادة أسهل من دعوى الحذف‏ «2».

و قيل: كلّ أمّ و أمّهة لغة برأسها، فالامّات جمع أمّ، و الأمّهات جمع أمّهة، و لا حاجة إلى دعوى زيادة و لا حذف، و كثر في الناس أمّهات، و في غير الناس أمّات للفرق.

قوله عليه السّلام: «يوم تجزى كلّ نفس بما كسبت و هم لا يظلمون» متعلّق بقوله: «لا تجعلني»، و هو اقتباس من قوله تعالى في سورة الجاثية: «وَ خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَ لِتُجْزى‏ كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ» «3»، و التغيير اليسير لا يضرّ في الاقتباس، كما تقدّم ذكره في الروضة الأولى.

و يوم: منصوب على أنّه ظرف لتجعلني، و الجملة في محلّ جرّ بإضافة يوم إليها.

و بما كسبت: متعلّق بتجزى، أي: بما كسبت من ثواب على طاعة أو عقاب على معصية.

و ما: يجوز أن تكون موصولة أي: بالذي كسبته، و أن تكون مصدريّة أي:

______________________________

 (1) سورة الفجر: الآية 29.

 (2) المصباح المنير: ص 31.

 (3) سورة الجاثية: الآية 22.

83
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 78

اللّهُمَّ صَلِّ عَلى‏ مُحَمَّدٍ وَ آلِهِ وَ ذُرَّيَّتِهِ، وَ اخْصُصْ أبَويَّ بِأَفْضَلِ ما خَصَصْتَ بِهِ آباءَ عِبادِكَ المُؤمِنينَ وَ امَّهاتِهِم، يا أرْحَمَ الراحِمينَ.

بكسبها.

و هم لا يظلمون: في محلّ نصب على الحال من كلّ، لأنّها في معنى الجمع، و جمع الضمير لأنّه أنسب بحال الجزاء، كما أنّ الإفراد أنسب بحال الكسب، أي:

لا يظلمون بنقص ما يستحقونه من الثواب، و لا بزيادة ما يستحقّونه من العقاب.

و قد تقدّم الكلام على اقتباس هذه الآية في أوائل الروضة الأولى بأبسط من هذا، فليرجع إليه+.

 [ 745] عطف الذرّية على الآل من باب عطف الخاص على العام، لأنّ ذريّة الرجل نسله، و آله ذوو قرابته، فكلّ ذريّة آل دون العكس.

و أصل آل عند بعض: أول، تحرّكت الواو و انفتح ما قبلها فقلبت ألفا، مثل قال‏ «1».

و قيل: أصله أهل، لكن دخله الإبدال، و استدلّ عليه بعود الهاء في التصغير فيقال: أهيل‏ «2».

و من الغريب ما حكاه البطليوسي في كتاب الاقتضاب: من أنّ الكسائي ذهب إلى منع إضافة آل إلى المضمر، فلا يقال: آله بل أهله، و هو أوّل من قال ذلك و تبعه النحّاس و الزبيدي، و ليس بصحيح، إذ لا قياس يعضده و لا سماع يؤيّده‏ «3».

و قد تقدّم الكلام على لفظ الذرّية و الخلاف في وزنها و اشتقاقها في الروضة الرابعة، فأغنى عن الإعادة «4».

______________________________

 (1) المصباح المنير: ص 40.

 (2) المصباح المنير: ص 40.

 (3) المصباح المنير: ص 40 نقلا عنه.

 (4) ج 2 ص 119.

84
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 78

اللّهُمَّ لا تُنْسِي ذِكْرِهُما في أدْبارِ صَلَواتي، وَ في آناً مِنْ آناءِ لَيْلي، وَ في كُلِّ ساعَةٍ مِنْ ساعاتِ نهاري.

 [ 746] و ما: إمّا موصولة، أي: بأفضل الفضل أو الثواب الذي خصصت به آباء عبادك، أو نكره موصوفة، أي: بأفضل شي‏ء خصصت به آباء عبادك.

و المؤمنين: يجوز كونه صفة للمضاف أعني الآباء، أو صفة للمضاف إليه أعني عبادك، كما قالوه في قوله تعالى: «سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى» «1»: يجوز فيه كون الأعلى صفة للاسم أو صفة للربّ. لكنّ قضيّة قولهم: إنّ الصفة دائما للمضاف إلاّ بدليل لأنّه هو المقصود، و المضاف إليه جي‏ء به لغرض التخصيص و لم يؤت به لذاته، أنّ المؤمنين صفة للآباء لا غير.

لا يقال: الدليل هنا عطف الامّهات على الآباء من غير وصف، و لو كان المؤمنون صفة للآباء لقال: و أمّهاتهم المؤمنات.

لأنا نقول: المقصود بالذات آباء العباد الموصوفون بالإيمان، و إلاّ فكم من عبد مؤمن أبوه غير مسلم، فضلا عن أن يكون مؤمنا، و إنّما يصف الامّهات بالمؤمنات اكتفاء بنيّة عن لفظه، لدلالة ما سبق عليه.

و أمّا جعل المؤمنين صفة للمتضائفين معا، فلا يجوز قطعا، لأنّه يؤدّي إلى تسليط عاملين مختلفي المعنى و العمل على معمول واحد من جهة واحدة، بناء على أنّ العامل في المنعوت هو العالم في النعت، و هو الصحيح، و اللّه أعلم+.

 [ 747] المراد بعدم إنسائه تعالى ذكرهما: إمّا حسم أسباب النسيان، أو عدم سلب التوفيق لذكرهما، أو المراد: إلهامه ذكرهما أي: الهمني ذكرهما في أدبار صلواتي.

و الأدبار: جمع دبر بالضمّ و بضمّتين، و هو من كلّ شي‏ء عقبه، أي: في أعقاب صلواتي.

______________________________

 (1) سورة الأعلى: الآية 1.

85
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 78

.......... و قد فسّر قوله تعالى: «وَ مِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَ أَدْبارَ السُّجُودِ» «1» بأعقاب الصلوات.

و تخصيصها بالذكر لأنّها من أوقات الإجابة، و قد روي عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام في تفسير قوله تعالى: «فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَ إِلى‏ رَبِّكَ فَارْغَبْ» أي: إذا فرغت من الصلاة المكتوبة، فانصب إلى ربّك في الدعاء و ارغب إليه في المسألة يعطك‏ «2».

و النصب: التعب، أي: اجتهد في الدعاء.

و عن الصادق عليه السّلام: هو الدعاء في دبر الصلاة و أنت جالس. رواه أمين الإسلام في مجمع البيان‏ «3».

و الانى بالكسر و القصر و يفتح مع المدّ: الساعة من الليل، و قد يقال فيه: انى على وزن ظنى، و انى بالكسر على وزن نحى، و الجمع آناء.

و قال الجوهري: آناء الليل: ساعاته، قال الأخفش: واحدها أنا مثال معا، و قال بعضهم: واحدها أنى و أنو، يقال: مضى إنيان من الليل و إنوان، و قال أبو عبيد «4»: واحدها إنى مثال نحى و الجمع آناء «5»، انته.

و الساعة: جزء ما غير مقدّر من أجزاء الليل و النهار، و تطلق على جزء من أربعة و عشرين جزء من يوم بليلته، و هو اصطلاح أهل الفلك، و العرب لا تعرف ذلك.

قال الشهاب الفيومي في المصباح المنير: الساعة. الوقت من ليل أو نهار، و العرب تطلقها و تريد بها الحين و الوقت و إن قلّ، و عليه قوله تعالى: «لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً»+، و منه قوله عليه السّلام: من راح في الساعة الأولى الحديث، ليس المراد

______________________________

 (1) سورة ق: الآية 40.

 (2) مجمع البيان: ج 9- 10، ص 509.

 (3) مجمع البيان: ج 9- 10، ص 509.

 (4) «الف- ج» أبو عبيدة.

 (5) الصحاح: ج 6 ص 2273.

86
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 78

اللّهُمَّ صَلِّ عَلى‏ مُحَمَّدٍ وَ آلِهِ، وَ اغْفِرْ لي بِدُعائي لَهُما، و اغْفِرْ لَهُما بِبِرِّهِما بي مَغْفِرةً حَتْمًا، وَ ارْضَ عَنْهُما بِشَفاعَتي لَهُما رِضىً عزْماً، وَ بَلّغْهُما بِالكَرامَةِ مَواطِنَ السَّلامَةِ.

بالساعة التي ينقسم عليها النهار القسمة الزمانيّة، بل المراد مطلق الوقت و هو السبق، و إلاّ لاقتضى أن يستوي من جاء في أوّل الساعة الفلكيّة و من جاء في آخرها، لأنّهما جاءا في ساعة واحدة، و ليس كذلك، بل من جاء في أوّلها أفضل ممّن جاء في آخرها، و الجمع ساعات و ساع و هو منقوص و ساع أيضا، «1» انته.

و النكرة هنا ظاهرة في الاستغراق أي: في كلّ انى من آناء ليلي و في كلّ ساعة من ساعات نهاري.

كما ورد في رواية أخرى بذكر «كلّ» مضافا إلى إنى، و ينبغي على هذه الرواية عطف ساعة على إنى بدون «في»، أو تقدير «كل» مضافا إلى ساعة، و اللّه أعلم+.

 [ 748] الباء: للسببيّة، أي: بسبب دعائي لهما و بسبب برّهما: بي. و حتم اللّه الأمر حتما: أوجبه جزما، أي: مغفرة محتومة.

 [ 749] و عزما: أي معزوما، من عزم اللّه أي: أراد و قصد و قطع و فرض أن يكون ذلك و يحصل، و منه قوله تعالى: «فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ»+ «2».

قال الزمخشري في الكشاف: أي إنّ ذلك ممّا عزم اللّه من الأمور، أي: قطعه قطع إيجاب و إلزام، و منه الحديث: لا صيام لمن لا يعزم الصيام من الليل، أي: لم يقطعه بالنيّة، ألا ترى إلى قوله: لمن يبت الصيام، و منه، إنّ اللّه يحبّ أن يؤخذ برخصه كما يحب أن يؤخذ بعزائمه، و قولهم: عزمة من عزمات ربّنا، و منه: عزمات الملوك، و ذلك أن يقول الملك لبعض من تحت يده: عزمت عليك إلاّ فعلت‏

______________________________

 (1) المصباح المنير: ص 401- 402.

 (2) سورة لقمان: الآية 17.

87
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 78

اللّهُمَّ وَ إِنْ سَبَقت مَغْفِرَتُكَ لَهُما فَشَفِّعْهُما فِيَّ، وَ إنْ سَبَقْتَ مَغْفِرَتُكَ‏ كذا إذا قال ذلك لم يكن للمعزوم عليه بدّ من فعله و لا مندوحة في تركه، و حقيقته أنّه من تسمية المفعول بالمصدر، و أصله من معزومات الأمور أي: مقطوعاتها و مفروضاتها «1»، انته كلام الزمخشري.

قلت: و من ذلك ما ورد في الدعاء: أسألك موجبات رحمتك و عزائم مغفرتك‏ «2»، أي: ما أوجبته من رحمتك و عزمت أن يكون و يحصل من مغفرتك.

و يجوز أن يكون عزما بمعنى عازم، من عزم الأمر نفسه إذا عزم عليه، على ما قال الزمخشري في قوله تعالى: «مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ»+ «3»: يجوز أن يكون مصدرا في معنى الفاعل، أصله من عازمات الأمور من قوله تعالى: «فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ» «4»، كقولك:

جدّ الأمر و صدق القتال‏ «5».

قال بعضهم: و لعلّ المغفرة التي ليست بحتم و الرضا الذي ليس بعزم، هما المعلّقان بشرط أو صفة أو وقت أو بنوع من الذنب، انته.

و من زعم أنّ انتصاب حتما و عزما على التمييز فقد أبعد.

و الباء من قوله: «بالكرامة»: للملابسة، أي: ملتبسين بالكرامة. و المواطن:

بمعنى الوطن، و هو المكان و المقرّ.

و المراد بمواطن السلامة: الجنّة، لسلامتها و سلامة أهلها.

فيها من المكاره و الآفات، و لذلك سميّت دار السلام، و جمعها باعتبار تعدّدها، أو باعتبار تعدّد أماكنها و مساكنها، و اللّه أعلم+.

 [ 750] سبق يسبق سبقا- من باب ضرب-: تقدّم، و هذا السبق يحتمل أن يكون أزلا و تقديرا، كقوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى‏» «6»، و أن يكون زمانا

______________________________

 (1) تفسير الكشاف: ج 3، ص 496.

 (2) النهاية لابن الأثير: ج 5 ص 153.

 (3) سورة لقمان: الآية 17.

 (4) سورة محمّد: الآية 21.

 (5) تفسير الكشاف: ج 3 ص 497.

 (6) سورة الأنبياء: الآية 101.

88
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 78

لي فَشَفِّعْني فيهِما، حَتّى‏ نَجْتَمِعَ بِرَأفَتِكَ في دارِ كَرامَتِكَ، وَ مَحَلِّ مَغْفِرَتِكَ وَ رَحْمَتِكَ، إنَّكَ ذُو الفَضْلِ العَظيمِ وَ المَنِّ القَديمِ، وَ أنْتَ أَرْحَمُ الراحِمينَ.

و وجودا.

و شفّعه تشفيعا: قبل شفاعته، و هي السؤال في التجاوز عن الآثام و المعاصي.

 [ 751] و حتّى: بمعنى كي التعليليّة، أي: كي نجتمع.

و الرأفة: أشدّ الرحمة و أرقّها، و لا تكاد تقع في الكراهة، و الرحمة قد تقع فيها للمصلحة.

و الكرامة: التعظيم و الإجلال.

عبّر عن الجنّة بدار الكرامة لإكرام اللّه سبحانه أهلها بأنواع الكرامة، و عبّر عنها بمحلّ المغفرة و الرحمة تنبيها على أنّ المؤمن و إن استغرق عمره في طاعة اللّه تعالى فإنّه لا يدخل الجنّة إلاّ بمغفرة اللّه و رحمته.

و قوله: «إنّك ذو الفضل العظيم» تعليل لما قبله، و تحريك لسلسلة الإجابة، و إذعان بأنّ كلّ خير نال عباده في دينهم و دنياهم فإنّه من عنده ابتداء منه إليهم و تفضّلا عليهم، من غير استحقاق منهم لذلك عليه، فهو ذو الفضل العظيم.

و المنّ القديم: أي الإنعام السابق على الاستحقاق قوله عليه السّلام: «و أنت أرحم الراحمين» جملة تذييليّة جاء بها في آخر الدعاء لبيان شدّة الرجاء من جهته، فإنّ الابتداء بالنعمة يوجب الإتمام، و سعة الرحمة تقتضي عمومها و الزيادة فيها، فهي لاستدعاء الرحمة من جهته تعالى، و اللّه أعلم. [] هذا آخر الروضة الرابعة و العشرين من رياض السالكين، و قد وفّق اللّه سبحانه لإتمامها بإعانته و محض عنايته، صبيحة يوم السبت لاثنتي عشرة خلون من شهر اللّه الأصم، أحد شهور سنة إحدى و مائة و ألف بقلم مؤلّفها، و للّه الحمد.

89
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

الروضة الخامسة و العشرون ص : 91

الروضة الخامسة و العشرون‏

91
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

و كان من دعائه عليه السلام لولده عليهم السلام ص : 93

وَ كانَ مِنْ دُعائِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ لوُلْدِهِ عَلَيْهِمُ السَّلامْ‏

اللَّهُمَّ وَ مُنَّ عَلَىَّ بِبَقاءِ وُلْدى‏ وَ بِاصْلاحِهِمْ لي‏ وَ بِامْتاعى‏ بِهِمْ الهى‏ امْدُد لي‏ في‏ اعْمارِهِمْ وَ زِدْ لي‏ في‏ اجالِهِمْ وَ رَبِّ لي‏ صَغيرَهُمْ وَ قَوِّ لي‏ ضَعِيفَهُمْ وَ اصِحَّ لي‏ أَبْدانَهُمْ وَ ادْيانَهُمْ وَ اخْلاقَهُمْ وَ عافِهِمْ في‏ انْفُسِهِمْ وَ في‏ جَوارِحِهِمْ وَ في‏ كُلِّ ما عنيتُ بِهِ مِنْ امْرِهِمْ وَ ادْرِرْ لي‏ وَ عَلى‏ يدي‏ ارْزاقَهمْ وَ اجْعَلْهُمْ أَبْرارًا اتْقِياءَ بَصْراءَ سامِعينَ مُطِيعِينَ لَكَ وَ لِأَوْلِيائكَ محِبِّينَ مُناصِحِينَ وَ لِجميعِ اعْدائِكَ مُعانِدِينَ وَ مُبْغِضينَ امينَ اللَّهُمَّ اشْدُدْ بِهِمْ عَضُدى‏ وَ اقِمْ بِهِمْ اوَدى‏ وَ كَثِّرْ بِهِمْ عَدَدى‏ وَ زَيِّنْ مَحْضَرى‏ وَ احْىِ بِهِمْ ذِكْرى‏ وَ اكْفِنى‏ بِهِمْ في‏ غَيْبَتى‏ وَ اعِنِّى‏ بِهِمْ عَلى‏ حاجَتى‏ وَ اجْعَلْهُمْ لي‏ محِبِّينَ وَ عَلَىَّ حَدِبينَ مقْبِلينَ مُسْتَقيمينَ لي‏ مُطيعينَ غَيْرَ عاصينَ وَ لا عاقِّينَ وَ لا مُخالِفِينَ وَ لا خاطِئِينَ وَ اعِنِّى‏ عَلى‏ تَرْبِيَتِهِمْ وَ تَأديبِهِمْ وَ بِرِّهِمْ وَ هَبْ لي‏ مِنْ لَدُنْكَ مَعَهُمْ اوْلادًا ذُكُورًا وَ اجْعَلْ ذلِكَ خَيْرًا لي‏ وَ اجْعَلْهُمْ لي‏ عَوْناً عَلى‏ ما سَأَلْتُكَ وَ اعِذْنى‏ وَ ذُرِّيَّتى‏ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ فَإِنَّكَ خَلَقْتَنا وَ امَرْتَنا وَ نَهَيْتَنا وَ رَغَّبْتَنا في‏ ثَوابِ ما امَرْتَنا وَ رَهَّبْتَنا عِقابَهُ وَ ..........

93
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

و كان من دعائه عليه السلام لولده عليهم السلام ص : 93

جَعَلْتَ لَنا عَدُوًّا يَكِيدُنا سَلَّطْتَهُ مِنَّا عَلى‏ ما لَمْ تُسَلِّطْنا عَلَيْهِ مِنْهُ وَ اسْكَنْتَهُ صُدُورَنا وَ اجْرَيْتَهُ مُجارِىَ دِمائِنا لا يَغْفُلْ انْ غَفَلْنا وَ لا يَنْسى‏ إنْ نَسينا يُؤْمِنُنا عِقابَكَ وَ يُخَوِّفُنا بِغَيْرِكَ انْ هَمَمْنا بِفاحِشَةٍ شَجَّعَنا عَلَيْها وَ انْ هَمَمْنا بِعَمَلٍ صالِحٍ ثَبَّطَنا عَنْهُ يَتَعَرَّضُ لَنا بالشَّهَواتِ وَ يَنْصِبُ لَنا بِالشُّبُهاتِ انْ وَعَدَنا كَذَبَنا وَ انْ مَنَّانا اخْلَفَنا وَ الاَّ تَصْرِفْ عَنَّا كَيْدَهُ يُضِلَّنا وَ الاَّ تَقِنا خَبالَهُ يَسْتَزِلَّنا اللَّهُمَّ فَاقْهَرْ سُلْطانَهُ عَنَّا بِسُلْطانِكَ حَتّى‏ تَحْبِسَهُ عَنَّا بِكَثْرَةِ الدُّعاءِ لَكَ فَنُصْبِحَ مِن كَيْدِهِ فِى الْمَعْصُومينَ بِكَ اللَّهُمَّ اعْطِنى كُلَّ سُؤْلى‏ وَ اقْضِ لي‏ حَوائِجي‏ وَ لا تَمْنَعْنِى الْاجابَةَ وَ قَدْ ضَمِنْتَها لي‏ وَ لا تَحْجُبْ دُعائى‏ عَنْكَ وَ قَدْ امَرْتَنى‏ بِهِ وَ امْنُنْ عَلَىَّ بِكُلِّ ما يُصْلِحُنى في‏ دُنْياىَ وَ اخِرَتى‏ ما ذَكَرْتُ مِنْهُ وَ ما نَسيتُ اوْ اظْهَرْتُ اوْ اخْفَيْتُ اوْ اعْلَنْتُ اوْ اسْرَرْتُ وَ اجْعَلْنى‏ في‏ جَمِيعِ ذلِكَ مِنَ الْمُصْلِحينَ بِسُؤالى‏ ايَّاكَ الْمُنْجِحينَ بِالطَّلَبِ الَيْكَ غَيْرِ الْمَمْنُوعينَ بِالتَّوَكُّلِ عَلَيْكَ الْمُعَوَّدِينَ بالتَّعَوُّذِ بِكَ الرَّابِحينَ فِى التِّجارَةِ عَلَيْكَ الْمُجارينَ بِعِزِّكَ الْمُوسَعِ عَلَيْهِمُ الرِّزْقُ الْحَلالُ مِنْ فَضْلِكَ الْواسِعِ بِجُودِكَ‏ ..........

94
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

و كان من دعائه عليه السلام لولده عليهم السلام ص : 93

وَ كَرَمِكَ الْمُعَزّينَ مِنَ الذُّلِّ بِكَ وَ الْمُجارينَ مِنَ الظُّلْمِ بِعَدْلِكَ وَ الْمُعافينَ مِنَ الْبَلاءِ بِرَحْمَتِكَ وَ الْمُغْنَيْنَ مِنَ الْفَقْرِ بِغِناكَ وَ المَعْصُومينَ مِنَ الذُّنُوبِ وَ الزَّلَلِ وَ الْخَطاءِ بِتَقْواكَ وَ الْمُوَفَّقينَ لِلْخَيْرِ وَ الرُّشْدِ وَ الصَّوابِ بِطاعَتِكَ وَ الْمُخالِ بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ الذُّنُوبِ بِقُدْرَتِكَ التَّارِكينَ لِكُلِّ مَعْصِيَتِكَ السَّاكِنينَ في‏ جَوارِكَ اللَّهُمَّ اعْطِنا جَميعَ ذلِكَ بِتَوْفيقِكَ وَ رَحْمَتِكَ وَ اعِذْنا مِنْ عَذابِ السَّعيرِ وَ اعْطِ جَميعَ الْمُسْلِمينَ وَ الْمُسْلِماتِ وَ الْمُؤمِنينَ وَ الْمُؤْمِناتِ مِثْلَ الَّذى‏ سَأَلْتُكَ لِنَفْسى‏ وَ لِوَلَدى‏ في‏ عاجِلِ الدُّنْيا وَ اجِلِ الْاخِرَةِ انَّكَ قَرِيبٌ مُجيبٌ سَميعٌ عَلِيمٌ عَفُوٌّ غَفَورٌ رَؤُفٌ رَحيمٌ وَ اتِنا فِى الدُّنْيا حَسَنَةً وَ فِى الْاخِرَةِ حَسَنَةً وَ قِنا عَذابَ النَّارِ ..........

95
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

و كان من دعائه عليه السلام لولده عليهم السلام ص : 93

.......... [] بسم اللَّه الرحمن الرحيم و به نستعين‏ «1» الحمد للَّه الذي لم يتّخذ صاحبة و لا ولدا، عاطف قلوب الوالدين بمزيد الرأفة على ما ولدا، و الصّلاة على نبيّه أشرف الآباء و البنين، و على عترته النجباء أئمّة المؤمنين.

و بعد فهذه الروضة الخامسة و العشرون من رياض السالكين، في شرح الدعاء الخامس و العشرين من صحيفة سيّد العابدين، إملاء الفقير إلى ربّه الغنيّ عليّ صدر الدين الحسيني الحسنيّ، غفر اللّه له و لوالديه و ولده، و وفّقه للعمل في يومه لغده قبل خروج الأمر من يده.

______________________________

 (1) (ج): و به ثقتي.

96
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء الخامس و العشرين ص : 97

شرح الدعاء الخامس و العشرين‏

و كانَ مِن دُعائِهِ عَليه السّلامُ لِوُلِدِهِ عليهمُ السّلامُ.

دعاء الوالدين للولد من برّهما به، و محبّتهما له، و إعانتهما له على برّه بهما.

ففي الحديث عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: رحم اللّه والدين أعانا ولدهما على برّهما «1».

و عنه عليه السّلام قال: قال له رجل من الأنصار: من أبرّ؟ قال: والديك، قال: قد مضيا، قال: برّ ولدك‏ «2».

و عنه عليه السّلام: قال: إنّ اللّه ليرحم العبد لشدّة حبّه لولده‏ «3».

و دعاء الوالد لولده من جملة الدعاء الذي لا يرّد و لا يحجب. فعن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أربعة لا تردّ لهم دعوة حتّى تفتح لهم أبواب السماء و تصير إلى العرش: الوالد لولده، و المظلوم على من ظلمه، و المعتمر حتّى يرجع، و الصائم حتّى يفطر «4».

و عنه عليه السّلام قال: كان أبي يقول: خمس دعوات لا يحجبن عن الربّ تبارك و تعالى: دعوة الإمام المقسط، و دعوة المظلوم يقول اللّه عزّ و جل: لا نتقمن لك و لو بعد حين، و دعوة الولد الصالح لوالديه، و دعوة الوالد الصالح لولده، و دعوة المؤمن لأخيه بظهر الغيب فيقول: لك ذلك مثلاه‏ «5»+.

______________________________

 (1) بحار الأنوار: ج 74 ص 65 ح 32.

 (2) الكافي: ج 6 ص 49 ح 2.

 (3) مكارم الأخلاق: ص 219.

 (4) الكافي: ج 2 ص 510 ح 6.

 (5) الكافي: ج 2 ص 509 ح 2، و فيه: «و لك مثله».

97
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء الخامس و العشرين ص : 97

 [ 752] قال: صلوات اللّه و سلامه عليه:

اللّهُمّ وَ مُنَّ عَلَيَّ بِبَقاءِ وُلْدي، وَ بِإصْلاحِهِمْ لي، وَ بِإمْتاعي بِهِمْ.

منّ عليه بكذا منّا- من باب قتل-: أنعم عليه به.

و البقاء: يطلق على استمرار الوجود و لا يكون إلا للّه سبحانه، و منه: سبحان من توحّد بالبقاء «1»، و على طول الوجود، و هو المراد هنا.

و معنى إصلاحهم له: إصلاحهم لبرّه و طاعته، و فيه تلميح إلى قوله تعالى:

 «وَ أَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي» «2».

قيل: هو دعاء بإصلاح ذرّيته لبرّه و طاعته، لقوله: لي.

و قيل: إنّه دعاء بإصلاحهم لطاعة اللّه عزّ و جلّ.

قال أمين الإسلام: و هو الأشبه، لأنّ طاعتهم للّه من برّه‏ «3».

و عن الزجّاج: أي اجعل ذرّيتي صالحين‏ «4».

و قال سهل بن عبد اللّه: معناه اجعلهم لي خلف صدق و لك عبيد حقّ‏ «5» و هذه المعاني كلّها محتملة في عبارة الدعاء.

و قال الزمخشري: فإن قلت: ما معنى «في» في قوله تعالى: «وَ أَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي»؟ قلت: معناه أن يجعل ذرّيته موقعا للصلاح و مظنّة له، كأنّه قال: هب لي الصلاح في ذرّيتي و أوقعه فيهم‏ «6»، انته.

و قيل: هو على تضمين أصلح معنى بارك.

و أمتعه اللّه بكذا إمتاعا و متّعه به تمتيعا: أبقاه له ليستمتع به أي: لينتفع به.

يقال: استمتع بالشي‏ء و تمتّع به أي: انتفع، و هو من المتاع، و هو في اللغة كلّ ما ينتفع به+.

______________________________

 (1) لم نعثر عليه.

 (2) سورة الأحقاف: الآية 15.

 (3) مجمع البيان: ج 9- 10 ص 86.

 (4) مجمع البيان: ج 9- 10 ص 86.

 (5) مجمع البيان: ج 9- 10 ص 86.

 (6) الكشاف: ج 4 ص 402.

98
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء الخامس و العشرين ص : 97

إلهي امْدُدْ لي في أعْمارِهِمْ، وَ زِدْ لي في آجالِهِمْ، وَ رَبِّ لي صَغيرَهُمْ، وَ قَوِّ لي ضَعيفَهُمْ، وَ أصِحَّ لي أَبْدانَهُمْ وَ أدْيانَهُمْ وَ أخْلاقَهُمْ، وَ عافِهمْ في‏ [ 753] قال الفارابي في ديوان الأدب: مدّ اللّه في عمره أي: أمهل له و طوّل له‏ «1» انته.

و الأعمار: جمع عمر بالضمّ و بضمّتين و بالفتح و السكون، و هو الحياة.

و قيل: مدّة بقاء الحياة.

و الآجال: جمع أجل بالتحريك و هو مدّة العمر، و يطلق على الوقت الذي ينقرض فيه.

قال بعضهم: يحتمل أن يكون الفقرة الثانية تأكيدا للأولى، لحرصه عليه السّلام على بقائهم.

و يحتمل أن يراد بالأعمار رفاهيّة العيش و حسن الحال، فإنّ العرب كانت تسمّي من عاش في رفاهيّة طويل العمر و إن قصر عمره، و من ليس كذلك قصير العمر و إن طال عمره.

و لهذا قال بعضهم: فهل رأيتم شيخا بلا عمر؟ و كانوا يعدّون أيّام السرور و يقولون عاش فلان كذا يوما و كذا سنة، و إن كان عمره أكثر، انته.

قلت: إذا أريد جعل الفقرة الثانية تأسيسا لا تأكيدا، فالأولى أن يراد بالمدّ في الأعمار البركة فيها، بانّ يبارك فيها بالتوفيق لأعمال الطاعات و عمارة أوقاتهم بالخيرات.

و قد فسّر قوله عليه السّلام: صلة الرحم منساة في الأجل، أي: تأخير في مدّة العمر و سبب لزيادته و إنّ معنى الزيادة في العمر زيادته بالبركة فيه، بتوفيقه إلى أعمال الطاعة و عمارة أوقاته بما ينفعه في الآخرة، فإنّ هذا المعنى أجدر أن يكون منظورا له عليه السّلام من رفاهيّة العيش، و اللّه أعلم بمقاصد أوليائه.

و ربّاه يربيّه تربية: أوصله كما له تدريجا.

______________________________

 (1) ديوان الأدب: ج 3 ص 120.

99
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء الخامس و العشرين ص : 97

أنْفُسِهِمْ، وَ في جَوارِحِهِمْ، وَ في كُلِّ ما عُنيتُ بِهِ مِنْ أمْرِهِمْ، وَ أدْررْ لي وَ عَلى‏ يَدي أرْزاقَهُمْ، وَ اجْعَلْهُمْ أبْرارًا أتْقِياءَ بُصَراءَ، سامِعينَ مُطِيعِينَ‏ و القوّة: تطلق على كمال القدرة، و على شدّة الممانعة و الدفع، و يقابلها الضعف بالمعنيين، و كلّ من المعنيين في المتقابلين محتمل هنا، و لا يجوز إرادة كلا المعنيين فيهما معا، فإنّ استعمال اللفظ الواحد في معنيين متغايرين مما لا مساغ له عند المحقّقين، بل يمكن أن يراد بالتقوية معنى مجازي عام، يكون كلا المعنيين- من تكميل القدرة، و تشديد الممانعة و الدفع- فردا حقيقيّا له و هو إصلاح حالهم، فإنّ كلاّ من المعنيين المذكورين فرد حقيقيّ له، و كذلك يراد بالضعف سوء الحال، فيكون نقص القدرة و قلّة الممانعة و الدفع فردا حقيقيّا له، فافهم ذلك فإنّه قلّ من تنبّه له.

 [ 754] و الصّحة في الأصل: للبدن، و هي حالة طبيعيّة له تجري أفعاله معها على المجرى الطبيعي، ثمّ استعيرت للأفعال و المعاني، فقيل: صحت الصلاة إذا أسقطت القضاء، و صحّ العقد إذا ترتّب أثره عليه، و صحّ مذهبه إذا وافق الحقّ.

فإنّ قلت: يلزم على هذا الجمع بين الحقيقية و المجاز في عبارة الدعاء، لأنّ الصحّة في الأبدان حقيقة، و في الأديان و الأخلاق مجاز، و قد صرّحوا بأنّ إرادة المتكلّم بعبارة واحدة حقيقة و مجازا غير صحيحة.

قلت: المسألة ذات خلاف مشهور، فمن جوّز اجتماع الحقيقة و المجاز في كلمة واحدة، و احتّج بقولهم: القلم أحد اللسانين، فله أن يختار استعمالها فيهما، و من لا يرى صحّة فينبغي أن يراد بالصحّة معنى مجازي عام، يكون كلّ واحد من المعاني المقصودة للصحّة فردا حقيقيّا له، كما قلناه آنفا في المشترك، أي: و أصلح لي أحوالهم، و ذلك في أبدانهم بالصحّة التي هي الحالة الطبيعيّة، و في أديانهم بالصحّة التي هي موافقة الحقّ، و في أخلاقهم بالصحّة التي هي الكرم و الحسن، و قس على ذلك.

 [ 755] قوله عليه السّلام: «و عافهم في أنفسهم و جوارحهم و في كلّ ما عنيت به من‏

100
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء الخامس و العشرين ص : 97

لَكَ وَ لِأَوْلِيائِكَ مُحِبّينَ مُناصِحينَ، وَ لِجَميعِ أعْدائِكَ مُعانِدينَ وَ مُبْغِضينَ آمينَ.

أمرهم» إذا أردت التفادي من لزوم الجمع بين الحقيقة و المجاز، بناء على أنّ العافية في الأصل بمعنى الصحّة البدنيّة ثمّ استعيرت لمعان اخر، و الأظهر أنّها لمعنى عام متناول لدفع جميع المكروهات في النفس و البدن و في الدين و الدنيا و الآخرة، فلا حاجة إلى ذلك.

و عنيت بأمر فلان بالبناء للمفعول: شغلت به و اهتممت به فأنا معنيّ به، و ربّما قيل: عنيت بأمره بالبناء للفاعل فأنا عان، و الأوّل أكثر، و به وردت رواية الدعاء لا غير.

و درّ اللبن و غيره- من باب ضرب و قتل- درّا: كثر و زاد، و أدرّ اللّه الرزق إدرارا: كثّره و وسّعه.

و قال شيخنا البهائي في المفتاح: المراد بالرزق الدارّ: الذي يتجدّد شيئا فشيئا من قولهم: درّ اللبن إذا زاد و كثر جريانه من الضرع‏ «1».

قال بعضهم: و في تقييده السؤال بقوله عليه السّلام «لي» في جميع الفقرات، ما يدلّ على أن الدعاء له و لهم، و على تمام الحنو و الشفقة، و على أنّ الدعاء له عليه السّلام أبلغ في الدعاء و أقرب إلى الإجابة، و على أنّ كلّ واحد ممّا سأل يكون على الوجه الكامل، انته.

و قوله عليه السّلام: «و على يديّ» أي: بواسطتي.

و المراد جعله واسطة في وصول أرزاقهم إليهم، يقال: جرى الأمر على يد فلان إذا وقع بوساطته، كأنّه أخذه و أعطاه بيده.

و منه الحديث: خلقت الخير و أجريته على يدي من احبّه، فطوبى لمن أجريته على يديه‏ «2».

رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين ؛ ج‏4 ؛ ص101

 

______________________________

 (1) مفتاح الفلاح: ص 45.

 (2) المحاسن للبرقي: ص 283، و بحار الأنوار: ج 5 ص 160 ح 18.

101
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء الخامس و العشرين ص : 97

.......... و فائدة هذا السؤال أمران:

أحدهما: أن يزدادوا طاعة له و محبّة و برّا، فإنّ من عرف أنّ اللّه تعالى أجرى رزقه على يد شخص، فلا شكّ أنّه يحبّه و يعظّمه و يطيعه.

الثاني: إجراء الخير على يده عليه السلام، كما تضمّنه الحديث المذكور.

 [ 756] و الأبرار: جمع بارّ أو برّ، كأصحاب جمع صاحب و أرباب جمع ربّ. يقال:

الرجل برّ يبرّ برّا مثل علم يعلم علما فهو برّ بالفتح و بارّ و هو خلاف الفاجر.

و قيل: هو الصادق.

و قيل: هو الكثير البرّ، أي: الخير، و الاتّساع في الإحسان.

و قال الطبرسي: هو الذي برّ اللّه بطاعته إيّاه حتّى أرضاه‏ «1».

و الظاهر أنّ المراد به البارّ لوالديه، بقرينة قوله عليه السّلام: أتقياء، تلميحا إلى قوله تعالى: «وَ كانَ تَقِيًّا. وَ بَرًّا بِوالِدَيْهِ» «2».

و الأتقياء: جمع تقيّ، و هو المطيع المتجنّب عن المعاصي.

و قال الشهاب الفيومي: رجل تقيّ: أي زكيّ، و قوم أتقياء، و تقي يتقى- من باب تعب- تقاة و اتّقاه اتقاء، و الاسم التقوى، و أصل التاء واو، لكنّهم قلبوا «3»، انته.

و البصراء: جمع بصير بمعنى العالم، من بصر بالشي‏ء بالضمّ بصرا بفتحتين بمعنى علم فهو بصير به.

و سامعين أي: مصغين إصغاء الطاعة.

يقال: فلان سامع مطيع أي: سامع لما يؤمر به كائنا ما كان سمع طاعة و قبول، و منه قوله تعالى: «وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ اسْمَعُوا» «4».

______________________________

 (1) مجمع البيان: ج 1- 2 ص 555.

 (2) سورة مريم: الآية 13 و 14.

 (3) المصباح المنير: ص 105.

 (4) سورة المائدة: الآية 108.

102
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء الخامس و العشرين ص : 97

اللّهُمَّ اشْدُد بِهِمْ عَضُدي، وَ اقِمِ بِهِمْ أوَدي، وَ كَثّر بِهِمْ عَدَدي، وَ زَيّنْ بِهِمْ مَحْضَري، وَ أحْي بِهِمْ ذِكْري، وَ اكْفِني بِهِمْ في غَيْبَتي، وَ أعِنّي بِهِمْ عَلى‏ حاجَتي، وَ اجْعَلْهُمْ لي مُحِبّينَ، وَ عَلَيَّ حَدِبينَ مُقْبِلينَ، مُسْتَقيمينَ لي مُطيعينَ غَيْرَ عاصينَ وَ لا عاقّينَ وَ لا مُخالفِينَ وَ لا و مطيعين أي: مذعنين منقادين لحكمك.

و قوله عليه السّلام: «و لأوليائك محبّين مناصحين» عطف على ثاني مفعولي و اجعل، أي: و اجعلهم محبّين مناصحين لأوليائك، و إنّما فصل بين العاطف و المعطوف لأنّ الفصل بالظرف كلا فصل. و قس عليه قوله: «و لجميع أعدائك معاندين و مبغضين».

 [ 757] و آمين: بالقصر في لغة الحجاز، و المدّ إشباع بدليل أنّه لا يوجد في العربية كلمة على فاعيل، و معناه: استجب، و قد سبق الكلام عليه مبسوطا، فليرجع إليه+.

 [ 758] الشدّ: التقوية، شدّ يشدّه شدّا- من باب قتل.

و العضد: ما بين المرفق إلى الكتف، و فيها خمس لغات أشهرها وزن رجل، و بضمّتين في لغة الحجاز، و مثل كبد في لغة بني أسد، و كفلس في لغة تميم و بكر، و الخامسة مثال قفل‏ «1».

و حكى تغلب العضد بفتح العين و الضاد، «2» فتكون لغاتها ستّة.

قال أبو زيد: أهل تهامة يؤنّثون العضد، و بنو تميم يذكّرون‏ «3».

و قال اللحياني: العضد مؤنّثة لا غير «4».

قال الفارابي في ديوان الأدب: شدّ عضده أي: قوّاه‏ «5».

______________________________

 (1) المصباح المنير: ص 567.

 (2) لسان العرب: ج 3 ص 292.

 (3) المصباح المنير: ص 567.

 (4) لسان العرب: ج 3 ص 292.

 (5) ديوان الأدب: ج 3 ص 120.

103
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء الخامس و العشرين ص : 97

خاطِئينَ، وَ أعِنّي عَلى‏ تَرْبِيَتِهِمْ وَ تَأديبِهمْ وَ بَرِّهِمْ، وَ هَبْ لي مِنْ لَدنْكَ مَعَهُمْ أوْلاداً ذُكُوراً، وَ اجْعَلْ ذلِكَ خَيْرًا لي، وَ اجْعَلْهُمْ لي عَوْناً عَلى‏ ما سَأَلْتُكَ.

و قال الزمخشري في قوله تعالى: «سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ»: العضد: قوام اليد و بشدّتها تشتدّ اليد، قال طرفة:

أبني لبيني لستم بيد

 

 الاّ يدا ليست لها عضد

 

 و يقال في دعاء الخير: شدّ اللّه عضدك، و في ضدّه فتّ اللّه في عضدك، و معنى سنشدّ عضدك بأخيك: سنقوّيك به و نعينك، فإمّا أن يكون ذلك لأنّ اليد تشتدّ بشدّة العضد، و الجملة تقوى بشدّة اليد على مزاولة الأمور، و إمّا لأنّ الرجل شبّه باليد في اشتدادها باشتداد العضد، فجعل كأنّه مشتدّ بعضد شديدة «1»، انته.

فعلى الأوّل: هو كناية تلويحيّة عن تقويته.

و على الثاني: استعارة تمثيليّة، شبّه حاله في تقويته بأخيه بحال اليد في تقويتها بعضد شديدة.

و في قوله: في اشتدادها باشتداد العضد، إشارة إلى تركّب التشبيه.

و أقام أوده: أي أزال اعوجاجه، و الأود بفتحتين: العوج، و هو هنا مستعارة لاختلال الحال و خروجها عن حدّ الاستقامة، أي: و أصلح بهم اختلال حالي، و الظاهر أنّ طلبه لذلك عليه السّلام إنّما هو على تقدير وقوعه، فكأنّه قال: إن وقع في شي‏ء من أحوالي أود و اعوجاج فاقمه بهم، و قد علمت أنّه لا يلزم من صدق الشرطيّة صدق كلّ واحد من جزءيها، فلا يلزم من صدق كلامه عليه السّلام وقوع الاعوجاج حتّى يحتاج إلى إقامته بهم.

______________________________

 (1) تفسير الكشاف: ج 3 ص 410.

104
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء الخامس و العشرين ص : 97

.......... و الرواية في أكثر النسخ: «و أقم به أودي» بإفراد الضمير، و هو باعتبار إرجاعه إلى الشدّ المفهوم من قوله عليه السّلام: اشدد، نحو قوله تعالى: «اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ» «1».

و قيل: أو إلى العضد و لو على وجه الاستخدام.

و العدد: الكميّة المتألفة من الوحدان، أو المراد به هنا كميّة جماعته من أهله و عترته، لما في كثرتهم من عزّة الجانب و حماية الحوزة.

قال الأعشى:

و لست بالأكثر منهم حصى‏

 

 و إنما العزّة للكاثر «2»

 

 أراد بالحصى هنا العدد.

قال الجوهري: أحصيت الشي‏ء: عددته، و قولهم: نحن أكثر منهم حصى أي:

عددا «3»، انته.

و المحضر: مكان الحضور، و تزيّن محضره بهم كناية عن تحليتهم بالفضائل و الكمالات التي من حلّي بها كانت زينة للمحاضر و المشاهد إذا حضرها.

 [ 759] و أحياه: جعله حيّا.

و المراد بالذكر هنا: الصيت و الذكر الجميل في الناس.

قال في الأساس: و من المجاز: له ذكر في الناس أي: صيت و شرف‏ «4».

أي: أبق بهم ذكري و أظهره بين الناس.

شبّه الإبقاء و الإظهار بالإحياء في الإيجاد، ثمّ استعار لفظ الإحياء لذلك الإبقاء، و هي استعارة تبعيّة، و القرينة جعل مفعوله الذكر، و هو لا يحيى حقيقة،

______________________________

 (1) سورة المائدة: الآية 8.

 (2) الصحاح: ج 6 ص 2315.

 (3) الصحاح: ج 6 ص 2315.

 (4) أساس البلاغة: ص 205.

105
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء الخامس و العشرين ص : 97

.......... لأنّ الإحياء في الحقيقة إعطاء الحياة، و هي صفة تقتضي الحسّ و الحركة الإرادية، و تفتقر إلى البدن و الروح.

و يحتمل أن يكون استعارة بالكناية، بأن يكون شبّه ذكره الذي ينقطع بعد موته بالإنسان الميّت، و أثبت له الإحياء الذي هو من لوازم المشبّه به. و حياة الذكر من مشهورات الاستعارات، قال الشاعر:

هو الموت فاختر ما حلالك ذكره‏

 

 فلم يمت الإنسان ما حيى الذكر «1»

 

 و هذه الفقرة تتضمّن الدعاء بأمرين:

أحدهما: إبقاؤهم بعده ليذكر بهم بعد موته.

و الثاني: جعلهم فضلاء كاملين، بحيث ينتشر صيته بهم في الناس.

و كفاه الأمر: قام مقامه فيه، أي: اجعلهم قائمين مقامي في غيبتي. و أعانه على أمره: ساعده عليه.

 [ 760] و حدب عليه حدبا- من باب تعب-: تعطّف عليه، فهو حدب على وزن كتف.

و الإقبال: هنا كناية عن الاعتناء و الإكرام، لأنّ من اعتنى بأحد و أكرمه التفت إليه و أقبل عليه بوجهه.

و مستقيمين: أي مستوين لا اعوجاج فيهم، و ذلك بالتحلّي بالأخلاق الفاضلة المعتدلة بين الطرفين المستقيمة بين المنحرفين، أو ثابتين على الطاعة و البرّ دائمين على الانقياد لي، و منه حديث: استقيموا لقريش ما استقاموا لكم‏ «2».

______________________________

 (1) أنوار الربيع: ج 3 ص 98.

 (2) النهاية لابن الأثير: ج 4 ص 125.

106
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء الخامس و العشرين ص : 97

.......... أي: دوموا لهم في الطاعة و اثبتوا عليها ما داموا على الدين و ثبتوا على الإسلام.

قوله عليه السّلام: «غير عاصين» إمّا نعت مؤكّد لمعنى قوله: «مطيعين»، أو حال مؤكّدة من الضمير في مطيعين. و «لا»: مزيدة لتأكيد ما أفاده «غير» من معنى النفي، كأنّه قيل: لا عاصين و لا عاقّين. و لا خاطئين: أي متعمّدين للذنب.

قال الأموي: المخطئ: من أراد شيئا فصار إلى‏ غيره، و الخاطئ: من تعمّد ما لا ينبغي‏ «1».

و قال الفيومي: قال أبو عبيدة: خطئ خطأ- من باب علم- و أخطأ: بمعنى واحد لمن يذنب على غير عمد. و قال غيره: خطئ في الدين، و أخطأ في كلّ شي‏ء عامدا أو غير عامد.

و قيل: خطئ إذا تعمّد ما نهي عنه فهو خاطئ، و أخطأ إذا أراد الصواب فصار إلى غيره، فإن أراد غير الصواب و فعله قيل: قصده و تعمّده‏ «2»، انته.

و في الأساس: أخطأ في المسألة و في الرأي، و خطئ خطأ عظيما: إذا تعمّد الذنب‏ «3».

 [ 761] قوله عليه السّلام: «و هب لي من لدنك معهم» كلا الجارّين و الظرف متعلّق بهب، فاللام صلة له، و من: لابتداء الغاية مجازا، و مع: لزمان الاجتماع، و يجوز أن يكون «من» متعلّقة بمحذوف و هو حال من المفعول، أي: كائنين من لدنك، كما يجوز أن يكون الظرف من قوله: «معهم كذلك» أي: حال كونهم معهم.

و «من» في قوله: «من لدنك»: تنبيه على أنّ هذا المقصود لا يكون و لا يحصل إلاّ من عنده تعالى.

______________________________

 (1) لسان العرب: ج 1 ص 67 مادة خطأ.

 (2) المصباح المنير: ص 239- 240.

 (3) أساس البلاغة: ص 167.

107
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء الخامس و العشرين ص : 97

.......... و الذكر بالتحريك: خلاف الأنثى، و الجمع ذكور و ذكران، و لا يجوز جمعه بالواو و النون، لأنّ ذلك مختصّ بالعلم العاقل، و الوصف الذي يجمع مؤنّثة بالألف و التاء، و ما شذّ عن ذلك فمسموع لا قياس عليه.

 [ 762] و قوله عليه السّلام: «و اجعل ذلك خيرا لي» فيه احتراز على وجه التلميح إلى قوله تعالى: «أَ يَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَ بَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ» «1» أي: أ يحسبون أنّ الذي نمدّهم به من المال و البنين نسارع به لهم فيما فيه خيرهم؟ كلاّ لا نفعل ذلك، بل هم لا يشعرون بأنّ ذلك الإمداد استدراج لهم و استجرار لهم إلى زيادة الإثم، فهو شرّ لهم.

فسأل عليه السّلام: أن تكون هبة ما سأله من الأولاد خير له، حتّى لا يكون داخلا في مضمون هذه الآية و نحوها.

و قوله عليه السّلام: «و اجعلهم لي على ما سألتك» أي: على النحو الذي سألتك إيّاه في الأولاد الذين و هبتهم لي سابقا، من المنّة عليّ ببقائهم و إصلاحهم إلى قوله:

 «و أعنّي على تربيتهم و تأديبهم و برّهم».

و في نسخة: «و اجعلهم عونا لي على ما سألتك»، فيجوز تعلّق «على» بقوله:

 «عونا» فيكون ما سأله عليه السّلام: سؤالا تقدّم منه لا ذكر له هنا، و يجوز أن يكون متعلّقا بمحذوف هو صفة لقوله «عونا»، أي: كائنا على النحو الذي سألتك في الأولاد الموجودين، من شدّ عضدي و إقامة أودي بهم، إلى غير ذلك ممّا سبق سؤاله.

و قول بعض المترجمين: ليس في أكثر النسخ المصحّحة قوله: «عونا»، لكنّه مراد، لأنّ اللام للنفع و «على» للضرر، لا معنى له، بل المعنى على عدم قوله:

______________________________

 (1) سورة المؤمنون: الآية 55.

108
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء الخامس و العشرين ص : 97

وَ أعِذْني وَ ذُرِّيَتي مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ، فَإِنَّكَ خَلَقْتَنا، وَ أمَرْتَنا وَ نَهَيْتَنا، وَ رَغَّبْتَنا في ثَوابِ ما أمَرْتَنا، وَ رَهَّبْتَنا عِقابَهُ، وَ جَعَلْتَ لَنا عَدُوّاً يَكيدُنا، سَلَّطْتَهُ مِنّا عَلى‏ ما لَمْ تُسَلِّطْنا عَلَيْهِ مِنْهُ وَ اسْكَنْتَهُ صُدُورَنا، وَ أجْرَيْتَهُ مُجارِيَ دِمائِنَا، لا يَغْفُلُ إنْ غَفَلْنا، وَ لا يَنْسى‏ إنْ نَسينا، يُؤْمِنُنا عِقابَكَ وَ يُخَوِّفُنا بِغَيْرِكَ، إنْ هَمَمْنا بِفاحِشَةٍ شَجَّعَنا عَلَيْهَا، وَ إنْ هَمَمْنا بِعَمَلٍ صالِحٍ ثَبَّطَنا عَنْهُ، يَتَعَرَّضُ لَنا بِالشَّهَواتِ، وَ يَنْصِبُ لَنا بِالشُّبُهاتِ، إنْ وَعَدَنا كَذَبَنا، وَ إنْ مَنّانا اخْلَفَنا، وَ إلاّ تَصْرِفْ عَنّا كَيْدَهُ يُضِلَّنا، وَ إلاّ تَقِنا خَبالَهُ يَسْتَزِلَّنا، اللَّهُمَّ فَاقْهَرْ، سُلْطانَهُ عَنّا بِسُلْطانِكَ، حَتّى‏ تَحْبِسَهُ عَنّا بِكَثْرَةِ الدُّعاءِ لَكَ، فَنُصْبِحَ مِنْ كَيْدِهِ فِي المَعْصُومينَ بِكَ.

 «عونا» أوضح، و اللّه أعلم+.

 [ 763] أعذني: أي أجرني بحفظك.

و ذرّيتي: عطف على الضمير.

و الرجيم: أي المطرود، و أصل الرجم الرمي بالحجارة.

و الفاء: لتعليل طلب الإعادة، فهي للدلالة على سببيّة ما بعدها لما قبلها.

و عائد الموصول من قوله: «ما أمرتنا» محذوف، أي: ما أمرتنا به، كقوله تعالى: «فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ» «1» أي: تؤمر به.

و الضمير من «عقابه» إمّا عائد إلى قوله: «ما أمرتنا» باعتبار مخالفته، أو إلى ما دلّ عليه سياق الكلام، أي: عقاب ما نهيتنا عنه.

 [ 764] و جعلت: إمّا بمعنى خلقت، فيكون متعدّيا إلى واحد، و الجارّ و المجرور متعلّق به، أو بمحذوف وقع حالا ممّا بعده لكونه نكرة.

______________________________

 (1) سورة الحجر: الآية 94.

109
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 110

.......... و إمّا بمعنى صيّرت، فيكون متعدّيا إلى مفعولين، أوّلهما: عدوّا، و ثانيهما: الظرف المتقدّم، قدّم على الأوّل مسارعة إلى بيان العداوة، و هو متعلّق بمحذوف أي: عدوّا كائنا لنا، فإنّ خبر «صار» في الحقيقة و الكون المقدّر العامل في الظرف.

و جملة «يكيدنا» في محلّ نصب صفة لعدوّ.

تنبيه‏

اختلفوا في سبب عداوة إبليس لآدم عليه السّلام و ذرّيته، فقال بعضهم: إنّه الحسد، و ذلك أن إبليس لمّا رأى ما أكرم‏ «1» اللّه به آدم، من إسجاد الملائكة له و تعليمه ما لم يطلع عليه الملائكة، حسده و عاداه و ذرّيته.

و قال آخرون: إنّ السبب هو تباين أصليهما، و لمنافرة الأصلين أثر قويّ في منافرة الفرعين، قالوا: و تباين أصليهما هو منشأ القياس الفاسد من إبليس حين أمر بالسجود، و ذلك قوله: «أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ»+ «2»، فكأنّه في خطابه يقول: إنّ آدم جسماني كثيف و أنا روحاني لطيف، و الجسماني أدون حالا من الروحاني، و الأدون كيف يليق أن يكون مسجودا للأعلى؟ و أيضا فإنّ أصل آدم من صلصال من حمإ مسنون، و الصلصال في غاية الدناءة، و أصلي من أشرف العناصر، و إذا كان أصلي خيرا من أصله وجب أن أكون خيرا منه و أشرف، و الأشرف يقبح أن يأمر بالسجود للأدون. قالوا: فكان ذلك قياسا، فأوّل من قاس هو إبليس، فأجابه اللّه جوابا على سبيل التنبيه دون التصريح: «اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً» «3».

قال بعض الفضلاء: و تقريره أنّ الذي قاله تعالى نصّ بحكم الحكمة الإلهيّة و القدرة الربّانيّة، و الذي قاله إبليس قياس، و من عارض النصّ بالقياس كان‏

______________________________

 (1) (ج) كرّم.

 (2) سورة الأعراف: الآية 12.

 (3) سورة الأعراف: الآية 18.

110
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 110

.......... مرجوما ملعونا، و إنّما نسب حصول عداوة إبليس لنا إلى اللّه تعالى في قوله:

 «و جعلت لنا عدوّاً»، لكونه سبحانه السبب الأوّل في وجوده، و إن لم يكن تعالى هو الداعي إلى العداوة، كما يقال: أضلّه اللّه، من حيث إنّه تعالى هو السبب الأول في وجوده و وجوده سببه المضلّ، و إن لم يكن‏ «1» هو الداعي إلى الضلال.

و سلّطه على الشي‏ء تسليطا: مكّنه منه، كأنّما جعل له عليه سلطانا.

و الجملة إمّا استئناف نحوي لانقطاعها عمّا قبلها لفظا، و إمّا صفة ثانية لعدوّ، و لا يمنع منه عدم حرف العطف بين الجملتين كما توهّمه بعضهم، فإنّ الصفة تتعدّ بغير عاطف و إن كانت جملة، كما في الخبر نحو: «الرَّحْمنُ. عَلَّمَ الْقُرْآنَ. خَلَقَ الْإِنْسانَ. عَلَّمَهُ الْبَيانَ» «2».

نصّ عليه ابن هشام في المغني.

و قوله: «3» «منا» إمّا ظرف لغو متعلّق بسلّطته، أو مستقرّ حال من النكرة الموصوفة، و هي «ما» من قوله. «على ما لم تسلّطنا».

و التقدير: سلّطته على شي‏ء حال كونه منّا ما لم تسلّطنا حال كونه منه.

فمن على الأوّل ابتدائيّة، و على الثاني بيانيّة.

و جملة قوله: «أسكنته صدورنا» مستأنفة اسئنافا بيانيا، كأنّه سئل كيف سلّطته منكم على ما لم اسلّطكم عليه منه؟ فقال: أسكنته صدورنا و قول بعضهم: إنّها صفة ثالثة، ليس بشي‏ء.

و فيه إشارة إلى قوله تعالى: «الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ» «4».

و عن ابن عبّاس: «أنّ اللّه تعالى جعل صدور بني آدم مسكنا للشيطان» «5».

______________________________

 (1) (ج) لم يكن تعالى.

 (2) سورة الرحمن الآية 1- 4.

 (3) (ج): عليه السّلام.

 (4) سورة الناس: 5.

 (5) مرآة العقول: ج 9 ص 393.

111
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 110

.......... قيل: المراد بالصدور هنا القلوب، تسمية للحال باسم محلّه مجازا.

كما روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: إنّ الشيطان واضع خطمه على قلب ابن آدم، فإذا ذكر اللّه خنس، و إن نسي التقم قلبه‏ «1».

و الخطم من كلّ طائر: منقاره، و من كلّ دابّة: مقدّم أنفه و فمه.

و عنه صلّى اللّه عليه و آله: أنّ الشيطان ليخطم على قلب بني آدم، له خرطوم كخرطوم الكلب، إذا ذكر العبد اللّه عزّ و جلّ خنس- أي: رجع على عقبيه- و إذا غفل عن ذكر اللّه تعالى وسوس‏ «2».

و لا خفاء في أنّه لا دلالة في الحديثين على كون المراد بالصدور القلوب.

و قال بعض المفسّرين: إنّما قال سبحانه: «الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ» «3»، و لم يقل: في قلوبهم، لأنّ الشيطان لا تسلّط له على قلب المؤمن الذي هو بين اصبعين من أصابع الرحمن.

قال المحقّقون: ليس للشيطان على القلب سبيل، و إنّما الشيطان يجي‏ء إلى الصدر الذي هو حصن القلب، فيبث فيه هموم الدنيا و الحرص على الزخارف، فيضيق القلب حينئذ، و لا يجد للطاعة لذّة و لا للإيمان حلاوة و لا على الإسلام طلاوة، فإذا طرد العدوّ بذكر اللّه و الإعراض عمّا لا يعنيه، حصل الأمن و انشرح القلب و تيسّر له القيام بأداء العبوديّة.

و الحقّ أنّه يجوز أن يراد بالصدر محلّ القلب، باعتبار كونه موضع تعلّق النفس الناطقة بالحيوانيّة، و لذا ينسب إليه الشرح و الضيق.

______________________________

 (1) الدّر المنثور: ج 6 ص 420، و الجامع: الصغير: ج 1 ص 81، و مرآة العقول: ج 9 ص 392.

 (2) مرآة العقول: ج 9 ص 393: و فيه: «إن الشيطان ليجثم»، و تفسير القرطبي: ج 20 ص 262 مع اختلاف يسير في الفاظ الحديث.

 (3) سورة الناس: الآية 5.

112
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 110

.......... و يجوز أن يراد به القلب الذي هو المضغة الصنوبريّة المودعة في التجويف الأيسر من الصدر، باعتبار أنّه محلّ اللطيفة الإنسانيّة، و لذا ينسب إليه الصلاح و الفساد.

و قول المحقّقين: ليس للشيطان على القلب سبيل، فالمراد بالقلب اللطيفة الربّانيّة النورانيّة العالمة، التي هي مهبط الأنوار الالهيّة و بها يكون الإنسان إنسانا، فهي حقيقة الإنسان و بها يستعدّ لامتثال الأحكام، و بها صلاح البدن و فساده، و يعبّر عنها بالنفس الناطقة تارة «وَ نَفْسٍ وَ ما سَوَّاها» «1»، و بالروح أخرى‏ «قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي» «2»، و قد يعبّر عنها بالعقل باعتبار تجرّدها و نسبتها إلى عالم القدس، إذ هي بهذا الاعتبار تعقل نفسها و تحبسها عمّا يقتضيه تعلّقها بالبدن، من الشرور و المفاسد المانعة لها من الرجوع إلى عالمها القدسي، و هي جوهر مجرّد عن المادّة في ذاتها دون فعلها في الأبدان بالتصرّف و التدبير.

قال بعضهم: إنّما عظمّ الشارع أمر القلب، لصدور الأفعال الاختياريّة عنه و عمّا يقوم به من العلوم، و رتب الأمر فيه على المضغة، و المراد بها العقل الذي هو النفس الناطقة المتعلّقة بها، فذلك من إطلاق اسم المحلّ على الحال، انته.

و ممّا يدلّ على ما قاله المحقّقون من عدم تسلّط الشيطان على قلب المؤمن، ما رواه ثقة الإسلام في الكافي عن الصادق عليه السّلام:

أنّ اللّه تعالى يبتلي المؤمن بكلّ بليّة و يميته بكلّ ميتة، و لا يبتليه بذهاب عقله، أما ترى أيّوب كيف سلّط إبليس على ماله و ولده و على أهله و على كلّ شي‏ء منه، و لم يسلّط على عقله، ترك له يوحّد اللّه به‏ «3».

و في هذا المعنى أحاديث آخر من طريق أهل البيت عليهم السّلام.

قوله عليه السّلام: «أجريته مجاري دمائنا» المجاري: جمع مجرى، و هو إمّا مصدر

______________________________

 (1) سورة الشمس الآية 7.

 (2) سورة الأسراء: الآية 85.

 (3) الكافي: ج 2 ص 256 ح 22.

113
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 110

.......... ميمي فيكون نصبها على المصدرية، أو اسم مكان فيكون نصبها على الظرفيّة.

و في الحديث من طرق العامّة: أنّ الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم‏ «1».

و عن ابن عبّاس: أنّ اللّه تعالى جعل الشيطان يجري من بني آدم مجرى الدم‏ «2».

قال الطيبي في شرح المشكاة: و جريانه إمّا حقيقية فإنّه لطيف من نار لا يمتنع سريانه كالدم، أو مجازيّة و علاجه سدّ المجاري بالجوع‏ «3».

و قال الكرماني في شرح البخاري: جريانه يحتمل الحقيقة، بأن جعل له قدرة على الجري في باطن الإنسان، و الاستعارة لكثرة وسوسته‏ «4».

و قيل: إنّه يلقي الوسوسة في مسام لطيفة فتصل إلى القلب.

و قال الأزهري: معنى جريانه مجرى الدم أنّه لا يفارق ابن آدم ما دام حيّا، كما لا يفارقه دمه. قال: و هذا على ضرب المثل‏ «5».

و الجمهور حملوه على ظاهره و قالوا: إنّ الشيطان جعل له هذا القدر من التطرّق إلى باطن الآدمي بلطافة هيئته، فيجري في العروق التي هي مجاري الدم إلى أن يصل إلى قلبه، فيوسوسه على حسب ضعف إيمان الغبد و قلّة ذكره و كثرة غفلته، و يبعد عنه و يقلّ تسلّطه و سلوكه إلى باطنه بمقدار قوّته و يقظته و دوام ذكره و اخلاص توحيده‏ «6»، انته.

______________________________

 (1) نهج الفصاحة: ص 128. ح 640، صحيح البخاري: ج 9 ص 87 باب 20.

 (2) مرآة العقول: ج 9 ص 393.

 (3) لا يوجد لدينا هذا الكتاب.

 (4) شرح البخاري للكرماني: ج 13 ص 202 مع اختلاف يسير في العبارة.

 (5) تهذيب اللغة ج 11 ص 312 نقلا بالمعنى.

 (6) مرآة العقول: ج 9 ص 393- و ج 11 ص 312.

114
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 110

.......... و عن ثابت البناني: بلغنا أنّ إبليس قال: يا ربّ إنّك خلقت آدم و جعلت بيني و بينه عداوة فسلّطني عليه، فقال سبحانه: جعلت صدورهم مساكن لك، فقال:

ربّ زدني، فقال: لا يولد ولد لآدم إلاّ ولد لك عشرة، فقال: ربّ زدني، فقال:

تجري منهم مجرى الدم، قال: ربّ زدني، قال: اجلب عليهم بخيلك و رجلك و شاركهم في الأموال و الأولاد. قال: فشكى آدم إلى ربّه، فقال: يا ربّ إنّك خلقت إبليس، و جعلت بيني و بينه عداوة و بغضاء، و سلّطته عليّ و أنا لا اطيقه إلاّ بك، فقال اللّه تعالى: لا يولد لك ولد الاّ وكلت به ملكين يحفظانه من قرناء السوء، قال: ربّ زدني، قال: الحسنة بعشر أمثالها، قال: ربّ زدني، قال: لا أحجب عن أحد من ولدك التوبة ما لم يغرغروا «1». و الغرغرة: تردّد الروح في الحلق.

و قريب من هذا المعنى ما رواه ثقة الإسلام في الكافي بسند حسن أو صحيح، عن أبي عبد اللّه أو أبي جعفر عليهما السلام، قال: إنّ آدم عليه السّلام قال: يا ربّ سلّطت عليّ الشيطان و أجريته منّي مجرى الدم، فاجعل لي شيئا، فقال: يا آدم جعلت لك أنّ من همّ من ولدك بسيّئة لم تكتب عليه، فإن عملها كتبت له سيّئة، و من همّ منهم بحسنة فإن لم يعملها كتبت له حسنة، فإن هو عملها كتبت له عشرا، قال: يا ربّ زدني، قال: جعلت لك أنّ من عمل منهم سيّئة ثمّ استغفر غفرت له، قال: يا ربّ زدني، قال: جعلت لهم التوبة و بسطت لهم التوبة حتّى تبلغ النفس هذه، قال: يا ربّ حسبي‏ «2».

 [ 765] قوله عليه السّلام: «لا يغفل إن غفلنا و لا ينسى إن نسينا» الغفلة: عبارة عن عدم التفطّن للشي‏ء و عدم عقليّته بالفعل، سواء بقيت صورته أو معناه في الخيال أو الذكر أو انمحت عن أحدهما، و هي أعمّ من النسيان، لأنّه عبارة عن الغفلة عن‏

______________________________

 (1) الدر المنثور: ج 4 ص 192.

 (2) الكافي ج 2 ص 440. ح 1.

115
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 110

.......... الشي‏ء مع انمحاء صورته أو معناه عن الخيال أو الذكر بالكليّة، و لذلك يحتاج الناسي إلى تجشّم كسب جديد و كلفة في تحصيله ثانيا.

و معنى لا يغفل و لا ينسى: إمّا أنّه لا يكون منه غفلة و لا نسيان، فيكون المراد سلبهما عنه مطلقا، لأنّهما من لواحق القوى الإنسانيّة و عوارض هذا البدن، فيكونان مسلوبين عن الشياطين، و إمّا أنّه لا يغفل عنّا إن غفلنا عنه و لا ينسانا إن نسيناه، فيكون حذف متعلّق الفعل لمجرّد الاختصار مع قيام القرينة.

قوله عليه السّلام: «يؤمننا عقابك و يخوّفنا بغيرك» من عداوة الشيطان للإنسان أنّه يعده الأمان من عذاب اللّه و عقابه، و ذلك منه على وجوه:

فمنهم من يعده أنّه لا قيامة و لا حساب، و لا جزاء و لا عقاب.

و منهم من يحمله على اعتقاد أنّ الوعيد على ألسن الرسل من باب مجرّد التخويف، و لا عقاب في الآخرة.

و منهم من يحمله على فعل المعاصي و يقول: إنّ اللّه غفور رحيم، فيمنيّه المغفرة حتّى يخرج من الدنيا و لا حسنة له، و يسوّل له أنّ ذلك من حسن الظنّ باللّه، و كذب لأنّه لو أحسن الظنّ به لأحسن العمل له.

و من عداوته أن يخوّف بغير اللّه، فمنهم من يخوّفه قهر الأوثان و غضبها في ترك عبادتها، و يأمرهم بالإخلاص فيها.

و منهم من يخوّفه بأس الأعداء، فيثبّطه عن الجهاد في سبيل اللّه.

و منهم من يخوّفه الفقر، فيمنعه من الصدقات و إيتاء الزكاة، إلى غير ذلك.

و قال بعضهم: إنّ قيل: كيف يؤمننا و يخوّفنا و نحن لا نشاهده و لا نسمع كلامه؟

قلنا: ذلك عبارة عن وسوسته بالأمان و الخوف، كما تقول: نفسي تخوّفني بكذا، و هو ظاهر.

 [ 766] قوله عليه السّلام: «إن هممنا بفاحشة شجّعنا عليها، و إن هممنا بعمل صالح‏

116
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 110

.......... ثبّطنا عنه» هممت بالشي‏ء همّا- من باب قتل-: إذا أردته و لم تفعله. و الفاحشة: ما يشتدّ قبحه من الذنوب.

و شجّعه على الأمر تشجيعا: جرّأه و أقدمه عليه، و أصله في الحرب، يقال: شجّع بالضمّ شجاعة: إذا قوى قلبه و استهان بالحروب جرأة و إقداما.

و ثبّطه تثبيطا: قعد به عن الأمر و شغله عنه، أي: منعه تخذيلا و نحوه، و هذا التشجيع و التثبيط، بإلقاء الخواطر الفاسدة منه.

قوله عليه السّلام: «يتعرّض لنا بالشهوات و ينصب لنا بالشبهات» تعرّضه و تعرّض له يتعدّى بنفسه و بالحرف: إذا تصدّى له و طلبه.

و الشهوة: اشتياق النفس إلى الملائم، و قد تفسّر بالميل إلى المعاصي و زهرات الدنيا، و هو المراد هنا.

و الباء: إمّا للملابسة على حذف مضاف، أي: ملتبسا بتهيّج الشهوات، أو للاستعانة نحو: كتبت بالقلم و قطعت بالسكّين.

 [ 767] و قوله: «و ينصب لنا» إمّا من نصبت الشي‏ء- من باب ضرب-: إذا أقمته، فتكون الباء في المفعول زائدة، و هي كثيرا ما تزاد فيه و إن لم يكن مقيسا مع كثرته، و منه: «فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ» «1»، «وَ هُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ» «2»، «وَ مَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ» «3». و إمّا من نصبت له رأيا: إذا أشرت عليه به.

قال الزمخشري في الأساس: نصبت له رأيا إذا أشرت عليه برأي لا يعدل عنه‏ «4».

فتكون الباء صلة لينصب بتضمينه معنى يشير، أي: يشير علينا بالشبهات.

______________________________

 (1) سورة الحج: الآية 15.

 (2) سورة مريم: الآية 25.

 (3) سورة الحج: الآية 25.

 (4) أساس البلاغة: ص 635.

117
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 110

.......... و يمكن أن يقال: إن المراد و ينصب لنا الإغواء و الإضلال بالشبهات، فحذف المفعول به، و الباء للآلة، كما قيل في قوله تعالى: «وَ لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ» «1» إنّ المراد لا تلقوا أنفسكم إلى التهلكة بأيديكم، فحذف المفعول، كما يقال: لا تفسد أمرك برأيك.

و يحتمل أن يكون «ينصب» لازما، من نصب له بمعنى عاداه.

قال في الأساس: نصبت لفلان: عاديته نصبا. قال جرير:

و إذا بنو أسد عليّ تحزبوا

 

 نصبت بنو أسد لمن راماني‏

 

 و منه الناصبيّة و النواصب و أهل النصب الذين ينصبون لعليّ كرّم اللّه وجهه» «2» انته.

فتكون الباء من قوله: «بالشبهات» للملابسة، أي: يعادينا ملتبسا بإيقاع الشبهات، و هي كلّ باطل أخذه الوهم بصورة الحقّ و شبّهه به، و لذلك سمّي شبهة.

قوله عليه السّلام: «إن وعدنا كذبنا، و إن منّانا أخلفنا».

و الوعد: هو الأخبار بما يكون من جهة الخير مترتبا على شي‏ء من زمان.

و كذبنا بالتخفيف من قولهم: كذب أخاه إذا لم يصدق في قوله له، و في التنزيل‏ «وَ قَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ» «3»، و قد يتعدّى إلى مفعولين فيقال: كذبتك الحديث، أي: لم أصدقك، و مثله صدق و منه: «لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ» «4». فإن حملت عبارة الدعاء على هذا فالمفعول محذوف لتعيّنه، أي: كذبنا وعده.

و أخلف الوعد: لم يفعله.

______________________________

 (1) سورة البقرة: الآية 195.

 (2) أساس البلاغة 635.

 (3) سورة التوبة: الآية 90.

 (4) سورة الفتح: الآية 27.

118
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 110

.......... قال الفارابي: في ديوان الأدب: أخلف ما وعده و هو أن يقول شيئا و لا يفعله على الاستقبال‏ «1»، انته.

و هو يتعدّى إلى مفعولين فيقال: أخلفه موعده، و المفعول الثاني هنا محذوف، أي: أخلفنا ما منّانا، و مفعولا وعدنا و منّانا محذوفان، أي: المواعيد الباطلة و الأماني الفارغة، أو هما من باب فلان يعطي و يمنع، أي: يفعل لنا الوعد و التمنية، و هما إما بالوسوسة و إلقاء الخواطر الفاسدة، أو بألسنة أوليائه. و في هاتين الفقرتين تلميح إلى قوله تعالى: «يَعِدُهُمْ وَ يُمَنِّيهِمْ وَ ما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً» «2»، و إنّما جي‏ء بالجمل الخمس المذكورة غير متعاطفة تنبيها على استقلال كلّ منها، و اللّه أعلم.

قوله عليه السّلام: «و إلاّ تصرف عنّا كيده يضلّنا، و إلاّ تقنا خباله يستزلّنا» أي: و إن لم تصرف، و إن لم تقنا.

قال ابن هشام في المغني: قد تقترن إن الشرطيّة بلا النافية، فيظنّ من لا معرفة له أنّها إلاّ الاستثنائيّة، نحو: و إلاّ تصرّف عنّي كيدهنّ اصب إليهن»، و لقد بلغني أنّ بعض من يدّعي الفضل سأل في «إلاّ تفعلوه»، فقال: ما هذا الاستثناء، أ متّصل هو أم منقطع؟ «3»، انته.

و صرف اللّه عنه السوء- من باب ضرب- كفّه عنه.

و وقاه يقيه: حفظه.

و الخبال بالفتح: الفساد.

و في القاموس: و كسحاب: النقصان و الهلاك و العناء. و الكلّ‏ «4».

و استزلّه: طلب منه الزلّة و دعاه إليها.

______________________________

 (1) ديوان الأدب: ج 2، ص 314.

 (2) سورة النساء: الآية 120.

 (3) مغني اللبيب: ص 33.

 (4) القاموس المحيط: ج 3 ص 365.

119
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 120

.......... يقال: زلّ في منطقه و فعله يزلّ- من باب ضرب- زلّة: إذا أخطأ.

و المعنى: إن لم تصرف عنّا كيد الشيطان و تكفّه عنّا و تحفظنا من فساده، يحملنا على الضلال و يدعنا إلى الزلل، فنتّبعه و نطيعه على مقتضى النفس الأمّارة و حكم القوّة الشهويّة.

و هذا فزع منه عليه السّلام إلى ألطاف اللّه تعالى، جريا على سنن الأنبياء و الأوصياء و الصالحين في قصر نيل الخيرات و النجاة من الشرور و المكاره على جناب اللّه عزّ و جلّ، و سلب القوى و القدر عن أنفسهم، و مبالغة في استدعاء لطفه في صرف كيده و وقاية فساده، بإظهار أن لا طاقة له بالمدافعة، كقول المستغيث:

أدركني و إلاّ هلكت.

تنبيه‏

الرواية المشهورة في قوله عليه السّلام: «يضلّنا و يستزلّنا» بفتح اللام المشدّدة، و أصلهما يضللنا و يستزللنا بالجزم على أنّهما جوابان للشرط، فادغمت اللام الأولى في الثانية كراهيّة اجتماع المثلين، و حرّكت الثانية لالتقاء الساكنين، و أوثر الفتح طلبا للخفّة مع ثقل التضعيف. و ثبت في بعض النسخ «يضلّنا و يستزلّنا» بضمّ اللام المشدّدة، و هو كقوله تعالى: «وَ إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً» «1» بضمّ الراء المشدّدة في القراءة المشهورة. و اختلفوا في تخريجه، فقيل: هو على حذف الفاء، أي: فلا يضرّكم.

و قيل: على حذف الجواب: و جعل الفعل المرفوع دليلا عليه منويّا تقديمه على الشرط، و التقدير: لا يضرّكم كيدهم إن تصبروا.

______________________________

 (1) سورة آل عمران: الآية 120.

120
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 120

.......... و ردّ المحقّقون كلا القولين: بأنّ حذف الفاء مختصّ بالشعر، و الجواب لا يحذف في السعة إلاّ إذا كان فعل الشرط ماضيا، و أمّا إذا كان مضارعا فحذفه ضرورة لا يجوز إلاّ في الشعر، و تخريج القراءة المتواترة على شي‏ء لا يجوز إلاّ في الشعر غير صواب.

و قال بعضهم: هو مجزوم و الضمّة إتباع، كالضمّة في قولك: لم يسدّ و لم يردّ، و استصوبه ابن هشام.

و قال قوم: إنّه مجزوم، لكنّه لمّا اضطرّ إلى تحريكه حرّك بحركته الإعرابيّة المستحقّ لها في الأصل.

إذا عرفت ذلك، فتخريج الرواية المذكورة في عبارة الدعاء على الوجهين الأوّلين غير صواب، لأنّه عليه السّلام أفصح الخلق في زمانه، و تخريج كلامه على شي‏ء مختصّ بالضرورة لا وجه له.

و أمّا الوجه الثالث: فلا يتمشّى هنا، فتعيّن حملها على الوجه الرابع.

و قد وقع في بعض التعاليق على الصحيفة الشريفة أن الجواب محذوف، و قوله‏ «1»: «يضلّنا و يستزلّنا» جملتان مفسّرتان له، و الحذف ليذهب الوهم كلّ مذهب، و التقدير: و إلاّ تصرف عنّا كيده تصيبنا داهية كبيرة، و هو أنّه يضلّنا على كلّ حال، و لا نجد عنه محيصا قال: و هذه القاعدة- أعني حذف الجواب لدلالة الكلام عليه- طريقة مسلوكة للبلاغة في التنزيل الكريم، منها: «وَ لَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَ نِساءٌ مُؤْمِناتٌ» «2» الآية، و منها: «فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ. تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» «3»، انته.

______________________________

 (1) (ج): عليه السّلام.

 (2) سورة الفتح: الآية 25.

 (3) سورة الواقعة: الآية: 86 و 87.

121
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 120

.......... و هو كلام عجيب يدلّ على قصور قائله في علم العربية جدّا. أمّا أوّلا: فدعوى الحذف في مثل ذلك مردودة، بنصّ سيبويه و غيره من أئمّة العربيّة أنّه لا يحذف جواب الشرط الجازم إلاّ و فعل الشرط ماض كما تقدّم، فكيف يجعل ذلك داخلا في قاعدة حذف الجواب التي هي طريقة مسلوكة للبلاغة؟.

و أمّا ثانيا: فإنّ هذا التقدير الذي قدّره جوابا لا يدلّ عليه دليل و لا قرينة، إذ لا يستدعيه الكلام أصلا، بل الجواب هو قوله: «يضلّنا و يستزلّنا» قطعا، لتوقّف مضمونهما على حصول الشرط، و من ارتكب دعوى الحذف فإنّما ارتكبها من حيث الصناعة النحويّة ليعطي القواعد حقّها، و إن لم يكن المعنى متوقّفا عليه، و قد علمت ما فيه.

و أمّا ثالثا: فقد صرّحوا بأنّ شرط الدليل اللفظي أن يكون طبق المحذوف لفظا و معنى، نحو: زيدا اضربه، أو معنى إن تعدّد اللفظ، نحو: زيدا مررت به أي: جاوزت، و ما قدّره من الجواب أعمّ ممّا زعم أنّه دليل لفظي عليه، فكيف يكون مدلولا له؟ «وَ اللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَ هُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ» «1».

 [ 768] قوله عليه السّلام: «اللّهم فاقهر سلطانه عنّا بسلطانك» إلى آخره الفاء:

لترتّب الدعاء على ما ذكر، و تصدير الجملة بالنداء مبالغة في التضرّع.

و قهر يقهره قهرا- من باب منع-: غلبه، و عدّاه ب «عن» لتضمينه معنى الدفع.

و السلطان: التسلّط، و قدرة الملك، و هو كلّ شي‏ء شدّته. و حتّى: بمعنى كي التعليليّة.

و حبسه حبسا- من باب ضرب-: منعه.

و الباء من قوله: «بكثرة الدعاء»: لسببيّة أو الاستعانة.

______________________________

 (1) سورة الأحزاب: الآية 4.

122
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 120

اللّهُمَّ أعطِني كُلّ سُؤلي، و اقْضِ لي حَوائجي، وَ لا تَمْنَعْني الإجابَةَ وَ قَدْ ضَمِنْتَها لي، وَ لا تَحْجُبْ دعائي عَنْكَ وَ قَدْ أمَرْتَني بِهِ وَ امْنُنْ عَلَىِّ بكُلِّ ما يُصْلِحُني في دُنْيايَ وَ آخِرَتي، ما ذَكَرْتُ مِنْهُ وَ ما نَسيتُ، أوْ أظْهَرْتُ أوْ أخْفَيتُ، أوْ أعْلنْتُ أوْ أسْرَرْتُ وَ اجعلني في جميع ذَلِكَ مِنَ و قوله عليه السّلام «فنصبح» بالنصب عطف على قوله: «تحبسه» و الفاء:

للسببيّة و التعقيب، لأنّ السبب التام يستعقب مسبّبه من غير تراخ.

و نصبح: بمعنى نصير، كقوله تعالى: «فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً» «1».

و قوله عليه السّلام: «في المعصومين بك» أي: كائنين في جملة الممنوعين المحفوظين بسببك أو باستعانتك، أو في جملة أرباب العصمة، و هي فيض إلهي يقوى به العبد على تحرّي الخير و تجنّب الشرّ.

و قال الحكماء: هي ملكة تمنع الفجور، و يحصل بها العلم بمثالب المعاصي و مناقب الطاعات.

و قيل: هي ملكة اجتناب المعاصي مع التمّكن منها، و اللّه أعلم+ [ 769] السؤل بالضمّ و الهمز: المطلوب الذي يسأل.

قال الزمخشري: في الأساس: أصبت منه سؤلي: طلبتي، فعل بمعنى مفعول كعرف و نكر «2» انته.

و في الحديث: كلّ نبيّ سئل سؤلا «3». و قد تترك منه الهمزة للتخفيف.

و قضى حاجته: أنجزها له و بلّغه إيّاها.

و في قوله عليه السّلام: «حوائجي» شاهد على أنّ حاجة جمع حوائج، خلافا لمن أنكر ذلك، و قد تقدّم الكلام على ذلك مستوفى في الروضة الثالثة عشرة «4».

______________________________

 (1) سورة آل عمران: الآية 103.

 (2) أساس البلاغة: ص 281.

 (3) سنن الترمذي: ج 4 ص 431.

 (4) ج 2 ص.

123
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 120

الْمُصْلِحينَ بِسُؤالي إيّاكَ، المُنْجِحينَ بِالطَّلَبِ إلَيْكَ، غَيْرِ الْمَمْنُوعينَ بِالتَوَكُّلِ عَلَيْكَ، المُعَوَّدِينَ بِالتَّعَوُّذِ بِكَ، الرّابِحينَ في التِّجارَةِ عَلَيْكَ، الْمُجارينَ بِعِزِّكَ، المُوسَّعِ عَلَيْهِم الرِّزْقُ الْحَلالُ مِنْ فَضْلِكَ الْواسِعِ بِجُودِكَ وَ كَرَمِكَ، الْمُعَزّينَ مِنَ الذُّلِّ بِكَ، وَ الْمُجارينَ مِنَ الظُّلْمِ بِعَدْلِكَ، وَ المُعافَيْنَ مِنَ الْبَلاءِ بِرَحْمَتِكَ، وَ المُغْنَيْنَ مِنَ الفَقْرِ بِغناكَ، وَ المَعْصُومينَ مِنَ الذُّنُوبِ وَ الزَّلَلِ وَ الخَطأ بِتَقْواكَ، وَ المُوَفَّقينَ لِلْخَيْرِ وَ الرُّشْدِ وَ الصَّوابِ بِطاعَتِكَ، وَ المُحالِ بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ الذُّنُوبِ بِقُدْرَتِكَ، التّارِكينَ لِكُلِّ مَعْصِيَتِكَ، الساكِنينَ في جَوارِكَ.

و منعه الأمر و منه منعا: ضدّ أعطاه و أجاب.

و أجاب اللّه دعاءه إجابة: قبله، و استجاب له: كذلك.

و قال تاج القرّاء: الإجابة عامّة و الاستجابة خاصّة بإعطاء المسئول‏ «1».

و ضمنتها لي: أي كفلت لي بها و التزمتها.

و الواو من قوله: «و قد» في الموضعين: للحال.

و حجبه حجبا- من باب قتل-: منعه من الدخول، و حجب الدعاء عنه تعالى تمثيل لعدم قبوله، لأنّه لا يؤذن على الملوك إلاّ للمقبولين عندهم المكرمين لديهم، و لا يحجب عنهم إلاّ المردودون المهانون لديهم.

و في الفقرتين إشارة إلى قوله تعالى في سورة المؤمن: «وَ قالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ» «2»، فانّ الأمر بالدعاء فيه صريح، و رتّب الاستجابة على الدعاء فكأنّه ضمّنها و تكفّل بها، و هو يؤيّد أنّ المراد بالدعاء و الاستجابة في الآية ظاهرهما،

______________________________

 (1) لم نعثر عليه.

 (2) سورة غافر: الآية 60.

124
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 120

.......... و أكثر المفسّرين على أنّ المراد بالدعاء العبادة، و بالاستجابة الوفاء بما ضمن للمطيعين من الثواب، لقوله سبحانه بعده: «إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ» «1».

و فيه: أنّه حمل اللفظ على خلاف ظاهره في موضعين، فالحمل على الظاهر أولى، و أمّا تتمّة الآية فليس فيه إلاّ التعبير عن الدعاء بالعبادة و هو من أعظم أبوابها، فالتعبير بها عنه ظاهر، و هو المروي عن أهل البيت عليهم السّلام.

روى ثقة الإسلام في الكافي بسند حسن أو صحيح عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: إنّ اللّه عزّ و جلّ يقول «إنّ الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنّم داخرين» هو الدعاء و أفضل العبادة الدعاء «2».

و عنه عليه السّلام: الدعاء هو العبادة التي قال اللّه عزّ و جلّ: «إنّ الذين يستكبرون عن عبادتي» الآية «3».

و المراد بقوله عليه السّلام: «و لا تمنعني» إلى آخره، لا تجعل دعائي بسلب التوفيق على غير جهة الدعاء الذي ضمنت إجابته و أمرت به، و إلاّ فلا يتصوّر منعه سبحانه للإجابة مع تكلّفه بها، و لا حجبه للدعاء مع أمره به.

يدلّ على ذلك ما رواه ثقة الإسلام في الكافي بسنده عن عثمان بن عيسى عمّن حدّثه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: قلت: آيتان في كتاب اللّه عزّ و جلّ أطلبهما فلا أجدهما، قال: و ما هما؟ قلت: قول اللّه عزّ و جل: «ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ» فندعوه و لا نرى إجابة، قال: أفترى اللّه عزّ و جلّ أخلف وعده؟ قلت: لا، قال: فممّ ذلك؟ قلت: لا أدري، قال: لكنيّ أخبرك، من أطاع اللّه عزّ و جلّ فيما أمره من‏

______________________________

 (1) سورة غافر: الآية 60.

 (2) الكافي: ج 2 ص 466 ح 1.

 (3) الكافي: ج 2 ص 467 ح 7.

125
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 120

.......... دعائه من جهة الدعاء أجابه، قلت: و ما جهة الدعاء؟ قال: تبدأ فتحمد اللّه و تذكر نعمه عندك، ثمّ تشكره، ثمّ تصلي على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، ثمّ تذكر ذنوبك فتقرّبها، ثمّ تستعيذ منها، فهذا جهة الدعاء، ثمّ قال: و ما الآية الأخرى؟

قلت: قول اللّه عزّ و جلّ: «وَ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَ هُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ»، فإنّي أنفق و لا أرى خلفا، قال: أفترى اللّه عزّ و جلّ أخلف وعده؟ قلت: لا، قال: فممّ ذلك؟ قلت: لا أدري، قال: لو أنّ أحدكم اكتسب المال من حلّه و أنفقه في حلّه، لم ينفق درهما إلاّ أخلف عليه‏ «1».

 [ 770] قوله عليه السّلام: «و امنن عليّ بكلّ ما يصلحني» أي: أنعم عليّ بكلّ خير يكون به صلاحي، و هو الحصول على الحالة المستقيمة النافعة. و إسناد الإصلاح إليه مجاز عقلي من باب الإسناد إلى السبب، و المصلح حقيقة إنّما هو اللّه تعالى، كما قال سبحانه‏ «سَيَهْدِيهِمْ وَ يُصْلِحُ بالَهُمْ» «2» أي: حالهم.

و قوله‏ «3»: «في الدنيا و الآخرة» إمّا متعلّق بامنن أو بيصلحني.

فإن قلت: هل بين المتعلّقين فرق في المعنى؟

قلت: نعم، فإنّك إذا جعلته متعلّقا بامنن كانت المنّة في الدنيا معجّلة و في الآخرة مؤجّلة، و إذا جعلته متعلّقا بيصلحني كان المتبادر طلب المنّة عاجلا بما يكون سببا لصلاحه في الدنيا و الآخرة.

و قوله: «ما ذكرت منه و ما نسيت» بدلان من «ما» المضاف إليها كلّ بدل الاشتمال، و منه: في موضع الحال من الضمير المحذوف من ذكرت، أي: ما ذكرته حال كونه منه.

و قوله: «أو أظهرت أو أخفيت» أي: ما أظهرته على لساني و تفوّهت به، أو ما

______________________________

 (1) الكافي: ج 2 ص 486 ح 8.

 (2) سورة محمّد: الآية 5.

 (3) (ج): عليه السّلام.

126
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 120

.......... أخفيته مخطرا ببالي من غير أن أتفوّه به أصلا، أو ما أعلنته و ذكرته للناس علانية، أو أسررته إلى غيري في خفاء. و أو في ذلك: للتنويع، و لا يكاد اللغوي يفرّق بين الإظهار و الإعلان و الإخفاء و الإسرار، إلاّ أنّ قول المفسّرين في قوله تعالى: «يَعْلَمُ السِّرَّ وَ أَخْفى‏» «1» أي: ما أسررته إلى غيرك، و شيئا أخفى من ذلك، و هو ما أخطرته ببالك من غير أن تتفوّه به أصلا، يرشد إلى ما ذكرناه، لاقتضاء العطف المغايرة، و كون التأسيس خيرا من التأكيد.

 [ 771] قوله عليه السّلام: «و اجعلني في جميع ذلك من المصلحين بسؤالي إيّاك» في:

ظرفيّة مجازيّة، بتشبيه ملابسته لجميع ذلك في الاجتماع معه بملابسة المظروف للظرف، فهو من باب الاستعارة التبعيّة، و متعلّقها محذوف و هو حال من مفعول اجعلني، و التقدير: و اجعلني كائنا في جميع ذلك من المصلحين.

و يجوز تعلّقها بالمصلحين، فيكون التقدير: و اجعلني من المصلحين في جميع ذلك.

و التقديم للاعتناء بالمقدّم كما مرّ بيانه مرادا. و تأكيد العموم بجميع لقصد كون كلّ فرد من أفراد ذلك له مدخل في الإصلاح. و ذلك: إشارة إلى المذكور من المسئولات، و ما فيه من معنى البعد مع قرب العهد بالمشار إليه، للإيذان بعلوّ شأنه و فضله.

و قوله‏ «2»: «من المصلحين» في محلّ النصب على أنّه المفعول الثاني لا جعلني، أي: من المصلحين لنيّاتهم و أعمالهم، أو لما فسد من أحوالهم، أو من المتّصفين بالإصلاح من باب‏ «هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ» «3».

و الباء من قوله: «بسؤالي إيّاك» للسببيّة.

و المنجحين: جمع منجح، اسم فاعل من أنجح الرجل: إذا أصاب طلبته و قضيت‏

______________________________

 (1) سورة طه: الآية 7.

 (2) (ج) عليه السّلام.

 (3) سورة الزمر: الآية 9.

127
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 120

.......... له حاجته.

و في القاموس: النجاح بالفتح و النجح بالضمّ: الظفر بالشي‏ء نجحت الحاجة كمنع و انجحت و أنجحها اللّه، و أنجح زيد: صار ذا نجح و هو منجح‏ «1».

و طلب إليه طلبا: رغب إليه أي: سأله.

و التقدير: من المنجحين بطلبتي إليك و بطلبهم إليك، و يرجّح الأوّل موافقته لقوله في الفقرة الأولى: «بسؤالي إليك» و قس عليه ما بعده.

قوله عليه السّلام: «غير الممنوعين بالتوكّل عليك» غير بالكسر: صفة للمنجحين، و إنّما وقعت صفة لمعرفة- و الأصل فيها أن تكون صفة لنكرة- لتوغّلها في الإبهام بحيث لا تتعرّف بإضافتها إلى المعرفة، نحو: «نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ» «2»، لأنّ المراد بالمنجحين طائفة لا بأعيانهم فيكون بمعنى النكرة، إذ اللام فيه للجنس، و المعرّف الجنسي في المعنى كالنكرة و إن كان في اللفظ كالمعرفة، و ذلك أنّ المقصود به الحقيقة من حيث الوجود في ضمن الأفراد، و تدلّ القرينة على أنّ المراد به البعض، نحو: ادخل السوق و اشتر اللحم، فيصير في المعنى كالنكرة، فيجوز حينئذ أن يعامل معاملة النكرة فيوصف بالنكرة، و منه قوله تعالى:

 «لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ» «3» برفع «غير» على أنّه صفة للقاعدين لأنّهم جنس، و ردّه بعضهم بأنّه على خلاف أصلهم من أنّ المعرفة لا توصف إلاّ بالمعرفة، و المراعى في ذلك اللفظ لا المعنى.

و على هذا، فإمّا أن يوجّه بما ذهب إليه بعضهم، من أنّ «غير» إذا وقعت بين متضادّين و كانا معرفتين تعرّفت بالإضافة، نحو: عليك بالحركة غير السكون، فإنّ المراد بها حينئذ غير معيّن، و كذلك الأمر هنا، لأنّ المنجحين و الممنوعين متضادّان،

______________________________

 (1) القاموس المحيط: ج 1 ص 251.

 (2) سورة فاطر: الآية 37.

 (3) سورة النساء: الآية 95.

128
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 120

.......... و إمّا أن يقال: إن غير الممنوعين بدل من المنجحين لا نعت له.

و وقع في نسخة ابن إدريس رواية «غير» بالنصب، فهو إمّا على الحال، أو على القطع بتقدير أعني.

و الباء: من قوله: «بالتوكّل»: للسببيّة، أي: بسبب توكّلي عليك، أو بسبب توكّل غير الممنوعين عليك.

و التوكّل على اللّه تعالى عبارة عن اعتماد القلب عليه و الانقطاع إليه، بالثقة بما عنده و اليأس عمّا في أيدي الناس.

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: من انقطع إلى اللّه كفاه كلّ مئونة و رزقه من حيث لا يحتسب، و من انقطع إلى الدنيا و كله اللّه إليها «1».

و قد تقدّم الكلام على حقيقة التوكّل و صورته في الرياض السابقة، فأغنى عن الإعادة.

 [ 772] قوله عليه السّلام: «المعوذين بالتعوّذ بك» أكثر النسخ بإهمال الدال من المعودين، و هو اسم مفعول من عوّدته كذا أي: صيّرته له عادة، و نسخة ابن إدريس بالذال المعجمة، من عوّذه: إذا عصمه من كلّ سوء، و منه المعوّذتان على اسم الفاعل‏ «قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ» «2» و «قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ» «3»، لأنّهما عوّذتا صاحبهما أي: عصمتاه من كلّ سوء، و ما اشتهر على ألسنة بعض الطلبة من فتح الواو على أنّها اسم مفعول، غلط واضح.

و التعوّذ بالذال المعجمة مصدر تعوّذ به أي: اعتصم، يقال: عذت باللّه عوذا و معاذا و عياذا، و استعذت به استعاذة، و تعوّذت به تعوّذا، كلّ ذلك بمعنى.

و الباء على الرواية الأولى: للتعدية، و على الثانية: للملابسة أو للاستعانة.

______________________________

 (1) نهج الفصاحة ص 577 ح 2796.

 (2) سورة الفلق: الآية 1.

 (3) سورة الناس: الآية 1.

129
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 120

.......... قوله عليه السّلام: «الرابحين في التجارة عليك» ربح فلان في تجارته ربحا و ربحا من باب علم و تعب-: أصاب الربح، و هو الفضل و الزيادة على رأس المال.

و التجارة: صناعة التاجر، و هي التصدّي للبيع و الشراء لتحصيل الربح، و قد يراد بها ما يتاجر فيه من الأمتعة و نحوها، على تسمية المفعول باسم المصدر.

قال بعضهم: في مثل هذا المقام استعار لفظ التجارة لأعمالهم الصالحة و امتثال أوامر اللّه تعالى، و وجه الشبه كونهم متعوّضين بمتاع الدنيا و بحركاتهم في العبادة متاع الآخرة، و رشّح بلفظ الرابحين لأفضليّة متاع الآخرة و زيادته في النفاسة على ما تركوه من متاع الدنيا، انته.

و الأحسن و الأبلغ أن يقال: إنّ الترشيح الذي هو لفظ الرابحين استعارة تمثيليّة، بأنّ شبّه حال المؤمنين العاملين للّه في نيلهم المنافع المترتّبة على أعمالهم بحال التاجر الرابح في تجارته، و لا ينافي ذلك كون التجارة في نفسها استعارة لمعاملتهم و ثباتهم على ما هم عليه من إيثارهم متاع الدنيا على متاع الآخرة و تمرّنهم عليه معربة عن كون ذلك صناعة لهم راسخة، إذ ليس من ضروريّات الترشيح أن يكون باقيا على الحقيقة تابعا للاستعارة لا يقصد به إلاّ تقويتها، كما في قولك:

رأيت أسدا واقي‏ «1» البراثن، فإنّك لا تريد به إلاّ زيادة تصوير الشجاع و أنّه أسد كامل، من غير أنّ تريد بلفظ البراثن معنى آخر، بل قد يكون مستعارا من ملائم المستعار منه لملائم المستعار له، و مع ذلك يكون ترشيحا لأصل الاستعارة، كما في قوله:

و لمّا رأيت النسر عزّ ابن دأيّة

 

 و عشش في وكريه جاش له صدري‏

 

 فإنّ لفظ وكرين مع كونه مستعار من معناه الحقيقي، الذي هو موضع يتّخذه‏

______________________________

 (1) «الف»: دافي.

130
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 120

.......... الطائر للتفريخ، للرأس و اللحية أو للفودين أعني جانبي الرأس، ترشيح باعتبار معناه الأصلي، لاستعارة لفظ النسر للشيب، و لفظ ابن دأية و هو الغراب للشعر الأسود. و كذا لفظ التعشيش مع كونه مستعارا للحلول و النزول المستمرّ، ترشيح لذينك الاستعارتين. هكذا ينبغي أن تقرّر الاستعارة في هذا المقام، كما نصّ عليه سماسرة البلاغة من علماء البيان.

و الظرف من قوله «عليك»: لغو متعلّق بالرابحين.

يقال: ربح عليه في البيع: إذا استفاد منه الربح و أخذه منه.

و في الحديث عن الصادق عليه السّلام: ربح المؤمن على المؤمن ربا، إلاّ أن يشتري بأكثر من مائة درهم فاربح عليه قوت يومك، أو يشتريه للتجارة فاربحوا عليهم و ارفقوا بهم‏ «1».

و المعنى: اجعلني من المستفيدين الربح منك في تجارته أو تجارتهم.

و أمّا ما وقع لبعض المترجمين من أنّ التعدية بعلى لتضمين معنى الاعتماد، و المعنى: الرابحين في التجارة في حال الاعتماد عليك، بأنّ من قصد جنابك للتجارة بشي‏ء حصل له الربح قطعا و لم يرجع خاسرا و لا خائبا، فهو من عدم الاطّلاع على مصطلحات العرب في محاوراتهم، أو الجهل بمتداولات ألفاظهم و متاورات أقوالهم.

و يحتمل أن تكون «على» هنا بمعنى «من» أي: الرابحين منك في التجارة، كقوله تعالى: «إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ» «2» أي: من الناس.

قال الزمخشري: لمّا كان اكتيالهم من الناس اكتيالا يضرّهم و يتحامل فيه عليهم، أبدل «على» مكان «من»، للدلالة على ذلك‏ «3»، انته.

______________________________

 (1) الكافي: ج 5 ص 154 ح 22.

 (2) سورة المطففين: الآية 2.

 (3) تفسير الكشاف: ج 4 ص 719.

131
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 120

.......... و هذا المعنى بعينه موجود في الربح إذا كان فيه نوع ضرر على المأخوذ منه، و لذلك كان ربح المؤمن على المؤمن حراما كما وقع في الحديث السابق، فلا جرم أبدل «على» مكان «من» كما وقع في الآية.

فإن قلت: ضرر الربح لا يتصوّر في حقّه تعالى، فكيف أبدل «على» ب «من» في خطابه سبحانه؟.

قلت: هو في أصل المعنى كذلك و إن لم يكن مقصودا فيما نحن فيه، يدلّك على ذلك قول الرضي: «و من» للاستعلاء مجازا على قضاء الصلاة و عليه القصاص، لأنّ الحقوق كأنّها راكبة لمن تلزمه، و كذا قوله تعالى: «كانَ عَلى‏ رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا» تعالى اللّه عن استعلاء شي‏ء عليه، و لكنّه إذا صار الشي‏ء مشهورا في الاستعمال في شي‏ء لم يراع أصل معناه، نحوّ: ما أعظم اللّه، و منه: توكّلت على فلان، كأنّك تحمل ثقلك عليه، و منه توكّلت على اللّه‏ «1»، انته.

و هو صريح فيما ذكرناه، و اللّه أعلم.

قوله عليه السّلام: «المجارين بعزتك» أي: المحفوظين بقوّتك و غلبتك.

يقال: استجرت زيدا فأجارني، أي: طلبت منه أن يحفظني فحفظني.

و العزّ و العزّة: الرفعة و الامتناع و الشدّة و الغلبة.

قوله عليه السّلام: «الموسع عليهم الرزق الحلال» إلى آخر يروى بتشديد السين و تخفيفها و كلاهما بمعنى يقال: أوسع اللّه عليه رزقه و وسّعه بالألف و التشديد، أي:

بسطه و كثّره، أي: الذين وسّع عليهم الرزق، و هو لغة ما ينتفع به فيشمل الحلال و الحرام، و لذلك قيّده بالحلال، و من ذهب إلى أنّه ما صحّ الانتفاع به و ليس لأحد منعه منه، فلا يكون الحرام رزقا، فوصفه بالحلال عنده للتأكيد كأمس الدابر، أو

______________________________

 (1) شرح الكافية: في النحو: ج 2 ص 342.

132
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 120

.......... للإيضاح و التبيين. و قد تقدّم الكلام على هذه المسألة مستوفى في أوائل الروضة الأولى فليرجع إليه.

و الحلال: ما لا يعاقب على استعماله.

قيل: و الرزق الحلال شامل للحلال في ظاهر الشريعة، و الحلال في نفس الأمر و هو قوت النبيين.

كما روي أنّ أبا جعفر عليه السّلام نظر إلى رجل و هو يقول: اللّهم ارزقني من رزقك الحلال، فقال: أبو جعفر عليه السّلام: سألت قوت النبيّين، قل: اللّهم إنّى أسألك رزقا واسعا طيّبا من رزقك‏ «1».

قال بعض أصحابنا: الحلال و الطيّب و ان كانا متقاربين بل متساويين في اللغة، إلاّ أنّ المستفاد من هذا الحديث أنّ بينهما فرقا في عرف الأئمّة عليهم السّلام، و كأنّ الفرق هو أنّ الطيّب ما هو طيّب في ظاهر الشرع سواء كان طيّبا في الواقع أم لا، و الحلال ما هو حلال و طيّب في الواقع، لم تعرضه النجاسة و الخباثة قطعا، و لم تتناوله أيدي المتغلّبة أصلا في وقت من الأوقات، و لا ريب في أنّه قوت الأنبياء و أنّه نادر جدا، و طريقه ضيّق، و الطالب له طالب لضيق معيشته، و أمّا ما وقع في بعض الأدعية من طلبه فالمراد به ما هو بمعنى الطيّب‏ «2» انته.

 [ 773] و «من» في قوله عليه السّلام: «من فضلك الواسع»: لابتداء الغاية مجازا، و هي إمّا متعلّقة بالموسّع فيكون الظرف لغوا، أو بمحذوف وقع حالا من الرزق الحلال فيكون ظرفا مستقرّا.

و المعنى إمّا من محض فضلك الواسع من غير وسط معتاد، أو من غير استحقاق لأنّي لست بأهل له، بناء على أنّ الواسع نعت مؤكّد أو مادح، و إمّا من فضلك‏

______________________________

 (1) الكافي: ج 2 ص 552 ح 8.

 (2) مرآة العقول: ج 12 ص 392- 393.

133
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 120

.......... المتّصف بالسعة لا مطلقا، فإن من فضله ما تقتضي الحكمة أن يكون واسعا، و الغرض المبالغة في طلب التوسعة.

و الجود: إفادة ما ينبغي لا لعوض.

و الكرم: إيثار الغير بالخير.

 [ 774] قوله عليه السّلام: «المعزّين من الذلّ بك» أعزّه إعزازا: أكرمه.

قال صاحب المحكم: عزّ عليّ يعزّ عزا و عزّة و عزازة: كرم، و أعززته: أكرمته و أحببته‏ «1».

و من: بمعنى عن، لما في الإعزاز من معنى التنزيه عمّا ينافيه، و يحتمل أن تكون للبدل أي: بدل الذلّ.

و الباء: في «بك»: للاستعانة.

قوله عليه السّلام: «المجارين من الظلم بعدلك» يروى بكسر الراء المهملة، جمع مجار اسم مفعول من أجاره إجارة بمعنى: أعاذه و حفظه، و هو المشهور.

و في نسخة ابن إدريس: «المجازين» بفتح الزاء المعجمة، جمع مجازي اسم مفعول من جازاه بمعنى: كافأه.

و عن الشهيد قدّس سرّه: المجازين بالمعجمة على صيغتي المفعول و الفاعل معا، أي: الذين يجازيهم على ما أصابهم من الظلم و ينتصف لهم من ظالميهم عدلك، أو الذين لا يجازون من اعتدى عليهم و ظلمهم إلاّ بعدلك‏ «2»، انته.

و في هذا المعنى قول أمير المؤمنين عليه السّلام في صفة المؤمن: إن بغي عليه صبر حتّى يكون اللّه الذي ينتصر له‏ «3».

______________________________

 (1) المحكم لابن سيده: ج 1 ص 32.

 (2) لا يوجد لدينا هذا الكتاب.

 (3) نهج البلاغة: ص 306، خطب 193.

134
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 120

.......... أي: إن ظلم لم ينتقم هو لنفسه من ظالمه، بل يكل أمره إلى عدل اللّه سبحانه لينتصر له منه.

قوله عليه السّلام: «المعافين من البلاء برحمتك» عافاه اللّه يعافيه معافاة: سلّمه من الآفات.

و البلاء بالفتح و المدّ: ما يمتحن به و يختبر من خير أو شرّ، و أكثر ما يأتي مطلقا في الشرّ كما وقع هنا، و إذا أريد به الخير يأتي مقيّدا كما قال تعالى: «بَلاءً حَسَناً» «1».

و اللّه تعالى يبلو عبده بما يحبّ ليمتحن شكره، و بما يكره ليمتحن صبره.

فسأل عليه السّلام أن يجعله من الذين عافاهم من البلاء بالمكروه بسبب رحمته.

و في الحديث: إنّ للّه تعالى ضنائن من خلقه يحييهم في عافية و يميتهم في عافية. «2» و هو مروي عن طريق العامّة و الخاصّة.

قال ابن الأثير في النهاية الضنائن: الخصائص، واحدهم ضنينة فعيلة بمعنى مفعولة من الضنّ، و هو ما تختصّه و تضن به أي: تبخل لمكانه منك و موقعه عندك، و منه قولهم: فلان ضنّي من بين اخواني و ضنيني: أي اختصّ به و اضنّ بمودّته‏ «3».

و رواه الجوهري: إنّ للّه ضنا من خلقه يحييهم في عافية و يميتهم في عافية «4».

و في القاموس: هو ضنّي بالكسر أي: خاصّ بي، و ضنائن اللّه: خواصّ خلقه‏ «5».

و روى ثقة الإسلام في الكافي بسنده عن أبي جعفر عليه السّلام، قال: إنّ للّه‏

______________________________

 (1) سورة الانفال: الآية 17.

 (2) النهاية لابن الأثير ج 3 ص 104.

 (3) النهاية لابن الأثير ج 3 ص 104 و فيه: ضنّتي.

 (4) الصحاح: ج 6 ص 2156. مادّة: ضنن.

 (5) القاموس المحيط: ج 4 ص 244.

135
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 120

.......... عزّ و جلّ ضنائن يضن بهم عن البلاء فيحييهم في عافية: و يرزقهم في عافية، و يميتهم في عافية، و يبعثهم في عافية، و يسكنهم الجنّة في عافية «1».

و عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: أنّ اللّه خلق خلقا ضنّ بهم عن البلاء، خلقهم في عافية، و أحياهم في عافية، و أماتهم في عافية، و أدخلهم الجنّة في عافية «2».

و عنه صلوات اللّه عليه: أنّ للّه عزّ و جل ضنائن من خلقه، يغذوهم بنعمته، و يحييهم في عافية، و يدخلهم الجنّة برحمته، تمرّ بهم البلايا و الفتن لا تضرّهم شيئا «3».

قال بعض أصحابنا في معنى هذه الأخبار: لمّا كان كلّ فعله تعالى منوطا بالحكمة، كان من مقتضى حكمته أنّه إذا علم أنّ من عباده من لا يحتاج في إصلاحهم إلى البلاء رزقهم العافية، و قد يبلو بعضهم لزيادة الأجر و رفع المنزلة، و إذا علم أنّ بعضهم يحتاج إلى البلاء ابتلاهم به‏ «4».

و قال بعضهم: معنى الضنّ بهم عن البلاء: إعدادهم لعدم التأذّي بالبلاء، و ذلك لفرط محبّتهم له سبحانه، بحيث يلتذّون ببلائه كما يلتذّون بنعمائه فيعدّونه عافية، كما يشير إلى ذلك آخر الحديث الثالث، و هو قوله عليه السّلام: تمرّ بهم البلايا و الفتن لا تضرّهم شيئا «5»، و اللّه أعلم.

 [ 775] قوله عليه السّلام: «و المغنين من الفقر بغناك» قال بعض أصحابنا: اعلم أنّ الغنى المطلوب لمثله عليه السّلام هو ما دفع ضرورة حاجته بحسب الاقتصاد

______________________________

 (1) الكافي: ج 2، ص 462، باب المعافين من البلاء: ح 1.

 (2) الكافي: ج 2، ص 362 ح 2.

 (3) الكافي: ج 2 ص 462 ح 3، و فيه: «و يحبوهم بعافيته».

 (4) شرح الكافي للمولى محمد صالح المازندرانى: ج 10 ص 196.

 (5) الكافي: ج 2 ص 462 ح 3.

136
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 120

.......... و القناعة، لا المفهوم المتعارف بين أرباب الدنيا من جمع المال و ادّخاره و الاتساع به فوق الحاجة، و طلب الغنى على ذلك محمود، و على الوجه الثاني هو المذموم، و الفقر هو ما احتاج معه إلى سؤال الخلق، انته.

و الظاهر أنّ المراد بالفقر هناك التمسّك بما سواه تعالى و الاستعانة به، لقوله عليه السّلام: «بغناك»، فإنّ المغنيّ بغناه جلّ شأنه هو الذي صرفته العناية عن الالتفات إلى ما سواه سبحانه من الوسائل و الأسباب، و إلاّ فكلّ مغنيّ يؤول غناه إليه تعالى.

قوله عليه السّلام: «و المعصومين من الذنوب» إلى آخره عصمه اللّه يعصمه- من باب ضرب-: حفظه من مواقعة الآثام و المعاصي، و ذلك بفيض و إعداد منه تعالى يقوى به العبد على اجتناب الشرّ، حتّى يصير كمانع له من باطنه و إن لم يكن منعا محسوسا.

و الذنب: ما يحجبك عن اللّه تعالى، و جمعه باعتبار تنوّعه.

و الزلل: أصله في المكان.

قال الزمخشري: هو نوع من انتقال الجسم عن مكان إلى مكان‏ «1»، انته.

يقال: زلّ عن مكانه زلا- من باب ضرب-: تنحّى عنه، و زلّ ذللا- من باب تعب- لغة، و الاسم الزلة بالكسر، و الزلة بالفتح: المرّة، ثمّ استعير للزوال عن الحقّ و الصواب.

قال في الأساس: و من المجاز: زلّ في قوله و رأيه زلّة و زللا، و أزله الشيطان عن الحقّ و استزلّه‏ «2».

______________________________

 (1) الفائق في غريب الحديث: ج 2 ص 119، و فيه: «الزليل».

 (2) أساس البلاغة: ص 274.

137
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 120

.......... و الخطأ مهموز بفتحتين: ضدّ الصواب.

و قال في النهاية: هو ضدّ العمد، و هو أن يفعل شيئا من غير قصده‏ «1».

و قيل إنّه العدول عن الصواب، بأن يريد غير ما تحسن إرادته فيفعله و هو المأخوذ به، أو يريد ما يحسن فعله و لكن يقع له خلاف ما يريد، أو يريد ما لا يحسن فعله و يتّفق منه خلافه، فهو مخطئ إرادة مصيب فعلا، فهو مذموم بقصده غير محمود بفعله، و قد يطلق على المعصية و إن كان فاعلها متعمّدا، من حيث إنّها ضدّ الصواب.

و قوله عليه السّلام: «بتقواك» إضافة المصدر إلى المفعول، أي: بتقواهم إيّاك، و الأصل و قوى من وقيت، لكنّه أبدلت الواو تاء و لزمت في تصاريف الكلمة.

يقال: اتّقى اللّه: إذا تورّع عن محارمه و اجتنب عن كلّ ما يبعده عنه. و قد تقدّم الكلام على ذلك مستوفى، فليرجع إليه.

قوله عليه السّلام: «الموفّقين للخير و الرشد و الصواب» وفّقه اللّه للخير: جعل إرادته موافقة له، و الخير: ما يصلح به حال الإنسان أو يرغب فيه الكلّ، و الشرّ:

بخلافه، و كلّ منهما إمّا مطلق لم يزل مرغوبا فيه أو عنه، أو مقيّد يكون بالنبسة إلى أحد خيرا و إلى الآخر شرّا كالمال.

و الرشد بالضمّ و السكون و بفتحتين و الرشاد: الهدى و الاستقامة.

و قال الواحدي: الرشد: إصابة الخير، و هو نقيض الغيّ‏ «2».

و قال الراغب: الرشد: عناية إلهيّة تعين الإنسان عند توجّهه في أموره، فتقوّيه على ما فيه إصلاحه و تفتّره عمّا فيه فساده، و أكثر ما يكون ذلك من الباطل، نحو

______________________________

 (1) النهاية لابن الأثير: ج 2 ص 44 مع اختلاف يسير في العبارة.

 (2) تهذيب الأسماء و اللغات للنووي: الجزء الأوّل من القسم الثاني ص 122.

138
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 120

.......... قوله تعالى: «وَ لَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَ كُنَّا بِهِ عالِمِينَ»، و كثيرا ما يكون ذلك بتقوية العزم أو بفسخه، و إليه يتوجّه قوله تعالى: «وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَ قَلْبِهِ» «1».

و الصواب: إصابة الحقّ، و هو ضدّ الخطأ.

 [ 776] قوله عليه السّلام: «المحال بينهم» اسم مفعول من أحال بمعنى حال، يقال:

حال النهر بيننا حيلولة أي: حجز و منع الاتّصال، و منه قوله تعالى: «وَ حِيلَ بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ ما يَشْتَهُونَ» «2».

و في القاموس: و كلّ ما حجز بين شيئين فقد حال بينهما «3».

و في نسخة: ابن إدريس: «المحول بينهم»، و هو الموافق للمشهور.

الذي عليه التنزيل، قال تعالى: «وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَ قَلْبِهِ» «4»، و قال: «وَ حالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ» «5».

و أمّا أحال فلم ينصّ عليه أحد من أهل اللغة، إلاّ أن الرواية المشهورة و ردت هنا بلفظ المحال بينهم، و لا معنى له الاّ أن يكون بمعنى المحول.

قوله عليه السّلام: «التاركين لكلّ معصيتك» ترك الشي‏ء: طرحه و خلاّه.

و قال الشهاب الفيومي في المصباح: تركت المنزل تركا: رحلت عنه، و تركت الرجل: فارقته، ثمّ استعير للإسقاط في المعاني، فقيل: ترك حقّه: إذا أسقطه، و ترك ركعة من الصلاة: لم يأت بها، فإنّه إسقاط لما ثبت شرعا، و تركت البحر ساكنا: لم اغيّره عن حاله‏ «6»، انته.

و قيل: الترك: الكفّ عن الفعل المبتدأ في محلّ القدرة عليه.

______________________________

 (1) الذريعة إلى مكارم الشريعة: 62.

 (2) سورة سبأ: الآية 54.

 (3) القاموس المحيط: ج 3 ص 363.

 (4) سورة الأنفال: الآية 24.

 (5) سورة هود: الآية 43.

 (6) المصباح المنير: ص 102.

139
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 120

.......... فقوله عليه السّلام: «التاركين لكلّ معصيتك» لا يجوز أن يكون بمعنى الكافّين عنها بعد ارتكابها و المفارقين لها بعد مواصلتها، كما يقتضيه معنى الترك، إذ لا يتصوّر ارتكاب أحد كلّ معصية، بل معناه غير الفاعلين لشي‏ء من المعاصي، و هذا المعنى للترك شائع في الاستعمال أيضا.

قال أمين الدين الطبرسي: الترك: ضدّ الأخذ، ينافي الفعل المبتدأ في محلّ القدرة عليه، و يستعمل بمعنى أن لا يفعل، كقوله تعالى: «وَ تَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ» معناه لم يفعل اللّه لهم النور «1».

فإن قلت قد تقرّر في علم البيان أنّ كلاّ إذ وقعت خبر النفي كان النفي موجّها إلى الشمول خاصّة، و أفاد بمفهومه الثبوت لبعض الافراد، كقولك: لم آخذ كلّ الدراهم، فيلزم على هذا أن يكون معنى التاركين لكلّ معصيتك، التاركين لمجموعها مع ارتكابهم لبعض أفرادها، كما أن قولك: لم آخذ كلّ الدراهم يفيد ثبوت الأخذ لبعضها، و هذا المعنى غير مراد هنا قطعا بل المراد ترك كلّ فرد من المعصية.

قلت: الحقّ أن هذا الحكم أكثري لا كلّي، كما نصّ عليه سعد التفتازاني في شرح التلخيص، قال: لأنّا نجده حيث لا يصلح أن يتعلّق الفعل ببعض، كقوله تعالى: «وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ» «2»، «وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ» «3»، «وَ لا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ» «4» و «5».

و أجاب بعضهم: بأنّ دلالة المفهوم إنّما يعوّل عليها عند عدم المعارض، و هو هنا موجود، إذ دلّ الدليل على تحريم الاختيال و الفخر و الكفر و الحلف.

______________________________

 (1) راجع مجمع البيان: ج 1- 2 ص 55 ذيل الآية 17 من سورة البقرة.

 (2) سورة الحديد: الآية 23.

 (3) سورة البقرة: الآية 276.

 (4) سورة القلم: الآية 10.

 (5) شرح التلخيص: ج 1 ص 109.

140
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 120

اللّهُمَّ أعْطِنا جَميعَ ذَلِكَ بِتَوْفيقِكَ وَ رَحْمَتِكَ، وَ أعِذْنا مِنْ عَذابِ السَعِيرِ، وَ أعْطِ جَميعَ المُسْلِمينَ وَ المُسْلِماتِ، وَ المُؤْمنينَ وَ المُؤْمِناتِ، و هذا الجواب صالح هنا أيضا، إذ الدليل أوجب ترك كلّ فرد من المعصية، فلا يعوّل على دلالة المفهوم.

قوله عليه السّلام «الساكنين في جوارك» سكن الدار و في الدار سكنا- من باب طلب-: حلّ بها، و الاسم السكنى فأنا ساكن.

و جاوره مجاورة و جوارا من باب قاتل، و الاسم الجوار بالفتح و الضمّ.

و قال الجوهري: جاورته مجاورة و جوارا و جوارا، و الكسر أفصح‏ «1».

و قال الفارابي في ديوان الأدب في باب فعال بالكسر: هو الجوار، يقال: هو في جوار اللّه، و هو مصدر أيضا في الأصل‏ «2»، و في باب فعال بالضمّ: الجوار لغة في الجوار، و الكسر أفصح، «3»، و في باب فعال بالفتح: هو الجوار «4».

و بالحركات الثلاث وردت الرواية في الدعاء. و السكن في جوار اللّه تعالى تمثيل للسلامة من كلّ آفة و نيل الكرامة بكلّ خير، مثّل صورة من وقاه اللّه سبحانه و سلّمه من كلّ مخوف و شمله بفضله و عنايته بصورة من سكن في جوار ملك عظيم و سيّد كريم، فهو يقيه و يحفظه من كلّ سوء و شرّ رعاية لسكناه في جواره، و يغشاه بكلّ خير و برّ كرامة لحلوله في كنفه، و اللّه أعلم+.

 [ 777] جاء بضمير الجماعة لإشراك ولده عليه و عليهم السّلام في الدعاء، كما يدّل عليه قوله فيما سيأتي: «مثل الذي سألتك لنفسي و لولدي» و جمع بين التوفيق و الرحمة، لأنّ بعض المسئول المشار إليه بذلك متسبّب عن التوفيق و بعضه عن محض الرحمة،

______________________________

 (1) الصحاح: ج 2 ص 617.

 (2) ديوان الأدب: ج 3 ص 373.

 (3) ديوان الأدب: ج 3 ص 371.

 (4) ديوان الأدب: لم نعثر عليه في باب فعال بل عثرنا عليه في باب فعل ج 3 ص 333.

141
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 120

مِثْلَ الَذي سَأَلْتُكَ لِنَفْسي وَ لِوَلَدي، في عاجِلِ الدنيا وَ آجلِ الآخِرَةِ، إنَّكَ قَرِيبٌ مُجيبٌ، سميعٌ عَلِيمٌ عَفُوٌّ غَفُورٌ، رَءوفٌ رَحيمٌ، وَ آتِنا في الدُنيا حَسَنَةً، وَ في الآخِرَةِ حَسَنَةً، وَ قِنا عَذابَ النّارِ.

كما هو ظاهر.

و السعير: النار.

و قيل: لهبها، لقولهم: خبى سعيرها.

و عن اللحياني: نار سعير بغير هاء أي: مسعورة «1».

يقال: سعر النار سعرا- من باب نفع-: و أسعرها إسعارا و سعّرها تسعيرا: أي أوقدها.

 [ 778] و ختم الدعاء عليه السّلام بالسؤال لعامة أهل التوحيد، من المسلمين و المسلمات و المؤمنين و المؤمنات، مثل ما سأل لنفسه و لولده في الدارين.

لما ورد في الخبر: أنّ من حقّ المسلم على المسلم أن يحبّ له ما يحبّ لنفسه، و يكره له ما يكره لنفسه‏ «2».

و في رواية: يحبّ المرء المسلم لأخيه ما يحبّ لاعزّ أهله، و يكره المرء المسلم لأخيه ما يكره لأعزّ أهله‏ «3».

و عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ما من مؤمن دعا للمؤمنين و المؤمنات إلاّ ردّ اللّه عزّ و جل عليه مثل الذي دعا لهم به، من كلّ مؤمن و مؤمنة مضى من أوّل الدهر أو هو آت إلى يوم القيامة. «4» و تقديم المسلمين و المسلمات على المؤمنين و المؤمنات رعاية لترتيب الوجود، إذ الإسلام قبل الإيمان، فلا يكون العبد مؤمنا حتى يكون مسلما. و قد تقدّم الكلام‏

______________________________

 (1) لسان العرب: ج 4 ص 365 مادّة: سعر.

 (2) الكافي: ج 2 ص 169 ح 2.

 (3) الكافي: ج 2 ص 172 ح 9.

 (4) الكافي: ج 2 ص 507 ح 5.

142
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 120

.......... على الإسلام و الإيمان مستوفى، فليرجع إليه.

و قوله: «في عاجل الدنيا و آجل الآخرة» يحتمل أن يكون متعلّقا بقوله: «واعط جميع المسلمين»، و يحتمل تعلّقه بقوله: «سألتك لنفسي».

 [ 779] و الجملة من قوله: «إنّك قريب مجيب» إلى آخره تعليل لاستدعاء الإجابة و تأكيدها، لغرض كمال قوّة يقينه عليه السّلام بمضمونها.

و وصفه تعالى بالقريب: تمثيل لكمال علمه بأفعال عباده و أقوالهم و اطلاعه على أحوالهم بحال من قرب مكانه.

و المجيب: هو الذي يقابل دعاء الداعين بالإجابة، و سؤال السائلين بالإسعاف، و ضرورة المضطرّين بالكفاية، و فيه تلميح إلى قوله تعالى: «و إذا سألك عبادي عنّي فإنّي قريب أجيب دعوة الدّاع إذا دعان» «1».

و السميع: هو العالم بالمسموعات.

و قيل: هو الذي لا يعزب عن إدراكه مسموع و إن خفي، يسمع حمد الحامدين فيثيبهم و دعاء الداعين فيجيبهم.

و قال أمين الإسلام الطبرسي: هو من كان على صفة يجب لأجلها أن يدرك المسموعات إذا وجدت، و هي ترجع إلى كونه تعالى حيّا لا آفة به‏ «2».

و السامع: المدرك، و يوصف القديم تعالى في الأزل بأنه سميع، و لا يوصف في الأزل بأنّه سامع، لأنّه إنّما يوصف به إذا وجدت المسموعات.

و العليم: العالم بجميع الأشياء ظاهرها و باطنها دقيقها و جليلها على أتمّ ما يمكن، بحيث لا يتصوّر مشاهدة و كشف أظهر منه، و فعيل من أبنية المبالغة فهو أبلغ من العالم.

______________________________

 (1) سورة البقرة: الآية 186.

 (2) مجمع البيان: ج 3- 4 ص 278.

143
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 120

.......... قال بعض العلماء: ليس سمعه و علمه تعالى بجارحة، و لا بكيفيّة نفسانيّة انفعاليّة، ليلزم الاشتراك بينه و بين السامعين و العلماء، أو بينه و بين أسماعهم و علومهم، بل حقيقة ذاته المقدّسة التي هي محض الوجود الذي لا أتمّ منه، تنكشف له المسموعات و تحضر لديه المعلومات، و ليس معنى السماع إلاّ حضور صورة المسموع عند قوّة إدراكيّة تسمّى بالسمع أو السامعة، و لا العلم إلاّ حضور صورة المعلوم عند قوّة علميّة تسمّى بالعقل أو العاقلة، و ليس من شرط السماع أن يكون بآلة و لا بحلول صورة في ذات السامع أو في آلة منه، بل معناه انكشاف المسموع و حضوره سواء كان بنفسه أو بصورته.

و كذا الكلام في العلم، فإنّ ذاته تعالى سميع إذ ينكشف عنده المسموعات، و سمع إذ به يقع ذلك الانكشاف لا بأمر آخر، و كذا قياس كونه عليما و علما، انته.

و العفوّ: فعول من العفو، و هو التجاوز عن الذنب و ترك العقاب عليه، و أصله المحو و الطمس، يقال: عفت الرياح الأثر: إذ محته و طمسته.

و الغفور: بمعنى الغفّار، و لكنّه ينبئ عن نوع مبالغة لا ينبئ عنه الغفار، فإنّ الغفّار، مبالغة في المغفرة بالإضافة إلى مغفرة متكرّرة مرّة بعد أخرى، فالفعّال ينبئ عن كثرة الفعل، و الفعول ينبئ عن جودته و كماله و شموله، فهو غفور بمعنى، أنّه تام الغفران كاملها حتّى يبلغ أقصى درجات المغفرة.

قال الغزالي و غيره: و في العفوّ مبالغة ليست في الغفور، فإنّ الغفران ينبئ عن الستر، و العفو ينبئ عن المحو، و هو أبلغ من الستر، لأنّ ستر الشي‏ء قد يحصل مع بقاء أصله، بخلاف المحو فإنّه إزالته جملة و رأسا. و على هذا، فتقديمه مع كون القياس تأخيره رعاية لاسلوب الترّقي إلى الأعلى، كما في قولهم: فلان عالم نحرير، و شجاع باسل، و جواد فيّاض، لأنّ ما يدلّ على إزالة أصل الذنب أولى بالتقديم ممّا يدلّ‏

144
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 120

.......... على ستره مع احتمال بقاء أصله‏ «1».

و الرءوف: ذو الرأفة و هي شدّة الرحمة، فهو بمعنى الرحيم مع المبالغة فيه، و تقديمه عليه مع كونه أبلغ منه، لأنّ تقديم ما يدلّ على عظيم النعمة أولى من تقديم ما يدلّ على دقيقها.

و قيل: الرأفة أخصّ و الرحمة أعمّ.

 [ 780] و قوله عليه السّلام: «و آتنا في الدنيا حسنة» إلى آخره مرّ شرحه في آخر الروضة العشرين، فليرجع إليه تمّ. [] و الحمد للّه ربّ العالمين و صلّى اللّه على محمّد و آله أجمعين، و للّه الحمد. تمّ ضحوة يوم الثلاثاء لعشر بقين من شعبان المكرّم سنة 1101.

______________________________

 (1) المقصد الأسنى: ص 102.

145
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

الروضة السادسة و العشرون ص : 147

الروضة السادسة و العشرون‏

147
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

و كان من دعائه عليه السلام لجيرانه و أوليائه إذا ذكرهم ص : 149

وَ كانَ مِنْ دُعائِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ لِجيرانِهِ وَ أَوْلِيائِهِ إِذا ذَكَرَهُمْ‏

الّلهُمَّ صَلِّ عَلى‏ مُحَمَّدٍ وَ الِهِ وَ تَوَلَّنى‏ في‏ جيرانى‏ وَ مَوالِيَّ الْعارِفِينَ بِحَقِّنا وَ الْمُنابِذينَ لِأَعْدائِنا بِافْضَلِ وَلايَتِكَ وَ وَفِّقْهُمْ لِإِقامَةِ سُنَّتِكَ وَ الْأَخْذِ بِمَحاسِنِ ادَبِكَ في ارْفاقِ ضَعيفِهِمْ وَ سَدِّ خَلَّتِهِمْ وَ عِيادَةِ مَريضِهِمْ وَ هِدايَةِ مُسْتَرْشِدِهِمْ وَ مُناصَحَةِ مُسْتَشيرِهِمْ وَ تَعَهُّدِ قادِمِهِمْ وَ كِتْمانِ اسْرارِهِمْ وَ سَتْرِ عَوْراتِهِمْ وَ نُصْرَةِ مَظْلُومِهِمْ وَ حُسْنِ مُواساتِهِمْ بِالْماعُونِ وَ الْعَوْدِ عَلَيْهِمْ بِالْجِدَةِ وَ الْافْضالِ وَ اعْطاءِ ما يَجِبُ لَهُمْ قَبْلَ السُّؤالِ وَ اجْعَلْنِى اللّهُمَّ اجْزِي بِالْاحْسانِ مُسيئَهُمْ وَ اعْرِضُ بِالتَّجاوُزِ عَنْ ظالِمِهمْ وَ اسْتَعْمِلُ حُسْنَ الظَّنِّ في كافَّتِهِمْ وَ اتَوَلّى بِالْبِرِّ عامَّتَهُمْ وَ أَغُضُّ بَصَرى عَنْهُمْ عِفَّةً وَ الينُ جانِبي لَهُمْ تَواضُعاً وَ أَرِقُّ عَلى‏ أَهْلِ الْبَلاءِ مِنْهُمْ رَحْمَةً وَ أُسِرُّ لَهُمْ بِالْغَيْبِ مَوَدَّةً وَ أُحِبُّ بَقاءَ النِّعْمَةِ عِنْدَهُمْ نُصْحًا و اوجِبُ لَهُمْ ما اوجِبُ لحامَّتِى وَ ارْعى‏ لَهُمْ ما ارْعى‏ لِخاصَّتى اللّهُمَّ صَلِّ عَلى‏ مُحَمَّدٍ وَ الِهِ وَ ارْزُقْنى مِثْلَ ذلِكَ مِنْهُمْ وَ اجْعَلْ لى اوْفَى الْحُظُوظِ فِيما عِنْدَهُمْ وَ زِدْهُمْ بَصيرَةً في حَقّى وَ مَعْرِفَةً بِفَضْلى حَتّى‏ يَسْعَدُوا بي وَ اسْعَدَ بِهِمْ امِينَ رَبَّ الْعالَمينَ‏ ..........

149
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

و كان من دعائه عليه السلام لجيرانه و أوليائه إذا ذكرهم ص : 149

.......... [] بسم اللّه الرحمن الرحيم الحمد للّه ذاكر جيرانه و أوليائه، و المفيض عليهم سجال نعمائه و آلائه، و الصّلاة و السّلام على أشرف أنبيائه، و على أهل بيته و عترته و أبنائه.

و بعد فهذه الروضة السادسة و العشرون من رياض السالكين، تتضمّن شرح الدعاء، السادس و العشرين من صحيفة سيّد العابدين، سلام اللّه عليه و على آبائه و أبنائه الطاهرين، إملاء العبد الفقير إلى ربّه الغني عليّ صدر الدين الحسينيّ الحسنيّ، كان اللّه له جارا و وليّا، و رفعه في الدارين مكانا عليّا.

رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين ؛ ج‏4 ؛ ص151

 

150
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء السادس و العشرين ص : 151

شرح الدعاء السادس و العشرين‏

وَ كانَ مِنْ دُعائِهِ عَليْهِ السلامُ لجيرانِهِ وَ أوْلِيائِهِ إذا ذَكرهُم.

الجيران: جمع جار، و هو لغة المجاور في السكن.

حكى تغلب عن ابن الأعرابي: الجار: الذي يجاورك بيت بيت‏ «1».

و قال الفيومي: جاوره مجاورة: إذا لاصقه في السكن‏ «2».

و شرعا قيل: من يلي الدار إلى أربعين ذراعا من كلّ جانب، و هو مذهب جماعة من أصحابنا منهم الشهيد الأوّل في كتاب اللمعة «3».

و قيل: إلى أربعين دارا من كلّ جانب، و هو مذهب طائفة من أصحابنا.

و قال الشهيد الثاني في شرح اللمعة: و الأولى و الأقوى الرجوع في الجيران إلى العرف، لأنّ القول الأوّل و إن كان هو المشهور إلاّ أنّ مستنده ضعيف، و القول الثاني مستند إلى رواية عامّية روتها عائشة عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال:

الجار إلى أربعين دارا «4».

و كأنّه رحمه اللّه غفل عمّا رواه ثقة الإسلام في الكافي بسند حسن بل صحيح عن أبي جعفر عليه السّلام، أنّه قال: حدّ الجوار أربعون دارا من كلّ جانب، من بين يديه و من خلفه و عن يمينه و عن شماله‏ «5».

و عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: كلّ‏

______________________________

 (1) المصباح المنير: ص 158.

 (2) المصباح المنير: ص 157.

 (3) اللمعة الدمشقيّة: ص 177.

 (4) شرح اللمعة: ج 5 ص 29.

 (5) الكافي: ج 2، ص 669، ح 1.

151
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء السادس و العشرين ص : 151

قال صلوات اللّه و سلامه عليه.

اللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَ آلِهِ، وَ تَوَلّني في جيراني وَ مَوالِيَّ العارِفينَ بِحَقِّنا، وَ المُنابِذِينَ لِاعْدائِنَا، بِأفْضَلِ وَلايَتِكَ.

أربعين دارا جيران، من بين يديه و من خلفه و عن يمينه و عن شماله‏ «1».

فمستند القول الثاني هاتان الروايتان لا ماروته عائشة، فلا معدل عن القول به.

و يطلق الجار على الناصر و الحليف و هو المعاهد، يقال منه: و تحالفا إذا تعاهدا على أن يكون أمرهما واحدا في النصرة و الحماية، لأنّ كلا منهما يحلف لصاحبه على التناصر، بينهما حلف و حلفة بالكسر: أي عهدا، و إرادة هذين المعنيين هنا واضحة.

و الأولياء: جمع وليّ فعيل بمعنى فاعل، و يطلق على معان كثيرة، و الذي يقتضيه المقام منها هو المحبّ، و التابع، و المعين، و الناصر، و الصديق ذكرا كان أو انثى، و العتيق، و كلّ من يتولّى الإنسان و ينضمّ إليه و يكون من جملة أتباعه و الناصرين له فهو وليّه+.

 [ 781] تولاّه اللّه: كان له وليّا، أي: معينا و كافلا لمصالحه و قائما باموره، و منه: تولاّك اللّه بحفظه.

قال ابن الأثير في النهاية: و كأنّ الولاية تشعر بالتدبير و القدرة و الفعل‏ «2».

و في: ظرفيّة مجازيّة، أي: اجعل ولايتك لي سارية في جيراني و مواليّ راسخة فيهم، كقوله: «وَ أَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي» «3».

و الموالي جمع مولى، و المراد به هنا: المحبّ و التابع و الناصر و سائر ما تقدّم في معنى الوليّ.

و قوله‏ «4» «العارفين بحقّنا» صفة مفادها التوضيح و هو رفع الاحتمال، أو التبيين و التفسير، فتكون صفة كاشفة عن معنى الجيران و الموالي، الذين سأل عليه السّلام أن يتولاّه اللّه فيهم بأفضل ولايته.

______________________________

 (1) الكافي: ج 2 ص 669 ح 2.

 (2) النهاية لابن الأثير: ج 5 ص 227.

 (3) سورة الاحقاف: الآية 15.

 (4) (ج): عليه السّلام.

152
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء السادس و العشرين ص : 151

.......... و يحتمل أن يكون للمدح، و معرفة حقّهم عليهم السّلام عبارة عن اعتقاد إمامتهم و افتراض طاعتهم و وجوب اتّباعهم و التسليم إليهم.

و المنابذة بالذال المعجمة: مفاعلة من النبذ، و هو طرح الشي‏ء و رميه، يقال: نبذ الشي‏ء من يده: إذا طرحه و رمى به.

قال الزمخشري في الأساس: نبذ إلى العدوّ: رمى إليه بالعهد و نقضه، و نابذه منابذة و تنابذوا «1».

و قال الفيومي في المصباح: نابذتهم: خالفتهم، و نابذتهم الحرب: كاشفتهم إيّاها و جاهرتهم بها «2».

و في شرح مسلم للنووي في حديث: و إن أبيتم نابذناكم على سواء، أي: كاشفناكم و قاتلناكم على طريق مستقيم مستوفى العلم بالمنابذة منّا و منكم، و النبذ يكون بالفعل و القول في الأجسام و المعاني، و منه نبذ العهد: إذا نقضه و ألقاه إلى من كان بينه و بينه‏ «3»، انته.

و في شرح جامع الأصول: فلا تنابذهم أي: تقاتلهم‏ «4».

و في النعتين المذكورين إشارة إلى أن موالاتهم عليه السّلام لا تكون إلاّ بمعرفة حقّهم و مخالفة أعدائهم و منابذتهم.

و الباء من قوله: «بأفضل ولايتك»: إمّا للاستعانة فيكون الظرف لغوا متعلّقا بتولّني، أو للملابسة فيكون مستقرّا متعلّقا بمحذوف، و هو حال من فاعل تولّني، أي:

ملتبسا بأفضل ولايتك.

و الولاية بالفتح و الكسر: لغتان بمعنى النصرة و الإعانة، و بالكسر فقط: بمعنى‏

______________________________

 (1) أساس البلاغة: ص 613.

 (2) المصباح المنير: ص 810.

 (3) شرح صحيح مسلم (للنووي) لم أعثر عليه بعد فحص بليغ.

 (4) لا يوجد لدينا هذا الكتاب.

153
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء السادس و العشرين ص : 151

وَ وَفِّقْهُمْ لإقامَةِ سُنَّتكَ، وَ الاخْذِ بِمَحاسِنِ ادَبِكَ، في إرْفاقِ ضَعيفِهِمْ وَ سَدِّ خَلَّتِهِمْ، وَ عِيَادَةِ مَريضِهِمْ، وَ هِدايَةِ مُسْتَرْشِدِهِمْ، وَ مُناصَحَةِ مُسْتَشيرِهِمْ، وَ تَعَهُّدِ قادِمِهِمْ، وَ كِتْمانِ أسْرارِهِمْ، وَ ستْرِ السلطان، حكاه الجوهري عن ابن السكيت‏ «1».

و قال سيبويه: الولاية بالفتح: المصدر، و بالكسر: الاسم، مثل الامارة و النقابة، لأنّه لما تولّيته، فإذا أرادوا المصدر فتحوا «2».

و الرواية وردت في الدعاء بالوجهين، فتحتمل المصدريّة و الاسميّة+.

 [ 782] قال بعضهم: لا يخفى أنّ المناسب للمقام أن يقال: و وفّقني، لكن اتّفقت النسخ على هذا النحو، و يمكن أن يكون قوله عليه السّلام: «في إرفاق ضعيفهم» متعلّقا بولايتك أو بتولّني، و هو و إن كان بحسب الظاهر بعيدا لكنّه بحسب المعنى أحسن، انته.

و قال بعض المترجمين: و في رواية «و وفّقني» و هو أولى، و العهدة عليه.

و الذي أقول: إنّ المناسب لعنوان الدعاء هو ما عليه الرواية من لفظ، وفّقهم، فيكون الغرض الدعاء لهم بالتوفيق باستعمال هذه الاداب و الأخذ بها في معاشرة بعضهم بعضا.

و السنّة بالضمّ: في الأصل الطريقة، و سنّة اللّه تعالى: حكمه و ما شرّعه من فرض أو ندب.

و إقامتها عبارة عن صيانتها و حفظها من أن يقع فيها شي‏ء من الزيغ، أخذا من أقام العود، إذا قوّمه و عدّله، أو عن المواظبة عليها، مأخوذ من قامت السوق، إذا نفقت، و أقمتها: إذا جعلتها نافقة، فإنّها إذا حوفظ عليها كانت كالنافق الذي يرغب‏

______________________________

 (1) الصحاح: ج 6، ص 2530، من دون النسبة إلى ابن السكيت.

 (2) الصحاح: ج 6، ص 2530 نقلا عن سيبويه.

154
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء السادس و العشرين ص : 151

عُوْراتِهِمْ، وَ نُصْرَةِ مَظْلُومِهِمْ، وَ حُسْنِ مُواساتِهِمْ بِالماعُون، وَ العَوْدَ عَلَيْهِمْ بِالجِدَةِ وَ الإفْضالِ، وَ إعْطاءِ ما يَجِبُ لَهُمْ قَبْلَ السُؤالِ.

فيه، أو عبارة عن التشمير للعمل بها من غير فتور و لا توان، من قولهم: قام بالأمر و أقامه: إذا جدّ فيه و اجتهد.

و المحاسن: جمع الحسن الذي هو خلاف القبح، و هو كون الشي‏ء ملائما للطبع، أو موجبا للمدح في العاجل و الثواب في الآجل.

قال الجوهري: هو على خلاف القياس، كأنّه جمع محسن‏ «1».

و الأدب: رياضة النفس و محاسن الأخلاق.

قال أبو زيد الأنصاري: الأدب يقع على كلّ رياضة محمودة يتحرّج بها الإنسان في فضيلة من الفضائل‏ «2». و إضافته إليه تعالى لكونه أمر به أو ندب إليه.

و الأخذ: في الأصل بمعنى التناول و الإمساك باليد.

يقال: أخذ الخطام و بالخطام على الزيادة أي: أمسكه، ثمّ استعمل بمعنى السيرة، يقال: أخذ أخذهم و بأخذهم بفتح الهمزة و كسرها أي: سار بسيرتهم.

و منه الحديث: لا تقوم الساعة حتّى تأخذ أمّتي بأخذ القرون‏ «3».

أي: تسير بسيرتهم، و هذا المعنى هو المراد هنا، أي: وفّقهم للسيرة بمحاسن أدبك.

و الظرف من قوله «في إرفاق ضعيفهم»: متعلّق به أو بأدبك. و يحتمل أن تكون «في» بمعنى «من» البيانيّة، فيكون ما بعدها بيانا لسنّته تعالى و محاسن أدبه.

و الإرفاق: إفعال من الرفق بالكسر، و هو لين الجانب و لطافة الفعل.

يقال: رفق به- من باب قتل- رفقا و أرفقه إرفاقا أي: لطف به.

حكى أبو زيد: رفقت به و أرفقته و ترفّقت بمعنى‏ «4».

______________________________

 (1) الصحاح: ج 5، ص 2099.

 (2) المصباح المنير: ص 11.

 (3) صحيح البخاري ج 9 ص 126 ب 14.

 (4) الصحاح: ج 4 ص 1482.

155
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء السادس و العشرين ص : 151

.......... و قال الفارابي في ديوان الأدب: يقال: أرفقه و رفق به بمعنى‏ «1».

و قال ابن الأثير في النهاية: و منه الحديث في إرفاق ضعيفهم و سدّ خلّتهم أي:

إيصال الرفق إليهم‏ «2».

و يأتي الإرفاق بمعنى النفع، يقال: أرفقه أي: نفعه.

قال في الأساس: استرفقته فأرفقني بكذا: نفعني‏ «3».

و الخلّة بالفتح: الحاجة و الفقر و الخصاصة، و سدّها جبرها و إزالتها.

قال في النهاية: و فيه اللّهم سادّ الخلّة، الخلّة: الحاجة و الفقر و سادّها أي:

جابرها. و منه حديث الدعاء للميّتّ: اللّهم اسدد خلّته و أصلها من التخلّل بين الشيئين، و هي الفرجة و الثلمة التي تركها بعده من الخلل الذي أبقاه في أموره‏ «4».

و عدت المريض عيادة: زرته.

قال الطيّبي في شرح المشكاة: العيادة في المرض، و الزيارة في الصحة «5».

و قال ابن الأثير: كلّ من أتاك مرّة بعد أخرى فهو عائد، و إن اشتهر في عيادة المريض حتّى صار كأنّه مختصّ به‏ «6».

و المسترشد: طالب الرشد أي: الهدى و إصابة الصواب.

 [ 783] و المناصحة: النصح.

قال الفارابي في ديوان الأدب: ناصحة أي: نصح له‏ «7».

فهو من باب فاعل بمعنى فعل، كسافر و ضاعف.

و استشرته في كذا: بمعنى شاورته أي: راجعته لأرى رأيه فيه، فأشار عليّ‏

______________________________

 (1) ديوان الادب: ج 2 ص 317.

 (2) النهاية لابن الأثير: ج 2 ص 246.

 (3) أساس البلاغة: ص 243.

 (4) النهاية لابن الأثير: ج 2 ص 72- 73.

 (5) لا يوجد لدينا هذا الكتاب.

 (6) النهاية لابن الأثير: ج 3 ص 317.

 (7) ديوان الأدب ج 2 ص 383.

156
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء السادس و العشرين ص : 151

.......... بكذا: أراني ما عنده من المصلحة.

و تعهّدت الشي‏ء: تفقّدته، و جددت العهد به أي: الالتقاء به، و منه: عهدي به قريب أي: لقائي.

و القادم: الآتي من السفر، يقال: قدم الرجل البلد يقدمه قدوما- من باب تعب- فهو قادم.

و كتم زيد الحديث كتما- من باب قتل- و كتمانا بالكسر: لم يطلع عليه أحدا.

و الأسرار: جمع سرّ بالكسر، و هو ما تخفيه و تكتمه من غيرك. و منه: صدور الأحرار قبور الأسرار «1».

و العورات بسكون الواو للتخفيف و القياس الفتح و هو لغة هذيل: جمع عورة، و هي كلّ شي‏ء يستره الإنسان أنفة أو حياء.

 [ 784] و النصرة بالضمّ: اسم من نصرته على عدوّه أي: أعنته و قوّيته.

و المواساة: مصدر آسيته بالهمز و المدّ أي: سوّيته بها، و يجوز إبدال الهمزة واوا في لغة اليمن فيقال: واسيته:

و في النهاية: المواساة: المشاركة و المساهمة في المعاش و الرزق، و أصلها الهمزة و قد تقلب‏ «2»، انته.

و قال الجوهري: آسيته بمالي مواساة: جعلته اسوتي فيه، و واسيته لغة ضعيفة «3».

و في القاموس: آساه بماله مؤاساة: أنا له منه و جعله فيه أسوة، و لا يكون ذلك إلاّ من كفاف، فإن كان من فضلة فليس مواساة «4»، انته.

______________________________

 (1) المحجة البيضاء: ج 3 ص 328.

 (2) النهاية لابن الأثير: ج 1 ص 50، و فيه: «فقلبت واوا تخفيفا».

 (3) الصحاح: ج 6، ص 2268.

 (4) القاموس المحيط: ج 4، ص 299، و فيه: «بمواساة».

157
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء السادس و العشرين ص : 151

.......... و اختلف في معنى الماعون و في اشتقاقه ممّ هو، فقيل: هو المعروف كلّه.

و قيل: هو اسم جامع لما لا يمنع في العادة، و يسأله الفقير و الغني في أغلب الأحوال، و لا ينسب سائله إلى لؤم، بل ينسب مانعه إلى اللؤم و البخل، كالفأس و القصعة و القدر و الدلو و الغربال و القدوم، و يدخل فيه الماء و الملح و النار، لما روي:

ثلاثة لا يحلّ منعها: الماء و النار و الملح [1].

و من ذلك أن تلتمس من جارك الخبز في تنوره، أو أن تضع متاعك عنده يوما أو بعض يوم.

قال العلماء: و من الفضائل أن يستكثر الرجل في منزله ممّا يحتاج إليه الجيران فيعيرهم ذلك، و لا يقتصر على قدر الضرورة، و قد يكون منع هذه الأشياء محظورا في الشريعة إذا استعيرت عن اضطرار.

و قيل: هو كلّ ما انتفع به و مطلق المنفعة، و يؤيّده ما رواه أبو بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: هو القرض تقرضه، و المعروف تصنعه، و متاع البيت تعيره، و منه الزكاة، قال: فقلت له: إنّ لنا جيرانا إذا أعرناهم متاعا كسروه و أفسدوه، أ فعلينا جناح أن نمنعهم؟ فقال: لا، ليس عليك جناح أن تمنعهم إذا كانوا كذلك‏ «1».

و أمّا اشتقاقه فهو فاعول، فقيل: من المعن بمعنى: العطاء.

و قيل: من معن الوادي: إذا جرت مياهه قليلا قليلا، و المعن: القليل، لأنّ الماعون ما قلّت قيمته و كثرت منفعته.

و قيل: من المعن بمعنى: السهل اليسير، فإنّ الماعون بأي معنى فسّر كان سهلا

______________________________

 [1] لم نعثر عليه، بل وجدناه في مستدرك وسائل الشيعة: ج 2 ص 470 و ج 3 ص 150 ما نصّه: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: خمس لا يحلّ منعهنّ: الماء و الملح و الكلاء و النار و العلم.

______________________________

 (1) الكافي: ج 3، ص 499، ح 9.

158
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء السادس و العشرين ص : 151

.......... يسيرا.

قال صاحب المحكم: الماعون: المعروف لتيسّره و سهولته لدينا بافتراض اللّه تعالى إيّاه علينا، و الماعون: الزكاة، و هو من السهولة و القلّة، لأنّها جزء من كلّ، و الماعون: أسقاط البيت كالدلو و القدر، لأنّه لا يكرث معطيه و لا يعنّي كاسبه، و الماعون في الجاهليّة: المنفعة و العطيّة، و في الإسلام: الطاعة و الزكاة و الصدقة، و كلّه من السهولة و التيسير «1»، انته.

و عاد بمعروفه يعود عودا: عطف و تطوّل، و الاسم العائد.

قال الزمخشري في الأساس: تقول: عاد فلان علينا بمعروفه، و ما أكثر عائدة فلان على قومه، و إنّه لكثير العوائد عليهم‏ «2».

فقوله عليه السّلام: «و العود عليهم بالجدة» أي: التطوّل عليهم و الإحسان إليهم.

و الجدة: الثروة و الغنى، من وجد في المال وجدا بالضمّ و الكسر لغة و جدة أي:

استغنى.

و الإفضال: الزيادة و الإكثار، و منه حديث: منّ عليّ فأفضل‏ «3» أي: أنعم عليّ فأكثر.

و حديث: ألم أعطك فافضل‏ «4» أي: فاكثر لك في العطاء.

و هذا المعنى للإفضال هو المناسب لعطفه على الجدة، دون معنى الإحسان فإنّه مستفاد من العود عليهم.

______________________________

 (1) المحكم في اللغة: ج 2 ص 144.

 (2) أساس البلاغة: ص 438.

 (3) لم نعثر عليها في اللسان و الصحاح و المصباح و الاساس و مجمع البحرين و النهاية.

 (4) لم نعثر عليها في اللسان و الصحاح و المصباح و الاساس و مجمع البحرين و النهاية.

159
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء السادس و العشرين ص : 151

.......... و قوله عليه السّلام: «و إعطاء ما يجب لهم قبل السؤال» إمّا عطف على العود أو على الإفضال، و التقدير: و إعطائهم ما يجب لهم، فحذف المفعول الأوّل المضاف إليه لدلالة الكلام عليه، و اضاف المصدر إلى المفعول الثاني.

و مدار هذا الفصل من الدعاء على سؤاله عليه السّلام لجيرانه و مواليه أن يوفّقهم سبحانه لقيام بعضهم بحقوق بعض، و الأخذ بما ينبغي أن يكون عليه الشيعة من الأخلاق الفاضلة و الآداب الحميدة في معاشرة بعضهم لبعض.

كما رواه ثقة الإسلام في الكافي في باب حقّ المؤمن على أخيه و أداء حقّه، بسنده عن أبي إسماعيل قال: قلت لأبي جعفر عليه السّلام: إنّ الشيعة عندنا كثير، فقال: هل يعطف الغني على الفقير و يتجاوز المحسن عن المسي‏ء و يتواسون؟ فقلت:

لا، فقال: ليس هؤلاء شيعة، الشيعة من يفعل هذا «1».

و عن محمّد بن عجلان قال: كنت عند أبي عبد اللّه عليه السّلام فدخل رجل فسلّم، فسأله كيف من خلّفت من إخوانك؟ قال: فأحسن الثناء و زكى و أطرى، فقال له: كيف عيادة أغنيائهم على فقرائهم؟ فقال: قليلة، فقال: كيف مشاهدة أغنيائهم لفقرائهم؟ فقال: قليلة، فقال: فكيف صلة أغنيائهم لفقرائهم في ذات أيديهم؟ فقال: إنّك لتذكر أخلاقا قلّما هي فيمن عندنا، قال: فقال: فكيف يزعم هؤلاء أنّهم شيعة؟ «2».

و الأخبار في هذا المعنى كثيرة جدّا.

إذا عرفت ذلك، فمعنى قوله عليه السّلام: «في إرفاق ضعيفهم و سدّ خلّتهم» إلى آخره: في إرفاق قويّهم ضعيفهم، و سدّ غنيّهم خلّة فقيرهم، و عيادة صحيحهم مريضهم، و هداية مرشدهم مسترشدهم، و مناصحة مستشارهم مستشيرهم، و تعهّد

______________________________

 (1) الكافي: ج 2، ص 173، ح 11.

 (2) الكافي: ج 2، ص 173، ج 10.

160
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء السادس و العشرين ص : 151

وَ اجْعَلْني اللّهُمَّ أجْزِي بِالإحْسانِ مُسيئَهُمْ، وَ اعْرِضُ بِالتِّجاوُزِ عَنْ ظالِمِهِمْ، وَ أسْتَعْمِلُ حُسْنَ الظَّنِّ في كافّتِهِمْ، وَ أتَوَلّى‏ بِالْبرّ عامَّتَهُمْ، وَ أَغُضُّ بَصَري عَنْهُمْ عِفَّةً، وَ الينَ جانِبي لَهُمْ تَواضُعاً، وَ أرِقُّ عَلى‏ أهْلِ الْبَلاءِ مِنْهُمْ رَحْمَةً، وَ اسِرُّ لَهُمْ بِالْغَيْبِ مَوَدَّةً، وَ احِبُّ بَقاءَ النِعْمَةِ عِنْدَهُمْ نَصْحًا، و اوجِبُ لَهُمْ ما اوجِبُ لِحامّتِي، وَ أرْعى‏ لَهُمْ ما أرْعى‏ لِخاصَّتي.

حاضرهم قادمهم، و كتمان أسرارهم فيما بينهم و أسرار أنفسهم، و ستر بعضهم عورات بعض، و نصرتهم مظلومهم، و حسن مواساة بعضهم بعضا بالماعون، و عود أغنيائهم على فقرائهم بالجدة و الإفضال، و إعطائهم ما يجب لمحتاجيهم قبل السؤال.

كما روي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في حقّ المؤمن: و إذا علمت أنّ له حاجة تبادره إلى قضائها، و لا تلجئه أن يسألكها «1» و لكن تبادره مبادرة.

و إنّما استغنى عن ذكر الفاعل في جميع ذلك لأنّه غير ملتبس، و اللّه أعلم.

و لمّا بدأ عليه السّلام بالدعاء لجيرانه و مواليه بتوفيقهم للأخذ بمحاسن الأدب في معاشرة بعضهم بعضا، شفع ذلك بالدعاء لنفسه بتوفيقه للأخذ بذلك في معاشرته لهم، فقال: «2»+.

 [ 785] الجعل: بمعنى التصيير، أحد مفعوليه ضمير المتكلّم، و الثاني جملة أجزي.

و توسيط النداء لإظهار مزيد الضراعة و الابتهال.

و جزيته على فعله: أجزيه جزاء إذا فعلت معه ما يقابل فعله، و أكثر ما يستعمل في كون الفعلين من جنس واحد، كالإحسان بالإحسان و الإساءة بمثلها، و على ذلك قوله تعالى: «هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ» «3».

______________________________

 (1) الكافي: ج 2، ص 169، ح 2.

 (2) أي الدعاء المذكور في صدر الصفحة.

 (3) سورة الرحمن: الآية 60.

161
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء السادس و العشرين ص : 151

.......... «وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها» «1»، و قد يستعمل في مقابلة السيّئة بالحسنة و بالعكس.

و على الأوّل عبارة الدعاء، و مثله قول الشاعر:

يجزون عن ظلم أهل الظلم مغفرة

 

 و عن إساءة أهل السّوء إحسانا

 

 و من الثاني قول الآخر:

جزانا بنو سعيد بحسن فعالنا

 

 جزاء سنمّار و ما كان ذا ذنب‏

 

 و سنّمار اسم رجل رومي بني الخورنق الذي بظهر الكوفة للنعمان بن إمرئ القيس، فلمّا فرغ منه ألقاه من أعلاه فخر ميّتا، و إنما فعل ذلك لئلا يبني مثله لغيره، فضرب العرب به المثل لمن يجزي بالإساءة الإحسان. و أعرضت عن الشي‏ء:

أضربت و وليّت عنه قيل: أصله من الانصراف بالوجه إلى جهة العرض.

و قيل: حقيقته جعل الهمزة فيه للصيرورة أي: أخذت عرضا بالضمّ أي: جانبا غير الجانب الذي هو فيه.

و المعنى: و اترك مقابلة الظالم منهم و مكافاته فيما يأتيه من الظلم.

و الباء من قوله «بالتجاوز»: للملابسة، متعلّقة بمحذوف هو حال من الضمير المستكن في أعرض، أي: حال كوني ملتبسا بالتجاوز عنه. يقال: تجاوز عنه تجاوزا أي: عفى و صفح، و قد مرّ الكلام عليه.

و قوله: «عن ظالمهم» متعلّق بالفعل و المصدر على طريق التنازع.

ثمّ ما اشتملت عليه هاتان الفقرتان، من جزاء المسي‏ء بالإحسان و الصفح عن الظالم بالتجاوز، من أشرف مكارم الأخلاق.

كما روي أنّ جبرئيل عليه السّلام نزل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بقوله‏

______________________________

 (1) سورة الشورى: الآية 40.

162
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء السادس و العشرين ص : 151

.......... تعالى: «خُذِ الْعَفْوَ وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ»، فقال: يا محمّد جئتك بأكرم أخلاق الأوّلين و الآخرين، فصل من قطعك، و اعط من حرمك، و اعف عمّن ظلمك‏ «1».

و استعمله: عمل به، أي: اعمل بحسن الظنّ في جملتهم أو جميعهم.

و كافّة قيل: هي في الأصل صفة من كفّ بمعنى منع، استعملت بمعنى الجملة بعلاقة أنّها مانعة للأجزاء عن التفرّق و التاء فيها للتأنيث.

و قيل: هي في الأصل اسم لجماعة تكفّ مخالفيها، ثمّ استعملت في معنى جميع، و التاء فيها للنقل من الوصفيّة إلى الاسميّة، كما في عامّة و خاصّة و قاطبة.

و قيل: للمبالغة كما في رواية و علامة، و ردّ بأنه خروج عن الأصل من غير ضرورة.

و أكثر النحويّين على أنّها- أعني كافّة- من الأسماء اللازمة النصب على الحاليّة، و أنّها مختصّة بمن يعقل.

قال الرضي: و تقع كافّة في كلام المتأخّرين و من لا يوثق بعربيّته مضافة غير حال، و قد خطأوا فيها «2»، انته.

و قال ابن هشام في المغني: تجويز الزمخشري الحاليّة من الفاعل و من المفعول في قوله تعالى: «ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً» و هم، لأنّ كافّة مختصّة بمن يعقل، و وهمه في قوله تعالى: «وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ»، إذ قدّر كافّة نعتا لمصدر محذوف أي: رسالة كافّة أشدّ، لأنّه أضاف إلى استعماله فيما لا يعقل إخراجه عمّا التزم فيه من الحاليّة، و وهمه في خطبة المفصّل، إذ قال: محيط بكافّة الأبواب، أشدّ و أشدّ

______________________________

 (1) تفسير البرهان: ج 2، ص 55، مع اختلاف يسير.

 (2) شرح الكافية في النحو: ج 1 ص 215.

163
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء السادس و العشرين ص : 151

.......... لإخراجه إيّاه عن النصب البتّة «1»، انته.

و تعقّبه بعض المحقّقين من المتأخّرين، بأنّه إن أراد باختصاص لفظة كافّة مطلقا بمن يعقل و بكونها حالا، فباطل لقولهم: و تلحقها ما الكافة، و إن أراد اختصاصها بذلك حين استعمالها اسما بمعنى الجملة أو الجميع، فالاعتراض الثاني ليس بشي‏ء، لأنّه على تقدير كونها صفة لمصدر محذوف مستعملة بالمعنى الوصفي، و كذا الثالث لجواز أنّ معناه محيط بقواعد كافّة للأبواب عن التفرّق.

على أن الزمخشري لم ينفرد بذلك، بل ذهب الزجّاج إلى عدم اختصاصها بمن يعقل أيضا، و هما الطودان العظيمان في اللغة، فلا بدّ في الردّ عليهما من شاهد قوي، و مجرّد شيوع استعمالها كذلك لا يدلّ على الاختصاص‏ «2»، انته.

و قال السيّد عبد اللّه شارح اللباب: قد وقع كافّة مضافا في كلام البلغاء و الفصحاء، منه قول عمر: قد جعلت لال بني كاكلة على كافّة بيت مال المسلمين، لكلّ عام مائتي مثقال ذهبا إبريرا، كتبه عمر بن الخطاب، ختمه كفى بالموت واعظا يا عمر، و هذا الخطّ موجود في آل بني كاكلة إلى الآن، فلا وجه للتخطئة «3»، انته.

قلت: و في عبارة الدعاء من ضياء الحقّ ما يصدع ظلام الشك، فكفى بها شاهدا على وقوع كافّة مضافة في الفصيح، فإنّه عليه السّلام أفصح العرب في زمانه، فليتخطّ الزمخشري رقاب من خطّأه، و بحقّ ما قيل: إنّ عبارته كروايته، و ما العجب إلاّ من الرضي رضي اللّه عنه، حيث لم يقف على عبارة الصحيفة الشريفة مع مكانته في المذهب، و زعم أن وقوعها مضافة غير حال إنّما يقع في كلام‏

______________________________

 (1) مغني اللبيب: ص 733.

 (2) لم نعثر عليه.

 (3) لا يوجد لدينا كتابه.

164
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء السادس و العشرين ص : 151

.......... المتأخرين و من لا يوثق بعربيته، و اللّه يقول الحقّ و يهدي السّبيل.

و معنى استعمال حسن الظنّ في كافّتهم: حمل أمورهم جميعا أقوالا كانت أو أفعالا على ما يصحّ و يحسن شرعا و عرفا ما أمكن الحمل عليه، عملا بحسن الظنّ فيهم.

و قد بيّن أمير المؤمنين صلوات اللّه و سلامه عليه في كلام له، فقال: ضع أمر أخيك على أحسنه حتّى يأتيك ما يقلبك منه، و لا تظنّ بكلمة خرجت من أخيك سوء و أنت تجدلها في الخير محملا «1».

قال بعض علمائنا في شرحه لهذا الكلام: أي: احمل أمر أخيك قولا كان أو فعلا على أحسنه، و إن كان مرجوحا و كان خلافه راجحا مظنونا من غير تجسّس، حتى يأتيك اليقين على خلافه، فإنّ الظنّ قد يغلط و التجسّس منهيّ عنه، كما قال اللّه تعالى: «إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ» «2»، و قال: «لا تَجَسَّسُوا» «3».

ثمّ قال العلماء: أفعال المؤمنين محمولة على الصحّة، ثمّ نهى- تأكيدا لما مرّ- عن حمل كلامه على الشرّ إن كان محتملا للخير و إن كان بعيدا جدّا، بقوله:

و لا تظنّ بكلمة خرجت من أخيك سوء إلى آخره، فإذا خرجت منه كلمة ذات وجهين وجب عليك أن تحملها على الوجه الخير، و إن كان معنى مجازيّا بدون قرينة أو كناية أو تورية أو نحوها، و من هذا القبيل ما سمّاه علماء العربيّة اسلوب الحكيم.

كما قال الحجّاج للقبعثري متوعدا له: لأحملنّك على الأدهم، فقال القبعثري:

مثل الأمير يحمل على الأدهم و الأشهب، فأبرز وعيده في معرض الوعد، ثمّ قال الحجّاج، للتصريح بمقصوده: إنّه حديد، فقال القبعثري: لئن يكون حديدا خير من‏

______________________________

 (1) تفسير البرهان: ج 4، ص 209، ح 3، و الكافي: ج 2، ص 362، ح 3.

 (2) سورة الحجرات: الآية 12.

 (3) سورة الحجرات: الآية 12.

165
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء السادس و العشرين ص : 151

.......... أن يكون بليدا «1».

و بالجملة: كما يحرم على المؤمن سوء القول في أخيه، كذلك يحرم عليه سوء الظنّ فيه، بأن يعقد القلب عليه و يحكم به من غير يقين، و أمّا الخاطر و حديث النفس فمعفوّ عنه، و ما وقع في قلبه من غير يقين فهو من الشيطان يلقيه إليه ليغريه بالقبيح على أخيه، فوجب أن يكذّبه فإنّه أفسق الفاسقين، فلا يجوز تصديقه بل يجب حسن الظنّ به.

و من ثمّ جاء في الشرع: من تكلّم بكلمة ظاهرها الارتداد و لها معنى صحيح لا يحكم بارتداده، و أنّ من علمت في فيه رائحة الخمر لا يجوز أن يحكم عليه بشربها و أن يحدّ عليها، لاحتمال أن يكون تمضمض بها و مجّها، أو و جرت في حلقه جبرا، و ذلك أمر ممكن‏ «2» انته.

و هذه الجملة كافية في بيان هذا المعنى.

 [ 786] قوله عليه السّلام: «و أتولّى بالبرّ عامتهم» البرّ: العطف و الصلة و الخير و الاتّساع في الإحسان، أي: و اجعلني أمدّ و أعين جملتهم ملتبسا بالبرّ لهم و العطف عليهم و الإحسان إليهم، أو أتولّى أمور عامتهم. بالخير و الصلة و الشفقة و الاتّساع في الإحسان إليهم.

و غضّ الرجل بصره و من بصره- من باب قتل-: خفض.

و العفّة: الكفّ عمّا لا يحلّ و لا يحمل، عفّ عنه يعفّ- من باب ضرب- عفة بالكسر و عفافا بالفتح.

أي: و اجعلني أغضّ بصري عمّا لا يحلّ لي النظر إليه من عوراتهم أي: زلاّتهم‏

______________________________

 (1) الإيضاح في علوم البلاغة للخطيب القزويني: ص 148.

 (2) مرآة العقول: ج 11 ص 15- 17.

166
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء السادس و العشرين ص : 151

.......... و عثراتهم.

كما رواه في الكافي بسنده عن حذيفة بن منصور، قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: شي‏ء يقوله الناس عورة المؤمن على المؤمن حرام فقال: ليس حيث يذهبون، إنّما عنى عورة المؤمن أن يزلّ زلّة أو يتكلّم بشي‏ء يعاب عليه، فيحفظه عليه ليعيّره به يوما ما «1».

و عن الشّحام عن أبي عبد اللّه عليه السّلام فيما جاء في الحديث: عورة المؤمن على المؤمن حرام، قال: ما هو أن ينكشف فيرى منه شيئا، و إنما هو أن يروي عليه أو يعيبه‏ «2».

و على هذا فغضّ البصر عنهم كناية عن عدم تتبّع عثراتهم و زلاّتهم و الإعراض عنها، و يحتمل أن يكون كناية عن احتمال المكروه منهم و عدم مؤاخذتهم به.

قال في القاموس: غضّ طرفه: خفضه و احتمل المكروه‏ «3».

فيكون بمعنى الإغضاء عنهم، و هو استعمال الحلم و الإمساك عن الانتقام.

و انتصاب عفّة يحتمل أن يكون على المصدرية أي: غضّ عفّة، أو على المفعول لأجله أي: للعفة، و قس عليه نظائره من المنصوبات الآتية.

و إلانة الجانب لهم كناية عن الرفق و التلطّف بهم، و منه قوله تعالى: «فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ» «4» يقال: لأن يلين لينا و ليانا بالفتح، و يتعدّى بالهمزة و التضعيف فيقال: ألانه إلانة و ليّنه تليينا.

و وقع في النسخ المشهورة من الصحيفة: «و أليّن جانبي» بفتح الهمزة، و في‏

______________________________

 (1) لم نعثر عليه في الكافي بل عثرنا عليه في التهذيب: ج 1 ص 375 ح 10.

 (2) الكافي: ج 2، ص 359، ح 3.

 (3) القاموس المحيط: ج 2 ص 338.

 (4) سورة آل عمران: الآية 159.

167
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء السادس و العشرين ص : 151

.......... نسخة: «و اليّن جانبي» بضمّ الهمزة و هو الصواب.

و أمّا الرواية الأولى فالظاهر أنّها على إسقاط جانبي، و كأنّه علّق لفظ جانبي في الهامش على رواية اليّن بالضمّ، فجمع النسّاخ بين الروايتين، و إلاّ فلا يسمع «لأنه» متعدّيا.

و التواضع: التذلّل و خلاف الترفّع و التكبّر، أي: إلانة تواضع، أو لأجل التواضع.

و رقّ له يرّقّ من باب ضرب- رقّة بالكسر: عطف عليه و تحنّن عليه، و عدّاه بعلى لتضمينه معنى العطف و التحنّن.

و أهل البلاء: المبتلون بالمكروه.

و الرحمة: رقّة القلب و التعطّف، فإن حمل نصبها على المصدريّة فالعامل قوله:

 «أرق» على حدّ قعدت جلوسا.

و مذهب سيبويه أنّه مقدّر، و التقدير: أرق و أرحم رحمة، لأنّه يذهب إلى أنّ المصدر إذا كان غير ملاق للفعل المذكور في الاشتقاق كان منصوبا بفعل مقدّر، فيقدّر في قعدت جلوسا: قعدت و جلست جلوسا «1».

و هو خروج عن الأصل- أعني عدم التقدير- بلا ضرورة.

و إن حمل نصبها على المفعول لأجله، فينبغي أن يراد بها غايتها من إيصال الخير و دفع الشرّ.

 [ 787] و أسرّ الحديث: أخفاه و أظهره ضدّ. قيل: و المراد به هنا الإظهار، أي: أظهر لهم في الغيب مودّة، و لا داعي إليه مع خلافه للظاهر، فالأولى أن يراد به الإخفاء و الكتمان.

______________________________

 (1) شرح الكافية في النحو: ج 1 ص 116.

168
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء السادس و العشرين ص : 151

.......... و الغيب: مصدر بمعنى الغيبة. و الباء: للملابسة، متعلّقة بمحذوف وقع حالا من الفاعل، كما في قوله تعالى: «الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ»+ «1»، و قوله تعالى:

 «أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ» «2»، أي: أخفي و أكتم لهم المودّة ملتبسا بالغيب عنهم أي:

غائبا عنهم، لا كالمنافق الذي إذا لقي أصحابه أظهر لهم المودّة، و إذا غاب عنهم لم يكن في سرّه شي‏ء منها.

و يحتمل أن يكون المراد بالغيب القلب لأنّه مستور، كما فسّر به بعضهم قوله تعالى: «يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ» «3» أي: يؤمنون بقلوبهم.

و المعنى: اسرّ لهم بقلبي مودّة، لا كالذين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم.

و يحتمل أن يكون اللام من قوله «لهم» بمعنى إليهم، كقوله تعالى: «بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى‏ لَها» «4» أي: إليها.

و قوله «بالغيب» مفعولا لأسرّ، و الباء فيه زائدة للتأكيد، مثل أخذت الخطام و أخذت به، و منه قوله تعالى: «تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ» «5» على القول بأنّ المودّة مفعوله، و يكون معنى الغيب ما غاب عنهم علمه من أحوالهم و أمورهم الدينيّة و الدنيويّة التي في إسراره إليهم صلاحهم، و يكون انتصاب مودّة على المصدريّة أو المفعول لأجله، كما مرّ في نظائره، أي: إسرار مودّة أو لأجل المودّة.

و يرجّح هذا الاحتمال كون الفقرات كلّها على نسق واحد في التركيب و النظم، و إن كان المعنيان الأوّلان أظهر بحسب دلالة الألفاظ، و اللّه أعلم بمقاصد أوليائه.

و قد كان أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه و الأئمة من ولده عليهم السّلام، يسرّون‏

______________________________

 (1) سورة فاطر: الآية 18.

 (2) سورة يوسف: الآية 52.

 (3) سورة البقرة: الآية 3.

 (4) سورة الزلزلة: الآية 5.

 (5) سورة الممتحنة: الآية 1.

169
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء السادس و العشرين ص : 151

.......... إلى مواليهم و خواصّهم كثيرا من الأمور الغيبيّة، و من المشهورين بذلك من خواصّ أمير المؤمنين عليه السّلام جويرية بن مسهر العبدي، و ميثم التمّار و عمرو بن الحمق، و رشيد الهجري، و مزرع صاحب على عليه السّلام، و مالك بن ضمرة الروّاسي و غيرهم، فقد كان أمير المؤمنين عليه السّلام أطلع كلا منهم على علم كثير، و أسرار خفيّة من أسرار الوصيّة، فاستنبطوا منه علما كثيرا من أخبار الملاحم و المغيّبات، كما يعرف ذلك من كتب السير، و لو لا خشية الإطالة لذكرنا جملة مستحسنة من ذلك.

قوله عليه السّلام: «و أحبّ بقاء النعمة عندهم» أي: و اجعلني أودّ دوام النعمة و ثباتهم لديهم، حتّى يكونوا دائما بنعمة من اللّه.

و النصح: إخلاص العمل من شوائب الفساد، مأخوذ من نصحت العسل: إذا صفّيّته من الشمع.

و المعنى: و اجعلني أحبّ بقاء النعمة عندهم محبّة نصح لهم، أو لأجل النصح لهم في إرادة الخير لهم و إيثار نفعهم، من غير شائبة غرض آخر.

و أوجبت الشي‏ء إيجابا: جعلته واجبا أو اعتقدته واجبا أي: لازما ثابتا، من وجب البيع و الحقّ يجب وجوبا: إذا لزم و ثبت.

و حامّة الرجل: خاصّته من أهله و ولده، و منه قوله صلّى اللّه عليه و آله: هؤلاء أهل بيتي و حامّتي، أذهب عنهم الرجس‏ «1».

و اشتقاقها من حمّ الشي‏ء يحمّ حمّا- من باب ضرب-: قرب و دنا. و رعى له حقّه و حرمته رعيا و رعاية: حفظه.

و خاصّة الإنسان: من له به خصوصيّة من نسب أو مودّة. يقال: هذا خاصّتي‏

______________________________

 (1) مجمع البيان: ج 7- 8، ص 357.

170
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء السادس و العشرين ص : 151

اللّهُمَّ صَلِّ عَلى‏ مُحَمَّدٍ وَ آلِهِ، وَ ارْزُقْني مِثْلَ ذَلِكَ مِنْهُمْ، وَ اجْعَلْ لي أوْفى‏ الحُظُوظِ فيما عِنْدَهُمْ، وَ زِدْهُمْ بَصيرَةً في حَقّي، وَ مَعْرِفَةً بِفَضْلي، حَتّى‏ يَسْعَدُوا بي وَ أسْعَدَ بِهِمْ، آمينَ رَبِّ العالَمينَ.

و هم خاصّتي، و التاء فيها للمبالغة، و قيل: للنقل.

و قول بعض المترجمين: إنّ هذه الفقرة تأكيد لما قبلها لاتّحاد مضمونهما، ليس بصحيح، بل هي تأسيس كما هو ظاهر، و اللّه أعلم+.

 [ 788] أرزقني: أي أعطني من الرزق، بالمعنى اللغوي و هو العطاء.

و مثل ذلك: أي: مثل ما سألتك أن تجعلني عليه في معاشرتهم ممّا تقدّم ذكره فيكونوا لي كما أكون لهم و يعاملوني بمثل ما أعاملهم به.

و الحظوظ: جمع حظّ بمعنى النصيب، أي: أتمّ الحظوظ، من وفى الشي‏ء يفي.

إذا تمّ.

و فيما عندهم: أي من محاسن الآداب، و مكارم الأخلاق، و صدق الموالاة، و حسن الاعتقاد و الطاعة و الانقياد، إلى غير ذلك ممّا يرغب فيه السيّد الرئيس من مواليه و أتباعه.

 [ 789] و البصيرة: اسم من بصرت بالشي‏ء بالضمّ بصرا بفتحتين أي: علمت، فأنا بصير به و هو ذو بصر و بصيرة أي: علم و خبرة.

و قال الفارابي في ديوان الأدب: البصيرة: اسم لما اعتقدته في القلب من الدين و تحقيق الأمر «1»، انته.

و قد يراد بالبصيرة قوّة القلب المنوّر بنور القدس يرى بها حقائق الأشياء و بواطنها، بمثابة البصر للنفس يرى به صور الأشياء و ظواهرها، و هي التي يسمّيها الحكماء العاقلة النظريّة و القوّة القدسيّة، و كلّ من هذه المعاني يصحّ إرادته هنا.

______________________________

 (1) ديوان الأدب: ج 1 ص 428.

171
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء السادس و العشرين ص : 151

.......... و قوله: «في حقّي» أي: في الواجب الثابت لي على جميع الخلق.

و الحقّ في اللغة: هو الثابت الذي لا يسوغ إنكاره.

و المراد بحقّه عليه السّلام: اعتقاد إمامته، و فرض طاعته، و وجوب موالاته، و الاقتداء به، و الردّ إليه، و التسليم له، و العلم بذلك قابل للزيادة و النقصان كما مرّ بيانه في الإيمان.

و المعرفة: إدراك الشي‏ء على ما هو عليه.

و الفضل و الفضيلة: الدرجة الرفيعة في الشرف و الحسب و العلم.

و حتّى بمعنى كي التعليليّة، أي: كي تحصل لهم السعادة بسببي و تحصل لي السعادة بسببهم.

و هذا التعليل يتعلّق بجملة ما تقدّم سؤاله، لأنّهم إذا وفّقوا لإقامة سنّة اللّه تعالى و الأخذ بمحاسن أدبه بسبب دعائه عليه السّلام، و ازدادوا بصيرة في حقّه و معرفة بفضله، فقد استجمعوا الحسنات و فازوا برفيع الدرجات فكانوا من السعداء به عليه السّلام، و هو عليه السّلام إذا قضى حقوقهم و عاملهم بأكرم الأخلاق المذكورة فقد استحقّق من اللّه تعالى جزيل الثواب، فكانت هذه السعادة من اللّه تعالى حاصلة له عليه السّلام بسببهم.

و قال بعضهم: أمّا سعادتهم به عليه السّلام فظاهرة، و أمّا سعادته عليه السّلام بهم فهي إمّا سعادة دنيويّة، باعتبار أنّهم متى اعتقدوا إمامته قاموا بخدمته و منفعته في الدنيا، و إمّا سعادة اخرويّة، و ذلك لأنّه يهديهم و يدعو لهم و ينفعهم و يشفع لهم، و كلّ ذلك سبب لرفع الدرجات في الآخرة، انته.

فجعل التعليل متعلّقا بزيادة البصيرة في حقّه و المعرفة بفضله دون ما تقدّم، و هو كما ترى، و اللّه أعلم بمقاصد أوليائه.

و آمين: اسم فاعل مبني على الفتح، و معناه استجب لي أو كذلك فليكن. و قد

172
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء السادس و العشرين ص : 151

.......... سبق الكلام عليه مبسوطا في آخر الروضة الثانية عشرة و السابعة عشرة، فليرجع إليه، و اللّه أعلم. [] هذا آخر الروضة السادسة و العشرين من رياض السالكين في شرح صحيفة سيّد العابدين، صلوات اللّه و سلامه عليه و على آبائه و أبنائه الطاهرين، و قد وفّق اللّه تعالى لإنهائها صبيحة يوم الخميس آخر يوم من شعبان سنة أحدى و مائة و ألف، و للّه الحمد.

173
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

الروضة السابعة و العشرون ص : 175

 

الروضة السابعة و العشرون‏

177

وَ كانَ مِنْ دُعائِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ لِأَهْلِ الثُغُورِ

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلى‏ مُحَمَّدٍ وَ الِهِ وَ حَصِّنْ ثُغُورَ الْمُسْلِمينَ بِعِزَّتِكَ وَ ايِّدْ حُماتَها بِقُوَّتِكَ وَ اسْبِغْ عَطاياهُمْ مِنْ جِدَتِكَ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلى‏ مُحَمَّدٍ وَ الِهِ وَ كَثِّرْ عِدَّتَهُمْ وَ اشْحَذْ اسْلِحَتَهُمْ وَ احْرُسْ حَوْزَتَهُمْ وَ امْنَعْ حَوْمَتَهُمْ وَ الِّفْ جَمْعَهُمْ وَ دَبِّرْ امْرَهُمْ وَ واتِرْ بَيْنَ مِيَرِهِمْ وَ تَوَحَّدْ بِكِفايَةِ مُؤَنِهِمْ وَ اعْضُدْهُمْ بِالنَّصْرِ وَ اعِنْهُمْ بِالصَّبْرِ وَ الْطُفْ لَهُمْ فِى الْمَكْرِ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلى‏ مُحَمَّدٍ وَ الِهِ وَ عَرِّفْهُمْ ما يَجْهَلُونَ وَ عَلِّمْهُمْ ما لا يَعْلَمُونَ وَ بَصِّرْهُمْ ما لا يُبْصِرُونَ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلى‏ مُحَمَّدٍ وَ الِهِ وَ انْسِهِمْ عِنْدَ لِقائِهِمُ الْعَدُوَّ ذِكْرَ دُنْياهُمُ الْخَدّاعَةِ الْغَرُورِ وَ امْحُ عَنْ قُلُوبِهِمْ خَطَراتِ الْمالِ الْفَتُونِ وَ اجْعَلِ الْجَنَّةَ نَصْبَ اعْيُنِهِمْ وَ لَوِّحْ مِنْها لأَبْصارِهِمْ ما اعْدَدْتَ فيها مِنْ مَساكِنِ الْخُلْدِ وَ مَنازِلِ الْكَرامَةِ وَ الْحُورِ الْحِسانِ وَ الْأَنْهارِ الْمُطَّرَدَةِ بِانْواعِ الْأَشْرِبَةِ وَ الْأَشْجارِ الْمُتَدَلِّيَةِ بِصُنُوفِ الثَّمَرِ حَتّى‏ لا يَهُمَّ احَدٌ مِنْهُمْ بِالْإدْبارِ وَ لا يُحَدِّثُ نَفْسَهُ عَنْ قِرْنِهِ بِفِرارٍ اللّهُمَّ افْلُلْ بِذلِكَ عَدُوَّهُمْ وَ اقْلِمْ عَنْهُمْ اظْفارَهُمْ وَ فَرِّقْ بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ اسْلِحَتِهِمْ وَ اخْلَعْ وَثائقَ افْئِدَتِهِمْ وَ باعِدْ بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ ازْوِدَتِهِمْ‏ ..........

 

175
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

و كان من دعائه عليه السلام لأهل الثغور ص : 175

وَ حَيِّرْهُمْ في سُبُلِهِمْ وَ ضَلِّلْهُمْ عَنْ وَجْهِهِمْ وَ اقْطَعْ عَنْهُمُ الْمَدَدَ وَ انْقُصْ مِنْهُمُ الْعَدَدَ وَ امْلَأ افْئِدَتَهُمْ الرُّعْبَ وَ اقْبِضْ ايْدِيَهُمْ عَنِ الْبَسْطِ وَ اخْزِمْ الْسِنَتَهُمْ عَنِ النُّطْقِ وَ شَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ وَ نَكِّلْ بِهِمْ مَنْ وَرَاءَهُمْ وَ اقْطَعْ بخِزْيِهِمْ اطْماعَ مَنْ بَعْدَهُمْ اللّهُمَّ عَقِّمْ ارْحامَ نِسائِهِمْ وَ يَبِّسْ اصْلابَ رِجالِهِمْ وَ اقْطَعْ نَسْلَ دَوابِّهِمْ وَ انْعامِهِمْ لا تَاْذَنْ لِسَمائِهِمْ في قَطْرٍ وَ لا لِأَرْضِهِمْ في نَباتٍ اللّهُمَّ وَ قَوِّ بِذلِكَ مِحالَ اهْلِ الْإسْلامِ وَ حَصِّنْ بِهِ دِيارَهُمْ وَ ثَمِّرْ بِهِ امْوالَهُمْ وَ فَرِّغْهُمْ عَنْ مُحارَبَتِهِمْ لِعِبادَتِكَ وَ عَنْ مُنابَذَتِهِمْ لِلْخَلْوَةِ بِكَ حَتَّى لا يُعْبَدَ فى بِقاعِ الْأَرْضِ غَيْرُكَ وَ لا تُعَفَّرَ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ جَبْهَةٌ دُونَكَ اللَّهُمَّ اغْزُ بِكُلِّ ناحِيَةٍ مِنَ الْمُسْلِمينَ عَلى‏ مَنْ بِازائِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكين وَ امْدِدْهُمْ بِمَلائِكَةٍ مِنْ عِنْدِكَ مُرْدِفينَ حَتّى‏ يَكْشِفُوهُمْ الى‏ مُنْقَطَعِ التُّرابِ قَتْلاً فى ارْضِكَ وَ اسْرًا اوْ يُقِرُّوا بِانَّكَ انْتَ اللَّهُ الَّذى لا الهَ الاَّ انْتَ وَحْدَكَ لا شَريكَ لَكَ اللَّهُمَّ وَ اعْمُمْ بِذلِكَ اعْداءَكَ في اقْطارِ الْبِلادِ مِنَ الْهِنْدِ وَ الرُّومِ وَ التُّرُكِ وَ الْخَزَرِ وَ الْحَبَش وَ النَّوْبَةِ وَ الزَّنْجِ وَ السَّقالِبَةِ وَ الدَّيالِمَةِ وَ سائِرِ أُمَمِ الشِّرْكِ الَّذينَ تَخْفى‏ اسْماؤُهُمْ وَ صِفاتُهُمْ وَ قَدْ ..........

178
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

و كان من دعائه عليه السلام لأهل الثغور ص : 175

احْصَيْتَهُمْ بِمَعْرِفَتِكَ وَ اشْرَفْتَ عَلَيْهِمْ بِقُدْرَتِكَ اللَّهُمَّ اشْغَلِ الْمُشْرِكينَ بِالْمُشْرِكينَ عَنْ تَناوُلِ اطْرافِ الْمُسْلِمينَ وَ خُذْهُمْ بِالنَّقْصِ عَنْ تَنَقُّصِهِمْ وَ ثَبِّطْهُمْ بالْفُرْقَةِ عَنِ الْاحْتِشادِ عَلَيْهِمْ اللَّهُمَّ اخْلِ قُلُوبَهُمْ مِنَ الْأَمَنَةِ وَ أَبْدانَهُمْ مِنَ الْقُوَّةِ وَ اذهِلْ قُلُوبَهُمْ عَنِ الْاحْتِيالِ وَ اوْهِنْ ارْكانَهُمْ عَنْ مُنازَلَةِ الرِّجالِ وَ جَبِّنْهُمْ عَنْ مُقارَعَةِ الْأَبْطالِ وَ ابْعَثْ عَلَيْهِمْ جُنْدًا مِنْ مَلائِكَتِكَ بِبَأسٍ مِنْ بَاْسِكَ كَفِعْلِكَ يَوْمَ بَدْرٍ تَقْطَعُ بِهِ دابِرَهُمْ وَ تَحْصُدُ بِهِ شَوْكَتَهُمْ وَ تُفَرِّقُ بِهِ عَدَدَهُمْ اللَّهُمَّ وَ امْزُجْ مِياهَهُمْ بِالْوَباءِ وَ اطْعِمَتَهُمْ بِالْأَدْواءِ وَ ارْمِ بِلادَهُمْ بِالْخُسُوف وَ الِحَّ عَلَيْها بالْقُذُوفِ وَ افْرَعْها بِالْمُحُولِ وَ اجْعَلْ مِيَرَهُمْ في احَصِّ ارْضِكَ وَ أَبْعَدِها عَنْهُمْ وَ امْنَعْ حُصُونَها مِنْهُمْ اصِبْهُمْ بِالْجُوعِ الْمُقيمِ وَ السُّقْمِ الْأَليمِ اللَّهُمَّ وَ ايُّما غازٍ غَزاهُمْ مِنْ اهْلِ مِلَّتِكَ اوْ مُجاهِدٍ جاهَدَهُمْ مِنْ اتْباعِ سُنَّتِكَ لِيَكُونَ دينُكَ الْأَعْلى‏ وَ حِزْبُكَ الْأَقْوى‏ وَ حَظُّكَ الْأَوْفى‏ فَلَقِّهِ الْيُسْرَ وَ هَيِّى‏ءْ لَهُ الْأَمْرَ وَ تَوَلَّهُ بِالنُجْحِ وَ تَخَيَّرْ لَهُ الْأَصْحابَ وَ اسْتَقْوِ لَهُ الظَّهْرَ وَ اسْبِغْ عَلَيْهِ فِى النَّفَقَةِ وَ مَتِّعْهُ بِالنَّشاطِ وَ اطْفِ عَنْهُ حَرارَةَ الشَّوْقِ وَ اجِرْهُ مِنْ‏ ..........

179
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

و كان من دعائه عليه السلام لأهل الثغور ص : 175

غَمِّ الْوَحْشَةِ وَ انْسِهِ ذِكْرَ الْأَهْلِ وَ الْوَلَدِ وَ أْثُرْ لَهُ حُسْنَ النِّيَّةِ وَ تَوَلِّهُ بِالْعافِيَةِ وَ اصْحِبْهُ السَّلامَةَ وَ اعْفِهِ مِنَ الْجُبْنِ وَ الْهِمْهُ الْجُرْاةَ وَ ارْزُقْهُ الشِّدَّةَ وَ ايِّدْهُ بِالنُّصْرَةِ وَ عَلِّمْهُ السِّيَرَ وَ السُّنَنَ وَ سَدِّدْهُ فِى الْحُكْمِ وَ اعْزِلْ عَنْهُ الرِّياءَ وَ خَلِّصْهُ مِنَ السُّمْعَةِ وَ اجْعَلْ فِكْرَهُ وَ ذِكْرَهُ وَ ظَعْنَهُ وَ اقامَتَهُ فيكَ وَ لَكَ فَاذا صافَّ عَدُوَّكَ وَ عَدُوَّهُ فَقَلِّلْهُمْ في عَيْنِهِ وَ صَغِّرْ شَاْنَهُمْ في قَلْبِهِ وَ ادِلْ لَهُ مِنْهُمْ وَ لا تُدِلْهُمْ مِنْهُ فَانْ خَتَمْتَ لَهُ بِالسَّعادَةِ وَ قَضَيْتَ لَهُ بِالشَّهادَةِ فَبَعْدَ انْ يَجتاحَ عَدُوَّكَ بِالْقَتْلِ وَ بَعْدَ انْ يَجْهَدَ بِهِمُ الْأَسْرُ وَ بَعْدَ انْ تَاْمَنَ اطرافُ الْمُسْلِمينَ وَ بَعْدَ انْ يُوَلِّىَ عَدُوُّكَ مُدْبِرينَ اللَّهُمَّ وَ ايُّما مُسْلِمٍ خَلَفَ غازِيًا اوْ مُرابِطًا في دارِهِ اوْ تَعَهَّدَ خالِفيهِ في غَيْبَتِهِ اوْ اعانَهُ بِطائِفَةٍ مِنْ مالِهِ اوْ امَدَّهُ بِعِتادٍ اوْ شَحَذَهُ عَلى‏ جِهادٍ اوْ اتْبَعَهُ في وَجْهِهِ دَعْوَةً اوْ رَعى‏ لَهُ مِنْ وَرائِهِ حُرْمَةً فَاجِرْ لَهُ مِثْلَ اجْرِهِ وَزْنًا بِوَزْنٍ وَ مِثْلاً بِمِثْلٍ وَ عَوِّضْهُ مِنْ فِعْلِهِ عِوَضًا حاضِرًا يَتَعَجَّلُ بِهِ نَفْعَ ما قَدَّمَ وَ سُرُورَ ما اتى‏ بِهِ الى‏ انْ يَنْتَهِىَ بِهِ الْوَقْتُ الى‏ ما اجْرَيْتَ لَهُ مِنْ فَضْلِكَ وَ اعْدَدْتَ لَهُ مِنْ كَرامَتِكَ اللَّهُمَّ وَ ايُّما مُسْلِمٍ‏ ..........

180
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

و كان من دعائه عليه السلام لأهل الثغور ص : 175

اهَمَّهُ امْرُ الْاسْلامِ وَ احْزَنَهُ تَحَزُّبُ اهْلِ الشِّرْكِ عَلَيْهِمْ فَنَوى‏ غَزْوًا اوْ هَمَّ بِجِهادٍ فَقَعَدَ بِهِ ضَعْفٌ اوْ أَبْطَاتْ بِهِ فاقَةٌ اوْ اخَّرَهُ عَنْهُ حادِثٌ اوْ عَرَضَ لَهُ دُونَ ارادَتِهِ مانِعٌ فَاكْتُبْ اسْمَهُ فِى الْعابِدينَ وَ اوْجِبْ لَهُ ثَوابَ الْمُجاهِدينَ وَ اجْعَلْهُ في نِظامِ الشُّهَداءِ وَ الصَّالحينَ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلى‏ مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ وَ رَسُولِكَ وَ الِ مُحَمَّدٍ صَلوةً عالِيَةً عَلَى الصَّلَواتِ مُشْرِفَةً فَوْقَ التَّحِيّاتِ صَلوةً لا يَنْتَهى امَدُها وَ لا يَنْقطِعُ عَدَدُها كَاتَمِّ ما مَضى‏ مِنْ صَلَواتِكَ عَلى‏، احَدٍ مِنْ اوْلِيائِكَ انَّكَ الْمَنّانُ الْحَمِيدُ المُبْدِئُ الْمُعيدُ الْفَعّالُ لِما تُريدُ ..........

181
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

و كان من دعائه عليه السلام لأهل الثغور ص : 175

.......... [] بسم اللّه الرحمن الرحيم الحمد للّه الذي حصّن ثغور الدين، و حمى حوزة الإسلام بمحمّد أشرف المرسلين، و أهل بيته الأوصياء الأعلام، و الصّلاة و السّلام على‏ من ألّف به جمع المسلمين، و فرّق‏ «1» شمل المشركين، و على آله الذين عضدهم بالنصر على المعتدين، و أيّد بهم عباده المهتدين.

و بعد فهذه الروضة السابعة و العشرون من رياض السالكين، تتضمّن شرح الدعاء السابع و العشرين من صحيفة سيّد العابدين، صلّى اللّه عليه و على آبائه و أبنائه الطاهرين، إملاء راجي فضل ربّه السني عليّ صدر الدين الحسينيّ الحسنيّ، كتب اللّه اسمه في العابدين، و أوجب له ثواب المجاهدين.

______________________________

 (1) (ج): به.

182
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء السابع و العشرين ص : 183

شرح الدعاء السابع و العشرين‏

وَ كانَ مِن دعائِهِ عليهِ السّلامُ لِأهلِ الثُّغور.

الثغور: جمع ثغر بفتح الثاء المثلّثة و إسكان الغين المعجمة، و هو الطرف الملاصق من بلد المسلمين بلاد الكفّار.

و في النهاية: هو موضع يكون حدّا فاصلا بين بلاد المسلمين و الكفّار، و هو موضع المخافة من أطراف البلاد «1».

و قال الشهاب الفيومي في المصباح: الثغر من البلاد: الموضع الذي يخاف منه هجوم العدوّ، فهو كالثلمة في الحائط يخاف هجوم السارق منها «2».

و في القاموس: الثغر: ما يلي دار الحرب و موضع المخافة من فروج البلدان‏ «3».

و المراد بأهل الثغور. المسلمون المرابطون بها، الملازمون لها لحفظها، و يدخل فيهم من كان الثغر بلده و كان ساكنا فيه، إذا وطّن نفسه على المحافظة.

قال الشهيد الثاني في شرح اللمعة: و لو وطّن ساكن الثغر نفسه على المحافظة، و الإعلام بأحوال المشركين على تقدير هجومهم فهو مرابط «4»، انته.

و تسمّى الإقامة بالثغر رباطا و مرابطة كما سيأتي.

قال في اللمعة و شرحها: و الرباط مستحبّ استحبابا مؤكّدا دائما، مع حضور الإمام و غيبته، و أقلّه ثلاثة أيّام، فلا يستحقّ ثوابه و لا يدخل في النذر و الوقف‏

______________________________

 (1) النهاية لابن الأثير: ج 1 ص 213.

 (2) المصباح المنير: ص 113.

 (3) القاموس المحيط: ج 1 ص 382.

 (4) شرح اللمعة: ج 2 ص 385.

183
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء السابع و العشرين ص : 183

قال صلوات اللّه و سلامه عليه:

اللّهُمَ صَلِّ عَلى‏ مُحَمَّدٍ وَ آلِهِ، وَ حَصِّنْ ثُغُورَ الْمُسْلِمينَ بعزَّتِكَ، وَ أَيّد و الوصيّة للمرابطين بإقامة دون ثلاثة، و لو نذره و أطلق وجب ثلاثة بليلتين بينهما كالاعتكاف، و أكثره أربعون يوما، فإن زاد الحق بالجهاد في الثواب، لا أنّه يخرج عن وصف الرباط، و لو أعان بفرسه أو غلامه لينتفع بهما من يرابط أثيب لإعانته على البرّ، و لو نذر المرابطة أو نذر صرف مال إلى أهلها وجب الوفاء بالنذر و إن كان الإمام غائبا، لأنّها لا تتضمّن جهادا فلا يشترط حضوره، و قيل: يجوز صرف المنذور للمرابطين في البرّ حال الغيبة إن لم يخف الشنعة بتركه لعلم المخالف بالنذر، و هو ضعيف‏ «1»، انته.

و روى ثقة الإسلام في الكافي بسند قوي مقبول عن يونس عن أبي الحسن الرضا عليه السّلام، قال: قلت له: جعلت فداك إنّ رجلا من مواليك بلغه أنّ رجلا يعطي السيف و الفرس في سبيل اللّه، فأتاه فأخذهما منه و هو جاهل بوجه السبيل، ثمّ لقيه أصحابه فأخبروه أنّ السبيل مع هؤلاء لا يجوز و أمروه بردّهما، فقال: فليفعل، قال: قد طلب الرجل فلم يجده و قيل له: قد شخص الرجل، قال:

فليرابط و لا يقاتل، قال: ففي مثل قزوين و الديلم و عسقلان و ما أشبه هذه الثغور؟

فقال: نعم، فقال له: يجاهد؟، قال: لا، إلاّ أن يخاف على ذراري المسلمين، أ رأيتك لو أنّ الروم دخلوا على المسلمين ألم ينبغ لهم أن يمنعوهم؟ قال: يرابط و لا يقاتل، و إن خاف على بيضة الإسلام و المسلمين قاتل، فيكون قتاله لنفسه ليس للسلطان، قال: قلت: و إن جاء العدوّ إلى الموضع الذي هو فيه مرابط كيف يصنع؟ قال: يقاتل عن بيضة الإسلام، لأنّ في دروس الإسلام دروس دين محمّد صلّى اللّه عليه و آله‏ «2»+.

 [ 790] حصن المكان بالضمّ حصانة بالفتح فهو حصين: أي منيع، و يتعدّى بالهمزة

______________________________

 (1) شرح اللمعة: ج 2 ص 385.

 (2) الكافي: ج 5 ص 21 ح 2.

184
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء السابع و العشرين ص : 183

حُماتَها بِقُوَّتِكَ، وَ أسْبِغْ عَطاياهُمْ مِنْ جِدَتِكَ.

و التضعيف فيقال: أحصنته و حصّنته، و منه الحصن للمكان الذي لا يقدر عليه لارتفاعه و امتناعه.

و العزّة: الامتناع و الشدّة و الغلبة، و رجل عزيز: منيع لا يغلب و لا يقهر، و منه قوله تعالى: «وَ عَزَّنِي فِي الْخِطابِ» «1» أي: غلبني و قهرني.

و في المثل: من عزَّ بَزَّ، أي: من غلب سلب‏ «2».

و عازّني فعزّزته: أي: غالبني فغلبته.

و أيّده اللّه تأييدا: قوّاه، من آد يئيد أيدا أي: قوي و اشتدّ، فهو أيّد مثل سيّد.

و حماة جمع حامي، من حميت المكان من الناس حميا- من باب رمى و حمية بالكسر أي: منعته عنهم، و الاسم الحماية. و وزن حماة: فعلة بضمّ أوّله و فتح ثانيه، و هذا الجمع مطّرد في وصف لعاقل مذكّر على زنة فاعل معتلّ اللام بالياء و الواو، كرام و رماة و غاز و غزاة، و الأصل فيهن حمية و رمية و غزوة، قلبت الياء و الواو ألفين لتحرّكهما و انفتاح ما قبلهما. و قيل: إنّه فعلة بفتح الفاء، و إنّ الفتحة حوّلت ضمّة للفرق بين معتلّ اللام و صحيحها.

و القوّة: تطلق على كمال القدرة، و على شدّة الممانعة و الدفع، و يقابلها الضعف.

و أسبغ اللّه النعمة: أفاضها و أتمّها، و أصله من سبغ الثوب سبوغا- من باب قعد-: تمّ و كمل، و منه الحديث: أسبغوا لليتيم في النفقة «3» أي: أنفقوا عليه تمام ما يحتاج إليه و وسّعوا عليه فيها «4».

و العطايا: جمع عطيّة، و هي اسم لما تعطيه.

و الجدة: الثروة و الغنى.

______________________________

 (1) سورة ص: الآية 23.

 (2) مجمع الأمثال: ج 2 ص 307.

 (3) النهاية لابن الأثير: ج 2 ص 338.

 (4) النهاية لابن الأثير: ج 2 ص 338.

185
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء السابع و العشرين ص : 183

اللّهُمَّ صَلِّ عَلى‏ مُحَمَّدٍ وَ آلِهِ، وَ كَثّر عِدَّتَهُمْ، وَ اشْحَذْ أسْلِحَتَهُمْ، وَ احْرُسْ حَوْزَتَهُمْ، وَ امْنَعْ حَوْمَتَهُمْ، وَ ألَّفْ جَمْعَهُمْ، وَ دَبِّرْ أمْرَهُمْ، وَ واتِرْ قال في النهاية: وجد يجد جدة أي: استغنى غنى لا فقر بعده‏ «1»، انته.

و هي من باب ما سقطت الواو من أوّله و عوّض منها هاء في آخره، كعدة و صلة و صفة+.

 [ 791] العدّة بالكسر: اسم كالعدد، و هو مقدار ما يعدّ، و قد تجعل مصدرا كالعدّ، و تطلق على الجماعة قلّت أو كثرت، و منه قولك: أنفذت عدّة كتب أي: جماعة كتب، و هذا المعنى محتمل هنا، أي: كثّر عددهم أو جماعتهم.

و شحذ السكّين شحذا- من باب منع-: أحدّها.

و الأسلحة: جمع سلاح بالكسر، و هي ما يقاتل به في الحرب و يدافع، كالسيوف و الرماح و السّهام و القسي و الدروع و المغافر و المجان و كأنّ المراد بها هنا ما كان قابلا للشحذ منها، من باب إطلاق العام على الخاص، أو السيوف خاصّة.

قال في النهاية: و السّيف وحده يسمّى سلاحا «2».

فيكون تخصيصه بالذكر دون سائر آلات الحرب لشرفه عليها، و الاستغناء به عنها دون العكس.

كما قال أبو الطيّب:

و من طلب الفتح المبين فإنّما

 

 مفاتحه البيض الرقاق الصوارم‏ «3».

 

و لعلّ هذا هو السّر في تسمية السيف وحده سلاحا، لأنّ كلّ الصيد في جوف الفرا، ثمّ المراد بشحذه تعالى أسلحتهم: إمّا جعلها قاطعة ماضية بقدرته سبحانه، أو هو كناية عن تقويتهم على النكاية في أعدائهم و النيل منهم ضربا وطعنا.

و الحوزة: الجانب و الناحية، قال ابن الأثير: و منه الحديث: فحمى حوزة

______________________________

 (1) النهاية لابن الأثير: ج 5 ص 155.

 (2) النهاية لابن الأثير: ج 2 ص 388.

 (3) ديوان أبو الطيّب المتنبي: ص 292.

186
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء السابع و العشرين ص : 183

بَيْنَ مِيَرِهُمْ، وَ تَوَحَّدْ بِكَفايَةِ مُؤنِهِمْ، وَ اعْضُدْهُمْ بِالنَّصْرِ، وَ أعنْهُمْ بِالصَبْرِ، وَ الطُفْ لَهُمْ في المَكْر.

الإسلام، أي: حدوده و نواحيه‏ «1» و حومة القتال: معظمه.

قال في القاموس: حومة البحر و الرمل و القتال و غيره: معظمه أو أشدّ موضع فيه‏ «2»، انته.

و منه: خاض حومة القتال، و لم يزل خواضا حومات الحروب.

و التأليف: إيقاع الألفة، و الجمع: الجماعة.

 [ 792] و تدبير الأمر: فعله عن فكر و رويّة، مأخوذ من لفظ الدبر، لأنّه نظر في عواقب الأمور و أدبارها، و إذا اسند إلى اللّه تعالى فالمراد به إجراء الأمر على الوجه الذي يليق به، و منه قوله تعالى: «يُدَبِّرُ الْأَمْرَ»+ «3»، قال المفسّرون: أي: يقضي و يقدّر حسبما تقتضيه الحكمة و المصلحة «4».

و المواترة: المتابعة، يقال: تواترت الخيل: إذا جاء يتبع بعضها بعضا.

و في القاموس: واتر بين أخباره مواترة و وتارا: تابع‏ «5».

قال الجوهري: و لا تكون المواترة بين الأشياء إلاّ إذا وقعت بينها فترة، و إلاّ فهي مداركة و مواصلة، و مواترة الصوم: أن يصوم يوما و يفطر يوما أو يومين و يأتي به وترا، و لا يراد به المواصلة، لأنّ أصله من الوتر، و كذلك واترت الكتب فتواترت أي:

جاءت بعضها في إثر بعض وترا وترا من غير أن تنقطع‏ «6»، انته.

و كذلك قال الفارسي: المواترة: أن يتبع الخبر الخبر، و الكتاب الكتاب، و لا يكون بينهما فصل كثير «7».

______________________________

 (1) النهاية لابن الأثير: ج 1 ص 460.

 (2) القاموس المحيط: ج 4 ص 102.

 (3) سورة الرعد: الآية 2.

 (4) مجمع البيان: ج 5- 6 ص 274.

 (5) القاموس المحيط: ج 2 ص 152.

 (6) الصحاح: ج 2 ص 843.

 (7) مجمع البيان: ج 7- 8 ص 107.

187
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء السابع و العشرين ص : 183

.......... و قال الأصمعي: واترت الخبر: أتبعت بعضه بعضا و بين الخبرين هنيئة «1».

و قال بعضهم: المواترة: المتابعة الغير المنصرمة، يقال: تواترت الخيل أي: جاء بعضها في إثر بعضها وترا وترا من غير أن تنقطع، و أغرب من نسب هذه العبارة إلى الجوهري في صحاحه‏ «2».

و المير: جمع ميرة بالكسر، قال الجوهري: الميرة: الطعام يمتاره الإنسان، و قد مار أهله يميرهم ميرا «3».

و في المصباح: مارهم ميرا- من باب باع-: أتاهم بالميرة، و هي الطعام‏ «4».

و قال الطبرسي: الميرة: الطعام الذي يحمل من بلد إلى بلد، «5».

و كذا قال بعض المفسّرين: مار أهله: إذا أتاهم بالطعام من بلد آخر «6».

و في القاموس: الميرة بالكسر: جلب الطعام‏ «7».

و قال الفارابي في ديوان الأدب: الميرة: الاسم‏ «8» من مارهم يميرهم‏ «9» و على هذا فتكون اسما للطعام الممتار و اسم مصدر أيضا.

و التوحّد: الانفراد، يقال: توحده اللّه بعصمته أي: عصمه و لم يكله إلى غيره.

و كفاه الأمر كفاية: قام به مقامه.

و المؤن: جمع مؤنة بالضمّ و سكون الهمزة، كغرف و غرفة، و هي لغة في المئونة على وزن فعولة، و جمعها مئونات على لفظها، و معناها الثقل. و قد تقدّم الكلام على الاختلاف في اشتقاقها، و هل هي من المؤن أو الأون أو الأين.

______________________________

 (1) تاج العروس: ج 3 ص 596.

 (2) الصحاح: ج 2 ص 843.

 (3) الصحاح: ج 2 ص 821.

 (4) المصباح المنير: ص 807.

 (5) مجمع البيان: ج 5- 6 ص 247.

 (6) المفردات: ص 478، و روح المعاني: ج 13 ص 12.

 (7) القاموس المحيط: ج 2 ص 137.

 (8) (الف) و (ج): اسم.

 (9) ديوان الأدب: ج 3 ص 328.

188
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء السابع و العشرين ص : 183

اللّهُمَّ صَلِّ عَلى‏ مُحَمَّدٍ وَ آلِهِ، وَ عَرِّفْهُمْ ما يَجْهَلُونَ، وَ عَلِّمْهُمْ ما لا يَعْلَمُونَ، وَ بَصِّرْهُمْ ما لا يُبْصِرُونَ.

و عضدت الرجل عضدا- من باب قتل-: أعنته فصرت له عضدا أي: معينا و ناصرا، و تعاضد القوم: تعاونوا، و منه: المؤمن معصود بتوفيق اللّه.

و نصره اللّه نصرا: أظهره على عدوّه.

و الصبر ضربان: جسمي و نفسي، فالجسمي: هو تحمّل المشاقّ بقدر القوّة البدنيّة، و ذلك في الفعل كالمشي و حمل الثقيل، و في الانفعال كاحتمال الضرب و القطع. و النفسي: هو حبس النفس عن الجزع عند ورود المكروه، و المراد به هنا الصبر بنوعيه، و إن كان النوع الثاني هو الذي تتعلّق به الفضيلة، إلاّ أنّ للنوع الأوّل مدخلا تامّا في هذا المقام كما لا يخفى.

و قوله عليه السّلام: «و الطف لهم في المكر» أي: أوقع اللطف لهم في مكرهم بعدوّهم، حتّى لا يفطن عدوّهم لمكرهم لدقّته و لطفه عن العقل و الفهم، فيكون المراد باللطف: تدقيق النظر و جودة الاختيال، بانّ يلهمهم سبحانه ذلك. و يحتمل أن يكون المعنى: و أوقع اللطف لهم في مكر عدوّهم بهم حتّى لا يضرّهم مكره، فيكون المراد باللطف لهم: سلامتهم من المكر برفق.

و المكر: إيصال المكروه إلى الإنسان من حيث لا يشعر، و قد تقدّم الكلام عليه مشبعا غير مرّة+.

 [ 793] عرّفه الأمر: أعلمه إيّاه، قيل: المعرفة: إدراك متعلّق بالمفرد، و العلم: إدراك متعلّق بالنسبة التامّة الخبريّة.

و قيل: المعرفة قد يقال فيما يدرك آثاره و إن لم تدرك ذاته، و العلم لا يكاد يقال إلاّ في ما أدرك ذاته، و لهذا يقال: فلان يعرف اللّه و لا يقال: يعلم اللّه، لما كانت معرفته تعالى ليست إلاّ بمعرفة آثاره دون معرفة ذاته.

و أيضا فالمعرفة تقال فيما لا يعرف إلاّ كونه موجودا فقط، و العلم أصله أن يقال فيما

189
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء السابع و العشرين ص : 183

.......... يعرف وجوده و جنسه و علّته و كيفيّته، و لهذا يقال: اللّه عالم بكذا و لا يقال: عارف، لما كان العرفان يستعمل في العلم القاصر.

و أيضا فالمعرفة تقال فيما يتوصّل إليه بتفكّر و تدبّر، و العلم قد يقال في ذلك و في غيره. و فرّق بينهما بفروق أخرى تقدّم بعضها، و أهل اللغة و بعض أهل الأصول و الميزان على أنّهما مترادفان.

و قوله عليه السّلام: «ما يجهلون» أي: ما يجهلونه فحذف العائد، و المراد به ما كان الجهل به بسيطا، و هو عدم العلم عمّا من شأنه أن يكون معلوما، أو مركبّا و هو الاعتقاد الجازم غير المطابق للواقع.

و بصّره الشي‏ء تبصيرا: عرّفه و علّمه إيّاه، و جعله ذا بصيرة به أي: ذا علم و خبرة به.

و قوله: «ما لا يبصرون» من بصر القلب أيضا أي: ما لا يعلمون، خلافا لمن خصّ الإبصار برؤية العين، فقال: أبصرته: برؤية العين، و بصرت به بالضمّ بصرا بفتحتين: برؤية القلب، فقد فسّر الزمخشري و غيره قوله تعالى: «أَ تَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَ أَنْتُمْ تُبْصِرُونَ» ببصر القلب، فقال: أي: تعلمون أنّها فاحشة لم تسبقوا إليها «1».

هذا و لمّا كان للمرابط و المجاهد مزيد افتقار إلى المعرفة بأنواع القتال، و أن يحيط علمه خبرا بالمكان الذي يرابط فيه، و يعرف المدارج المخوفة التي يرتادها المغتالون، و ما يحيط بالثغر من سهل و جبل، و أن يكون ذا بصيرة بمكائد العدوّ و مكامنه ليحذر من بغتته، ألحف عليه السّلام في السؤال لهم بتعريفهم ما يجهلون و تعليمهم ما لا يعلمون و تبصيرهم مالا يبصرون و اللّه أعلم+.

______________________________

 (1) تفسير الكشاف: ج 3 ص 374.

190
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء السابع و العشرين ص : 183

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلى‏ مُحَمَّدٍ وَ آلِهِ، وَ أنْسِهِمْ عِنْدَ لِقائِهِمْ الْعَدُوَّ ذِكْرَ دُنْياهُمْ الخَدّاعَةِ الغَرُورِ، وَ امْحُ عَنْ قُلُوبِهِمْ خَطَراتِ الْمالِ الْفَتُونِ، وَ اجْعَلِ الجَنَّةَ نَصْبَ أعْيُنِهِمْ، وَ لَوِّحْ مِنْها لِأَبْصارِهِمْ ما أعْدَدْتَ فيها مِنْ مَساكِنِ الْخُلْدِ، وَ مَنازِلِ الْكَرامَةِ، وَ الْحُورِ الْحِسانِ، وَ الأَنْهارِ المُطَّرَدَةِ بِأنْواعِ الأَشْرِبَةِ، وَ الأَشْجارِ الْمُتَدَلِّيَةِ بِصُنُوفِ الثَّمَرِ، حَتّى‏ لا يَهُمَّ أحَدٌ مِنْهُمْ بِالإدْبارِ، وَ لا يُحَدِّثَ نَفْسَهُ عَنْ قِرْنِهِ بِفِرارٍ.

 [ 794] أنسهم: أي أغفل قلوبهم عن ذكر دنياهم، حتّى ينمحي تصوّرها عن أذهانهم، فلا يرغبوا عن صدق الجهاد عند لقاء العدوّ، ميلا إلى زخارف الدنيا المحبوبة للنفوس الأمّارة.

و خدعه خدعا: أراد به المكروه من حيث لا يعلم، و كلّ فعل يقصد به فاعله في باطنه خلاف ما يقتضيه ظاهره فهو خديعة. و غرّه غرورا: أطمعه بالباطل.

و وصف الدنيا بالخدّاعة لأنّها تخدع الناس ببهجة منظرها و رونق سرابها، إلى أن يستأنس بها من كان بعقله نافرا عنها، و يطمئنّ إليها من كان بمقتضى فكرته منكرا لها، حتّى إذا ما انهمك في لذّاتها و انغمس في شهواتها، فعلت به فعل العدوّ الخدوع، و كذلك وصفها بالغرور لأنّها تغرّ الخلق بزخارفها الباطلة، فيتوهّمون بقاءها، ثمّ تنتقل عنهم و تتحوّل. و صدق عليها هذان الوصفان لكونها سببا لغفلة الخلق عمّا خلقوا لأجله، بالاشتغال بها و الانهماك في مشتهياتها و لذّاتها الفانية، و ذلك جاذب للإنسان عن قصد الحقّ، و صادّ له عن سلوك سبيله و عن التّرقي في الملكوت الأعلى، إلى حضيض الدرك الأسفل، و بذلك يكون الهلاك الأبدي و الشقاء السرمدي.

 [ 795] و محى الشي‏ء يمحوه محوا- من باب قتل- و محاه يمحاه محيا بالياء- من باب نفع- لغة: أزاله، و انمحى الشي‏ء: ذهب أثره.

191
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء السابع و العشرين ص : 183

.......... و خطرات المال: ما يخطر أي: يمرّ في القلب من تحصيله أو تدبيره.

قال الزمخشري في الأساس: له خطرات و خواطر، و هي ما يتحرّك في القلب من رأي أو معنى‏ «1».

و قال الأزهري: الخاطر: ما يخطر في القلب من تدبير أو أمر «2».

و المال: ما يملك من كلّ شي‏ء و قيل: أصله ما يملك من الذهب و الفضّة، ثمّ أطلق على كلّ ما يقتنى و يملك من الأعيان‏ «3».

و عن تغلب: أنّه ما لم يبلغ حدّ النصاب لا يسمّى مالا «4».

و الفتون: الكثير الفتنة، لأنّ فعولا من صيغ المبالغة، يقال: فتن المال الناس- من باب ضرب- فتونا أي: استمالهم و أضلّهم و لمّا كانت الفتنة بمعنى الضلال عن الحقّ بمحبّة أمر ما من الأمور الباطلة، و الاشتغال به عمّا هو الواجب من سلوك سبيل اللَّه، و كان المال من أعظم الأسباب لضلال الخلق عن الحقّ بمحبّته، صدق عليه وصفه بالفتون.

قوله عليه السّلام: «و اجعل الجنّة نصب أعينهم» أي: منصوبة حذاء أعينهم ليشاهدوها عيانا، و المروي في الدعاء بفتح النون من النصب، و فيه شاهد على أنّ الفتح لغة صحيحة فصيحة.

و في القاموس: هذا نصب عيني بالضمّ و الفتح، و الفتح لحن‏ «5»، انته.

 [ 796] و لاح الشي‏ء يلوح: بدا و ظهر، و لوّحه تلويحا: أبداه و أظهره.

و أعددت الشي‏ء إعدادا: هيّأته، أي: أبد و أظهر لأبصارهم من الجنّة ما هيّأته فيها.

______________________________

 (1) أساس البلاغة: ص 168.

 (2) تهذيب اللغة: ج 7 ص 227.

 (3) النهاية لابن الأثير: ج 4 ص 373.

 (4) لم نعثر عليه.

 (5) القاموس المحيط: ج 1 ص 132.

192
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء السابع و العشرين ص : 183

.......... و المساكن: جمع مسكن بفتح الكاف و كسرها، و هو البيت.

و الخلد بالضمّ و الخلود: البقاء و الدوام من وقت مبتدأ، و لذلك لا يقال للَّه تعالى: خالد، و قيل: هو في الأصل: الثبات دام أو لم يدم، و لو كان وضعه للدوام لما قيّد في التأبيد في قوله عزّ قائلا: «خالِدِينَ فِيها أَبَداً»+ «1»، و لما استعمل حيث لا دوام فيه فقالوا: حبسه حبسا مخلّدا.

و قال النظام النيسابوري: الخلد عند المعتزلة: الثبات الدائم و البقاء اللازم الذي لا ينقطع، بدليل قوله تعالى: «وَ ما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ» «2»، نفى الخلد عن البشر مع تعمير بعضهم‏ «وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى‏ أَرْذَلِ الْعُمُرِ»+ «3»، و عند الأشاعرة الخلد: هو الثبات الطويل دام أو لم يدم، و لو كان التأبيد داخلا في مفهومه كان قوله تعالى: «خالِدِينَ فِيها أَبَداً»+ «4» تكرارا «5»، انته.

و يتفرّع على هذا الخلاف دوام و عيد المرتكب الكبيرة إذا مات بلا توبة، حيث وقع مقيّدا بالخلود، كما في قوله تعالى: «وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها» «6».

و على كلّ تقدير فالمراد بالخلد هنا: الدوام قطعا، لما يشهد له من الآيات و السنن، أي: مساكن البقاء و الدوام التي لا يعتريها و لا يعتري سكّانها فناء و لا تغيّر، فإضافة المساكن إلى الخلد للمدح لا للتوضيح، إذ من المعلوم أنّ مساكن الجنّة لا فناء فيها.

و اعلم أنّ معظم اللذّات الحسّية لمّا كان مقصورا على المساكن و المطاعم و المناكح حسبما يقضي به الاستقراء، و كان ملاك جميع ذلك الدوام و الثبات، إذ

______________________________

 (1) سورة الطلاق: الآية 11.

 (2) سورة الأنبياء: الآية 34.

 (3) سورة النحل: الآية 70.

 (4) سورة الطلاق: الآية 11.

 (5) غرائب القرآن و رغائب الفرقان: ج 1 ص 72.

 (6) سورة النساء: الآية 93.

193
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء السابع و العشرين ص : 183

.......... كلّ نعمة و إن جلّت إذا قارنها خوف الزوال كانت منغّصة غير صافية من شوائب الألم، بشّر سبحانه عباده المؤمنين بها، و أزال عنهم خوف الفوات بوعد الخلود، ليدلّ على كمالهم في التنعّم و السرور.

و منازل الكرامة أي: منازل العزّ و الشرف، و قال بعض العلماء: الكرامة تعود إلى الكمالات النفسانيّة الباقية و الالتذاذ بها.

و الحور: جمع حوراء و هي المرأة البيضاء، من الحور بالتحريك: و هو شدّة البياض.

و قال أبو عبيدة: الحوراء: الشديدة بياض العين، الشديدة سوادها «1».

من حورت العين حورا- من باب تعب-: إذا اشتدّ بياض بياضها و سواد سوادها.

و في مختصر العين: و لا يقال للمرأة: حوراء إلاّ البيضاء مع حورها «2».

و قال الزمخشري في الفائق: الحور: هو أن يصفو بياض العين و يشتدّ خلوصه فيصفو سوادها «3».

و في الدعاء دليل على أنّ الحور غير نساء الدنيا، خلافا لما روي عن الحسن في قوله تعالى: «وَ زَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ»: «4» هنّ عجائزكم ينشئهنّ اللَّه خلقا آخر «5».

و الحسان: جمع حسنة أي: جميلة الصورة بهيّة المنظر.

 [ 797] و الأنهار: جمع نهر بالتحريك مثل سبب و أسباب، فإذا سكّن جمع على نهر بضمّتين و أنهر.

و النهر: الماء الجاري المتّسع، و اطّردت الأنهار: جرت، و منه: اطّراد الأمر أي:

______________________________

 (1) مجمع البيان: ج 9- 10، ص 68.

 (2) المصباح: المنير: ص 213- 214.

 (3) الفائق غريب الحديث: ج 1 ص 330.

 (4) سورة الدخان: الآية 54.

 (5) التفسير الكبير للفخر الرازي: ج 27 ص 253.

194
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء السابع و العشرين ص : 183

.......... تبع بعضه بعضا فجرى مجرى واحد كجري الأنهار. و ما وقع لبعض المترجمين أنّ قوله: «المطّردة» من اطّرد الماء أي: جرى، لا من اطّرد الأمر أي: تبع بعضه بعضا، إذ لا شي‏ء من الأنهار يتبع نهرا آخر، جهل صريح.

و أنواع الأشربة أي: أصنافها، و في ذلك إشارة إلى قوله تعالى: «مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَ أَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَ أَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَ أَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى» «1».

و الأشجار المتدلّية أي: المسترسلة أغصانها بصنوف الثمر.

و التدلّي: الاسترسال مع تعلّق، و قال العلاّمة الطبرسي: التدلّي: الامتداد إلى جهة السّفل‏ «2».

و الظاهر أنّ وصف الأشجار بالتدلّي إنّما هو باعتبار أغصانها و فروعها التي هي مناط الثمر، و فيه إشعار بكثرة الثمر، لأنّ فروع الشجر لا تتدلّى و لا تسترسل إلاّ إذا كثر ثمرها.

و قول بعض المترجمين: إنّ المتدلّية وصف للأشجار بحال متعلّقها و هو الثمر، و المعنى: الأشجار المتدلّية أي: المتعلّقة بها صنوف الثمر، و هم أوقعه فيه ما رآه في كتب اللغة من قولهم: تدلّت الثمرة من الشجر، فتوّهم أن التدليّ لا يكون وصفا إلاّ للثمر دون الشجر، و لم يفطن لكون عبارة الدعاء ليست من باب الوصف بحال المتعلّق، بل من باب الوصف بحال الموصوف.

نعم لو قال: الأشجار المتدلّية صنوف ثمرها، كان من باب الوصف بحال متعلّقه.

فإن قلت: جعلك المتدليّة وصفا للأشجار باعتبار الأغصان و الفروع، وصف‏

______________________________

 (1) سورة محمّد: الآية 15.

 (2) مجمع البيان: ج 9- 10- ص 170.

195
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء السابع و العشرين ص : 183

.......... بحال المتعلّق أيضا، لأنّ التدلّي حينئذ حال قائمة بالأغصان التي هي متعلّق الأشجار لا بالأشجار، فلا يكون وصفا بحال الموصوف.

قلت: المراد بحال الموصوف و حال المتعلّق ما جعل حالا للموصوف و لو تجوّزا في الأوّل، و ما جعل حالا لغير الموصوف بحسب دلالة التركيب و إن كان قائما به في الثاني، فنحو: مررت بزيد الحسن، و الأشجار المتدلية بصنوف الثمر، من قبيل الوصف بحال الموصوف، و إن كان ليس المراد بالحسن إلاّ وجه زيد، و بالمتدليّة إلاّ أغصان الأشجار و فروعها، و نحو: رأيت زيدا الحسن نفسه أو ذاته، من قبيل الوصف بحال المتعلّق، و إن كان الحسن قائما بزيد، فاعلم ذلك فقد نبّهنا عليه في شرح الصمديّة «1» أيضا.

و في قوله عليه السّلام: «بصنوف الثمر» إشارة إلى قوله تعالى: «وَ لَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ» «2».

قال المفسّرون: أي: لهم فيها صنف من كلّ الثمرات‏ «3».

و حتّى: بمعنى كي التعليليّة: أي: كيلا يهمّ أحد منهم بالإدبار، يقال: همّ بالشي‏ء همّا- من باب قتل- إذا أراده و لم يفعله.

و أدبر إدبارا: ولّى.

و حديث النفس: ما يخطر بالبال، و حدّث نفسه بكذا:

أخطره بباله، و قد يقال: حدّثته نفسه بكذا أي: وسوست إليه به، أي:

و لا يخطر بباله فرارا عن قرنه.

و القرن بالكسر: نظير الإنسان في الشجاعة.

______________________________

 (1) الحدائق الندية: ص 379.

 (2) سورة محمّد: الآية 15.

 (3) روح المعاني: 26 ص 49.

196
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 197

.......... قال الفارابي: يقال: فلان قرن فلان: إذا كان مثله في الشجاعة «1».

و في الأساس: القرن بالفتح: مثلك في السنّ، و بالكسر: مثلك في الشجاعة «2».

و قال الفيومي في المصباح: القرن: من يقاومك في علم أو قتال أو مال أو غير ذلك، و الجمع أقران مثل حمل و أحمال‏ «3». فجعله مطلقا و لم يخصّه بالشجاعة.

و في القاموس: القرن بالكسر: كفؤك في الشجاعة أو عام.

و فرّ من عدوّه يفرّ من باب ضرب- فرارا بالكسر: هرب‏ «4».

تنبيه‏

المتبادر تعلّق قوله عليه السّلام: «عن قرنه» بقوله: «بفرار»، و يأباه إطلاق منعهم من تقدّم معمول المصدر عليه، قالوا: لأنّه مع معموله كموصول مع صلته، و الصلة لا تتقدّم على الموصول، و لذلك قال الزمخشري في قوله تعالى: «فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ» «5»: لا يتعلّق «مع» ببلغ، لاقتضائه أنّهما بلغا معا، و لا بالسعي، لأنّ صلة المصدر لا تتقدّم عليه، و إنّما هي متعلّقة بمحذوف على أنّ يكون بيانا، كأنّه قيل:

فلمّا بلغ الحدّ الذي يقدر فيه على السعي، فقيل: مع من؟ فقيل: مع أعطف الناس عليه و هو أبوه، أي: أنّه لم تستحكم قوّته بحيث يسعى مع غير مشفق‏ «6»، انته.

و على هذا، فقوله: «عن قرنه» متعلّق بمحذوف أيضا، يكون بيانا على قياس ما ذكره الزمخشري في الآية.

لكن قال الرضي: و أنا لا أرى منعا من تقدّم معمول المصدر عليه إذا كان‏

______________________________

 (1) ديوان الأدب: ج 1 ص 195.

 (2) أساس البلاغة: ص 504.

 (3) المصباح المنير: ص 687.

 (4) القاموس المحيط: ج 4 ص 258.

 (5) سورة الصافات: الآية 102.

 (6) تفسير الكشاف: ج 4 ص 53.

197
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 197

اللّهُمَّ افْلُلْ بِذلِكَ عَدُوَّهُمْ، وَ اقْلِمْ عَنْهُمْ أظْفارَهُمْ، وَ فَرِّقْ بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ أسْلِحَتِهِمْ، وَ اخْلَعْ وَثائِقَ أفْئِدَتِهِمْ، وَ باعِدْ بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ أزْوِدَتِهِمْ، وَ حَيِّرْهُمْ في سُبُلِهِمْ، وَ ضَلِّلْهُمْ عَنْ وَجْهِهِمْ، وَ اقْطَعْ عَنْهُمُ الْمَدَدَ، وَ انْقُصْ مِنْهُمُ الْعَدَدَ، وَ امْلَأ أَفْئِدَتَهُمْ الرُّعْبَ، وَ اقْبِضْ أيْدِيَهُمْ عَنِ الْبَسْطِ، وَ اخْزِمْ ألْسِنَتَهُمْ عَنِ النُّطْقِ، وَ شَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ، وَ نَكِّلْ بِهِمْ مَنْ وَراءَهُمْ، وَ اقْطَعْ بخِزْيِهِمْ أطْماعَ مَنْ بَعْدهُمْ.

ظرفا أو شبهه، نحو قولك: اللّهم ارزقني من عدوّك البراءة و إليك الفرار، قال تعالى:

 «وَ لا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ»، و قال: «بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ»، و في نهج البلاغة: قلت عنكم نبوته، و مثله في كلامهم كثير، و تقدير الفعل في مثله تكلّف‏ «1».

و سبقه إلى ذلك السهيلي، قال ابن هشام: أجاز السهيلي تقديم الجارّ و المجرور، و استدلّ بقوله تعالى: «لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلًا» «2»، و قولهم: اللّهم اجعل لنا فرجا و مخرجا «3»، انته.

و على هذا، فقوله: «عن قرنه» متعلّق بفرار، و هو الظاهر، و اللَّه أعلم+.

 [ 798] فللت الجيش فلاّ- من باب قتل- فانفل: كسرته فانكسر. و في القاموس: فلّ القوم: هزمهم‏ «4».

و المراد بالعدوّ هنا الجمع: أي: اعداءهم، لإعادة ضمير الجمع إليه، قال في مختصر العين: يقع العدوّ بلفظ واحد على الواحد المذكّر و المؤنّث و المجموع‏ «5».

و قلمت الظفر قلما- من باب ضرب-: قطعت ما طال منه، و قلّمت بالتشديد:

مبالغة، و قلم الأظفار هنا: كناية عن إضعافهم.

______________________________

 (1) شرح الكافية في النحو: ج 2 ص 195.

 (2) سورة الكهف: الآية: 108.

 (3) لم نعثر عليه.

 (4) القاموس المحيط: ج 4 ص 32.

 (5) المصباح المنير: ص 544.

198
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 197

.......... قال الزمخشري في الأساس: و من المجاز: فلان مقلوم الظفر: ضعيف، قال النابغة:

و بنوقعين لا محالة أنّهم‏

 

 آتوك غير مقلّمي الأظفار

 

 أي: غير ضعفاء و لا عزّل‏ «1».

و في الصحاح: يقال للضعيف: مقلوم الظفر، و كليل الظفر «2».

و الوجه في ذلك أنّ الظفر إذا لم يقلم كان قوي العمل في الخدش و الحك و اللقط و نحوه، فإذا قلم ضعف عمله.

و فرّق بينهم و بين أسلحتهم أي: أغفلهم عن استصحابها حتّى لا يتمكّنوا من القتال، و يتمكّن المسلمون من قتلهم، أو ألهمهم بأن يلقوها و يضعوها، لينال المسلمون منهم غرّة و ينتهزوا فرصة فيوقعوا بهم.

رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين ؛ ج‏4 ؛ ص199

 

الخلع: النزع، خلعه يخلعه من باب نفع.

و الوثائق: جمع وثيقة بمعنى الثقة، من وثق به ثقة أي: اعتمد عليه.

قال الفارابي في ديوان الأدب: الوثيقة واحدة الوثائق، يقال: أخذ في أمره بالوثيقة «3».

و قال الجوهري: أخذ بالوثيقة في أمره أي: بالثقة «4».

و المعنى: انزع ما وثقت به أفئدتهم و اعتمدت عليه، من البأس و النجدة و الشجاعة التي يرونها في أنفسهم.

و يحتمل أن يكون من وثق الشي‏ء بالضمّ وثاقة أي: قوي و ثبت، فهو وثيق أي:

ثابت محكم فيكون المعنى: انزع قوّة قلوبهم و ثباتها.

______________________________

 (1) أساس البلاغة: ص 521.

 (2) الصحاح: ج 5 ص 2014.

 (3) ديوان الأدب: ج 3 ص 240.

 (4) الصحاح: ج 4 ص 1563.

199
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 197

.......... أو تكون الوثائق جمع وثاق بالفتح و الكسر: و هو ما يشدّ به من حبل و نحوه، فقد جاء جمع فعال بالفتح و الكسر على فعائل، كشمال بالفتح بمعنى: الخلق، و شمال بالكسر بمعنى: ضدّ اليمين، فإنّ كلا منهما جمع على شمائل، فيكون المراد بالوثائق العروق المتّصلة بالأفئدة التي نيطت بها إلى الوتين، و يسمّى واحدها نياطا كما يقال: قطع اللَّه نياط قلبه.

قال أرباب التشريح: على القلب غشاء غليظ يحتوي عليه، و هو مربوط برباطات وثيقة.

و قال ابن الأثير في النهاية: و في الحديث: فرأى رجلال موثقا، أي: مأسورا مشدودا في الوثاق، و منه حديث الدعاء: و اخلع وثائق أفئدتهم، جمع وثاق أو وثيقه‏ «1»، انته.

فيكون الغرض إضعاف قلوبهم و إزعاجها من شدّة الخوف و الجبن، كما ورد في الحديث: من شرّ ما أعطي الرجل شحّ هالع، و جبن خالع‏ «2».

قال ابن الأثير: أي: شديد كأنّه يخلع فؤاده من شدّة خوفه، و هو مجاز في الخلع، و المراد به ما يعرض من نوازع الأفكار و ضعف القلب عند الخوف‏ «3»، انته.

و الأفئدة: جمع فؤاد بالضمّ مهموز العين، و هو القلب.

و في القاموس: الفؤاد: للقلب مذكّرا، و هو ما يتعلّق بالمرء من كبد ورئة و قلب‏ «4».

 [ 799] و باعد بين الشيئين: جعل كلّ منهما بعيدا عن الآخر.

و الأزودة: جمع زاد على غير القياس، و هو طعام المسافر الذي يتّخذ لسفره،

______________________________

 (1) النهاية: لابن الأثير: ج 5 ص 151.

 (2) سنن أبي داود: ج 3 ص 12 ح 2511.

 (3) النهاية لابن الأثير: ج 2 ص 65.

 (4) القاموس المحيط: ج 1 ص 321.

200
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 197

.......... و قياس جمعه أزواد.

و في الحديث: أ معكم من أزودتكم شي‏ء؟ فقالوا: نعم‏ «1»، أي: اجعل بينهم و بين أزودتهم حائلا و أمدا و مسافة بعيدة، حتّى لا يتّصلوا بها، و لا يتمكّنوا من تناولها عند الحاجة إليها فيضعفوا عن القتال.

و حار في أمره يحار حيرا- من باب تعب و حيرة: لم يدر وجه الصواب فيه، فهو حيران و هي حيرى، و الجمع حيارى، و حيّرته بالتضعيف فتحيّر.

قال الأزهري: و أصله أن ينظر الإنسان إلى شي‏ء يغشاه ضوء فيصرف بصره عنه‏ «2».

و في القاموس: حار يحار حيرة و حيرا: نظر إلى الشي‏ء فغشى، و لم يهتد لسبيله‏ «3».

و السبل بالضمّ و بضمّتين: جمع سبيل، و هو الطريق. أي: اجعلهم لا يهتدون إلى وجه الصواب في طرقهم التي يقصدون بسلوكها الوصول إلى المسلمين و بلادهم أو مطلقا.

و ضلّ الرجل الطريق و ضلّ عنه يضلّ- من باب ضرب- ضلالا و ضلالة: زلّ عنه فلم يهتد إليه و ذهب في غيره فهو ضال، و أضلّه غيره إضلالا و ضلّله تضليلا:

للمبالغة، و منه: رجل مضلّل: ضالّ جدّا.

و في القاموس: ضلّله تضليلا و تضلالا: صيّره إلى الضلال‏ «4».

و الوجه: كلّ مكان استقبلته، و تحذف الواو فيقال: جهة مثل عدة، و منه:

 «فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ» «5» أي: جهته التي أمركم بالتوجّه إليها، و في الحديث: أن اصيبت في وجهه، «6» أي: الجهة التي يريد أن يتوجّه إليها، و المعنى: اجعلهم ضالّين عن‏

______________________________

 (1) النهاية لابن الأثير: ج 2 ص 317.

 (2) تهذيب اللغة: ج 5 ص 231 نقلا بالمعنى.

 (3) القاموس المحيط: ج 2 ص 16.

 (4) القاموس المحيط: ج 4 ص 5.

 (5) سورة البقرة: الآية 115.

 (6) لم نعثر عليه.

201
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 197

.......... الجهة التي يريدون أن يتوجّهوا إليها لقصد المسلمين أو مطلقا.

و اقطع عنهم المدد أي: احبسه عنهم، من قطعت الماء عن الحوض: إذا حبسته عنه فلم يصل إليه، أو امنعه عنهم، من قطعته عن حقّه أي: منعته.

و مدد الشي‏ء: ما يمدّ به أي: يكثر و يزاد، و خصّ بالجماعة الذين يعان و يقوى بهم الجيش في القتال، يقال: أمدّهم بمدّد: إذا أعانهم بجماعة يقاتلون معهم، و منه قوله تعالى: «يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ» «1».

 [ 800] و نقصت الشي‏ء نقصا: أذهبت منه شيئا فنقص هو، كلاهما من باب قتل متعدّيا و لازما.

و العدد: مقدار ما يعدّ، أي: انقص كمّيتهم حتّى يقلّوا و يعجزوا عن القتال و مقاومة المسلمين.

و ملأ الإناء ملأ: من باب نفع.

و الرعب بالضمّ و تضمّ العين للاتباع: الخوف و الفزع، و منه: «سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ» «2».

و اقبض أيديهم عن البسط أي: كفّها و امنعها أن تمدّ إلى المسلمين.

قال الزمخشري في قوله تعالى: «اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ» «3»: يقال: بسط إليه لسانه: إذا شتمه، و بسط إليه يده: إذا بطش «و يبسطوا إليكم أيديهم و ألسنتهم بالسوء»، و معنى بسط اليد إليه: مدّها إلى المبطوش به، ألا ترى إلى قولهم: فلان بسيط الباع، و مديد الباع، بمعنى و قوله: «فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ» أي: فمنعها أنّ تمدّ إليكم‏ «4»، انته.

______________________________

 (1) سورة آل عمران: الآية 125.

 (2) سورة آل عمران: الآية 151.

 (3) سورة المائدة: الآية 11.

 (4) تفسير الكشاف: ج 1 ص 614.

202
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 197

.......... و يحتمل أن يكون قبض أيديهم عن البسط مجازا عن سلب القدرة عنهم على التصرّف مطلقا، من قولهم: فلان مبسوط اليد أي: قادر على التصرّف كيفما يشاء، أو دعاء عليهم بالبخل المذموم، من بسط اليد الذي هو مجاز عن محض الجود من غير نظر.

و قصد في هذين الاحتمالين إلى إثبات يد و بسط، و منه قوله تعالى: «بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ» «1»، و يكون المراد به الدعاء عليهم بما هو مسبّب عن البخل، من لصوق، العار بهم، و سوء الأحدوثة التي تخزيهم و تمزّق أعراضهم، و نفرة القلوب عن إعانتهم و مظاهرتهم.

و اخزم ألسنتهم عن النطق أي: اشددها و أوثقها، من خزمت الشراك خزما- من باب ضرب-: إذا ثقبته و شددته.

قال الزمخشري في الأساس: خزمت شراك نعلي: ثقبته و شددته‏ «2».

و قول بعض المترجمين: اخزم بمعنى: اقطع، لم يذكره أهل اللغة.

و الغرض منع ألسنتهم عن النطق بما يسوء المسلمين، و بما يدبّرون به أمرهم، و يتشاورون به فيما بينهم من الكلام لقصد المسلمين.

 [ 801] و قوله عليه السّلام: «و شرّد بهم من خلفهم» اقتباس من قوله تعالى في سورة الأنفال: «فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ» «3».

التشريد: الطرد و التفريق.

قال الزجاج: معناه: افعل بهم فعلا من القتل تفرّق به من خلفهم‏ «4».

و قال الزمخشري: أي: فرق بقتلهم شرّ قتلة و النكاية فيهم، من وراءهم من‏

______________________________

 (1) سورة المائدة: الآية 64.

 (2) أساس البلاغة: ص 161.

 (3) سورة الأنفال: الآية 57.

 (4) مجمع البيان: ج 3- 4 ص 553.

203
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 197

.......... الكفرة، حتّى لا يجسر عليل بعدهم أحد، اعتبارا بهم و اتّعاظا بحالهم‏ «1».

و قال عطاء: معناه: أكثر فيهم القتل، حتّى يخافك غيرهم‏ «2».

و قال العلاّمة الطبرسي: و قيل: إنّ معنى «شرّد بهم»: سمّع بهم بلغة قريش، قال الشاعر:

أطوف في البواطح كلّ يوم‏

 

 مخافة أن يشرّد بي حكيم‏ «3»

 

 انته.

و في القاموس: شرّد به: سمّع الناس بعيوبه‏ «4».

و المعنى على هذا: افعل بهم من النكاية و التعذيب فعلا يسمع به من خلفهم من الأعداء، فلا يقدم أحد منهم على القتال.

و قوله عليه السّلام: «و نكّل بهم من وراءهم» كالتفسير لما قبله، يقال: نكلّ عن الحرب نكولا- من باب قعد-: أي جبن و تأخّر و امتنع، و نكّل به تنكيلا: فعل به ما ينكل غيره عن مثل فعله.

قال في الأساس: نكّلت به: جعلت غيره ينكل أن يفعل مثل فعله و هو النكال‏ «5» انته.

و قال ابن الأثير في النهاية: نكّل به تنكيلا: إذا جعله عبرة لغيره، و النكال:

العقوبة التي ينكل الناس عن فعل ما جعلت له جزاء «6»، انته.

و المعنى: افعل بهم من القتل و النكاية و التعذيب ما يوجب نكول من وراء ظهورهم من الكفّار، و يكون عبرة لهم، بأن ينظروا فيهم فيعتبروا بهم، فلا يقدموا على مثل فعلهم من قصد المسلمين.

و قوله عليه السّلام: «و اقطع بخزيهم أطماع من بعدهم» الخزي بالكسر: الذلّ‏

______________________________

 (1) تفسير الكشاف: ج 2 ص 230.

 (2) التفسير الكبير للفخر الرازي: ج 15 ص 183.

 (3) مجمع البيان: ج 3- 4 ص 553.

 (4) القاموس المحيط: ج 1 ص 305.

 (5) أساس البلاغة: ص 655.

 (6) النهاية لابن الأثير: ج 5 ص 116.

204
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 197

اللَّهُمَّ عَقِّمْ أرْحامَ نِسائِهِمْ، وَ يَبِّسْ أصْلابَ رِجالِهِمْ، وَ اقْطَعْ نَسْلَ دَوابِهِمْ وَ أنْعامِهِمْ، لا تَأذَنْ لِسَمائِهِمْ في قَطْرٍ، وَ لا لِأَرْضِهِمْ في نَباتٍ.

و الهوان المقارن للفضيحة و الندامة.

خزي خزيا- من باب علم-: ذلّ و هان مع فضيحة و ندم، و أخزاه اللَّه: أذلّه و أهانه و فضحه.

و الأطماع: جمع طمع، كأمل و آمال لفظا و معنى. أي: افعل بهم من الخزي مالا يبقى معه لمن بعدهم من الكفرة طمع في قصد المسلمين، مخافة أن يقع بهم من الخزي ما وقع بهؤلاء، و اللَّه أعلم+.

 [ 802] عقمت الرحم عقما- من باب تعب-: إذا لم تقبل الولد، و يتعدّى بالحركة و الهمزة، فيقال: عقمها اللَّه عقما- من باب ضرب- و أعقمها إعقاما، و عقّمها تعقيما بالتضعيف: للمبالغة، و الاسم: العقم بالضمّ مثل قفل.

و قال الجوهري: أعقم اللّه رحمها فعقمت- على ما لم يسمّ فاعله-: إذا لم تقبل الولد «1».

و قال الكسائي: رحم معقومة أي: مشدودة لا تلد «2».

و مصدره العقم و العقم بالفتح و الضمّ.

و الأرحام: جمع رحم على وزن كتف، موضع تكوين الولد، و تخفّف بسكون الحاء مع فتح الراء و مع كسرها أيضا في لغة بني كلاب، و في لغة لهم بكسر الحاء إتباعا لكسرة الراء.

قال أرباب التشريح: هو عضو مؤلّف من ليفات عصبيّة على طبقتين، و هو كالقضيب المقلوب، و محلّه من جوف المرأة وراء المثانة و قدّام المعاء المستقيم، تتصّل فوهات العروق لدفع فضلة الطمث و تغذية الجنين، و على فمه غشاء رقيق ينهتك عند

______________________________

 (1) الصحاح: ج 5 ص 1988.

 (2) الصحاح: ج 5 ص 1988.

205
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 197

.......... فضّ البكارة، و له مجرى محاذ لفم الفرج يخرج منه دم الطمث و الجنين، و يصل منه منيّ الرجل إلى قرار الرحم فيستقرّ فيه و يتولّد الجنين.

و النساء: اسم لجماعة الإناث الأناسي، لا واحد له من لفظه، و إنّما الواحد امرأة من غير لفظ الجمع.

و يبس الشي‏ء ييبس- من باب تعب-: إذا جفّ فهو يابس، و يتعدّى بالهمزة و التضعيف، فيقال: أيبسه و يبّسه تيبيسا.

و الأصلاب: جمع صلب بالضمّ، و تضمّ اللام للاتباع، و هو سلسلة فقرات الظهر، و المراد بتيبيس أصلابهم: بتخفيف منيّهم لينقطع نسلهم مجازا للمجاورة، كما يقال: جفّ النهر أي: جفّ ماؤه.

و قد اشتهر كون المنّي من الصلب و الظهر، و لذلك ينسب الولد إلى صلب أبيه و ظهره، و نطق بذلك القرآن المجيد، قال تعالى: «وَ حَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ» «1»، و قال تعالى: «وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ» «2»، و الوجه في ذلك على ما ذهب إليه جمّ غفير: أنّ مبدأ ماء الرجل من الصلب، لأنّ مادّته من النخاع الآتي من الدماغ، و ينحدر في فقرات الظهر إلى العصعص، و لذلك قال سبحانه: «فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ. خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ. يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَ التَّرائِبِ» «3» أي: صلب الرجل و ترائب المرأة، و هي عظام الصدر حيث يكون موضع القلادة، لأنّ ماء المرأة يخرج من ترائبها.

و طعنت الملحدة خذلهم اللّه تعالى في ذلك، بأنّ المنّي، إنّما يتولّد من فضلة الهضم الرابع، و ينفصل من جميع أجزاء البدن، فيأخذ من كلّ عضو طبيعته‏

______________________________

 (1) سورة النساء: الآية 23.

 (2) سورة الأعراف: الآية 172.

 (3) سورة الطارق: الآية 5 و 6 و 7.

206
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 197

.......... و خاصيته مستعدّا لأن يتولّد منه مثل تلك الأعضاء، فتخصيص الصلب و الترائب لا وجه له، فإن كان المراد أنّ معظم أجزاء المنّي يتولّد هناك فهو ضعيف، لأنّ معظمه يتولّد من الدماغ، و لذلك يشبهه و يسرع الإفراط في الجماع بالضعف فيه.

و أجيب: بأنّه كلام مبنيّ على محض الوهم و الظنّ الضعيف، و الخالق أعلم بما خلق. على أنّه لو صحّ فوجه تخصيص الصلب و الترائب بالذكر، كون الدماغ أعظم الأعضاء معونة في توليد المنّي، و منه النخاع في الصلب و شعب كثيرة نازلة إلى الترائب، و هما أقرب إلى أوعية المنّي: فلذلك خصّا بالذكر. و على هذا، فلا تختصّ الترائب بالمرأة.

و النسل: الولد.

و الدوابّ: جمع دابّة، و هي في الأصل ما دبّ أي: سار من الحيوان، و غلب على ما يركب، و هو المراد هنا، و تطلق على الذكر و الأنثى.

و الأنعام: جمع نعم بالتحريك، و قد يسكّن.

و قال النووي في تحريره: النعم: الإبل و البقر و الغنم، و هو اسم جنس، و جمعه أنعام‏ «1».

و نقل الواحدي إجماع أهل اللغة على هذا كلّه‏ «2».

و قد بسطنا الكلام عليه في الروضة الأولى.

 [ 803] و أذنت له في الشي‏ء- من باب علم-: أطلقت له فعله، و إذنه تعالى قيل: عبارة عن أمره، و قيل: عن إرادته، و قيل: عن إيجابه و إيجاده لشي‏ء بتوسّط فاعله المباشر له، كما في قوله تعالى لعيسى عليه السّلام: «و تبرئ الأكمه و الأبرص بإذني، و إذ تخرج‏

______________________________

 (1) تاج العروس: ج 9 ص 79 نقلا عن كتابه.

 (2) تاج العروس: ج 9 ص 79.

207
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 197

.......... الموتى بإذني» «1». و كلّ من هذه المعاني صحيح هنا، أي: لا تأمر سماءهم بقطر و لا أرضهم بنبات، أو لا ترد قطر سمائهم و لا نبات أرضهم أو لا توجد لهم قطرا بتوسّط سمائهم، و لا نباتا بتوسّط أرضهم.

و قال بعضهم: المراد بإذنه تعالى في أفعاله: أمره لها بالوجود بقوله: كن، و في أفعال خلقه: عدم إحداث المانع لهم عمّا أقدروا عليه و أعدّوا له من الفعل، كسلب الاعداد و القدرة و إبطال الآلة و إيجاد الضدّ، و إعدام الفاعل و نحو ذلك.

و على هذا، فيكون المعنى: أحدث لسمائهم مانعا عن القطر، و لأرضهم مانعا عن النبات.

و المراد بسمائهم: الجهة المحاذية لهم من السماء، بناء على أنّ المطر يبتدئ منها إلى السحاب و منه إلى الأرض، على ما دلّت عليه روايات كثيرة، أو السحاب المتكوّن في جوّ بلادهم، فإنّ كلّ عال مظلّ سحاب.

و القطر: المطر، الواحدة: قطرة، مثل تمر و تمرة.

و النبات: كلّ ما نبت من الأرض من نجم أو شجر.

و يحتمل أن يكون القطر و النبات مصدرين، أي: لا تأذن لسمائهم بأن تقطر، و لا لأرضهم بأن تنبت.

يقال: نبتت الأرض و أنبتت بمعنى، نصّ عليه في القاموس‏ «2».

فإن قلت: كيف فصل جملة قوله: «لا تأذن» عمّا قبلها من الجمل المتعاطفة، مع وجود الجامع بين الكلّ من معنى الدعاء عليهم، و تناسبها في الإنشاء لفظا و معنى؟

قلت: تعيّن الفصل لكمال الاتّصال، لعدم المغايرة المفتقرة إلى الربط

______________________________

 (1) سورة المائدة: الآية 110.

 (2) القاموس المحيط: ج 1 ص 158.

208
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 197

اللّهُمَّ وَ قوِّ بِذَلِك مِحالَ أهلِ الإسْلامِ، وَ حَصِّنْ بِهِ دِيارهُم، وَ ثَمِّر بِهِ أموالَهُمْ، وَ فَرِّغْهُمْ عَنْ مُحارَبَتِهِمْ لِعِبادَتِكَ، وَ عَنْ مُنابَذَتِهِمْ لِلْخَلْوَةِ بِكَ، حَتّى‏ لا يُعْبَدَ في بِقاعِ الأرْضِ غَيْرُكَ، وَ لا تَعَفَّرَ لِأحَدٍ مِنْهُمْ جَبْهَةٌ دُونَكَ.

بالعاطف، إذ كانت هذه الجملة توكيدا و تقريرا لما قبلها، من الدعاء عليهم بالاستئصال بقطع نسلهم و نسل دوابّهم و مواشيهم، أو بدلا منه، لأنّها أوفى بتأدية المراد، إذ كان في منع القطر و النبات عنهم هلاكهم و هلاك ذرّيتهم، و انقطاع نسلهم و نسل دوابّهم و أنعامهم و هلاكها، فهي أوفى بتمام المراد في عدم البقيا عليهم و قطع دابرهم، و اللّه أعلم+.

 [ 804] توسيط النداء بين المتعاطفين لمزيد الضراعة، و الإشارة بذلك إلى ما ذكر من قطع حرثهم و نسلهم و مادّة حياتهم.

و المحال على وزن كتاب: الكيد، و التدبير، و المكر، و طلب الأمر بالحيلة، و القدرة، و القوّة، و الشدّة، و الجدال، و المعاداة، و الأخذ بالعقاب، و النقمة، و العذاب، و منه قوله تعالى: «وَ هُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ» «1».

و اختلفت عبارات المفسّرين في تفسيره.

فقال عليّ عليه السّلام: شديد الأخذ «2»، و قتادة و مجاهد: شديد القوّة «3»، و الحسن: شديد النقمة «4»، و الزجّاج: شديد القدرة و العذاب‏ «5»، و الجبائي: شديد الكيد للكفار «6» و الزمخشري: شديد الكيد و المكر لأعدائه، يأتيهم بالهلكة من حيث لا يحتسبون‏ «7» و كلّ هذه المعاني يصحّ حمل لفظ الدعاء عليه كما لا يخفى.

و تكون المحال جمع محالة أيضا و هي الفقرة، من فقر ظهر البعير.

قال في الكشاف: و يجوز أن يكون المعنى: شديد الفقار، و يكون مثلا في القوّة

______________________________

 (1) سورة الرعد: الآية 13.

 (2) مجمع البيان: ج 5- 6 ص 283.

 (3) مجمع البيان: ج 5- 6 ص 283.

 (4) مجمع البيان: ج 5- 6 ص 283.

 (5) مجمع البيان: ج 5- 6 ص 283.

 (6) مجمع البيان: ج 5- 6 ص 283.

 (7) تفسير الكشاف: ج 2 ص 520.

209
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 197

.......... و القدرة، كما جاء: فساعد اللّه أسدّ و موساه أحدّ، لأنّ الحيون إذا اشتدّ محاله كان منعوتا بشدّة القوّة و الاضطلاع بما يعجر عنه غيره، ألا ترى إلى قولهم: فقرته الفواقر؟ و ذلك أنّ الفقار عمود الظهر «1»، انته.

و جواز إرادة هذا المعنى ظاهرة في عبارة الدعاء أيضا.

و في نسخة ابن إدريس: «و قوّ بذلك محالّ أهل الإسلام» بفتح الميم و تشديد اللام على أنّه جمع محلّة، و هي المكان ينزله و يحلّه القوم، من حلّ البلد و به حلولا- من باب قعد-: إذا نزل به.

و حصّنه: جعله حصينا أي: منيعا.

و الديار: جمع دار، و هي الموضع يجمع البناء، و تطلق على البلد أيضا.

و ثمرّ اللّه ماله تثميرا: أنماه و كثّره.

 [ 805] و فرّغهم عن محاربتهم لعبادتك أي: خلّصهم عن الشغل بمحاربتهم للتجرّد لعبادتك، التي لا يشغل أسرارهم و قلوبهم عن مراقبتك و التوجّه إليك بالكلية فيها شاغل.

و الجهاد و إن كان عبادة إلاّ أنّه ليس كالصلاة التي هي أمّ العبادات، و عمود الدين، و معراج المؤمن، و مناجاة ربّ العالمين مثلا، فإنّها فضّلت على سائر العبادات بما نيطت به من ذكر المعبود، و شغل القلب و اللسان بذكره تعالى، و حركات سائر الجوارح فيها جعلت دالّة على ما في القلب و اللسان، فهي ذاكرة له أيضا، و ليس كذلك الجهاد، فإنّه إنّما جعل ذريعة لإقامة الشريعة و غيره من عبادات اللّه تعالى، كما قال عزّ قائلا: «وَ قاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ» «2».

______________________________

 (1) تفسير الكشاف: ج 2 ص 520.

 (2) سورة الأنفال: الآية 39.

210
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 197

.......... و المنابذة: المخالفة و المكاشفة بالحرب.

قال الشهاب الفيومي: نابذتهم: كاشفتهم، و نابذتهم الحرب: كاشفتهم إيّاها و جاهرتهم بها «1».

و في الأساس: نبذ إلى العدوّ: رمى إليه العهد و نقضه، و نابذه منابذة و تنابذوا «2».

و خلا به يخلو خلوة: تفرّد به.

قال أرباب القلوب: الخلوة باللّه: محادثة السرّ مع الحقّ حيث لا أحد و لا ملك‏ «3».

و قال بعض المحقّقين: الخلوة: عبارة عن تفرّد العبد في موضع يخلو فيه عن جميع الشواغل بما سوى اللّه من المحسوسات الظاهرة و الباطنة، و يصرف فيه همّته و نيّته إلى الإقبال على اللّه و التبتّل إليه بكلّيته، فيحصل له الانس به و الوحشة من غيره‏ «4».

قيل لبعضهم: إلى أيّ شي‏ء أفضى بكم الزهد و الخلوة؟ فقال: إلى الانس باللّه‏ «5».

و قال بعضهم: لابدّ لمن آثر اللّه على من سواه من العزلة في ابتدائه توحّشا من غير اللّه، و من الخلوة في انتهائه أنسا باللّه‏ «6».

و كان الفضيل يقول: إذا رأيت الليل مقبلا فرحت به و قلت: أخلو بربّي، و إذا رأيت الصبح أدركني استرجعت كراهيّة لقاء من يشغلني عن ربّي‏ «7».

و قيل لبعضهم: أما تستوحش في هذه الدار وحيدا؟ فقال: ما كنت أظنّ أحدا

______________________________

 (1) المصباح المنير: ص 810.

 (2) أساس البلاغة: ص 613.

 (3) لم نتحققه.

 (4) لم نعثر عليه.

 (5) المحجة البيضاء: ج 4 ص 12، و آداب النفس: ج 1 ص 51.

 (6) آداب النفس: ج 1 ص 41.

 (7) المحجة البيضاء: ج 4 ص 12- 13، و آداب النفس: ج 1 ص 51.

211
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 197

.......... يستوحش مع اللّه‏ «1».

و قيل لبعض العبّاد: ما أصبرك على الوحدة، فقال: ما أنا وحدي، أنا جليس اللّه عزّ و جلّ، إذا شئت أن يناجيني قرأت كتابه، و إذا شئت أن اناجيه صلّيت‏ «2».

و قال ذو النون: لم أر شيئا أبعث لطلب الخلاص من الخلوة، لأنّه إذا خلا لم ير غير اللّه، فإذا لم ير غيره لم يحرّكه إلاّ حكمه، و من أحبّ الخلوة فقد تعلّق بعمود الإخلاص، و استمسك بركن شديد من أركان النجاة «3».

قوله عليه السّلام: «حتّى لا يعبد في بقاع الأرض غيرك» أي: كيلا يعبد.

و البقاع: جمع بقعة بالضمّ و الفتح، و هي القطعة من الأرض.

و قال صاحب المحكم: البقعة بالفتح و البقعة بالضمّ: أعلى قطعة من الأرض على غير هيئة التي إلى جنبها، و الجمع بقع و بقاع، فبقع جمع بقعة كظلمة و ظلم، و بقاع جمع بقعة كقصعة و قصاع، و قد يكون بقاع جمع بقعة بالضمّ كجفرة و جفار «4»، انته.

و لمّا كان فعل العبادة لا يجوز شرعا و عقلا إلاّ للّه تعالى، لأنّ العبادة أعلى مراتب الخضوع و التذلّل، و لا يستحقّ ذلك إلاّ من كان موليا لأعلى النعم و أعظمها من الوجود و الحياة و توابعهما، و هو اللّه سبحانه لا غير، جعل عليه السّلام غاية دعائه بإضعاف أهل الشرك و تقوية أهل الإسلام، تخصيصه تعالى بالعبادة التي لا يستحقّها غيره.

و عفره عفرا- من باب ضرب- و عفّره تعفيرا للمبالغة: ألزقه بالعفر محرّكا و قد يسكّن، و هو وجه الأرض.

و قال صاحب المحكم: العفر و العفر: ظاهر التراب، و الجمع أعفار، و عفره في‏

______________________________

 (1) آداب النفس: ج 1 ص 42.

 (2) المحجة البيضاء: ج 4 ص 12، آداب النفس: ج 1 ص 50.

 (3) آداب النفس: ج 1 ص 56.

 (4) المحكم في اللغة: ج 1 ص 148.

212
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 197

اللّهُمَّ اغْزُ بِكُلِّ ناحِيَةٍ مِنَ الْمُسْلِمينَ عَلى‏ مَنْ بِإزائِهِمْ مِنَ المُشْرِكيْنَ، وَ أمْددْهُمْ بِمَلائِكةٍ مِنْ عِنْدِكَ مُرْدِفينَ، حَتّى‏ يَكْشِفُوهُمْ إلى‏ مُنْقَطَعِ التُرابِ، قَتْلاً في أَرْضِكَ وَ أَسْرًا، أَوْ يُقِرُّوا بِأنَّكَ أنْتَ اللَّهُ، الَّذي لا إلهَ إلاّ أنْتَ وَحْدَكَ لا شَريكَ لَكَ.

التراب يعفره عفرا و عفّره فانعفر و تعفّر: مرّغه فيه أو دسّه‏ «1»، انته.

و الجبهة من الإنسان قال الخليل: هي مستوى فيما بين الحاجبين‏ «2»، و قال الأصمعي: هي موضع السجود «3».

و المراد بتعفير الجبهة: السجود على التراب، أي: و حتى لا يسجد لأحد منهم دونك، إذ كان السجود يحرم لغير اللّه، لأنّ وضع أشرف الأعضاء على أهون الأشياء- و هو التراب- غاية الخضوع، و قد علمت أنّ غاية الخضوع و أعلى مراتبه لا يجوز إلاّ للّه عزّ و جلّ.

و الضمير في «منهم»: عائد على المعبودين، دون اللّه سبحانه المدلول عليه بقوله:

 «حتّى لا يعبد في بقاع الأرض غيرك».

و دونك: أي سواك أو متجاوزا إياك، و قد مرّ تحقيق ذلك+.

 [ 806] غزا العدوّ غزوا: سار إلى قتالهم و انتهابهم.

قال الفيومي: و إنّما يكون غزو العدوّ في بلادهم‏ «4».

و غزا يتعدى بنفسه، و إنّما عدّاه هنا بعلى لتضمينه معنى الإغارة، و هي مباغتة العدوّ للنهب أو القتل و الأسر، أي: اغز، بكل ناحية من المسلمين مغيرا على من بإزائهم من المشركين و الباء من قوله «بكلّ ناحية»: للتعدية، و هي المعاقبة للهمزة في تعدية الفعل القاصر، كما تقول في ذهب زيد، و ذهبت بزيد،

______________________________

 (1) المحكم في اللغة: ج 2 ص 82.

 (2) المصباح المنير: ص 125 نقلا عنهما.

 (3) المصباح المنير: ص 125 نقلا عنهما.

 (4) المصباح المنير: ص 612.

213
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 197

.......... و أذهبته، أي: اغز كلّ ناحية أي: ابعثها للغزو، يقال: أغزى الأمير الجيش: إذا بعثه للغزو.

و في إيثاره تعدية غزا بالباء دون الهمزة نكتة لطيفة، و هي ملاحظة ما في الباء من معنى المصاحبة، المقصود بها هنا كمال الحفظ و التوفيق و الإمداد و النصرة، كما كان المقصود بالمعيّة ذلك في قوله تعالى: «إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا» «1»، و قوله تعالى لموسى و هارون عليهما السّلام: «لا تخافا إنّني معكما أسمع و أرى» «2»، و من ثمّ ذهب المبرد «3» و السهيلي‏ «4» و الزمخشري إلى أنّ بين أذهبه و ذهب به فرقا، فمعنى أذهبه: أزاله و جعله ذاهبا، و معنى ذهب به:

استصحبه و مضى به‏ «5».

و قال صاحب المثل السائر: كلّ من ذهب بشي‏ء فقد أذهبه، و ليس كلّ من أذهب شيئا فقد ذهب به، إذ يفهم منه أنّه استصحبه و أمسكه عن الرجوع إلى الحالة الأولى، و لا كذلك أذهبه فهما، و إن اشتركا في معنى التعدية، فلا يبعد أن ينظر صاحب المعاني إلى معنيي الهمزة و الباء الأصليّين، أعني الإزالة و المصاحبة و الإلصاق‏ «6»، انته.

هو صريح فيما ذكرناه.

و الناحية: الجانب، فاعلة بمعنى مفعولة، لأنّها تنحى أي: تقصد، من النحو بمعنى: القصد.

و المعنى على تقدير مضاف محذوف، أي: اغز بأهل كلّ ناحية، فهو من مجاز الحذف.

______________________________

 (1) سورة الأنفال: الآية 12.

 (2) سورة طه: الآية 46.

 (3) مغني اللبيب: ص 138.

 (4) تاج العروس: ج 1 ص 257.

 (5) أساس البلاغة: ص 210.

 (6) لم نعثر عليه.

214
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 197

.......... و في شرح جامع الأصول لمؤلّفه: و في الحديث: فخيف على ناحيتها، هي المكان المنفرد، و ناحية الإنسان: مكانه، و قد يعبّر بها عن ذاته، خفت على ناحيته أي:

عليه‏ «1»، انته.

و على هذا، فهي مجاز مرسل من باب تسمية الشي‏ء باسم محلّه، نحو: «فَلْيَدْعُ نادِيَهُ» «2» أي: مجلسه، أراد به أهله مجازا، لحصولهم فيه. و في نسخة ابن إدريس:

 «أعزّ» بقطع الهمزة و كسر العين المهملة و تشديد الزاي من الإعزاز، و لا يظهر له معنى إلاّ على دعوى زيادة الباء في المفعول، نحو: «وَ هُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ» «3»، و زيادتها فيه كثيرة، لكنّها مع ذلك غير مقيسة، كما نصّ عليه المرادي في الجنى الداني‏ «4».

و يمكن أن يخرّج على ما خرّج عليه الزمخشري الآية المذكورة، حيث قال: الباء في «بجذع النخلة»: صلة للتأكيد، كقوله: «وَ لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ»، أو على معنى افعلي الهزّ به، كقوله: يجرح في عراقيبها نصلي‏ «5»، انته.

يعني بالوجه الثاني أنّه نزّل «هزّي» مع كونها متعدّيا منزلة اللازم للمبالغة، نحو: فلان يعطي و يمنع، ثمّ عدّي كما يعدى اللازم، كقوله: يجرح في عراقيبها، أي:

يفعل الجرح في عراقيبها.

و كذا القول في أعزّ بكلّ ناحية، أي: افعل العزّ بهم، و تعديته بعلى إلى المفعول الثاني لما فيه من معنى الرفعة و الشرف.

و الإزاء بالكسر و المدّ: الحذاء، يقال: جلس إزائه و بإزائه أي: بحذائه.

و في النهاية: الإزاء: المحاذاة و المقابلة «6».

______________________________

 (1) لا يوجد لدينا هذا الكتاب.

 (2) سورة العلق: الآية 17.

 (3) سورة مريم: الآية 25.

 (4) لم نتحققه.

 (5) الكشاف: ج 3 ص 13.

 (6) النهاية لابن الأثير: ج 1 ص 47.

215
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 197

.......... و في المصباح: هو بإزائه: أي محاذيه‏ «1».

و المعنى: على من يحاذيهم و يقابلهم من المشركين.

 [ 807] و أمددت الجيش بألف رجل: أعنته و قوّيته بهم. و الأصل في الإمداد: إعطاء الشي‏ء حالا بعد حال.

و في القاموس: الإمداد: أن تنصر الاجناد بجماعة غيرك و الإعطاء و الإغاثة «2».

و قال المفضّل: ما كان منه بطريق التقوية و الإعانة يقال فيه: أمدّه يمدّه إمدادا، و ما كان بطريق الزيادة يقال فيه: مدّه يمدّه مدّا «3». و منه: «وَ الْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ» «4».

و قيل: المدّ في الشرّ، كما في قوله تعالى: «وَ يَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ» «5»، و قوله تعالى: «وَ نَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا» «6»، و الإمداد في الخير، كما في قوله تعالى:

 «وَ أَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَ بَنِينَ» «7».

و قيل: المدّ: إعانة الرجل القوم بنفسه، و الإمداد: إعانته إيّاهم بغيره، يقال: مدّ زيد القوم مدّا أي: صار لهم مددا، و أمدّهم: أعانهم بمدد، و إلى هذا القول جنح صاحب القاموس، كما يظهر من تضاعيف كلامه‏ «8».

و «من» في قوله: «من عندك»: لابتداء الغاية مجازا، متعلّقة بأمدد فيكون الظرف لغوا، أو بمحذوف هو صفة لملائكة فيكون مستقرّا. و أيّا ما كان، فالتقييد به لتشريف الملائكة و الدلالة على فضلهم.

______________________________

 (1) المصباح المنير: ص 18.

 (2) القاموس المحيط: ج 1 ص 337.

 (3) لم نعثر عليه.

 (4) سورة لقمان: الآية 27.

 (5) سورة البقرة: الآية 15.

 (6) سورة مريم: الآية 79.

 (7) سورة الأسراء الآية 6.

 (8) القاموس المحيط: ج 1 ص 337.

216
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 197

.......... و مردفين بكسر الدال: أي جاعلين غيرهم من الملائكة رديفا لأنفسهم، فيكون المراد بهم رؤساءهم المستتبعين لغيرهم، أو جاعلين أنفسهم رديفا للمسلمين أو لملائكة آخرين، أو جاعلين بعضهم رديفا لبعض المسلمين أو بعضهم لبعض.

كلّ ذلك من أردفته إيّاه إردافا أي: أتبعته إيّاه و جعلته له رديفا، فردفه هو.

أو معناه تابعين ملائكة آخرين، أو تابعين المسلمين، أو تابعا بعضهم بعضا، من أردفته بمعنى: ردفته بالكسر أي: تبعته و جئت بعده.

و في نسخة: «مردفين» بفتح الدال، فإن حمل على الإرداف بالمعنى الأوّل، فمعناه: مجعولين إردافا للمسلمين و تابعين لهم، فيكونون على ساقة المسلمين ليكونوا على أعينهم و حفظهم.

و إن حمل على الإرداف بالمعنى الثاني، فمعناه، مردوفين أي: متبوعين للمسلمين، فيكونون على مقدّمة الجيش فيتبعهم المسلمون.

و يجوز أن يكون على الأوّل بمعنى مردفين ملائكة آخرين، و على الثاني بمعنى متبوعين لملائكة آخرين، و فيه تلميح إلى قوله تعالى: «إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ» «1».

قرأ أبو جعفر و نافع و سهل و يعقوب و ابن مجاهد و أبو عون عن قنبل بفتح الدال من مردفين، و الباقون بكسرها «2».

قال الزجّاج: معناه: يأتون فرقة بعد فرقة «3».

و عن ابن عبّاس و قتادة و السدي: معناه: مترادفين، و كانوا ألفا بعضهم في أثر بعض‏ «4» و عن الجبائي: معناه: متبعين ألفا آخر من الملائكة، لأنّ مع كلّ واحد منهم‏

______________________________

 (1) سورة الأنفال: الآية 9.

 (2) راجع روح المعاني: ج 9 ص 173.

 (3) مجمع البيان: ج 3- 4 ص 524.

 (4) مجمع البيان: ج 3- 4 ص 525.

217
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 197

.......... ردفا له‏ «1»، و عن أبي حاتم: معناه بألف من الملائكة جاءوا على آثار المسلمين‏ «2» و كشفت القوم كشفا- من باب ضرب- هزمتهم فانكشفوا، و منه حديث: فلمّا كان يوم أحد انكشف المسلمون‏ «3».

قال الكرماني في شرح البخاري: أي: انهزموا «4»، و منه: فلمّا حملنا عليهم انكشفوا، أي: انهزموا، و أصله من الكشف بمعنى: رفع شي‏ء عمّا يواريه و يغطّيه، يقال: كشف الغطاء: إذا رفعه عمّا تحته، و لمّا كان هزم القوم يستلزم رفعهم و إزالتهم عن مواقفهم التي واروها و غطّوها بحصولهم و وقوفهم فيها سمي الهزم كشفا، و هو إمّا استعارة بالكناية أو تبعيّة أو تمثيليّة، و قد تقدّم بيان ذلك في نظيره.

و قول بعض المترجمين: يكشفوهم أي: يفضحوهم، جهل بمواقع ألفاظ العرب.

و الظرف من قوله: «إلى منقطع التراب»: متعلّق بمحذوف وقع حالا من فاعل يكشفوهم، و هو الضمير العائد فيه إلى المسلمين، أي: حتّى يكشفوهم مبلّغين و موصلين لهم إلى منقطع التراب، أو بيكشفوهم مضمّنا معنى الإيصال أو الإنهاء.

و منقطع الشي‏ء بصيغة البناء للمفعول: حيث ينتهي إليه طرفه، نحو: منقطع الوادي و الرمل و الطريق.

و التراب: معروف، قال الفرّاء و جماعة: هو جنس لا يثنّى و لا يجمع‏ «5».

و نقل أبو عمرو الزاهد في شرح الفصيح عن المبرّد أنّه قال: هو جمع واحدته ترابة «6»

______________________________

 (1) مجمع البيان: ج 3- 4 ص 525.

 (2) مجمع البيان: ج 3- 4 ص 525.

 (3) صحيح البخاري: ج 4 ص 23.

 (4) شرح البخاري للكرماني: ج 12 ص 108.

 (5) تاج العروس: ج 2 ص 157.

 (6) تهذيب الأسماء و اللغات: الجزء الأوّل من القسم الثاني ص 40 نقلا عن أبي عمرو.

218
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 197

.......... و قال الجوهري: جمع التراب أتربة و تربان‏ «1».

و المراد بمنقطع التراب: منته العمارة من الأرض شرقا و غربا و جنوبا و شمالا، حيث لا تقع العين بعده على تراب.

و قوله عليه السّلام: «قتلا في أرضك و أسرا» أي: حال كونهم يقتلونهم في أرضك قتلا و يأسرونهم أسرا، فيكون نصبهما على المصدريّة، أي: قاتلين لهم و آسرين، فيكون على الحاليّة و هو مذهب الجمهور، و ذهب بعضهم إلى أنّ نحو ذلك على حذف مضاف، و التقدير: يكشفونهم كشف قتل و أسر، فحذف المضاف و أقيم المضاف إليه مقامه. قال ابن هشام: و هذا تقدير حسن سهل‏ «2».

و الظرف من قوله: «في أرضك»: متعلّق بمحذوف وقع وصفا للقتل إن جعل مصدرا، و بالقتل نفسه إن جعل حالا، فهو على الأوّل مستقرّ و على الثاني لغو، و فائدته التعميم، أي: قتلا عامّا في كلّ قطر من أقطار أرضك، و في كلّ مكان منها يكونون فيه، من حيث إنّ هذا القيد نسبته إلى القتل في كلّ موضع من الأرض على السواء، فتأمّله فإنّه نفيس.

و إضافة الأرض إليه تعالى لبيان استحقاقهم للقتل و الأسر، لأنّ المشرك باللّه حقّه أن لا يترك و يخلّى في أرض اللّه، بل يستحقّ القتل و الأسر فيها.

 [ 808] و قوله عليه السّلام: «أو يقرّوا» عطف على قوله: «يكشفوهم». و أقرّ بالشي‏ء إقرارا: اعترف به.

و أنت: ضمير موضوع للمخاطب، و مذهب البصريّين أنّ الضمير: أن، و التاء حرفيّة مبنيّة للمخاطب‏ «3»، و مذهب الفرّاء: أنّ «أنت» بكماله الضمير، و التاء من نفس الكلمة، و قيل: الضمير هو التّاء ادغمت بأن لتستقلّ لفظا «4».

______________________________

 (1) الصحاح: ج 1 ص 90.

 (2) لم نعثر عليه.

 (3) شرح الكافية في النحو: ج 2 ص 10.

 (4) شرح الكافية في النحو: ج 2 ص 10.

219
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 197

.......... و هو هنا ضمير فصل فائدته التوكيد و الاختصاص، و لا محلّ له من الإعراب، قيل: لأنّه حرف، و قيل: لشدّة شبهه بالحرف في أنّه لم يؤت به إلاّ لمعنى في غيره.

و قيل: بل له محلّ، فقال الفرّاء: محلّه مشارك لما قبله‏ «1»، و قال الكسائي: مشارك لما بعده‏ «2»، و قيل: هو تأكيد للكاف كما في قولك: مررت بك أنت، و قيل: هو مبتدأ خبره ما بعده و الجملة خبر أن.

و قوله: «لا إله» مبني مع «لا» في موضع رفع بالابتداء، و الخبر محذوف أي:

لهم، أو في الوجود، أو مستحقّ للعبادة، أو ممكن، و الضمير بعد «إلاّ» في محلّ رفع على البدل من محلّ لا إله، و لا يجوز أن يكون في محلّ نصب على الاستثناء، لأنّه لو كان كذلك لكان: إلاّ إيّاه.

و جملة «لا إله إلاّ أنت» في محلّ رفع على أنّها خبرثان لاسم «أنّ»، أو صفة للخبر و هو اسم الجلالة.

و وحدك: عند البصريّين منصوب على المصدريّة أو الحال، و عند الكوفيّين على الظرف، و قد استوفينا الكلام عليه فيما سبق.

و قوله: «لا شريك لك» خبر ثالث لاسم «أنّ»، أو صفة أخرى للخبر.

و كلّ هذه الجمل الثلاث مقرّرة للوحدانيّة، و مؤكّدة لما قبلها من حيث المعنى، و يمكن تخصيص كلّ منها بمعنى، فتكون الأولى لنفي الشريك في الالوهيّة، و مزيحة «3» لما عسى أن يتوّهم أنّ في الوجود إلها لكن لا يستحقّ العبادة، و الثانية للإشارة إلى أنّه واحد في ذاته لا تركيب فيه، و الثالثة للإشارة إلى أنّه لا شريك له في صفات الالوهيّة و صفات الكمال، و اللّه أعلم+.

______________________________

 (1) لم نعثر عليه.

 (2) لم نعثر عليه.

 (3) «ج»: مزيته.

220
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 197

اللّهُمَّ وَ اعْمُمْ بِذَلِكَ أعْداءَك في أقْطارِ البلادِ، من الهندِ وَ الرُومِ وَ التُركِ وَ الخَزَرِ وَ الحَبَشِ وَ النُوبَةِ وَ الزّنْجِ وَ السَقالِبَةِ وَ الدَيالِمَةِ، وَ سائِرِ أُمَمِ الشِّرْكِ الَّذينَ تُخْفى‏ أسْماؤُهُمْ وَ صِفاتُهُمْ، وَ قَدْ أحْصَيْتَهُمْ بِمَعْرِفَتِكَ، وَ أشْرَفْتَ عَلَيْهمْ بِقُدْرَتِكَ.

 [ 809] عمّ الشي‏ء عموما- من باب قعد-: شمل الجميع، يقال: عمّهم بالإحسان أي:

أحسن إلى جميعهم.

و الإشارة بذلك إلى ما تقدّم من الدعاء على المشركين.

و المراد بأعدائه تعالى: الخارجون عن طاعته عنادا، و المخالفون لأمره مكابرة، لأنّ العدوّ لا يكاد ينقاد لأمر عدوّه و لا يوافقه.

و المراد بهم: أعداء أوليائه و خواصّه و مقرّبيه، أضافهم إليه تعالى تفخيما لشأنهم، و إيذانا بأنّ عداوتهم عداوته‏ «1»، إذ العداوة على الحقيقة لا تصحّ إلاّ في البشر، لأنّ العدوّ الذي يريد إنزال المضارّ بمن عاداه، و هذا يستحيل في حقه تعالى.

و الأقطار: جمع قطر بالضمّ مثل قفل و أقفال، و هو الجانب و الناحية.

و البلاد: جمع بلدة مثل قلعة قلاع، و هي بمعني البلد و هو المصر الجامع.

قال العلاّمة الطبرسي: البلد و المصر و المدينة نظائر «2».

و في القاموس: البلد و البلدة: كلّ قطعة من الأرض مستحيزة عامرة أو غامرة «3».

و قال الشهاب الفيومي: و يطلق البلد و البلدة على كلّ موضع عامرا كان أو خلاء «4».

و من: بيانيّة.

______________________________

 (1) «ج»: تعالى.

 (2) مجمع البيان: ج 1- 2، ص 205.

 (3) القاموس المحيط: ج 1 ص 278.

 (4) المصباح المنير: ص 84.

221
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 197

.......... و الهند: جيل و أمّة من الناس معروفة، أكثر الناس اختلافا في الآراء و العقائد، منهم من يقول بالخالق دون النبيّ و هم البراهمة، و منهم من يعبد الشمس، و منهم من يعبد القمر، و منهم من يعبد الأنهار الكبار، و منهم من يعبد الأشجار العظام، إلى غير ذلك. و يطلق لفظ الهند على بلادهم أيضا، و هي من الإقليم الأوّل، أحد حدّيها الصين و الآخر السند، أكثر أرض اللّه جبالا و أنهارا، خصّت بكريم النبات و عجيب الحيوان.

قال بعضهم: الهند بحرها درّ، و جبلها ياقوت، و شجرها عود، و ورقها عطر، و حشيشها دواء، و شتاؤها صيف، و صيفها ربيع.

و وصفها ابن القرية فقال: هي أرض شاسعة نائية، و بلاد كفرة طاغية.

و الروم: قال الواحدي: جيل من ولد آدم بن عيص بن إسحاق، غلب اسم أبيهم عليهم فصار كالاسم للقبيلة «1».

و قال النووي في التهذيب: و الروم: هم الذين تسمّيهم أهل هذه البلاد الإفرنج‏ «2»، انته.

و أكثرهم نصارى، و بلادهم بالإقليم السادس، و هي بلاد واسعة، أنزه النواحي و أخصبها، و أكثرها خيرا، و أعذبها ماء، و أصحّها هواء، و أطيبها تربة، و هي في غاية البرودة، و لذلك يرى الغالب على ألوانهم البياض و على شعورهم الشقرة، و الإبل لا تتولّد بها، و مدينة رئاستهم تسمّى روميّة، قيل: دور سورها أربعة و عشرون ميلا.

و في القاموس: روميّة: بلد بالروم، سوق الدجاج به فرسخ، و سوق البرّ ثلاثة فراسخ، و تقف المراكب فيه على دكاكين التجّار في خليج معمول من النحاس،

______________________________

 (1) التهذيب للنووي: القسم الثاني: ج 1 ص 130.

 (2) التهذيب للنووي: القسم الثاني: ج 1 ص 130.

222
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 197

.......... ارتفاع سوره ثمانون ذراعا عرض عشرين، فيما ذكر ابن خرداد به، فإن يك كاذبا فعليه كذبه‏ «1»، انته.

و الترك: جيل من أولاد يافث بن نوح عليه السّلام، يمتازون عن جميع الأمم بكثرة العدد و وفور الشجاعة، عراض الوجوه، فطس الانوف، عبل السواعد، ضيق الأخلاق و الأعين، يغلب عليهم الغضب و الظلم و القهر، أقسى خلق اللّه قلوبا، و أشدّهم بطشا، و أقلّهم رأفة، و أصبرهم على تحمّل المشاقّ و المحن، و بلادهم بالإقليم الثالث، أوّلها من وراء نهر جيحون، و هو نهر كبير يفصل بين بلاد الترك و بين خراسان، و يسمّى نهر خوارزم و نهر بلخ، لأنّ كلا منهما في طرف منه، و تمتدّ بلادهم إلى أقاصي المشرق من حدود الصين.

و في ربيع الأبرار عن ابن مسعود قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ليلة أسري بي إلى السماء رأيت في السماء الرابعة قصرا مزخرفا حواليه قناديل من نور، فقلت:

يا جبرئيل ما هذا القصر؟ قال: يا محمّد هذا رباط ستفتحه أمّتك بأرض خراسان حول جيحون، قلت: و ما جيحون؟ قال: نهر يكون بأرض خراسان، من مات حول ذلك النهر على فراشه قام يوم القيامة شهيدا من قبره قلت: يا جبرئيل و لم ذاك؟

قال: يكون عدوّ لهم يقال لهم: الترك، شديد كلبهم، قليل سلبهم، من وقع في قلبه فزعة منهم قام يوم القيامة شهيدا من قبره مع الشهداء «2»، انته.

و الخزر بفتحتين: قال في القاموس: اسم جيل خزر العيون‏ «3».

و قال الزمخشري في الأساس: رجل أخزر: ينظر بمؤخّر عينه و قيل: هو الذي ضاقت عينه و صغرت، و امرأة خزراء، و قوم خزر، و بعينه خزر، و به سمّي الخزر جيل من الترك‏ «4»، انته.

______________________________

 (1) القاموس المحيط: ج 4 ص 123.

 (2) ربيع الأبرار مخطوط: ص 20.

 (3) القاموس المحيط: ج 2 ص 19.

 (4) أساس البلاغة: ص 160.

223
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 197

.......... و قال بعضهم: بلاد الخزر حوالي بحر جيلان، و يقال لبحر جيلان: بحر الخزر.

و في نسخة ابن إدريس: «الخزر» بالضمّ و السكون، و هو لغة في الخزر محرّكة.

قال في زبدة شرح الشفاء لعياض عند قوله: «و قتال الروم و الخزر» و هو بضمّ المعجمة و سكون الزاي و فتحهما فراء: جنس من الأمم‏ «1».

و الحبش بفتحتين: جنس من السودان جلّهم نصارى، و يقال لبلادهم:

الحبشة، و هي أرض واسعة تمتدّ من طرف بحر اليمن إلى الخليج البربري.

و النوبة بالضمّ: جنس من السودان أيضا، و ملّتهم النصرانيّة، و أرضهم واسعة، و هي شرقي النيل.

و في القاموس: النوبة بالضمّ: بلاد واسعة للسودان بجنوب الصعيد، منها بلال الحبشي‏ «2».

و قال صاحب عجائب البلدان: بلاد النوبة في جنوبي مصر و شرقي النيل و غربيّة، و هي بلاد واسعة، و أهلها أمّة عظيمة، و هم على دين النصرانيّة «3».

قال صلّى اللّه عليه و آله: خير سبيكم النوبة «4».

و الزنج بالفتح و الكسر: صنف منهم أيضا، و أرضهم مسيرة شهرين، شمالها اليمن، و جنوبها الفيافي، و شرقها النوبة، و غربها الحبشة.

قال القزويني: و جميع السودان من ولد كوش بن كنعان بن حام‏ «5».

و بلاد الزنج شديد الحرّ جدّا، و سبب سوادهم احتراقهم بالشمس، و قيل: إنّ نوحا عليه السّلام دعا على ابنه حام فاسودّ لونه. و بلادهم قليل المياه و الأشجار، سقوف بيوتهم من عظام الحوت، زعم الحكماء أنّهم شرار الناس، و لهذا يقال لهم:

______________________________

 (1) لم نتحققه.

 (2) القاموس المحيط: ج 1 ص 135.

 (3) لا يوجد لدينا كتابه.

 (4) معجم البلدان: ج 4 ص 820.

 (5) لم نتحققه.

224
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 197

.......... سباع الإنس.

قال جالينوس: الزنج خصّصوا بامور عشرة: سواد اللون، و فلفلة الشعر، و فطس الأنف، و غلظ الشفة، و تشقّق اليد و العقب، و نتن الرائحة، و كثرة الطرب، و قلّة العقل، و أكل بعضهم بعضا، فإنّهم في حروبهم يأكلون لحم العدوّ، و من ظفر بعدوّ له أكله، و أكثرهم عراة لا لباس لهم، و لا يرى زنجيّ مغموما، بل الطرب يشملهم كلّهم‏ «1».

قال بعض الحكماء: سبب ذلك اعتدال دم القلب منهم.

و قال آخرون: بل سببه طلوع كوكب سهيل عليهم كلّ ليلة، فإنّه يوجب الفرح.

 [ 810] و السقالبة و تبدّل السين صادا فيقال: صقالبة، و هو المذكور في القاموس‏ «2».

قال الخليل رحمه اللّه: كلّ سين و صاد تجي‏ء قبل القاف فللعرب فيه لغتان، فمنهم من يجعلها سينا، و منهم من يجعلها صادا، لا يبالون أ متّصلة كانت بالقاف أو منفصلة بعد أن يكونا في كلمة واحدة «3»، انته.

قال في القاموس: الصقالبة: جيل تتاخم بلادهم بلاد الخزر بين بلغر و قسطنطينيّة «4».

و قال ابن الكلبي: روم و صقلب و أرمن و فرنج كانوا اخوة، و هم بنو النبطي بن كسلو أجيم بن يونان بن يافث بن نوح عليه السّلام، سكن كلّ واحد منهم بقعة من‏

______________________________

 (1) مروج الذهب: ج 1 ص 98 مع اختلاف يسير في العبارة.

 (2) القاموس المحيط: ج 1 ص 93.

 (3) لسان العرب: ج 8 ص 159.

 (4) القاموس المحيط: ج 1 ص 93، و فيه «بلغر».

225
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 197

.......... الأرض فسميّت باسمه‏ «1».

و الصقالبة: قوم كثيرون، صهب الثغور، حمر الألوان، أولو صولة شديدة.

قال المسعودي: الصقالبة أقوام مختلفة، بينهم حروب، لولا اختلاف كلمتهم، ما قاومتهم أمّة في الشدّة و الجرأة، و لكلّ فرقة منهم ملك لا ينقاد لغيره، فمنهم على دين النصرانيّة اليعقوبيّة، و منهم على دين النسطوريّة، و منهم من لا دين له و يكون معطّلا، و منهم عبدة النيران‏ «2».

و الديالمة: جيل من الناس مشهورون بالظلم و الجور، حتّى قيل: هم أجور من الترك و الديلم.

قال الزمخشري في الأساس: و من المجاز: فلان من الديلم‏ «3».

و هو ديلمي من الديالمة أي عدوّ من الأعداء، لشهرة هذا الجيل بالشرارة و العداوة.

و بلادهم أرض الجبال بقرب قزوين، و هي ثغر أرض الديلم.

و اعلم أنّ الصقالبة و الديالمة جمعان لسقلبي و ديلمي، و التاء فيهما للدلالة على أنّ واحدهما منسوب.

قال الرضي: تدخل التاء على الجمع الأقصى دلالة على أنّ واحدها منسوب، كالأشاعثه و المشاهدة في جمع أشعثي و مشهدي، و ذلك لمّا أرادوا أن يجمعوا المنسوب جمع تكسير وجب حذف ياء النسب، لأنّ ياء النسب و الجمع لا يجتمعان، فلا يقال في النسبة إلى رجال: رجاليّ بل رجليّ، فحذفت ياء النسبة، ثمّ جمع بالتاء، لتكون التاء كالعوض من الياء، كما عوّضت من الياء في نحو

______________________________

 (1) معجم البلدان للحموي: ج 3 ص 405.

 (2) مروج الذهب: ج 2 ص 3 و 4 ملخّصا.

 (3) أساس البلاغة: ص 194.

226
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 197

اللّهُمَّ أشْغلِ المُشْرِكينَ بِالْمُشْرِكينَ عَنْ تَناوُلِ أطْرافِ المُسْلِمينَ، وَ خُذْهُمْ بالنَّقْصِ عَنْ تَنقُّصِهِمْ، وَ ثَبِّطْهُمْ بِالفُرْقَةِ عَنِ الاحْتِشادِ عَلَيْهِمْ.

جحاجحة جمع جحجاح، لأنّ أصل جمعه جحاجيح، فحذفت الياء و عوّضت عنها التاء، و لذلك لا يثبتان معا و لا يسقطان معا «1».

قوله عليه السّلام: «و سائر أمم الشرك» إلى آخره، أي: باقيهم، و الأمم: جمع أمّة، و المراد بها هنا: الصنف من الناس، أي: سائر أصناف الخلق المشركين.

و الشرك بالكسر: من أشرك باللّه أي: كفر، و هو مطلق الكفر المنتظم لكفر اليهود و النصارى، فإنّ الشرع قد نصّ على شرك أهل الكتاب قاطبة.

و المراد بأسمائهم: ما دلّ على ذواتهم، و بصفاتهم: ما دلّ على شي‏ء من أحوالهم.

و الواو من قوله: «و قد أحصيتهم»: للحال، أي: و الحال أنّك قد أحصيتهم أي:

علمتهم.

قال الفيومي: أحصيت الشي‏ء بالألف: علمته‏ «2».

و في النهاية: في أسمائه تعالى المحصي: هو الذي أحصى كلّ شي‏ء بعلمه و أحاط به، فلا يفوته دقيق منه و لا جليل، و الإحصاء: العدّ و الحفظ «3»، انته.

و المراد بمعرفته تعالى: علمه، و هو يؤيّد قول أهل اللغة و بعض أرباب الأصول و الميزان من أنّهما مترادفان.

و أشرف على الشي‏ء إشرافا: اطّلع عليه، و هو على التمثيل، لأنّ أصله النظر من شرف، و هو المكان العالي، إذ النظر منه إلى الشي‏ء أبلغ في الإحاطة به، و اللّه أعلم+.

 [ 811] شغله شغلا من باب نفع، و الاسم: الشغل بالضمّ، و تضمّ الغين و تسكّن للتخفيف، و هو ضدّ الفراغ.

______________________________

 (1) شرح الكافية في النحو: ج 2 ص 163.

 (2) المصباح المنير: ص 192.

 (3) النهاية لابن الأثير: ج 1 ص 397.

227
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 197

.......... و اختلف هل يتناول لفظ المشركين الكفّار من أهل الكتاب أم لا؟ قال الأكثرون: نعم، لقوله تعالى: «وَ قالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَ قالَتِ النَّصارى‏ الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ+ اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَ ما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ» «1»، و لقوله تعالى:

 «إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ»+ «2»، فلو كان كفر اليهود و النصارى غير الشرك لاحتمل أن يغفر اللّه لهم، و ذلك باطل بالاتّفاق، و أيضا النصارى قائلون بالتثليث، و هو شرك محض.

و قال الأصمّ: كلّ من جحد رسالة محمّد صلّى اللّه عليه و آله فهو مشرك: من حيث إنّ تلك المعجزات التي ظهرت على يديه كانت خارجة عن قدرة غير اللّه تعالى، و هم أنكروها و أضافوها إلى الجنّ و الشياطين، فقد أثبتوا شريكا للّه سبحانه في خلق هذه الأشياء الخارجة عن قدرة البشر «3».

و اعترض عليه: بأنّ اليهودي مثلا حيث لا يسلّم أنّ ما ظهر على يد محمّد صلّى اللّه عليه و آله هو من جنس ما لا يقدر العباد عليه، لم يلزم أن يكون مشركا بسبب إضافة ذلك إلى غير اللّه تعالى.

و أجيب: بأنّه لا اعتبار بإقراره، و إنّما الاعتبار بالدليل، فإذا ثبت بالدليل أنّ ذلك المعجز خارج عن قدرة العباد، فمن أضاف ذلك إلى غير اللّه كان مشركا، كما لو أسند خلق الحيوان و النبات إلى الأفلاك و الكواكب.

احتجّ المخالفون: بأنّه تعالى فصل بين المشركين و أهل الكتاب في الذكر، حيث قال: «ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَ لَا الْمُشْرِكِينَ» «4»، «لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ‏

______________________________

 (1) سورة التوبة: الآية 30- 31.

 (2) سورة النساء: الآية 48.

 (3) لم نعثر عليه.

 (4) سورة البقرة: الآية 105.

228
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 197

.......... كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَ الْمُشْرِكِينَ» «1»، و العطف يقتضي المغايرة.

و أجيب: بأنّ كفر الوثني أغلظ، و هذا القدر يكفي في العطف، أو لعلّه خصّ أوّلا ثمّ عمّم، و قد تواتر النقل عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: أنّ كلّ من كان كافرا يسمّى مشركا «2»، فظهر أنّ وقوع اسم المشرك عليهم إن لم يكن بحسب اللغة كان بحسب الشرع، و إذا كان كذلك فلا يبعد بل يجب اندراج كلّ كافر تحت هذا الاسم.

و المراد بشغله تعالى المشركين بالمشركين: أن يخطر ببال كلّ أمّة منهم ما يوجب الوحشة و النفرة عن الأخرى، إمّا بسبب أهوائهم المختلفة في الدين، أو بسبب تنازع في أمور الدنيا، فتهيج العداوة و القتال بينهم، فيشتغل بعضهم ببعض عن تناول أطراف المسلمين.

و التناول في الأصل: أن يمدّ الإنسان يده إلى شي‏ء فيأخذه، يقال: ناولته الشي‏ء فتناوله، ثمّ استعمل في مطلق الأخذ و الإقدار على الشي‏ء و في الاستيلاء عليه و في الوصول إليه، إذ كان كلّ ذلك من لوازم معناه الأصلي.

و الأطراف: جمع طرف بفتحتين، و هو يكون بمعنى الجانب و الناحية، و منه:

 «أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها» «3».

أي نواحيها و جوانبها، بأن نفتحها على المسلمين شيئا فشيئا و نلحقها بدار الإسلام، و نذهب منها أهلها بالقتل و الأسر و الإجلاء.

و يكون بمعنى الطائفة من الشي‏ء و منه: «لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا» «4» أي: طائفة منهم بقتل و أسر. و كلّ من المعنيين محتمل في عبارة الدعاء.

فإن حمل على المعنى الأوّل فهو على حذف مضاف، أي: أطراف أرض‏

______________________________

 (1) سورة البيّنة: الآية 1.

 (2) لم نعثر عليه.

 (3) سورة الرعد: الآية 41.

 (4) سورة آل عمران: الآية 127.

229
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 197

.......... المسلمين، و يكون المراد بتناولها الاستيلاء عليها أو بلوغها و الوصول إليها، يقال:

تناولت بنا الركاب مكان كذا أي: بلغت و وصلت بنا إليه، قال ذو الرّمة:

إذا لم نزرها من قريب تناولت‏

 

 بنا دار صيداء القلاص الطلائح‏ «1»

 

 و قال:

تصابيت و استعبرت حتّى تناولت‏

 

 لحى القوم أطراف الدموع الذوارف‏

 

 أي: بلغت أطراف الدموع لحى القوم لانهما لها و انصبابها «2».

و إن حمل على المعنى الثاني فالمراد بتناولها أخذها و إصابتها بقتل و أسر.

و إنّما خصّ الأطراف بالذكر، لأنّه لا يوصل إلى الوسط إلاّ بتناول الطرف، و لأنّ الطرف أقرب إليهم من غيرهم، كما قال تعالى: «قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ» «3».

 [ 812] قوله عليه السّلام: «و خذهم بالنقص عن تنقّصهم» أخذه اللّه: أهلكه، و أخذه بذنبه: عاقبه عليه، و تعدية خذ بعن لتضمينه معنى الكفّ و المنع، أي: خذ بهم و أصبهم بالنقص مانعا لهم عن تنقّصهم المسلمين.

و النقص: أخذ شي‏ء من الجملة، يقال: نقّصته فنقص، يتعدّى و لا يتعدى، أي:

أذهبت منه شيئا فذهب منه شي‏ء.

و المراد بأخذهم بالنقص: إهلاكهم بنقصهم شيئا فشيئا حتّى يأتي على جميعهم، و هذا هو معنى التنقّص أيضا.

قال العلاّمة الطبرسي: التنقّص: هو أن يؤخذ الأوّل فالأوّل حتّى لا يبقى أحد «4». و حمل بعضهم التنقّص على معنى الثلب و الوقيعة، بمعزل عن المقام.

و قوله عليه السّلام: «و ثبّطهم بالفرقة من الاحتشاد عليهم» ثبّطه عن الأمر

______________________________

 (1) ديوان ذي الرمّة: ج 2 ص 877 رقم 26.

 (2) ديوان ذي الرّمة: ج 3 ص 1624 رقم 4.

 (3) سورة التوبة: الآية 123.

 (4) لم نعثر عليه.

230
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 197

اللّهُمَّ أخلِ قُلُوبَهُمْ مِنَ الأَمَنَةِ، وَ أبْدانَهُمْ مِنَ القُوَّةِ، وَ أذْهِلْ قُلُوبَهُمْ عَنِ الاحْتِيالِ، وَ أوْهِنْ أرْكانَهُمْ عَنْ مُنازَلَةِ الرِجالِ، وَ جَبِّنْهُمْ عَنْ مُقارَعَةِ الأَبْطالِ، وَ ابْعَثْ عَلَيْهِمْ جُنْدًا مِنْ مَلائِكَتِكَ بِبَأْسٍ مِنْ بِأْسِكَ، كَفِعْلِكَ يَوْمَ بَدْر، تَقْطَعُ بِهِ دابِرَهُمْ، وَ تَحْصُدُ بِهِ شَوْكَتَهُمْ، وَ تُفَرِّقُ بِهِ عَدَدهُمْ.

تثبيطا: شغله و قعد به عنه.

و الفرقة بالضمّ: اسم من افترق القوم افتراقا: خلاف اجتمعوا. و الاحتشاد:

الاجتماع، و في القاموس: حشد القوم: خفوا في التعاون، أو دعوا فأجابوا مسرعين، أو اجتمعوا لأمر واحد، كأحشدوا و احتشدوا و تحاشدوا «1»، انته.

و كلّ من هذه المعاني صحيح هنا+.

 [ 813] أخليت الإناء إخلاء: جعلته خاليا.

و الأمنة محرّكة: الأمن، و هو عدم توقّع مكروه، و في نسخة ابن إدريس: «من الأمنة» بسكون الميم، كأنها مرّة من الأمن.

و القوّة: تمكّن الحيوان من الأفعال الشاقّة.

و ذهل عن الشي‏ء يذهل- من باب منع- ذهولا: غفل عنه أو نسيه لشغل، و الأكثر أن يعدّى بالألف فيقال: أذهلني فلان عن الشي‏ء و عليه مشهور النسخ من الصحيفة في ضبط أذهل بقطع الهمزة و كسر الهاء، و قد يتعدّى بنفسه فيقال:

ذهلته، و عليه نسخة ابن إدريس في ضبطه بوصل الهمزة و فتح الهاء.

و الاحتيال: طلب الحيلة، و هي الحذق في التدبير، و هو تقليب الفكر و إعماله حتّى يهتدي إلى المقصود.

 [ 814] و الوهن: الضعف، و هن يهن- من باب وعد- أي: ضعف، و الأجود أن يعدّى بالهمزة فيقال: أوهنه، كما وقع في الدعاء، و ربّما عدّي بنفسه فقيل: وهنته فهو

______________________________

 (1) القاموس المحيط: ج 1 ص 288.

231
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 197

.......... موهون.

و الأركان: جمع ركن، و هو لغة: الجانب القوي من الشي‏ء و هو الذي يستند إليه و يقوم به، و المراد بها هنا: الجوارح، و منه حديث الحساب: و يقال لأركانه انطقي‏ «1»، أي: جوارحه.

و المقارعة: مفاعلة من القرع و هو الضرب، قرعه قرعا- من باب نفع-: ضربه.

قال صاحب المحكم: و المقارعة: مضاربة القوم في الحرب‏ «2».

و في القاموس: المقارعة: أن يقرع الأبطال بعضهم بعضا «3».

و الأبطال: جمع بطل بفتحتين أي: شجاع، قال الفيومي: سمّي بذلك لبطلان الحياة عند ملاقاته، أو لبطلان العظائم به‏ «4».

و قال صاحب القاموس: رجل بطل- محرّكة-: شجاع تبطل جراحته فلا يعبأ بها، أو تبطل عنده دماء الأقران‏ «5».

 [ 815] و البعث: الإرسال، بعثه يبعثه بعثا- من باب منع-: أرسله.

قال الفيومي: كلّ شي‏ء ينبعث من نفسه فإنّ الفعل يتعدّى إليه نفسه فيقال:

بعثته، و كلّ شي‏ء لا ينبعث بنفسه كالكتاب و الهدية فإنّ الفعل يتعدّى إليه بالباء فيقال: بعثت به‏ «6»، انته.

و قال صاحب المحكم: بعثه: أرسله وحده، و بعث به: أرسله مع غيره‏ «7».

الجند بالضمّ: العسكر و الأنصار و الأعوان و كلّ جماعة تصلح للحرب.

و «من» في قوله: «من ملائكتك»: ابتدائيّة متعلّقة بمحذوف وقع صفة ل «جندا»

______________________________

 (1) النهاية لابن الأثير: ج 2 ص 260.

 (2) المحكم في اللغة: ج؟؟؟ ص 115.

 (3) القاموس المحيط: ج 3 ص؟؟؟.

 (4) المصباح المنير: ص؟؟؟

 (5) القاموس المحيط: ج 3 ص 335.

 (6) المصباح المنير: ص 73.

 (7) المحكم في اللغة ج 2 ص 70.

232
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 197

.......... أي: كائنا من ملائكتك، و إضافة الملائكة إليه تعالى للتشريف و التنويه.

و الباء من قوله: «ببأس»: للملابسة، متعلّقة بمحذوف وقع حالا من «جندا» لتخصّصه بالصفة، أي: ملتبسا ببأس من بأسك، كقوله تعالى: «اهبط بسلام» فالظرف مستقرّ. و يحتمل أن تكون صلة الفعل من قوله: «و ابعث»، كقولك:

بعثت بهديّتي أو كتابي زيدا، فيكون الظرف لغوا.

و البأس: الشدّة و القوّة، و بأس اللّه: شدّة عذابه، و منه: «فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ» «1»، و هو المراد هنا.

و قوله عليه السّلام: «كفعلك» نعت لمصدر مؤكّد محذوف، أي: بعثا مشبها بفعلك يوم بدر، و هو اليوم الذي أعزّ اللّه فيه الإسلام و أهله و قمع فيه الشرك محلّه.

و بدر: اسم ماء. يذكّر و لا يؤنّث، و هو على ثمانية و عشرين فرسخا من المدينة في طريق مكة، كان لرجل اسمه بدر بن كلدة فنسب إليه، ثمّ غلب اسمه. و قيل:

هي بئر حفرها رجل من غفار اسمه بدر بن قريش بن النضر بن كنانة فسميّت باسمه.

و حكى الواقدي إنكار ذلك عن غير واحد من شيوخ بني غفار، قالوا: إنّما هو من منازلنا و مياهنا و ما ملكها أحد قط «2» يقال له: بدر، و إنّما هو علم عليها كغيرها من البلاد. و قيل: سمّيت البئر به لصفائها و استدارتها، فكأنّ البدر يرى فيها.

و كانت وقعة بدر في السابع عشر من شهر رمضان سنة اثنين من الهجرة، التقى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و المشركون من قريش، و قد أقبلوا من مكّة بخيلهم و خيلائهم يحادّون اللّه و رسوله، و هم ألف رجل، في سوابغ الحديد و العدّة الكاملة و الخيول المسوّمة، و فيهم أبو جهل رئيس المشركين، و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في ثلاثمائة و ثلاثة عشر رجلا من أصحابه، عدد أصحاب طالوت الذين عبروا معه النهر يوم جالوت، و كان معهم فرسان، و قيل: ما كان معهم إلاّ فرس واحد، فنصر

______________________________

 (1) سورة الأعراف: الآية 4.

 (2) المصباح المنير: ص 534.

233
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 197

.......... اللّه رسوله و أصحابه، و هزم الشرك و أحزابه، و لذلك قال اللّه تعالى ممتنّا على المسلمين: «وَ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَ أَنْتُمْ أَذِلَّةٌ» «1»، و اتّفق أهل السِير و التفسير أنّه تعالى أمدّ نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و المسلمين بالملائكة يوم بدر، و أنّهم قاتلوا الكفّار «2».

و عن ابن عبّاس: أنّه لم يقاتل الملائكة سوى يوم بدر، و فيما سواه كانوا عددا و مددا، لا يقاتلون و لا يضربون‏ «3».

و لعلّ هذا هو السّر في تخصيصه عليه السّلام يوم بدر بالذكر في الدعاء، مع كونه أعظم غزوات الإسلام، و به كان بدء إذلال المشركين و إعزاز المسلمين.

و أمّا على القول بأنّ الإمداد بالملائكة لم يكن في سائر الحروب و إنّما كان في يوم بدر، فتخصيصه بالذكر ظاهر.

و اختلفوا في عدد المدد من الملائكة يوم بدر فقيل: كانوا ألفا، لقوله تعالى في سورة الأنفال: «فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ» «4» و قيل: ثلاثة آلاف، لقوله تعالى في سورة آل عمران: «إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَ لَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ» «5».

و قيل: كانوا خمسة آلاف، لقوله تعالى بعد الآية المذكورة: «بَلى‏ إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا وَ يَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ» «6»، و ذلك أنّهم أمدّوا أوّلا بألف، ثمّ زيد الفان فصاروا ثلاثة، ثمّ زيد

______________________________

 (1) سورة آل عمران: الآية 123.

 (2) تفسير علىّ بن إبراهيم: ج 1 ص 266، و التفسير الكبير: للفخر الرازي: ج 8 ص 213.

 (3) التفسير الكبير للفخر الرازي: ج 8 ص 213.

 (4) سورة الأنفال: الآية 9.

 (5) سورة آل عمران: الآية 124.

 (6) سورة آل عمران: الآية 125.

234
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 197

.......... ألفان فصاروا خمسة. و قيل: كانوا ثمانية آلاف، أمدّوا أوّلا بثلاثة، ثمّ أمدّوا بخمسة فصاروا ثمانية. و قيل: كانوا تسعة آلاف باعتبار الألف الأوّل.

و قيل: إنّ الملائكة لم تقاتل في بدر و لا في غيره، و إنّما كانوا يُكثرون السواد، و يثبّتون المسلمين بإشعارهم بأنّ النصر لهم، و يلقون الرعب في قلوب المشركين، و إلاّ فلو قاتل واحد من الملائكة جميع البشر لم يثبتوا، و لاستأصلهم بأجمعهم ببعض قوّته، فإنّ جبرئيل رفع مدائن قوم لوط- كما جاء في الخبر على خافقة من جناحه حتّى بلغ بها إلى السماء، ثمّ قلبها فجعل عاليها سافلها «1»، فما عسى أن يبلغ قوّة ألف رجل من قريش، ليحتاج في مقاومتها و حربها إلى ألف من ملائكة السماء أو أكثر؟

مضافين إلى ثلاثمائة و ثلاثة عشر رجلا من بني آدم.

و أمّا قوله تعالى: «فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَ اضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ» «2» فأمر للمسلمين لا للملائكة.

و لقائل أن يقول: قد كان اللّه عزّ و جلّ قادرا على تكثير سواد المسلمين في أعين المشركين، و أن يثبّت قلوبهم، و يلقي الرعب في قلوب المشركين، من غير حاجة إلى إنزال الملائكة. فإن قيل: لعلّ في إنزالهم لطفا للمكلّفين، قلنا: و لعلّ في قتالهم و محاربتهم لطفا لهم أيضا، فلا وجه لإنكار قتالهم.

و زاد أبو بكر الأصمّ على هذا القول، فأنكر إمداد الملائكة مطلقا «3» مع أنّ نصّ القرآن المجيد ناطق به، و أورد في ذلك شبها لا يليق بنا ذكرها، و هي ممّا وسوس بها الشيطان الرجيم في صدره، و نفث بها على لسانه، نعوذ باللّه من الحور بعد الكور.

______________________________

 (1) مجمع البيان: ج 3- 4 ص 445- 446.

 (2) سورة الأنفال: الآية 12.

 (3) التفسير الكبير للفخر الرازي: ج 8 ص 213.

235
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 197

.......... هذا، و قد ورد في الأخبار ما يقرب من التواتر في إنزال الملائكة و قتالهم يوم بدر.

روى عليّ بن إبراهيم في تفسيره: أنّ قريشا لمّا أقبلت يوم بدر، رفع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يده إلى السماء، فقال: يا ربّ إن تهلك هذه العصابة لم تعبد، و إن شئت لا تعبد لا تعبد، ثمّ أصابه الغشي فسرى عنه و هو يسلت العرق عن وجهه، و هو يقول: هذا جبرئيل قد أتاكم في ألف من الملائكة مردفين، فنظروا فإذا بسحابة سوداء فيها برق لائح قد وقعت على عسكر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و قائل يقول: أقدم حيزوم، أقدم حيزوم، و سمعوا قعقعة السلاح من الجوّ «1».

و روى ثقة الإسلام بسنده عن أبي جعفر عليه السّلام، قال: كانت على الملائكة العمائم البيض المرسلة يوم بدر «2».

و حكى الواقدي قال: كان أبو أسيد الساعدي يحدّث عن رجل من بني غفار حدّثه، قال: أقبلت أنا و ابن عمّ لي يوم بدر حتّى صعدنا على جبل، و نحن يومئذ على الشرك، ننظر الوقعة على من تكون الدبرة فننتهب مع من ينتهب، إذ رأيت سحابة دنت منّا، فسمعت منها حمحمة الخيل و قعقعة الحديد، و سمعت قائلا يقول: أقدم حيزوم، فأمّا ابن عمّي فانكشف قناع قلبه فمات، و أمّا أنا فكدت أهلك، فتماسكت و اتبعت بصري حيث تذهب السحابة، فجاءت إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أصحابه، ثمّ رجعت و ليس فيها شي‏ء ممّا كنت أسمع‏ «3».

قال الواقدي: و حدّثني عبد الرحمن بن الحارث عن أبيه عن جدّه عبيد بن أبي عبيد عن أبي رهم الغفاري عن ابن عمّه، قال: بينا أنا و ابن عمّ لي على ماء، فلمّا

______________________________

 (1) تفسير القمي: ج 1 ص 266.

 (2) الكافي: ج 6 ص 461 ح 3 باب العمائم.

 (3) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 14 ص 159.

236
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 197

.......... رأينا قلّة من مع محمّد صلّى اللّه عليه و آله و كثرة قريش، قلنا: إذا التقت الفئتان عمدنا إلى عسكر محمّد و أصحابه و انتهبنا، فانطلقنا نحو المجنبة اليسرى من أصحاب محمّد و نحن نقول: هؤلاء ربع قريش، فبينا نحن نمشي في الميسرة إذا جاءت سحابة فغشيتنا، فرفعنا أبصارنا لها فسمعنا أصوات الرجال و السلاح، و سمعنا قائلا يقول لفرسه: أقدم حيزوم، و سمعناهم يقولون: رويدا بتّام آخركم، فنزلوا على ميمنة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، ثمّ جاءت أخرى مثل تلك فكانت مع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فنظرنا إلى أصحاب محمّد صلّى اللّه عليه و آله و إذا هم على الضعف من قريش، فمات ابن عمّي، و أمّا أنا فتماسكت و أخبرت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بذلك و أسلمت‏ «1».

و روى عبيد بن عمير قال: لمّا رجعت قريش من أحد، جعلوا يتحدّثون في أنديتهم بما ظفروا، و يقولون: لم نر الخيل البلق و لا الرجال البيض الذين كنّا نراهم يوم بدر «2».

و روي عن سهيل بن عمرو قال: لقد رأيت يوم بدر رجالا بيضا على خيل بلق بين السماء و الأرض معلّمين يقتلون و يأسرون‏ «3».

رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين ؛ ج‏4 ؛ ص237

 

ل الواقدي: و كان أبو اسيد الساعدي يحدّث بعد أن ذهب بصره، و يقول:

لو كنت معكم الآن ببدر و كان معي بصري، لأريتكم الشعب الذي خرجت منه الملائكة، لا أشكّ فيه و لا أمتري‏ «4».

و عن أبي رافع مولى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، قال: كان أبو لهب قد تخلّف‏

______________________________

 (1) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 14 ص 160.

 (2) تفسير روح المعاني: ج 4 ص 47.

 (3) البداية و النهاية: ج 3 ص 281.

 (4) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 14 ص 159.

237
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 197

.......... عن بدر و بعث مكانه العاص بن هشام، فلمّا قدم أبو سفيان بن الحرث بن عبد المطّلب، قال له أبو لهب: هلّم إليّ يا ابن أخي فعندك الخبر، فجلس إليه و الناس قيام عليه، فقال: يا بن أخي أخبرني كيف كان أمر الناس؟ فقال: لا شي‏ء و اللّه إن كنّا إلاّ أن لقيناهم فمنحناهم أكتافنا يقتلون و يأسرون، و أيم اللّه مع ذلك ما لمت الناس، لقينا رجالا بيضا على خيل بلق بين السماء و الأرض، ما تلبق شيئا و لا يقوم لها شي‏ء قال أبو رافع: فقلت: إنّ تلك الملائكة، فرفع أبو لهب يده فضرب وجهي ضربة شديدة «1».

و قال ابن الأنباري: كانت الملائكة لا تعلم كيف تقتل الآدميّين، فعلّمهم اللّه بقوله: «فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ» أي: على الرءوس، «وَ اضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ» «2».

قال ابن عطيّة: هو كلّ مفصل‏ «3».

قال السهيلي: جاء في التفسير: أنّه ما وقعت ضربة إلاّ في رأس أو مفصل، و كانوا يعرفون قتلى الملائكة من قتلاهم بآثار سود في الأعناق و البنان‏ «4».

و عن إمامة بن سهل بن حنيف قال: قال لي أبي: لقد رأيتنا يوم بدر، و إنّ أحدنا ليشير بسيفه إلى المشرك، فيقع رأسه عن جسده قبل أن يصل إليه السيف‏ «5».

و قال عكرمة: كان يومئذ ينذر رأس الرجل لا يدرى من ضربه‏ «6».

و روي: أنّ رجلا من الأنصار اتّبع كافرا ليقتله، فقبل أن يصل إليه سمع صوتا يقول: إقدم حيزوم، فرأى الكافر الذي قدّامه وقع صريعا، و قد شقّ صدره و جرح وجهه و انكسر أنفه، فجاء الأنصاري إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أخبره بما رآه، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: صدقت فهو من مدد السماء «7».

______________________________

 (1) مجمع البيان: ج 3- 4: ص 528 مع اختلاف يسير في العبارة.

 (2) تاريخ الخميس: ج 1 ص 383.

 (3) تاريخ الخميس: ج 1 ص 383.

 (4) تاريخ الخميس: ج 1 ص 383.

 (5) الدر المنثور: ج 3 ص 171.

 (6) تاريخ الخميس: ج 1 ص 383.

 (7) تاريخ الخميس: ج 1 ص 383.

238
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 197

.......... قال الواقدي: و كان عبد الرحمن بن عوف يقول: رأيت يوم بدر رجلين، أحدهما عن يمين النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و الآخر عن يساره، يقاتلان أشدّ القتال‏ «1».

و روى أبو دبرة بن دينار قال: جئت يوم بدر بثلاثة أرؤس فوضعتها بين يدي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فقلت يا رسول اللّه: أمّا اثنان فقتلتهما، و أمّا الثالث فإنّي رأيت رجلا طويلا أبيض ضربه ضربة فتدهده أمامه فأخذت رأسه، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ذاك فلان من الملائكة «2».

قال الواقدي: و حدّثني موسى بن محمّد عن أبيه قال: كان السائب بن أبي حبيش الأسدي يحدّث في زمن عمر بن الخطّاب، فيقول: و اللّه ما أسرني يوم بدر أحد من الناس، فيقال: فمن؟ فيقول: لمّا انهزمت قريش انهزمت معها، فيدركني رجل أبيض طويل على فرس أبلق بين السماء و الأرض فأوثقني رباطا، و جاء عبد الرحمن بن عوف فوجدني مربوطا، و كان عبد الرحمن ينادي في العسكر: من أسر هذا؟

فليس أحد يزعم أنّه أسرني، حتّى انته بي إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فقال لي رسول اللّه: يا بن أبي حبيش من أسرك؟ قلت: لا أعرفه، و كرهت أن أخبره بالذي رأيت، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أسره ملك من الملائكة كريم، اذهب يا بن عوف بأسيرك، فذهب بي عبد الرحمن، قال السائب: و ما زالت تلك الكلمة أحفظها، و تأخّر إسلامي، حتّى كان منه ما كان‏ «3».

و الأخبار في هذا المعنى كثيرة جدّا، و إنكار كلّ ذلك ضعف في الدين و وهن في اليقين.

 [ 816] و جملة قوله عليه السّلام: «تقطع به دابرهم» في محلّ جرّ على أنّها صفة أخرى ل

______________________________

 (1) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 14 ص 161.

 (2) البداية و النهاية: ج 3 ص 281.

 (3) البداية و النهاية: ج 3 ص 281.

239
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 197

.......... «بأس»، و يجوز أن تكون في محلّ نصب على أنّها صفة أخرى ل «جندا» فالضمير في «به» على الأوّل راجع إلى البأس، و على الثاني عائد إلى الجند. و قول بعضهم: إنّها في محلّ نصب على أنّها مفعول مطلق ل «ابعث»، نائب مناب بعثا الذي عاد الضمير في «به» إليه، خبط صريح، فإن الجملة لا تقع مفعولا مطلقا إلاّ في باب الحكاية بالقول أو مرادفه على رأي ابن الحاجب‏ «1»، خلافا للجمهور في نحو:

 «قال إنّي عبد اللّه» و قد تقدّم بيان ذلك في شرح السند.

و دابر القوم: آخرهم، قال الجوهري: قطع اللّه دابرهم أي: آخر من بقي منهم‏ «2».

و قال الأصمعي: الدابر: الأصل، يقال: قطع اللّه دابرهم أي: أصلهم‏ «3».

و قال الزمخشري: الدابر: الآخر، فاعل من دبر: إذا أدبر، و قطع الدابر عبارة عن الاستئصال بحيث لم يترك منهم أحد «4».

و حصدت الزرع بالحاء و الصاد المهملتين حصدا- من باب ضرب و قتل-:

قطعته، فهو محصود و حصيد، و حصدهم بالسيف: استأصلهم، و الشوكة: شدّة البأس و القوّة في السلاح، و قال الزّمخشري: الشوكة: الحدّة، مستعارة من واحدة الشوك، و يقال: شوك القنا لشباها «5».

و هو حدّها، أي: تستأصل به حدّتهم و شدّة بأسهم و قوّتهم.

و في نسخة: «تخضد به شوكتهم» بالخاء و الضاد المعجمتين، من خضدت العود رطبا أو يابسا- من باب ضرب- أي: قطعته.

و فرّقت الشي‏ء تفريقا: بدّدته تبديدا.

و المراد بعددهم: مقدار ما يعدّ منهم و مبلغه، و اللّه أعلم+.

______________________________

 (1) لم نعثر عليه.

 (2) الصحاح: ج 2 ص 653.

 (3) لسان العرب: ج 4 ص 268.

 (4) تفسير الكشاف: ج 2 ص 199.

 (5) تفسير الكشاف: ج 2 ص 199.

240
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 197

اللَّهُمَّ وَ أمْزُج مِياهَهُمْ بِالوَباءِ، وَ أطعِمَتَهُمْ بِالأدْواءِ، وَ ارْمِ بِلادَهُمْ بِالخُسُوفٍ، وَ ألِحَّ عَلَيْها بِالقُذُوفِ، وَ افْرَعْهَا بِالمُحُولِ، وَ اجْعَلْ مِيرَهُمْ في أَحَصِّ أرْضِكَ وَ أبْعَدِها عَنْهُمْ، وَ امْنَعْ حُصُونَها مِنْهُمْ، أصبْهُمْ بِالْجُوعِ المُقيم، وَ السقْم الأليم.

 [ 817] مزجت الشي‏ء بالشي‏ء مزجا- من باب قتل-: خلطته، و مزاج الشراب: ما يمزج به.

و المياه: جمع ماء، لأنّ أصله ماه، و قيل: موه، تحرّكت الواو و انفتح ما قبلها فقلبت ألفا، و قلبت الهاء همزة لاجتماعها مع الألف و هما حرفان حلقيّان، و وقوعهما طرفا، و لهذا يردّ إلى أصله في الجمع و التصغير، فيقال: مياه، و مويه، و يجمع على أمواه أيضا مثل باب و أبواب، و ربّما قالوا: مياء و أمواء بالهمز على لفظ الواحد «1»، كما وقع في نسخة ابن إدريس: «و امزج مياءهم».

و الوباء بالهمزة يمدّ و يقصّر قيل: هو مرض عام، و قيل: موت ذريع، و قيل:

هو الطاعون.

و قال الشيخ البصير في النزهة المبهجة: الوباء: حقيقته تغيّر الهواء بالطوارئ العلويّة كاجتماع كواكب ذات أشعّة، و السفليّة كالملاحم و انفتاح القبور و صعود أبخرة فاسدة، و أسبابه مع ما ذكر تغيّر فصول الزمان و العناصر و انقلاب الكائنات، و علاماته الحمّى و الجدري و النزلة و الحكّة و الأورام، و منه الطاعون و هو قراح يقع غالبا في المراق السخيفة كخلف الاذن و الإبط و المغابن‏ «2»، انته.

و الأطعمة: جمع طعام، و المراد به هنا معناه العرفي، فإنّه في العرف اسم لما يؤكل، مثل الشراب اسم لما يشرب، و يقع في اللغة على ما يساغ حتّى الماء و ذوق الشي‏ء.

______________________________

 (1) و في نسخة «الواو».

 (2) لا يوجد لدينا هذا الكتاب.

241
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 197

.......... و في التنزيل‏ «وَ مَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي» «1»، و قال عليه السّلام في زمزم: إنّها طعام طعم‏ «2» بالضمّ أي: يشبع منه الإنسان.

و الأدواء: جمع داء، و هو المرض.

قال الفيومي: و هو مصدر داء الرجل و العضو يداء من باب تعب‏ «3».

و خسف المكان خسفا و خسوفا- من باب ضرب-: غار في الأرض، و خسفه اللّه، يتعدّى و لا يتعدّى، قال تعالى: «فَخَسَفْنا بِهِ وَ بِدارِهِ الْأَرْضَ» «4».

و معنى رميها بالخسوف: أن يخسف بها، كما يقال: رماه اللّه بالعلّة أي: أعله، و أصله في الأعيان و فيما يكون ذا صلابة منها كالحجر و السهم و العصا، ثمّ استعمل في الأقوال و المعاني، فقيل: رماه بفاحشة، و رماه بداهية، إيذانا بشدّة التأثير و الإيلام، و هي استعارة تبعيّة. و خفي هذا المعنى على بعض المترجمين، فظنّ أنّ الرمي لا يستعمل إلاّ في السهم، فقال: شبّه الخسوف بالسّهم فأثبت له الرمي، أي: ارم بلادهم بسهم الخسوف، و هو جهل منه بمصطلحات لغة العرب.

 [ 818] و ألحّ الرجل على الشي‏ء إلحاحا: دام عليه و لزمه مواظبا.

و القذوف: جمع قذف، و هي الرمي بالحجارة.

و قال الطيّبي في شرح المشكاة في حديث: فإنّه يكون بها خسف في الأرض و قذف، أي: ريح شديد بارد، أو قذف الأرض الموتى بعد الدفن، أو رمي بأمطار الأحجار «5»، انته.

و معنى ألحّ عليها بالقذوف أي: اجعل القذوف عليها دائمة، مواظبة لها، لا تنقطع عنها.

______________________________

 (1) سورة البقرة: الآية 249.

 (2) تهذيب الأسماء و اللغات: الجزء الأوّل من القسم الثاني ص 139.

 (3) المصباح المنير: ص 278.

 (4) سورة القصص: الآية 81.

 (5) لا يوجد لدينا هذا الكتاب.

242
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 197

.......... و فرعت رأسه بالسيف و العصا بالفاء و الراء و العين المهملتين فرعا- من باب نفع-: علوته ضربا، و الفرس باللجام: كبحته أي: جذبت لجامه ليقف.

و المحول: جمع محل، و هو الجدب و انقطاع المطر، و المراد بفرعها بالمحول: القضاء عليها بأنواع الجدب و القحط و انقطاع الأمطار.

و عبّر عن ذلك بالفرع على طريق الاستعارة التبعيّة، سواء أخذناه من فرع الرأس بالسيف، أو من فرع الفرس باللجام.

و وجه الشبه على الأوّل شدّة الإصابة، لأنّه أراد أن يلحق شدّة إصابة بلادهم بالمحول، بشدّة إصابة الرأس بالسيف و العصا، و يجعله مساويا له و محسوبا في عداده.

و على الثاني: شدّة الكفّ و المنع، فيكون قد شبّه القضاء على بلادهم بمنعها عن الإنبات و الخصب بالمحول، بقذع الفرس و كبحه عن المشي باللجام في شدّة الكفّ و المنع.

و لا يحسن جعل ذلك من باب الاستعارة المكنيّة، إذ لا يحسن ابتداء تشبيه البلاد بالرأس أو الفرس، و لا المحول بالسيف و العصا أو اللجام، نعم يلاحظ التشبيه في هذه الأمور تبعا لذلك التشبيه في مصدر الفعل، فيجب أن تكون الاستعارة هنا تبعيّة لا غير.

و في نسخة ابن إدريس رحمه اللّه: «و أفرغها» على صيغة فعل الأمر، من الإفراغ بالغين المعجمة بمعنى: الإخلاء، أي: اجعلها فارغة خالية من الزرع بسبب المحول.

و المير: جمع ميرة بالكسر، و هي الطعام الذي يجلب من بلد إلى بلد.

و الحصّ: في الأصل حلق الشعر، و منه الحاصّة، و هو داء يتناثر منه شعر الرأس، و يقال: حصّت البيضة رأسه: إذا أذهبت شعره، و انحصّ شعره انحصاصا أي: تناثر و ذهب، و رجل أحصّ بين الحصص أي: قليل شعر الرأس، ثمّ استعير في الجدب و قلّة الخير و عدم النبات، و قيل: سنة حصّاء أي: جرداء مجدبة لا خير فيها، و منه قوله‏

243
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 197

.......... عليه السّلام: «في أحصّ أرضك» أي: أكثرها محصوصيّة على غير قياس، من حصّ الجدب الأرض: إذا أذهب نباتها، استعارة من حصّ الشعر كما ذكرنا.

و استعمال أفعل التفضيل في المفعول و إن كان غير قياس، إلاّ أنّ المسموع منه كثير، نحو: أعذر و أشهر و ألوم و أشغل، أي: أكثر معذوريّة و مشهوريّة و ملوميّة و مشغوليّة، وقوعه في كلامه عليه السّلام لا يحتاج فيه إلى السماع من غيره قطعا، فإنّه عليه السّلام أفصح العرب في زمانه.

و يجوز أن يكون المعنى: أكثرها انحصاصا، فيكون مبنيّا للفاعل من انحصّ، على ما نقل عن الأخفش و المبرّد، من جواز بناء أفعل التفضيل من جميع الثلاثي المزيد فيه كانفعل و استفعل و نحوهما قياسا، و يكون وقوعه في كلامه عليه السّلام حجة لهما.

و أبعد: أفعل التفضيل من بعد الشي‏ء بعدا أي: شطّ و نأى. و المعنى اجعل ميرهم في أبعد أرضك منهم، حتّى لا يستميروها متى شاءوا و لا تتواتر عليهم.

و في بعض النسخ: «و أبعدها» بفتح الهمزة و كسر العين و سكون الدال، على صيغة فعل الأمر من الإبعاد، فيكون الضمير فيه عائدا إلى ميرهم، أي: و اجعل ميرهم بعيدة.

 [ 819] و أمنع: اسم تفضيل من منع الحصن مناعة على وزن ضخم ضخامة. أي صار منيعا.

و الحصون: جمع حصن بالكسر، و هو كلّ موضع حصين لا يوصل إلى جوفه، أي: و اجعل ميرهم في أشدّ حصون أرضك مناعة، حتّى لا يقدروا على الوصول إليها.

و في نسخة: «و امنع حصونها منهم» على صيغة فعل الأمر.

و منع الحصون: من منعت الشي‏ء: إذا حجرته عمّن يريده، و منه: فلان يمنع‏

244
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 197

.......... الجار أي: يحميه من أن يراد بسوء.

و الضمير في «حصونها» على هذه النسخة عائد إلى الأرض، و المعنى: و امنع حصون أرضك منهم كيلا يتحصّنوا بها، أو كيلا يقدروا على فتحها و أخذها.

و جملة قوله عليه السّلام: «أصبهم بالجوع المقيم» مؤكّدة لمعنى ما قبلها، و لذلك جاء بها مفصولة من غير عاطف لكمال الاتّصال، إذ لا مغايرة تفتقر إلى الربط بالعاطف.

و المراد بالجوع: الجدب و القحط مجازا، من باب إطلاق المسبّب على السبب، أي: أصبهم بقحط يتسبّب عنه الجوع، و منه قوله تعالى: «لا يَجِدُونَ نِكاحاً» «1» أي: مؤنة من مهر و نفقة و ما لا بدّ للمتزوّج منه.

و المقيم: الدائم، من أقام بالمكان: دام، و منه: «عَذابٌ مُقِيمٌ»+ «2»، قال المفسّرون: أي: دائم ثابت لا يزول و لا يحول.

و السقم بالضمّ و السكون و بفتحتين: المرض.

و قال الفيومي: سقم سقما- من باب تعب-: طال مرضه، و سقم سقما- من باب قرب-: مثله، فهو سقيم‏ «3».

و الأليم قيل: فعيل بمعنى مفعل بفتح العين لأنّه من ألم يؤلم إيلاما فهو مؤلم، و ألم هو ألما- من باب تعب- فهو أليم، كما تقول: أوجعه يوجعه إيجاعا فهو موجع، و وجع هو وجعا فهو وجيع. وصف به السقم للمبالغة كما وصف اللّه به العذاب في قوله:

 «وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ»+ «4»، كما وصف الشاعر الضرب بالوجيع في قوله:

تحية بينهم ضرب وجيع‏

 

 

 

______________________________

 (1) سورة النور: الآية 33.

 (2) سورة المائدة: الآية 37.

 (3) المصباح المنير: ص 381.

 (4) سورة النحل: الآية 63.

245
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 197

اللَّهُمَّ وَ أيُّما غازٍ غَزاهُمْ مِنْ أهْلِ مِلَّتِكَ، أوْ مُجاهِدٍ جاهَدَهُمْ مِنْ أتْباعِ سُنَّتِكَ، لِيَكُونَ دينُكَ الأَعْلى‏، وَ حِزْبُكَ الأَقْوى‏، وَ حَظُّكَ الأَوْفى‏، فَلَقِّهِ الْيُسْرَ، وَ هَيّئ لَهُ الأَمْرَ، وَ تَوَلَّهُ بِالنُجْحِ، وَ تَخَيَّرْ لَهُ الأَصْحابَ، وَ اسْتَقْوِ لَهُ الظَهْرَ، وَ أسْبِغْ عَلَيْهِ فِي النَّفَقَةِ، وَ مَتِّعْهُ بِالنِّشاطِ، وَ أطْفِ عَنْهُ حَرارَةَ الشَّوْقِ، وَ أجِرْهُ مِنْ غَمِّ الْوَحْشَةِ، وَ أنْسِهِ ذِكْرَ الأَهْلِ وَ الْوَلَدِ، وَ أثُرْ لَهُ حُسْنَ النِّيَّةِ، وَ تَوَلَّهُ بِالْعافِيَةِ، وَ أصْحِبْهُ السَّلامَةَ، وَ أعْفِهِ مِنَ الْجُبْنِ، وَ ألْهِمْهُ الجُرْأةَ، وَ ارْزُقْهُ الشِّدَّةَ، وَ أيِّدْهُ بِالنُصْرَةِ، وَ عَلِّمْهُ السِّيَرَ وَ السُّنَنَ، وَ سَدِّدْهُ في الْحُكْمِ، وَ اعْزِلْ عَنْهُ الرِّياءَ، وَ خَلِّصْهُ مِنَ السُّمْعَةِ، وَ اجْعَلْ فِكْرَهُ وَ ذِكْرَهُ وَ ظَعْنَهُ وَ إقامَتَهُ فيكَ وَ لَكَ.

و هو على الإسناد المجازي نحو: جدّ جدّه، فإنّ الألم و الوجع حقيقة للمولم المضروب كما أنّ الجدّ للجادّ.

و قيل: هو فعيل بمعنى مفعل بكسر العين، كالسميع بمعنى المسمع و الحريز بمعنى لمحرز و ضعّف: بأنّ فعيلا بمعنى مفعل لم يثبت في اللغة، و إن ورد فشاذّ لا يقاس عليه، و سيأتي تمام الكلام على ذلك في الروضة السابعة و الأربعين، في شرح دعائه عليه السّلام في يوم عرفة+.

 [ 820] الواو: عاطفة للإشعار بأنّ ما بعدها من تتمّة الدعاء الأوّل.

و أي: اسم شرط، بدليل الفاء الرابطة: في الجواب.

و ما: مزيدة لتأكيد إبهام أي و شياعها، و قيل: نكرة، و غاز: بدل منها.

و ارتفاع «أيّما» على الابتداء، و اختلف في الخبر، فقيل: هو جملة الشرط، لعدم خلوّها من الضمير في حال، بخلاف جملة الجواب في نحو: أيّهم قام قمت، و كلمة الشرط إذا ارتفع على الابتداء فلا بدّ له من ضمير، فيتعيّن كون الخبر جملة الشرط دون جملة الجواب، و هو اختيار الأندلسي و محقّقي المتأخّرين، و قيل: هو جملة الشرط

246
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 197

.......... و جملة الجواب معا، لصيرورتهما بسبب كلمة الشرط كالجملة الواحدة، و قيل: هو جملة الجواب فقط، و قيل: اسم الشرط مبتدأ لا خبر له.

و ما وقع لبعض المبتدئين من أنّ «أيّ» من «أيّما» موصولة، و جملة «غزاهم» صلتها، و الفاء في قوله: «فلقّه» رابطة، لشبه الشرط بشبه الجواب، غلط صريح، لأنّ «أيّما» الموصولة لا تضاف إلى نكرة كما نصّ عليه الجمهور، و هي هنا مضافة إليها فتعيّن شرطيّتها.

و تجويز بعضهم إضافة الموصولة إلى النكرة نحو: يعجبني أيّ رجل عندك، مردود بأنّها حينئذ نكرة، و الموصولات معارف.

و قوله: «غزاهم و جاهدهم» أي: أراد غزوهم و جهادهم، من باب التعبير بالفعل عن إرادته مجازا، نحو: «فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ» «1»، و «إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ» «2»، و على هذا فالمراد بالغازي و المجاهد مريد الغزو و الجهاد مجازا أيضا، من باب تسمية الشي‏ء باسم ما يئول إليه نحو «أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً» «3».

و الظرف من قوله: «من أهل ملّتك»: متعلّق بمحذوف وقع صفة لغاز، أي:

كائن من أهل ملّتك.

و الملّة بالكسر: ما شرع اللّه لعباده على ألسنة أنبيائه عليهم السّلام، و تستعمل في جملة الشرائع لا في آحادها، و قيل: الملّة و الدّين يتّحدان بالذات و يختلفان بالاعتبار، فإنّ الشريعة من حيث يجتمع عليها تسمّى ملّة، و من حيث إنّها يطاع بها تسمّى دينا.

و قوله: «أو مجاهد» معطوف على غاز، و إيثار «أو» الفارقة على الواو الجامعة،

______________________________

 (1) سورة النحل: الآية 98.

 (2) سورة المائدة: الآية 6.

 (3) سورة يوسف: الآية 36.

247
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 197

.......... للاحتراز عن توهّم اتّحاد الغازي و المجاهد، إذ كان المجاهد أعمّ من الغازي، لأنّ الغزو إنّما يكون في بلاد العدو و الجهاد مطلق، فكلّ غاز مجاهد دون العكس.

و الجهاد لغة: قتال العدوّ، من جاهدته مجاهدة و جهادا: إذا حملت نفسك على المشقّة في قتاله، كذا قيل، و الظاهر أنّ المفاعلة فيه على بابها، لأنّ كلّ واحد من الخصمين يجهد في الغلبة على صاحبه، و خصّ في الشرع بقتال الكفّار و نحوهم في طاعة اللّه، و هو أقسام:

جهاد المشركين ابتداء لدعائهم إلى الإسلام.

و جهاد من يدهم المسلمين من الكفّار، بحيث يخافون استيلاءهم على بلادهم و أخذ ما لهم و ما أشبهه، و إن قلّ.

و جهاد البغاة على الإمام. و جهاد من يريد قتل نفس محرّمة أو أخذ مال أو سبي حريم مطلقا. و المراد به هنا القسمان الأوّلان.

و الأتباع: جمع تبع بفتحتين.

قال الفيومي: المصلّي تبع لإمامه و الناس تبع له، يكون واحدا و جمعا، و يجوز جمعه على أتباع كسبب و أسباب‏ «1»، انته.

و هو في الأصل من تبع زيد عمروا تبعا- من باب تعب-: إذا مشى خلفه، ثمّ أطلق على مطلق الائتمام بالشي‏ء و الاقتداء به فعلا و اعتقادا، و منه: تبع القرآن أي:

ائتمّ به و عمل بما فيه، و هو المراد هنا.

و سنّة اللّه: طريقته التي أمر بسلوكها و اتّباعها.

 [ 821] و قوله: «ليكون» ظرف لغو متعلّق بغزاهم و جاهدهم على سبيل التنازع.

و الأعلى: اسم تفضيل من علا يعلو بمعنى: ارتفع.

______________________________

 (1) المصباح المنير: ص 99.

248
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 197

.......... و قال الفارابي‏ «1» و الجوهري‏ «2»: علا المكان يعلو علوا- من باب قعد- و علا في الشرف يعلى على- من باب علم- و المراد به هنا: الارتفاع في الشرف و القدرة، أو هو من علا فلان فلانا أي: غلبه و قهره، كقوله تعالى: «لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى‏» «3» أي: الغالب الظافر.

و تعريفه بلام الجنس لإفادة القصر، أي: ليكون التفضيل في العلوّ مقصورا على دينك لا يتجاوزه، و صورة التفضيل لمجرّد التأكيد، إذ لا علوّ و لا فضل لغير دينه تعالى حقيقة.

و الحزب بالكسر: الطائفة من الناس، و حزب الرجل: جنده و أصحابه الذين على رأيه، و حزب اللّه: أنصار دينه و عباده المتّقون. و هو اسم جمع لا واحد له من لفظه كالقوم و الرهط، و إذا أخبر عنه فقد يعتبر لفظه فيخبر عنه بالمفرد كعبارة الدعاء، و قد يعتبر معناه فيخبر عنه بالجمع كقوله تعالى: «فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ» «4».

و الأقوى: أفعل تفضيل من القوة، و المراد بها: كمال القدرة و شدّة الممانعة، و يقابلها الضعف.

و الحظّ يطلق على معنيين: أحدهما: الجدّ بالفتح بمعنى البخت و الإقبال في الدنيا، و هو أحد الوجوه التي فسّر بها قوله تعالى حكاية عن الجنّ: «وَ أَنَّهُ تَعالى‏ جَدُّ رَبِّنا» «5».

قال الزمخشري: هو استعارة من الجدّ الذي هو الدولة و البخت، لأنّ الملوك و الأغنياء هم المجدون‏ «6». و الثاني: النصيب، و هو الحصّة، و كلّ من المعنيين يصحّ إرادته هنا. فالأوّل على الاستعارة كما علمت، و الثاني على المجاز الذي‏

______________________________

 (1) لم نتحققه.

 (2) الصحاح للجوهري: ج 6، ص 2434.

 (3) سورة طه: الآية 68.

 (4) سورة المائدة: الآية 56.

 (5) سورة الجن: الآية 3.

 (6) تفسير الكشاف: ج 4 ص 623.

249
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 197

.......... يسمّى مجازا مرسلا، فيكون المراد: ما يختصّ به سبحانه من الأمور الدينيّة، لكون النصيب لازما لاختصاصه بصاحبه، و لا حاجة إلى دعوى الحذف و التقدير على أنّ المعنى: و حظّ أوليائك، كما زعمه بعضهم.

و الأوفى: اسم تفضيل من وفى الشي‏ء يفي: إذ تمّ و كمل.

و لقّاه الشي‏ء تلقية: أعطاه إيّاه، كأنّه جعله ملاقيا له.

و في القاموس: لقّاه الشي‏ء: ألقاه إليه‏ «1».

و يسر الأمر يسرا- من باب قرب-: سهل فهو يسير، و يسّره اللّه فتيسّر أي: سهّل عليه أموره، حتّى لا يعسر و لا يشقّ عليه شي‏ء منها.

و هيّأت الشي‏ء: أعددته و أصلحته و رتّبته، و أصل التهيئة إحداث هيئة الشي‏ء و هي صورته و شكله. و الأمر: الحال، و المراد به: ما هو عليه من إرادة الغزو و الجهاد، أو جميع أمره.

و تولاّه اللّه: كان له وليّا أي: قائما باموره.

و النجح: بالضمّ اسم من أنجح اللّه حاجته، إنجاحا: قضاها، و أنجح الرجل أيضا: قضيت له الحاجة، أي: كن له وليّا بقضاء حاجاته.

 [ 822] و تخيّرت الشي‏ء: اخترته و انتقيته، أي: قدّر له أن يصحب خير الأصحاب، و في الحديث: تخيّروا لنطفكم. قال الزمخشري في الفائق: أي: تكلّفوا طلب ما هو خير المناكح و أزكاها، و أبعدها من الخبث و الفجور «2».

و استقويت الدابّة: طلبت أن تكون قويّة، كما يقال: استكرم الشي‏ء أي: طلبه كريما، و فلان يستفره الدوابّ: يطلبها «3» فارهة أي: نشيطة خفيفة.

______________________________

 (1) القاموس المحيط: ج 4 ص 386.

 (2) الفائق في غريب الحديث: ج 1 ص 403.

 (3) «الف» يستقره ... بطلبها.

250
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 197

.......... و الظهر: المركوب من الدوابّ، سميّ بذلك مجازا، من باب تسمية الشي‏ء باسم بعضه كالرقبة للإنسان، و خصّ الظهر لأنّه موضع الركوب، و هو يطلق على الواحد من الدوابّ، و منه حديث: دخل ابنه عبد اللّه و ظهره في الدار «1»- أي: مركوبه- و هو يريد السفر للحجّ، و على الجمع منها، و منه حديث: أ تأذن لنا في نحر ظهرنا «2»، أي: ركابنا و رواحلنا.

و المعنى: اطلب له الظهر القويّ أي: يسّر له راحلة قويّة، و ما قيل: من أنّ معناه قوّ ظهره، أو كن له ظهيرا و مقوّيا، فيأباه الاستقواء.

و سبغت النعمة سبوغا- من باب قعد-: اتّسعت، و أسبغها اللّه: وسّعها و أفاضها، أي: وسّع عليه في النفقة، و منه حديث: أسبغوا لليتيم في النفقة «3».

قال ابن الأثير: أي: انفقوا عليه جميع ما يحتاج إليه، و وسّعوا عليه فيها «4».

و في: للظرفيّة المجازيّة، أي: أوقع الإسباغ في نفقته، كقوله تعالى: «وَ أَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي» «5»، و قد سبق بيانه.

و النفقة بفتحتين: اسم من الإنفاق، و هو صرف الدراهم فيما يحتاج إليه.

و متّعه اللّه بكذا تمتيعا و أمتعه به إمتاعا: أطال له الانتفاع به. و نشط في عمله ينشط- من باب تعب-: خفّ و أسرع، و هو نشيط.

و في الأساس: رجل نشيط: طيّب النفس للعمل‏ «6».

 [ 823] و طفئت النار تطفأ بالهمزة- من باب تعب- طفوء على فعول: خمدت، و أطفأتها إطفاء: أخمدتها.

______________________________

 (1) صحيح البخاري: ج 2 ص 191 و 192 باب 76، مسند أحمد بن حنبل ج 2 ص 4.

 (2) النهاية لابن الأثير: ج 3 ص 166.

 (3) النهاية لابن الأثير: ج 2 ص 338.

 (4) النهاية لابن الأثير: ج 2 ص 338.

 (5) سورة الأحقاف: الآية 15.

 (6) أساس البلاغة: ص 633.

251
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 197

.......... و المروي في جميع نسخ الصحيفة الشريفة: «أطف» بدون همز، و هو على تخفيف الهمزة بإبدالها حرف علّة و إلحاق الكلمة بالمعتلّ، و لذلك حذفت الياء علامة للجزم، و هي لغة قريش و أكثر أهل الحجاز، و عليها قراءة أبي جعفر من العشرة: «يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ» «1».

على وزن يعطوا، و أصله يطفئوا بهمزة مضمومة بعد الفاء- و هي قراءة ما عدا أبي جعفر-، فابدلت الهمزة ياء لمناسبتها كسرة ما قبلها، فاستثقلت الضمّة على الياء فحذفت، فالتقى ساكنان: هي و واو الجمع، فحذفت الياء لالتقاء الساكنين، الحاقا لها بالمعتل الأصلي.

قال ابن النّحاس: إذا كان حرف العلّة بدلا من همزة، جاز فيه وجهان:

حذف حرف العلّة مع الجازم و بقاؤه، و هذان الوجهان مبنيّان على أنّ إبدال حرف العلّة، هل هو بدل قياسي أو غير قياسي؟ فإن قلنا: إنّه بدل قياسي ثبت حرف العلّة مع الجازم، لأنّه همزة كما كان قبل البدل، و إن قلنا: إنّه بذل غير قياسي صار حرف العلّة متمحّضا و ليس همزة، فيحذف كما يحذف حرف العلّة المحض في يغزو و يخشى و يرمي‏ «2»، انته.

و لبعضهم تفصيل آخر في هذه المسألة، ذكرناه في شرح الصمدية فليرجع إليه‏ «3».

و ما تكلّفه بعضهم من جعل «أطفِ» في عبارة الدعاء من طفا الشي‏ء فوق الماء أي: لم يرسب فيه، أو من مرّ الظبي يطفو: إذا خفّ على الأرض و اشتدّ عدوه، أو من الطفاوة بمعنى: الشي‏ء اليسير، فهو من ضيق العطن و التعسّف الذي لا يليق‏

______________________________

 (1) سورة التوبة: الآية 32.

 (2) لم نعثر عليه.

 (3) الحدائق الندية: ص 427.

252
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 197

.......... بالمقام.

و الشوق قيل: هو اهتياج القلب إلى لقاء المحبوب، و قيل: وجدان لذّة المحبّة اللازم لفرط الإرادة الممزوج بألم المفارقة.

و المراد بحرارته: إمّا كلفته و شدّته، استعارة من حرارة النار بجامع الإضرار المزعج، و إمّا الحرارة المنبعثة عن القلب بسببه، فإنّه موجب لحركة النفس المثيرة للحرارة الغريزيّة، فتنبعث منتشرة لطلب الوصول إلى المحبوب و لقائه، كما بيّن في محلّه.

و المراد بإطفائه تعالى عنه حرارة الشوق: إلهامه الصبر على مفارقة من يحبّه و يشتاق إليه، لأنّ الشوق يحصل من أمور ثلاثة: الشعور بكمال المطلوب، و عدم القدرة على الوصول إليه، و قلّة الصبر على المفارقة.

و أجاره: أمنه و حفظه.

و الغمّ: ما يلحق الإنسان بسبب مكروه نزل به، حتّى كأنّه يغمى عليه.

و الوحشة: الخلوة و الانفراد عمّن يأنس به.

و أنسه ذكر الأهل و الولد أي: امح عن قلبه حضور أهله و ولده بباله، حتّى لا ينكل عن الغزو و الجهاد، أو لا تفتر همّته عمّا نواه.

 [ 824] و أثرت الحديث أثرا- من باب قتل-: نقلته و رويته، و لمّا كان نقل الحديث و روايته يستلزم الإعلام به و الإرشاد لمضمونه، عبّر عليه السّلام عن إرشاده إلى حسن النيّة و إعلامه بها بنقلها و روايتها له.

و لا شكّ أنّ المراد برواية حسن النيّة: رواية فضائلها، و ما ورد فيها من التأكيد في إخلاصها و الاعتناء بصدقها، فيكون قد شبّه الإعلام و الإرشاد بالنقل و الرواية في بيان تفاصيل فضلها، ثمّ أدخل الإعلام و الإرشاد في جنس الأثر الذي هو بمعنى الرواية بالتأويل المذكور، فاستعار له لفظ الأثر، ثم اشتقّ منه الفعل على طريق‏

253
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 197

.......... الاستعارة التبعيّة.

و المعنى: ألهمه و أرشده إلى فضائل حسن النيّة، حتّى تحسن و تصدق نيّته في الغزو و الجهاد و تخلص للّه تعالى.

و أمّا قول بعضهم: إنّ المعنى: و اختر له حسن النيّة، فلا يصحّ، لاتّفاق النسخ على ضبط «و اثر» بوصل الهمزة و ضمّ الثاء المثلّثة على وزن «اقتل»، و لو كان بمعنى «اختر» لضبط بقطع الهمزة و مدّها و كسر الثاء المثلّثة، على وزن «قاتل» بصيغة الأمر، من أثره إيثارا بمعنى: اختاره.

و أصله «أأثر» بتحقيق الهمزتين من باب أكرم، فليّنت الهمزة الثانية استثقالا لاجتماع الهمزتين، و لم يسمع أثره أثرا من باب قتل بمعنى أأثره إيثارا، فلا معدل عمّا ذكرناه.

و قوله: «بالعافية» أي: كن له وليّا بإلباسه العافية، و هي دفاع اللّه عن العبد.

و أصحبته الشي‏ء إصحابا: جعلته له صاحبا، أي: و اجعل السلامة، و هي الخلوص من الآفات، لازمة له لزوم الصاحب لصاحبه.

و أعفاه اللّه بمعنى: عافاه.

قال الجوهري: عافاه اللّه و أعفاه بمعنى و الاسم العافية «1».

و في القاموس: عافاه اللّه من المكروه معافاة و عافية: وهب له العافية من العلل و البلايا كأعفاه‏ «2».

و الجبن بالضمّ و بضمّتين-: رذيلة التفريط من فضيلة الشجاعة، يقال: جبن جبنا- على وزن قرب قربا- و جبانة فهو جبان أي: ضعيف القلب.

و ألهمه اللّه الخير: ألقاه في روعه.

______________________________

 (1) الصحاح: ج 6 ص 2432.

 (2) القاموس المحيط: ج 4 ص 364.

254
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 197

.......... و الجرأة بالضمّ: الشجاعة، و هي صرامة القلب على الأهوال و ربط الجأش في المخاوف، و هي فضيلة: بين التهوّر و الجبن، فالتهوّر: هو الثبات المذموم في الأمور المعطبة، و الجبن: هو الفزع المذموم من الأمور المعطبة.

و إنّما قدّم عليه السّلام سؤال عافيته من الجبن على سؤال إلهامه الجرأة، لأنّ التخلية مقدّمة على التحلية.

 [ 825] و ارزقه الشدّة أي: اعطه القوّة في البدن و النفس، ليكون شديدا على الكفّار كما قال تعالى: «أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ» «1».

و أيده اللّه تأييدا: قوّاه.

و النصرة بالضمّ: اسم من نصره على عدوّه نصرا- من باب قتل-: أعانه.

و في القاموس: النصرة: حسن المعونة «2».

و علّمه أي: وفّقه للتعليم بإعداده له بالفهم الثاقب، و السمع الواعي، و القلب المراعي، و تقييض للمعلم الناصح.

و التعليم حقيقة: عبارة عن فعل يترتّب عليه العلم غالبا، و تعليمه سبحانه لعباده يطلق على معنيين:

أحدهما: ما يكون بدون واسطة بشر، و ذلك كحال الأنبياء، فإنّه يفيض عليهم العلوم و المعارف إمّا بواسطة ملك، أو بدونه بأن يلقي في روعهم، أو يخلق فيهم علما ضروريّا بما يريد تعليمهم إيّاه، و منه: «وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها» «3»، و «وَ يُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ» «4»، و «عَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً» «5».

و الثاني: ما يكون بواسطة بشر، و ذلك كحال سائر الناس، و منه: «فَاذْكُرُوا اللَّهَ‏

______________________________

 (1) سورة الفتح: الآية 29.

 (2) القاموس المحيط: ج 2 ص 143.

 (3) سورة البقرة: الآية 31.

 (4) سورة آل عمران: الآية 48.

 (5) سورة الكهف: الآية 65.

255
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 197

.......... كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ» «1»، «وَ لا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ» «2».

و السير: جمع سيرة، و هي في اللغة الطريقة، يقال: سار في الناس سيرة حسنة أو قبيحة.

و المراد بالسير هنا: أحكام الجهاد، و يستفاد منه أنّ تغليب اسم السير على أحكام الجهاد اصطلاح قديم وقع في الصدر الأوّل، فإنّ الفقهاء إذا أطلقوا السير أرادوا بها المغازي.

قال الفيومي: و غلب اسم السير في ألسنة الفقهاء على المغازي‏ «3»، انته.

و لذلك ترجم بعضهم كتاب الجهاد بكتاب السير «4».

قال الرافعي: ترجموه بذلك لأنّ الأحكام المذكورة فيه متلقّاة من سير رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في غزواته، و مقصودهم به الكلام في الجهاد و أحكامه‏ «5».

و السنن: جمع سنة، و المراد بها: الطريقة المحمّدية فرضا أو ندبا عملا أو عقيدة، و قد تطلق السنن على المعلومات التي يتعلّق بها العمل.

قال الراغب: المعلوم العملي: ما يجب أن يعلم ثمّ يعمل، و يسمّى تارة السنن و السياسات، و تارة الشرايع، و تارة أحكام الشرع و مكارمه، و ذلك حكم العبادات، و حكم المعاملات، و حكم المطاعم، و حكم المناكح، و حكم المزاجر «6»، انته.

______________________________

 (1) سورة البقرة: الآية 239.

 (2) سورة البقرة: الآية 282.

 (3) المصباح المنير: ص 406.

 (4) تهذيب الأسماء و اللغات: الجزء الأوّل من القسم الثاني ص 159.

 (5) تهذيب الأسماء و اللغات: الجزء الأوّل من القسم الثاني ص 159 نقلا عن الرافعي.

 (6) الذريعة إلى مكارم الشريعة: ص 111.

256
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 197

.......... و سدّده أي: وفّقه للسداد، و هو الصواب في الحكم و هو القضاء.

 [ 826] و عزلت الشي‏ء عن غيره عزلا- من باب ضرب-: نحيّته عنه.

و الرياء: مصدر راءاه مراءاة و رياء: إذا رأى كلّ منهما الآخر، ثمّ غلب استعماله في القصد بالطاعة لأن يراه الناس، و ذلك لأنّ المرائي لا يعمل الا إذا رأى الناس و رأوه، حتّى إذا كان في موضع لا يرى فيه أحدا و لا يراه أحد لم يعمل، فالمفاعلة في الرياء على بابها.

و قال الزمخشري: هي مفاعلة من الإرائة، لأنّ المرائي يُري الناس عمله و هم يرونه الثناء عليه و الإعجاب به‏ «1»، انته.

و فيه نظر، فإنّ قولهم: وضع فاعل لنسبة أصله- و هو مصدر فعله الثلاثي- إلى الفاعل متعلّقا بغيره، مع أنّ الغير فعل مثل ذلك، و قولهم: إنّ فاعَلَ أصله فعل، زيدت بين الفاء و العين منه ألف، صريح في أنّ المفاعلة لا تكون الاّ من ثلاثي، فتأمّله، فإنّ أكثر المفسّرين تبعوا الزمخشري في ذلك، و لم يتنبّه أحد منهم لما ذكرناه.

و أمّا قول صاحب القاموس: رأيته مراءاة و رئاء: أريته على خلاف ما أنا عليه‏ «2»، فهو بيان لحاصل المعنى لا بيان للمفاعلة.

فإن قلت: قد قالوا: عاطاه معاطاة أي أعطى كلّ منهم الآخر، و هو رباعي، فكيف تصحّ دعوى انحصار بناء المفاعلة من الثلاثي؟

قلت: ليس المعاطاة مفاعلة من أعطى، بل من عطى الثلاثي اللازم بمعنى تناول، لكنّه لمّا نقل إلى فاعل صار متعدّيا لأجل تعلّقه بالآخر، فهو مثل كارمته من كرم، و ماشيته من مشى.

قال العلاّمة الجار بردي في شرح الشافية: و لأجل تعلّق فاعل بالأمر الآخر جاء

______________________________

 (1) الكشاف: ج 4 ص 805.

 (2) القاموس المحيط: ج 4 ص 331.

257
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 197

.......... غير المتعدّي إذا نقل إلى فاعل متعدّيا، نحو: كارمته، فإنّ أصله لازم و قد تعدّى هاهنا «1».

و خلّصت الشي‏ء تخليصا: ميّزته عن غيره.

و السمعة بالضمّ و الفتح، يقال: فعل ذلك رياء و سمعة أي: ليراه الناس و يسمعوا به.

و المعنى: اصرف عنه و خلّصه من قصد الرياء و السمعة في عمله، ليكون خالصا للّه، فيستعدّ لتلقّي رحمته و قبول فضله، بالتوجّه إليه و الانقطاع عمّا سواه.

و أمّا العامل للرياء و السمعة، أي: ليراه الناس و يسمعوا بحاله، كي يعود إليه منهم ما يتوقّعه من مال أو جاه أو ثناء، و نحوه من الأغراض الباطلة و الأعراض الزائلة، فهو محجوب عن قبول فضل اللّه تعالى، مستوجب للخيبة و الحرمان، من حيث التفات نفسه إلى ما سواه تعالى، و في الحديث عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: إنّ أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، قالوا: و ما الشرك الأصغر يا رسول اللّه؟ قال: الرياء، يقول اللّه عزّ و جلّ يوم القيامة إذا جازى العباد بأعمالهم:

اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا، فانظروا هل تجدون عندهم ثواب أعمالكم‏ «2»، و عنه صلّى اللّه عليه و آله قال: الرياء أخفى من دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء على المسح الأسود «3»، و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: اعملوا في غير رياء و لا سمعة، فإنّ من عمل لغير اللّه يكله اللّه إلى من عمل له‏ «4».

و عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في قول اللّه عزّ و جلّ: «فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَ لا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً» قال: الرجل يعمل شيئا من الثواب لا يطلب به وجه اللّه، إنّما يطلب تزكية الناس، يشتهي أن يسمع به الناس،

______________________________

 (1) شرح الشافية: ص 15 نقلا بالمعنى.

 (2) الدر المنثور: ج 4 ص 256 ح.

 (3) تفسير الكشاف: ج 4 ص 805.

 (4) الكافي: ج 2 ص 297 ح 17 مع اختلاف يسير في العبارة.

258
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 197

فإذا صافَّ عَدُوَّكَ وَ عَدُوَّهُ فَقَلِلْهُمْ في عَيْنِهِ، وَ صَغِّرْ شَأنَهُمْ في قلبِهِ، وَ أدِلْ لَهُ مِنْهُمْ، وَ لا تُدِلهمْ مِنْهُ، فَإنْ خَتَمْتَ لَهُ بالسَّعادَةِ، وَ قَضَيْتَ لَهُ‏ فهذا الذي أشرك بعبادة ربّه‏ «1».

قال بعض العارفين: كنت لا أزال أجد من نفسي شوقا زائدا و منازعة شديدة إلى الجهاد، و أن اقتل في سبيل اللّه، فحمدت من نفسي ذلك، و قلت: إنّ الجهاد و القتل ليس من الأمور التي يكون فيها حظّ للنفس، فأخذت في اهبة الغزو، ثمّ اتّهمت نفسي و قلت: إنّها لا تدعو إلى خير أبدا، و لا بدّ لها في ذلك من دسيسة، فجعلت أتأمّل السبب الداعي لها إلى ذلك، حتّى وقفت على أنّها راغبة في أن يقال: قتل فلان في سبيل اللّه و مات شهيدا، فخالفتها و رجعت عمّا نويت.

و من هنا قال العلماء: اجتناب الرياء من أصعب الأمور، إلاّ على من راض نفسه و ملّكها الإخلاص، و لا يحصل ذلك إلاّ لمن أخذت يد العناية بزمامه.

قوله عليه السّلام: «و اجعل فكره و ذكره و ظعنه و إقامته فيك و لك» الذكر:

حضور معنى الشي‏ء في النفس، ثمّ يكون تارة بالقلب و تارة باللسان.

و الفكر: تردّد القلب بالتدبّر لطلب المعاني، و قيل: هو ترتيب أمور معلومة ليتوصّل بها إلى أمور مجهولة.

و الظعن بفتحتين: اسم من ظعن ظعنا- من باب نفع- أي: ارتحل.

و الإقامة: مصدر أقام بالمكان أي: مكث فيه.

و فيك و لك: أي كائنا في سبيلك و لأجل رضاك، حتّى لا يشوب شيئا من أعماله غرض آخر، و اللّه أعلم+.

 [ 827] الفاء: للتفريع و الترتيب.

و صافّ أي: قابل، مفاعلة من الصفّ، يقال: صاففنا العدوّ في القتال أي:

______________________________

 (1) الكافي: ج 2 ص 293 ح 4.

259
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 197

بِالشَهادَةِ، فَبَعْدَ أنْ يَجْتاحَ عَدُوَّكَ بِالقَتْلِ، وَ بَعْدَ أنْ يَجْهَدَ بِهِمُ الأسْرُ، وَ بَعْدَ أنْ تَأمَنَ أطْرافُ المُسْلِمينَ، وَ بَعْدَ أنْ يُوَلِّىَ عَدُوُّكَ مُدْبِرينَ.

رتّبنا و قابلنا صفوفنا بصفوفهم، و منه حديث: كان صلّى اللّه عليه و آله مصافّ العدوّ، أي: مقابلهم‏ «1».

و عدوّك و عدوّه أي: المشركين، وصفهم أوّلا: بعداوة اللّه تعالى لإثباتهم الشرك به و إبطال كلمته، و ثانيا: بعداوة المسلم لإظهار عداوته و قصدهم لمحاربته و هلاكه، كما قال تعالى: «تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَ عَدُوَّكُمْ» «2».

و تقليلهم في عينه: بأن يراهم قليلا، ليقوى قلبه على محاربتهم و لا يهابهم، و إنّما يتصوّر ذلك بصدّ اللّه تعالى العين عن رؤية بعض دون بعض مع التساوي في الشروط، لأنّ الرؤية و سائر الإدراكات بمحض خلق اللّه تعالى لا تجب عند تحقّق ما يجعله الفلاسفة شرطا، و لا تمتنع عند فقد بعضها، و قد فعل تعالى ذلك يوم بدر، فقلّل المشركين في أعين المسلمين تثبيطا لهم، حتّى قال ابن مسعود لمن إلى جنبه:

أ تراهم سبعين؟ فقال: أراهم مائة، قال: فأسرنا منهم رجلا فقلنا له: كم كنتم؟

فقال: ألفا «3».

و قلّل المسلمين في أعين المشركين ليجترءوا عليهم و لا يستعدّوا لهم، حتّى قال أبو جهل: إنّ محمّدا و أصحابه أكلة جزور، و ذلك حيث يقول عزّ من قائل في محكم كتابه: «وَ إِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا، وَ يُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا» «4».

قال صاحب الكشاف: فإن قلت: بأيّ طريق يبصرون الكثير قليلا؟ قلت:

بأن يستر اللّه عنهم بعضه بساتر، أو يحدث في عيونهم ما يستقلّون له الكثير، كما أحدث في أعين الحول ما يرون له الواحد اثنين.

______________________________

 (1) النهاية لابن الأثير: ج 3 ص 37- 38.

 (2) سورة الأنفال: الآية 60.

 (3) الجامع لأحكام القرآن: ج 8 ص 22.

 (4) سورة الأنفال: الآية 44.

260
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 197

.......... قيل لبعضهم: إنّ الأحول يرى الواحد اثنين، و كان بين يديه ديك واحد، فقال: مالي لا أرى هذين الديكين أربعة؟ «1» انته.

و صغّر شأنهم في قلبه أي: حقّره و أذهب مهابته، من الصغار بالفتح:

و هو الحقارة و الذلّ و المهانة، لا من الصغر كعنب: و هو خلاف العظيم في الجرم.

و شأنهم بهمز العين: أي أمرهم و حالهم، و هو ما هم عليه من شدّة البأس و قوّة الشوكة و كثرة العدد و العدد، حتّى لا يصدّه الالتفات إلى شي‏ء من ذلك عن الإقدام عليهم.

و أدل له منهم و لا تدلهم منه أي: اجعل الكرّة و النصر و الغلبة له عليهم، و لا تجعل الكرّة و النصر و الغلبة لهم عليه.

قال الزمخشري: أدال اللّه بني فلان من عدوّهم: جعل الكرّة لهم عليه‏ «2»، و مجازه: نزع الدولة من عدوّهم و آتاهم إيّاها.

و قال ابن الأثير: في الحديث: ثقيف ندال عليهم و يدالون علينا، الإدالة:

الغلبة، يقال: اديل لنا على أعدائنا أي: نصرنا عليهم، و منه حديث أبي سفيان و هرقل: ندال عليه و يدال علينا، أي: نغلبه مرّة و يغلبنا أخرى‏ «3».

و إنّما عدّى أدل في الأوّل باللام، مع أنّ أصله يتعدّى بنفسه، كما وقع في قوله «و لا تدلهم»، لتضمينه معنى الانتصار، أي: و انتصر له مديلا منهم.

و فائدة ذلك تأكيد الإدالة للغازي و المجاهد، لأنّ فائدة التضمين أن يدلّ بكلمة واحدة على معنى كلمتين، و لذلك لم يأت باللام في قوله: «و لا تدلهم منه»، بل جاء به على أصله.

يدلّك على هذا قول الزمخشري: الفرق بين سمعت فلانا يتحدّث و سمعت إليه‏

______________________________

 (1) الكشاف: ج 2 ص 225.

 (2) الأساس: ص 198.

 (3) النهاية لابن الأثير: ج 2 ص 141.

261
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 197

.......... يتحدّث، أنّ المعدّى بنفسه يفيد الإدراك، و المعدّى بإلى يفيد الإصغاء مع الإدراك‏ «1».

و أمّا قول بعضهم: إنّ اللام في «أدل له» لتقوية العامل، فلا يعوّل عليه، لأنّ لام التقوية إنّما تزاد لتقوية عامل ضعيف، إمّا بتأخّره نحو: «إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ» «2»، أو بكونه فرعا في العمل نحو: «مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ» «3»، و أمّا العامل القوي فلا يؤتى بها معه إلاّ شاذّا نادرا، نحو:

و لا اللّه يعطي للعصاة مناها

 

 

 

 و تخريج كلام المعصوم عليه السّلام على الشاذّ النادر لا وجه له.

 [ 828] قوله عليه السّلام: «فإن ختمت له بالسعادة» أي: ختمت له حياته بالسعادة، و إنّما حذف المفعول لتعيّنه، و لأنّ الغرض هو ذكر المختوم به. و المراد بالسعادة:

الشهادة، كما يفسّره قوله بعده: «و قضيت له بالشهادة»، و سمّى الشهادة سعادة مجازا من باب تسمية الشي‏ء باسم سببه، لأنّ الشهادة سبب لحصول السعادة المطلقة التي هي حسن الحياة في الآخرة، و هو أربعة أشياء: بقاء بلا فناء، و علم بلا جهل، و قدرة بلا عجز، و غنى بلا فقر، و إيّاها قصد تعالى بقوله: «وَ أَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ» «4».

و قوله عليه السّلام: «ختمت» أي: أردت الختم، بقرينة جواب الشرط، و هو من باب إطلاق ما وضع للمسبب على السبب، لكون الختم مسبّبا عن إرادته.

قال السيّد الشريف: و التعبير بالفعل عن إرادته نوع كثير الموارد شائع‏

______________________________

 (1) الكشاف: ج 4 ص 36.

 (2) سورة يوسف: الآية 43.

 (3) سورة البقرة: الآية 91.

 (4) سورة هود: الآية 108.

262
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 197

.......... الاستعمال‏ «1».

قال ابن هشام: و أكثر ما يكون ذلك بعد أداة الشرط، نحو: «و إنْ حكمتَ فاحكُم بينَهم بالقِسطِ»، «و إن عاقبتُم فعاقِبوا بمِثلِ ما عوقِبتُمْ به» «2»، و أمثلته كثيرة.

قوله عليه السّلام: «و قضيت له بالشهادة» أي: حكمت، أو أمضيت الحكم، أو أتممت و أكملت له عمره، فإنّ القضاء يكون بمعنى الحكم و بمعنى إمضاء الحكم و بمعنى الاتمام و الاكمال.

و الشهادة: القتل في سبيل اللّه تعالى، سمّي شهادة لأنّ اللّه تعالى شهد لصاحبه بالجنّة أو لأنّ ملائكة الرحمة شهدت نقل روحه إلى الجنّة، أو لأنّه شهد له بالإيمان و خاتمة الخير بظاهر حاله، أو لأنّ عليه شاهدا يشهد بكونه شهيدا و هو الدم، فإنّه يبعث يوم القيامة و أوداجه تشخب دما، و قيل غير ذلك، و قد تقدّم في آخر الروضة الأولى.

قوله عليه السّلام: «فبعد أن يجتاح عدوّك بالقتل» الفاء: رابطة لجواب الشرط، و الظرف متعلّق بمحذوف أي: فليكن ذلك من الختم له بالسعادة و القضاء له بالشهادة بعد أن يجتاح عدوّك أي: يهلك عدوّك و يستأصله بالقتل.

قال ابن الأثير في النهاية: في الحديث: إنّ أبي يريد أن يجتاح مالي، أي:

يستأصله و يأتي عليه أخذا و إنفاقا، و هو افتعال من الجائحة، و هي آفة تهلك الأموال و الثمار، و كلّ مصيبة عظيمة، و فتنة مبيرة جائحة «3».

و قال الزمخشري في الفائق: الجائحة: اسم فاعل من جاحته تجوحه: إذا استأصلته، و هي المصيبة العظيمة في المال التي تهلكه‏ «4».

و ينبغي أن يؤوّل قوله عليه السّلام: «بعد أن يجتاح عدوّك»، إمّا بحمل الاجتياح على مشارفته، أي: بعد أن يشارف أن يجتاح عدوّك، و التعبير بالفعل‏

______________________________

 (1) لم نعثر عليه.

 (2) مغني اللبيب: ص 903.

 (3) النهاية لابن الأثير: ج 1 ص 311.

 (4) الفائق في غريب الحديث ج 1 ص 242.

263
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 197

.......... عن مشارفته شائع الاستعمال، و منه: «وَ لْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ» «1» أي: لو شارفوا أن يتركوا، و إمّا بحمل العدوّ على أكثرهم، ليكون منهم مَن قضيت الشهادة للغازي أو المجاهد على يديه، و إلاّ إذا حمل على ظاهره من الاجتياح بمعنى الاستئصال لجميعهم حقيقة تعذّرت الشهادة، لأنّ المراد بها في هذا المصافّ، و لا يتصوّر ذلك مع استئصال العدوّ.

و إن فسّرنا الاجتياح بالإصابة بعظيم المكروه، كما قال أبو سليمان الخطابي:

اجتاحهم الزمان: إذا أصابهم بمكروه عظيم‏ «2»، فلا حاجة إلى التأويل، إذ هو أعمّ من الاستئصال.

 [ 829] قوله عليه السّلام: «و بعد أنّ يجهد بهم الأسر» قيل: الواو هنا بمعنى أو، كما يدلّ عليه سياق الكلام. و لا حاجة إلى ذلك، لأنّ الواو قد تعطف الشي‏ء على لاحقه، فيجوز أن يكون الأسر قبل القتل و القتل لاحق به، و قدّمه في الذكر للاعتناء و الاهتمام بوقوعه.

و أمّا البعديّة فهي متعلّقة بالختم و القضاء كالأولى، لا بالاجتياح حتّى يكون مفادها الترتيب.

و جهده الأمر و المرض جهدا- من باب نفع-: بلغ منه المشقّة.

و الباء في قوله: «بهم»: إمّا زائدة في المفعول نحو: «فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ» «3»، و إمّا لتضمين الجهد معنى الإضرار.

و الأسر: الأخذ بالقهر، و أصله الشدّ يقال: أسره أسرا- من باب ضرب-: إذا شدّه بالإسار ككتاب، و هو القدّ الذي يشدّ و يوثق به الأسير.

و في نسخة ابن إدريس: «و بعد أن يديخهم الأسر» و ضبط بسكون الياء المثنّاة

______________________________

 (1) سورة النساء: الآية 9.

 (2) تهذيب الأسماء: الجزء الأوّل القسم الثاني ص 57 نقلا عنه.

 (3) سورة الحج: الآية 15.

264
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 197

.......... قبل الخاء المعجمة من باب الإفعال، و بتشديدها من باب التفعيل، و كلاهما بمعنى يذللّهم و يقرهم، من داخ أي: ذلّ و خضع.

قال ابن الأثير: في الحديث: أداخ العرب و دان له الناس: أي: أذلّهم. من داخ أي: ذلّ و أدخته أنا «1».

و فيه: فقتح الكفرة و ديّخها، أي: أذلّها و قهرها، يقال: ديّخ و دوّخ بمعنى واحد، و منه حديث الدعاء: بعد أن يديحهم الأسر، و بعضهم يرويه بالذال المعجمة، و هي لغة شاذّة «2» انته كلام ابن الأثير.

و في القاموس: داخ: ذلّ، و البلاد: قهرها و استولى على أهلها، كدوّخها و ديّخها «3».

قوله عليه السّلام: «و بعد أنّ تأمن أطراف المسلمين» الأطراف: جمع طرف بفتحتين، و هو هنا إمّا بمعنى الطائفة أي: طوائف المسلمين، و منه قوله تعالى:

 «لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا» «4» أي: طائفة منهم، قيل: شبّه من قتل منهم بطرف يقطع من البدن، و في الحديث: فمال طرف من المشركين على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، أي: قطعة عظيمة منهم‏ «5».

و إمّا بمعنى الناحية، فيكون على حذف مضاف أي: أطراف بلاد المسلمين.

قال في الأساس: تفرّقوا في أطراف الأرض أي: نواحيها «6».

و اسناد الأمن إليها حينئذ مجاز حكمي، و المعنى: بعد أن يأمن أهل النواحي من بلاد المسلمين.

قوله عليه السّلام: «و بعد أن يولّي عدوّك مدبرين» ولى و تولى: انصرف‏

______________________________

 (1) النهاية لابن الأثير: ج 2 ص 138، و فيه: أنا فداخ.

 (2) النهاية لابن الأثير ج 2 ص 147.

 (3) القاموس المحيط: ج 1 ص 259.

 (4) سورة آل عمران: الآية 127.

 (5) النهاية لابن الأثير: ج 3 ص 119.

 (6) أساس البلاغة: ص 388.

265
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 197

اللَّهُمَّ وَ أيُّما مُسْلِمٍ خَلَفَ غازِيًا أوْ مُرابِطاً في دارِهِ، أوْ تَعَهَّدَ خالِفيهِ في غَيْبَتِهِ، أوْ أعانَهُ بِطائِفَةٍ مِنْ مالِهِ، أوْ أمَدَّهُ بِعِتادٍ، أَوْ شَحَذَهُ عَلى‏ جِهادٍ، أوْ أتْبَعُهُ في وَجْهِهِ دَعْوَةً، أوْ رَعى‏ لَهُ مِنْ وَرائِهِ حُرْمَةً، فَأجِرْ لَهُ مِثْلَ أَجْرِهِ وَزْنًا بِوَزْنٍ، وَ مِثْلاً بِمِثْلٍ، وَ عَوِّضهُ مِنْ فِعْلِهِ عِوَضًا حاضِرًا، يَتَعَجَّلُ بِهِ نَفْعُ ما قَدَّمَ، وَ سُرورَ ما أتى‏ بِهِ، إلى‏ أنْ يَنْتَهِيَ بِهِ الوَقْتُ إلى‏ ما أجْرَيْتَ لَهُ مِنْ فَضْلِكَ، وَ أعْدَدْتَ لَهُ مِنْ كَرامَتِكَ.

ذاهبا، و قيل: ذهب هاربا.

و أدبر بمعنى: ولّى، و اشتقاقه من الدبر بالضمّ و بضمّتين، و هو من كلّ شي‏ء عقبه و مؤخّره، لأنّه إذا أدبر عن الشي‏ء فقد جعله عقبه.

و مدبرين: حال مؤكّدة لعاملها معنى، لأنّ الإدبار و التولية بمعنى، و إنّما يقال:

ولّى مدبرا: إذا انهزم و منه قوله تعالى: «وَلَّى مُدْبِراً»+ «1» أي: ذهب منهزما، لأنّ تولية الدبر كناية عن الانهزام.

قال الفيومي: ولاّه دبره كناية عن الهزيمة «2».

و قال بعضهم: و لا يقال: ولّى مدبرا إلاّ إذا رجع إلى ورائه، حتّى لو انهزم يمينا أو شمالا لا يقال: إنّه ولّى مدبرا. و هذا هو الصحيح الذي يقتضيه معنى الإدبار، و اللّه أعلم+.

 [ 830] خلف فلان فلانا- من باب قتل- خلافة: إذا صار خليفته، يقال: خلفه في قومه: إذا أقام بعده فيهم و قام عنه بما يفعله، و منه قوله تعالى: «وَ قالَ مُوسى‏ لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي» «3» أي: كن خليفتي و القائم مقامي.

و في نسخة ابن إدريس: «خلّف» بالتشديد، و كأنّه للمبالغة في المخفّف، كقتله‏

______________________________

 (1) سورة النمل: الآية 10.

 (2) المصباح المنير: ص 256.

 (3) سورة الأعراف: الآية 142.

266
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 197

.......... قتلا و قتّله تقتيلا. و أمّا حمله على معنى تركه بعده، فلا وجه له.

و المرابط: اسم فاعل من رابط مرابطة و رباطا- من باب قاتل-: إذا لازم ثغر العدوّ، و أصله من الربط و هو الشدّ، لأنّ كلا من الفريقين يربطون خيولهم في ثغرهم، و كلّ معدّ لصاحبه فسمّي ملازمة الثغر رباطا و مرابطة.

و تعهّدت الشي‏ء: تردّدت إليه و أصلحته، و حقيقته تجديد العهد به، و تعهّدته:

حفظته.

قال ابن فارس: و لا يقال: تعاهدته، لأنّ التفاعل لا يكون إلاّ عن اثنين‏ «1».

و قال صاحب المحكم: تعهّد الشي‏ء و تعاهده و اعتهده: تفقّده و أحدث العهد به‏ «2».

و قال الفارابي: تعهّدته أفصح من تعاهدته‏ «3».

و خالفيه: جمع خالف، من خلف عن أصحابه أي: تخلّف يريد من أقام بعده من أهله و تخلّف عنه.

و قد اتّفقت نسخ الصحيفة الشريفة على ضبط خالفيه بالياء المثنّاة من تحت، على أنّه جمع مذكّر سالم لخالف، حذفت النون للإضافة.

و في نهاية ابن الأثير: أيّما مسلم خلف غازيا في خالفته‏ «4»، بالتاء المثنّاة من فوق، و هو بمعنى الخالف المذكور أوّلا، و التاء فيه للمبالغة مثلها في الخليفة.

و إنّما نبّهنا على ذلك، لئلاّ يتوهّم متوهّم أنّ إحدى اللفظين تصحيف من الآخر.

و الطائفة: القطعة من الشي‏ء.

 [ 831] و العتاد بالفتح: ما أعدّه الرجل من السلاح و الدوابّ أو آلة الحرب.

______________________________

 (1) معجم مقاييس اللغة: ج 4 ص 169.

 (2) المحكم في اللغة: ج 1 ص 63.

 (3) ديوان الأدب: ج 2 ص 443.

 (4) النهاية لابن الأثير: ج 2 ص 69.

267
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 197

.......... و في الأساس: هو عتاد لكذا أي: عدّة «1».

و شحذته على كذا: حملته على ارتكابه و سقته إليه، و أصله من شحذت السكّين شحذا- من باب نفع- أي: أحددتها.

و في القاموس: الشحذ: السوق الشديد و الإلحاح في السؤال‏ «2».

و معنى شحذه على الجهاد: إمضاء همّته و تأكيد عزيمته عليه، إمّا يقول كترغيبه له فيه بذكر ما فيه من عظيم الأجر و الثواب، أو بفعل كقطع عوائقه و القيام له بما يحتاج إليه.

و أتبعته الشي‏ء: جعلته له تابعا، و ألحقته به.

و الوجه: الجهة و ما يتوجّه إليه الإنسان من عمل و غيره، أي: في جهته و ناحيته التي توجّه إليها و استقبلها، أو في مقصده الذي توجّه إليه.

و الدعوة بالفتح: المرّة من الدعاء.

و رعيت أمره: حفظته.

و الحرمة بالضمّ: ما وجب القيام به و حرم التفريط فيه.

و في القاموس: الحرمة: مالا يحلّ انتهاكه‏ «3».

و من ورائه: أي من خلفه.

 [ 832] و أجريت الشي‏ء: جعلته جاريا.

و في الأساس: و من المجاز: أجرى له ألف دينار، و أجرى عليهم الرزق‏ «4».

و في نسخة ابن إدريس: «و أجر» بوصل الهمزة و ضمّ الجيم، من أجره اللّه أجرا من- باب قتل- أي: أثابه، و يقال: أجره يأجره بالكسر من باب ضرب أيضا، و آجره بالمدّ يوجره لغة ثالثة.

______________________________

 (1) أساس البلاغة: ص 408.

 (2) القاموس المحيط: ج 1 ص 354.

 (3) القاموس المحيط: ج 4 ص 94.

 (4) أساس البلاغة: ص 91.

268
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 197

.......... و عدّاه باللام لتضمينه معنى أوجب.

و الأجر: الجزاء على العمل.

و وزن الشي‏ء: مقداره في الخفّة و الثقل، و انتصاب «وزنا» على الحال من المضاف و المضاف إليه من قوله: «مثل أجره»، و بوزن: بيان لوزن. قال سيبويه:

كما كان لك في «سقيا لك» بيانا أيضا، و هذا جار في الأمثلة التي فيها المجرور «1»، انته.

قال ابن هشام: فيتعلّق بمحذوف استؤنف للتبيين‏ «2»، انته.

و التقدير: هو بوزن، فيكون ظرفا مستقرا متعلّقا بمحذوف، أي: هو كائن بوزن، إذ لا يطلق الاستئناف إلاّ في الجمل، و فيه معنى المفاعلة أي: متساويين في الوزن، كقولهم: بعته يدا بيد أي: متقابضين، و أخذته رأسا برأس أي: متماثلين.

قال بعض المحقّقين: و تحريره: أنّ الأصل في هذه الأمثلة أن يكون المنصوب منها مرفوعا على الابتداء باعتبار مضاف، أي: ذو وزن بذي وزن، و ذو يد بذي يد، أي: المقدار بالمقدار و النقد بالنقد، ثمّ لمّا كان ذلك في معنى متساويين و متقابضين، انمحى عنه معنى الجملة لما فهم منه معنى المفرد، فلمّا قامت الجملة مقام المفرد في تأدية معناه، اعرب ما قبل الإعراب منها و هو الجزء الأوّل إعراب المفرد الذي قامت مقامه، انته. و قس على ذلك.

قوله عليه السّلام «و مثلا بمثل» و هو من عطف العام على الخاص، فإنّ المثل بمعنى الشبيه، و هو أعمّ من أن يكون شبيها في الكمّ أو الكيف أو غير ذلك، و الوزن خاصّ بالكمّ، و كلّ من هاتين الحالين مؤكّدة لصاحبها في التماثل.

و عوّضت زيدا بالتشديد: أعطيته العوض، و هو البدل.

______________________________

 (1) كتاب سيبويه: ج 1 ص 188.

 (2) مغني اللبيب: ص 292.

269
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 197

.......... و «من» في قوله: «من فعله»: بدليّة أي: بدل فعله.

و عوضا: إمّا مصدر، أو اسم مصدر، أو اسم عين، و على الأوليين يتعيّن نصبه على المفعوليّة المطلقة، و على الثالث يحتمل ذلك نحو: «وَ اللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً» «1»، و يحتمل أن يكون مفعولا ثانيا لعوّضه، كقوله: عوّض زيدا من درهمه دينارا.

و يتعجّل به أي: يأخذه بسرعة، يقال: عجّلت إليه المال فتعجّله، أي: أسرعت إليه بحضوره فأخذه بسرعة، و الجملة صفة ثانية ل «عوضا».

و في نسخة ابن إدريس: «يتعجّل» بالجزم على أنه جواب شرط محذوف دلّ عليه الطلب، أي: إن تعوّضه يتعجّل.

و نفعه الشي‏ء نفعا: إذا حصل له التوصّل به إلى المطلوب.

و قدّم زيد خيرا أي: عمل عملا صالحا يثاب عليه في الآخرة التي هي قدّامه، و منه قوله تعالى: «وَ ما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ»+ «2».

و سرّه الشي‏ء يسرّه بالضمّ سرورا: أفرحه.

و قال الراغب: السرور: انشراح الصدر بلذّة فيها طمأنينة النفس عاجلا و آجلا، و الفرح: انشراح الصدر بلذّة عاجلة غير آجلة «3».

و أتى بالحسنة: جاء بها و عملها أي: نفع ما أسلفه من الإحسان و عمله من الخير مع الغازي.

 [ 833] و انته به إلى كذا: وصل به إليه و لم يتجاوزه كأنّه بلغ به النهاية، و هي أقصى ما يمكن أن يبلغه.

______________________________

 (1) سورة نوح: الآية 17.

 (2) سورة المزمّل: الآية 20.

 (3) الذريعة إلى مكارم الشريعة: ص 176.

270
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيهان ص : 271

 

.......... و الوقت: مقدار من الزمان مفروض لأمر ما، و المراد به هنا: مدّة حياته المفروضة لبقائه في الدنيا.

و أجريت له: جعلته جاريا أي: دارّا متّصلا لا ينقطع، و ذلك غير حاصل في الحال، فالمراد: أنّه حكم له بحصوله و إجرائه، و حكم اللّه بالحصول كنفس الحصول.

و أعددت له أي: هيّأته له.

تنبيهان‏

الأوّل‏

: يستفاد من قوله عليه السّلام: «و عوّضه من فعله عوضا حاضرا» إلى آخره، أنّ الأعمال الصالحة قد يستحقّ بها الثواب في الدنيا و الآخرة معا، و هو ظاهر قوله تعالى: «فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَ حُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ» «1». و من زعم أنّ الثواب لا يكون إلاّ في الآخرة، و أنّ المراد بثواب الدنيا في الآية: ما آتاهم تفضّلا منه أو لطفا بهم، و تسميته ثوابا على المجاز و التوسّع، فقد تكلّف. على أنّ الأخبار عن الأئمّة الأطهار عليهم السّلام مستفيضة بأنّ من الأعمال ما يوجب الثواب في الدنيا و الآخرة.

فمن ذلك ما رواه ثقة الإسلام في الكافي بسنده عن أبي جعفر عليه السّلام، أنّه قال: صلة الأرحام تزكّي الأعمال، و تنمّي الأموال، و تدفع البلوى، و تيسّر الحساب، و تنسي في الأجل‏ «2».

و عنه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أعجل الخير ثوابا صلة الرحم‏ «3».

و بسند صحيح عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال: من أغاث أخاه المؤمن‏

______________________________

 (1) سورة آل عمران: الآية 148.

 (2) الكافي: ج 2 ص 150 ح 4.

 (3) الكافي: ج 2 ص 152 ح 15.

 

271
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

الثاني: ص : 272

اللّهُمَّ وَ أيُّما مُسْلِمٍ أهَمَّهُ أمْرَ الإسْلامِ، وَ أحْزَنَهُ تُحَزُّبُ أهْلِ الشِّرْكِ عَلَيْهِمْ، فَنَوى‏ غزْواً، أوْ هَمَّ بِجِهادٍ، فَقَعَدَ بِهِ ضَعْفٌ، أوْ أبْطأتْ بِهِ فاقَةٌ، أوْ أخَّرَهُ عَنْهُ حادِثٌ، أوْ عَرَضَ لَهُ دُونَ إرَادَتِهِ مانِعٌ، فَاكْتُبِ اسْمهُ في العابِدينَ، وَ أوْجَبْ لَهُ ثَوابَ المُجاهِدينَ، وَ اجْعَلْهُ في نظامِ الشُهَداءِ وَ الصالِحينَ.

اللهفان اللهثان عند جهده، فنفّس كربته و أعانه على نجاح حاجته، كتب اللّه عزّ و جلّ له بذلك ثنتين و سبعين رحمة من اللّه، يعجّل له منها واحدة يصلح بها أمر معيشته، و يدّخر له إحدى و سبعين رحمة لأفزاع يوم القيامة و أهواله‏ «1».

و الروايات في هذا المعنى أكثر من أن تحصى.

الثاني:

قوله عليه السّلام: «إلى أن ينتهي به الوقت إلى ما أجريت له من فضلك» يدلّ بظاهره على أنّ الروح بعد فراق البدن تتصل بما أعدّ اللّه لها من الثواب قبل البعث و الحشر، و ذلك في مدّة البرزخ، فتتنعّم باللذّات التي أوجبها ثواب أعمالها، و هو الذي دلّت عليه الأخبار المنقولة عن أئمّة أهل البيت عليهم السّلام، و قد تقدّم الكلام على ذلك مبسوطا في الروضة الأولى، فليرجع إليه+.

 [ 834] أهمّه الأمر: أقلقه، و همّه همّا- من باب قتل-: مثله.

و أحزنه: أحدث له حزنا، و هو حالة نفسانيّة تحصل لتوقّع مكروه، أو وقوعه، أو فوات محبوب في الماضي.

و في نسخة: «حزنه» يقال: أحزنه إحزانا و حزنه حزنا- من باب قتل- بمعنى قال اليزيدي: أحزنه لغة تميم، و حزنه لغة قريش‏ «2»، و عليها بني محزوم.

و تخرّب القوم: صاروا أحزابا، أي: فرقا و طوائف كلّ حزب من قبيلة يجتمعون‏

______________________________

 (1) الكافي: ج 2 ص 199 ح 1.

 (2) الصحاح: ج 5 ص 2098.

272
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

الثاني: ص : 272

.......... لقتال و نحوه.

و قال الجوهري: تحزّبوا: تجمّعوا، و الأحزاب: الطوائف التي تجمع على محاربة الأنبياء «1».

و الضمير في «عليهم»: عائد إلى المسلمين، لدلالة أمر الإسلام عليهم، و من جوّز عوده إلى أهل الشرك فقد أغرب.

و الفاء من قوله: «فنوى»: للعطف و الترتيب و السببيّة، و نوى الشي‏ء ينويه:

قصده.

و همّ بالشي‏ء همّا- من باب قتل-: أراده.

و المراد بالجهاد هنا: جهاد من يريد الاستيلاء على بلاد المسلمين من المشركين، أو أخذ ما لهم، أو سبي حريمهم، كما يدلّ عليه السياق.

و قعد به عن حاجته: شغل، و أقعده: منعه.

و قال ابن السكّيت: ما يقعد بي عن ذلك الأمر إلاّ شغل، أي: ما يجلسني‏ «2».

و الضعف: النقصان في القوّة.

 [ 835] و أبطأ عن الحضور: تأخّر مجيؤه و لم يسرع. قال الزجّاج: يقال: بطؤ الرجل بطوء من باب قرب، و أبطأ إبطاء «3».

و الفاقة: الفقر و الحاجة.

و الحادث: الأمر يحدث و يتجدّد وجوده بعد أن لم يكن.

و عرض له مانع- من باب ضرب- أي: اعترض له فمنعه من المضيّ.

و دون إرادته أي: قبل حصول مراده، من باب إطلاق المصدر على اسم‏

______________________________

 (1) الصحاح: ج 1 ص 109.

 (2) تاج العروس: ج 2 ص 473، نقلا عن ابن السكيت، و فيه: ما حبسني.

 (3) تهذيب الأسماء و اللغات: الجزء الأوّل من القسم الثاني: ص 28، نقلا عن الزجاج.

273
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

الثاني: ص : 272

.......... المفعول.

 [ 836] فاكتب اسمه في العابدين: أي: مع أسماء العابدين، ففي بمعنى «مع» نحو «ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ» «1»، أو في جملة أسمائهم، فهي للظرفيّة مجازا و إنّما قال: في العابدين لأنّ الجهاد أحد العبادات الخمس.

و في نسخة: «في الغازين» و هو الأنسب، و كتابة اسمه مجاز عن الأمر بكتابته، بأن يظهر ذلك للملك و يأمره بإنفاذه و كتابته في كتاب المحو و الإثبات، أو في ديوان العابدين و صحائف أعمالهم، أو عن تعلّق الحكم به و إيجابه نحو: «كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَ رُسُلِي» «2» أي حكم و قضى و أثبت و أوجب و عبّر عن ذلك بالكتابة لأنّها أدوم و أثبت.

و الثواب: هو النفع الخالص المستحقّ المقارن للتعظيم و التبجيل، و ثواب المجاهدين هو الموعود به في القرآن من جنّات و عيون و رزق كريم.

و النظام العقد المنظوم من الجوهر و نحوه، و يطلق على السلك الذي ينظم به، و على الصفّ من الجراد.

قال في الأساس: جاءنا نظم من جراد و نظام منه‏ «3».

و كلّ من هذه المعاني محتمل هنا على الاستعارة.

و عطف الصالحين على الشهداء من عطف العامّ على الخاصّ. و مدار هذا الفصل من الدعاء على طلب إثابة من نوى غزوا أو جهادا و لم يفعله لعذر، ثواب من عمله و باشره بجوارحه، و إثابة المؤمن بنيّته أمر متّفق عليه بين الامّة.

روى ثقة الإسلام في الكافي بسند صحيح عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: إنّ العبد المؤمن الفقير ليقول: يا ربّ ارزقني حتّى أفعل كذا و كذا من البّر و وجوه‏

______________________________

 (1) سورة الأعراف: الآية 38.

 (2) سورة المجادلة: الآية 21.

 (3) أساس البلاغة: ص 641.

274
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

الثاني: ص : 272

اللّهُمَّ صَلِّ عَلى‏ مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ وَ رَسُولِكَ وَ آلِ مُحَمَّدٍ، صَلاةً عالِيَةً عَلى‏ الصَلَواتِ، مُشْرِفَةً فَوْقَ التَّحيّاتِ، صَلاةً لا يَنْتَهي أمَدُها، وَ لا يَنْقَطِعُ‏ الخير، فإذا علم اللّه عزّ و جلّ ذلك منه بصدق نيّته كتب اللّه له من الأجر مثل ما يكتب له لو عمله، إنّ اللّه واسع كريم‏ «1».

و روى مسلم في صحيحه بإسناده عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: من طلب الشهادة صادقا اعطيها و لو لم تصبه، «2» و بإسناد آخر عنه صلّى اللّه عليه و آله قال: من طلب الشهادة بصدق بلّغه اللّه منازل الشهداء و إن مات على فراشه‏ «3» و في نهج البلاغة: أنّ بعض أصحاب أمير المؤمنين عليه السّلام، قال له لمّا أظفره اللّه سبحانه بأصحاب الجمل: وددت أنّ أخي فلانا كان شاهدنا، ليرى ما نصرك اللّه به على أعدائك، فقال عليه السّلام: أ هوى أخيك معنا؟ قال: نعم، قال: فقد شهدنا، و اللّه لقد شهدنا في عسكرنا هذا قوم في أصلاب الرجال و أرحام النساء، سيرعف بهم الزمان و يقوى بهم الإيمان‏ «4».

قال بعض الشارحين لكلامه عليه السّلام: قوله: فقد شهدنا، حكم بالحضور بالقوّة، أو بحضور نفسه و همّته على تقدير محبّته للحضور، و كم إنسان يحصل بحضور همّته- و إن لم يحضر ببدنه- كثير نفع، إمّا باستجلاب الرجال، أو بتأثير الهمّة في تفريق أعداء اللّه كما تفعله همم أولياء اللّه، بحيث لا يحصل مثل ذلك النفع من أبدان كثيرة حاضرة و إن قويت و عظمت‏ «5»، انته+.

 [ 837] ختم الدعاء بالصلاة على محمّد و آله صلّى اللّه و سلّم عليهم، لما ورد في الصحيح: لا يزال الدعاء محجوبا حتّى يصلّى على محمّد و آله‏ «6».

______________________________

 (1) الكافي: ج 2 ص 85 ح 3.

 (2) صحيح مسلم: ج 3 ص 1517 ح 156- 1908.

 (3) صحيح مسلم: ج 3 ص 1517 ح 157- 1909.

 (4) نهج البلاغة: ص 55 الخطب 12.

 (5) شرح نهج البلاغة لابن ميثم: ج 1 ص 288.

 (6) الكافي: ج 2 ص 491 ح 1.

275
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

الثاني: ص : 272

عَدَدُها، كَأتَمِّ ما مَضى‏ مِنْ صَلَواتِكَ عَلى‏ أحَدٍ مِنْ أوْلِيائكَ، إنَّكَ المَنانُ الحَميدُ، المُبْدِئُ المُعيدُ، الفَعّالُ لِما تُريدُ.

و المشهور أنّ الصلاة من اللّه الرحمة، و من الملائكة الاستغفار، و من المؤمنين الدعاء.

قال بعض المحقّقين: و التحقيق أنّها تستعمل في قدر يشترك بينها و هو الإمداد، لأنّ المدد كما يصل من فوق بالإفاضة يصل من تحت بالاستفاضة «1».

و آل محمّد عندنا: عترته الطاهرة من أهل العصمة عليهم السّلام، و لا وجه لتخصيص الشهيد الثاني بأمير المؤمنين عليه السّلام و فاطمة و الحسنين عليهم السّلام‏ «2».

و للعامّة اختلافات، فقيل: آله: أمّته، و قيل: عشيرته، و قيل: من حرم عليه الزكاة من بني هاشم و عبد المطّلب.

و قوله: «عالية على الصلوات» أي: مرتفعة عليها في الشرف و الرتبة و القدر «3».

و مشرفة أي: مرتفعة، من أشرف الموضع أي: ارتفع فهو مشرف.

و التحيّات: جمع تحيّة، و هي تفعلة من الحياة، يقال: حيّاك اللّه أي: أبقاك حيّا، ثمّ استعملت التحيّة في مطلق الدعاء و السلام.

و معنى علوّها على الصلوات و إشرافها على التحيّات: اختصاصها بمزيد فضل منه تعالى، يميّزها عن سائر الصلوات و التحيّات، كما اختصّ المدعوّ له بمزيد فضل ميّزه عن غيره من الأنبياء و المرسلين.

 [ 838] و انته الأمر: بلغ النهاية، و هو أقصى ما يمكن أن يبلغه.

و الأمد: الغاية، يقال: انته أمده، أي: بلغ غايته.

و انقطع الكلام: وقف. و عددها أي: عدّها و إحصاؤها، أو مبلغها و مقدارها.

______________________________

 (1) لم نعثر عليه.

 (2) راجع شرح الكافي للمولى محمّد صالح المازندراني: ج 10 ص 231.

 (3) راجع شرح الكافي للمولى محمّد صالح المازندراني: ج 10 ص 231.

276
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

الثاني: ص : 272

.......... و طلب نفي انتهاء أمدها و انقطاع عددها من باب نفي الشي‏ء بنفي لازمه، كما تقدّم بيانه في الروضة الأولى.

و قوله: «كأتمّ ما مضى» ظرف مستقرّ متعلّق بمحذوف، إمّا صفة ثانية للصلاة، أو حال منها لتخصّصها بالصفة، أو نعت لمصدر مؤكّد محذوف، أي: صلاة كأتمّ ما مضى.

و ما: نكرة أو موصولة، و من: بيانيّة، أي: كأتمّ شي‏ء مضى من صلواتك، أو كأتمّ الذي مضى من صلواتك، و قد تقدّم الكلام على نظير هذا التشبيه في آخر الروضة العشرين، فليرجع إليه.

 [ 839] قوله عليه السّلام: «إنّك المنّان الحميد» إلى آخره، تذييل للكلام السابق، و تعليل لاستدعاء الإجابة، من حيث إنّ اتّصافه بالصفات المذكورة مستدع لها.

و قصر الصفات عليه لإظهار اختصاص دعائه عليه السّلام به تعالى، و انقطاع رجائه عمّا سواه بالكليّة.

رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين ؛ ج‏4 ؛ ص277

 

المنّان: صيغة مبالغة من المنّ، قال ابن الأثير: المنّان: هو المنعم المعطي، من المنّ بمعنى: العطاء، لا من المنّة «1».

و كثيرا ما يراد المنّ في كلامهم بمعنى الإحسان إلى من لا يستثيبه و لا يطلب الجزاء عليه.

قال البرهان الرشيدي: إنّ صفات اللّه تعالى التي على صيغة المبالغة كلّها مجاز، لأنّها موضوعة للمبالغة، و لا مبالغة فيها، فإنّ المبالغة تكون في صفات تقبّل الزيادة و النقصان، و صفات اللّه منزّهة عن ذلك‏ «2» و استحسنه الشيخ تقيّ الدين السبكي.

______________________________

 (1) النهاية لابن الأثير: ج 4 ص 365.

 (2) البرهان في علوم القرآن: ج 2 ص 507.

277
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

الثاني: ص : 272

.......... و قال الزركشي في البرهان: التحقيق أنّ صيغ المبالغة قسمان: أحدهما: ما تحصل المبالغة فيه بحسب زيادة الفعل، و الثاني: بحسب تعدّد المفعولات. و لا شكّ أنّ تعدّدها لا يوجب للفعل زيادة، إذ الفعل الواحد قد يقع على جماعة متعدّدين، و على هذا تنزّل صفاته تعالى و يرتفع الإشكال‏ «1»، انته.

و الحميد: المحمود على كلّ حال، فعيل بمعنى مفعول.

و المبدئ المعيد معناهما: الموجد، لكنّ الإيجاد إذا لم يكن مسبوقا بمثله سمّي إبداء، لتعلّقه بالأشياء ابتداء من غير سابق مثال، و إذا كان مسبوقا بمثله سمّي إعادة، و اللّه تعالى بدأ الخلق ثمّ هو الذي يعيدهم، أي: يبعثهم يوم القيامة، قال اللّه تعالى: «كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ» «2» «إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَ يُعِيدُ» «3».

و الفعّال لما يريد: الذي لا يتخلّف عن إرادته مراد و لا يمنعه عنه مانع، إذ لا حكم لأحد عليه البتّة، و المبالغة لما مرّ من أنّها بحسب تعدّد المفعولات و كثرتها، إذ كان ما يفعله و يريده في غاية الكثرة.

و قيل: معنى المبالغة فيه أنّ ما يريده فإنّه يفعله البتّة، لا يصرفه عنه صارف، قال تعالى: «إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ» «4»، و اللّه أعلم. [] هذا آخر الروضة السابعة و العشرين من رياض السالكين، و قد وفّق اللّه تعالى للفراغ من تحريرها صبيحة يوم الأربعاء، لأربع خلون من ذي القعدة الحرام سنة إحدى و مائة و ألف، و للّه الحمد+.

______________________________

 (1) البرهان في علوم القرآن: ج 2 ص 507.

 (2) سورة الأنبياء: الآية 104.

 (3) سورة البروج: الآية 13.

 (4) سورة هود: الآية 107.

278
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

الروضة الثامنة و العشرون ص : 279

الروضة الثامنة و العشرون‏

279
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

و كان من دعائه عليه السلام متفزعا إلى الله جل و عز ص : 281

وَ كانَ مِنْ دُعائِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ مُتَفَزِّعاً إِلَى اللَّهِ جَلَّ وَ عَزَّ

اللَّهُمَّ انّى‏ اخْلَصْتُ بِانْقِطاعى‏ الَيْكَ وَ اقْبَلْتُ بِكُلّى‏ عَلَيْكَ وَ صَرَفْتُ وَجْهى‏ عَمَّنْ يَحْتاجُ الى‏ رِفْدِكَ وَ قَلَبْتُ مَسْئَلَتى‏ عَمَّنْ لَمْ يَسْتَغْنِ عَنْ فَضْلِكَ وَ رَأيْتُ أَنَّ طَلَبَ الْمُحْتاجِ الَى الْمُحْتاجِ سَفَهٌ مِنْ رَأيِهِ وَ ضَلَّةٌ مِنْ عَقْلِهِ فَكَمْ قَدْ رَايْتُ يا الهى‏ مِنْ اناسٍ طَلَبُوا الْعِزَّ بِغَيْرِكَ فَذَلُّوا وَ رامُوا الثَّرْوَةَ مِنْ سِواكَ فَافْتَقَرُوا وَ حاوَلُوا الْإرتِفاعَ فَاتَّضَعُوا فَصَحَّ بِمُعايَنَةِ امْثالِهِمْ حازِمٌ وَفَّقَهُ اعْتِبارُهُ وَ ارْشَدَهُ الى‏ طَرِيقِ صَوابِهِ اخْتِيارُهُ فَانْتَ يا مَوْلاىَ دُونَ كُلِّ مَسْئُولٍ مَوْضِعُ مَسْئَلَتى‏ وَ دُونَ كُلِّ مَطْلُوبٍ الَيْهِ وَلِىُّ حاجَتى‏ انْتَ الْمَخْصُوصُ قَبلَ كُلِّ مَدْعُوٍّ بِدَعْوَتى‏ لا يَشْرَكُكَ احَدٌ في‏ رَجائى‏ وَ لا يَتَّفِقُ احَدٌ مَعَكَ في‏ دعائى‏ وَ لا يَنْظِمُهُ وَ ايَّاكَ نِدائى‏ لَكَ يا الهى‏ وَحْدانِيَّةُ الْعَدَدِ وَ مَلَكَةُ الْقُدْرَةِ الصَّمَدِ وَ فَضِيلَةُ الْحَوْلِ وَ الْقُوَّةِ وَ دَرَجَةُ الْعُلُوِّ وَ الرِّفْعَةِ وَ مَنْ سِواكَ مَرْحُومٌ في‏ عُمْرِهِ مَغْلُوبٌ عَلى امْرِهِ مَقْهُورُ عَلى‏ شَأْنِهِ مُخْتَلِفُ الحالاتِ مُتَنَقِّلٌ في الصِّفاتِ فَتَعالَيْتَ عَنِ الْأَشْباهِ وَ الْأَضْدادِ وَ تَكَبَّرْتَ عَنِ الْأَمْثالِ وَ الْأَنْدادِ فَسُبْحانَكَ لا الهَ الاَّ انْتَ‏ ..........

281
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

و كان من دعائه عليه السلام متفزعا إلى الله جل و عز ص : 281

.......... [] بسم اللّه الرّحمن الرّحيم الحمد للّه الذي فاز بالأمان من تفزّع إليه، و حاز منته الأماني من أقبل بكلّه عليه، و الصّلاة و السّلام على من نهج لنا به سبيل الرشاد، و على أهل بيته الذين اسّس بهم بنيان الحقّ و الإرشاد.

أمّا بعد فهذه الروضة الثامنة و العشرون من رياض السالكين في شرح صحيفة سيّد العابدين، صلوات اللّه و سلامه عليه و على آبائه و أبنائه الطاهرين، إملاء راجي فضل ربّه السنيّ عليّ صدر الدين الحسينيّ الحسنيّ، جعله اللّه من الفائزين يوم الفزع الأكبر بأمانه، و هداه إلى حقّ اليقين في معرفته و إيمانه، آمين.

282
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء الثامن و العشرين ص : 283

شرح الدعاء الثامن و العشرين‏

و كانَ مِن دُعائِهِ عليهِ السّلامُ مُتفزِعاً إلى‏ اللَّهِ جَلَّ و عَزّ.

قال صلوات اللَّه و سلامه عليه:

اللّهُمَّ إنّي أخْلَصْتُ بانْقِطاعي إلَيْكَ، وَ أقْبَلْتُ بِكُلّى عَلَيْكَ، فزع إليه فزعا- من باب فرح-: لجأ إليه و اعتصم به، و هو مفزع أي: ملجأ، و من كلام أمير المؤمنين و سيّد الوصيّين صلوات اللّه عليه: فإذا اشتدّ الفزع فإلى اللّه المفزع‏ «1»، أي: إذا اشتدّ الخوف فإلى اللّه الالتجاء و الاستعانة، و منه حديث الكسوف: فافزعوا إلى الصلاة، أي: ألجئوا إليها و استغيثوا بها في دفع الأمر الحادث‏ «2».

و تفزّع إلى اللّه: جهد في الفزع إليه، و كلّف نفسه إيّاه، فهو متفزّع، فالتفعّل فيه للتكلّف و المعافاة+.

 [ 840] أخلص للّه إخلاصا: صفّى قلبه عن شوب الالتفات إلى غيره، و أصله من الخلوص، و هو صفاء الشي‏ء عن كلّ ما يشوبه، و قد تقدّم الكلام عليه مبسوطا.

و انقطع إليه: لزمه و ترك غيره. قال في الأساس: هو منقطع إلى فلان‏ «3».

و تعديته ب «إلى» لتضمّنه معنى التوجّه، كأنّه قطع عن غيره فانقطع عنه متوجّها إلى من لزمه.

 [ 841] و أقبلت على الشي‏ء: وجّهت وجهي نحوه.

______________________________

 (1) الكافي: ج 2 ص 468 ح 2.

 (2) النهاية لابن الأثير: ج 3 ص 444.

 (3) أساس البلاغة: ص 514.

283
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء الثامن و العشرين ص : 283

وَ صَرَفْتُ وَجْهي عَمَّنْ يَحْتاجُ إلى‏ رِفْدِكَ، وَ قَلَبْتُ مَسْأَلَتي عَمَّنْ لَمْ‏ و «كلّ» إذا أضيفت إلى مفرد معرّف- كما وقعت هنا- افادت استغراق أجزائه، أي: أقبلت بجميع جوارحي و حواسّي الظاهرة و الباطنة عليك.

و معنى انقطاعه إليه تعالى و إقباله بكلّه عليه عزّ و جلّ: إفراده سبحانه بالرجاء و السؤال، و عدم الالتفات إلى غيره من الوسائط و الأسباب بوجه من الوجوه، و هو من باب الاستعارة التمثيليّة، شبّه حاله بحال من انقطع إلى شخص فلزمه و لم يتردّد إلى غيره و قد وجّه وجهه إليه، و عوّل في حصول مطلبه عليه.

 [ 842] و صرفت وجهي عن الشي‏ء: حوّلته عنه، و هو هنا كناية عن قطع الرجاء و الأمل عن غير اللّه تعالى، فإنّ من قطع أمله عن أحد صرف وجهه عنه و لم يلتفت إليه.

و قوله: «عمّن يحتاج إلى رفدك» أي: غيرك، فإنّ كلّ من سواه محتاج إلى رفده سبحانه، أي: صلته و إعطائه، إذ ثبت أن كلّ ممكن و موجود فهو مفتقر و محتاج إليه.

 [ 843] و قلبته قلبا- من باب ضرب-: حوّلته عن وجهه.

و المسألة: السؤال، يقال: سألت اللّه العافية أي: طلبتها، سؤالا و مسألة.

عن فضلك: أي خيرك و إحسانك، و كلّ من سواه غير مستغن عن فضله و إحسانه تعالى، إذ ثبت أنّ كلّ الموجودات أسيرة في رقّ الإمكان و الحاجة إليه تعالى شأنه، و هو المفيض على كلّ قابل ما يستحقّه و يستعدّ له من الخيرات و الفضل.

 [ 844] و رأيت: أي اعتقدت، من الرأي بمعنى الاعتقاد، أو بمعنى العلم و هي الرؤية القلبيّة، و الجملة سادّة مسدّ مفعولي رأيت.

و طلبت إلى اللّه: رغبت إليه و سألته.

و السفه بفتحتين: النقص في العقل، و قيل: رذيلة تقابل الحلم، و تعود إلى الطيش و قلّة الثبات، و قيل: هو القبيح الذي يقع من متمكّن من التحرّز عنه.

الرأي: البصيرة: و هي للقلب بمثابة البصر للنفس، يقال: رجل ذو رأي أي:

284
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء الثامن و العشرين ص : 283

يَسْتَغْنِ عَنْ فَضْلِكَ، وَ رَأَيْتُ أنَّ طَلَبَ المُحْتاجِ إلى‏ المُحْتاجِ سَفَهٌ مِنْ رَأْيِهِ، وَ ضَلَّةٌ مِنْ عَقْلِهِ.

بصيرة و علم بالأمور.

و الضلّة بالفتح: المرّة من الضلال، و هو سلوك طريق لا يوصل إلى المطلوب، أو هي بمعنى الحيرة أي: عدم الاهتداء إلى الصواب، كما نصّ عليه صاحب القاموس‏ «1».

و قال الجوهري: يقال: فلان يلومني ضلّة: إذا لم يوفّق للرشاد في عذله‏ «2».

و العقل هنا: قوّة نفسانيّة بها يدرك الإنسان حقائق الأشياء، و يميّز بين الخير و الشرّ.

و مدار هذا الفصل من الدعاء على إظهار صدق توكّله عليه السّلام على ربّه عزّ و جلّ، و التوسّل به إلى اللّه تعالى. قال بعض أرباب القلوب: التوكّل هو صدق الانقطاع إلى اللّه، و صدق الانقطاع إلى اللّه هو أن لا يكون لك حاجة إلى غير اللّه‏ «3» و قال بعضهم: من التوكّل أن لا تطلب لنفسك ناصرا غير اللّه، و لا لرزقك قاسما غير اللّه، و لا لعملك شاهدا غير اللّه‏ «4».

و قال آخر: الحمد للّه الذي قطع العلائق من المنقطعين إليه، و وهب الحقائق للمتّصلين به و المتوكّلين عليه‏ «5».

و إنّما قال عليه السّلام: «و رأيت أنّ طلب المحتاج إلى المحتاج سفه من رأيه»، لأنّ العقل و الرأي اللذين سلما من آفة النقص و الضلال، قاضيان بأنّ تأميل العاجز عاجزا مثله، و إناخة مطايا الطلب بساحة فقير مشبهه، لا يكون إلاّ عن سفه و ضلال في الرأي و العقل+.

______________________________

 (1) القاموس المحيط: ج 4 ص 5، نقلا بالمضمون.

 (2) الصحاح: ج 5 ص 1748.

 (3) لم نتحققه.

 (4) لم نعثر عليه.

 (5) لم نعثر عليه.

285
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء الثامن و العشرين ص : 283

فَكَمْ قَدْ رَأيْتُ يا إلهي مِنْ اناسٍ طَلَبُوا الْعِزَّ بِغَيْرِكَ فَذَلُّوا، وَ رامُوا الثَرْوَةَ مِنْ سِواكَ فَافْتَقَرُوا، وَ حاوَلُوا الْإرتِفاعَ فَاتَّضَعُوا، فَصَحَّ بِمُعايَنَةِ أمْثالِهِمْ حازِمٌ، وَفَّقَهُ اعْتِبارُهُ، وَ أرْشَدَهُ إلى‏ طَرِيقِ صَوابِهِ اخْتِيارُهُ، فَأنْتَ يا مَوْلايَ دُونَ كُلِّ مَسْئُولٍ مَوْضِعُ مَسْألَتي، وَ دُونَ كُلِّ مَطْلُوبٍ إلَيْهِ وَلِيُّ حاجَتي، أنْتَ المَخْصُوصُ قَبْلَ كُلِّ مَدْعُوٍّ بِدَعْوَتي، لا يَشْرَكُكَ أحَدٌ في رَجائي، وَ لا يَتَّفِقُ أحَدٌ مَعَكَ في دُعائي وَ لا يَنظِمُهُ وَ إيّاكَ نِدائي.

 [ 845] الفاء: للسببيّة، لأنّ ما بعدها، و هو كثرة رؤيته عليه السّلام لاناس طلبوا العزّ بغير اللّه سبحانه فذلّوا إلى آخره، سبب لما قبلها، و هو اعتقاده أنّ طلب المحتاج إلى المحتاج سفه من رأيه و ضلّة من عقله، و أغرب من قال: إنّها للاستئناف.

و كم: خبريّة بمعنى: كثير، و هي في موضع نصب ب «رأيت»، و وجب تقديمها للزومها الصدر من حيث تضمّنها للمعنى الإنشائي في التكثير، كما أنّ «ربّ» تضمّنت المعنى الإنشائي في التقليل، و وجب لها صدر الكلام.

و «من» في قوله: «من أناس»: لبيان الجنس، و أناس: تمييز ل «كم»، و جي‏ء بها لئلاّ يلتبس بمفعول رأيت.

قال الرضي رضي اللّه عنه: إذا فصل بين كم الخبريّة و مميّزها بفعل متعدّ وجب الإتيان ب «من»، لئلاّ يلتبس التمييز بمفعول ذلك الفعل المتعدّي، نحو: «كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ» «1» «وَ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ» «2» «3».

و أناس بضمّ الهمزة، اسم جمع للإنسان، و هو لغة في الناس.

و قال الزمخشري: يمكن أن يكون أصله الكسر على أبنية الجموع، ثمّ ضمّ للدلالة على زيادة قوّة كما في سكارى‏ «4».

______________________________

 (1) سورة الدخان: الآية 25.

 (2) سورة القصص: الآية 58.

 (3) الكافية في النحو: ج 2 ص 97.

 (4) تفسير الكشاف: ج 2 ص 169. ما مضمونه.

286
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء الثامن و العشرين ص : 283

.......... و قيل: هو أصل للناس، حذفت همزته تخفيفا و عوّض عنها حرف التعريف، و لذلك لا يكاد يجمع بينهما، و أمّا قوله:

إنّ المنايا يطلعن على الاناس الآمنينا

 

 

 

 فشاذّ.

و جملة قوله: «طلبوا العزّ» في محلّ جرّ صفة لاناس.

و طلبت الشي‏ء- من باب قتل- طلبا بفتحتين: حاولت وجوده. و الباء في قوله عليه السّلام: «بغيرك»: للاستعانة.

و ذلّ ذلا- من باب ضرب-: إذا ضعف و هان، و الاسم الذلّ بالضمّ، و هو خلاف العزّ.

و رمت الشي‏ء أرومه روما و مراما: طلبته.

و الثروة: كثرة المال، و أثرى إثراء استغنى، و الاسم منه الثراء بالفتح و المدّ.

و افتقر: صار فقيرا.

و حاولت الشي‏ء محاولة: أردته.

و الارتفاع و الاتّضاع: افتعال من الرفعة و الضعة، و هما في الأجسام حقيقة في الحركة و الانتقال، و في المعاني محمولان على ما يقتضيه المقام، فالمراد بهما هنا في القدر و المنزلة.

و الفاء في المواضع الثلاثة من قوله: «فذلوا» و نظيريه: للترتيب و التعقيب و السببيّة، نحو: «فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ».

قال الرضي: إذا عطفت الفاء جملة على جملة، أفادت كون مضمون الجملة التي بعدها عقيب مضمون الجملة التي قبلها بلا فصل، نحو: قام زيد فقعد عمرو «1».

______________________________

 (1) الكافية في النحو: ج 2 ص 365.

287
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء الثامن و العشرين ص : 283

.......... و إنّما كان طلب العزّ و روم الثروة و محاولة الارتفاع من غير اللّه تعالى سببا للذلّ و الافتقار و الاتّضاع، لما ثبت أنّ اللّه تعالى هو المفيض لكلّ خير، و المعطي لكلّ طالب ما طلب بحسب استعداده، إمّا بسبب أو بدونه، فإذا توجّه الإنسان إلى غيره، و التفت بقلبه و قالبه إليه، و عوّل في نجاح طلبته عليه، فقد ترك الاستعداد لحصول مطلوبه و نيل بغيته، بل استعدّ بذلك للحرمان و خيبة الرجاء، فإنّ من اعتقد جزما أو ظنّا بأنّ أحدا غير اللّه تعالى، ممّن ينسب إليه التأثير و القدرة، هو المتمكّن من الفعل، و أنّه تام القدرة على تحصيل مراده و الوفاء به، فإنّ ذلك أقوى الأسباب المعدّة لأن يمنعه اللّه إفاضته، و يقطع عنه أسباب مواهبه، و من منع اللّه منه خيره، و قطع عنه سبب فضله، كان أذلّ من كلّ ذليل، و أفقر من كلّ فقير، و أوضع من كلّ وضيع، لا جرم كان طلب الإنسان إلى غير اللّه سبحانه سببا لحرمانه و حصول عكس مطلوبه، و لذلك ورد في الحديث القدسي: أنّ اللّه سبحانه و تعالى يقول: و عزّتي و جلالي و مجدي و ارتفاعي لأقطعنّ أمل كلّ مؤمّل غيري باليأس، و لأكسونّه ثوب المذلّة عند الناس، و لانحينّه من قربي، و لابعدنّه من فضلي‏ «1». و قد ذكرنا الحديث بتمامه في الروضة الثالثة عشرة «2».

و في معناه ما رواه أبو القاسم النيسابوري في المجلس السادس و الخمسين من كتاب خلق الإنسان، قال: روى سيّدنا موسى بن جعفر، عن أبيه، عن جدّه محمّد، عن أبيه عليّ بن الحسين، عن أبيه الحسين بن عليّ، عن أبيه عليّ بن أبي طالب عليهم السّلام: أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: قال اللّه جلّ جلاله: ما من مخلوق يعتصم بمخلوق دوني إلاّ قطعت أسباب السماوات و الأرض دونه، فإن دعاني لم اجبه، و إن سألني لم أعطه، و ما من مخلوق يعتصم بي دون خلقي إلاّ ضمنت‏

______________________________

 (1) الكافي: ج 2 ص 66 ح 7.

 (2) ج 3 ص 21.

288
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء الثامن و العشرين ص : 283

.......... السماوات و الأرض رزقه، فإن سألني أعطيته، و إن دعاني أجبته، و إن استغفرني غفرت له‏ «1».

 [ 846] قوله عليه السّلام: «فصحّ بمعاينة أمثالهم حازم» إلى آخره، الفاء: للسببيّة، أي: فبسبب ذلك صحّ.

و الباء من قوله: «بمعاينة أمثالهم»: للملابسة، أي: متلبّسا بها، أو للسببيّة تصريحا بمدلول الفاء.

و الصحّة: ذهاب المرض و البراءة من كلّ عيب، صحّ يصحّ- من باب ضرب- فهو صحيح.

و عاينت الشي‏ء عيانا و معاينة: إذا رأيته بعينك.

و المراد بأمثالهم: ذواتهم، أي: بمعاينتهم، و إنّما أقحم لفظ الأمثال للمبالغة، فهو نحو: مثل الأمير يحمل على الأدهم و الأشهب‏ «2»، أي: الأمير يحمل.

قال السعد التفتازاني: لفظ المثل كناية عمّن أضيف إليه، لأنّه إذا ثبت الفعل لمن يسدّ مسدّه، و من هو على أخصّ أوصافه، و أريد أنّ من كان على الصفة التي هو عليها كان من مقتضى القياس و موجب العرف أن يفعل كذا، لزم الثبوت لذاته بالطريق الأولى‏ «3»، انته.

و كذا الكلام هنا، فإنّه إذا صحّ الحازم بمعاينة من يسدّ مسدّهم و يكون على أخصّ أوصافهم، فصحّته بمعاينة ذواتهم أولى، و قد كشف أبو الطيّب قناع الكناية بالمثل في قوله يخاطب عضد الدولة و يعزّيه بعمّته.

مثلك يثني الحزن عن صوبه‏

 

 و يستردّ الدمع من عزبه‏

و لم أقل مثلك أعني به‏

 

 سواك يا فردا بلا شبّه‏ «4»

 

______________________________

 (1) لم نعثر عليه.

 (2) الكشكول: ص 216.

 (3) لم نعثر عليه.

 (4) الايضاح في علوم البلاغة: ص 147- 148.

289
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء الثامن و العشرين ص : 283

.......... و إسناد الصحّة إلى الحازم باعتبار براءته من عيب الطلب إلى غير اللّه، و يجوز أن يكون حذف مضاف، أي: صحّ حزم حازم، بمعنى ثبت و تحقّق.

و الحزم: إتقان الرأي و ضبط الأمر و الأخذ فيه بالثقة.

و المراد بالحازم: نفسه عليه السّلام على سبيل التجريد، جرّد من نفسه الكريمة صفة الحزم، و جعلها شخصا آخر متّصفا بها، لقصد المبالغة في الحزم، كما جرّد الشاعر من نفسه صفة الكرم فقال:

فلئن بقيت لأرحلنّ بغزوة

 

 تحوي الغنائم أو يموت كريم‏ «1»

 

 يعني بالكريم: نفسه، فكأنّه انتزع من نفسه كريما مبالغة في كرمه، و لذلك لم يقل: أو أموت، و قد مرّ تعريف التجريد في الروضة الثانية عشرة، فليرجع إليه.

و التوفيق: جعل إرادة العبد و فعله موافقا لما يحبّه اللّه و يرضاه، و إسناده إلى الاعتبار مجاز عقلي من باب إسناد الفعل إلى مسبّبه، و إلاّ فالموفّق حقيقة هو اللّه سبحانه.

و يطلق الاعتبار على معنيين:

أحدهما: الاختبار و الامتحان، مثل: اعتبرت الدراهم فوجدتها ألفا.

الثاني: الاتّعاظ، و منه قوله تعالى: «فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ» «2»، و العبرة بالكسر: اسم منه.

قال الخليل: العبرة: الاعتبار بما مضى‏ «3»، أي: الاتّعاظ و التذكّر «4».

و الفعل منه بالمعنى الأوّل يعدّى بنفسه فيقال: اعتبرت الشي‏ء أي: اختبرته، و بالمعنى الثاني يعدّى بالباء فيقال: اعتبرت بالشي‏ء أي: اتّعظت به.

و أصله بالمعنيين من العبور، و هو النفوذ من أحد الجانبين إلى الآخر، فإنّ المعتبر

______________________________

 (1) أنوار الربيع: ج 6 ص 155.

 (2) سورة الحشر: الآية 2.

 (3) كتاب العين: ج 2 ص 129.

 (4) المصباح المنير: ص 532.

290
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء الثامن و العشرين ص : 283

.......... للشي‏ء الممتحن له يعبر من الجهل به إلى العلم به، و المعتبر بالشي‏ء المتّعظ به تارك جهله و واصل إلى علمه بما اعتبر به.

إذ عرفت ذلك فحمل الاعتبار في الدعاء على كلّ من المعنيين صحيح فمعناه على الأوّل: وفّقه امتحانه للأمور و اختباره لها حتّى عرف خيرها من شرّها، و على الثاني: وفّقه اتّعاظه بما رآه من حال من سأل غير اللّه و رغب إليه.

و يأتي الاعتبار بمعنى: الاعتداد بالشي‏ء في ترتيب الحكم، نحو: لا اعتبار بشهادة الواحد.

و إرادة هذا المعنى هنا صحيحة أيضا، فيكون المعنى: وفّقه اعتداده بما رأى من حال الطالبين إلى غير اللّه في صرف وجهه و قلب مسألة من غيره سبحانه.

و أرشده إلى الطريق إرشادا: هداه إليه، و دلّه عليه.

و طريق صوابه أي: الموصل إلى مقصده من غير خطأ و لا ضلال.

و الصواب: مصادفة المقصود.

و اختباره بالباء الموحّدة بمعنى: امتحانه للأمور و النظر فيها ليصل إلى المعرفة بها، كأنّه يصيب خبرها. و يروى: «اختياره» بالياء المثّناة من تحت، أي: إرادته لما هو خير، يقال: خيّرته بين الشيئين فاختار أحدهما، و الاختيار و الإيثار بمعنى واحد.

و المعنى: هداه إلى طريق صوابه، و هو الانقطاع إلى اللّه تعالى، اختياره أي:

توصله إلى معرفة سبيل الصواب من الخطأ، أو اختياره لما هو خير له، من لزوم الحقّ و الانحراف عن الباطل.

 [ 847] قوله عليه السّلام: «فأنت يا مولاي دون كلّ مسئول موضع مسألتي» الفاء:

فصيحة، أي: إذا كان الأمر كذلك فأنت يا ربّي أو يا مالكي أو يا سيّدي أو يا منعما على كلّ، فكلّ هذه المعاني ثابتة للمولى دون كلّ مسئول، أي: متجاوزا

291
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء الثامن و العشرين ص : 283

.......... كلّ مسئول.

فدون: ظرف مستقرّ متعلّق بمحذوف وقع حالا من «أنت»، و قد تقدّم أنّ «دون» ممّا اتّسع فيه، فاستعمل في كلّ تجاوز حدّ إلى حدّ، و تخطّي أمر إلى أمر.

و الموضع: مكان الوضع، و أصله في الأجسام، يقال: وضعت الشي‏ء في المكان أي: أثبتّه فيه، و ذلك المكان موضع له، ثمّ استعمل في المعاني فقيل: وضعت عنده سرّي: إذا أسررته إليه، و منه حديث: واضع العلم عند غير أهله كمقلّد الخنازير الجواهر «1»، أي: معلّم العلم غير أهله، فمعنى موضع مسألتي: من أسأله و أوجّه إليه سؤالي.

و وليّ حاجتي أي: القائم بها و متولّي قضائها، من وليه: إذا قام به، فهو فعيل بمعنى فاعل، و يجوز أن يكون بمعنى مفعول، أي: من أوليه حاجتي، من ولاّه الأمر أي: قلّده إيّاه، و هو الأنسب بسياق الكلام.

 [ 848] و خصصته بكذا أخصّه خصوصا- من باب قعد-: جعلته له دون غيره.

و قبل كلّ مدعوّ أي: قبل أن أدعو غيرك من المدعوين.

و الدعوة: اسم من دعوت اللّه أدعوه دعاء: إذا ابتهلت إليه بالسؤال، و رغبت فيما عنده من الخير.

و جملة «أنت المخصوص» مؤكّدة لما قبلها، و لذلك لم يعطفها عليه، لكمال الاتّصال المستغنى به عن الرابط.

و شركته في الأمر أشركه- من باب تعب- شركا بكسر الأوّل و سكون الثاني: إذا صرت له شريكا.

و الجملة حاليّة أي: أنت المخصوص بدعوتي حال كونك لا يشركك أحد في‏

______________________________

 (1) أدب الدنيا و الدين: ص 89.

292
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء الثامن و العشرين ص : 283

لَكَ يا إلهي وَحْدانِيَّةُ العَدَدِ، وَ مَلَكَةُ الْقُدْرَةِ الصَّمَدِ، وَ فَضِيلَةُ الْحَوْلِ وَ الْقُوَّةِ، وَ دَرَجَةُ الْعُلُوِّ وَ الرِّفْعَةِ، وَ مَنْ سِواكَ مَرْحُومٌ في عُمْرِهِ، مَغْلُوبٌ عَلى أمْرِهِ، مَقْهُورٌ عَلى‏ شَأْنِهِ، مُخْتَلِفُ الحالاتِ، مُتَنِقّلٌ في الصِّفاتِ، فَتَعالَيْتَ عَنِ الأَشْباهِ وَ الأَضْدادِ، وَ تَكَبَّرْتَ عَنِ الأَمْثالِ وَ الأَنْدادِ، فَسُبْحانَكَ لا إلهَ إلاَّ أنْتَ.

رجائي، أو تأكيد لما قبلها، أو استئناف مؤكّد لما سبق.

و الاتّفاق: المساواة في أمر من الأمور، يقال: اتّفقت مع زيد في المذهب: إذا ساويته فيه، أي: لا يساويك أحد في دعائي.

و نظمت اللؤلؤ نظما- من باب ضرب-: جعلته في سلك، و هو يستلزم الجمع، فالمعنى: لا يجمعه و إيّاك.

ندائي: أي: دعائي، يقال: ناديته مناداة و نداء- من باب قاتل-: إذا دعوته، أي: طلبت إقباله.

و مفاد الجمل الثلاث كلّها: التأكيد في إفراده تعالى بالرغبة إليه و الإقبال عليه+.

 [ 849] تقديم المسند لإفادة قصر المسند إليه، أي: لك وحدانيّة العدد لا تتخطّاك إلى غيرك.

و وحدانيّة الشي‏ء: كونه واحدا، لأنّه ياء النسب إذا لحقت آخر الاسم و بعدها هاء التأنيث أفادت معنى المصدر كالألوهيّة و الربوبيّة، و الألف و النون مزيدتان للمبالغة.

و العدد: قيل: هو كثرة الآحاد، و هي صورة تقطيع في نفس العادّ من تكرار الآحاد، و على هذا فالواحد ليس عددا. و قيل: هو ما يقع جوابا ل «كم»، فيكون الواحد عددا.

293
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء الثامن و العشرين ص : 283

.......... و قد اختلفت أقوال الأصحاب في معنى قوله عليه السّلام: «لك يا إلهي وحدانيّة العدد» لمنافاتها ظاهرا وجوب تنزيهه تعالى عن الوحدة العدديّة نقلا و عقلا.

أمّا النقل فمستفيض من أخبارهم عليهم السّلام، و منه قول أمير المؤمنين عليه السّلام في خطبة له: الواحد بلا تأويل عدد «1».

و قوله في خطبة أخرى: واحد لا بعدد، و دائم لا بأمد «2».

و منه ما رواه رئيس المحدّثين في كتاب التوحيد: إنّ أعرابيّا قام يوم الجمل إلى أمير المؤمنين عليه السّلام فقال: يا أمير المؤمنين، أتقول: إنّ اللّه واحد؟ فحمل الناس عليه، و قالوا: يا أعرابي أما ترى ما فيه أمير المؤمنين من تقسيم القلب؟ فقال أمير المؤمنين عليه السّلام: دعوه، فإنّ الذي يريده الأعرابي هو الذي نريده من القوم، ثمّ قال: يا أعرابي، إنّ القول بأنّ اللّه واحد على أربعة أقسام، فوجهان منها لا يجوزان على اللّه عزّ و جلّ، و وجهان مثبتان فيه، فأمّا اللذان لا يجوزان عليه فقول القائل: واحد، يقصد باب الأعداد، أما ترى أنّه كفر من قال: ثالث ثلاثة، و قول القائل: هو واحد من الناس، يريد به النوع من الجنس، فهذا ما لا يجوز لأنّه تشبيه، و جلّ ربّنا عن ذلك و تعالى، و أمّا الوجهان اللذان يثبتان فيه، فقول القائل: هو واحد ليس له من الأشياء شبيه، كذلك ربّنا، و قول القائل: إنّه عزّ و جلّ أحديّ المعنى، يعني به أنّه لا ينقسم في وجود و لا عقل و لا وهم، كذلك ربّنا جلّ و عزّ «3».

و أمّا العقل، فلأنّ الوحدة العدديّة إنّما تتقوم بتكرّرها الكثرة العدديّة، و يصحّ بحسبها أن يقال: إنّ المتّصف بها أحد أعداد الوجود، أو أحد آحاد الموجودات، و عزّ جنابه سبحانه أن يكون كذلك، بل الوحدة العدديّة و الكثرة العدديّة التي هي في‏

______________________________

 (1) نهج البلاغة: ص 12، الخطب 152.

 (2) نهج البلاغة: ص 269 الخطب 185.

 (3) التوحيد: ص 83 ح 3.

294
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء الثامن و العشرين ص : 283

.......... مقابلتها، جميعا من صنع وحدته المحضة الحقيقية التي هي نفس ذاته القيّومة، و هي وحدة حقّة صرفة وجوبيّة قائمة بالذات لا مقابل لها، و من لوازمها نفي الكثرة، كما أشار إليه أمير المؤمنين صلوات اللّه و سلامه عليه في الحديث المذكور آنفا: أنّه أحدي المعنى لا ينقسم في وجود و لا عقل و لا وهم.

و إذا عرفت ذلك، ظهر لك أنّ قوله عليه السّلام: «لك يا إلهي وحدانيّة العدد» ليس مرادا به الوحدة العدديّة، بل لا بدّ من معنى آخر يصحّ تخصيصه به تعالى و قصره عليه، كما يقتضيه تقديم المسند على المسند إليه. فقال بعضهم: المراد به: نفي الوحدة العدديّة عنه تعالى لا اثباتها له، و هو غير ظاهر.

و قيل: معناه: أنّ لك من جنس العدد صفة الوحدة، و هو كونك واحدا لا شريك لك و لا ثاني لك في الربوبيّة.

و قيل: معناه: إذا عددت الموجودات كنت أنت المتفرّد بالوحدانيّة من بينها.

و قيل: أراد به: أنّ لك وحدانيّة العدد بالخلق و الإيجاد لها، فإنّ الوحدة العدديّة من صنعه و فيض وجوده. و لا يخفى أنّه بمعزل عن المقام.

و قال بعضهم: أراد بوحدانيّة العدد: جهة وحدة الكثرات و أحديّة جمعها، لا إثبات الوحدة العدديّة له تعالى.

و قيل: معناه: أنّه لا كثرة فيك، أي: لا جزء لك و لا صفة لك يزيدان على ذاتك، و هو أنسب المعاني المذكورة بالمقام.

و توضيح المرام: قوله عليه السّلام: «لك يا إلهي وحدانيّة العدد» يفسّر قوله عليه السّلام: «و من سواك مختلف الحالات متنقّل في الصفات»، فإنّه عليه السّلام قابل كلّ فقرة من الفقرات الأربع المتضمّنة للصفات التي قصرها عليه سبحانه بفقرة متضمّنة لخلافها، فمن سواه على طريق اللّف و النشر الذي يسميّه أرباب البديع معكوس الترتيب، و هو أن يذكر متعدّد تفصيلا، ثمّ تذكر أشياء على عدد

295
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء الثامن و العشرين ص : 283

.......... ذلك، كلّ واحد يرجع إلى واحد من المتقدّم من غير تعيين، ثقة بأنّ السامع يردّ كلّ واحد إلى ما يليق به، و يكون الأوّل من النشر للآخر من اللفّ، و الثاني لما قبله و هكذا على الترتيب، كعبارة الدعاء، فإنّ قوله عليه السّلام: «مختلف الحالات متنقّل في الصفات» راجع إلى قوله: «لك يا إلهي وحدانيّة العدد»، و قوله:

 «مقهور على شأنه» راجع إلى قوله: «و ملكة القدرة الصمد»، و قوله: «مغلوب على أمره» راجع إلى قوله: «و فضيلة الحول و القوّة»، و قوله: «مرحوم في عمره» راجع إلى قوله: «درجة العلوّ و الرفعة».

إذا علمت ذلك، ظهر لك أنّ المراد بوحدانيّة العدد له تعالى معنى يخالف معنى اختلاف الحالات و التنقّل في الصفات لغيره سبحانه، فيكون المقصود إثبات وحدانيّة ما تعدّد من صفاته و تكثّر من جهاته، و أنّ عددها و كثرتها في الاعتبارات و المفهومات لا يقتضي اختلافا في الجهات و الحيثيّات، و تركيبا من الأجزاء، بل جميع نعوته و صفاته المتعدّدة موجودة بوجود ذاته، و حيثيّة ذاته بعينها علمه و قدرته و سائر صفاته الإيجابيّة، فلا تعدّد و لا تكثّر فيها أصلا، بل هي وحدانيّة العدد موجودة بوجود واحد بسيط من كلّ وجه، إذ كلّ منها عين ذاته، فلو تعدّدت لزم كون الذات الواحدة ذواتا، تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا، و هذا معنى قولهم:

واجب الوجود بالذات واجب الوجود من جميع الجهات، فجميع صفاته الإيجابيّة عين ذاته من غير لزوم تكثّر.

فإن قلت: كيف تكون صفاته عين ذاته، و مفهوم الصفة غير مفهوم الذات؟

و أيضا فإنّ مفهوم كلّ صفة غير مفهوم صفة أخرى، فكيف تتحّد بالذات؟

قلت: قد تكون المفهومات المتعدّدة موجودة بوجود واحد، فالصفات بحسب المفهوم و إن كانت غير الذات، و بعضها يغاير بعضها، إلاّ أنّها بحسب الوجود ليست أمرا وراء الذّات، أعني أنّ ذاته الأحديّة تعالى شأنه هي بعينها صفاته الذاتيّة،

296
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء الثامن و العشرين ص : 283

.......... بمعنى أنّ ذاته بذاته وجود و علم و قدرة و حياة و سمع و بصر، و هي أيضا موجود عالم قادر حيّ سميع بصير، يترتّب عليها آثار جميع الكمالات، و يكون من حيث ذاته مبدأ لها، من غير افتقار إلى معان اخر قائمة به تسمّى صفاتا تكون مصدرا للآثار، لمنافاته الوحدة و الغناء الذاتيّين و الاختصاص بالقدم، فذاته صفاته و صفاته ذاته، لا زائدة عليها كصفات غيره المخلوقين، فإنّ العلم مثلا في غيره سبحانه صفة زائدة على ذاته مغايرة للسمع فيه، و فيه نفسه تعالى و هو بعينه سمعه، و قس على ذلك سائر الصفات الثبوتيّة، فتبيّن أنّ المراد بقصر وحدانيّة العدد عليه تعالى هذا المعنى المخالف لصفات من سواه و حالاته، فإنّها كيفيّات نفسانيّة انفعاليّة و حالات متغيّرة و معان مختلفة له، إذ كان يسمع بغير ما يبصر و يبصر بغير ما يسمع، إلى غير ذلك من صفاته المتعددة المتكثّرة التي توجب اختلاف الحالات و التنقّل في الصفات.

و بالجملة: فمعنى قصر وحدانيّة العدد عليه سبحانه: نفي التعدّد و التكثّر و الاختلاف عن الذات و الصفات على الإطلاق، و هذا المعنى مقصور عليه تعالى لا يتجاوزه إلى غيره، و اللّه أعلم بمقاصد أوليائه، و في المقام كلام طويل طويناه على غرة.

قوله عليه السّلام: «و ملكة القدرة الصمد» الملكة بفتحتين: القيام بالمماليك، و ما يملك من ذات اليد، و في الحديث: «حسن الملكة نماء و سوء الملكة شؤم» [1] أي: لك القيام بالقدرة الصمد، فتكون من باب الإضافة إلى المفعول، و يجوز أن يكون من باب الإضافة إلى الفاعل على أنّ المعنى: بك قيام القدرة الصمد بكلّ شي‏ء.

و عرّفوا القدرة بأنّها الصفة التي يتمكّن معها الحيّ من الفعل و تركه بالإرادة و الاختيار.

______________________________

 [1] هكذا في الأصل، و لكنّ الصحيح: «حسن الملكة نماء و سوء الخلق شؤم»، راجع سنن أبي داود:

ج 4 ص 341 ح 5163.

297
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء الثامن و العشرين ص : 283

.......... و قدرته تعالى تعود إلى اعتبار كونه مصدرا لآثاره.

و الصمد بالخفض: نعت للقدرة، كأنّه ممّا يستوي في الوصف به المذكّر و المؤنّث كعزب بفتحتين: و هو من الرجال من لا زوج له و من النساء أيضا من لا بعل لها، يقال: رجل عزب و امرأة عزب كذلك، قال الشاعر:

يا من يدلّ عزبا على عزب‏

 

 على ابنة الشيخ الحمارس الأزب‏ «1»

 

 و يجوز أن يكون وصف القدرة بالصمد من حيث إنّ قدرته تعالى عين ذاته، و أن يكون المراد بالقدرة: القادر، بذكر المشتق منه مقام المشتق.

و اختلفت أقوال العلماء في معنى الصمد، فقيل: هو فعل بمعنى مفعول، من صمد إليه: إذا قصده، أي: المصمود إليه في الحوائج، قال الشاعر:

ألا بكّر الناعي بخير بني أسد

 

 بعمرو بن مسعود و بالسيّد الصمد «2»

 

 و هذا المعنى مروي عن أبي جعفر عليه السّلام، أيضا، روى ثقة الإسلام بسنده عن داود بن القاسم الجعفري، قال: قلت لأبي جعفر عليه السّلام: جعلت فداك ما الصمد؟ قال: السيّد المصمود إليه في القليل و الكثير «3».

و عنه عليه السّلام أنّه قال: الصمد: السيّد المطاع الذي ليس فوقه آمر و ناهي‏ «4».

و عنه عليه السّلام قال: حدّثني: أبي زين العابدين عن أبيه الحسين بن عليّ سيّد الشهداء أنّه قال: الصمد: الذي لا جوف له، و الصمد: الذي انته سؤدده، و الصمد، الذي لا يأكل و لا يشرب، و الصمد: الذي لا ينام، و الصمد: الدائم الذي لم يزل و لا يزال. «5»

______________________________

 (1) لسان العرب: ج 1 ص 596.

 (2) التفسير الكبير للفخر الرازي: ج 32 ص 181.

 (3) نور الثقلين: ج 5 ص 710.

 (4) التوحيد: ص 90 ح 3.

 (5) التوحيد: ص 90 ح 3.

298
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء الثامن و العشرين ص : 283

.......... و عنه عليه السّلام قال: سئل عليّ بن الحسين زين العابدين عليه السّلام عن الصمد، فقال: الصمد، الذي لا شريك له، و لا يؤده حفظ شي‏ء و لا يعزب عنه شي‏ء «1».

و عنه عليه السّلام قال: كان محمّد بن الحنفيّة يقول: الصمد: القائم بنفسه الغنيّ عن غيره و قال غيره: الصمد: المتعالي عن الكون و الفساد، و الصمد: الذي لا يوصف بالتغاير «2».

و عن الصادق عليه السّلام: هو الذي يغلب و لا يغلب‏ «3».

و قال وهب بن وهب القرشي: قال زيد بن عليّ عليهما السّلام الصمد: الذي إذا أراد شيئا قال له: كن فيكون، و الصمد: الذي أبدع الأشياء فخلقها أضدادا و أشكالا و أزواجا، و تفرّد بالوحدة بلا ضدّ و لا شكل و لا مثل و لا ندّ «4».

و عن زين العابدين عليه السّلام: الصمد: الذي لا من شي‏ء و لا في شي‏ء و لا على شي‏ء مبدع الأشياء و خالقها، و منشئ الأشياء بقدرته، يتلاشى ما خلق للفناء بمشيئته، و يبقى ما خلق للبقاء بعلمه، فذلكم اللّه الصمد الذي لم يلد و لم يولد، عالم الغيب و الشهادة الكبير المتعال‏ «5».

و قيل: هو الذي يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد «6».

و عن الحسن: هو الذي صمدت إليه الأمور، فلا يقضي فيها غيره و لا تقتضي دونه‏ «7».

و روى رئيس المحدّثين في كتاب التوحيد بسند صحيح عن محمّد بن مسلم عن‏

______________________________

 (1) التوحيد: ص 90 ح 3.

 (2) التوحيد: ص 90 ح 3.

 (3) التفسير الكبير للفخر الرازي: ج 32 ص 182.

 (4) التوحيد: ص 90 ح 4.

 (5) التوحيد: ص 90 ح 5.

 (6) التفسير الكبير للفخر الرازي: ج 32 ص 181.

 (7) لم نتحققه.

299
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء الثامن و العشرين ص : 283

.......... أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: قلت له: ما الصمد؟ قال: الذي ليس بمجوّف‏ «1».

و بسنده أيضا عن أبي الحسن قال: الصمد الذي لا جوف له‏ «2».

و أنكر ثقة الإسلام قدّس اللّه روحه و سرّه في كتاب الكافي هذا التأويل، قال:

لأنّ ذلك لا يكون إلاّ من صفة الجسم، و اللّه جلّ ذكره متعال عن ذلك‏ «3».

و تعقّبه بعض أصحابنا المتأخّرين فقال: بل هذا التأويل له معنى صحيح و وجه ظاهر، إذ الجوف كما يطلق على فرجة في الباطن كذلك يطلق على الباطن و إن لم تكن له فرجة، كما إذا قيل: هذا في جوف ذاك أي: تحته، فالجوف من الصفات اللازمة للجسم، فنفيه كناية عن نفي الجسميّة عنه تعالى، بل لا يبعد أن يكون هذا التأويل تنزيها له عن التشبيه على الإطلاق، و عن أن يكون له جزء و وجود و صفات زائدة و كمال بالقوّة، إذ كلّ ما كان له أحد هذه الأمور كان له فرجة عقليّة و جوف معنوي، يستقرّ فيه وجه التشبيه و الأجزاء و الصفات و استعداد الكمال، و بالجملة: فيه إشارة إلى التوحيد المطلق، و نفي التشبيه بشي‏ء من مخلوقاته، إذ كلّ مخلوق فهو ذو جوف و فرج، بماله من الماهيّة و الأجزاء و الوجود و الاستعداد «4»، انته.

و قال النظام النيسابوري: قيل: الصمد: هو الذي لا جوف له، و منه قولهم لسدّاد القارورة: صمّاد، و شي‏ء مصمد أي: صلب ليس فيه رخاوة، قال ابن قتيبة: يجوز على هذا التفسير أن تكون الدال بدل التاء من مصمت، و قال بعض المتأخّرين من أهل اللغة: الصمد: هو الملس من الحجر لا يقبل الغبار و لا يدخله شي‏ء و لا يخرج منه شي‏ء و لا يخفى أنّ هذين المعنيين من صفات الأجسام حقيقة، إلاّ أنّ وصف اللّه سبحانه به يمنع من حمله عليهما حقيقة، لأنّ كلّ جسم مركّب، فوجب‏

______________________________

 (1) التوحيد: ص 93 ح 8.

 (2) التوحيد: ص 93 ح 7.

 (3) الكافي: ج 1 ص 124.

 (4) شرح الكافي للمولى محمّد صالح المازندراني: ج 4 ص 82- 83.

300
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء الثامن و العشرين ص : 283

.......... الحمل على المجاز، و هو أنّه لوجوب ذاته ممتنع التغيّر في وجوده و بقائه و سائر صفاته، و من هنا اختلفت عبارات المفسّرين في تأويله‏ «1»، انته.

قلت: و المعاني المذكورة للصمد كلّها يمكن حمل الصمد الموصوف به القدرة عليها، من حيث إنّ قدرته عزّ و جلّ عين ذاته و ذاته عين قدرته، إلاّ أنّ الأنسب حمله على معنى المصمت الذي لا جوف له، و يكون من باب التمثيل في استحكام القدرة و شدّتها، بحيث لا يتطرّق إليها خلل أو ضعف، لأنّ الشي‏ء إذا كان مصمتا كان منعوتا بشدّة القوّة و الاستحكام و الاضطلاع بما يضعف عنه غيره لصلابته و عدم رخاوته، ألا ترى أنّهم إذا مدحوا الرمح قالوا: رمح أصمّ أي: صلب مصمت لا رخاوة فيه و لا يلحقه و هن و اعوجاج، و اللّه أعلم.

قوله عليه السّلام: «و فضيلة الحول و القوّة» الفضيلة: الدرجة الرفيعة في الفضل، و هو ضدّ النقص.

و قال الجوهري: الفضل و الفضيلة: ضدّ النقص و النقيصة «2» و الحول: القدرة على التصرّف.

و القوّة: مبدأ الأفعال الشاقّة، و قوّته تعالى تعود إلى تمام قدرته تعالى، فهو تعالى قويّ بمعنى: بالغ القدرة تامّها.

قوله عليه السّلام: «و درجة العلوّ و الرفعة».

الدرجة في الأصل: المرقاة، ثم استعملت بمعنى المنزلة و المرتبة الرفيعة، و منه قوله تعالى: «فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً» «3» أي:

منزلة عالية.

و العلوّ و الرفعة في اللغة بمعنى، و هو الفوقيّة، و لك تخصيص العلوّ هنا بعلوّه تعالى‏

______________________________

 (1) غرائب القرآن و رغائب الفرقان: ج 3 ذيل الآية «الصمد» من سورة التوحيد.

 (2) الصحاح: ج 5 ص 1791.

 (3) سورة النساء: الآية 95.

301
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء الثامن و العشرين ص : 283

.......... على الخلق بالقدرة عليهم، و الرفعة بارتفاعه عن الأشياء و الاتّصاف بصفاتهم و بالعكس.

و المعنى: لك درجة علوّ السلطان و رفعة الشأن، إذ كان سبحانه أشرف الموجودات رتبة، من جهة استغنائه في وجوده عن كلّ ما سواه، و افتقار ما سواه إليه، كما قال تعالى: «رَفِيعُ الدَّرَجاتِ» «1».

قال الغزالي في المقصد الأسنى: العلوّ: مأخوذ من العلوّ المقابل للسفل، و ذلك إمّا في درجات محسوسة كالدرج و المراقي و جميع الأجسام الموضوعة بعضها فوق بعض. و إمّا في المراتب المعقولة للموجودات المترتبة نوعا من الترتيب العقلي، فكل ما له الفوقيّة في المكان فله العلوّ المكاني، و كلّ ماله الفوقية في الرتبة فله العلوّ في الرتبة. و التدريجات العقليّة مفهومة كالتدريجات الحسّية، و مثال الدرجات العقليّة هو التفاوت الذي بين السبب و المسبّب، و العلّة و المعلول، و الفاعل و القابل، و الكامل و الناقص، فإذا قدّرت شيئا هو سبب لشي‏ء ثان، و ذلك الثاني سبب لثالث، و الثالث لرابع إلى عشر درجات مثلا، فالعاشر واقع في الرتبة الأخيرة فهو الأسفل الأدنى، و الأوّل واقع في الدرجة الأولى من السببيّة فهو الأعلى، و تكون الأولى فوق الثانية فوقيّة بالمعنى لا بالمكان، و العلوّ عبارة عن الفوقيّة فإذا فهمت معنى التدريج العقلي، فاعلم أنّ الموجودات لا يمكن قسمتها إلى درجات متفاوتة في العقل، إلاّ و يكون الحقّ تعالى في الدرجة العليا من درجات أقسامها، حتّى لا يتصوّر أن يكون فوقه درجة، و ذلك هو العليّ المطلق، و كلّ ما سواه فيكون عليّا بالإضافة إلى ما دونه، و يكون دنيّا و سافلا بالإضافة إلى ما فوقه، و مثال قسمة العقل أنّ الموجودات تنقسم إلى ما هو سبب و إلى ما هو مسبّب، و السبب فوق المسبّب‏

______________________________

 (1) سورة غافر: الآية 15.

302
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء الثامن و العشرين ص : 283

.......... فوقيّة بالرتبة، فالفوقيّة المطلقة ليست إلاّ لمسبّب الأسباب. و كذلك ينقسم الموجود إلى ميّت و حيّ، و الحيّ ينقسم إلى ما ليس له إلاّ الإدراك الحسّي و هو البهيمة، و إلى ماله مع ذلك الإدراك العلمي، و الذي له الإدراك العلمي ينقسم إلى ما يعارضه في معلوماته الشهوة و الغضب و هو الإنسان، و إلى ما يسلم إدراكه عن معارضة المكدّرات، و الذي سلم ينقسم إلى ما يمكن أن يبتلي به و لكنّه رزق السلامة كالملائكة، و إلى ما يستحيل ذلك في حقّه و هو اللّه تعالى فوق الكلّ فهو العليّ المطلق، فإنّه الحيّ المحيي العالم المطلق الخالق لعلوم العلماء، المنزّه المقدس عن جميع أنواع النقص. فقد وقع الميّت في الدرجة السفلى من درجات الكمال، و لم يقع في الطرف الآخر إلاّ اللّه تعالى، فهكذا ينبغي أن تفهم فوقيّته و علوّه و رفعته، فإنّ هذه الأسماء وضعت أوّلا بالإضافة إلى إدراك البصر و هو درجة العوام، ثمّ لمّا تنبّه الخواص لإدراك البصائر و وجدوا بينها و بين الأبصار موازنات، استعاروا منها الألفاظ المطلقة و فهمها الخواص، و أنكرها العوام الذين لم يجاوز إدراكهم الحواس و هي رتبة البهائم، فلم يفهموا عظمة إلاّ بالمساحة، و لا علوّا إلاّ بالمكان، و لا رفعة و لا فوقيّة إلاّ به. فإذا فهمت هذا، فهمت معنى كونه تعالى فوق العرش، لأنّ العرش أعظم الأجسام و هو فوق جميعها، و الموجود المنزّه عن التحدّد و التعدّد بحدود الأجسام و مقاديرها فوق الأجسام كلّها في الرتبة، و لكن خصّ العرش بالذكر لأنّه فوق جميع الأجسام، فما كان فوقه كان فوق جميعها، و هو كقول القائل: الخليفة فوق السلطان، تنبيها على أنّه إذا كان فوقه كان فوق جميع الناس الذين هم دون السلطان.

و العجب من الحشوي الذي لا يفهم من الفوق إلاّ المكان، و مع ذلك إذا سئل عن شخصين من الأكابر، و قيل له: كيف يجلسان في الصدور و المحافل؟ فيقول:

هذا يجلس فوق ذلك، و هو يعلم أنّه ليس يجلس إلاّ بجنبه، و إنّما يكون جالسا فوقه‏

303
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء الثامن و العشرين ص : 283

.......... لو جلس على رأسه، و لو قيل له: كذبت ما جلس فوقه و لا تحته و لكنّه جالس بجنبه، اشمأزّ و تغيّر من هذا الإنكار، و قال: إنّما أعني به فوقيّة الرتبة و القرب من الصدر، فإنّ الأقرب من الصدر- الذي هو المنته- فوق بالإضافة إلى الأبعد، ثمّ لا يفهم هذا أنّ كلّ ترتيب له طرفان، يجوز أن يطلق على أحد طرفيه اسم الفوق و على الطرف الآخر ما يقابله‏ «1»، انته.

و قال بعضهم: علوّه تعالى علوّ عقلي مطلق، بمعنى أنه لا رتبة فوق رتبته و لا رتبة تساوي رتبته. و بيان ذلك: أنّ أعلى مراتب الكمال العقليّة هو مرتبة العلّية، و لمّا كانت ذاته المقدّسة هي مبدأ كلّ موجود حسّي و عقلي و علّته التي لا يتصوّر النقصان فيها بوجه من الوجوه، لا جرم كانت مرتبته أعلى المراتب، و درجته أرفع الدرجات العقليّة، و له الفوق المطلق في الوجود، و العلوّ العالي عن الإضافة إلى شي‏ء دون شي‏ء و عن إمكان أن يكون أحد يساويه في العلوّ أو يكون أعلى منه.

 [ 850] و قوله عليه السّلام: «و من سواك مرحوم في عمره» قيل: «سوى» هنا ظرف لوقوعها صلة، و ليست بمعنى غير، لأنّ غير لا تدخل هاهنا إلاّ و الضمير قبلها، فلا يقال: إلاّ من هو غيرك، فتعيّن كون سوى ظرفا، و التقدير، و من استقرّ مكانك.

و أجيب بتقدير «سوى» خبرا ل «هو» محذوفا أي: من هو سواك أي:

غيرك، أو حالا معمولة ل «ثبت» مضمرا، و ذو الحال الضمير العائد إلى الموصول و هو فاعل ثبت، أي: و من ثبت حال كونه سواك أي: غيرك مرحوم، أي: يرقّ له و يتعطّف عليه من يعلم بحقيقة حاله من ذلّه في رقّ الافتقار و الحاجة و الإمكان، و حقارته في أسر العبودية.

______________________________

 (1) المقصد الأسنى: ص 75- 77.

304
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء الثامن و العشرين ص : 283

.......... و قوله عليه السّلام: «في عمره» أي: في مدّة حياته لا ينفكّ عنه الذلّ و المهانة يوما من أيّام وجوده، أو مرحوم من أجل كون عمره في قبضة غيره، فهو ذليل حقير في ملكه.

و إنّما فسّرناه بذلك فإنّ هذه الفقرة مقابلة لما قبلها من قوله عليه السّلام: «و لك درجة العلوّ و الرفعة»، و يؤيّده ما وقع في نسخة ابن إدريس رضي اللّه عنه و في نسخة قديمة أيضا: «و من سواك مرحوم في قدره» بدل «عمره» أي: مقداره و رتبته.

قوله عليه السّلام: «مغلوب على أمره» أي: مستولى على حاله، لأنّه مسخّر تحت حكم بارئه و قدرته، لا حول و لا قوّة إلاّ به، و لا يملك لنفسه نفعا و لا ضرّا دونه.

و قيل: أي: ليس له تمام الاختيار في أمره، فلا يلزم أن لا اختيار له أصلا، و ما ذكرناه أولى، لأنّ هذه الفقرة مقابلة لقوله عليه السّلام: «و لك فضيلة الحول و القوّة».

قوله عليه السّلام: «مقهور على شأنه» الشأن: الأمر و الحال، من شأنت شأنه، أي: قصدت قصده، مصدر بمعنى المفعول، أي: مغلوب على حاله، لا قدرة له على شي‏ء من أمره استقلالا، لأنّ قوّته و قدرته و مشيئته و إرادته إلى غير ذلك من شئونه و أحواله مخلوقة فيه، لها صانع غيره، و لم تحصل فيه باختياره، و لم توجد فيه من نفسه، بل خلقه اللّه تعالى و خلقها فيه كيف أراد، فهو مسلوب القدرة لذاته، عاجز عن أمور نفسه، من إيجاد و إفناء و إعزاز و إذلال و تقوية و إضعاف.

و هذه الفقرة كما مرّ مقابلة لقوله عليه السّلام: «و لك ملكة القدرة الصمد».

قوله عليه السّلام: «مختلف الحالات متنقّل في الصفات» الاختلاف: هو امتناع أحد الشيئين أن يسدّ مسدّ الآخر فيما يرجع إلى ذاته، كالسواد الذي لا يسدّ مسدّ البياض، و كذلك الذهاب في الجهات المختلفة و الحالات المتفاوتة.

و الحالات: جمع حالة مؤنّث حال، و هي الهيئة التي يكون عليها الشي‏ء حال‏

305
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء الثامن و العشرين ص : 283

.......... وجوده، و قد تطلق على الكيفيّة النفسانيّة التي لا تكون راسخة في موضوعها، كصناعة الكتابة للمبتدئ، و هي بهذا المعنى مقابلة للملكة، و المراد بها هنا: المعنى الأوّل. و قد يعبّر عنه بالأمر العارض للشي‏ء.

و التنقّل: تفعّل من النقلة، و هي خروج الجسم من مكان إلى مكان، و هو هنا مجاز عن الاتّصاف بالصفات المختلفة حالا بعد حال.

و الصفات: جمع صفة، و هي المعنى القائم بالذات.

و معنى اختلاف حالاته: كونها غير متماثلة، سواء كانت متضادّة كالنوم و اليقظة، و الفرح و الحزن، و العزّ و الذلّ، و الرضا و الغضب، أو متقابلة في الجملة كالحياء و العفّة، و الشجاعة و الحلم، و التواضع و الزهد، و الصدق و السخاء، إلى غير ذلك من الحالات.

و معنى تنقّله في الصفات: كونه لا يستمرّ و لا يدوم على صفة واحدة، لا بحسب خلقه و لا بحسب عوارضه، بل هو تارات و أطوار، فهو بحسب خلقه متنقّل من العنصريّة إلى كونه غذاء، إلى كونه دما، إلى كونه نطفة، إلى كونه علقة، إلى مضغة، إلى كونه عظما و لحما، إلى كونه خلقا آخر، ثمّ من الطفوليّة إلى التشبيبة، إلى الكهولة إلى الشيخوخة.

و أمّا بحسب عوارضه، فهو متنقّل تارة من العلم إلى الجهل، و تارة من الفقر إلى الغنى و بالعكس، و طورا من الصحّة إلى المرض و بالعكس إلى غير ذلك من الصفات.

و هذا الاختلاف و التنقّل يستلزم التركيب و الكثرة، التي هي خلاف الوحدانيّة المختصّة باللّه سبحانه، و لذلك جعل هذه الفقرة مقابلة لقوله عليه السّلام: «لك يا إلهي وحدانية العدد».

 [ 851] و قوله عليه السّلام: «فتعاليت عن الأشباه و الأضداد» الفاء: للترتيب‏

306
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء الثامن و العشرين ص : 283

.......... الذكري، مثلها في نحو قوله تعالى: «وَ أَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ» «1»، فإنّ ذكر مدح الشي‏ء يصحّ بعد ذكره، و يحتمل أن يكون لترتيب ما قبلها على ما بعدها، فإنّه لمّا ذكر صفاته العليا المختصّة به، و قابلها بما يخالفها من صفات من سواه، صحّ أن يرتّب على ذلك تعاليه و تكبّره عن أن يكون له شبه و ضدّ و ندّ و مثل.

و إنّما عدّى قوله عليه السّلام: «تعاليت» و «تكبّرت» ب «عن»، و الأصل فيهما أن يتعدّيا ب «على»، لتضمينهما معنى تقدّست و تنزّهت.

و الأشباه: جمع شبه بفتحتين كسبب و أسباب، أو جمع شبه بالكسر فالسكون كحمل و أحمال، و كلاهما لغة بمعنى المثل. و قد تخصّ المشابهة بالاتحاد في الكيف، و المماثلة بالاتّحاد في الحقيقة، فيكن في المثل زيادة قرب لا تكون في الشبه، و يكون المراد بتعاليه عن الأشباه: تعاليه عن الأشياء المشاركة له في صفاته، و بتكبّره عن الأمثال: تكبّره عن الأشياء الموافقة له في حقيقة ذاته.

و الأضداد: جمع ضدّ، و هو يطلق تارة على المساوي في القوّة للمانع، و تارة على النظير و المثل، و الأوّل هو المشهور.

قال الفيومي: الضدّ هو النظير و الكفؤ، و الجمع أضداد «2».

و قال أبو عمرو: الضدّ: مثل الشي‏ء، و الضدّ خلافه‏ «3».

و الأنداد: جمع ندّ، و هو المثل المنادي أي: المعادي، من ناداه بمعنى: عاداه.

قال الزمخشري: الندّ: المثل، و لا يقال إلاّ للمثل المخالف المنادي، من ناددت الرجل: خالفته و نافرته، و ندّ ندودا: نفر «4».

______________________________

 (1) سورة الزمر: الآية 74.

 (2) المصباح المنير: ص 490.

 (3) المصباح المنير: ص 490.

 (4) تفسير الكشاف: ج 1 ص 95.

307
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء الثامن و العشرين ص : 283

.......... قال الراغب: الندّ: المشارك في الجوهر. أي: في الحقيقة «1».

و قال النظام النيسابوري: معنى قول الموحّد: «ليس للّه ندّ و لا ضدّ»: نفي ما يسدّ مسدّه و نفي ما ينافيه‏ «2».

قوله عليه السّلام: «فسبحانك لا إله إلاّ أنت» الفاء: للإشارة إلى أنّ ما فصلّ من شئونه تعالى موجب لتنزّهه و تنزيهه أكمل إيجاب، أي: إذا كنت على هذا الوجه من الوصف بالوحدانيّة و الاقتدار، و الحول و القوّة و العلوّ و الرفعة، و التعالي عن الأشباه و الأضداد و الأمثال و الأنداد، فسبحانك، أي: تنزيها لك عمّا لا يليق بشأنك الأقدس و جنابك الأعلى من صفات المخلوقين.

و عنى بذلك تسبيحا ناشئا عن كمال طمأنينة النفس و الإيقان بكونه تعالى على ما ذكر، أو تنزّهت عن ذلك تنزّها ناشئا عن ذاتك المقدّسة.

و إيراده قبل قوله: «لا إله إلاّ أنت» أي: لا مستحقّ للعبادة سواك، تنبيه على أنّ استحقاق العبادة منوط بالتنزّه عن لواحق الإمكان و لوازم الحدوث، و اللّه أعلم. [] و الحمد للّه أوّلا و آخرا، و صلّى اللّه على رسوله هاديا و سراجا و حاشرا، و على آله سيّما أخيه و أبي بنيه، الذي شرف بالنسب و كان له صهرا، عليّ قامع الكفّار، عليهم سلام اللّه و التسليمات كثيرا وافرا. سنة 1269 ه.

______________________________

 (1) المفردات: ص 486، نقلا بالمعنى ج 1 ص 66.

 (2) غرائب القرآن و رغائب الفرقان: ج 1 ص 66.

308
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

الروضة التاسعة و العشرون ص : 309

الروضة التاسعة و العشرون‏

309
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

و كان من دعائه عليه السلام إذا قتر عليه الرزق ص : 311

 

وَ كانَ مِنْ دُعائِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ إذا قُتِّرَ عَلَيْهِ الرِّزْقُ‏

اللَّهُمَّ انَّكَ ابْتَلَيْتَنا في‏ ارْزاقِنا بِسُوءِ الظَّنِّ وَ في‏ اجالِنا بِطُولِ الْأَمَلِ حَتَّى الْتَمَسْنا ارْزاقَكَ مِنْ عِنْدِ الْمَرْزُوقينَ وَ طَمِعْنا بِامالِنا في‏ اعْمارِ الْمُعَمَّرينَ فَصَلِّ عَلى‏ مُحَمَّدٍ وَ الِهِ وَ هَبْ لَنا يَقِينًا صادِقًا تَكْفِينا بِهِ مِنْ مَؤُنَةِ الطَّلَبِ وَ الْهِمْنا ثِقَةً خالِصَةً تُعُفينا بِها مِنْ شِدَّةِ النَّصَبِ وَ اجْعَلْ ما صَرَّحْتَ بِهِ مِنْ عِدَتِكَ في‏ وَحْيِكَ وَ أَتْبَعْتَهُ مِنْ قِسَمِكَ في‏ كِتابِكَ قاطِعاً لاهْتِمامِنا بِالرِّزْقِ الَّذى‏ تَكَفَّلْتَ بِه وَ حَسْمًا لِلْاشْتِغال بِما ضَمِنْتَ الْكِفايَةَ لَهُ فَقُلْتَ وَ قَوْلُكَ الْحَقُّ الْأَصْدَقُ وَ اقْسَمْتَ وَ قَسَمُكَ الْأَبَرُّ الْأَوفى‏ وَ فِى السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَ ما تُوعَدُونَ ثُمَّ قُلْتَ فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَ الْأَرْض انَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما انَّكُمْ تَنْطِقُونَ‏ ..........

 

311
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

و كان من دعائه عليه السلام إذا قتر عليه الرزق ص : 311

.......... [] بسم اللّه الرّحمن الرحيم و به نستعين الحمد للّه قاسم الأرزاق و الآجال، الفاسح للآمال أفسح مجال، و الصّلاة و السّلام على نبيّه المنزل عليه الكتاب هدىً للمتّقين، و على أهل بيته الهادين السالكين إلى الحقّ اليقين.

و بعد فهذه الروضة التاسعة و العشرون من رياض السالكين، تتضمّن شرح الدعاء التاسع و العشرين من صحيفة سيّد العابدين، صلّى اللّه عليه و على آبائه و أبنائه الطاهرين، إملاء العبد الراجي فضل ربّه السنيّ عليّ صدر الدّين الحسينيّ الحسنيّ، عامله اللّه تعالى بلطفه الخفيّ و برّه الخفيّ.

312
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء التاسع و العشرين ص : 313

 

شرح الدعاء التاسع و العشرين‏

و كانَ مِن دُعائِهِ عَليهِ السّلامُ إذا قُتّر عليه الرزقُ.

قتر عليه قترا و قتورا- من بابي ضرب و قعد- و أقتر إقتارا و قتّر تقتيرا: ضيّق عليه في النفقة، و مثله: قدر بالدال- من باب ضرب-، و منه قوله تعالى: «اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ يَقْدِرُ لَهُ» «1».

و الرزق اسم لما يسوقه اللّه إلى الحيوان فينتفع به، فيكون متناولا للحلال و الحرام، هذا قول الأشعري.

و قالت المعتزلة: هو عبارة عن مملوك ينتفع به المالك، فلا يكون الحرام رزقا.

و قد أسلفنا الكلام على هذه المسألة في الروضة الأولى فليرجع إليه.

و اعلم أنّ اللّه سبحانه و تعالى يبتلي أنبياءه و أولياءه و عباده الصالحين بتقتير الرزق، لوجوه من الحكمة و ضروب من المصلحة، اقتضتها عنايته سبحانه بهم، كما دلّ عليه صحيح الخبر و مستفيض الأثر.

منها: إكرامهم و صيانتهم عن الاشتغال بالدنيا و قنياتها و التنعّم بطيّباتها، لما تقرّر من أنّ الدنيا و الآخرة ضرّتان، بقدر ما يقرب من إحداهما يبعد من الأخرى‏ «2». و الأنبياء عليهم السّلام و من سلك سبيلهم، و إن كانوا أكمل الخلق نفوسا، و أقواهم استعدادا لقبول الكمالات النفسانيّة، إلاّ أنّهم محتاجون إلى الرياضات التامّة بالإعراض عن الدنيا و طيّباتها، و هو الزهد الحقيقي، و إلى تطويع نفوسهم الأمّارة لنفوسهم المطمئنّة بالعبادة التامّة، كما هو المشهود من أحوالهم‏

______________________________

 (1) سورة العنكبوت: الآية 62.

 (2) مجموعة ورّام: ج 1 ص 138.

 

313
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء التاسع و العشرين ص : 313

.......... صلوات اللّه عليهم، فإنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان يربط على بطنه حجرا من الجوع، و كان يسمّيه بالمشبع‏ «1». و إلى ذلك أشار من قال:

و شدّ من سغب أحشاءه و طوى‏

 

 تحت الحجارة كشحا مترف الأدم‏

 

 و من كلام أمير المؤمنين عليه السّلام: و أيم اللّه يمينا أستثني فيها بمشيئة اللّه، لأروضنّ نفسي رياضة تهشّ معها إلى القرص إذا قدرت عليه مطعوما، و تقنع بالملح مأدوما «2» و ليس ذلك منهم عليهم السّلام إلاّ زهدا في الدنيا، و إعراضا عن متاعها و زينتها، لما كان ذلك شرطا في بلوغهم درجات النبوّة و الرسالة، و مراتب الوحي و الولاية، فلو فتحت لهم أبواب الدنيا، و اشتغلوا بنعيمها و انغمسوا في لذّاتها، لانقطعوا عن حضرة جلال اللّه، و بعدوا عن ساحة القرب منه و الوصول إليه.

و منها: إعظام مثوباتهم على الصبر و القناعة، و ظلف أنفسهم عن النزوع إلى الدنيا و شهواتها، لأنّه كلّما كانت المحنة أعظم كانت المثوبة عليها أجزل.

و منها: ابتلاء المتكبّرين و أرباب الدنيا بهم، إذ لو وسّع اللّه عليهم أرزاقهم، فاتّسعوا في القنيات الدنيويّة من الكنوز و القناطير المقنطرة من الذهب و الفضّة و الخيل المسوّمة و الأنعام و الحرث، لكانت طاعة الناس لهم أسرع، و الانحياش إليهم أقرب، كما قال أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه في خطبته القاصعة: فإنّ اللّه سبحانه يختبر عباده المستكبرين في أنفسهم بأوليائه المستضعفين في أعينهم، و لقد دخل موسى بن عمران و معه أخوه عليهما السّلام على فرعون، و عليهما مدارع الصوف و بأيديهم العصيّ، فشرطا له إن أسلم بقاء ملكه و دوام عزّه، فقال: ألا تعجبون من هذين؟ يشترطان لي دوام العزّ و بقاء الملك، و هما بما ترون من حال الفقر و الذلّ، فهلاّ ألقيا عليهما أساور من ذهب؟ إعظاما للذهب و جمعه، و احتقارا للصوف و لبسه،

______________________________

 (1) مجموعة ورّام: ج 1 ص 153، نقلا بالمعنى.

 (2) نهج البلاغة: ص 419 الرسائل 45.

314
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء التاسع و العشرين ص : 313

.......... و لو أراد اللّه سبحانه بأنبيائه حيث بعثهم أن يفتح لهم كنوز الذهبان و معادن العقبان و مغارس الجنان، و أن يحشر معهم طير السماء و وحوش الأرضين لفعل، و لو فعل لسقط البلاء و بطل الجزاء «1».

و منها: ابتلاؤهم بالمتكبّرين و المكذّبين، لأنّهم لو كانوا على الحالة الموصوفة من الاتّساع في الدنيا، لسقط بلاؤهم بالصبر على أذى المسكنة من المكذّبين لهم و المستخفّين بشأنهم، كما قال أهل مدين لشعيب عليه السّلام: «يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَ إِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَ لَوْ لا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَ ما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ» «2» و منها: تأسّي المسلمين و اقتداء المؤمنين بهم عليهم السّلام، في العزوف عن الدنيا و الإعراض عن زخرفها و زبرجها، إذ كانوا هم القدوة للخلق و محلّ الأسوة لهم كما قال أمير المؤمنين عليه السّلام: و لقد كان في رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كافٍ لك في الاسوة، و دليل على ذمّ الدنيا و عيبها، و كثرة مجازيها و مساوئها، إذ قبضت عنه أطرافها، و وطّئت لغيره أكنافها، و فطم من رضاعها، و زوي عن زخارفها. و إن شئت ثنّيت بموسى كليم اللّه عليه السّلام، حيث يقول: «رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ» «3»، و اللّه ما سأله إلاّ خبزا يأكله، لأنّه كان يأكل بقلة الأرض، و لقد كانت خضرة البقل ترى من شفيف صفاق بطنه، لهزاله و تشذّب لحمه. و إن شئت ثلّثت بداود عليه السّلام، صاحب المزامير و قارئ أهل الجنّة، و لقد كان يعمل سفائف الخوص، و يقول لجلسائه: أيّكم يكفيني بيعها، و يأكل قرص الشعير من ثمنها. و إن شئت قلت في عيسى بن مريم عليه السّلام، فلقد كان يتوسّد الحجر، و يلبس الخشن، و يأكل الجشب، و كان إدامه الجوع، و سراجه بالليل القمر، و صلاؤه في الشتاء مشارق الأرض و مغاربها، و فاكهته و ريحانه ما تنبت الأرض‏

______________________________

 (1) نهج البلاغة: ص 291 الخطب 192.

 (2) سورة هود: الآية 91.

 (3) سورة القصص: الآية 24.

315
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء التاسع و العشرين ص : 313

.......... للبهائم، و لم تكن له زوجة تفتنه، و لا ولد يحزنه، و لا مال يلفته، و لا طمع يذلّه، دابّته رجلاه، و خادمه يداه، فتأسّ بنبيّك الأطهر صلّى اللّه عليه و آله، فإنّ فيه أسوة حسنة لمن تأسّى، عزاء لمن تعزّى، و أحبّ العباد إلى اللّه المتأسّي بنبيّه، و المقتصّ لأثره. إلى أن قال عليه السّلام: و لقد كان في رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ما يدلّك على مساوئ الدنيا و عيوبها، إذ جاع فيها مع خاصّته، و زويت عنه زخارفها مع عظيم زلفته، فلينظر ناظر بعقله، أكرم اللّه محمّدا بذلك أم أهانه؟ فإن قال:

أهانه، فقد كذّب العظيم، و إن قال: أكرمه، فليعلم أنّ اللّه قد أهان غيره حيث بسط الدنيا له، و زواها عن أقرب الناس منه، فتأسّى متأسّ بنبيّه، و اقتصّ أثره و ولج مولجه، و إلاّ فلا يأمن الهلكة، فإنّ اللّه جعل محمّدا صلّى اللّه عليه و آله علما للساعة، و مبشّرا بالجنّة، و نذيرا بالعقوبة، و خرج من الدنيا خميصا، و ورد الآخرة سليما، لم يضع حجرا على حجر حتّى مضى لسبيله، و أجاب داعي ربّه، فما أعظم منّة اللّه علينا حين أنعم علينا به سلفا نتّبعه، و قائدا نطأ عقبه، و اللّه لقد رقّعت مدرعتي هذه حتّى استحييت من راقعها، و لقد قال لي قائل: ألا تنبذها عنك فقلت: اعزب عنّي، فعند الصباح يحمد القوم السرى‏ «1».

و منها: إيثاره سبحانه لهم بالحضور في حضرته المقدّسة، بالدعاء و الابتهال و التضرّع و السؤال، كما قال أمير المؤمنين عليه السّلام: إنّ اللّه يبتلي العبد و هو يحبّه ليسمع تضرّعه‏ «2».

و عن ذلك كان يقول بعض أرباب القلوب: الدعاء يوجب الحضور، و العطاء يوجب الصرف، و المقام على الباب أشرف من الانصراف بالمبار «3».

و على هذا ما روي عنه صلّى اللّه عليه و آله من طريق العامّة و الخاصّة، أنّه‏

______________________________

 (1) نهج البلاغة: ص 224- 229 الخطب 160.

 (2) مجموعة ورّام: ج 2 ص 237، نقلا عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

 (3) لم نتحققه.

316
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء التاسع و العشرين ص : 313

اللّهُمَّ إنَّكَ ابْتَلَيْتَنا في أرزاقِنا بِسُوءِ الظّنِ، وَ في آجالِنا بِطُولِ الأَمَلِ، حَتّى‏ التَمَسْنا أرزاقَنا مِنْ عِنْدِ المَرْزُوقينَ، وَ طَمِعْنا بِآمالِنا في أعمار المُعَمَّرينَ.

قال: عرض عليّ ربّي أن يجعل لي بطحاء مكّة ذهبا، فقلت: لا يا ربّ، و لكن أشبع يوما و أجوع يوما، فإذا جعت تضرّعت إليك و ذكرتك، و إذا شبعت شكرتك و حمدتك‏ «1». و دعاء سيّد العابدين عليه السّلام إذا قتر عليه الرزق داخل في هذا الباب، و اللّه أعلم+.

 [ 852] الابتلاء: الاختبار، و ابتلاء اللّه تعالى عبارة عن معاملته لعباده معاملة المبتلي المختبر، لأنّه سبحانه عالم الخفيّات و السرائر و ما كان و ما يكون، فلا يتصوّر في حقّه الاختبار حقيقة، و قد تقدّم بيان ذلك مبسوطا في الروضة الأولى و الروضة السادسة، فليرجع إليه.

و سوء الظنّ هنا: عبارة عن عدم اليقين بأنّ الأرزاق إنّما تكون من اللّه سبحانه و تعالى، و أنّها صادرة عن قسمته الربّانية، المكتوبة بقلم القضاء الإلهي في اللوح المحفوظ الذي هو خزانة كلّ شي‏ء كما قال عزّ شأنه في محكم كتابه: «نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا» «2»، و أنّ حصولها إلى المرزوقين بمقتضى قسمته تعالى، كما قال اللّه سبحانه و تعالى: «وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَ ما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ» «3»، فلا يزيد فيه حيلة محتال، و لا ينقص منه عجز عاجز، فعدم اليقين بذلك إمّا شكّ فيه، أو اعتقاد راجح بانّ الأمر على خلاف ذلك، و كلّ منهما سوء ظنّ ناشئ من ضعف القلب لاستيلاء مرض الوهم عليه، فإنّ الوهم كثيرا ما يعارض اليقين، كمن تراه لا يبيت وحده مع ميّت و هو يبيت مع جماد، مع علمه بأنّ‏

______________________________

 (1) مسند أحمد بن حنبل: ج 5 ص 254، هذا من طريق العامّة. و أمّا من طريق الخاصّة:

بحار الأنوار: ج 16 ص 279 ح 118، و ص 220 ح 12.

 (2) سورة الزخرف: الآية 32.

 (3) سورة الحجر: الآية 21.

317
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء التاسع و العشرين ص : 313

.......... الميّت أيضا جماد، فيبعثه ذلك على عدم الثقة باللّه جلّ جلاله في حصول رزقه من غير اهتمام و اكتساب، و على الاعتماد على الكسب و الطلب و التعب و النصب، فيحمله ذلك على ذلّ السؤال و رذيلة الاكتساب، و قد صرّح أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه بهذا المعنى في قوله: اعلموا علما يقينا أنّ اللّه لم يجعل للعبد، و إن عظمت حيلته و اشتدّت طلبته و قويت مكيدته، أكثر ممّا سمّي له في الذكر الحكيم، و لم يحل بين العبد في ضعفه و قلّة حيلته، و بين أن يبلغ ما سمّي له في الذكر الحكيم، و العارف لهذا العامل به أعظم الناس راحة في منفعة، و التارك له الشاكّ فيه أعظم الناس شغلا في مضرّة «1». و في هذا المعنى أخبار كثيرة.

و الآجال: جمع أجل بفتحتين، و قد علمت أنّه يطلق على مدّة العمر، و على الوقت الذي ينقرض فيه.

و الأمل: توقّع حصول محبوب للنفس في المستقبل، و المراد بطول الأمل في الآجال: توقّع امتداد مدّة العمر، أو تأخّر الوقت الذي تنقرض فيه.

 [ 853] و «حتى» هنا: حرف ابتداء، مثلها في قوله تعالى في الأعراف: «ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَ قالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَ السَّرَّاءُ» «2».

قال الرضي: معنى كونها حرف ابتداء: أنّ ما بعدها جملة استئنافيّة لا تتعلّق من حيث الإعراب بما قبلها، و لا نعني بكونها حرف ابتداء أنّ ما بعدها مبتدأ مقدّر، أي: نحن التمسنا و هم عفوا، لأنّ ذلك لا يطّرد في نحو قوله سبحانه و تعالى: «وَ زُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ» بالرفع، فإنّ حتّى فيه ابتدائيّة قطعا «3»، انته.

قال ابن الحاجب: إذا كانت «حتّى» حرف ابتداء وجبت السببيّة، لأنّ الاتّصال اللفظي زال بسبب الاستئناف، فشرطت السببيّة التي هي موجبة

______________________________

 (1) نهج البلاغة: ص 523 الحكم 273.

 (2) سورة الأعراف: الآية 95.

 (3) الكافية في النحو: ج 2 ص 243.

318
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء التاسع و العشرين ص : 313

.......... للاتّصال المعنوي، فإنّ السبب متّصل بالمسبّب معنى، جبرا لما فات من الاتّصال اللفظي‏ «1»، انته.

و السببيّة هنا ظاهرة، فإنّ الالتماس مسبّب عن الابتلاء، كما أنّ العفو أي:

الكثرة مسبّب عن التبديل.

قال ابن هشام: و زعم ابن مالك أنّ «حتّى» هذه جارّة، و أنّ بعدها «أن» مضمرة، و لا أعرف في ذلك سلفا، و فيه تكلّف إضمار من غير ضرورة «2»، انته.

و قال السيوطي: الأكثرون على خلاف ما ادّعاه ابن مالك. «3» و من العجيب ما وقع لبعضهم أنّ «حتّى» في عبارة الدعاء عاطفة، و خفي عليهم أنّ شرط العطف بحتّى كون معطوفها بعضا ممّا قبلها أو كبعض منه، و لا يتأتّى ذلك إلاّ في المفردات، مع أنّ العطف بحتّى قليل جدّا، حتّى أنّ أهل الكوفة ينكرونه البتّة، و اللّه الهادي إلى سبيل الصواب.

و الالتماس: طلب الشي‏ء ممّن يساوي الطالب رتبة على سبيل التلطّف، كقولك لمن يساويك: افعل كذا أيّها الأخ.

و إضافة الأرزاق إلى ضمير المخاطب و هو اللّه سبحانه، باعتبار أنّها فعله، و إلى ضمير المتكلّم مع غيره، كما في نسخة ابن إدريس، باعتبار اختصاصها بهم.

قوله عليه السّلام: «من عند المرزوقين» أي: من الذين رزقتهم، أو من الناس الذين من شأنهم أن يرزقوا.

و التعرّض لعنوان المرزوقيّة للإشعار بأنّ المرزوق من شأنه أن يسأل هو الرزق، لا أن يسأل منه الرزق.

و هذه الفقرة متعلّق معناها بسوء الظّن في الأرزاق، إذ لولاه لكان العقل‏

______________________________

 (1) شرح الكافية في النحو: ج 2 ص 243.

 (2) مغني اللبيب: ص 174.

 (3) همع الهوامع للسيوطي: ج 2 ص 24.

319
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

فائدة ص : 320

 

.......... حاكما بأنّ طلب الرزق من المرزوق لا وجه له، مع ما في ذلك من الذلّ و الخضوع للمطلوب إليه، و مهانة النفس، و اشتغالها عن التوجّه إلى الرازق، و كلّ ذلك ممّا يقضي العقل بقبحه، و ما أحسن ما قيل:

من لم يكن للّه متّهما

 

 لم يمس محتاجا إلى أحد

 

 قوله عليه السّلام: «و طمعنا بآمالنا في أعمار المعمّرين» طمع في الشي‏ء طمعا- من باب تعب-: حرص عليه و رجاه.

و المعمّرين: جمع معمّر، اسم مفعول من عمّره اللّه تعميرا أي: أطال عمره.

و هذه الجملة متعلّقة بطول الأمل في الآجال، أي: طمعنا بسبب آمالنا الطويلة في أن نعمّر مثل أعمارهم، و هذا المعنى أيضا باعث على الاهتمام بتحصيل الرزق و طلبه، و الكدّ و الجهد في كسبه و جمعه.

فائدة

قال ابن دريد: لا تعدّ العرب معمّرا إلاّ من عاش مائة و عشرين سنة فصاعدا «1».

قال الطبيعيّون: العمر الطبيعي للإنسان مائة و عشرون سنة، لأنّ التجربة دلّت على أنّ غاية سنّ النموّ ثلاثون سنة، و غاية سنّ الوقوف عشرة، فهذه أربعون، و يجب أن تكون غاية سنّ النقصان ضعف الأربعين المتقدّمة، فيكون نهاية العمر مائة و عشرين سنة، قالوا: و إنّما صار زمان الفساد ضعف زمان الكون، أمّا من السبب المادّي، فلأنّ في زمان نقصان البدن تغلب اليبوسة على البدن فتتمسّك بالقوّة، و أمّا من السبب الفاعلي، فلأنّ الطبيعة تتأدّى إلى الأفضل، و تتحامى عن الأنقص.

______________________________

 (1) أمالي المرتضى: ج 1 ص 236.

 

320
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

فائدة ص : 320

.......... و زعم بعض المنجّمين: أنّ سبب كون نهاية العمر مائة و عشرين سنة، هو أنّ قوام العالم بالشمس، و سنوها الكبرى مائة و عشرون سنة.

و تعقّب بعضهم ذلك بأنّه ليس في قول الطائفتين برهان قطعي يدلّ على أنّ نهاية عمر الإنسان هذا القدر أو قدر معيّن غيره، و قد جاءت الكتب الإلهيّة بإثبات الأعمار الطويلة للامم السالفة، قال اللّه تعالى في حقّ نوح عليه السّلام: «فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً» «1»، و التوراة و الإنجيل مطابقان للقرآن العظيم في إثبات الأعمار الطويلة للادميين، و الإصرار على إنكار ذلك دليل على الجهل.

و قال الشيخ أبو الريحان البيروني في الكتاب المسمّى بالآثار الباقية عن القرون الخالية: و قد أنكر بعض أغمار الحشويّة و الدهريّة ما وصف من طول الأعمار الخالية، و خاصّة فيما وراء زمان إبراهيم عليه السّلام، و ذكر شيئا من كلام المنجّمين، ثمّ حكى عن ما شاء اللّه أنّه قال في أوّل كتابه في المواليد: يمكن أن يعيش أصحاب سنّي القران الأوسط إذا اتّفق الميلاد عند تحويل القران إلى الحمل و مثلّثاته، و كانت الدلالات على ما ذكرناه أن يبقى المولود سنّي القرآن الأعظم و هي تسعمائة و ستّون سنة بالتقريب، حتّى يعود القران إلى موضعه‏ «2» انته.

و قال النظام النيسابوري في تفسيره: قال بعض الأطبّاء: العمر الطبيعي للإنسان مائة و عشرون سنة، فاعترض عليه بعمر نوح عليه السّلام و غيره، و ذلك أنّ المفسّرين قالوا: إنّ نوحا عليه السّلام عمّر ألفا و خمسين سنة، بعث على رأس أربعين سنة، و لبث في قومه تسعمائة و خمسين، و عاش بعده ستّين، و عن وهب‏

______________________________

 (1) سورة العنكبوت: الآية 14.

 (2) الآثار الباقيّة عن القرون الخالية: ص 78- 79 أوفسيت مطبعة المثنى بغداد طبع سنة 1923 ميلادي برلين.

321
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

فائدة ص : 320

.......... أنّه عاش ألفا و أربعمائة سنة.

و يمكن أن يقال: إنّهم أرادوا بالطبيعي: ما كان أكثريّا في أعصارهم، و لا ينافي هذا كون بعض الأعمار زائدا على هذا القدر بطريق خرق العادة، على أنّ العادة قد تختلف باختلاف الأعصار و الأدوار، و لهذا قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أعمار أمّتي ما بين الستّين إلى السبعين‏ «1»، انته.

و قال الشريف المرتضى قدّس سرّه: إن قيل: إنّ كثيرا من الناس ينكر تطاول الأعمار و امتدادها، و يقول: إنّه لا قدرة عليه و لا سبيل إليه، و منهم من ينزل في إنكاره درجة فيقول: إنّه و إن كان جائزا من طريق القدرة و الإمكان فإنّه ممّا يقطع على انتفائه، لكونه خارقا للعادات، و إنّ العادات إذا اوثق الدليل بأنّها لا تنخرق إلاّ على سبيل الإبانة و الدلالة على صدق نبيّ من الأنبياء عليهم السّلام، علم أنّ جميع ما روي من زيادة الأعمار على العادة باطل مصنوع، و لا يلتفت إلى مثله.

قلنا: أمّا من أبطل تطاول الأعمار من حيث الإحالة و أخرجه من باب الإمكان، فقوله ظاهر الفساد، لأنّه لو علم ما العمر في الحقيقة، و ما المقتضي لدوامه إذا دام، و انقطاعه إذا انقطع، لعلم من جواز امتداده ما علمناه. و العمر: هو استمرار كون من يجوز أن يكون حيّا و غير حيّ حيّا، و شرطنا أن يكون ممن يجوز أن يكون غير حيّ، احترازا من أن يلزم عليه القديم تعالى، لأنّه تعالى ممّن لا يوصف بالعمر و إن استمرّ كونه حيّا، و قد علمنا أنّ المختص بفعل الحياة هو القديم تعالى، و فيما يحتاج إليه الحياة من البنية و المعاني ما يختص به عزّ و جلّ، و لا يدخل إلاّ تحت مقدوره تعالى، كالرطوبة و ما يجري مجراها، فمتى فعل القديم تعالى الحياة و ما تحتاج إليه من البنية، و هي ممّا لا يجوز عليه البقاء، و كذلك ما يحتاج إليه، فليست تنتفي‏

______________________________

 (1) غرائب القرآن و رغائب الفرقان: ج 3 ذيل الآية 14 من سورة العنكبوت.

322
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

فائدة ص : 320

.......... إلاّ بضدّ يطرأ عليها، أو بضدّ ينفي ما يحتاج إليه، و الأقوى أنّه لا ضدّ لها في الحقيقة، و إنّما ادّعى قوم أنّه انتفاء ما يحتاج إليه.

و لو كان للحياة ضدّ على الحقيقة لم يخلّ بما قصدناه في هذا الباب، فمهما لم يفعل القديم تعالى ضدّها أو ضدّ ما تحتاج إليه، و لا نقض ناقض بنية الحيّ، استمرّ كونه حيّا.

و لو كانت الحياة أيضا لا تبقى على مذهب من رأى ذلك، لكان ما قصدناه صحيحا، لأنّه تعالى قادر على أن يفعلها حالا فحالا، فيوالي بين فعلها و فعل ما يحتاج إليه، فيستمرّ كون الحيّ حيّا.

فأمّا ما يعرض من الهرم بامتداد الزمان و علوّ السنّ، و تناقص بنية الإنسان، فليس ممّا لا بدّ منه، و إنّما أجرى اللّه تعالى العادة بأن يفعل ذلك عند تطاول الزمان، و لا إيجاب هناك، و لا تأثير للزمان على وجه من الوجوه، و هو تعالى قادر على أن لا يفعل ما أجرى العادة بفعله.

و إذا ثبت هذه الجملة ثبت أنّ تطاول العمر ممكن غير مستحيل، و إنّما أتى من أحال ذلك من حيث اعتقد أنّ استمرار كون الحيّ حيّا موجب عن طبيعة و قوّة لهما مبلغ من المادّة، متى انتهيا إليه انقطعتا أو استحال أن تدوما، و لو أضافوا ذلك إلى فاعل مختار متصرّف لخرج عندهم من باب الإحالة.

فأمّا الكلام في دخول ذلك في العادة و خروجه عنها، فلا شكّ في أنّ العادة قد جرت في الأعمار بأقدار متقاربة، يعدّ الزائد عليها خارقا للعادة، إلاّ أنّه قد ثبت أنّ العادة قد تختلف في الأوقات و في الأماكن أيضا.

و يجب أن يراعى في العادة إضافتها إلى من هي عادة له في المكان و الوقت، و ليس يمتنع أن يقلّ ما كانت العادة جارية به على تدريج حتّى يصير حدوثه خارقا للعادة بغير خلاف، و لا أن يكثر الخارق للعادة حتّى يصير حدوثه غير خارق لها على‏

323
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

ذكر جملة من المعمرين ص : 324

 

.......... خلاف فيه، و إذا صحّ ذلك لم يمتنع أن تكون العادات في الزمان الغابر كانت جارية بتطاول الأعمال و امتدادها، ثمّ تناقص ذلك على تدريج حتّى صارت عادته الآن جارية بخلافه، و صار ما بلغ مبلغ تلك الأعمار خارقا للعادة «1».

و هذه جملة فيما أردناه كافية.

ذكر جملة من المعمّرين‏

فمنهم:

لقمان بن عاديا، قال الإخباريّون: كان لقمان بن عاديا بن لجين بن عاد بن عوص بن ارم بن سام بن نوح عليه السّلام، أطول الناس عمرا، عاش ثلاثة آلاف سنة و خمسمائة سنة، و يقال: إنّه عمّر عمر سبعة أنسر، و كان يأخذ النسر الذكر فيجعله في الجبل، فيعيش النسر ما عاش، فإذا مات أخذ آخر فربّاه، حتّى كان السابع و كان أطولها عمرا فسمّاه لبد- و لبد بلسانهم: الدهر- فلمّا انقضى عمر لبد رآه لقمان واقعا، فناداه انهض لبد، فذهب لينهض فلم يستطع فسقط، و مات لقمان معه، فضرب به المثل، فقيل: طال الأبد على لبد «2» و «3».

و منهم عمرو بن عامر الملقّب ب «مزيقياء» ملك أرض سبا، روى الأصبهاني و غيره أنّه عاش ثمان مائة سنة، أربعمائة سنة: سوقة في حياة أبيه، و أربعمائة سنة ملكا، و كان في سنيّ ملكه يلبس في كلّ يوم حلّتين، فإذا كان بالعشيّ مزّق الحلّتين لئلاّ يلبسها غيره، فسمّي «مزيقياء» «4».

و منهم جهلمة بن ادد بن زيد بن يشجب بن غريب بن زيد بن كهلان بن‏

______________________________

 (1) السيد المرتضى: ج 1 ص 270- 272، مع اختلاف يسير في بعض الألفاظ.

 (2) كمال الدين و تمام النعمة: ج 2 ص 559.

 (3) مجمع الأمثال: ج 1 ص 429.

 (4) كمال الدين و تمام النعمة: ج 2 ص 560.

 

324
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

ذكر جملة من المعمرين ص : 324

.......... يعرب، و يقال لجهلمة: طيّ، و إليه تنسب قبيلة طيّ كلّها، و كان له ابن أخ يقال له: يحابر بن ملك بن ادد، و كان قد أتى على كلّ واحد منهما خمسمائة سنة، وقع بينهما ملاحاة بسبب المرعى، فخاف جهلمة هلاك عشيرته، فرحل عنه و طوى المنازل، فسمّي طيّا، و هو صاحب «أجأ» و «سلمى» و هما جبلان بطي‏ء «1».

و منهم دويد بن نهد «2» بن زيد بن سود بن أسلم بضمّ اللام بن الحاف بن قضاعة، قال أبو حاتم: عاش دويد بن زيد أربعمائة سنة و خمسين سنة «3».

و منهم: عبد المسيح بن بقيلة الغسّاني، ذكر الكلبي و غيره: أنّه عاش ثلاثمائة و خمسين سنة، و أدرك الإسلام فلم يسلم، و كان نصرانيا، و خبره مع خالد بن الوليد لمّا نزل على الحيرة معروف. «4» و منهم: الحرث بن مضاض الجرهمي، عاش أربعمائة سنة، و هو القائل:

كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا

 

 أنيس و لم يسمر بمكّة سامر

نعم نحن كنّا أهلها فأبادنا

 

 صروف الليالي و الجدود العواثر «5»

 

 و منهم: ربيع بن ضبع بن وهب، روي أنّه عاش ثلاثمائة و أربعين سنة، فأدرك النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فلم يسلم‏ «6».

و روي أنّه عاش إلى أيّام عبد الملك بن مروان، فدخل عليه فقال له عبد الملك:

فصّل لي عمرك، قال: عشت مائتي سنة في فترة عيسى، و مائة و عشرين سنة في‏

______________________________

 (1) بحار الأنوار: ج 51 ص 291.

 (2) هكذا في الأصل، و لكنّ الصحيح: دويد بن زيد بن نهد بن زيد بن ليث بن سود.

 (3) أمالي المرتضى: ج 1 ص 236. بحار الأنوار: ج 51 ص 265 و فيهما: أربعمائة سنة و ستّا و خمسين سنه.

 (4) أمالي المرتضى: ج 1 ص 260، بحار الأنوار: ج 51 ص 280- 281.

 (5) بحار الأنوار: ج 51 ص 289.

 (6) كمال الدين و تمام النعمة: ص 561.

325
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

ذكر جملة من المعمرين ص : 324

.......... الجاهليّة، و ستّين في الإسلام، فقال له: لقد طلبك جدّ غير عاثر «1».

و منهم: عمرو بن لحى، و هو ربيعة بن حارث بن عمرو مزيقيا، و هو الذي سنّ السائبة و الوصيلة و الحام، و نقل هبل و مناة من الشام إلى مكّة، فوضعهما للعبادة، و قدم بالنرد، و هو أوّل من أدخلها مكّة، فكانوا يلعبون بها في الكعبة غدوّة و عشيّة «2»، و هلك و هو ابن ثلاثمائة سنة و خمس و أربعين سنة «3».

و منهم: المستوغر بن ربيعة بن كعب بن زيد مناة، عاش ثلاثمائة و ثلاثين سنة حتّى قال:

و لقد سئمت من الحياة و طولها

 

 و عمرت من بعد السنين سنينا

مائة أتت من بعدها مائتان لي‏

 

 و ازددت من عدد الشهور مئينا

هل ما بقي إلاّ كما قد فاتنا

 

 يوم يكرّ و ليلة تحدونا «4»

 

 و منهم: أكثم بن صيفي الأسدي، عاش ثلاثمائة و ثلاثين سنة، و كان ممّن أدرك زمن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و آمن به، و مات قبل أن يلقاه، و له أخبار و حكم و أمثال‏ «5»، و كان والده صيفي بن رياح بن أكثم أيضا من المعمّرين، عاش مائتين و سبعين سنة لا ينكر من عقله شي‏ء «6».

و منهم: عمرو بن حممة الدوسي، عاش أربعمائة سنة، و هو الذي يقول:

كبرت و طال العمر حتّى كأنّني‏

 

 سليم أفاع ليلة غير مودع‏

فما الموت أفناني و لكن تتابعت‏

 

 عليّ سنون من مصيف و مربع‏

ثلاث مئات قد مررن كواملا

 

 و ها أنا هذا أرتجي مرّ أربع‏ «7»

 

 و المعمّرون من العرب دون هؤلاء كثيرون لا نطوّل بذكرهم.

______________________________

 (1) أمالي المرتضى: ج 1 ص 253- 254.

 (2) بحار الأنوار: ج 51 ص 291.

 (3) مروج الذهب: ج 2 ص 30.

 (4) أمالي السيد المرتضى ج 1 ص 234.

 (5) كمال الدين و تمام النعمة: ص 570.

 (6) كمال الدين و تمام النعمة: ص 570.

 (7) بحار الأنوار: ج 51 ص 289.

326
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

ذكر جملة من المعمرين ص : 324

فَصَلِ عَلى‏ مُحَمَّدٍ وَ آلِهِ، وَ هَبْ لَنا يَقينًا صادِقاً، تغضينا بِهِ مِنْ مُؤُنَةِ الطلب وَ ألهمْنا ثِقةً خالِصَةً، تُعْفينا بها مِنْ شِدَّةِ النَصَبِ.

و أمّا الفرس فإنّها تزعم أنّ من ملوكها فيما تقدّم جماعة طالت أعمارهم، فيروون أنّ الضحّاك صاحب الحيّتين عاش ألفا و مائتي سنة «1»، و إفريدون العادل عاش فوق ألف سنة، و يقولون‏ «2»: إنّ الملك الذي أحدث المهرجان عاش ألفي سنة و خمسمائة سنة، استتر منها عن قومه ستمائة سنة «3».

و روى أصحاب الأخبار: أنّ سلمان الفارسي رضي اللّه عنه عاش ثلاثمائة و خمسين سنة، و قال بعضهم: بل عاش أكثر من أربعمائة سنة «4»، و قيل: إنّه أدرك عيسى عليه السّلام، و توفيّ سنة خمس و ثلاثين من الهجرة «5» و اللّه أعلم+.

 [ 854] اليقين: هو العلم بالشي‏ء ضرورة و استدلالا بعد أن كان صاحبه شاكا فيه، و لذلك لا يوصف الباري تعالى بأنّه متيقن و لا يقال: تيقّنت أن السماء فوقي.

و قيل: هو العلم بالحقّ مع العلم بأنّه لا يكون غيره، و لذلك قال المحقق الطوسي: و هو مركّب من علمين‏ «6» و قد أسلفنا الكلام عليه مبسوطا «7».

و المراد باليقين الصادق: المستقرّ الراسخ في القلب، إذ إطلاقه على غير الراسخ كاذب، و قيل: هو قيد للاحتراز عن العلم بالباطل، فإنّه يقين عند الجهلة غير صادق، و لا يخفى ما فيه.

و الإغضاء في الأصل: إدناء الجفون، ثمّ استعمل في التغافل و الصدود.

و في القاموس: أغضى عنه طرفه: سدّه أو صدّه‏ «8».

______________________________

 (1) بحار الأنوار: ج 51 ص 290.

 (2) بحار الأنوار: ج 51 ص 290.

 (3) بحار الأنوار: ج 51 ص 290.

 (4) كشف الغمة: ج 3 ص 332.

 (5) لم نعثر عليه.

 (6) بحار الأنوار: ج 70 ص 143، نقلا عنه.

 (7) في الروضة العشرين: ص 27.

 (8) القاموس المحيط: ج 4 ص 370.

327
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

ذكر جملة من المعمرين ص : 324

.......... و المعنى هنا: تصدّنا به عن مئونة الطلب.

و في رواية: «تكفينا به من مئونة الطلب».

و المئونة على وزن فعولة مهموزة: الثقل، و قد تخفّف فيقال: مونة على وزن سورة.

و الطلب: محاولة وجود الشي‏ء و أخذه.

و الإلهام: ما يلقى في الروح بطريق الفيض.

و الثقة: الائتمان، يقال: وثقت به أثق بالكسر فيهما: إذا ائتمنته.

و الخالصة: التي لا يشوبها شك أو وهم.

و الإعفاء: الإقالة، يقال: استعفيته من الأمر فعفاني أي: طلبت الترك فأجابني.

و في ديوان الأدب: يقال: اعفني من الخروج معك أي: دعني منه‏ «1».

و النصب: كالتعب وزنا و معنى.

و لمّا كان كلّ من اليقين الصادق و الثقة الخالصة، سببا للإقلاع من علقة الأسباب و الانقطاع عن الوسائط، و الراحة من تحمّل ثقل الطلب و شدّة التعب في تحصيل الرزق و التردّد في اكتسابه، استوهب عليه السّلام ربّه اليقين الصادق، و استلهمه الثقة الخالصة، الموجبين للاطمئنان و الاستراحة من الاضطراب و المشقّة.

و بيان ذلك: أنّه إذا حصل لأحد بالبرهان أو الهداية الخاصّة أو الكشف بتصفية النفس، اليقين باللّه و وحدانيّته، و علمه و قدرته، و تقديره للأشياء و تدبيره فيهما، و حكمته التي لا يفوتها شي‏ء من المصالح، و رأفته بالعباد و إحسانه إليهم ظاهرا و باطنا و تقديره كمالات الأعضاء الظاهرة و الباطنة، و تدبير منافعها بلا استحقاق‏

______________________________

 (1) لا يوجد لدينا هذا الكتاب.

328
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

ذكر جملة من المعمرين ص : 324

.......... و لا مصلحة منهم و من غيرهم، و إيصال الأرزاق إليهم حيث لا شعور لهم بطرقها، و لا قدرة لهم على تحصيلها و اكتسابها، مع عدم وجوده بوجه من الوجوه، علم أنّ من كان كذلك كان قادرا على مستقبل أموره و مهمّاته، و إيصال رزقه و مطلوبه، فلا ينظر إلى الأسباب و الوسائط، و لا يتعلّق قلبه بها أصلا، فيستريح من مئونة الطلب.

و كذلك من حصلت له ثقة خالصة باللّه تعالى في جميع أموره اعتمد عليه، و وثق بكفايته، و تمسّك بحوله و قوّته، و ترقّب التوفيق و الإعانة منه، دون الاعتماد على نفسه و حوله و قوّته و قدرته و علمه و ما يظنّه من الأسباب الضرويّة و العاديّة و غيرها، فلا ينصب كلّ النصب في السعي لاكتساب الرزق، و هذا معنى التوكّل على اللّه سبحانه.

لكن ينبغي أن يعلم أنّ التمسّك بالأسباب لا ينافي اليقين، و الثقة باللّه جلّت عظمته و التوكّل عليه، إذ ليس معنى ذلك رفع اليد عن الأسباب و الوسائط رأسا، بل معناه عدم الاعتماد عليها و الوثوق بها، و من ثمّ اشتهر أنّ التمسّك بالأسباب لا ينافي التوكّل، فلو طلب طالب للرزق مثلا رزقه من أسبابه المشروعة، كالتاجر من التجارة و الزارع من الزارعة، و لم يكن اعتمادهما على عملهما، بل على اللّه سبحانه، و على أنّ الرزق عليه إن شاء رزقهما من عمليهما هذين، و إن شاء رزقهما من غيرهما، حتّى لو فسد العمل لم يحزنا، لم يكن ذلك منافيا لليقين و الثقة باللّه و التوكّل عليه. و مثل ذلك حمل الخائف من العدوّ السلاح، و قفل الخارج من البيت بابه، و شرب المريض الدواء، فإنّه إذا لم يكن اعتماده على السلاح و الباب و الدواء، إذ كثيرا ما يغلب العدوّ مع السلاح، و يسرق السارق بكسر القفل، و لا ينفع الدواء، بل اعتمادهم على اللّه عزّ و جلّ، لم يكن ذلك خارجا عن حدّ اليقين و الثقة باللّه و التوكّل عليه.

329
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

ذكر جملة من المعمرين ص : 324

وَ اجْعَلْ ما صَرَّحْتَ بِهِ مِنْ عِدَتِكَ في وَحْيِكَ، وَ أتْبَعْتَهُ مِنْ قَسَمِكَ في كِتابِكَ، قاطِعاً لاهْتِمامِنا بِالرِّزْقِ الَّذي تَكَفَّلْتَ بِهِ، وَ حَسْمًا لِلْاشْتِغالِ بِما ضَمِنْتَ الْكِفايَةَ لَهُ.

و بالجملة: قلب الموقن الواثق المتوكّل متوجّه إلى اللّه جلّ جلاله، و توجّهه إلى الأسباب و الوسائط باعتبار أنّ العالم عالم الأسباب، و أنّ اللّه تعالى أبى أن يجري الأمور إلاّ بأسبابها، كما قال تعالى: «فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَ كُلُوا مِنْ رِزْقِهِ» «1» فالظاهر منه متحرّك، و الباطن ساكن مطمئنّ موقن بأنّ الرزق بيد اللّه تعالى، يوصله إلى عباده على حسب ما تقتضيه المصلحة من الزيادة و النقصان، لا يسوقه حرص حريص، و لا يردّه كره كاره، فهو ساكن مستريح من تعذيب القلب و الجسم بشدّة الانتظار و الجهد الجهيد في كسبه، ثقة منه بأنّ ما قسم له لا يجاوزه، و ما جاوزه لا يصيبه، فيربح بيقينه و ثقته راحة القلب و سكونه عن القلق و الاضطراب، و راحة البدن و فراغه عن شدّة النصب و الإتعاب، و في الحديث عنهم عليهم السلام: أنّ اللّه بعد له و قسطه جعل الروح و الراحة في اليقين و الرضا، و جعل الهمّ و لحزن في الشكّ و السخط «2»+.

 [ 855] صرّح به تصريحا: كشفه و بيّنه بلفظ صريح، و هو ما انكشف المراد منه في نفسه، أي: بالنظر إلى كونه لفظا مستعملا سواء كان المعنى المراد فيه معنى حقيقيّا أو مجازيّا، و قيد «في نفسه» للاحتراز عن استتار المراد فيه بواسطة غرابة اللفظ، أو ذهول السامع عن الوضع أو عن القرينة أو نحو ذلك، هذا هو التحقيق.

و قال بعضهم: صرّح به أي: أذهب عنه احتمالات المجاز و التأويل.

و العدة: الوعد.

و من: بيانيّة.

______________________________

 (1) سورة الملك: الآية 15.

 (2) احياء علوم الدين: ج 4 ص 347.

330
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

ذكر جملة من المعمرين ص : 324

.......... و الوحي: مصدر وحيت إليه الكلام: إذا ألقيته إليه ليعلمه، و أوحيت إليه بالألف: مثله، و هي لغة القرآن الفاشية، ثمّ غلب استعمال الوحي فيما يلقى إلى الأنبياء من عند اللّه، و المراد به هنا: الموحى، كالقول بمعنى المقول، أي: فيما أوحيته. و جعله بعضهم من أسماء القرآن، لقوله تعالى: «قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ» «1».

و أتبعته الشي‏ء: قفيته به، أي: جعلته تابعا له.

و القسم بفتحتين: اسم من أقسم باللّه: إذا حلف.

و القطع: في الأصل للأجسام، و هو إبانة بعضها عن بعض فصلا، ثمّ استعمل في المعاني فقيل: قطعته عن العمل أي: منعته منه، و هو المراد هنا.

و اهتم بالأمر اهتماما: أعتنى به و احتفل.

و تكفّلت بالمال: التزمت به، و الزمته نفسي.

 [ 856] و الحسم: القطع، و منه قيل للسيف: حسام، لأنّه قاطع لما يأتي عليه، و قول العلماء: حسما للباب أي: قطعا للوقوع قطعا كلّيا.

و إسناد القطع و الحسم للعدة و القسم مجاز عقلي، أي: اجعلهما سببا لهما.

و الاشتغال: مصدر اشتغل بأمره فهو مشتغل بالبناء للفاعل.

و قال ابن فارس: و لا يكادون يقولون: اشتغل بالبناء للفاعل، و هو جائز «2» و قد تقدّم الكلام على ذلك بأبسط من هذا.

و في نسخة: «و حسما للاستعمال».

و ضمنت المال ضمانا: التزمته.

و الكفاية: مصدر كفاه الأمر: إذا قام مقامه.

______________________________

 (1) سورة الأنبياء: الآية 45.

 (2) المصباح المنير: ص 431.

331
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

ذكر جملة من المعمرين ص : 324

فَقُلْتَ وَ قَوْلُكَ الحَقُّ الأَصْدَقُ، وَ أقْسَمْتَ وَ قَسَمُكَ الأَبَرُّ الأَوفى‏:

وَ في السّماءِ رِزْقُكُمْ وَ ما تُوعَدُونَ، ثُمَّ قُلْتَ: فَوَ رَبِّ السَماءِ وَ الأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أنَّكُمْ تَنْطِقُونَ.

و اللام في قوله: «له»: للتقوية متعلّقة بالمصدر أعني الكفاية، و الظرف لغو، و زاد اللام لتقوية العامل الذي هو المصدر، لأنّه فرع في العمل كقولك: ضربي لزيد حسن+.

 [ 857] الفاء: عاطفة، و مفادها هنا الترتيب الذكري، و هو عطف مفصّل على مجمل، و مثله قوله تعالى: «وَ نادى‏ نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي» «1»، و قوله: «فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى‏ أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً» «2».

و جملة «و قولك الحقّ» معترضة بين القول و مقوله لا محلّ لها من الإعراب، و فائدتها تقرير مضمون الجملة. و إعرابها حالا كما زعم بعضهم يأباه المقام، لأنّ الحال مقيّدة، فيراد بقوله الحقّ: هذا القول.

و على تقدير الاعتراض لا يختصّ به بل المطلق، أي: كلّ قول تقوله حقّ و صدق لا يتطرّق إليه الكذب. و أيضا يراد الدوام على تقدير الاعتراض دون الحال. و كذا الكلام في قوله: «و قسمك الأبرّ الأوفى».

و أقسم يقسم إقساما: حلف و برّ في يمينه و قوله.

يبّر برّا- على وزن علم يعلم علما-: صدق.

و وفى بعهده: ضدّ غدر.

قوله عليه السّلام: «و في السماء رزقكم» في محلّ نصب على المفعوليّة، لأنّه مقول القول، أي: أسباب رزقكم، بأن يرسل سبحانه الرياح فتثير السحاب، فيبسطه في السماء، و ينزل الغيث و المطر، فيخرج به من الأرض أنواع الأقوات‏

______________________________

 (1) سورة هود: الآية 45.

 (2) سورة النساء: الآية 153.

332
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

ذكر جملة من المعمرين ص : 324

.......... و الملابس و المنافع. و قيل: معناه: و في السماء تقدير رزقكم، أي: ما قسمه لكم مكتوب في أمّ الكتاب الذي هو في السماء.

و في حديث أهل البيت عليهم السّلام: أرزاق الخلائق في السماء الرابعة، تنزل بقدر و تبسط بقدر «1».

و قيل: المراد بالسماء: السحاب، و بالرزق: المطر، و هو المروي عن الصادق عليه السّلام قال: الرزق: المطر ينزل من السماء فيخرج به أقوات العالم‏ «2».

و قوله: «و ما توعدون» قيل: هو الجنّة فوق السماء السابعة و تحت العرش، و قيل:

هو الثواب و العقاب، لأنّ الأعمال و جزاءها مكتوبة مقدّرة في السماء، و عن الصادق عليه السّلام: هو أخبار القيامة و الرجعة، و الأخبار التي في السماء «3».

 [ 858] قوله: «ثمّ قلت فوربّ السماء و الأرض إنّه لحقّ» هذا هو القسم المشار إليه سابقا، أقسم سبحانه بنفسه أنّ ما ذكره من أمره الرزق الموعود حقّ لا شكّ فيه.

و الضمير في «إنّه»: راجع إليه على أنّه مستعار لاسم الإشارة.

قوله تعالى: «مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ» «4» قرأ حمزة و الكسائي و خلف و عاصم سوى حفص «مثل» بالضمّ على أنّه صفة لحقّ، و الباقون بالنصب على الحاليّة من المستكن في الحقّ، أو على أنّه وصف لمصدر محذوف، أي: إنّه لحقّ حقّا مثل نطقكم‏ «5».

و قيل: إنّه مبني على الفتح لإضافته إلى غير متمكّن، و هو «ما» إن كانت عبارة عن شي‏ء و إن بما في حيّزها إن جعلت «ما» زائدة، و محلّه الرفع على أنّه صفة

______________________________

 (1) تفسير نور الثقلين: ج 5 ص 124 ح 25.

 (2) تفسير القمي: ج 2 ص 330.

 (3) تفسير القمي: ج 2 ص 330.

 (4) سورة الذاريات: الآية 23.

 (5) تفسير روح المعاني: ج 27 ص 10، مع تقديم و تأخير.

333
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

ذكر جملة من المعمرين ص : 324

.......... لحقّ، و تؤيّده القراءة بالرفع‏ «1».

و المعنى كما أنّه لا شكّ لكم في أنّكم تنطقون، ينبغي أن لا تشكّوا في حقيقة ما ذكر «2».

قال الزمخشري: و هذا كقول الناس: إنّ هذا لحقّ كما أنّك ترى و تسمع و مثل ما أنّك هاهنا «3».

و قال العلامّة الطبرسي رضي اللّه عنه: شبّه اللّه سبحانه تحقّق ما أخبر عنه بتحقّق نطق الآدمي و وجوده، فأراد أنّه لحقّ كما أنّ الآدمي ناطق، و المعنى: أنّه في صدقه و تحقّق وجوده كالذي تعرفونه ضرورة «4».

قيل: لمّا نزلت هذه الآية قالت الملائكة: هلكت بنو آدم، أغضبوا الربّ حتّى أقسم لهم على أرزاقهم.

و نقل جار اللّه في الكشاف عن الأصمعي، قال: أقبلت من جامع البصرة، و طلع أعرابي على قعود، فقال: من الرجل؟ قلت: من بني أصمع، قال: من أين أقبلت؟ قلت: من موضع يتلى فيه كلام الرحمن، قال: اتل عليّ، فتلوت و الذاريات، فلمّا بلغت قوله تعالى: «وَ فِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ» قال: حسبك فقام إلى ناقته فنحرها و وزعّها على من أقبل و أدبر، و عمد إلى سيفه و قوسه فكسرهما و ولّى فلمّا حججت مع الرشيد طفقت أطوف، فإذا أنا بمن يهتف بي بصوت دقيق، فالتفت فإذا أنا بالأعرابي قد نحل و اصفّر فسلّم عليّ، و استقرأ السورة فلمّا بلغت الآية صاح و قال: قد وجدنا ما وعدنا ربّنا حقّا، ثمّ قال: و هل غير ذلك؟ فقرأت‏ «فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ»، فصاح و قال: يا سبحان اللّه، من ذا الذي أغضب الجليل حتّى‏

______________________________

 (1) تفسير روح المعاني: ج 27 ص 10، مع تقديم و تأخير.

 (2) تفسير روح المعاني: ج 27 ص 10، مع تقديم و تأخير.

 (3) تفسير الكشاف: ج 4 ص 400.

 (4) مجمع البيان: ج 9- 10 ص 156.

334
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

ذكر جملة من المعمرين ص : 324

.......... حلف؟ لم يصدّقوه بقوله حتّى ألجئوه إلى اليمين، قالها ثلاثا و خرجت معها نفسه، و اللّه أعلم‏ «1». [] هذا آخر الروضة التاسعة و العشرين من رياض السالكين في شرح صحيفة سيّد العابدين، صلوات اللّه عليه و على آبائه و أبنائه الطاهرين، و قد وفّق اللّه سبحانه لإتمامها عصر يوم الأربعاء، سابع ذي الحجّة الحرام آخر شهر سنة ثلاثمائة و ألف، بدار السرور برهانبور، على يد مؤلّفها العبد صدر الدين عليّ بن أحمد الحسينيّ تقبّل اللّه أعماله و بلّغه آماله.

______________________________

 (1) تفسير الكشاف: ج 4 ص 400.

335
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

الروضة الثلاثون ص : 337

 

الروضة الثلاثون‏

 

337
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

و كان من دعائه عليه السلام فى المعونة على قضاء الدين ص : 339

 

وَ كانَ مِنْ دُعائِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ فِى الْمَعُونَةِ عَلى‏ قَضاءِ الدَّينِ‏

اللّهُمَّ صَلِّ عَلى‏ مُحَمَّدٍ وَ الِهِ وَ هَبْ لِىَ الْعافِيَةَ مِنْ دَيْنٍ تُخْلِقُ بِهِ وَجْهى‏ وَ يَحارُ فيهِ ذِهْنى‏ وَ يَتَشَعَّبُ لَهُ فِكْرى‏ وَ يَطُولُ بِمُمارَسَتِهِ شُغْلى‏ وَ اعُوذُ بِكَ مِنْ هَمِّ الدَّيْنِ وَ فِكْرِه‏ وَ شُغْلِ الدَّيْنِ وَ سَهَرِهِ فَصَلِّ عَلى‏ مُحَمَّدٍ وَ الِهِ وَ اعِذْنى‏ مِنْهُ وَ اسْتَجيرُ بِكَ يا رَبِّ مِنْ ذِلَّتِهِ فِى الْحَيوةِ وَ مِن تَبِعَتِهِ بَعْدَ الْوَفاةِ فَصَلِّ عَلى‏ مُحَمَّدٍ وَ الِهِ وَ اجِرْنى‏ مِنْهُ بِوُسْعٍ فاضِلٍ اوْ كَفافٍ وَ اصِلٍ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلى‏ مُحَمَّدٍ وَ الِهِ وَ احْجُبْنى‏ عَنِ السَّرَفِ وَ الْازْدِياد وَ قَوِّمْنى‏ بِالْبَذْلِ وَ الْإِقْتِصادِ وَ عَلِّمْنى‏ حُسْنَ التَّقْديرِ وَ اقْبِضْنى‏ بِلُطْفِكَ عَنِ التَّبْذيرِ وَ اجْرِ مِنْ اسْبابِ الْحَلالِ ارْزاقى‏ وَ وَجِّهْ في‏ ابْوابِ الْبِرِّ انْفاقى‏ وَ ازْوِ عَنّى مِنَ الْمالِ ما يُحْدِثُ لي‏ مَخيلَةً اوْ تَادِّيًا الى‏ بَغْىٍ اوْ ما أَتَعَقَّبُ مِنْهُ طُغْياناً اللَّهُمَّ حَبّبْ الَىَّ صُحْبَةَ الْفُقَراءِ وَ اعِنّى عَلى‏ صُحْبَتِهِمْ بِحُسْنِ الصَّبْرِ وَ ما زَوَيْتَ عَنّى‏ مِنْ مَتاعِ الدُّنْيَا الْفانِيَةِ فَاذْخَرْهُ لي‏ في‏ خَزائِنِكَ الْباقِيَة وَ اجْعَلْ ما خَوَّلْتَنى‏ مِنْ حُطامِها وَ عَجَّلْتَ لي‏ مِنْ مَتاعِها بُلْغَةً الى‏ جِوارِكَ وَ وُصْلَةً الى‏ قُرْبِكَ وَ ذَريعَةً الى‏ جَنَّتِكَ انَّكَ ذُو الْفَضْلِ الْعَظيمِ وَ انْتَ الْجَوادُ الْكَريمُ‏ ..........

 

339
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

و كان من دعائه عليه السلام فى المعونة على قضاء الدين ص : 339

.......... [] بسم اللّه الرّحمن الرحيم الحمد للّه الملك الديّان، المنعم المنّان، المستعان به على قضاء الحقوق، المستعاذ به من الآثام و الفسوق، و الصّلاة على نبيّه الذي ربح بهديه المحقون و خسر المبطلون، و على أهل بيته الذين يهدون بالحقّ و به يعدلون.

و بعد فهذه الروضة الثلاثون من رياض السالكين في شرح صحيفة سيّد العابدين، صلوات اللّه و سلامه عليه و على آبائه و أبنائه الهادين، إملاء العبد الراجي فضل ربّه السنيّ عليّ صدر الدين الحسينيّ الحسنيّ، منحه اللّه معونته و كفاه بطوله مئونته.

340
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء الثلاثين ص : 341

 

شرح الدعاء الثلاثين‏

و كانَ مِن دُعائِهِ عليهِ السّلامُ في المعونةِ على‏ قضاءِ الدّين.

قال عليه السّلام:

اللّهُمَّ إنّي أعُوذُ بِكَ مِنْ ديْنٍ تُخْلِقُ بِهِ وَجْهي، وَ يَحارُ فيهِ ذِهْني، المعونة: اسم من استعان به فأعانه، و وزنها مفعلة بضمّ العين، و بعضهم يجعل الميم أصليّة و يقول: هي فعولة مأخوذة من الماعون، و هو مأخوذ من المعن، و هو السهل اليسير لسهولته و تيسيره+.

و القضاء هنا: بمعنى الأداء، يقال: قضيت الدين أقضيته قضاء أي: أدّيته أداء، و منه قوله تعالى: «فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ» «1»، «فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ» «2» أي: أدّيتموها.

و المراد بالدين هنا: ما ثبت في الذمّة من مال لآخر سواء كان مؤجّلا أم لم يكن، فيشمل السلف و القرض.

و قال في القاموس: الدين: ما له أجل، و ما لا أجل له فقرض.

رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين ؛ ج‏4 ؛ ص341

 

قيل: هو كلّ معاملة يكون أحد العوضين فيها مؤجّلا، و أمّا القرض: فهو إعطاء شي‏ء ليستعيد عوضه وقتا آخر من غير تعيين للوقت، و لا يخفى أنّ المقصود من الدين هنا هو المعنى الأعمّ الذي ذكرناه أولا+.

 [ 859] عاذ باللّه عياذا و معاذا: أعتصم.

______________________________

 (1) سورة البقرة: الآية 200.

 (2) سورة النساء: الآية 103.

 

341
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء الثلاثين ص : 341

وَ يَتَشَعَّبُ لَهُ فِكْري، وَ يَطُولُ بِمُمارَسَتِهِ شُغْلي.

و أخلقت الثوب إخلاقا: جعلته خلقا بفتحتين أي: باليا، يقال: خلق الثوب بالضمّ: إذا بلى و قد يقال: أخلق أيضا، فيكون الرباعي لازما و متعديا، ثمّ استعير لبذل الوجه في سؤال أو دين و نحوهما.

قال الزمخشري في الأساس: يقال للسائل: أخلقت وجهك‏ «1».

و من العجيب جعل بعض طلبة العجم الإخلاق هنا من أخلقه: إذا كساه ثوبا خلقا، ثمّ قال: معناه: إنّي أعوذ بك من دين تلبسني بسببه ثوبا خلقا، و لم يتفطن لإيقاع الفعل على الوجه.

و حار في أمره يحار حيرا- من باب تعب- و حيرة: لم يدر وجه الصواب، فهو حيران و هي حيرى.

و قال الأزهري: و أصله أن ينظر الإنسان إلى شي‏ء يغشاه ضوؤه فيصرف بصره عنه‏ «2».

و عرّفوا الذهن بأنّه قوّة للنفس تشتمل على الحواسّ الظاهرة و الباطنة معدّة لاكتساب العلوم.

و في القاموس: الذهن: الفهم و العقل و حفظ القلب و الفطنة «3».

و تشعّب الأمر: تفرّق، كأنّه صار ذا شعب أي: فروع.

و مارسه ممارسة: عالجه.

قال في الأساس: مارس قرنه عالجه، و مارس الأمور و الأعمال و ما زال يزاولها و يمارسها «4» و الشغل بضمّ الشين و تضمّ الغين و تسكّن للتخفيف: اسم من شغله الأمر شغلا- من باب نفع- فالأمر شاغل و هو مشغول. و لمّا كان الدين يهمّ صاحبه و يقلقه، و كان صاحبه لا يزال متفكّرا في دفع همّه بقضائه و أدائه، استعمل فيه الممارسة التي تقتضي أن تكون من فاعلين يفعل أحدهما بصاحبه ما يفعله هو به، و هو

______________________________

 (1) أساس البلاغة: ص 173.

 (2) تهذيب اللغة: ج 5 ص 231.

 (3) القاموس المحيط: ج 4 ص 226.

 (4) أساس البلاغة: ص 589.

342
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء الثلاثين ص : 341

وَ أعُوذُ بِكَ يا رَبِّ مِنْ هَمِ الدَّينِ وَ فِكْرِهِ، وَ شُغْلِ الدَّيْنِ وَ سَهَرِهِ، فَصَلِّ عَلى‏ مُحَمَّدٍ وَ آلِهِ وَ اعْذِني مِنْهُ.

وَ أَسْتَجيرُ بِكَ يا رَبِّ مِنْ ذِلَّتِهِ في الحَياة، وَ مِنْ تَبِعَتِهِ بَعْدَ الوَفَاةِ، فَصَلِّ عَلى‏ مُحَمَّدٍ وَ آلِهِ، وَ أجِرْني مِنْهُ بِوُسْعٍ فاضِلٍ، أوْ كَفافٍ واصِلٍ.

من باب الاستعارة بالكناية، و الممارسة ترشيح لها+.

 [ 860] الهمّ: الحزن، يقال: همّه الأمر همّا و أهمّه بالألف: إذا حزنه و أقلقه. و فرّق بعضهم بينه و بين الغمّ بأنّ الهمّ ما يقدر الإنسان على إزالته كالإفلاس، و الغمّ ما لا يقدر على إزالته كموت الولد.

و الفكر: تردّد القلب بالنظر و التدبّر لطلب المعاني، و ليس في الأمر فكر أي:

نظر و رويّة.

و في القاموس: الفكر بالكسر: إعمال النظر في الشي‏ء كالفكرة «1».

و المراد بفكر الدين: تردّد القلب و التدبّر و إعمال النظر في أدائه، و وجوه الحيلة في قضائه.

و السهر: عدم النوم في الليل كلّه أو بعضه، يقال: سهر الليل كلّه او بعضه: إذا لم ينم فيه، فهو ساهر و سهران، و أسهرته بالألف.

و إضافته إلى ضمير الدين من باب إضافة الشي‏ء إلى سببه+.

 [ 861] استجاره و استجار به: طلب أن يحميه فأجاره، و الأصل في الاستجارة: طلب المجاورة و هي الملاصقة في السكن، لأنّ العرب تحمي جارها و تمنع عنه المكروه و تنقذه منه، فكثر حتّى استعمل في مطلق طلب الحماية و الإنقاذ من المكاره.

و الذلّة بالكسر: الهوان، ذلّ يذلّ ذلا- من باب ضرب- و الاسم الذلّ بالضمّ و الذلّة و المذلّة.

______________________________

 (1) القاموس المحيط: ج 2 ص 111.

343
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تتمة تشتمل على مسائل: ص : 344

 

.......... و التبعة على وزن كلمة: الظلامة، سميّت بذلك لأنّ صاحبها يتبع بها ظالمه.

و في محكم اللغة: التبعة: و التباعة: ما أتبعت به صاحبك من ظلامة و نحوها، و التبعة و التباعة أيضا: ما فيه إثم يتبع فيه‏ «1»، انته.

و الوسع بالضمّ: الغنى و الثروة، من وسّع اللّه عليه رزقه: بسطه و كثّره.

و الفاضل: الزائد، من فضل فضلا- من باب قتل- بمعنى: زاد، و منه: خذ الفضل أي: الزيادة.

و الكفاف بالفتح من العيش و النفقة: ما ليس فيه فضل: يقال: قوته كفاف أي:

مقدار حاجته من غير زيادة و لا نقصان، لأنّه يكفّ عن الناس و يغني عنهم.

و واصل: أي مواصل لي غير منقطع عنّي، من قولهم: وصلته وصلا و صلة: ضد هجرته، و واصله وصالا و مواصلة- من باب قاتل-: بمعناه.

قال في الأساس: وصلني بعد الهجر و واصلني و صرمني بعد الوصل و الصلة و الوصال‏ «2».

أو هو من أوصلت زيدا البلد فوصله.

تتمة تشتمل على مسائل:

الأولى‏

: في استعاذته عليه السّلام من الدين و وصفه له بما وصفه أوّلا، ثمّ استعاذته من همّه و فكره و شغله و سهره ثانيا، ثمّ استجارته من ذلّته في الحياة و تبعته بعد الوفاة، دليل واضح على فظاعة أمر الدين و شدّة شناعته، و هو يرشد إلى تأكّد اجتنابه، و قد ورد بذلك أحاديث كثيرة.

روى ثقة الإسلام في الكافي بسنده عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: قال‏

______________________________

 (1) المحكم في اللغة: ج 2 ص 43.

 (2) أساس البلاغة: ص 678.

 

344
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

الثانية ص : 345

 

.......... رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لا وجع الاّ وجع العين، و لا همّ إلاّ همّ الدين‏ «1».

و بسنده عنه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: الدين ربقة اللّه في الأرض، فإذا أراد أن يذلّ عبدا وضعه في عنقه‏ «2».

و بسنده عن عبد الرحمن بن الحجّاج عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: تعوّذوا من غلبة الدين و غلبة الرجال و بوار الأيم‏ «3».

و بسنده عن الباقر عليه السّلام قال: كلّ ذنب يكفّره القتل في سبيل اللّه الاّ الدين لا كفّارة له إلاّ أداؤه، أو يقضي صاحبه، أو يعفو الذي له الحقّ‏ «4».

و بسنده عن أبي عبد اللّه عليه السّلام عن آبائه عن عليّ عليه السّلام، قال:

إيّاكم و الدين، فإنّه مذلّة بالنهار مهمّة بالليل، و قضاء في الدنيا و قضاء في الآخرة «5».

الثانية

: أجمع أصحابنا على شدّة كراهية الاستدانة مع عدم الحاجة، إلاّ أبا الصلاح فإنّه ذهب إلى تحريمها.

قال العلاّمة شهاب الدين بن فهد في المهذّب البارع‏ «6»: إيّاك ثمّ إيّاك و التجريّ على الدين، فإنّه مجلبة للهمّ، و مشغلة للذمّة، و مشتّت للفكر، و هو في الدنيا مذلّة و في الآخرة تبعة.

و حمل إلى مسجد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ميّت، فقال: على ميّتكم دين؟

فقالوا: نعم درهمان يا رسول اللّه، قال: تقدّموا فصلّوا على ميّتكم، فقال عليّ عليه السّلام: ضمنتهما عنه يا رسول اللّه، فقال: فكّ اللّه رهانك كما فككت رهان أخيك، ثمّ تقدّم فصلّى عليه‏ «7».

و قد ورد رخصة في إباحته إذا كان له وليّ يقضيه أو مال يؤدّى عنه، و الأفضل‏

______________________________

 (1) الكافي: ج 5 ص 101 ح 4 باب في آداب اقتضاء الدين.

 (2) الكافي: ج 5 ص 101 ح 5 باب في آداب اقتضاء الدين.

 (3) الكافي: ج 5 ص 92 ح 1 باب الدين.

 (4) الكافي: ج 5 ص 94 ح 6 باب الدين.

 (5) الكافي: ج 5 ص 95 ح 11 باب الدين.

 (6) المهذب البارع: مخطوط.

 (7) وسائل الشيعة: ج 13 ص 151 ح 2.

 

345
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

الثالثة ص : 346

 

.......... تركه و الطلب إلى اللّه تعالى بالغنى عنه بالتسبّب و التمعيش، ففيه مع تفريغ الذمّة من حقوق المخلوقين و الراحة من الفكر، مواساة الصالحين و الفوز بثواب الكادّين، حيث يقول عليه السّلام: الكادّ على عياله كالمجاهد في سبيل اللّه‏ «1».

و قال عليه السّلام: من بات كالا في طلب الحلال غفر له‏ «2»، انته.

و قال العلاّمة الحليّ قدّس سرّه في التذكرة: و تخفّ الكراهة مع الحاجة، و إن اشتدّت زالت، و لو خاف التلف و لا وجه إلاّ الاستدانة وجبت‏ «3».

قال الرضا عليه السّلام: من طلب هذا الرزق من حلّ ليعود به على عياله و نفسه كان كالمجاهد في سبيل اللّه، فإن غلب عليه فليستدن على اللّه عزّ و جل و على رسوله ما يقوت به عياله، فإن مات و لم يقضه كان على الإمام قضاؤه، فإن لم يقضه كان عليه وزره، إنّ اللّه تعالى يقول: «إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَ الْمَساكِينِ وَ الْعامِلِينَ عَلَيْها وَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَ فِي الرِّقابِ وَ الْغارِمِينَ» فهو فقير مسكين مغرم‏ «4».

الثالثة

: يجب على المستدين نيّة القضاء، لأنّها واجبة من غير خلاف.

قال الصادق عليه السّلام: من استدان دينا فلم ينو قضاءه كان بمنزلة السارق‏ «5».

و عنه عليه السّلام: من كان عليه دين ينوي قضاءه كان معه من اللّه حافظان يعينانه على الأداء عن أمانته، فإن قصرت نيّته عن الأداء قصرا عليه من المعونة بقدر ما يقصّر من نيّته‏ «6».

الرابعة:

يجب على المدين المبادرة إلى قضاء الدين، و لا يحلّ تأخيره مع حلوله‏

______________________________

 (1) الكافي: ج 5 ص 88 باب من كدّ على عياله ح 1.

 (2) عوالي اللئالي: ج 3 ص 200.

 (3) التذكرة: ج 2 ص 2.

 (4) الكافي: ج 5 ص 93 باب الدين ح 3.

 (5) الكافي: ج 5 ص 99 باب الرجل يأخذ الدين و هو لا ينوي قضاءه ح 2.

 (6) الكافي: ج 5 ص 95 باب قضاء الدين ح 1، مع اختلاف يسير.

 

346
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

الخامسة: ص : 347

.......... و تمكّنه من الأداء و مطالبة صاحب الدين، فإن أخّر و الحال هذه كان عاصيا، و وجب على الحاكم حبسه، لأنّ الصادق عليه السّلام قال: كان عليّ عليه السّلام يحبس الرجل إذا التوى على غرمائه، ثمّ يأمر فيقسّم ماله بينهم بالحصص، فإن أبى باعه فقسّمه بينهم يعني ماله‏ «1».

إذا ثبت هذا، فلو أصرّ على الالتواء كان فاسقا، لا تقبل شهادته و لا تصحّ صلاته في أوّل الوقت بل إذا تضيّق، و لا يصحّ منه شي‏ء من الواجبات الموسّعة المنافية للقضاء في أوّل أوقاتها، و كذا غير الديون من الحقوق الواجبة كالزكاة و الخمس، و إن لم يطالب بها الحاكم، لأنّ أربابها في العادة مطالبون، قاله العلاّمة الحلّي في التذكرّة «2».

الخامسة:

لو مات المدين و لم يتمكّن من القضاء و لم يخلف شيئا البتّة، لم يكن معاقبا إذا لم ينفقه في المعصية، و لو أنفقه في المعصية أو لم يكن في عزمه القضاء كان مأثوما.

قال عبد الغفاري الجازي: سألت الصادق عليه السّلام عن رجل مات و عليه دين، قال: إن كان أتى على يديه من غير فساد لم يؤاخذه اللّه عزّ و جل إذا علم من نفسه الأداء، الاّ من كان لا يريد أن يؤدّي عن أمانته فهو بمنزلة السارق، و كذلك الزكاة أيضا، و كذلك من استحلّ أن يذهب بمهور النساء «3» قاله في التذكرة أيضا «4».

السادسة:

يستحبّ لصاحب الدين إبراء المدين إذا مات معسرا، فعن الصادق عليه السّلام: أنّ له بكلّ درهم عشرة دراهم إذا حلّله، فإن لم يحلّله فإنّما بدل درهم‏

______________________________

 (1) الكافي: ج 5 ص 102 باب إذا التوى الذي عليه الدين على الغرماء ح 1.

 (2) التذكرة: ج 2 ص 2.

 (3) الكافي: ج 5 ص 99 باب الرجل يأخذ الدين و هو لا ينوي قضاءه ح 1.

 (4) التذكرة: ج 2 ص 2- 3.

347
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

السادسة: ص : 347

اللّهُمَّ صَلِّ عَلى‏ مُحَمدٍ وَ آلهِ، وَ احجُبْني عَنِ السَرَفِ وَ الازْدِياد، وَ قَوِّمْني بِالبَذْلِ وَ الإقْتِصادِ، وَ عَلّمْني حُسْنَ التَقْديرِ، وَ اقْبِضْني بِلُطْفِكَ عَنِ التَبْذيرِ.

بدرهم‏ «1»، و اللّه أعلم+.

 [ 862] حجبه حجبا- من باب قتل-: منعه و منه قيل للبوّاب: حاجب، لأنه يمنع من الدخول، و للستر: حجاب، لأنّه يمنع من المشاهدة.

و السرف بفتحتين: اسم من أسرف إسرافا: إذا جاوز القصد و تباعد عن حدّ الاعتدال مع عدم المبالاة، و هو يجري في كلّ أمر، و ان اشتهر في إنفاق المال، و لذلك عرّفه بعضهم بمجاوزة الحدّ في النفقة.

و قيل: هو إنفاق المال الكثير في الغرض الخسيس.

و ازداد الشي‏ء ازديادا: زاد، و ازددت من الشي‏ء ازديادا أيضا: زدته لنفسي على ما كان، و هذا المعنى هو المراد هنا، أي: و احجبني من أن أزيد في الإنفاق.

و قوّمته تقويما فتقوم بمعنى: عدلته فتعدّل، و منه القوام بالفتح بمعنى: العدل.

و بذله بذلا- من باب قتل-: سمع به و أعطاه، و بذل له: أباحه عن طيب نفس.

و قصد في الأمر قصدا و اقتصد اقتصادا: توسّط و طلب الأسدّ و لم يجاوز الحدّ.

و في هاتين الفقرتين تلميح إلى قوله تعالى: «وَ الَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَ لَمْ يَقْتُرُوا وَ كانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً» «2».

قوله عليه السّلام: «و علّمني حسن التقدير» التعليم: عبارة عن فعل يترتّب عليه العلم بلا تخلّف عنه، و لا يحصل ذلك بمجرد إفاضة العلم، بل يتوقّف على استعداد المتعلّم بقبول الفيض و تلقيه من جهته، فمعنى تعليمه تعالى إيّاه: أنّ يخلق فيه بموجب‏

______________________________

 (1) الكافي: ج 4 ص 36 ح 1، مع اختلاف يسير في العبارة.

 (2) سورة: الفرقان: الآية 67.

348
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

السادسة: ص : 347

.......... استعداده علما ضروريا بحسن التقدير، أو يلقي في روعه أنّ حسن التقدير هكذا ينبغي أن يكون، و المراد بالتقدير هنا: تقدير المعيشة، و هي الإنفاق على مقدار جدته لا يزيد عليها و لا ينقص عنها، و لعلّ المراد بحسن التقدير: الإنفاق دون الجدة و الوسع، كما يدلّ عليه ما رواه ثقة الإسلام في الكافي بسنده عن معتب مولى الصادق عليه السّلام، قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام و قد تزيد السعر بالمدينة:

كم عندنا من طعام؟ قال: قلت عندنا ما يكفينا أشهرا كثيرة، قال: أخرجه و بعه، قال: قلت: و ليس بالمدينة طعام؟ قال: بعه، فلمّا بعته قال: اشتر مع الناس يوما بيوم، و قال: يا معتب اجعل قوت عيالي نصفا شعيرا و نصفا حنطة، فإنّ اللّه عزّ و جلّ يعلم أنّي واجد أنّ اطعمهم الحنطة على وجهها، و لكنّي أحبّ أن يراني اللّه و قد أحسنت تقدير المعيشة «1»، و اللّه أعلم.

و قد ورد في مدح التقدير و حسنه روايات كثيرة، ففي حديث أهل البيت عليهم السّلام: لا مال لمن لا تقدير له‏ «2».

و عن أبي عبد اللّه عليه السلام: الكمال كلّ الكمال في ثلاثة، و ذكر في الثلاثة، التقدير في المعيشة «3».

و عن أبي جعفر عليه السّلام قال: علامات المؤمن ثلاث: حسن التقدير في المعيشة، و الصبر على النائبة، و التفقّه في الدين‏ «4».

و عن داود بن سرحان قال: رأيت أبا عبد اللّه عليه السّلام يكيل تمرا بيده، فقلت: جعلت فداك لو أمرت بعض ولدك أو بعض مواليك ليكفيك، فقال:

______________________________

 (1) الكافي: ج 5 ص 166 ح 2.

 (2) الكافي: ج 5 ص 87 باب إصلاح المال و تقدير المعيشة ح 2.

 (3) وسائل الشيعة: ج 3 ص 376 ح 2.

 (4) تهذيب الأحكام: ج 7 ص 236 ح 1028.

349
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

السادسة: ص : 347

.......... يا داود إنّه لا يصلح المرء المسلم الاّ ثلاثة، التفقّه في الدين، و الصبر على النائبة، و حسن التقدير في المعيشة «1».

 [ 863] قوله عليه السّلام: «و اقبضني بلطفك عن التبذير» القبض في الأصل:

الإمساك باليد، ثمّ توسّع فيه فقيل: قبضه عن الأمر- من باب ضرب-: إذا كفّه عنه، كما قيل: أمسكه عن الشي‏ء أي: حبسه عنه.

و لطفه تعالى قيل: هو تربيته لكلّ فرد حتّى يصل إلى كماله اللائق به بحسب استعداده.

و قيل: هو تصرّفه في الذوات و الصفات تصرّفا خفيّا، بفعل الأسباب المعدّة لها لإفاضة كمالاتها، و قيل غير ذلك. و قد سبق الكلام عليه في الروضة السابعة.

و التبذير: مأخوذ من بذر الحبّ، و هو إلقاؤه و تفريقه في الأرض، و اختلفوا في معناه.

فقيل: هو تفريق المال على وجه الإسراف.

و قيل: تفريقه في غير المقصد.

و قيل: هو الإنفاق في محرّم أو مكروه أو على من لا يستحقّ.

و عن مجاهد: لو أنفق مدّا في باطل كان تبذيرا «2»، و من ثمّ قال بعضهم: الفرق بين الإسراف و التبذير أن الإسراف: صرف الشي‏ء فيما ينبغي زائدا على ما ينبغي، و التبذير: صرف الشي‏ء فيما لا ينبغي‏ «3». و بعبارة أخرى: الإسراف: تجاوز الحدّ في صرف المال، و التبذير: تفريقه في غير موضعه.

و كفى التبذير ذمّا قوله تعالى: «وَ آتِ ذَا الْقُرْبى‏ حَقَّهُ وَ الْمِسْكِينَ وَ ابْنَ السَّبِيلِ‏

______________________________

 (1) الكافي: ج 5 ص 87 ح 4.

 (2) مجمع البيان: ج 5- 6 ص 411.

 (3) فروق اللغات: ص 44.

350
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

السادسة: ص : 347

وَ أجْر مِنْ أسْبابِ الحَلالِ أرْزاقي، وَ وَجِّهْ في أبْوابِ البرِّ إنْفاقي، وَ ازْوِ عَنّي مِنَ المالِ ما يُحْدِثُ لي مَخيلَةً، أوْ تَأدّياً إلى‏ بَغْيٍ، أو ما أتَعَقَّبُ مِنْهُ طُغْياناً.

وَ لا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً. إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَ كانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً» «1»+.

أجرى عليه الرزق إجراء: جعله جاريا أي: دارّا متّصلا، و منه: الأرزاق جارية أي: دارّة متّصلة «2».

و الأسباب: جمع سبب، و أصله الحبل الذي يتوصّل به إلى الماء، فاستعير لكلّ ما يتوصّل به إلى شي‏ء.

و الحلال: كلّ شي‏ء لا يعاقب عليه باستعماله.

و الأرزاق: جمع رزق و هو عندنا و عند المعتزلة: كلّ ما صحّ انتفاع الحيوان به، سواء كان بالتغذّي أو بغيره، و ليس لأحد منعه منه، فليس الحرام رزقا، و قد تقدّم الكلام على ذلك مبسوطا.

و وجّهت الشي‏ء إلى جهة توجيها: صرفت وجهه إليها و جعلته تلقاءها، و منه:

وجهت فلانا في حاجة أي: أرسلته، و وجّه الأمير الجيش أي: بعثهم.

و معنى توجيه الإنفاق في أبواب البرّ: جعله مصروفا فيها.

و الأبواب: جمع باب، و هو في تقدير فعل بفتحتين، و لهذا قلبت الواو ألفا و أبواب البرّ: أنواعه و وجوهه، كأنّ كلّ نوع منها باب يدخل إلى البرّ منه.

و البر بالكسر: اسم جامع للطاعات و أعمال الخير المقرّبة إلى اللّه تعالى.

و الإنفاق: إخراج المال، يقال: أنفق ماله: إذا أخرجه من ملكه، و في هاتين الفقرتين دليل على حسن توفّر الأرزاق و سعتها من الحلال، و إنفاقها في وجوه البرّ.

______________________________

 (1) سورة الاسراء: الآية 26- 27.

 (2) النهاية لابن الأثير: ج 1 ص 264.

351
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

السادسة: ص : 347

.......... و يدلّ على ذلك أيضا ما روي عن الصادق عليه السّلام أنّه قال: لا خير فيمن لا يحبّ جمع المال من حلال، يكفّ به وجهه، و يقضي به دينه، و يصل به رحمه‏ «1».

و عنه عليه السّلام: نعم العون الدنيا على الآخرة «2».

و عن عبد اللّه بن يعفور قال: قال رجل لأبي عبد اللّه عليه السّلام: و اللّه إنّا لنطلب الدنيا و نحبّ أنّ نؤتاها، فقال: تحبّ أن تصنع بها ما ذا؟ قال:

أعود بها على نفسي و عيالي و أصل بها و أتصدّق بها و أحجّ و أعتمر، فقال أبو عبد اللّه عليه السلام: ليس هذا طلب الدنيا، هذا طلب الآخرة «3».

و في كلام بعض الأكابر: سلامة الدين و الدنيا بالمال، يؤخذ من حقّه و يوضع في مستحقّه‏ «4». و الآثار في هذا المعنى أكثر من أن تحصى.

 [ 864] قوله عليه السّلام «و ازو عنّي من المال ما يحدث لي مخيلة» زواه عنه يزويه:

نحّاه و قبضه.

و حدث الشي‏ء حدوثا- من باب قعر-: تجدّد وجوده بعد أن كان معدوما، و يتعدّى بالألف فيقال: أحدثته.

و المخيلة: الخيلاء، و هي الكبر و الإعجاب.

و لمّا كان المال الكثير كثيرا ما يحدث للنفوس الدنيّة تكبّرا و إعجابا، حتى يترفّع صاحبه عن حسن عشرة الجار و الصديق و الصاحب و الزائر، لفرط الإعجاب بما أوتي من حطام الدنيا، الذي هو نهب المنون و ميراث القرون، سأل عليه السلام ربّه أن يصرف عنه من المال ما يكون سببا للكبر و العجب، لأنّه قبيح في العقل، لدلالة العقل على أنّ الشرف لا يحصل للإنسان بأن يكون كثير الحطام، و لا الدناءة

______________________________

 (1) الكافي: ج 5 ص 72 ح 5.

 (2) الكافي: ج 5 ص 72 ح 8.

 (3) الكافي: ج 5 ص 72 ح 10.

 (4) لم نعثر عليه.

352
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

السادسة: ص : 347

.......... بأن يكون قليله، و أنّه لا يوجب استخفافا لمن حرمه بل المواساة له و البرّ به.

قوله عليه السّلام: «أو تأدّيا إلى بغي» التأدّي: مطاوع أدّاه تأدية بمعنى:

أوصله، و منه: أدّى الأمانة أي: أوصلها، و الاسم الأداء، يقال: أدّيته فتأدّى أي:

أوصلته فوصل، و تأدّى إليه الخبر: أي بلغه و وصل إليه، و معناه: أو وصولا إلى بغي.

و البغي يأتي لمعان، يقال: بغى بغيا: إذا سعى في الفساد، و بغى على الناس:

إذا ظلم و اعتدى، و بغى عليه: استطال و تكبّر، و بغى: خرج عن طاعة من تجب طاعته.

قال ابن الأثير: و أصل البغي: مجاوزة الحدّ «1».

و قيل: أصله الطلب، من بغى الشي‏ء يبغيه: إذا طلبه، و لذلك قال بعضهم:

حقيقة البغي: طلب تجاوز الاقتصاد فيما يتحرّى من حيث الكميّة و الكيفيّة.

و قال الزمخشري في الأساس: بغى علينا فلان: خرج علينا طالبا أذانا و ظلمنا «2».

و فسّر البغي في قوله سبحانه و تعالى: «وَ يَنْهى‏ عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ وَ الْبَغْيِ» «3» بالاستعلاء و التطاول على الناس.

قال في الكشّاف: هو طلب التطاول بالظلم‏ «4».

و قال النيسابوري: النهي عن الفحشاء: عبارة عن المنع من تحصيل اللذّات الشهويّة الخارجة عن إذن الشريعة، و النهي عن المنكر: عبارة عن الإفراط الحاصل في آثار القوّة الغضبيّة، من إيذاء الناس و إيصال الشرّ إليهم من غير ما استحقاق، و النهي عن البغي: إشارة إلى المنع من إفراط القوّة الوهميّة، كالاستعلاء على الناس‏

______________________________

 (1) النهاية لابن الأثير: ج 1 ص 143.

 (2) أساس البلاغة: ص 46.

 (3) سورة النحل: الآية 90.

 (4) تفسير الكشاف: ج 2 ص 629.

353
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

السادسة: ص : 347

.......... و الترفّع و حبّ الرئاسة، «1» انته.

و قال ابن عبّاس في قوله تعالى: «وَ لَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ»:

بغيهم في الأرض طلبهم منزلة بعد منزلة، و دابّة بعد دابّة، و ملبسا بعد ملبس‏ «2».

و لمّا كان الغنى و الثروة موجبا في الغالب للاستطالة و الاستعلاء على الناس و للظلم و الفساد بطرا، سأل عليه السّلام ربّه أن يزوي عنه من المال ما يوصل إلى التحلّي بهذه الخصلة الذميمة.

قوله عليه السّلام: «أو ما أَتعقّب منه طغيانا» التعقّب: تفعّل من العقب في قولهم: عقبت زيدا عقبا- من باب قتل-: إذا جئت بعده، يقال: تعقّب فلان من كذا خيرا أو شرّا و استعقب أي: وجد بذلك خيرا أو شرّا بعده.

قال الزمخشري في الأساس استعقب من أمره الندامة و تعقّبها «3».

و قال الفارابي في ديوان الأدب: تعقّب رأيه أي: وجد عاقبته إلى خير «4».

و المعنى: و ازوعنّي من المال ما أجد بعد حصوله طغيانا.

و الطغيان: مجاوزة الحدّ في كلّ أمر، و كلّ شي‏ء جاوز المقدار و الحدّ في العصيان فهو طاغ، من قولهم: طغى السيل: إذا ارتفع حتّى جاوز الحدّ في الكثرة.

و في هذه الفقرة تلميح إلى قوله تعالى: «إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى‏ أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى‏» «5»، أي: يطغى لئن رأى نفسه مستغنيا، قيل: معناه: أنّه يتجاوز الحدّ في مأكله و مشربه و نحو ذلك.

قال قتادة: إذا أصاب ما لا زاد في ثيابه و مركبه و طعامه و شرابه فذلك طغيان‏ «6».

______________________________

 (1) غرائب القرآن و رغائب الفرقان: ج 2 ص 432.

 (2) مجمع البيان: ج 9- 10 ص 30.

 (3) أساس البلاغة: ص 429.

 (4) ديوان الأدب: ج 2 ص 438.

 (5) سورة العلق: الآية 6 و 7.

 (6) مجمع البيان: ج 9- 10 ص 515.

354
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

السادسة: ص : 347

اللّهُمَّ حَبِّبْ إليَّ صُحْبَةَ الفُقَراءِ، وَ أعِنّي على‏ صُحْبَتِهِمْ بِحُسْنِ الصبْرِ.

و قيل: معناه: أنّ الإنسان قد ينسى فضل الربّ و عنايته في حالة الاستغناء، و يرى أنّ ما حصل له بسبب جهده و كدّه، فينسب ذلك إلى كفايته لا إلى عناية اللّه، و لم يدر أنّه كم من باذل وسعه في الحرص لم يحصل إلاّ على خفّي حنين، و أنّه تعالى قد يرجع الغني آخر الأمر إلى حالة الفقر، ليتحقّق أن ذلك الغنى لم يكن بفعله و كسبه، بل بحول اللّه و قوّته+.

 [ 865] حبّب إليه الشي‏ء: جعله محبوبا لديه، و لمّا كان في التحبيب معنى إنهاء المحبّة و إيصالها إليه استعمل بكلمة «إلى»، أي: ألهمني بلطفك محبّة صحبتهم أي:

معاشرتهم و الارتباط بهم.

و لمّا كانت النفوس البشريّة مجبولة على بغض الفقر و كراهيّته، نافرة من صحبة الفقراء و معاشرتهم، سأل عليه السّلام ربّه أن يحبّب إليه صحبتهم، بأن يجعلها ملائمة لقلبه ليكون مائلا إليها، إذ كانت المحبّة ميل القلب إلى ما يلائمه، و ذلك لما في صحبتهم من رياضة النفس و تحليتها بالتواضع و التذلّل، و التأسيّ بهم في القناعة باليسير من حطام الدنيا، و الرضا بالقليل من متاعها، و صيانة النفس عن الانهماك في شهواتها و لذّاتها، و ترك طلب المنزلة و الجاه و الكرامة فيها، و قلّة الحرص على طلب الحاجات و الأوطار منها، و ترك الخلطة مع أبناء الدنيا الراغبين فيها، و التفرّد في الخلوات، و كثرة ذكر الموت و فناء نعيم الدنيا و زوال ملكها، و النظر إلى آثار القرون الماضية، و الاعتبار بها و بالمباني الخربة و المنازل الدارسة و المعالم العافية للامم الخالية، لنزولهم بها غالبا، و اعتباراتهم تصاريف الزمان و نوائب الحدثان، و اليقين بأمر المعاد، و شدّة الشوق إلى نعيم دار القرار مع الأبرار، من النبيين و الصدّيقين و الشهداء و الصالحين و حسن أولئك رفيقا، و لذلك أمر اللّه سبحانه حبيبه المختار من خيار خلقه، بصبره نفسه معهم و حبسها على صحبتهم و مجالستهم،

355
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

السادسة: ص : 347

.......... فقال في محكم كتابه: «وَ اصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَ الْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَ لا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ لا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَ اتَّبَعَ هَواهُ وَ كانَ أَمْرُهُ فُرُطاً» «1».

قال المفسّرون: المراد بهم: فقراء المؤمنين، مثل عمّار و خباب و سلمان و أبي ذر و غيرهم، و قيل: أصحاب الصفّة و كانوا نحو سبعمائة رجل.

قيل: إنّه قال قوم من رؤساء الكفرة لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: نحّ هؤلاء الموالي الذين كان ريحهم ريح الضان حتّى نجالسك، كما قال قوم نوح عليه السّلام: «أَ نُؤْمِنُ لَكَ وَ اتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ»، فنزلت الآية «2».

و روي عن سلمان و خباب قالا: جاء الأقرع بن حابس التميمي، و عيينة بن الحصين الفزاري، و عبّاس بن مرداس، و ذو وهم من المؤلّفة قلوبهم، فوجدوا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله جالسا مع ناس من ضعفاء المؤمنين، فلمّا رأوهم حوله صلّى اللّه عليه و آله حقّروهم، فأتوه صلّى اللّه عليه و آله فقالوا: يا رسول اللّه لو جلست في صدر المجلس و نفيت عنّا هؤلاء و أرواح جبابهم- و كانت عليهم جباب من صوف- جالسناك و حادثناك و أخذنا عنك، فقال صلّى اللّه عليه و آله: ما أنا بطارد المؤمنين، قالوا: فإنّا نحبّ أن تجعل لنا منك مجلسا تعرف لنا فيه العرب فضلنا، فإنّ وفود العرب تأتيك فنستحي أن ترانا مع هؤلاء الأعبد- يعنون فقراء المسلمين-، فإذا نحن جئناك فأقمهم عنّا، فإذا نحن فرغنا فاقعد معهم إن شئت، قال صلّى اللّه عليه و آله، نعم، قالوا: فاكتب لنا بذلك كتابا، فدعا بالصحيفة و بعليّ عليه السّلام ليكتب و نحن قعود في ناحية، فنزل جبرئيل بقوله تعالى: «وَ لا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَ الْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ وَ ما مِنْ‏

______________________________

 (1) سورة الكهف: الآية 28.

 (2) مجمع البيان: ج 5- 6 ص 465.

356
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

السادسة: ص : 347

.......... حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ»، فرمى عليه السّلام بالصحيفة و دعانا فأتيناه و جلسنا عنده، و كنّا ندنو منه حتّى تمسّ ركبتنا ركبته، و كان يقوم عنّا إذا أراد القيام، فنزلت‏ «وَ اصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ» الآية، فترك القيام عنّا إلى أن نقوم عنه، و قال: الحمد للّه الذي لم يمتني حتى أمرني أن اصبر نفسي مع قوم من أمّتي، معكم الحياة و معكم الممات‏ «1».

و في حديث ليلة المعراج: يا أحمد أنّ المحبّة للّه هي المحبّة للفقراء و التقرّب إليهم، قال: يا ربّ و من الفقراء؟ قال: الذين رضوا بالقليل، و صبروا على الجوع، و شكروا على الرخاء، و لم يشكوا جوعهم و لا ظمأهم، و لم يكذبوا بألسنتهم، و لم يغضبوا على ربّهم و لم يغتموا على ما فاتهم، و لم يفرحوا بما آتاهم‏ «2».

و كان من دعائه عليه السّلام: اللّهم أحيني مسكينا، و أمتني مسكينا، و أحشرني مع المساكين‏ «3».

و كان سليمان عليه السّلام مع ما أوتي من الملك يجالس الفقراء و المساكين، و يقول: مسكين جالس مسكينا «4».

و كان عليّ بن الحسين عليه السّلام- صاحب الدعاء- كثير المجالسة للفقراء، حتّى قال له نافع بن جبير: إنّك تجالس أقواما دونا، فقال له عليه السّلام: إنّي أجالس من أنتفع بمجالسته في ديني‏ «5».

______________________________

 (1) مجمع البيان: ج 3- 4 ص 305- 306، مع اختلاف يسير في العبارة.

 (2) إرشاد القلوب: ج 1- 2 باب 54 ص 200- 201.

 (3) هكذا في الأصل، و لكن في سنن ابن ماجة ج 2 ص 1381 ح 4126، و في سنن الترمذي: ج 4 ص 577 ح 2352: و احشرني في زمرة المساكين.

 (4) بحار الأنوار: ج 14 ص 83 ح 28.

 (5) المناقب لابن شهرآشوب: ج 4 ص 161.

357
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تذنيب يشتمل على فوائد: ص : 358

..........

تذنيب يشتمل على فوائد:

الأولى‏

: الفقير و المسكين: من لا يفي ماله و كسبه بمئونته و مئونة عياله. و هل الفقير أسوأ حالا أم المسكين؟ خلاف، و الحقّ أنّ المسكين أسوأ حالا، لما ورد في الصحيح عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال: الفقير: الذي لا يسأل الناس، و المسكين أجهد منه، و البائس أجهدهم‏ «1».

الثانية:

ورد في فضل الفقر و الفقراء أخبار كثيرة، فعن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: في مناجاة موسى عليه السّلام: يا موسى إذا رأيت الفقر مقبلا فقل: مرحبا بشعار الصالحين، و إذا رأيت الغنى مقبلا فقل: ذنب عجّلت عقوبته‏ «2».

و عنه عليه السّلام: المصائب منح من اللّه، و الفقر مخزون عند اللّه‏ «3».

و عنه عليه السّلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام: الفقر أزين للمؤمن من العذار على خدّ الفرس‏ «4».

و عنه عليه السّلام: أنّ فقراء المؤمنين يتقلّبون في رياض الجنّة قبل أغنيائهم بأربعين خريفا «5».

و عنه عليه السّلام: أنّ اللّه جلّ ثناؤه ليعتذر إلى عبده المؤمن المحوج في الدنيا كما يعتذر الأخ إلى أخيه، فيقول: و عزّتي ما أحوجتك في الدنيا من هوان كان بك‏

______________________________

 (1) تهذيب الأحكام: ج 4 ص 104 ح 297.

 (2) الكافي: ج 2 ص 263 ح 12.

 (3) الكافي: ج 2 ص 260 ح 2.

 (4) الكافي: ج 2 ص 265 ح 265، و فيه: ازين للمؤمن.

 (5) الكافي: ج 2 ص 260 ح 1.

358
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

الثالثة ص : 359

.......... عليّ، فارفع هذا السحف فانظر إلى ما عوّضتك من الدنيا، قال: فيرفع، فيقول: ما ضرّني ما منعتني مع ما عوّضتني‏ «1».

و عنه عليه السّلام: انّ اللّه عزّ و جلّ يلتفت يوم القيامة إلى فقراء المؤمنين شبيها بالمعتذر إليهم، فيقول: و عزّتي ما أفقرتكم في الدنيا من هوان بكم، فمن زود منكم في دار الدنيا معروفا فخذوا بيده فادخلوه الجنّة، قال: فيقول رجل منهم: يا ربّ إنّ أهل الدنيا تنافسوا في دنياهم فنكحوا النساء و لبسوا الثياب الليّنة و أكلوا الطعام و سكنوا الدور و ركبوا المشهور من الدوابّ، فاعطني مثل ما أعطيتهم، فيقول تبارك و تعالى، لك و لكلّ عبد منكم مثل ما أعطيت أهل الدنيا إلى أن انقضت الدنيا سبعون ضعفا «2».

و عنه عليه السّلام قال: قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: طوبى للمساكين بالصبر، و هم الذين يرون ملكوت السماوات و الأرض‏ «3».

و عنه عليه السّلام قال: قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: يا معشر المساكين طيبوا نفسا، و أعطوا الرضا من قلوبكم يثبكم اللّه عزّ و جل على فقركم، فان لم تفعلوا فلا ثواب لكم‏ «4».

الثالثة

: قال بعض العلماء: اعلم أنّ في إيجاد هذه الطائفة- أعني الفقراء- حكمة جليلة، تخفى على كثير من العقلاء و المترفين من أبناء الدنيا.

فمنها: ما ورد في الحديث: لو لا الفقراء لم يستوجب الأغنياء الجنّة «5» و فيه إشارة إلى معان:

أحدها: أنّ نجاة الأغنياء منحصرة في رعاية أحوال الفقراء و الإحسان إليهم.

______________________________

 (1) الكافي ج 2 ص 264 ح 18.

 (2) الكافي ج 2 ص 261- 262 ح 9.

 (3) الكافي: ج 2 ص 263 ح 13.

 (4) الكافي: ج 2 ص 263 ح 14.

 (5) الكافي: ج 2 ص 265 ح 20.

359
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

الثالثة ص : 359

.......... ثانيها: أنّهم رحمة للأغنياء و إذكار لأرباب النعم، ليكون كلّ عاقل منهم إذ فكّر فيهم و اعتبر بأحوالهم، علم بأنّ الذي أعطاه هو الذي منعهم، و يعلم أنّه لم يكن للغني عند اللّه يد و إحسان كافأه بهما، و لا لواحد من هؤلاء الفقراء عند اللّه ذنب جازاه عليه، فإذا فكّر الأغنياء و اعتبروا أحوال الفقراء عرفوا حسن مواقع النعم عندهم، فيزدادون اللّه شكرا يستوجبون به المزيد في الدنيا و الأجر في الآخرة.

ثالثها: أنّ أهل الدين و من يؤمن بالآخرة من الأغنياء، إذا نظروا إليهم و اعتبروا أحوالهم يزدادون يقينا بالاخرة، و يعلم كلّ عاقل منهم أنّ من بعد هذه الحياة الدنيا دارا أخرى، يجازى فيها هؤلاء المؤمنون بما صبروا على مصائب أمور الدنيا، كما قال سبحانه: «إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ» «1» و من الحكمة في إيجادهم أنّهم أشدّ يقينا بأمر الآخرة من غيرهم من المترفين، و أنّهم أسرع الناس إجابة لدعوة الأنبياء من غيرهم من أرباب النعم و الأغنياء، و أنّهم أخفّ مئونة و أقلّ حوائج و أقنع باليسير، و أنّهم أكثر لذكر اللّه في السرّ و العلانية، و أرق قلوبا عند الذكر و أخلص في الدعاء للّه سبحانه في السرّاء و الضرّاء، و خصال اخر كثيرة لو عددناها لطال الخطاب بها، و إنّما ذكرنا طرفا من ذلك، لأنّ كثيرا من الناس و لا سيّما المترفين، إذا نظروا إليهم ظنّوا باللّه ظنونا فاسدة.

فمنهم من يرى انّ الصواب كان أنهم لم يخلقوا و كان ذلك خيرا لهم، و منهم من يرى انّ الذي نالهم من الفقر و البؤس لسوء حظّهم و شؤمهم و خذلانهم، و منهم من يرى أنّهم معاقبون بما سلف منهم في الأدوار الماضية من الذنوب، و هذا رأي أصحاب التناسخ، و منهم من يرى أنّ ذلك من هوانهم على اللّه سبحانه، و أنّه ليس‏

______________________________

 (1) سورة الزمر: الآية 10.

360
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

الرابعة: ص : 361

.......... يعبأ بهم و لا يهمّه أمرهم، و الاّ كان قادرا على أنّ يغنيهم، أو يميتهم و يريحهم ممّا هم فيه من الجهد، و منهم من يرى أنّ هذا ليس يجري بعلم عالم و حكمة حكيم، بل هو اتّفاق لا تدبير فيه، و منهم من يرى أنّ هذا من موجبات أحكام الفلك، من غير قصد قاصد و لا صنع صانع، نعوذ باللّه من الاعتقادات الفاسدة و الآراء الباطلة.

الرابعة:

قال بعض المشايخ: الفقراء على طبقات: فقراء الأغنياء، و هم السائلون عند الفاقات القانعون بالكفايات، و هم ظهرة الأغنياء و الذين جعل اللّه لهم في أموال الأغنياء نصيبا.

و الطبقة الثانية: فقراء الفقراء، و هم المتحقّقون بالفقر المختارون للفقر المؤثرون له على الغنى، لا يتبذّلون في السؤال و لا يتعرّضون بالمقال، يرجون العمر بالميسور من القوت، يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفّف و هم بين محروم حرم السعي في الدنيا، و محارف انحرفت عنه الأسباب، و قانع بما يصل إليه، و معترّ رضي بما يعتريه.

و الطبقة الثالثة: أغنياء الفقراء، و هم الأجواد الأسخياء أهل البذل و العطاء، لا يستكثرون و لا يدّخرون، و إن منعوا شكروا المانع فصار منعه عطاء، و إن ضيّق عليهم حمدوا الواسع، لأنّه هو المحمود فصار ضيقه رخاء، و إن أعطوا بذلوا و آثروا.

و كان بشر الحافي يقول: الفقراء ثلاثة: فقير لا يسأل و إن أعطي لم يأخذ فهذا مع الروحانيّين، و فقير لا يسأل و إن أعطي أخذ فهو مع المقرّبين في جنّات النعيم، و فقير يسأل عند الفاقة فهذا مع الصادقين من أصحاب اليمين‏ «1».

و حكي أنّه دفع إلى إبراهيم التميمي ستّون ألفا و كان عليه دين و به حاجات إليها فردّها، فعاتبوه في ذلك فقال: كرهت أن أمحو اسمي من ديوان الفقراء بستّين ألفا «2».

______________________________

 (1) آداب النفس: ج 2 ص 16.

 (2) آداب النفس: ج 2 ص 16.

361
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

الرابعة: ص : 361

.......... قيل لبعضهم و قد رئي عليه أثر الجوع و الضرّ: لِمَ لا تسأل الناس يطعمونك؟

فقال: عساهم يمنعون فلا يفلحون، و قد بلغني الحديث: لو صدق السائل ما أفلح من منعه‏ «1».

قوله عليه السّلام: «و أعنّي على صحبتهم بحسن الصبر» الصبر: قوّة ثابتة و ملكة راسخة بها تقدر النفس على تحمّل الأمور الشاقّة و مقاومة الهوى، و لذلك قيل: الصبر صبران: صبر على البلاء و منه الرضا بالقضاء، و هو الذي يستوجب به العبد من ربّه الثواب، و صبر في النعماء و عمّا يدعو إليه الهوى مع القدرة عليه و التمكّن منه، و هو صبر يدرأ عنه العذاب و يهوّن عليه الصعاب.

و المراد بحسن الصبر: انشراح الصدر له و اطمئنان النفس به، بحيث لا يخالطه اضطراب و انزعاج، هذا.

و لمّا كان كثير من المترفين و أرباب النعم من يتكلّف و يتجشّم صحبة الفقراء و الزّهاد، بتقريبهم و إجلالهم بمقدار ما يعدّون من جملة الأخيار، من غير أن يتخلّقوا بأخلاقهم و يتأدّبوا بآدابهم و يقوموا بحقوق صحبتهم، فهم يرضون من الجسم بالاسم و من الحميم بالشميم، سأل عليه السّلام ربّه إعانته بحسن الصبر على صحبتهم، إذ كان فيها من المشاقّ ما لا خفاء به، فإنّ من حقّ الصحبة مع الأصحاب مطلقا طلاقة الوجه و البشاشة، و الكلام و السّلام، و المصافحة و المعانقة و المواكلة، و تحصيل ما يحتاجون إليه، و دفع ما يغتمون منه، و مخالفة من خالفهم، و مرافقة من رافقهم، و تعظيمهم و توقيرهم، و عدم التهجّم عليهم، و الصفح عن عثراتهم، و مداراتهم، و أن لا يحتجب عنهم و لا يهجرهم، و يبسط لهم معروفه، و يعاشرهم ببسط الكفّ، و صدق الوعد، و دوام العهد، و حفظ الأسرار، و إيثار الإرفاق، و قبول العذر، و احتمال‏

______________________________

 (1) آداب النفس: ج 2 ص 21.

362
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

الرابعة: ص : 361

.......... الأذى، و صدق الوفاء و نشر المحاسن، و ستر القبائح، و بذل النصيحة و قبولها منهم، و أن يحبّ لهم ما يحبّه لنفسه، و يكرم كلّ أحد منهم على قدره، و يسترسل على سجيّته، و يكون طوع أمره و نهيه و وفق قوله و فعله، و يعود من مرض منهم، و يشهد جنازة من مات منهم، و بعض هذه الحقوق لا يقوم به كثير من كفاة الرجال في صحبة أكفائهم و أقرانهم، فكيف بها في صحبة الفقراء و المساكين؟ على أنّ رعايتها في صحبتهم أوجب، لكي لا يستشعروا إهانة و استخفافا بهم، فتكسر قلوبهم فيكون الهلاك.

و عن إبراهيم بن شيبان قال: كنّا لا نصحب من يقول: نعلي‏ «1».

و عن أحمد القلانسي و كان من مشايخ الجنيد: صحبت أقواما بالبصرة فأكرموني، فقلت مرّة لبعضهم: أين ازاري فسقطت عن أعينهم‏ «2».

و عن أبي عليّ الرباطي قال: صحبت عبد اللّه المروزي، و كان يدخل البادية قبل أن أصحبه بلا زاد، فلمّا صحبته قال لي: أيّما أحب إليك تكون أنت الأمير أم أنا؟ فقلت: لا بل أنت الأمير، قال: و عليك الطاعة؟ قلت: نعم، فأخذ مخلاة و وضع فيها الزاد و حملها على ظهره، فإذا قلت له: أعطني حتّى أحملها، قال لي:

الست أنا الأمير؟ فعليك الطاعة، قال: فأخذنا المطر ليلة، فوقف على رأسي طول الليل إلى الصباح و عليه الكساء و أنا جالس يمنع عنّي المطر، فكنت أقول في نفسي: ليتني متّ و لم أقل له: أنت الأمير «3»، ثمّ قال: إذا صحبك إنسان فأصحبه يا أخي كما رأيتني صحبتك أو انفرد.

و كان شرط إبراهيم بن أدهم مع من يصحبه أن يكون الخدمة و الاذان له، و أن يكون يده في جميع ما يفتح اللّه به عليهم من الدنيا كيدهم‏ «4».

______________________________

 (1) (الف): فعلي.

 (2) لم نعثر عليه.

 (3) المحجة البيضاء: ج 3 ص 335.

 (4) لم نعثر عليه.

363
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

الرابعة: ص : 361

وَ ما زَوَيْتَ عَنّي مِنْ مَتاعِ الدنْيا الفانِيَةِ، فَاذْخُرْهُ لي في خزائِنِك الباقِيَةِ.

و يحكى انّه سعي بجماعة من الصوفيّة إلى بعض الخلفاء، فأمر بضرب رقابهم و بينهم أبو الحسين النوري، فبادر إلى السيّاف ليكون أوّل مقتول، فقيل له في ذلك، فقال: أحببت أن أوثر اخواني بالحياة و لو بلحظة، فكان ذلك سبب تجافي الخليفة عنهم‏ «1».

و بالجملة: فحقوق الصحبة لا يقوم بها إلا من أعانه اللّه و وفّقه، و إلاّ فالأمر فيها صعب جدّا.

روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: أنّه دخل غيضة مع بعض أصحابه، فاجتنى منها مسواكين أحدهما معوجّ و الآخر مستقيم، فدفع المستقيم إلى صاحبه، فقال: يا رسول اللّه كنت أحقّ بالمستقيم منّي، فقال صلّى اللّه عليه و آله: ما من صاحب يصحب صاحبا و لو ساعة من نهار إلاّ سئل عن صحبته، هل أقام فيه حقّ اللّه أم أضاعه‏ «2»، و اللّه المستعان+.

 [ 866] المتاع في اللغة: كلّ ما ينتفع به، كالطعام و البرّ و أثاث البيت، و أصل المتاع:

ما ينتفع به من الزاد، و هو اسم من متّعته بالتثقيل: إذا أعطيته ذلك.

و في المحكم: المتاع: المال و الاثاث، و الجمع أمتعة «3».

و نعت الدنيا بالفانية للذمّ، و مفعول زويت محذوف أي: و ما زويته، و المفعول يكثر حذفه إذا كان عائدا على الموصول نحو: «أَ هذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا» «4» أي:

بعثه.

و الفاء من قوله: «فاذخره»: رابطة لشبه الجواب بشبه الشرط.

و ذخرت الشي‏ء ذخرا- من باب نفع-: إذا عددته لوقت الحاجة إليه، و الاسم‏

______________________________

 (1) المحجة البيضاء: ج 3 ص 319.

 (2) قوت القلوب: ج 2 ص 232.

 (3) المحكم في اللغة: ج 2 ص 47.

 (4) سورة الفرقان الآية 41.

364
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

الرابعة: ص : 361

.......... الذخر بالضمّ.

و خزائنه تعالى: عبارة عن مقدوراته أي: ما تحويه قدرته من النعم و الخيرات التي يكرم بها عباده المتّقين في الدار الآخرة، و لذلك وصفها بالباقية.

و لا بدّ في قوله عليه السّلام: «فاذخره لي» من إضمار، أي: فاذخر عوضه لي، لأنّ ذخر عين ما زواه عنه غير مطلوب، فهو كقوله تعالى: «وَ ما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ»+ «1» أي: تجدوا ثوابه كما أجمع عليه المفسّرون.

و الحقّ أنّه لا إضمار في الآية بناء على تجسّم الأعمال في النشأة الاخرويّة. كما قال بعض المحقّقين في قوله تعالى: «يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً» «2»: ليس المراد أنّها تجد جزاءه، بل تجده بعينه لكن ظاهرا في جلباب آخر، فإنّ الروح و الريحان و الحور و الثمار هي الأخلاق الزكيّة و الأعمال الصالحة و الاعتقادات الحقّة التي برزت في هذا العالم بهذا الزيّ و اتّسمت بهذا الاسم، إذ الحقيقة الواحدة تختلف صورها باختلاف المواطن، فتستحلي في كلّ موطن بحلية.

و أمّا عبارة الدعاء فلا غناء عن الإضمار فيه.

و ممّا يناسب هاتين الفقرتين ما روي في الحديث عن عمر بن الخطّاب، قال:

استأذنت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فدخلت عليه في مشربة أمّ إبراهيم، و إنّه لمضطجع على خصفة و إنّ بعضه على التراب، و تحت رأسه و سادة محشوّة ليفا، فسلّمت عليه ثمّ جلست، فقلت: يا رسول اللّه أنت نبيّ اللّه و صفوته و خيرته من خلقه، و كسرى و قيصر على الذهب و فرش الديباج و الحرير، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أولئك قوم عجّلت طيّباتهم و هي وشيكة الانقطاع، و إنّما اخرّت لنا طيّباتنا «3»+.

______________________________

 (1) سورة البقرة: الآية 110.

 (2) سورة آل عمران: الآية 30.

 (3) لم نعثر عليه.

365
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

الرابعة: ص : 361

وَ اجْعَلْ ما خَوَّلْتَني مِنْ حُطامِها، وَ عَجَّلْتَ لي مِنْ مَتاعِها، بُلْغَةً إلى‏ جِوارِكَ، وَ وُصلَةً إلى‏ قُرْبِكَ، وَ ذَريعَةً إلى جَنَّتِكَ.

 [ 867] خوّله اللّه مالا: أعطاه.

و الحطام بالضمّ ما تكسّر من يابس النبات استعير لمقتنيات الدنيا، و وجه الاستعارة سرعة ذهابها و فنائها، كما يتناثر و يتطاير المتكسّر من يابس النبات و يذهب في أسرع وقت.

و قال الزمخشري في الأساس: طارت الريح بحطام التبن، و هذا حطام البيض لكساره، و منه: حطام الدنيا، شبّه بالكسار تخسيسا له‏ «1».

و عجّلت إليه المال أي: أسرعت إليه بحضوره، و منه قوله تعالى: «مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ» «2»، و قوله تعالى: «وَ قالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ» «3».

قيل: ذكر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله وعد اللّه للمؤمنين الجنّة، فقالوا على سبيل الاستهزاء: عجلّ لنا نصيبنا منها «4».

و البلغة بالضمّ هنا: بمعنى ما يتبلّغ و يتوصّل به إلى الشي‏ء المطلوب كالبلاغ، لا بمعنى ما يكتفى به من العيش، و إن اشتهرت في هذا المعنى.

و الجوار بالضمّ و الفتح: اسم من جاوره مجاورة- من باب قاتل-: إذا لاصقه في السكن، و أمّا الجوار بالكسر فهو مصدر كالقتال. و قد وردت الرواية في الدعاء بالحركات الثلاث.

و المراد بجواره تعالى: الحلول محلّ الزلفة لديه حيث تناله غواشي رحمته و فضله، لا الملاصقة في السكن تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.

و الوصلة: كالبلغة لفظا و معنى، و هي ما يتوصّل به إلى المقصود.

______________________________

 (1) أساس البلاغة: ص 131، و فيه: تخسيسا له.

 (2) سورة الإسراء: الآية 18.

 (3) سورة ص: الآية 16.

 (4) لم نتحققه.

366
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

الرابعة: ص : 361

.......... و قربه تعالى: عبارة عن مقام كرامته الدائمة، الذي لا يتغيّر صاحبه بعلّة القهر و لا يزول عنه بالستر و الحجاب، كما قال تعالى: «إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَ نَهَرٍ. فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ» «1».

و الذريعة: الوسيلة، كالذرعة بالضمّ.

قال صاحب المحكم: و أصل الذريعة: من الجمل الذي يسمّونه ذريعة، و هو جمل يختل به الصيد، يمشي الصيّاد إلى جنبه فيرمي الصيد إذا أمكنه، و ذلك الجمل يسيّب أوّلا مع الوحش حتّى تألفه‏ «2».

و اعلم أنّ متاع الدنيا و مقتنياتها كما تكون سببا للشرّ و الشقاوة، تكون سببا للخير و السعادة و نيل المنزلة و الزلفى عند اللّه تعالى، و ذلك باعتبار تناولها و إنفاقها فيما يذمّ و يحمد، فمن تناولها على أيّ وجه اتّفق، راكنا إلى المال غير متفكّر في المال، منهمكا في الدنيا غير ملتفت إلى العقبى، كما قال تعالى: «رَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَ اطْمَأَنُّوا بِها» «3»، فهو لا يؤثر بما في يديه منها إلاّ قضاء الأوطار و التمتّع بالمسارّ، يأكل كما تأكل الأنعام و يلعب كما يلعب الغلام، فذلك الذي يكون متاع الدنيا سببا لشقاوته السرمديّة و خسارته الأبديّة، و من تناولها من حلّها و أنفقها في محلّها، متحرّيا رضا اللّه و وجهه فيما يأخذ و ينفق منها، فذلك الذي تكون مقتنيات الدنيا سببا لسعادته الأخرويّة و ذريعة لنجاته و فوزه بالمقامات السنيّة، بل وسيلة لنيل الفضائل الفاخرة في الدنيا و الآخرة.

كما قال أمير المؤمنين صلوات اللّه و سلامه عليه: من آتاه اللّه مالا فليصل به القرابة، و ليحسن منه الضيافة، و ليفكّ به الأسير و العاني و ليعط منه الفقير و الغارم، و ليصبر نفسه على الحقوق و النوائب ابتغاء الثواب فإنّ فوزا بهذه الخصال‏

______________________________

 (1) سورة القمر: الآية 54- 55.

 (2) المحكم في اللغة: ج 2 ص 58.

 (3) سورة يونس: الآية 7.

367
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

الرابعة: ص : 361

إنَّكَ ذُو الفَضْلِ العَظيمِ، وَ أنْتَ الجَوادُ الكَريمُ.

شرف مكارم الدنيا و فضائل الآخرة «1».

و روي أنّه عليه السّلام دخل على العلاء بن زياد الحارثي و هو من أصحابه يعوده، فلمّا رأى سعة داره قال: ما كنت تصنع بسعة هذه الدار في الدنيا و أنت إليها في الآخرة أحوج؟ و بلى إن شئت بلغت بها الآخرة، تقري فيها الضيف، و تصل فيها الرحم، و تطلع منها الحقوق مطالعها، فإذا أنت قد بلغت بها الآخرة «2».

و على ذلك ما روي عن النبي صلى اللّه عليه و آله: نعم العون على تقوى اللّه الغنى‏ «3».

و عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام: نعم العون الدنيا على طلب الآخرة «4».

إذا عرفت ذلك، علمت أنّ غرض سؤاله عليه السّلام في هذه الفقرات من الدعاء، طلب التوفيق لإنفاق ما منحه اللّه تعالى من متاع الدنيا، في السبيل التي تؤدّيه إلى الفوز بالجنّة و منازل المتّقين و مقامات المقرّبين، و اللّه وليّ التوفيق+.

 [ 868] ذو: بمعنى صاحب.

و الفضل: الإحسان.

و العظيم: نقيض الحقير، قال بعضهم: الشيئان إذا اشتركا في معنى ثمّ كان أحدهما زائدا على الآخر في ذلك المعنى، سميّ الزائد عظيما و الناقص حقيرا، سواء كانت تلك الزيادة في المقدار أو في معنى من المعاني.

و الجواد: الكثير الإحسان و الإنعام. و الفرق بينه و بين الكريم. أنّ الجواد الذي يعطي مع السؤال، و الكريم يعطي من غير سؤال، و قيل بالعكس. و الحقّ الأوّل،

______________________________

 (1) نهج البلاغة: ص 198 الخطب 142.

 (2) نهج البلاغة: ص 324 الخطب 209.

 (3) الكافي: ج 5 ص 71 ح 1.

 (4) الكافي: ج 5 ص 73 ح 14.

368
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

الرابعة: ص : 361

.......... لوصفه عليه السّلام الجواد بالكريم.

و قيل: الكريم: هو المقتدر على الجود، و قيل: معناه: العليّ الرتبة، و منه: كرائم المواشي، لنفائسها.

و الجملتان تعليل لاستدعاء المسائل السابقة منه تعالى و مزيد استدعاء للإجابة، و أكّد الجملة الأولى لغرض كمال يقينه بمضمونها، و عرّف المسند في الثانية بلام الجنس، لإفادة قصر الجود و الكرم عليه سبحانه إمّا تحقيقا، و هو التحقيق، إذ المراد بالجود و الكرم هنا: فيضان الخير عنه من غير بخل و منع و تعويق على كلّ من يقدر أن يقبله بقدر ما يقبله، و هذا المعنى ليس إلاّ للّه سبحانه و تعالى، و إمّا مبالغة في كماله و نقصان من عداه ممّن يتّصف بالجود و الكرم حتّى التحق بالعدم، فصار الجنس منحصرا فيه، إذا جعل الجود و الكرم مقولين بالزيادة و النقصان على من يتّصف بهما، و اللّه أعلم. [] هذا آخر الروضة الثلاثين من رياض السالكين في شرح صحيفة سيّد العابدين و إمام الزاهدين، صلوات اللّه عليه و على آبائه و أبنائه الخلفاء الراشدين، و قد وفّق اللّه لإنهائها صبيح يوم الجمعة الأغرّ، ثاني عشر ذي الحجّة الحرام آخر شهور سنة ثلاث و مائة و ألف، على يد مؤلّفها العبد عليّ بن أحمد الحسينيّ، كان اللّه لهما.

369
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

الروضة الواحد و الثلاثون ص : 371

الروضة الواحد و الثلاثون‏

371
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

و كان من دعائه عليه السلام في ذكر التوبة و طلبها ص : 373

وَ كانَ مِنْ دُعائِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ في‏ ذِكْرِ التَوْبَةِ وَ طَلَبِها

اللَّهُمَّ يا مَنْ لا يَصِفُهُ نَعْتُ الْواصِفينَ وَ يا مَنْ لا يُجاوِزُهُ رَجاءَ الرَّاجِينَ وَ يا مَنْ لا يَضيعُ لَدَيْهِ اجْرُ الْمُحْسِنينَ وَ يا مَنْ هُوَ مُنْتَهى‏ خَوْفِ الْعابِدينَ وَ يا مَنْ هُوَ غايَةُ خَشْيَةِ الْمُتَّقينَ هذا مَقامُ مَنْ تَداوَلَتْهُ ايْدِى الذُّنُوبِ وَ قادَتْهُ ازِمَّةُ الْخَطايا وَ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِ الشَّيْطان فَقَصَّرَ عَمَّا امَرْتَ بِهِ تَفْرِيطًا وَ تَعاطى‏ ما نَهَيْتَ عَنْهُ تَغْرِيرًا كَالْجاهِلِ بِقُدْرَتِكَ عَلَيْهِ اوْ كالْمُنْكِرِ فَضْلَ احْسانِكَ الَيْهِ حَتّى‏ إِذَا انْفَتَحَ لَهُ بَصَرُ الْهُدى‏ وَ تَقَشَّعَتْ عَنْهُ سَحائِبُ الْعَمى‏ احْصى‏ ما ظَلَمَ بِهِ نَفْسَهُ وَ فَكَّرَ فيما خالَفَ بِهِ رَبَّهُ فَرَاى كَبيرَ عِصْيانِهِ كَبيرًا وَ جَليلَ مُخالَفَتِهِ جَليلاً فَاقْبَلَ نَحْوَكَ مُؤَمِّلاً لَكَ مُسْتَحْيِيًا مِنْكَ وَ وَجَّهَ رَغْبَتَهُ الَيْكَ ثِقَةً بِكَ فَامَّكَ بِطَمَعِهِ يَقِينًا وَ قَصَدَكَ بِخَوفِهِ اخْلاصًا قَدْ خَلا طَمَعَهُ مِنْ كُلِّ مَطْمُوعٍ فيه غَيْرِكَ وَ افْرَخَ رَوْعُهُ مِنْ كُلِّ مَحْذُورٍ مِنْهُ سِواكَ فَمَثَّلَ بَيْنَ يَدَيْكَ مُتَضَرِّعًا وَ غَمَّضَ بَصَرَهُ الَى الْأَرْضِ مُتَخَشِّعًا وَ طَاْطَأَ رَاْسَهُ لِعِزَّتِكَ مُتَذَلِّلاً وَ أَبَثَّكَ مِنْ سِرِّهِ ما انْتَ اعْلَمُ بِهِ مِنْهُ خُضُوعًا وَ عَدَّدَ مِنْ ذُنُوبِهِ ما انْتَ احْصى‏ لَها خُشُوعًا وَ اسْتَغاثَ بِكَ مِنْ عَظيمِ ما وَقَعَ‏ ..........

373
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

و كان من دعائه عليه السلام في ذكر التوبة و طلبها ص : 373

بِهِ في‏ عِلْمِكَ وَ قَبيحِ ما فَضَحَهُ في‏ حُكْمِكَ مِنْ ذُنُوبٍ ادْبَرَتْ لَذَّاتُها فَذَهَبَتْ وَ اقامَتْ تَبِعاتُها فَلَزِمَتْ لا يُنْكَرُ يا الهى‏ عَدْلَكَ انْ عاقَبْتَهُ وَ لا يَسْتَعْظِمُ عَفْوَكَ انْ عَفَوْتَ عَنْهُ وَ رَحِمْتَهُ لِأَنَّكَ الرَّبُّ الْكَريمُ الَّذى‏ لا يَتَعاظَمُهُ غُفْرانُ الذَّنْبِ الْعَظيمِ اللَّهُمَّ فَها انَا ذا قَدْ جِئْتُكَ مُطيعًا لِأَمْرِكَ فيما امَرْتَ بِهِ مِنَ الدُّعاءِ مُتَنَجِّزًا وَعْدَكَ فيما وَعَدْتَ بِهِ مِنَ الْاجابَةِ إِذْ تَقُولُ ادْعُونى‏ اسْتَجِبْ لَكُمْ اللَّهُمَّ فَصَلِّ عَلى‏ مُحَمَّدٍ وَ الِهِ وَ الْقَنى‏ بِمَغْفِرَتِكَ كَما لَقَيتُكَ بِاقْرارى‏ وَ ارْفَعْنى‏ عَنْ مَصارِعِ الذُّنُوبِ كَما وَضَعْتُ لَكَ نَفْسى‏ وَ اسْتُرْنى‏ بِسِتْرِكَ كَما تَانَّيْتَنى‏ عَنِ الْإِنْتِقامِ مِنّى‏ اللَّهُمَّ وَ ثَبِّتْ في‏ طاعَتِكَ نِيَّتى‏ وَ احْكِمْ في‏ عِبادَتِكَ بَصيرَتى‏ وَ وَفِّقْنِي مِنَ الْأَعْمالِ لِما تَغْسِلُ بِهِ دَنَسَ الْخَطايا عَنّى‏ وَ تَوَفَّني عَلى‏ مِلَّتِكَ وَ مِلَّةِ نَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلامُ إِذا تَوَفَّيْتَني اللَّهُمَّ انّى‏ أَتُوبُ الَيْكَ في‏ مَقامى‏ هذا مِنْ كَبائِرِ ذُنُوبي‏ وَ صَغائِرِها وَ بَوَاطِنِ سَيِّئآتى‏ وَ ظَواهِرِها وَ سَوالِفِ زَلاَّتى‏ وَ حَوادِثِها تَوْبَةَ مَنْ لا يُحَدِّثُ نَفْسَهُ بِمَعْصِيَةٍ وَ لا يُضْمِرُ انْ يَعُودَ في‏ خَطيئَةٍ وَ قَدْ قُلْتَ يا الهى‏ في‏ مُحْكَمِ كِتابِكَ انَّكَ تَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِكَ وَ تَعْفُو عَنِ السَّيِّئاتِ وَ تُحِبُّ التَّوّابينَ فَاقْبَلْ تَوْبَتى‏ كَما وَعَدْتَ وَ اعْفُ عَنْ سَيِّئاتى‏ كَما ضَمِنْتَ وَ اوْجِبْ‏ ..........

374
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

و كان من دعائه عليه السلام في ذكر التوبة و طلبها ص : 373

لي‏ مَحَبَّتَكَ كَما شَرَطْتَ وَ لَكَ يا رَبِّ شَرْطى‏ الاَّ اعُودَ في‏ مَكْرُوهِكَ وَ ضَمانى‏ الاَّ ارْجِعَ في‏ مَذْمُومِكَ وَ عَهْدى‏ انْ اهْجُرَ جَميعَ مَعاصِيكَ اللَّهُمَّ انَّكَ اعْلَمُ بِما عَمِلْتُ فَاغْفِرْ لي‏ ما عَلِمْتَ وَ اصْرِفْنى‏ بِقُدْرَتِكَ الى‏ ما احْبَبْتَ اللَّهُمَّ وَ عَلَىَّ تَبِعاتٌ قَدْ حَفِظْتُهُنَّ وَ تَبِعاتٌ قَدْ نَسيتُهُنَّ وَ كُلُّهُنَّ بِعَيْنِكَ الَّتى‏ لا تَنامُ وَ عِلْمَكَ الَّذى‏ لا يَنْسى‏ فَعَوِّضْ مِنْها اهْلَها وَ احْطُطْ عَنِّى‏ وزْرَها وَ خَفِّفْ عَنّى‏ ثِقْلَها وَ اعْصِمْنى‏ مِنْ انْ اقارِفَ مِثْلَها اللَّهُمَّ وَ انَّهُ لا وَفاءَ لى‏ بِالتَّوْبَةِ الاَّ بِعِصْمَتِكَ وَ لا اسْتِمْساكَ بي‏ عَنِ الْخَطايا الاَّ عَنْ قُوَّتِكَ فَقَوِّنى‏ بِقُوَّةٍ كافِيَةٍ وَ تَوَلَّنى‏ بِعِصْمَةٍ مانِعَةٍ اللَّهُمَّ ايُّما عَبْدٍ تابَ الَيْكَ وَ هُوَ في‏ عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ فاسِخٌ لِتَوْبَتِهِ وَ عائِدٌ في‏ ذَنْبِهِ وَ خطيئَتِهِ فَانّى‏ اعُوذُ بِكَ انْ اكُونَ كَذلِكَ فَاجْعَلْ تَوْبَتى‏ هذِهِ تَوْبَةً لا احْتاجُ بَعْدَها الى‏ تَوْبَةٍ تَوْبَةً مُوجِبَةً لِمَحْوِ ما سَلَفَ وَ السَّلامَةِ فيما بَقِىَ اللَّهُمَّ انّى‏ اعْتَذِرُ الَيْكَ مِنْ جَهْلى‏ وَ اسْتَوْهِبُكَ سُوءَ فِعْلى‏ فَاضْمُمْنى‏ الى‏ كَنَفِ رَحْمَتِكَ تَطَوُّلاً وَ اسْتُرْنى‏ بِسِتْرِ عافِيَتِكَ تَفَضُّلاً اللَّهُمَّ وَ انّى‏ أَتُوبُ الَيْكَ مِنْ كُلِّ ما خالَفَ ارادَتَكَ اوْ زالَ عَنْ مَحَبَّتِكَ مِنْ خَطَراتِ قَلْبي‏ وَ لَحَظاتِ عَيْنى‏ وَ حِكاياتِ لِسانى‏ تَوْبَةً تَسْلَمُ بِها كُلُ‏ ..........

375
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

و كان من دعائه عليه السلام في ذكر التوبة و طلبها ص : 373

جارِحَةٍ عَلى‏ حِيالِها مِنْ تَبِعاتك وَ تَأمَنُ مِمَّا يَخافُ الْمُعْتَدُونَ مِنْ الِيمِ سَطَواتِكَ اللَّهُمَّ فَارْحَمْ وَحْدَتى‏ بَيْنَ يَدَيْكَ وَ وَجيبَ قَلْبي‏ مِنْ خَشْيَتِكَ وَ اضْطِرابَ ارْكانِى مِنْ هَيْبَتِكَ فَقَدْ اقامَتْنى‏ يا رَبِّ ذُنُوبي‏ مَقامَ الْخِزْىِ بِفِنائِكَ فَإِنْ سَكَتُّ لَمْ يَنْطِقْ عَنّى‏ احَدٌ وَ انْ شَفَعْتُ فَلَسْتُ بِاهْلِ الشَّفاعَةِ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلى‏ مُحَمَّدٍ وَ آلِهِ وَ شَفِّعْ في‏ خَطاياىَ كَرَمَكَ وَ عُدْ عَلى‏ سَيِّئاتي‏ بِعَفْوِكَ وَ لا تَجْزِني‏ جَزائي‏ مِنْ عُقُوبَتِكَ وَ ابْسُط عَلَىَّ طَوْلَكَ وَ جَلِّلْنى‏ بِسِتْرِكَ وَ افْعَلْ بي‏ فِعْلَ عَزيزٍ تَضَرَّعَ الَيْهِ عَبْدٌ ذَليلٌ فَرَحِمَهُ اوْ غَنِّيٍ تَعَرَّضَ لَهُ عَبْدٌ فَقيرٌ فَنَعَشَهُ اللَّهُمَّ لا خَفيرَ لي‏ مِنْكَ فَلْيَخْفُرْنى‏ عِزُّكَ وَ لا شَفيعَ لى‏ الَيْكَ فَلْيَشْفَعْ لي‏ فَضْلُكَ وَ قَدْ اوْجَلَتْنى‏ خَطاياىَ فَلْيُؤْمِنِّى‏ عَفْوُكَ فَما كُلُّ ما نَطَقْتُ بِهِ جَهْلٍ مِنّى‏ بِسُوءِ اثَرى‏ وَ لا نِسْيانٍ لِما سَبَقَ مِنْ ذَميمِ فِعْلى‏ لكِنْ لِتَسْمَعَ سَماؤُكَ وَ مَنْ فيها وَ ارْضُكَ وَ مَنْ عَلَيْها ما اظْهَرْتُ لَكَ مِنَ النَّدَمِ وَ لَجَأتُ الَيْكَ فيهِ مِنَ التَّوْبَةِ فَلَعَلَّ بَعْضَهُمْ بِرَحْمَتِكَ يَرْحَمُنى‏ لِسُوءِ مَوْقِفي‏ اوْ تُدْرِكُهُ الرِّقَّةُ عَلَىَّ لِسُوءِ حالى‏ فَيَنالَنى‏ مِنْهُ بِدَعْوَةٍ هِىَ اسْمَعُ لَدَيْكَ مِنْ دُعائى‏ اوْ شَفاعَةٍ اوْكَد عِنْدَك مِنْ شَفاعَتى‏ تَكُونُ بِها نَجاتى‏ مِنْ غَضَبِكَ وَ فَوْزَتى‏ بِرِضاكَ اللَّهُمَّ انْ يَكُنِ النَّدَمُ تَوْبَةً ..........

376
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

و كان من دعائه عليه السلام في ذكر التوبة و طلبها ص : 373

الَيْكَ فَانا انْدَمُ النَّادِمينَ وَ انْ يَكُنِ التَّرْكُ لِمَعْصِيَتِكَ انابَةً فَانَا اوَّلُ الْمُنيبينَ وَ انْ يَكُنِ الْاسْتِغْفارُ حِطَّةً لِلذُّنُوبِ فَانّى‏ لَكَ مِنَ الْمُسْتَغْفِرينَ اللَّهُمَّ فَكَما امَرْتَ بِالْتَّوْبَةِ وَ ضَمِنْتَ الْقَبُولَ وَ حَثَثْتَ عَلَى الدُّعاءِ وَ وَعَدْتَ الْإِجابَةَ فَصَلِّ عَلى‏ مُحَمَّدٍ وَ الِهِ وَ اقْبَلْ تَوْبَتى‏ وَ لا تَرْجِعْنى‏ مَرْجِعَ الْخَيْبَةِ مِنْ رَحْمَتِكَ انَّكَ انْتَ التَّوّابُ عَلَى الْمُذْنِبينَ وَ الرَّحيمُ لِلْخاطِئينَ الْمُنيبينَ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلى‏ مُحَمَّدٍ وَ الِهِ كَما هَدَيْتَنا بِهِ وَ صَلِّ عَلى‏ مُحَمَّدٍ وَ الِهِ كَما اسْتَنْقَذْتَنا بِهِ وَ صَلِّ عَلى‏ مُحَمَّدٍ وَ الِهِ صَلوةً تَشْفَعُ لَنا يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ يَوْمَ الْفاقَةِ الَيْكَ انَّكَ عَلى‏ كُلِّ شَىْ‏ءٍ قَديرٌ وَ هُوَ عَلَيْكَ يَسيرٌ ..........

377
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

و كان من دعائه عليه السلام في ذكر التوبة و طلبها ص : 373

.......... [] بسم اللّه الرحمن الرحيم و به نستعين الحمد للّه الذي يقبل التوبة عن عباده و يعفو عن السيّئات، المتفضّل على من تاب و آمن و عمل صالحا بتبديل سيئاتهم حسنات، غافر الذنب و قابل التوب، و مقيل العثرة و ساتر الحوب، محبّ التوّابين و مكرم الأوّابين، و الصّلاة و السّلام على نبيّه، شفيع المذنبين و هادي المنيبين، محمّد سيّد المرسلين و عصمة المتوسّلين و على أهل بيته الأئمّة الهادين و الخلفاء الراشدين.

و بعد، فهذه الروضة الحادية و الثلاثون من رياض السالكين، تتضمّن شرح الدعاء الحادي و الثلاثين من أدعية صحيفة سيّد العابدين صلوات اللّه عليه و على آبائه و أبنائه الماجدين، إملاء راجي فضل ربّه السنيّ عليّ صدر الدين الحسينيّ الحسنيّ، تاب اللّه تعالى عليه و جعله من المنيبين إليه.

378
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء الواحد و الثلاثين ص : 379

شرح الدعاء الواحد و الثلاثين‏

و كان من دعائه عليه السّلام في ذكر التوبة و طلبها.

ذكر الشي‏ء: حضور معناه في النفس، ثمّ تارة يكون بالقلب و تارة باللسان، يقال: ذكرته بلساني و بقلبي، و اجعلني منك على ذكر و ذكر بالكسر و الضمّ، و أنكر الفراء الكسر في القلب، و الأوّل نصّ عليه جماعة منهم أبو عبيدة و ابن قتيبة «1».

و طلب الشي‏ء طلبا بالتحريك: حاول وجوده و أخذه، و المراد بطلب التوبة: إمّا طلب التوفيق لها أو طلب قبولها، ففي الكلام إضمار.

و يحتمل عود الضمير إلى نفس التوبة من غير إضمار، على طريقة الاستخدام الذي هو من محاسن البديع، إذ التوبة بالمعنى اللغوي- و هو الرجوع- تنسب تارة الالى العبد، و معناها الرجوع عن المعصية إلى الطاعة، و تارة تنسب إلى اللّه سبحانه، و معناها الرجوع عن العقوبة إلى اللطف و التفضّل، فتكون التوبة المضاف إليها الذكر بالمعنى المنسوب إلى العبد أو بالمعنى الاصطلاحي الآتي بيانه، و أعاد الضمير عليها مرادا بها المعنى المنسوب إلى اللّه عزّ و جلّ، و هذا معنى الاستخدام، لأنّهم قالوا: هو أنّ يؤتى بلفظ له معنيان فأكثر مرادا به أحد معانيه، ثمّ يؤتى بضمير مراد به المعنى الآخر، كقوله:

إذا نزل السماء بأرض قوم‏

 

 رعيناه و إن كانوا غضابا

 

 أراد بالسماء: الغيث، و بالضمير العائد من رعيناه: النبت.

______________________________

 (1) المصباح المنير للفيومي: ص 284.

379
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء الواحد و الثلاثين ص : 379

.......... و لا بأس قبل الكلام على شرح الدعاء بتقديم مباحث:

الأوّل: التوبة لغة: الرجوع، و اصطلاحا: الندم على الذنب لقبحه، فخرج الندم على شرب الخمر مثلا لإضراره بالجسم، و بيان المناسبة بين المعنيين: أنّ اللّه سبحانه هو الذي ابتدأ بالنعمة على عبد قبل الاستحقاق، و فطر العبد على طاعته في الابتداء، فإذا ندم العبد على إساءة بدرت منه فقد رجع إلى اللّه فيما كانت فطرته عليه، و رجع اللّه له إلى ما كان من إحسانه إليه، فسمّي الندم إذا كان تلافيا للعقاب توبة.

و إنّما قلنا: فطر العبد على طاعته، لأنّ الذنب بمنزلة المرض العارض في النفس، و التوبة بمنزلة معالجتها حتّى تعود إلى صحّتها، فكما أنّ الغالب على أصل الأمزجة في الأنفس هو الصحّة، و إنّما يعرض المرض بأسباب مغيّرة و علل مؤذية، فكذلك كلّ إنسان يولد على الفطرة و يدرك على الصلاح و الرشد، و اللّه أعلم.

الثاني: قال بعض العلماء: التوبة تنتظم من أمور ثلاثة: علم و حال و عمل. أمّا العلم فهو اليقين بأنّ الذنوب سموم مهلكة و حجاب بين العبد و محبوبه، و هذا اليقين يثمر حالة ثانية هي التألّم لفوات المطلوب و التأسف من فعل الذنوب، و يعبّر عن هذا الحالة بالندم، و هي تثمر حالة ثالثة هي ترك الذنوب في الحال، و العزم على عدم العود إليها في الاستقبال، و تدارك في الماضي من حقوق اللّه تعالى، مثل الصلاة و الصيام و الزكاة و نحوها، و من حقوق الناس، مثل ردّ المال إلى صاحبه أو وارثه، و طلب الإبراء في الغيبة، و تسليم النفس في القصاص إلى وليّه ليقتصّ منه أو ليعفو عنه، و لو لم يمكنه ذلك كان عليه أن يكثر من العبادة، ليبقى له قدر الكفاية في القيامة بعد أخذ حقوقهم منها.

و هذه الأمور مترتّبة في الحصول، و يطلق اسم التوبة تارة على مجموعها، و تارة على الندم وحده و يجعل العلم كالمقدّمة و الترك كالثمرة، فيكون الندم محفوفا

380
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء الواحد و الثلاثين ص : 379

.......... بالطرفين، الطرف الأوّل مثمر الندم، و الطرف الآخر ثمرته، كما قال أمير المؤمنين عليه السّلام: إن النّدم على الشّر يدعو إلى تركه‏ «1»، و ترتّب هذه الأمور غير مختصّ بالتوبة، بل انتظام الصبر و الشكر و التوكّل و الرضا و غير ذلك من المقامات الدينيّة ينتظم من علم و حال و عمل.

و هذه الأمور الثلاثة إذا قيس بعضها إلى بعض لاح للناظرين إلى الظواهر أنّ العلوم مطلقا إنّما تراد للأحوال، و الأحوال إنّما تراد للأعمال. و أمّا أهل البصائر و أولوا الألباب فالأمر عندهم بالعكس، فإنّ الأعمال عندهم تراد للأحوال، و الأحوال تراد للعلوم، فالأفضل العلوم ثمّ الأحوال ثمّ الأعمال، لأنّ كلّ مراد لغيره يكون ذلك الغير لا محالة أفضل منه‏ «2».

و قال بعضهم: للتوبة شروط و أوصاف، أمّا شروطها فأربعة: الندم على ما سلف، و ترك مثل ذلك في الحال، و العزم على أنّ لا يعود في الاستقبال، و نصب الذنب أمامه بحيث لا ينبذ الندم وراء ظهره و لا ينسى إساءته طول عمره.

و أمّا أوصافها المتمّمة فأربعة أيضا: انتباه القلب عن رقدة الغفلة، و الإصغاء الى ما يهجس في الخاطر من الصوارف و الزواجر، و هجران أخدان السوء و أصحاب الشرّ، و ملازمة إخوان الخير استضاءة بأنوارهم و استذراء بظلالهم.

و عن أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه: أنّ التوبة يجمعها ستّة أشياء: على الماضي من الذنوب الندامة، و للفرائض الإعادة، و ردّ المظالم و استحلال الخصوم، و أن تعزم على أن لا تعود، و أن تذيب نفسك في طاعة اللّه كما ربيّتها في المعصيّة، و أن تذيقها مرارة الطاعات كما أذقتها حلاوة المعاصي‏ «3».

______________________________

 (1) الكافي: ج 2 ص 427 ح 7.

 (2) شرح الكافي للمولى محمد صالح المازندراني: ج 10 ص 149- 150.

 (3) كتاب الأربعين للشيخ البهائي: ص 169.

381
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء الواحد و الثلاثين ص : 379

.......... الثالث: قال شيخنا البهائي قدّس سرّه: لا ريب في وجوب التوبة على الفور، فإنّ الذنوب بمنزلة السموم المضرّة بالبدن، و كما يجب على شارب السمّ المبادرة إلى الاستفراغ تلافيا لبدنه المشرف على الهلاك، كذلك يجب على صاحب الذنوب المبادرة إلى تركها و التوبة منها تلافيا لدينه المشرف على الاضمحلال‏ «1».

قال: و لا خلاف في أصل وجوبها سمعا، للأمر الصريح بها في القرآن، و الوعيد الحتم على تركها فيه، قال تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً» «2»، و قال: «وَ مَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ» «3».

و إنّما الخلاف في وجوبها عقلا، فأثبته المعتزلة لدفعها ضرر العقاب، و هذا كما لا يخفى لا يدلّ على وجوب التوبة عن الصغائر ممّن يجتنب الكبائر، لأنّها تكفّره حينئذ، و لهذا ذهب البهشميّة إلى وجوبها عن الصغائر سمعا لا عقلا، نعم الاستدلال بأنّ الندم على القبيح من مقتضيات العقل الصحيح يعمّ القسمين.

و أمّا فوريّة الوجوب فقد صرّح به المعتزلة، و قالوا: يلزم بتأخيرها ساعة إثم آخر تجب التوبة منه أيضا، حتّى أنّ من أخّر التوبة عن الكبيرة ساعة واحدة فقد فعل كبيرتين، و ساعتين أربع كبائر، الاوليان و ترك التوبة عن كلّ منهما، و ثلاث ساعات ثمان كبائر، و هكذا. و أصحابنا يوافقونهم على وجوب الفوريّة، لكنّهم لم يذكروا هذا التفصيل فيما رأيته من كتبهم الكلاميّة.

الرابع: قال بعض أرباب القلوب: الناس في التوبة على أحوال: رجل مسوّف بالتوبة مدافع بها، اغترّ بطول الأمل و نسي هجوم الأجل، فهذا متى أدركه الموت أدركه على الإصرار فهو هالك.

______________________________

 (1) كتاب الأربعين للشيخ البهائي: ص 168.

 (2) سورة التحريم: الآية 8.

 (3) سورة الحجرات: الآية 11.

382
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء الواحد و الثلاثين ص : 379

.......... و آخر تائب ما لم يجد شهوة، فإذا وجد ركب هواه و أضاع المحاسبة لنفسه، فهذا مستوجب للعقوبة من اللّه.

و رجل تائب بقلبه، الاّ أنّ نفسه تدعوه إلى الشي‏ء ممّا يكره، فهذا يحتاج إلى الأدب لنفسه، و فائدته على قدر مجاهدته.

و رجل مديم للحساب قد قام على ساق مقام الخصم، فهذا مستوجب للعصمة من اللّه.

و رجل قد هام به خوفه من ذنوبه و لم تبق فيه باقية، فهذا المتوحّد بولاية اللّه.

و قال شيخنا البهائي قدّس سرّه: من أهمل المبادرة إلى التوبة و سوّفها من وقت إلى وقت فهو بين خطرين عظيمين، إن سلم من واحد فلعلّه لا يسلم من الآخر:

أحدهما: أن يعاجله الأجل، فلا يتنبّه من غفلته إلاّ و قد حضره الموت، وفات وقت التدارك، و انسدّت أبواب التلافي و جاء الوقت الذي أشار إليه سبحانه بقوله:

 «وَ حِيلَ بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ ما يَشْتَهُونَ» «1»، و صار يطلب المهلة يوما أو ساعة فلا يجاب إليها، كما قال تعالى: «مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى‏ أَجَلٍ قَرِيبٍ» «2».

قال بعض المفسّرين في تفسير هذه الآية: إنّ المحتضر يقول عند كشف الغطاء:

يا ملك الموت أخّرني يوما أعتذر فيه إلى ربّي و أتوب إليه و أتزوّد صالحا، فيقول:

فنيت الأيّام، فيقول: أخّرني ساعة، فيقول: فنيت الساعات، فيغلق عنه باب التوبة، و يغرغر بروحه إلى النار، و يتجّرع غصّة اليأس و حسرة الندامة على تضييع العمر، و ربّما اضطرب أصل إيمانه في صدمات تلك الأهوال.

و ثانيهما: أن تتراكم ظلم المعاصي على قلبه، إلى أن تصير رينا و طبعا فلا يقبل‏

______________________________

 (1) سورة سبأ: الآية 54.

 (2) سورة المنافقون: الآية 10.

383
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء الواحد و الثلاثين ص : 379

.......... المحو، فإنّ كلّ معصية يفعلها الإنسان تحصل منها ظلمة في قلبه، كما تحصل من نفس الإنسان ظلمة في المرآة، فإذا تراكمت ظلمة الذنوب صارت رينا، كما يصير بخار النفس عند تراكمه على المرآة صداء، و إذا تراكم الرين صار طبعا، فيطبع على قلبه كالخبث على وجه المرآة إذا تراكم بعضه فوق بعض و طال مكثه و غاص في جرمها و أفسدها فصارت لا تقبل الصقل أبدا، و قد يعبّر عن هذا بالقلب المنكوس و القلب الأسود، كما روي عن الباقر عليه السّلام: ما من شي‏ء أفسد للقلب من خطيئة، إنّ القلب ليواقع الخطيئة فلا تزال به حتّى تغلب عليه فيصير أعلاه أسفله‏ «1».

و عنه عليه السّلام: ما من عبد إلاّ و في قلبه نكتة بيضاء، فإذا أذنب ذنبا خرج في النكتة نكتة سوداء، فإن تاب ذهب ذلك السواد، و إن تمادى في الذنوب زاد ذلك السواد حتّى يغطّي البياض، فإذا غطّي البياض لم يرجع صاحبه إلى خير أبدا، و هو قول اللّه عزّ و جلّ: «كَلَّا بَلْ رانَ عَلى‏ قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ» «2».

فقوله عليه السّلام: لم يرجع صاحبه إلى خير أبدا يدلّ على أنّ صاحب هذا القلب لا يرجع عن المعاصي و لا يتوب منها أبدا، و لو قال بلسانه: تبت إلى اللّه يكون هذا القول منه مجرّد تحريك اللسان من دون موافقة القلب، فلا أثر له أصلا، كما أنّ قول الغسّال: غسلت الثوب لا يصيّر الثوب نقيّا من الأوساخ، و ربّما يؤول صاحب هذا القلب إلى عدم المبالاة بأوامر الشريعة و نواهيها، فيسهل أمر الدين في نظره، و يزول وقع الأحكام الإلهيّة من قلبه، و ينفر عن قبولها طبعه، و ينجرّ ذلك إلى اختلال عقيدته و زوال إيمانه، فيموت على غير الملّة، و هو المعبّر عنه بسوء الخاتمة،

______________________________

 (1) الكافي: ج 2 ص 268 باب الذنوب ح 1.

 (2) الكافي: ج 2 ص 273 باب الذنوب ح 20.

384
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء الواحد و الثلاثين ص : 379

.......... نعوذ باللّه من شرور أنفسنا و سيّئات أعمالنا «1»، انته كلامه رفع في علّيين مقامه.

و من كلام بعضهم: اغتنموا التوبة قبل أن يصير القريب نائيا و المقيم ماضيا، و قبل أن يكون المحصول ندما و الموجود عدما، و قبل أن يضرب الأدبار على المصرّين سرادق الخسار، فلا إقالة عثار و لا توفيق إنابة و اعتذار.

ذكر العتبي أنّه قيل لرجل عند الوفاة: قل: لا إله إلاّ اللّه، فقال:

آه ويلي على الشباب و في أي‏

 

 زمان فقدت شرخ الشباب‏

حين مات الغيور و ارتخص المهر

 

 و غاب الحجاب عن كل باب‏

 

 و قيل لآخر و قد قرب خروج نفسه و انقطاع نفسه: قل: لا إله إلاّ اللّه، فقال:

لهف نفسي على الزمان و في أيّ‏

 

 زمان دهتني الأزمان‏

حين ولّى الشتاء و استقبل الصيف‏

 

 و طاب المدام و الريحان‏

 

 و احتضر آخر فقيل له: قل: لا إله إلاّ اللّه، فقال:

برد الليل و طاب الماء و التذ الشراب‏

 

 و مضى عنّا حزيران و تمّوز و آب‏

 

 ثمّ قضى لوقته و قالت امرأة لرجل كان منزله قريبا من حمّام منجاب ببغداد:

يا رجل أين الطريق إلى حمّام منجاب؟ فأومى إليها و أرشدها إلى طريق غيره في سكّة خراب لا منفذ لها، و تبعها إليها ففجر بها، فلمّا حضرته الوفاة قيل له: قل: لا إله إلاّ اللّه، فقال:

يا ربّ قائلة يوما و قد لغبت‏ «2»+ أين الطريق إلى حمّام منجاب و مات لوقته. هكذا يدرك سوء الخاتمة، و تهوي بالمخذولين مدرجة العاقبة، نعوذ باللّه من ذلك.

______________________________

 (1) كتاب الأربعين للشيخ البهائي: ص 168.

 (2) لغب لغبا من باب قتل: تعب و أعيا.

385
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء الواحد و الثلاثين ص : 379

.......... الخامس: صرّح أكثر علمائنا باستحباب الغسل للتوبة بعدها، سواء كان عن كفر أو فسق، و سواء كان الفسق عن صغيرة أو كبيرة. بل صرّح الشهيد الثاني قدّس سرّه في شرح اللمعة باستحبابه للتوبة عن مطلق الذنب و إن لم يوجب الفسق كالصغيرة النادرة «1».

و خصّه المفيد بالتوبة عن الكبائر «2».

قيل: و لعلّ ملحوظه أنّ الذنوب كلّها كبائر لاشتراكها في الخروج عن طاعة اللّه، و إنّما يطلق الكبر و الصغر على الذنب بالإضافة إلى ما تحته و ما فوقه، فالقبلة صغيرة بالنسبة إلى الزنا و كبيرة بالنسبة إلى النظر.

و قد نسب الشيخ أبو علي الطبرسي رحمه اللّه القول بذلك إلى أصحابنا رضوان اللّه عليهم‏ «3».

السادس: قال بعض الناصحين: إذا أردت التوبة فبّرى نفسك من التبعات و قلبك من الذنوب، و وجّه وجهك إلى علاّم الغيوب بعزم صادق و رجاء واثق، و عد أنّك عبد آبق من مولى كريم رحيم حليم يحبّ عودك إلى بابه و استجارتك به من عذابه، و قد طلب منك العود مرارا عديدة و أنت معرض عن الرجوع إليه مدّة مديدة، مع أنّه وعدك ان رجعت إليه و أقلعت عمّا أنت عليه بالعفو عن جميع ما صدر عنك و الصفح عن كلّ ما وقع منك، و قم و اغتسل احتياطا، و طهّر ثوبك، و صلّ بعض الفرائض و أتبعها بشي‏ء من النوافل، و لتكن تلك الصلاة على الأرض بخشوع و خضوع و استحياء و انكسار و بكاء و فاقة و افتقار، في مكان لا يراك فيه و لا يسمع صوتك الاّ اللّه سبحانه، فإذا سلمت فعقّب صلاتك و أنت حزين مستحي و جل راج، ثمّ‏

______________________________

 (1) شرح اللمعة: ج 1 ص 687.

 (2) المقنعة: ص 6.

 (3) مجمع البيان: ج 3- 4 ص 38.

386
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء الواحد و الثلاثين ص : 379

قال صلوات اللّه عليه:

اللّهُمَّ يا مَنْ لا يَصِفُهُ نَعْتُ الواصِفينَ، وَ يا مَنْ لا يُجاوِزُهُ رَجاءُ الراجينَ، وَ يَا مَنْ لا يَضيعُ لَدَيْهِ اجْرُ الْمُحسِنينَ، وَ يَا مَنْ هُوَ مُنْتَهى‏ خَوفِ العابدِينَ، وَ يا مَنْ هُوَ غايَةُ خَشْيَةِ المتّقين.

اقرأ الدعاء المأثور عن زين العابدين عليه السّلام الذي أوّله: يا من برحمته يستغيث المذنبون و يا من إلى ذكر إحسانه يفزع المضطرّون ثمّ ضع وجهك على الأرض و اجعل التراب على رأسك، و مرّغ وجهك الذي هو أكرم أعضائك في التراب بدمع جار و قلب حزين و صوت عال و أنت تقول: عظم الذنب من عبدك فليحسن العفو من عندك، تكرّر ذلك و تعدّد ما تذكره من ذنوبك، لائما نفسك موبّخًا لها نائحا عليها نادما على ما صدر منها، و أبق على ذلك ساعة طويلة، ثمّ قم و ارفع يديك إلى التواب الرحيم و قل: إلهي عبدك الآبق رجع إلى بابك، عبدك العاصي رجع إلى الصلح، عبدك المذنب أتاك بالعذر، و أنت أكرم الأكرمين و أرحم الراحمين، ثمّ تدعو و دموعك تنهمل بالدعاء المأثور عن زين العابدين عليه السّلام، و هو الذي أوّله: اللّهم يا من لا يصفه نعت الواصفين إلى آخره، و اجهد في توجّه قلبك إليه و إقبالك بكليتك عليه، مشعرا نفسك سعة الجود و الرحمة، ثمّ اسجد سجدة تكثر فيها البكاء و العويل و الانتحاب بصوت عال لا يسمعه إلاّ اللّه تعالىّ، ثمّ ارفع رأسك واثقا بالقبول فرحا ببلوغ المأمول و اللّه وليّ التوفيق. و لنشرع الآن في شرح الدعاء+.

 [ 869] الوصف و النعت مترادفان.

قال الفيومي: وصفته وصفا- من باب وعد-: نعته بما فيه‏ «1».

و فرّق بعضهم بينهما أنّ الوصف ما كان بالحال المنتقلة كالقيام و القعود،

______________________________

 (1) المصباح المنير: ص 911.

387
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء الواحد و الثلاثين ص : 379

.......... و النعت بما كان في خلق أو خلق كالبياض و الكرم.

و إنّما لا يصفه سبحانه نعت الواصفين لأنّ الإحاطة بمعرفة كنه صفاته سبحانه و تعالى غير مقدورة لغيره عزّ و جل.

قال بعض المحقّقين: كما لا يجوز لغيره سبحانه الإحاطة بمعرفة كنه ذاته تعالى، فكذلك لا يجوز له الإحاطة بمعرفة كنه صفاته تعالى، و كلّ ما وصفه به العقلاء، فإنّما هو على قدر أفهامهم و بحسب وسعهم، فانّهم إنّما يصفونه بالصفات التي ألفوها و شاهدوها في أنفسهم مع سلب النقائص الناشئة عن انتسابها إليهم بنوع من المقايسة، و لو ذكر لهم من صفاته تعالى ما ليس لهم ممّا يناسبه بعض المناسبة لم يفهموه، كما لم يفهموا ذاته التي هي وجود بلا ماهيّة لأنّه ليس لهم ذلك، فوصفهم إيّاه و نعتهم له إنّما هو على قدرهم لا على قدره، و بحسبهم ليس بحسبه، جلّ جلاله عمّا يصفون و تعالى شأنه عمّا يقولون، «وَ ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ»+ «1».

كيف؟ و قد قال سيّد الخلق صلوات اللّه عليه و آله: لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك‏ «2».

و ما أحسن ما قال الإمام الباقر عليه السّلام: هل سمّي عالما و قادرا إلاّ لأنّه و هب العلم للعلماء و القدرة للقادرين، و كلّ ما ميّزتموه بأوهامكم في أدقّ معانيه مخلوق مصنوع مثلكم مردود إليكم، و الباري تعالى واهب الحياة و مقدّر الموت، و لعلّ النمل الصغار تتوهّم أنّ للّه زبانيتين فإنّهما كمالها، تتوهّم أنّ عدمهما نقصان لمن لا يكونان له، هكذا حال العقلاء فيما يصفون اللّه تعالى به فيما أحسب و إلى المفزع، انته كلامه عليه السّلام‏ «3».

______________________________

 (1) سورة الأنعام: الآية 91.

 (2) صحيح مسلم بشرح النووي: ج 3- 4 ص 203.

 (3) شرح نهج البلاغة لابن ميثم: ج 1 ص 110، شرح مسألة العلم: ص 43.

388
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء الواحد و الثلاثين ص : 379

.......... و قد بسطنا الكلام في هذه المسألة في أوائل الروضة الأولى، فليرجع إليه.

و يحتمل أن يكون المعنى: لا يفي بوصفه نعت الواصفين، فيكون نعتا جامعا لمطلق ما يوصف به حاصرا له، كما قال أمير المؤمنين عليه السّلام: ليس لصفته حدّ محدود و لا نعت موجود «1».

قال بعض العارفين: لم يعرّف عباده من صفاته و نعوته الا على مقاديرهم، و لم يعرّفهم كليّة صفاته.

 [ 870] قوله عليه السّلام: «و يا من لا يجاوزه رجاء الراجين» جاوزت الشي‏ء و تجاوزته:

تعدّيته.

و الرجاء لغة: الأمل، و عرفا: تعلّق القلب بحصول محبوب في المستقبل.

و المعنى: انّه غاية كلّ رجاء، لا مرجوّ فوقه فيتعدّى إليه رجاء الراجين، بخلاف من سواه من المرجوّين، إذ لا مرجوّ سواه إلاّ و فوقه مرجوّ يتجاوز إليه الرجاء، حتّى ينته إليه سبحانه فيقف عنده إذ لا غاية وراءه، كما قال تعالى: «وَ فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ» «2».

قال ابن عبّاس: فوق كلّ عالم عالم إلى أن ينتهي العلم إلى اللّه تعالى‏ «3».

أو أنّ رجاء الراجين لا يخيب لديه فيجاوزه إلى غيره.

أو أنّه الغاية التي لا يتعدّاه رجاء الراجين عند انقطاعه من جميع من دونه.

أو انّه المحبوب الذي لا يتعلّق القلب بحصول محبوب سواه عند حصوله، و اللّه أعلم.

 [ 871] قوله عليه السّلام: «و يا من لا يضيع لديه أجر المحسنين» ضاع الشي‏ء يضيع‏

______________________________

 (1) نهج البلاغة: ص 39 الخطب 1.

 (2) سورة يوسف: الآية 76.

 (3) مجموعة من التفاسير: ج 3 ص 438.

389
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء الواحد و الثلاثين ص : 379

.......... ضيعة و ضياعا بالفتح: هلك و تلف، و يتعدّى بالهمزة و التضعيف، فيقال: أضاعه اضاعة، و ضيّعه تضييعا.

و الأجر: الثواب.

و الإحسان: فعل ما ينبغي أن يفعل من الخير.

و إنّما لا يضيع لديه سبحانه أجر المحسنين، لأنّ إضاعة الأجر إنّما يكون للعجز أو للجهل أو للبخل، و كلّ ذلك ممتنع في صفته تعالى. و فيه تلميح إلى قوله تعالى‏ «إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ»+ «1».

 [ 873+ 872] قوله عليه السّلام: «و يا من هو منته خوف العابدين» إلى آخره، الخوف:

توقّع حلول مكروه.

و الخشية: خوف يشوبه تعظيم المخشي مع المعرفة به، و لذلك قال تعالى: «إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ». و قد تقدّم الكلام على الفرق بين الخوف و الخشية بأبسط من هذا.

و العبادة: فعل اختياري مباين للشهوات البدنيّة، يصدر عن نية يراد بها التقرّب إلى اللّه تعالى طاعة للشريعة.

و التقوى: الاحتراز بطاعة اللّه عن عقوبته. و لها مراتب أدناها الاحتراز بإظهار الشهادتين عن العذاب المخلّد، و يتلوها الاحتراز عن كلّ ما يوجب إثما من فعل أو ترك، و هذا المعنى هو المعروف باسم التقوى في عرف الشرع، و أعلاها الاحتراز عن كلّ ما يشغل القلب عن الحقّ و الرجوع إليه، و هو الخاصّ الخاصّ.

و كونه تعالى منته خوف العابدين و غاية خشية المتّقين يحتمل وجوها:

أحدها: أنّ خوفهم و خشيتهم ينتهيان إليه تعالى عند كمال معرفتهم. و بيان‏

______________________________

 (1) سورة التوبة: الآية 120.

390
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء الواحد و الثلاثين ص : 379

.......... ذلك: أنّ السالك لا يزال ينتقل في درجات المخاوف بحسب أحواله، حتّى ينتهي إلى درجة الخوف من جلال اللّه تعالى فيقف عندها، إذ لا غاية فوقها.

قال النظام النيسابوري: الخوف إمّا من العقاب و هو نصيب أهل الظاهر، و إمّا من الجلال و هو وظيفة أرباب القلوب، و الأوّل يزول و الثاني لا يزول‏ «1».

و قال المحقّقون: الخوف من اللّه مغاير للخوف من وعيد اللّه، كما أنّ الحبّ للّه مغاير لحبّ ثواب اللّه‏ «2»، قال اللّه تعالى: «ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَ خافَ وَعِيدِ» «3»، أي: خافني و خاف وعيد، و المقام مقحم مثل: سلام اللّه على المجلس العالي.

الثاني: أنّ خوفهم و خشيتهم منه تعالى أشدّ من خوفهم و خشيتهم من كلّ ما يخاف و يخشى.

الثالث: ما قاله بعضهم: يمكن أن يكون المنته و الغاية باعتبار أنّ العابدين و المتّقين إذا خافوا بسبب شي‏ء كان منته خوفهم و غايته منه تعالى لا من ذلك الشي‏ء بخلاف غيرهم فإنّ خوفهم قد يكون لذلك الشي‏ء، فلا ينتهي جميع خوفهم أو خشيتهم إليه تعالى.

الرابع: أنّهم إذا انتهوا إليه تعالى زال خوفهم و خشيتهم و تبدّلا بالأمن و الطمأنينة. و بيان ذلك: أنّ السالك ما دام في سيره إلى الحقّ يكون مضطربا غير مستقرّ الخواطر، لخوف العاقبة و ما يعرض في أثناء الطريق من العوارض العائقة عن الوصول، فإذا هبّت نسيم العناية الأزليّة، و ارتفعت الحجب الحائلة الظلمانيّة، و اندكّت جبال التعيّنات الرسميّة، و فاز بالحصول على محلّ الوصول، تنوّر القلب‏

______________________________

 (1) رغائب القرآن و غرائب الفرقان: ج 1 ص 98.

 (2) رغائب القرآن و غرائب الفرقان: ج 2 ص 382 ذيل الآية 14 من سورة إبراهيم.

 (3) سورة إبراهيم: الآية 14.

391
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء الواحد و الثلاثين ص : 379

هَذا مَقامُ مَنْ تَداوَلْتَهُ أيْدي الذُنوبِ، و قادَتْهُ أزمَّةُ الخَطايا، وَ اسْتَحوَذَ عَلَيْهِ الشَيْطانُ، فَقَصَّرَ عَمّا أمَرْتَ بِهِ تَفْريطًا، وَ تَعاطى ما نَهَيْتَ عَنْهُ تَغْريرًا، كالْجاهِلِ بِقُدْرَتِكَ عَلَيْهِ، أوْ كَالمُنكِرِ فَضْلَ إحْسانِكَ إلَيْهِ.

بنور العيان، و حصلت الراحة و الاطمئنان، و زال الخوف و ظهرت تباشير الأمن و الأمان، و هذا المقام من مقامات أصحاب النهايات لا من أحوال أرباب البدايات، «أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ» «1»، و اللّه أعلم بمقاصد أوليائه+.

 [ 874] قام يقوم قوما و قياما انتصب، و اسم الموضع المقام بالفتح، و أقمته إقامة و اسم الموضع المقام بالضمّ، و قد وردت الرواية في الدعاء بالوجهين.

و تداولته الأيدي: أخذته هذه مرّة و هذه مرّة.

و الكلام استعارة بالكناية، شبّه الذنوب بالقوم بجامع التصرّف، و اثبت لها الأيدي تخييلا، و رشّح ذلك بالتداول.

و قاد البعير قودا- من باب قال- و قيادا بالكسر: جرّه خلفه.

و الأزمّة: جمع زمام، و هو ما يوضع في أنف البعير من حبل أو سير ليقاد به.

و إضافتها إلى الخطايا كإضافة الأيدي إلى الذنوب، فالكلام استعارة مكنيّة، كأنّ كلّ خطيئة وضعت في أنفه زماما فهي تقوده بزمامها.

و إسناد القود إلى الأزمّة مجاز عقلي لملابسة الزمام للقائد. و يحتمل أن يكون من باب التشبيه كلجين الماء، أي: قادته الخطايا التي هي في التذليل كالأزمّة.

و استحوذ عليه الشيطان: غلبه و استماله إلى ما يريده منه و استولى عليه.

 [ 875] و قصّر عن الأمر تقصيرا و أقصر إقصارا: انته و كفّ عنه. و في رواية: «فيما أمرته»، و هو من قصّر في الحاجة تقصيرا أي: توانى فيها.

______________________________

 (1) سورة يونس: الآية 62.

392
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء الواحد و الثلاثين ص : 379

.......... و فرط في الأمر تفريطا: قصّر فيه و ضيّعه. و نصبه أعلى الرواية المشهورة و هي «عمّا أمرت» بحرف المجاوزة على المفعوليّة لأجله، أي: كفّ عمّا أمرت به لأجل التفريط و التواني لا للعجز عن القيام به، أو على المصدريّة، أي: تقصير تفريط، فحذف المصدر و أنيب المضاف إليه منابه.

و على الرواية الثانية و هي «فيما أمرت به» على المصدريّة فقط، نحو: قعدت جلوسا.

و مذهب سيبويه‏ «1» في مثل هذا- أعني فيما إذا كان المصدر غير ملاق للفعل المذكور في الاشتقاق- أنّه منصوب بفعل مقدّر، أي: قصّر و فرّط تفريطا و قعدت و جلست جلوسا.

و مذهب المازني و المبرّد أنّه منصوب بالفعل الظاهر «2».

قال الرضي: و هو أولى، لأنّ الأصل عدم التقدير بلا ضرورة ملجئة إليه‏ «3».

و جعل بعضهم التفريط مرادفا للتقصير على الرواية الأولى، غلط منشأه اشتباه التقصير عن الشي‏ء بالتقصير فيه، و قد عرفت اختلاف معنييهما.

و قول بعضهم: الفاء في «فقصّر» للسببيّة إن كان انتصاب تفريطا على المصدريّة و جعل التقصير تفريطا، أو للتعقيب على تقدير انتصابه بتقدير اللام فيكون علّة للتقصير، لا وجه له، بل الفاء سببية على كلّ تقدير و التعقيب لازم لها.

و الحامل له على هذا التفصيل توهّم أنّ التقصير إذا كان معلّلا بالتفريط لا يكون مسبّبا استحواذ الشيطان، فلا تكون الفاء سببيّة على هذا التقدير، لئلاّ يجتمع باعثان على فعل واحد من غير عطف. و ما علم أنّ المسبّب عن الاستحواذ حينئذ هو التقصير المقيّد لا المطلق، فكأنّه قال: فسبب ذلك قصّرت عمّا أمرت به‏

______________________________

 (1) شرح الكافية في النحو: ج 1 ص 116.

 (2) شرح الكافية في النحو: ج 1 ص 116.

 (3) شرح الكافية في النحو: ج 1 ص 116.

393
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء الواحد و الثلاثين ص : 379

.......... تقصيرا ناشئا عن تفريط منّي، فالمعلّل بالتفريط هو التقصير المطلق، و المعلل باستحواذ الشيطان هو التقصير المقيّد و أحدهما غير الآخر، و نظير ذلك قوله تعالى:

 «يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ» «1».

قال ابن هشام: زعم عصريّ أنّ «من» متعلّقة بحذر أو بالموت، و فيهما تقديم معمول المصدر، و في الثاني أيضا تقديم معمول المضاف إليه على المضاف، و حامله على ذلك أنّه لو علّقه بيجعلون و هو في موضع المفعول له، لزم تعدّد المفعول له من غير عطف، إذ كان حذر الموت مفعولا له. و قد أجبت بأنّ الأوّل تعليل للجعل مطلقا، و الثاني تعليل له مقيّدا بالأوّل، و المطلق و المقيّد غيران، و المعلّل متعدّد معنى و إن اتّحدا في اللفظ، انته‏ «2»، و اللّه الموفّق للصواب.

و تعاطى فلان كذا: أقدم عليه و فعله.

و في محكم اللغة: التعاطي: تناول ما لا يحقّ، و تعاطى أمرا قبيحا: ركبه‏ «3».

و غرّر بنفسه تغريرا: حملها على الغرر و هو الخطر.

و قال الزمخشري في الفائق: غرّر به: إذا ألقاه في الغرر «4».

و في القاموس: غرّر بنفسه تغريرا و تغرّة عرّضها للهلكة، و الاسم الغرر «5».

و قال ابن الأثير في النهاية: و منه حديث الدعاء: و تعاطى ما نهيت عنه تغريرا، أي: مخاطرة و غفلة عن عاقبة أمره‏ «6».

و انتصابه إمّا على المصدريّة أي: معاطاة تغرير، أو على المفعول لأجله أي:

لأجل التغرير بنفسه.

 [ 876] و قوله عليه السّلام: «كالجاهل»: في محلّ نصب على الحاليّة، أي: مماثلا

______________________________

 (1) سورة البقرة: الآية 19.

 (2) لم نتحققه.

 (3) المحكم في اللغة: ج 2 ص 224.

 (4) الفائق في غريب الحديث: ج 3 ص 140.

 (5) القاموس المحيط: ج 2 ص 101.

 (6) النهاية لابن الأثير: ج 3 ص 356.

394
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء الواحد و الثلاثين ص : 379

حَتَّى‏ إذَا انْفَتَحَ لَهُ بَصَر الهُدَى‏، وَ تَقَشَّعَتْ عَنْهُ سَحائبُ العَمى‏، أحْصى‏ مَا ظَلَمَ بِهِ نَفْسَهُ، وَ فَكَّرَ فِيْما خَالَفَ بِهِ رَبَّهُ، فَرَأى كَبيرَ عِصْيانِهِ كَبيراً، وَ جَليلَ مُخَالَفَتِهِ جَليلاً.

رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين ؛ ج‏4 ؛ ص395

 

جاهل بقدرتك عليه، أو مماثلا للمنكر زيادة إحسانك إليه، فإنّ من يقصّر عن أوامر اللّه تفريطا و يتعاطى نواهيه تغريرا، لا يكون إلاّ جاهلا بقدرته تعالى عليه، أو منكرا لفضل إحسانه إليه، و إن لم يكن جاهلا و لا منكرا لذلك، بل كان عالما و معترفا به، فلم يخف و لم يشكر بل ركب ذلك الفعل القبيح، فقد فعل فعل الجاهل أو المنكر، فصدق أنّه شبيه له و مماثل إيّاه.

و غرضه عليه السّلام من هذا التشبيه الاعتراف باجترائه على ما ارتكب مع العلم بقدرة اللّه عليه، و الاعتراف بفضل إحسانه إليه حتّى كأنّه جاهل أو منكر لذلك. و حاصله: مزيد الإقرار بالذنب و العصيان، المندوب إليه عند طلب العفو و الغفران.

و في كلام أمير المؤمنين عليه السّلام من خطبة له في نهج البلاغة: و إنّ العالم العامل بغير علمه كالجاهل الذي لا يستفيق من جهله، بل الحجّة عليه أعظم، و الحسرة له ألزم، و هو عند اللّه ألوم‏ «1»+.

حتّى: غاية لقوله: «فقصّر»، و قد تقدّم الكلام عليها مبسوطا في الروضة الثانية عشرة، عند قوله عليه السّلام: «حتّى إذا رأى مدّة العمل قد انقضت»، فليرجع إليه.

و انفتاح بصر الهدى له: عبارة عن تنبّهه لمشاهدة الحقّ بعين بصيرته بعد أن كان عاشيا عنه.

و تقشّع سحائب العمى عنه: عبارة عن زوال غفلات الضلال عنه بعد غشيانها له.

______________________________

 (1) نهج البلاغة: ص 164 الخطب 110.

395
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء الواحد و الثلاثين ص : 379

.......... و كلّ من الفقرتين استعارة ظاهرة، و قد مرّ نظيرها مرارا، و الانفتاح و التقشّع ترشيح.

يقال: تقشّع السحاب: إذا أقلع و انكشف.

و قال صاحب المحكم: انقشع عنه الشي‏ء و تقشّع: غشيه ثمّ انجلى عنه، كالظلام عن الصبح و الهمّ عن القلب و السحاب عن الجوّ «1».

و العمى هنا هو المشار إليه بقوله تعالى: «فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَ لكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ» «2». و هو استعارة حسنة، إذ العمى حقيقة عبارة عن عدم ملكة البصر، و وجه المشابهة: أنّ الأعمى‏ كما لا يهتدي لمقاصده المحسوسة بالبصر لعدمه، كذلك أعمى البصيرة لا يهتدي لمقاصده المعقولة، لاختلاف بصيرته و عدم عقله لوجوه رشده.

 [ 877] و أحصى الشي‏ء: عدّه و ضبطه.

و ما ظلم به نفسه: عبارة عن المعاصي التي أقدم عليها، فإنّه عرّض نفسه للعقاب باقترافها.

و فكّر في الشي‏ء: أجال فكره فيه، و هو تخيّل عقلي في الإنسان.

قال الراغب: و التفكّر لا يكون إلاّ فيما له ماهيّة ممّا يصحّ أن يجعل له صورة في القلب مفهوما، و لأجل ذلك قال النبيّ صلى اللّه عليه و آله: تفكّروا في آلاء اللّه و لا تفكّروا في اللّه، و قال تعالى: «يُبَيّنُ اللّهُ لَكُمْ الآياتِ لَعَلكُمْ تَتَفَكرُونَ في الدُنيا و الآخِرَةِ» «3».

و قال بعض الحكماء عن الفكر و العبرة، فقال: الفكرة: أن تجعل الغائب حاضرا، و العبرة، أن تجعل الحاضر غائبا.

______________________________

 (1) المحكم في اللغة: ج 1 ص 79.

 (2) سورة الحج: الآية 46.

 (3) المفردات: ص 384 نقلا بالمضمون.

396
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء الواحد و الثلاثين ص : 379

فَأقْبَلَ نَحْوَكَ مُؤَمِّلاً لَكَ مُسْتَحْييًا مِنْكَ، وَ وَجَّهَ رَغْبَتَهُ إلَيْكَ ثِقَةً و في التعرّض لعنوان الربوبيّة مزيد تعظيم لما ارتكبه من المعاصي.

و الفاء من قوله: «فرأى»: للسببيّة.

و الرؤية هنا: بمعنى العلم، أي: فعلم كبير عصيانه كبيرا، يقال: رأيته عالما، يستعمل بمعنى العلم و الظنّ فيتعدّى إلى مفعولين، و رأيت زيدا: أبصرته، يتعدّى إلى مفعول واحد، لأنّ أفعال الحواسّ إنّما تتعدّى إلى مفعول واحد، فإن رأيته على هيئته نصبته على الحال و قلت: رأيته قائما:

و في رواية ابن إدريس: «فرأى كثير عصيانه كثيرا» بالثاء المثلّثة في الموضعين.

و الفرق بين الكبير و الكثير: أنّ الكبير بالموحدّة بحسب الشأن و الخطر كالجليل و العظيم، و الكثير بالمثلّثة بحسب الكميّة و العدد. و أيضا الكبير نقيض الصغير، و الكثير نقيض القليل.

و المعنى: انّه بسبب إحصائه ما ظلم به نفسه، و تفكّره فيما خالف به ربّه، علم كبر كبير عصيانه أو كثرة كثيره، و علم جلالة جليل مخالفته، بعد جهله بذلك أو غفلته عنه، لعدم ضبطه له و تفكّره فيه.

و يحتمل أن يكون التنكير في قوله: «كبيرا» و «جليلا» للتهويل و التعظيم، و المعنى: أنّه علم كبير عصيانه الذي كان يعلم كبره، و جليل مخالفته الذي كان يعلم جلالته، كبيرا هائلا مخوفا و جليلا فظيعا بالغا في الجلالة حدّا لا يعرف.

قال بعضهم: و يمكن أن يكون المعنى: رأى الكثير الذي كان يعرف كثرته أكثر بإضافة ما كان مانعا من رؤيته و تركه، أو رأى ذلك الكثير أكثر باعتبار التوجّه إلى تركه و الإقلاع عنه، و هذان يظهران من التنكير، و مثله كبير كما في الأصل و جليل، انته، و اللّه أعلم+.

 [ 878] أقبل: خلاف أدبر، أي: توجّه.

و النحو في الأصل: مصدر بمعنى القصد، يقال: نحوت نحوك أي: قصدت‏

397
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء الواحد و الثلاثين ص : 379

بِك، فَأَمَّكَ بِطمعِهِ يَقيْنًا، وَ قَصَدَكَ بِخَوْفِهِ إخْلاصا، قَدْ خَلا طَمَعُهُ مِنْ كُلِّ مَطْموعٍ فيْهِ غَيْرِكَ، وَ أفْرَخَ رَوْعُهُ مِنْ كُلِّ مَحْذُورٍ مِنْهُ سِوَاكَ.

قال ابن جنّي: و قد استعمله العرب ظرفا، أنشد أبو الحسن:

يحدو بها لكلّ فتى هيّات‏

 

 و هنّ نحو البيت قاصدات‏ «1»

 

 أي: جهة البيت، و هذا المعنى هو المراد هنا.

و أملته أملا: من باب طلب، و هو ضدّ اليأس، و أملته تأميلا مبالغة و تكثير، و هو أكثر استعمالا من المخفّف.

و استحييت منه و استحييته بمعنى، يقال: استحييت بياءين و هو الأصل، و هي لغة الحجاز و بها ورد التنزيل، قال تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا» «2»، و عليها عبارة الدعاء. و استحيت بياء واحدة، اسقطوا الياء الأولى و ألقوا حركتها على الحاء، و هي لغة تميم‏ «3».

قال الواحدي: قال أهل اللغة: أصل الاستحياء من الحياة، و استحياء الرجل من قوّة الحياة لشدّة علمه بمواقع عيبه، فالحياء من قوّة الحسّ و لطفه و قوّة الحياة «4».

و قال ابن الأثير: الحياء: تغيّر و انكسار يعرض للإنسان من تخوّف ما يعاب به و يذمّ، و اشتقاقه من الحياة، فكأنّ الحيّ جعل منتكس القوّة منتقص الحياة لما يعتريه من الانكسار و التغيّر «5».

و وجهت الشي‏ء إلى كذا: جعلته إلى جهته.

و الرغبة: مصدر رغبت في الشي‏ء إذا أردته، و الهاء لتأنيث المصدر.

و وثق به يثق بالكسر فيهما ثقة اعتمد على وفائه، و نصب ثقة يحتمل المصدرية

______________________________

 (1) الخصائص: ج 1 ص 34.

 (2) سورة البقرة: الآية 36.

 (3) مجمع البيان: ج 1- 2 ص 66.

 (4) تهذيب الأسماء و اللغة: القسم الثاني: ج 1 ص 79 نقلا عنهما.

 (5) تهذيب الأسماء و اللغة: القسم الثاني: ج 1 ص 80 نقلا عنهما.

398
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء الواحد و الثلاثين ص : 379

.......... و الحاليّة و المفعولية لأجله، أي: توجيه ثقة أو واثقا أو للثقة.

و أمّه أمّا- من باب قتل-: قصده.

و الطمع: تعليق النفس بما يظن من النفع، و أكثر ما يستعمل فيما يقرب حصوله.

و الباء من قوله: «بطمعه»: للملابسة، أي: ملتبسا به، كقوله تعالى: «اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا» «1»، و مثله قوله عليه السّلام: «و قصدك بخوفه».

و اليقين في اللغة: العلم الذي لا شكّ فيه، و في الاصطلاح: اعتقاد مطابق ثابت لا يمكن زواله، و هو في الحقيقة مؤلّف من علمين: العلم بالمعلوم و العلم بأنّ خلاف ذلك العلم محال‏ «2».

و عند أهل الحقيقة رؤية العيان بقوّة الإيمان لا بالحجّة و البرهان.

و قيل: مشاهدة الغيوب بصفاء القلوب و ملاحظة الأسرار بمحافظة الأفكار.

و الإخلاص في اللغة: ترك الرياء في الطاعات، و في الاصطلاح: تخليص القلب عن شائبة الشوب المكدّر لصفاه، و قيل: هو تصفية العمل عن ملاحظة المخلوقين حتّى عن ملاحظة النفس فلا يشهد غير اللّه، و حتّى من شهد في إخلاصه الإخلاص احتاج إخلاصه إلى الإخلاص. و نصب «يقينا» و «اخلاصا» يحتمل الأوجه الثلاثة، أي: قصد يقين و قصد إخلاص، أو ذا يقين و ذا إخلاص، أو لليقين و للإخلاص. [ 879] و «قد» هنا: للتحقيق، أي: تحقّق خلوّ طمعه.

و خلا: بمعنى برئ من قولهم: خلا من العيب خلوا أي: برئ منه فهو خليّ.

و غيرك: بالجرّ في الرواية المشهورة صفة لمطموع، و بالنصب في رواية أخرى على الاستثناء، لأنّ «غير» إذا وقعت استثناء أعربت إعراب الاسم التالي ل «إلاّ».

و المعنى على الأوّل: قد خلا طمعه من كلّ مطموع فيه مغاير لك، و على الثاني: من‏

______________________________

 (1) سورة هود: الآية 48.

 (2) بحار الأنوار: ج 70 ص 143.

399
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء الواحد و الثلاثين ص : 379

.......... كل مطموع فيه إلاّ أنت.

و قس على ذلك قوله عليه السّلام في الفقرة الثانية: «كلّ محذور سواك»، إلاّ أنّ الإعراب في «سواك» مقدّر.

و أفرخ أي: ذهب و انكشف.

و الروع بالفتح: الفزع، يقال: راعني الشي‏ء روعا- من باب قال- أي: أفزعني.

و المعنى: زال عنه ما يرتاع له و يخاف و ذهب عنه و انكشف.

قال الزمخشري في الأساس: أفرخت البيضة: خرج فرخها، و من المجاز: أفرخ روعك بالضمّ أي: خلا قلبك من الهمّ خلوّ البيضة من الفرخ، و أمّا أفرخ روعك بالفتح فوجهه أن يراد زوال ذلك من القلب، جعل المتوقّع الذي هو متعلّق الروع من الروع بمنزلة الفرخ من البيضة، و كثر حتّى صار في معنى انكشف.

قال ذو الرّمة:

جذلان قد أفرخت من روعه الكرب‏

 

 

 

 انته‏ «1».

و الحاصل: أنّ أفرخ يستعمل بمعنيين: يقال: أفرخت البيضة: إذا خرج فرخها، و أفرخ الطائر: إذا خرج من البيضة، فمن قال: أفرخ روعك بالضمّ فالروع هنا بمعنى القلب، و معناه: خلا قلبك من الخوف خلوّ البيضة من فرخها، و من قال:

أفرخ روعك بالفتح فالروع بمعنى الفزع و الخوف، و معناه: خرج الفزع من قلبك خروج الطائر من البيضة. و الرواية في الدعاء انّما هي بالفتح.

و حذرت الشي‏ء- من باب تعب-: خفته فهو محذور.

و جملة قوله عليه السّلام: «قد خلا طمعه» تحتمل أن تكون حالا فهي في محلّ‏

______________________________

 (1) أساس البلاغة: ص 468 مع اختلاف يسير في العبارة.

400
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء الواحد و الثلاثين ص : 379

فَمَثُلَ بَيْنَ يَدَيْكَ مُتَضَرِّعاً، وَ غَمَّضَ بَصَرَهُ إلى الأرْضِ مُتَخَشِّعاً، وَ طَأطأ رَأسَهُ لِعزتّكَ مُتَذَلِّلاً.

النصب، أي: أمّك بطمعه يقينا حال كونه قد خلا طمعه من كلّ مطموع فيه غيرك، و الجملة المعطوفة عليها حال أيضا، متعلّق معناها بقوله: «و قصدك بخوفه إخلاصا»، أي: قصدك بذلك حال كونه قد أفرخ روعه من كلّ محذور سواك.

و يحتمل الكلام الاستئناف البياني، كأنّه سئل عليه السّلام كيف أم بطمعه يقينا و قصد بخوفه إخلاصا؟ فقال: قد خلا طمعه من كلّ مطموع فيه غيرك، و أفرخ روعه من كلّ محذور سواك فجملة «قد خلا» على هذا لا محلّ لها من الإعراب، و المعطوفة عليها تابعة لها، و اللّه أعلم+.

 [ 880] مثل بين يديه مثولا- من باب قعد-: انتصب قائما.

و بين اليدين: عبارة عن الأمام، لأنّ ما بين يدي الإنسان أمامه، و هو هنا من باب التمثيل، و قد تقدّم الكلام على بيان ذلك مبسوطا في أوائل الروضة العاشرة، فليرجع إليه.

و متضرّعا: حال من فاعل مثل، و التضرّع: التذلّل، و هو إظهار ذلّ النفس و الانقهار، و خلع أردية التعزّز و الاستكبار. قال تعالى: «ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَ خُفْيَةً» «1»، و ذلك لما فيه من الاعتراف بذلّ العبوديّة و عزّة الربوبيّة.

و غمّض بصره تغميضا و أغمضه إغماضا: أطبق أجفانه، و عدّاه بإلى لتضمينه معنى الإمالة، أي: غمّض بصره مميلا له إلى الأرض، أو أمال بصره إلى الأرض مغمضا له، على ما تقدّم من طريقي إبراز التضمين في مقام التفسير.

و الخشوع: الإخبات و التواضع و السكون.

و في القاموس: الخشوع: الخضوع أو قريب من الخضوع، أو هو في البدن‏

______________________________

 (1) سورة الأعراف: الآية 55.

401
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء الواحد و الثلاثين ص : 379

و أبَثَّكَ مِنْ سِرِّهِ ما أنْتَ أعْلَمُ بِهِ مِنْهُ خُضُوعاً، وَ عَدَّدَ مِنْ ذُنُوبِهِ ما و الخشوع في الصوت و البصر «1».

و قال صاحب محكم اللغة: خشع يخشع خشوعا و أخشع و تخشع: رمى ببصره نحو الأرض و خفض صوته.

و قيل: الخشوع قريب من الخضوع، إلاّ أنّ الخضوع في البدن و الخشوع في الصوت و البصر كقوله تعالى: «خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ»+ و قوله: «و خشعت الأصوات للرّحمن» «2»، انته ملخّصا. و لا يخفى مناسبة تفسيره الاوّل لعبارة الدعاء.

و قال القاضي في تفسيره: الخشوع: الإخبات، و الخضوع: اللين و الانقياد، و لذلك يقال: الخشوع بالجوارح و الخضوع بالقلب، انته‏ «3».

و طأطأ رأسه: صوبه و خفضه.

و العرّة: الرفعة و الامتناع و الشدّة و الغلبة، و في التنزيل: «مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً» «4»، أي: من كان يريد بعبادة غير اللّه العزّة فإنّما العزّة للّه وحده لا لغيره، عزّة الدنيا و عزّة الآخرة جميعا، فليطلبها منه لا من غيره.

و التذلّل: الاستكانة و الخضوع، و لمّا كانت الهيئات المذكورة في الفقرات الثلاث من لوازم الطامع الخائف، جعلها عليه السّلام مترتّبة على ما قبلها من قصر طمعه و خوفه عليه تعالى+.

 [ 881] بثّ السرّ بثّا: أذاعه و نشره، و بثثته سرّي و أبثثته بالألف: أظهرته له و أطلعته عليه.

و السّر: ما يكتم، و هو خلاف الإعلان، و منه قيل للنكاح: سرّ، لأنّه يلزمه غالبا.

______________________________

 (1) القاموس المحيط: ج 3 ص 18.

 (2) المحكم في اللغة: ج 1 ص 68.

 (3) أنوار التنزيل و أسرار التأويل: ج 1 ص 54.

 (4) سورة فاطر: الآية 10.

402
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء الواحد و الثلاثين ص : 379

أنْتَ أحْصى‏ لَهَا خُشُوعاً، وَ اسْتَغاثَ بِكَ مِنْ عَظيمِ ما وَقَعَ بِهِ فِى عِلْمِكَ، وَ قَبِيحِ ما فَضَحَهُ فِي حُكْمِك، مِنْ ذُنُوبٍ أدبَرَتَ لَذّاتُها فَذهَبتْ، وَ أقامَتْ تَبعاتُها فَلَزمَتْ.

و «من» في قوله: «من سرّه» و «من ذنوبه»: مبيّنة ل «ما» في الموضعين، قدّمت على المبهم المبيّن جوازا، نحو: عندي من المال ما يكفيني.

قال الرضيّ: و إنّما جاز تقديم «من» المبيّنة على المبهم في نحو: أنا من خطه في روضة، و من رعايته في حرم، و عندي من المال ما يكفي، و من الخيل عشرون، لأنّ المبهم الذي فسر ب «من» التبيينيّة مقدّم تقديرا، كأنّك قلت: أنا في شي‏ء من خطه في روضة، و عندي شي‏ء من المال ما يكفي، فالمبيّن في كلّ ذلك محذوف، و الذي بعد «من» عطف بيان له، حذف المعطوف و أقيم المعطوف عليه مقامه، كما يحذف المستثنى منه و يقام المستثنى مقامه في نحو: ما جاءني إلاّ زيد، كلّ ذلك ليحصل البيان بعد الإبهام‏ «1» انته ملخّصا.

و خضوعا و خشوعا منصوبان على المصدرية لبيان نوع العامل، أو على المفعوليّة لأجله تصريحا بفائدة ابثات سرّه من هو أعلم به منه، و تعديد ذنوبه لدى من هو أحصى له منه.

و أحصى: أفعل تفضيل بمعنى أضبط، من أحصاه إحصاء: بمعنى ضبطه، و فيه شاهد على بناء أفعل التفضيل من أفعل الرباعي قياسا و هو مذهب سيبويه‏ «2» و المحقّقين من أصحابه، و اختاره في التسهيل و شرحه‏ «3».

قال صاحب الكشف: و ليس بعيدا عن الصواب، لكثرة ما جاء من هذا

______________________________

 (1) شرح الكافية في النحو: ج 1 ص 343.

 (2) شرح الكافية في النحو: ج 2 ص 213.

 (3) تسهيل الفوائد: و تكميل المقاصد لابن مالك: ص 133- 134.

403
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء الواحد و الثلاثين ص : 379

.......... الباب‏ «1».

و قال الرضيّ و يؤيّده كثرة الاستعمال كقولهم: هو أعطاهم للدراهم و أولاهم للمعروف، و أنت أكرم لي من فلان‏ «2».

و مفعول أحصى محذوف مع من، أي: أحصى له منه، لدلالة قوله: «ما أنت أعلم به منه» عليه، و نظيره من التنزيل قوله تعالى: «أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالًا وَ أَعَزُّ نَفَراً» «3».

 [ 882] و استغاث به: طلب إغاثته أي: إعانته و نصره.

و وقع به: أهلكه و أوهنه، من قولهم: وقعت بالقوم وقيعة: إذا قتلتهم و أثخنتهم، أي: أوهنتهم بالجراحة و أضعفتهم، و هي لغة أهل الحجاز، و تميم تقول: أوقعت بهم بالأنف‏ «4».

قال الجوهري: وقعت بالقوم في القتال و أوقعت بهم بمعنى‏ «5».

و قوله عليه السّلام: «في علمك»: ظرف للوقوع به، على تشبيه علمه تعالى بما يكون محلاّ للشي‏ء، كما تقول: قتلت القوم في المحلّ الفلاني.

و الغرض الاستغاثة من الذنوب التي هي في علم اللّه مهلكة لمقترفها و هو لا يعلم بذلك أو يظنّها هيّنة لا توجب هلاكا، كما قال تعالى: «وَ تَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَ هُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ» «6».

و عن بعضهم أنّه جزع عند الموت، فقيل له في ذلك، فقال: أخاف ذنبا لم يكن منّي على بال و هو عند اللّه عظيم.

______________________________

 (1) لم نعثر عليه.

 (2) الكافية في النحو: ج 2 ص 213.

 (3) سورة الكهف: الآية 34.

 (4) المصباح المنير: ص 921.

 (5) الصحاح: ج 3 ص 1302.

 (6) سورة النور: الآية 15.

404
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء الواحد و الثلاثين ص : 379

.......... و في النصائح الكبار: لا تقولنّ لشي‏ء من سيّئاتك: حقير، فلعلّه عند اللّه تعالى نخلة و هو عندك نقير، و هي النكتة في ظهر النواة.

و إضافة عظيم إلى «ما» من باب إضافة الصفة إلى الموصوف و بجعلها نوعا مضافا إلى الجنس. و قس على ذلك قوله عليه السّلام: «و قبيح ما فضحه في حكمك».

و المراد بالحكم هنا معناه اللغوي، أي: قضاؤك.

و قد خفي معنى قوله عليه السّلام: «من عظيم ما وقع به» على كثير من المترجمين، ففسّروه بما لا يناسب المقام.

فقال بعضهم: «الباء» من قوله: «وقع به» بمعنى من، و المعنى: من عظيم ما وقع أي: صدر منه في علمك.

قال: و يحتمل أن يكون الظرف من قوله: «في علمك» متعلّقا بعظيم، و المعنى:

استغاث من وقوع ذنب منه عظيم في علمك. قال بعضهم: «الباء» بمعنى على، و المراد بوقوعه عليه في علمه تعالى و بفضيحته في حكمه سبحانه: أنّه جرى في علمه تعالى وقوع ذلك عليه و حكم سبحانه في الأزل بأنّ هذا القبيح يفضحه.

و قال بعضهم: المعنى: سقط به في علمك، فجعل الوقوع بمعنى السقوط، و الضمير في «وقع» عائد إلى الداعي، و الباء للسببية.

و لا يخفى أنّ كلّ ذلك و ان كان في نفسه صحيحا، غير أنّ الذوق يشهد هنا بتجافيه، و كلّ إناء ينضح بما فيه.

قوله عليه السّلام: «من ذنوب أدبرت» إلى آخره، «من»: مبيّنة لما وقع به و ما فضحه.

و أدبر الشي‏ء إدبارا: ولى و انقضى، و منه: «وَ اللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ» «1».

______________________________

 (1) سورة المدّثر: الآية 33.

405
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء الواحد و الثلاثين ص : 379

لا يُنْكَرُ يا إلَهِي عَدْلكَ إنْ عاقَبْتَهُ وَ لا يَسْتَعْظِمُ عَفْوَكَ إنْ عَفَوْتَ عَنْهُ وَ رَحِمْتَهُ، لأَنَّكَ الرَبُّ الكريمُ الذِي لا يَتَعاظَمُهُ غُفْرانُ الذَنْبِ العَظيمِ.

و ذهب الشي‏ء ذهابا بالفتح: مرّ و مضى.

و اللذّات: جمع لذّة بالفتح اسم من لذّ الشي‏ء يلذّ- من باب تعب- لذاذا و لذاذة بالفتح أي: صار شهيّا.

و عرّفوا اللذّة بأنّها إدراك الملائم من حيث إنّه ملائم كالصوت الحسن عند حاسة السمع، و قيد الحيثيّة للاحتراز عن الالتذاذ بالدواء المرّ النافع من حيث إنّه نافع لا من حيث إنّه مرّ.

و أقام بالموضع إقامة: سكن به و لم ينتقل عنه.

و التبعات: جمع تبعة على وزن كلمة: ما تطلبه من ظلامة و نحوها.

و لزم الشي‏ء يلزم لزوما- من باب تعب-: ثبت و دوام، و منه: لزمه المال: إذا ثبت و وجب عليه، و اللّه أعلم+.

 [ 883] أنكرته إنكارا جهلته كنكرته من باب تعب، و فيه ردّ على من زعم أنّ نكر بالقلب و أنكر بالعين. و الإنكار: الجحود أيضا، و يحتمل إرادته هنا. و أنكر عليه فعله إنكارا أيضا: عابه، و هذا المعنى محتمل هنا أيضا.

و في رواية ينكر بضمّ أوّله و فتح الكاف على البناء للمفعول، و رفع عدلك على أنّه مفعول ما لم يسمّ فاعله، و مثله روي في يستعظم عفوك.

و العدل: خلاف الجور، و عرّفوه بالتوسّط في الأفعال و الأقوال بين طرفي التفريط و الإفراط، و إذا نسب إلى اللّه عزّ و جلّ فالمراد أنّ أفعاله سبحانه واقعة على وفق الحكمة و النظام الأكمل.

و عاقبه بذنبه معاقبة و عقابا: أخذه به.

و جملة جواب الشرط محذوفة وجوبا بالدلالة المتقدّم عليه، و التقدير: إن عاقبته فلا ينكر عدلك، و ليس المتقدّم بجواب عند جمهور البصريّينّ، لأنّ أداة الشرط لها

406
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء الواحد و الثلاثين ص : 379

اللّهُمَّ فَها أنا ذا قَدْ جِئْتُكَ مُطِيعاً لِأمْرِكَ فِيما أمَرْتَ بِهِ مِنَ الدُعاءِ، مُتَنَجّزاً وَعْدَكَ فِيما وَعَدْتَ بِهِ مِنَ الإِجابَة، إذْ تَقُولُ ادْعُوني أسْتَجِبْ لَكُمْ.

صدر الكلام و لا يتقدّم عليها الجواب.

و ذهب الكوفيّون و المبرّد إلى أنّه لا حذف و المتقدّم هو الجواب‏ «1»، و قس على ذلك.

قوله عليه السّلام: «إن عفوت عنه و رحمته» و استعظم الشي‏ء: رآه عظيما. و نفي استعظام عفوه تعالى إنّما هو بالنظر إلى عظيم عفوه و سعة رحمته، لا من جهة أنّه في نفسه غير عظيم، [ 884] و لذلك عللّه بقوله عليه السّلام: «لأنّك الربّ الكريم ... إلى آخره»، و التعرّض لعنوان الربوبيّة المنبئة عن تبليغ الشي‏ء إلى كماله للإيذان بعليّته العفو عنه و الرحمة له، كما يؤذن بذلك التعرّض لعنوان الكرم، و ليرتّب على ذلك الوصف بعدم تعاظم غفران الذنب العظيم له تعالى، و يدخل فيه غفرانه سبحانه للداعي دخولا أوّليا.

و تعاظمه الأمر: عظم عليه.

و غفر اللّه له غفرا- من باب ضرب- و غفرانا بالضمّ: صفح عنه+.

 [ 885] ها: للتنبيه، و مدخولها ضمير الرفع المخبر عنه باسم الإشارة أصالة.

و قيل: إنّما كانت داخلة على الإشارة فقدّمت. و ردّ بنحو: «ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ»+ «2».

و جملة «قد جئتك» قيل: في محلّ نصب على الحال و العامل فيها معنى التنبيه أو الإشارة.

و قيل: مستأنفة مبيّنة للجملة الأولى‏

______________________________

 (1) شرح الكافية في النحو: ج 2 ص 263.

 (2) سورة آل عمران: الآية 66.

407
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء الواحد و الثلاثين ص : 379

.......... و قيل: في محلّ رفع على أنّها خبر المبتدأ و هو «أنا»، و اسم الإشارة تأكيد للمبتدأ. و كأنّ القائل بذلك توهّم التأكيد اللفظي بإعادة المرادف.

و قيل: خبرثان.

و الصحيح أنّ «ذا» هو الخبر و الجملة بيان، كأنّه لمّا قال: ها اناذا، قيل له:

كيف أنت، فقال: قد جئتك. و لك أن تجعلها مبيّنة من غير تقدير سؤال.

فإن قلت: كيف يحمل «ذا» على «أنا» و هما عبارة عن ذات واحدة هنا، و الحمل يقتضي التغاير؟.

قلت: إنّما حمل عليه باعتبار التغاير الآتي من قبيل البيان بقوله «قد جئتك»، تنزيلا لتغاير الصفة منزلة تغاير الذات، فإنّ قوله: «ها أنا ذا» معناه: فها أنا بعد ذلك المنيب الراجع إليك، لدلالة الكلام من قوله: «قد جئتك» عليه، فوضع اسم الإشارة الموضوع للذات موضع الصفة، للإيذان بالمبالغة في إنابته و رجوعه، حتّى كأنّه شخص آخر غير ذلك الشخص الذي كان متّصفا بتلك الصفات، أ لا ترى أنّك تقول لمن خرج من عندك بوصف و رجع إليك بوصف آخر: رجعت بغير الوجه الذي خرجت به، أي: رجعت على صفة غير الصفة التي خرجت بها، و غرضك بذلك الكناية عن تغاير الذات، كأنّك تقول: ذهب بك و جي‏ء بغيرك، و ما ذلك إلاّ بحسب الوصف مبالغة.

و معنى مجيئه إليه تعالى: إنابته إليه و إقباله عليه و إخلاصه له تعالى على طريقة التمثيل، كما قال تعالى: «إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ» «1».

و مطيعا لأمرك أي: ممتثلا له.

قال ابن فارس: إذا مضى لأمره فقد أطاعه إطاعة، و إذا وافقه فقد طاوعه‏ «2».

______________________________

 (1) سورة الصافات: الآية 84.

 (2) معجم مقاييس اللغة: ج 3 ص 431 مع تقديم و تأخير.

408
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء الواحد و الثلاثين ص : 379

.......... و قوله عليه السّلام: «فيما أمرت به» بيان لمحلّ الإطاعة أو محلّ الأمر، و على الأوّل هو لغو، كقوله تعالى: «لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ» «1»، و على الثاني مستقرّ، أي: لأمرك كائنا فيما أمرت، و قس عليه قوله عليه السّلام: «متنجّزا وعدك فيما وعدت».

و إيثار التعبير بذلك على أن يقول: مطيعا لأمرك بالدعاء، أو لما أمرت به من الدعاء، سلوك لطريق الإبهام ثمّ التفسير، الدالّ على التفخيم و التعظيم كما قرّر في محلّه، مع ما فيه من بسط الكلام حيث الإصغاء مطلوب.

و تنجّز الوعد: استنجزه أي: طلب وفاءه، كما يقال: تكبّر و استكبر. و نصب متنجزا على الحال كما انتصب عليها مطيعا، إلاّ أنّ مطيعا حال من فاعل جئتك، و متنجزا حال من الضمير في مطيعا، و هو العامل فيها، و هذه هي الحال المسمّاة بالمتداخلة.

و معنى التداخل: أن تكون الحال الثانية حالا من ضمير في الحال الأولى، هذا عند من منع تعدّد الحال مع اتّحاد عاملها و صاحبها قياسا على الظرف، و هو الفارسي و ابن عصفور و جماعة، و أجازه الأخفش و ابن جنّي، و وافقهما جمهور المتأخّرين كابن مالك و الرضي و ابن هشام، و عليه فلا تداخل.

غير أنّ متنجزا على كلّ تقدير حال مقدّرة، و هي المستقبلة، بمعنى أنّ زمان عاملها قبل زمانها، و مطيعا حال مقارنة لعاملها، لأنّ الإطاعة مقارنة للمجي‏ء و تنجّز الوعد لا يكون إلاّ بعد إطاعة الأمر بالدعاء، أ لا ترى من قال لك: جئني أكرمك، لا تتنجّز منه الوعد بالإكرام إلاّ بعد المجي‏ء فكذا قوله تعالى: «ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ» «2» لا تطلب منه الإجابة إلاّ بعد الدعاء.

______________________________

 (1) سورة الحجرات: الآية 7.

 (2) سورة غافر: الآية 60.

409
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

شرح الدعاء الواحد و الثلاثين ص : 379

.......... إذا عرفت ذلك فقوله عليه السّلام: «متنجزّا وعدك» أي: مقدّرا تنجّز وعدك، كقوله تعالى: «فَادْخُلُوها خالِدِينَ» «1»، أي: مقدّرين خلودكم، لأنّ زمن الخلود لا يتصوّر مقارنته للدخول، فلم يبق إلاّ تقديره.

و قد أحسن من عبّر عن الحال المقدّرة بأنّها ما يصحّ تقديرها بالفعل و لام كي، نحو: رقى زيد المنبر خاطبا، أي: ليخطب، و كذلك الآية المذكورة، فإنّ التقدير فيها:

ادخلوها لتخلدوا، و بهذا ينكشف معنى التقدير الذي ذكرناه في متنجّزا، إذ حاصل معناه: لا نال منك الإجابة وفاء بالوعد.

قوله عليه السّلام: «إذ تقول ادعوني أستجب لكم» إذ: اسم زمان للماضي، و هي هنا ظرف للأمر و الوعد من قوله: أمرت به و وعدت به، فهما العاملان فيها على طريق التنازع، و الفعل المستقبل بعدها ماض في المعنى، أي: إذ قلت، جاء بصيغة الاستقبال لحكاية الحال الماضية لاستحضار صورتها حتّى كأنّ الأمر و الوعد وقعا الآن بحضوره، و مثله في التنزيل كثير كقوله تعالى: «وَ إِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِ» «2»، «إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ» «3»، «وَ إِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ» «4»، «وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ» «5»، فالفعل في كلّ ذلك مستقبل لفظا لا معنى.

و جملة «تقول» في محلّ جرّ بإضافة «إذ» إليها، و الجملة المحكيّة بالقول- أعني قوله تعالى: «ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ»- في محلّ نصب بتقول.

و الآية في سورة المؤمن، و اتّفق أنّ المحكي بالقول منها هنا وقع محكيّا بالقول في الآية أيضا، و هي قوله تعالى: «وَ قالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ» «6». و قد وقع فيها الأمر بالدعاء

______________________________

 (1) سورة الزمر: الآية 73.

 (2) سورة الأحزاب: الآية 37.

 (3) سورة الأنفال: الآية 11.

 (4) سورة الأنفال: الآية 7.

 (5) سورة البقرة: الآية 127.

 (6) سورة غافر: الآية 60.

410
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 411

.......... و الوعد بالإجابة معا.

و الاستجابة: بمعنى الإجابة.

و قال تاج القرّاء: الإجابة عامّة و الاستجابة خاصّة بإعطاء المسئول‏ «1».

تنبيه‏

قال بعض أكابر السادة في تعليقته على الصحيفة الشريفة ينبغي في نظائر هذه المقامات مراعاة لجادّة سنن الآداب، إمّا الوقف على «تقول» ثم البداءة بقوله عزّ من قائل: «ادْعُونِي»، و إمّا الوصل مع إظهار الهمزة المضمومة على سبيل الحكاية، من غير إسقاطها في الدرج و إن لم تكن هي همزة قطع، لينفصل كلام الخالق عن كلام المخلوق، و لا يتّصل تنزيله الكريم بعبارة البشر و ألفاظ الآدميّين، انته بنصّه.

و تبعه على ذلك غير واحد.

و أنا أقول: أمّا ما ذكره من الوقف على «تقول» ثمّ الابتداء بما بعده، فإنّما كان يلزم لو أدّى الوصل إلى إبهام أنّ كلام الخالق من جملة كلام المخلوق، أو اشتباه أحدهما بالآخر، كما لزم الوقف على «قولهم» من قوله تعالى: «فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَ ما يُعْلِنُونَ» «2»، إذ لو وصل الكلام و لم يوقف على «قولهم» لأوهم أنّ ما بعده مقول الكفّار، أمّا إذا كان كلامه تعالى محكيّا بعد القول فلا داعي إلى الوقف أصلا، لعدم تصوّر فساد في الوصل.

على أنّ لزوم الوقف ليس مخصوصا بهذه الصورة، بل هو حيث كان الوصل مغيّرا للمرام و مشنّعا للكلام، الا ترى أنّ الوقف لازم على «مؤمنين» من قوله‏

______________________________

 (1) لم نتحققه.

 (2) سورة يس: الآية 76.

411
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 411

.......... تعالى: «وَ ما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ» «1»، إذ لو وصل بقوله: «يُخادِعُونَ اللَّهَ»، توهّم أنّ الجملة صفة لقوله: «بمؤمنين»، فأنتفى الخداع عنهم و تقرّر الإيمان خالصا عن الخداع، كما تقول: ما هو بمؤمن مخادع، حتّى لو تعمّد التالي الوصل و قصد هذا المعنى كفر.

فتحقّق أنّ ما استحسنه قدّس سرّه من الوقف على «تقول» لا وجه له، بل هو داخل في قسم الوقف الذي نصّ الفراء على قبحه، لعدم تمام الكلام عنده.

قال ابن الجزري: الوقف ينقسم إلى اختياري و اضطراري، لأنّ الكلام إمّا أن يتمّ أولا، فإن تمّ كان اختياريا، و إن لم يتمّ كان اضطراريا و هو المسمّى بالقبيح، لا يجوز تعمّد الوقف عليه إلاّ لضرورة من انقطاع نفس و نحوه، لعدم الفائدة أو لفساد المعنى، انته ملخّصا «2».

فإن قلت: هذا إنّما يجري في تلاوة القرآن المجيد، و لم ينصّ أحد على اطّراده في كلّ كلام.

قلت: بل هو جار في كلّ كلام فصيح، لا سيّما الحديث و الخطب و الأدعية المأثورة عن أرباب العصمة عليهم السّلام، إذ بمراعاة ذلك تظهر بلاغة الكلام و نظمه و سلاسته و رونقه، و بعدمها خلاف ذلك، كما يدلّ عليه تفسيرهم لفصل الخطاب من قوله تعالى: «وَ آتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَ فَصْلَ الْخِطابِ» «3» بأنّه الكلام البيّن الملخّص الذي بيّنه المخاطب على المرام، من غير التباس لما قد روعي فيه من مظانّ الفصل و الوصل و العطف و الاستئناف و الإضمار و الإظهار و الحذف و التكرار، و لهذا المعنى روعيت الوقوف في التلاوة، و إلا فلا خلاف في أنّه ليس في القرآن وقف واجب‏

______________________________

 (1) سورة البقرة: الآية 8 و 9.

 (2) النشر في القراءات العشر: ج 1 ص 225- 226.

 (3) سورة ص: الآية 20.

412
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 411

.......... و لا حرام.

قال ابن الجزري: قولهم: لا يجوز الوقف على المضاف دون المضاف إليه، و لا الموصول دون صلته، و لا الفعل دون مفعوله و نحو ذلك، إنّما يريدون به الجواز الأدائي، و هو الذي يحسن في القراءة و يروق في التلاوة، و لا يريدون بذلك أنّه حرام و لا مكروه، اللّهم إلاّ أن يقصد بذلك تحريف القرآن و خلاف المعنى، فإنّه يكفر فضلا عن أن ياثم، انته‏ «1».

و أمّا ما ذكره قدّس سرّه من الوصل مع إظهار الهمزة على سبيل الحكاية من غير إسقاطها في الدرج، فهو كلام عجيب ما كان ينبغي أن يصدر عن بعض تلامذته فضلا عن مثله، فإنّ قطع همزة الوصل في الدرج مختّص بضرورة الشعر و لا يرتكبها فحول الشعراء، فكيف تقطع في كلام أفصح الناس في عصره من غير ضرورة؟.

و ما ادّعاه من الحكاية ليس بصحيح، لأنّ الحكاية على ما عرّفوها إيراد لفظ المتكلّم على حسب ما أورده في كلامه، و لفظ ادعوا في كلام اللّه سبحانه لم يقع مقطوع الهمزة بل موصولها كما رأيته في الآية، فكيف يكون إيراده بقطع الهمزة حكاية له؟

و أمّا قوله قدّس سرّه: لينفصل كلام الخالق عن كلام المخلوق، فكلام لا حقيقة له و لا يرجع إلى محصول، و قد حكى اللّه في كلامه المجيد من كلام الكفّار و غيرهم جملا مبدوءة بهمزة الوصل فلم يقطعها، و لا نصّ أحد على استحسان قطعها للغرض المذكور، كقوله تعالى: «قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ»+ «2»، «قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ» «3»، «قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ»+ «4»، «قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً» «5»، «وَ قالُوا

______________________________

 (1) النشر في القراءات العشر: ج 1 ص 230- 231.

 (2) سورة البقرة: الآية 68.

 (3) سورة النمل: الآية 47.

 (4) سورة البقرة: الآية 116.

 (5) سورة الصافات: الآية 97.

413
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 411

اللّهُمَّ فَصَلِّ عَلى‏ مُحَمَّدٍ وَ آلِهِ، وَ القَنِي بِمَغْفِرَتِكَ كَما لَقِيتُكَ بِإقْرارِي، وَ ارْفَعْنِي عَنْ مَصارِعِ الذُنُوبِ كَما وَضَعْتُ لَكَ نَفْسِي، وَ اسْتُرْني بِسِتْرِكَ كَما تَأنَّيْتَنِي عَنِ الإنْتِقامِ مِنِّي.

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ» «1»، «وَ قالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ» «2»، و لا فرق بين كون كلامه تعالى حاكيا و كونه محكيّا إذا كان ما ذكره هو الغرض. و إنّما بسطنا الكلام على ذلك مع ظهور سقوطه، لأنّ كثيرا من المتّسمين بالفضل استحسنه، و ظنّ أنّه نكتة لم يتنبّه لها سواه، و اللّه يقول الحقّ و هو يهدي السبيل+.

 [ 886] الفاء: فصيحة، أي: إذا كان أمري على ما ذكرت فصلّ على محمّد و آله، و من هنا شرع عليه السّلام في الدعاء الذي امتثل فيه قوله تعالى: «ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ»، كما تدلّ عليه الفاء الفصيحة.

و القني بمغفرتك أي: استقبلني و واجهني بمغفرتك كما استقبلتك و واجهتك بإقراري.

يقال: لقيته ألقاه لقاءً- من باب تعب-: إذا استقبلته و واجهته.

قال في المصباح: كلّ شي‏ء استقبل شيئا أو صادفه فقد لقيه‏ «3».

و كلّ شي‏ء جعلته تلقاء وجهك فقد استقبلته.

و الباء: للملابسة، أي: ملتبسا بمغفرتك كما لقيتك ملتبسا بإقراري.

و لقاؤه تعالى بمغفرته له عبارة عن إيصال مغفرته إليه، على تمثيل تلك الحال بحال عبد مذنب أقبل على سيّده و لقيه بالإقرار و الاعتراف بذنوبه، فاستقبله سيّده بالصفح عنه و المغفرة له.

______________________________

 (1) سورة فاطر: الآية 34.

 (2) سورة الزمر: الآية 74.

 (3) المصباح المنير: ص 766.

414
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 411

.......... و الكاف: إمّا للتعليل عند من أثبته، أيّ: للقائي إيّاك بإقراري كقوله تعالى:

 «وَ اذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ» «1»، أو للتشبيه، أي: القني بمغفرتك لقاء شبيها بلقائي لك بإقراري، و وجه الشبه حينئذ التخصيص أو التحقّق، و إلاّ لزم كون المشبّه به دون المشبّه و هو باطل. و يحتمل كونها للمقارنة، و هي التي تكون بمعنى مقارنة الفعلين بوجود الفعلين، نحو: ادخل كما يسلّم الإمام، و كما قام زيد قعد عمرو.

و عبّرّ ابن هشام عن هذا المعنى بالمبادرة، قال: و ذلك إذا اتّصلت ب «ما» في نحو: سلّم كما تدخل، و صلّ كما يدخل الوقت‏ «2».

قال الشريف العلامة في شرح المفتاح: هذه الكاف للقرآن في الوقوع، يقال:

كما جاء زيد جاء عمرو، أي: تقارن مجيئاهما «3».

و على هذا فمعنى عبارة الدعاء: قارن بلقائي بمغفرتك لقائي إيّاك بإقراري، و اللّه أعلم.

فإن قلت: الذي يظهر من تمثيلهم للكاف بهذا المعنى أن يكون مدخولها بعد الطلب مستقبلا و هو في الدعاء ماض، فيتعيّن أحد الوجهين الأوّلين.

قلت: مدخولها في الدعاء مستقبل معنى و إن كان ماضيا لفظا، فهو كقول صاحب المحرّر: و يشتغل المؤذّن بالأذان كما جلس‏ «4».

و قال النواوي في الدقائق: و لفظة «كما» ليست عربيّة، و يطلقها فقهاء العجم بمعنى عند، انته‏ «5».

و دعواه أنّها ليست عربيّة غير صحيح، فقد نقل ابن هشام في المغني أنّ هذا المعنى ذكره ابن الخبّاز في النهاية، و أبو سعيد السيرافي و غيرهما «6».

______________________________

 (1) سورة البقرة: الآية 198.

 (2) مغني اللبيب: ص 237.

 (3) لا يوجد لدينا هذا الكتاب.

 (4) لم نعثر عليه.

 (5) لا يوجد لدينا كتابه.

 (6) مغني اللبيب: ص 237.

415
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 411

.......... و ذكره الرضيّ في شرح الحاجبّية «1»، و البلخي في الوافي، فلا عبرة بقول النواوي.

 [ 887] و رفعه رفعا- من باب منع-: ضد وضعه.

و المصارع: جمع مصرع، اسم مكان من صرعه صرعا- من باب نفع-: إذا طرحه بالأرض، و اشتهر في موضع سقوط القتيل، يقال: هذه مصارع القوم، أي: مواضع سقوطهم قتلى. و لكنّ إضافتها إلى الذنوب ليس بهذا المعنى، بل من باب إضافة المكان إلى من أوقع فيه الفعل، نحو: مجالس القوم، أي: المواضع التي تصرع فيه الذنوب أربابها. و جعل المصرع مصدرا ميميّا تكلّف.

و الكاف في «كما» مثلها فيما تقدّم.

و سترت الشي‏ء سترا- من باب قتل-: حجبته عن المشاهدة، و الستر بالكسر:

ما يستر به، و ستره تعالى عبارة عن صونه للعبد من الفضيحة، أو عدم المحاسبة له على المعصية و ترك ذكرها كي لا يطّلع غيره عليها.

و الكاف: للتشبيه.

و تانّى في الأمر تأنّيا: تمهّل و تمكّث و لم يعجل، و الاسم منه الأناة على وزن حصاة.

و قال الجوهري: تأنّى في الأمر: تنظّر و ترفّق، و استأنى به أي: انتظر به، يقال: تأنّيتك حتّى لا أناة بي، انته‏ «2».

و تعدية التأني ب «عن» لتضمينه معنى التجاوز، أي: تأنّيتني متجاوزا عن الانتقام منّي.

و انتقمت منه انتقاما: عاقبته على ذنبه، و اللّه أعلم+.

______________________________

 (1) شرح الكافية في النحو: ج 2 ص 344.

 (2) الصحاح: ج 6 ص 2273، و فيه تقديم ترفّق.

416
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 411

اللّهُمَّ وَ ثَبِّتْ فِي طَاعَتِكَ نِيَّتي، وَ أحْكِمْ فِي عِبادَتِكَ بَصِيرَتي، وَ وَفِّقْنِي مِنَ الأعْمالِ لِما تَغْسِلُ بِهِ دَنَسَ الخَطايا عَنّي، وَ تَوَفَّني عَلى‏ مِلَّتِكَ وَ مِلَّةِ نَبيّك مُحَمَّدٍ عَلَيْه السّلامُ إذا تَوَفّيْتَنِي.

 [ 888] ثبت الشي‏ء يثبت ثبوتا: دام و استقر فهو ثابت، و ثبت الأمر: صحّ، و يعدّى بالهمزة و التضعيف، فيقال: أثبته اثباتا و ثبّته تثبيتا، و الاسم الثبات بالفتح.

و النيّة: عزم القلب على أمر من الأمور.

و قيل: هي القصد إلى فعل معيّن لعلّة غائيّة. و قد بسطنا الكلام عليها في الروضة العشرين.

و المراد بتثبيت النيّة، إمّا إدامتها و جعلها ثابتة مستقرّة لا تتغير و لا تميل إلى غير الطاعة حتى تصير ملكة للنفس، من ثبت الشي‏ء بمعنى: دام و استقر، أو تصحيحها بجعلها خالصة للّه تعالى، من ثبت الأمر بمعنىّ: صحّ، و لذلك ذهب كثير من علماء الخاصة و العامة إلى بطلان العبادة إذ نوى بفعلها تحصيل الثواب أو الخلاص من العقاب، و قالوا: إنّ هذا القصد مناف للإخلاص الذي هو إرادة وجه اللّه وحده.

و أحكمت الشي‏ء إحكاما: أتقنته و منعته من الفساد.

و البصيرة للباطن بمثابة البصر للظاهر.

و قال الفارابي: البصيرة: اسم لما اعتقدته في القلب من الدين و تحقيق الأمر «1».

و في القاموس: البصيرة عقيدة القلب‏ «2».

و المراد بإحكام بصيرته في عبادته تعالى: جعلها محكمة قويّة لا يتطّرق إليها فساد أو نقيصة من إيثار شي‏ء عليها أو تواني فيها.

و اعلم أنّ العبادة كما تطلق على أعمال الجوارح بشرط قصد القربة، تطلق على التحقّق بالعبدية بارتسام ما أمر السيد جلّ و علا أو نهى، و على هذا تتناول الأعمال‏

______________________________

 (1) ديوان الأدب: ج 1 ص 428.

 (2) القاموس المحيط: ج 1 ص 373.

417
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 411

.......... و العقائد القلبية أيضا، و لا يخفى أنّ إرادة هذا المعنى أنسب و أظهر و إن كان الأوّل أشهر.

قوله عليه السّلام «و وفّقني» أي: اهدني و سدّدني و اجعل إرادتي و حركتي للأعمال التي تغسل بهادنس الخطايا عنّي.

و «من» في قوله: «من الأعمال»: بيانيّة قدّمت على مبيّنها كما تقدّم بيانه.

و الأعمال: جمع محلّى باللام فيستغرق كلّ عمل شرعي بقرينة المقام، و العمل:

كلّ ما صدر من الحيوان بقصده قلبيّا أو قالبيّا فيدخل الاعتقادات و النيّات، و خصّه بعضهم بالجوارح، لأنّ الناوي مثلا لا يقال له: عامل.

و الدنس محرّكة: الوسخ، و هو هنا استعارة لآثار الذنوب بجامع القبح و الكراهيّة، و ذكر الغسل الملائم للدنس ترشيح.

و المراد بغسله: إمّا محوه من القلب و لوح النفس ليكمل استعداده لإفاضة الفيض و الرحمة عليه و يرتفع عنه الانفعال عند لقاء الموت، أو من ديوان الحفظة و يثبت مكانه آثار الطاعات، كما قال تعالى: «إِلَّا مَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ عَمَلًا صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ» «1». هذا إذا كانت الخطايا بين العبد و بين ربّه، فإن كانت بينه و بين العباد فيعوّضهم عن ظلاماتهم و يمحو آثار تبعاتهم لديه.

 [ 889] قوله عليه السّلام: «و توفّني على ملّتك» التوفّي: قبض الشي‏ء على الإيفاء و الإتمام، يقال: توفيّت حقي من فلان و استوفيته بمعنى.

و أسند عليه السّلام التوفّي إليه سبحانه كما أسنده تعالى إلى نفسه في قوله:

 «اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها» «2».

______________________________

 (1) سورة الفرقان: الآية 70.

 (2) سورة الزمر: الآية 42.

418
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 411

.......... قال العلاّمة الطبرسي: لأنّه سبحانه خلق الموت و لا يقدر عليه أحد سواه‏ «1».

و في الفقيه: سئل الصادق عليه السّلام عن قول اللّه عزّ و جلّ: «اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها»، و عن قول اللّه عزّ و جلّ: «قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ»، و عن قول اللّه تعالى: «الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ»، و «الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ»، و عن قوله تعالى: «تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا»، و عن قوله عزّ و جلّ:

 «وَ لَوْ تَرى‏ إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ»، و قد يموت في الساعة الواحدة في جميع الآفاق ما لا يحصيه إلاّ اللّه عزّ و جلّ، فكيف هذا؟ فقال: إنّ اللّه تبارك و تعالى جعل لملك الموت أعوانا من الملائكة يقبضون الأرواح، بمنزلة صاحب الشرطة له أعوان من الإنس يبعثهم في حوائجه، فتتوفّاهم الملائكة، و يتوفّاهم ملك الموت من الملائكة مع ما يقبض هو، و يتوفّاهم اللّه من ملك الموت، انته‏ «2».

و هذا وجه آخر لإسناد التوفّي إليه سبحانه.

و الملّة: الدين، و منه: لا يتوارث أهل ملّتين، أي: دينين، كالإسلام و اليهوديّة.

و قيل: هي معظم الدين و جملة ما تجي‏ء به الرسل‏ «3».

و قال الراغب في الذريعة: الملّة: القود إلى الطاعة، و الدين: الانقياد له، و هما بالذات واحد، لكنّ الدين هو الطاعة، فيقال اعتبارا بفعل المدعو في انقياده إلى الطاعة، و الملّة من أمللت الكتاب، فيقال اعتبارا بفعل الداعي إليها و الشارع لها، و لكونهما بالذات واحدا قال تعالى: «دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً»، فأبدل الملّة من الدين، انته‏ «4».

______________________________

 (1) مجمع البيان: ج 9- 10 ص 182.

 (2) من لا يحضره الفقيه: ج 1 ص 136 ح 368.

 (3) النهاية لابن الأثير: ج 4 ص 360.

 (4) الذريعة إلى مكارم الشريعة: ص 101.

419
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 411

اللّهُمَّ إنّي أتُوبُ إلَيْكَ فِي مَقامِي هذا مِنْ كَبائِر ذُنُوبِي وَ صَغائِرها، وَ بَوَاطِنِ سَيِّئاتِي وَ ظَواهِرِها، وَ سَوالِفِ زَلاّتِي وَ حَوادِثِها، تَوْبَة مَنْ لا يُحَدِّثُ نَفْسَهُ بِمَعْصِيَةٍ، وَ لا يُضْمِرُ أنْ يَعُودَ فِي خَطِيئَةٍ.

و إذا: ظرف للمستقبل متضمّن معنى الشرط، و الجواب هنا محذوف وجوبا، لتقدّم ما هو جواب من حيث المعنى عليه.

و معنى إذا توفيتني: أي إذا أردت وفاتي، تعبيرا بالفعل عن إرادته، كقوله تعالى: «إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا» «1»، «فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ» «2» و أكثر ما يكون ذلك بعد أداة الشرط.

و إنّما جاء بهذه الجملة الشرطيّة- أعني قوله: إذا توفّيتني- لئلاّ يكون قوله: و توفّني دعاء بتعجيل الوفاة لا لأنّه عليه السّلام يكره الوفاة و لقاء اللّه، بل لأنّه يختار ما يختاره اللّه تبارك و تعالى له من الحياة و الوفاة، و اللّه أعلم+.

 [ 890] أكد عليه السّلام الحكم بتوبته ب «إنّ» التي هي لتأكيد النسبة و تحقيقها، للإيذان بأنّه عن اعتقاد جازم و نيّة صحيحة و صميم قلب و صدق رغبة و وفور نشاط، و لرواج التأكيد منه عند المخاطب.

قال شارح الفوائد: قد يؤكّد الحكم لكونه عن جد لا هزل، أو عن اعتقاد و صميم قلب‏ «3».

و قال السعد التفتازاني: و قد يؤكّد الحكم المسلّم لصدق الرغبة فيه و الرواج‏ «4» و المقام بالفتح: موضع القيام، و بالضمّ: موضع الإقامة، و قد وردت الرواية بالوجهين.

و هذا: في محلّ جرّ نعت لمقامي.

______________________________

 (1) سورة المائدة الآية 6.

 (2) سورة النحل: الآية 98.

 (3) لا يوجد لدينا كتابه.

 (4) لم نتحققه.

420
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 411

.......... و قول بعضهم: إنّه بدل منه غلط فاحش، فإنّ المبدل منه في حكم المطروح المعدوم.

و تقييد الحكم بالظرف و وصفه ب «هذا» لتعيين المضارع من قوله: «أتوب» لزمان الحال، بناء على أنّه حقيقة في المستقبل و الحال معا، أو أنّه حقيقة في المستقبل مجاز في الحال، أو لرفع احتمال التجوّز بناء على أنّه حقيقة في الحال مجاز في الاستقبال و هو الأصحّ، و على هذا فالنعت ب «هذا» يفيد أيضا تأكيد الحال بزيادة تعيينه.

و الكبيرة: ما توعّد عليه بخصوصه، كالزنا و شرب المسكر و غيرهما.

و الصغيرة: ما صدر عن فلتة خاطر أو لفتة ناظر مع عدم الجواز و التوعّد عليه، و قيل فيهما غير ذلك. و قد تقدّم الكلام على ذلك مبسوطا.

قوله عليه السّلام: «و بواطن سيّئاتي و ظواهرها» فيه تلميح إلى قوله تعالى:

 «وَ ذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَ باطِنَهُ» «1»، قيل: المراد ما أعلنتم و ما أسررتم.

و قيل: ما عملتم و ما نويتم.

و قيل: ظاهر الإثم أفعال الجوارح، و باطنه أفعال القلوب من الكبر و الحسد و العجب و إرادة الشرّ للمسلمين، و يدخل فيه الاعتقاد و العزم و الظنّ و التمنّي و الندم‏ «2» على أفعال الخيرات و يؤخذ منه أن ما يوجد في القلب قد يؤاخذ به و ان لم يقترن به عمل.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم قال: الظاهر من الإثم المعاصي، و الباطن الشرك و الشكّ في القلب. «3» و هو راجع إلى ما قبله.

______________________________

 (1) سورة الأنعام: الآية 120.

 (2) «ألف» و الذم.

 (3) تفسير عليّ بن إبراهيم القمي: ج 1 ص 215.

421
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 411

.......... و السيّئات: جمع سيّئة، و هي ما نهى عنه الشارع، و يقابلها الحسنة و هي ما ندب إليه.

 [ 891] و سلف الشي‏ء سلوفا- من باب قعد-: مضى و انقضى فهو سالف.

و حدث حدوثا- من باب قعد أيضا-: تجدّد وجوده فهو حادث و الزلاّت: جمع زلّة و هي الخطيئة، من زلّ في منطقه أو فعله يزلّ- من باب ضرب- أي: أخطأ.

و قيل: هي السيّئة بلا قصد.

و يتعيّن أن يراد بالسوالف ما بعد وقوعه‏ «1» من زمان الحال، و بالحوادث ما قرب حدوثه منه لا مطلقا، ليدخل فيها ما سيحدث من الزلاّت كما تقتضيه صيغة الوصف القابلة للأزمنة كلّها، و ذلك بقرينة «2» قوله عليه السّلام: «توبة من لا يحدّث نفسه بمعصية و لا يضمر أن يعود في خطيئة».

و حدّث نفسه بالشي‏ء: أخطره بباله.

و أضمر الشي‏ء إضمارا: عزم عليه بضميره أي: قلبه و باطنه.

و قوله: «بمعصية» أي: بشي‏ء من المعاصي، و كذلك قوله: «في خطيئة»، أي:

في شي‏ء من الخطايا، لأنّ النكرة في سياق النفي ظاهرة في الاستغراق، فهو كقوله تعالى: «وَ مَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ» «3»، أي: ما يريد شيئا من الظلم لأحد من خلقه.

و تعدية العود ب «في» و المعروف تعديته ب «إلى»، لتضمينه معنى الدخول، أي: لا يضمر بأن يعود إلى فسخ التوبة داخلا في خطيئته و اللّه أعلم.

و هاهنا مسائل يناسب إيرادها عبارة الدعاء:

______________________________

 (1) «ألف»: وجوده.

 (2) «ألف» لقرينة.

 (3) سورة آل عمران: الآية 108.

422
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 411

.......... الأولى: التوبة تجب عندنا من جميع الكبائر و الصغائر لعموم الآيات، و لأنّ ترك التوبة عن المعصية صغيرة كانت أو كبيرة إصرار عليها، و هو قبيح لاخلاص منه إلاّ بالتوبة، فهي واجبة في جميع المعاصي، و لأنّ التوبة عن القبيح إنّما تجب لكونه قبيحا و هو عام‏ «1».

و ذهب جماعة من المعتزلة إلى أنّها إنّما تجب من الكبائر المعلوم كونها كبائر أو المظنون فيها ذلك، و لا تجب من الصغائر المعلوم كونها صغائر، لأنّ التوبة إنّما تجب دفعا للضرر، و هو غير حاصل في الصغيرة «2».

و ردّ بأنّ وجه الوجوب هو اشتمال الصغيرة على القبح سواء اشتمل على ضرر أم لا.

الثانية: اختلف في أنّ التوبة هل تصحّ من قبيح دون قبيح و تسمّى التوبة المبعّضة أم لا؟

فذهب أبو هاشم و جماعة إلى عدم الصحّة، قالوا: لأنّ التوبة عن القبيح إنّما هو لقبحه و هو عامّ، فلو تاب من قبيح دون قبيح كشف ذلك عن كونه تائبا لا لقبحه‏ «3».

و ذهب الجمهور من الفريقين إلى الصحّة، قالوا: لأنّ الأفعال تقع بحسب الدواعي و تنتفي بحسب الصوارف، فإذا ترجّح الداعي وقع الفعل، فجاز أن يرجّح فاعل القبائح دواعيه إلى الندم عليها، و ذلك بأنّ يقترن بعض القبائح بأمر زائد، كعظم الذنب أو كثرة الزواجر عنه أو الشناعة عند العقلاء عند فعله، فإنّ الأفعال الكثيرة قد تشترك في الدواعي ثمّ يؤثر صاحب الدواعي بعض تلك الأفعال على بعض، بأن يرجّح دواعيه إلى ذلك الفعل بما يقترن به من زيادة الدواعي، فلا

______________________________

 (1) كشف المراد: ص 418.

 (2) كشف المراد: ص 418.

 (3) كشف المراد: ص 419.

423
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 411

.......... استبعاد في كون قبح الفعل داعيا إلى الندم على ذلك البعض، و لو اشتركت القبائح في قوّة الدواعي اشتركت في وقوع الندم، و لم يصحّ الندم على بعض دون آخر «1».

قال المحقّق الطوسي: و به يتأوّل كلام أمير المؤمنين عليه السّلام و أولاده عليهم السّلام و إلاّ لزم الحكم ببقاء الكفر على التائب منه المقيم على صغيرة «2».

و قال العلامة البهائي قدّس سره في شرح الأربعين: و الأصحّ صحّة المبعّضة، و إلاّ لما صحّت عن الكفر مع الإصرار على صغيرة «3».

و قال العلاّمة الحليّ نوّر اللّه مرقده و لأنّ اليهودي لو سرق درهما ثمّ تاب عن اليهودية دون السرقة فإنّه يكون مسلما بالإجماع‏ «4».

الثالثة: ذهب بعض المعتزلة إلى أنّ التائب إن كان عالما بذنوبه على التفصيل وجب عليه التوبة عن كلّ واحد منها مفصّلا، و إن علم بعضها مفصّلا و بعضها مجملا وجب عليه التفصيل فيما علم مفصّلا و الإجمال فيما علم مجملا «5».

و قال العلامة البهائي: أمّا التوبة المجملة كأن يتوب عن الذنوب على الإجمال من دون تفصيلها و هو ذاكر للتفصيل، فقد توقّف فيها المحقّق الطوسي، و القول بصحّتها غير بعيد، إذ لا دليل على اشتراط التفصيل‏ «6»، و اللّه أعلم.

الرابعة: أختلف في التوبة الموقتة مثل أن لا يذنب إلى سنة، فذهب بعضهم إلى بطلانها، لأنّه إذا ندم على ذنب في وقت و لم يندم عليه في وقت آخر ظهر أنّه لم يندم‏

______________________________

 (1) كشف المراد: ص 420.

 (2) شرح التجريد للقوشجي: ص 423، كشف المراد: ص 420.

 (3) كتاب الأربعين للشيخ البهائي: ص 175.

 (4) كشف المراد: ص 421.

 (5) كشف المراد: ص 422.

 (6) كتاب الأربعين للشيخ البهائي: ص 175.

424
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 411

.......... عليه لقبحه، و إلاّ ندم عليه في جميع الأوقات، و إذا لم يكن ندمه لقبحه لم يكن توبة.

و ذهب آخرون إلى صحّتها كما في الواجبات، فإنّه قد يأتي المأمور ببعضها في بعض الأوقات دون بعضها، و يكون المأتي به صحيحا في نفسه بلا توقّف على غيره، مع أنّ العلّة المقتضية للإتيان بالواجب هي كون الفعل حسنا واجبا، غايته أنّه إذا عصى بعد ذلك جدّد ذلك الذنب وجوب توبة أخرى عليه.

و الحقّ أنّ اشتراط العزم على عدم العود أبدا يقتضي بطلانها، فمن اشترطه- و هم الشيعة و المعتزلة- قال بالبطلان، و من لم يشترطه- و هم الأشاعرة- قال بالصحة.

لكن صرّح بعضهم أنّ النادم على المعصية لا يخلو من ذلك العزم البتّة على تقدير الحضور و الاقتدار.

الخامسة: قال شيخنا البهائي قدّس سرّه في شرح الأربعين: العزم على عدم العود إلى الذنب فيما بقي من العمر لا بدّ منه في التوبة.

و هل إمكان صدوره منه في بقيّة العمر شرط، حتى لو زنى ثمّ جبّ و عزم على أن لا يعود إلى الزنا على تقدير قدرته عليه لم تصحّ توبته، أم ليس بشرط فتصحّ؟ الأكثر على الثاني، بل نقل بعض المتكلّمين إجماع السلف عليه.

و أولى من هذا بصحّة التوبة من تاب في مرض مخوف غلب على ظنّه الموت فيه، أمّا التوبة عند حضور الموت و تيقّن الفوت، و هو المعبّر عنه بالمعاينة، فقد انعقد الإجماع على عدم صحّتها، و نطق بذلك القرآن العزيز، قال سبحانه: «وَ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَ لَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَ هُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً».

و في الحديث عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: أنّ اللّه يقبل توبة العبد ما لم يغرغر.

و الغرغرة: تردّد الماء و غيره من الأجسام المائعة في الحلق، و المراد تردّد الروح وقت النزع.

425
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 411

وَ قَدْ قُلْتَ يا إلهي فِي مُحْكَمِ كِتابِكَ إنَّكَ تَقْبَلُ التَوْبَةَ عَنْ عِبادِكَ وَ تَعْفُو عَنِ السَّيِّئاتِ وَ تُحِبُّ التّوابِينَ، فَاقْبَلْ تَوْبَتِي كَما وَعَدْتَ، وَ اعْفُ عَنْ سَيِّئاتِي كَما ضَمِنْت، وَ أوْجِبْ لِي مَحَبَّتَكَ كَما شَرَطْتَ.

و قد روى محدّثوا الإماميّة عن أئمّة أهل البيت عليهم السّلام أحاديث متكثّرة في أنّه لا تقبل التوبة عند حضور الموت و ظهور علاماته و مشاهدة أهواله.

و ربّما علّل ذلك بأنّ الإيمان برهاني، و مشاهدة تلك العلامات و الأهوال في ذلك الوقت تصيّر الأمر عيانا فيسقط التكليف، كما أنّ أهل الآخرة لمّا صارت معارفهم ضروريّة سقطت التكاليف عنهم.

قال بعض المفسّرين: و من لطف اللّه بالعباد أن أمر قابض الأرواح بالابتداء في نزعها من أصابع الرجلين، ثمّ تصعد شيئا فشيئا إلى أن تصل إلى الصدر، ثمّ تنتهي إلى الحلق، ليتمكّن في هذه المهلة من الإقبال على اللّه تعالى، و الوصيّة، و التوبة ما لم يعاين، و الاستحلال، و ذكر اللّه سبحانه فتخرج روحه و ذكر اللّه على لسانه فيرجى بذلك حسن خاتمته، رزقنا اللّه ذلك بمنّه و كرمه‏ «1»+.

 [ 892] قوله عليه السّلام: «محكم كتابك» إمّا من باب إضافة الصفة إلى الموصوف، أي: كتابك المحكم، لقوله تعالى: «كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ» «2».

و المراد بإحكامه: إتقانه و عدم تطرّق النقض و الاختلال إليه.

و إضافة الصفة إلى الموصوف جائزة في الفصيح عند الكوفيّين، و مال إلى ذلك جماعة من المحقّقين، و الحقّ أنّه كثير لا يمكن دفعه، و تأويل كلّ ذلك تكلّف.

و إمّا من باب إضافة النوع إلى الجنس، فإن من القرآن ما هو محكم و منه ما هو متشابه، قال تعالى: «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ» «3».

______________________________

 (1) كتاب الأربعين للشيخ البهائي: ص 170- 172.

 (2) سورة هود: الآية 1.

 (3) سورة آل عمران: الآية 7.

426
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 411

.......... و اختلف في تفسير المحكم و المتشابه على أقوال سنذكرها في الروضة الثانية و الأربعين إن شاء اللّه، و نكتفي هنا بما روي عنهم عليهم السّلام: إنّ المحكم ما يعمل به و المتشابه ما اشتبه على جاهله‏ «1».

و قال عليّ بن إبراهيم: المحكم: ما استغني بتنزيله عن تأويله، كقوله تعالى:

 «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ وَ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ» و المتشابه: ما لفظه واحد معناه مختلف كالفتنة «2».

و قوله: «إنّك تقبل التوبة و تعفو عن السيّئات» إشارة إلى قوله تعالى في سورة الشورى: «وَ هُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَ يَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ» «3».

و اللام في التوبة: لتعريف الحقيقة، و هي هنا تفيد الاستغراق، لأنّ المقصود بها الماهيّة من حيث وجودها في الخارج في ضمن جميع أفرادها، و هي التي تخلفها «كلّ» حقيقة، نحو: «خُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً» «4».

و المعنى: يقبل كلّ توبة.

و عدم استثناء توبة المعاين- و هو من حضره الموت- إمّا لعدم اعتدادها توبة، كما أشار إليه سبحانه بقوله: «قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ» «5»، قال بعض محقّقي المفسّرين:

إيثار «قال» على «تاب» لإسقاط ذلك عن درجة الاعتبار، و التحاشي عن تسميته توبة.

______________________________

 (1) تفسير البرهان: ج 1 ص 271.

 (2) تفسير علي بن إبراهيم القمي: ج 1 ص 7 مع اختلاف يسير في العبارة.

 (3) سورة الشورى: الآية 25.

 (4) سورة النساء: الآية 28.

 (5) سورة النساء: الآية 18.

427
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 411

.......... و إمّا لبيان حكمها في محلّ آخر من القرآن، فكان ذكره فيما ذكر فيه ذكرا له فيما لم يذكر فيه، لأنّ القرآن في حكم كلام واحد و لا يجوز فيه التناقض، كما نصّ عليه الزمخشري في قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً» «1».

قوله عليه السّلام: «و تحبّ التوّابين» إشارة إلى قوله تعالى في سورة البقرة: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَ يُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ» «2».

و التوّاب: صيغة مبالغة، و هي إمّا باعتبار الكيفيّة، فيكون معناه، من لا يعود الى الذنب بعد التوبة أبدا، و إمّا باعتبار الكمّية، فيكون معناه: كثير التوبة، أي:

كلّما جدّد ذنبا جدّد توبة.

و في الحديث من طرق الخاصّة و العامة: إنّ اللَّه يحبّ من عباده المفتن التوّاب‏ «3»، أي: الممتحن بالذنوب، من فتنه بمعنى: امتحنه، أي: يمتحن بالذنب ثمّ يتوب، ثمّ يعود ثمّ يتوب.

و معنى إنّ اللّه يحبّ التوّابين و يحبّ المتطهّرين: أنّه يحب التوّابين من النجاسات الباطنة و هي الذنوب، و يحبّ المتطهّرين من النجاسات الظاهرة.

و قيل: يحبّ التوّابين من الكبائر و يحبّ المتطهّرين من الصغائر.

و في الحديث عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: إذا تاب العبد توبة نصوحا أحبّه اللّه فستر عليه في الدنيا و الآخرة «4».

 [ 893] قوله عليه السّلام: «فاقبل توبتي كما وعدت» الفاء: فصيحة، أي: إذا كان هذا قولك فاقبل توبتي. و الكاف: للتعليل، أي: لوعدك بقبول التوبة، أو للتشبيه من باب وضع الخاصّ موضع العامّ، إذ قبول التوبة و الوعد يشتركان في أمر و هو

______________________________

 (1) تفسير الكشاف: ج 4 ص 135.

 (2) سورة البقرة: الآية 222.

 (3) الكافي: ج 2 ص 432 ح 4.

 (4) الكافي: ج 2 ص 430- 431 ح 1.

428
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 411

.......... الإحسان، فهو في الأصل بمنزلة «وَ أَحْسِنْ كَما أحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ»، ثمّ عدل عن ذلك الأصل إلى خصوصيّة المطلوب و هو القبول و الوعد. و قد تقدّم هذا البيان في نظير هذه العبارة في الرياض السابقة. و قس على ذلك قوله عليه السّلام: «كما ضمنت» و «كما شرطت». و ضمنت الشي‏ء ضمانا- من باب علم-: كفلته و التزمته، و الشرط: إلزام الشي‏ء و التزامه، يقال: شرطت عليه ذلك شرطا- من باب قتل- أي: الزمته إيّاه، و شرطت له ذلك أي: التزمته له، و هو معنى قوله: «كما شرطت» أي: التزمت، هذا.

و لمّا كان الشرط من قبيل ربط الاحكام بالأسباب، و كان مفهوم قوله تعالى:

 «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ» «1» من تاب أحبّه اللّه تعالى، عبّر عن حكمه سبحانه على نفسه بمحبّة التوّابين بالشرط، فقال: «كما شرطت»، و لم يقل: كما قلت أو كما أخبرت، إيذانا بلزوم الجزاء و إلزاما بالإنجاز و الوفاء، إذا كان الجزاء لازما للشرط و الشرط ملزوما له.

و آثر التعبير بذلك في طلب محبّته تعالى دون غيرها ممّا تقدّم اعتناء بشأنها و اهتماما بحصولها، إذ كانت هي بيت القصيدة و فراء المصيدة، و هذا من بقر خواصر البلاغة و إصابة شواكل البيان.

فإنّ قلت: لم قال في هذه الفقرة: «و أوجب لي محبّتك»، و لم يقل: و أحبّني كما قال: «فاقبل توبتي و اعف عن سيّئاتي»؟ و من أين فهم إيجاب شرطه تعالى لمحبّة التوّابين حتّى عبّر بذلك؟

قلت: فهم الإيجاب من تأكيد النسبة و تحقيق الحكم ب «إنّ» المؤكّدة في قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ»، إذ كان التأكيد بها مؤذنا بتحقّق مضمونها و موجبا

______________________________

 (1) سورة البقرة: الآية 222.

429
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه ص : 411

وَ لَكَ يا رَبِّ شَرْطِي أنْ لا أعُودَ فِي مَكْروهِكَ، وَ ضَمانِي أنْ لا أَرْجِعَ فِي مَذْمُومكَ، وَ عَهْدِي أنْ أهْجَرَ جَمِيعَ مَعاصِيكَ.

للجزم بحصوله، و أنّه واجب ثابت لا محالة، و الإيجاب هنا مراد به معناه اللغوي، من وجب الشي‏ء: إذا لزم و ثبت، و اللّه أعلم+.

 [ 894] الواو: إمّا ابتدائيّة أو حاليّة، أي: و الحال أنّ لك يا رب شرطي.

و الاعتراض بالنداء بين المبتدأ و خبره للمبالغة في التضرّع، و إظهار كمال الخضوع، و عرض الاعتراف بربوبيّته مع الإيمان به.

و تقديم المسند على المسند إليه لإفادة التخصيص أي شرطي مقصور على الحصول لك لا يتجاوره إلى الحصول لغيرك.

و شرطي أي: التزامي.

و أن: مصدريّة في محل نصب بشرطي. و المعنى: لك التزامي عدم العود فيما تكرهه، و قس على ذلك ما بعده.

و الضمان هنا بمعنى الالتزام أيضا.

و تعدية العود و الرجوع ب «في» إمّا لمرادفتها إلى، نحو قوله تعالى: «فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ» «1» أي إلى أفواههم، أو لتضمينهما معنى التمكّن أو الدخول، أي: متمكنا او داخلا في مكروهك و في مذمومك قال الرضي: قيل: «في» بمعنى «الى» في قوله تعالى: «فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ»، و الأولى أن نقول: هي بمعناها و المراد التمكّن‏ «2» انته.

و العهد هنا بمعنى الموثق.

و هجرت الشي‏ء هجرا- من باب قتل: تركته و رفضته.

______________________________

 (1) سورة إبراهيم: الآية 9.

 (2) شرح الكافية في النحو: ج 2 ص 327.

430
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيهان ص : 431

..........

تنبيهان‏

الأوّل‏

: اشترط المعتزلة في صحّة التوبة ترك المعاودة لذلك الذنب الذي تاب منه أيّ ذنب كان، و منعه الأشاعرة، لأنّ الشخص قد يندم على الأمر زمانا ثمّ يبدو له و اللّه مقلّب القلوب.

قال الآمدي: التوبة مأمور بها فتكون عبادة، و ليس من شرط صحّة العبادة المأتي بها في وقت عدم المعصية في وقت آخر، بل غايته إذا ارتكب ذلك الذنب مرّة ثانية وجب عليه توبة أخرى‏ «1».

الثاني‏

: لا يخفى أنّه لا يليق بغير المعصوم قراءة هذه الفقرات من الدعاء على إطلاقها، لأنّ مضمونها لا يفي به إلاّ من عصمه اللّه من جميع المعاصي صغيرها و كبيرها، و أمّا غيره فما أقلّ وفاءه بهذا الشرط و الضمان و العهد، كيف؟ و هو عاجز عن مخالفة هواه، غير قادر على مقاتلة دواعيه و قواه، لا يصبر عن اتّباع الشهوات، و لا يستخدم قواه في ميثاق الطاعات، و بذلك فسّر قوله تعالى: «خُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً» «2»، فمن أخلف اللّه تعالى شرطه و وعده و نقض ضمانه و عهده، فقد عرّض نفسه لما استوجبه الذين وصفهم اللّه سبحانه بقوله: «وَ مِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَ لَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ. فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَ تَوَلَّوْا وَ هُمْ مُعْرِضُونَ. فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى‏ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ وَ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ» «3».

فينبغي لمن يقرأ هذا الدعاء أن يشترط عند قراءة هذه الفقرات التوفيق‏

______________________________

 (1) لم نعثر عليه.

 (2) سورة النساء: 28.

 (3) سورة التوبة: الآية 75 و 76 و 77.

431
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

الثاني ص : 431

اللّهُمَّ إنَّكَ أعْلَمُ بِما عَمِلْتُ فَاغْفِرْ لِي ما عَلمْتَ، وَ اصْرِفْنِي بِقُدْرَتِكَ إلى‏ ما أحْبَبْتَ.

و العصمة منه عزّ و جلّ، تحرّجا من أن يعطي اللّه سبحانه من نفسه ما لا يقدر عليه.

كان يحيى بن معاذ يقول: إلهي لا أقول لا أعود لما أعرف من خلقي، و لا أضمن ترك الذنوب لما أعلم من ضعفي.

ثمّ تفكّر و علم أنّه لا يجوز في طريق العلم أن لا يقول العبد: لا أعود، لأنّه شبيه بالجرأة على اللّه تعالى، فعاد إلى مناجاته و قال: إلهي بل أقول لا أعود لعلّي أن أموت قبل أن أعود «1».

و قال رجل لمالك: يا أبا عبد اللّه إنّي تعلّقت بأستار الكعبة فتبت من كلّ ذنب، و حلفت أن لا أعصي اللّه تعالى طرفة عين فيما أستقبل، فقال له: و يحك و من أعظم منك معصية، تتآلى على اللّه أن لا ينفذ حكمه فيك‏ «2».

و مع هذا فلا بدّ في صدق الإنابة و نصح التوبة من المجاهدة في الوفاء و الثبات في العزيمة و النفاذ في الأمر، فإنّه إذا عزم المرء على رفض الشهوات و إخلاص التوبة عن السيئات، فربّما تتواتر عليه أسباب الشهوات و تتوفّر لديه جهات الملذّات، على ما عليه سنة اللّه تعالى في نقض العزائم و فسخ الهمم، فإن كانت النفس عزوفا أبيّة و العزيمة صارمة قويّة و التوبة نصوحا رضيّة، لم يسف بما عزم عليه من الصبر و الكفّ تهيؤ تلك الأسباب، و لم يستهوه الشيطان من تلك الشعاب، و إن ألقت النفس بيديها إليها و لم يكن حبل العزيمة مغارا و لا عود الإنابة نضارا، فهناك كلّ يوم توبة منقوضة و إنابة مرفوضة، و اللّه المستعان+.

 [ 895] هذا سؤال منه عليه السّلام لمغفرة ما اللّه أعلم به منه، ممّا هو عند اللّه سيّئة و معصية في حقّه و هو لا يعلمها فعملها. و نظير ذلك قول جدّه سيد الأوصياء صلوات اللّه‏

______________________________

 (1) لم نعثر عليه.

 (2) لم نعثر عليه.

432
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

الثاني ص : 431

اللّهُمَّ وَ عَلَيَّ تَبِعاتٌ قَدْ حَفِظْتُهُنَّ وَ تَبِعاتٌ قَدْ نَسِيتُهُنَّ، وَ كُلُّهُنَّ بِعَيْنِكَ الَّتي لا تَنامُ وَ عِلْمِكَ الَّذِي لا يَنْسى‏، فَعوِّضْ مِنْها أهْلَها، وَ احْطُطْ عَنِّي وزْرَها، وَ خَفِّفْ عَنِّي ثِقْلَها، وَ اعْصِمْني مِنْ أنْ أقارِفَ مِثْلَها.

عليه في دعائه: اللّهم اغفر لي ما أنت أعلم به منّي‏ «1».

قال العلاّمة الشيخ كمال الدين في شرح نهج البلاغة: و مغفرة اللّه للعبد تعود إلى ستره عليه أن يقع في مهاوي الهلكة في الآخرة، أو يكشف مقابحه لأهل الدنيا فيها، و كلّ ذلك يعود إلى توفيقه لأسباب السعادة، و جذبه بها عن متابعة الشيطان في المعاصي قبل صدورها منه، أو قبل صيرورتها ملكات في جوهر نفسه، انته‏ «2».

و صرفته عن الشي‏ء و إليه صرفا- من باب ضرب-: رددته.

و لمّا سأل عليه السّلام مغفرة ما اللّه أعلم به منه من السيّئات، أتبع ذلك بسؤال صرفه و ردّه عنها إلى محبوبها تعالى من الحسنات لمحو تلك السيّئات، كما قال تعالى: «إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ» «3».

و روى عبد اللّه بن عباس، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: لم أر شيئا أحسن طلبا و لا أسرع إدراكا من حسنة حديثة لذنب قديم، إنّ الحسنات يذهبن السيّئات ذلك ذكرى للذاكرين‏ «4»+.

 [ 896] على: للاستعلاء، و هو إمّا حقيقة نحو: زيد على السطح، و إمّا مجاز نحو: عليه دين، و مثله: «و عليّ تبعات»، و هي الظلامات التي يطلبها المظلوم عند الظالم، سميّت بذلك لإتباع صاحبها بها.

و حفظته حفظا- من باب علم-: أحصيته، و منه: الحفظة للملائكة الذين‏

______________________________

 (1) نهج البلاغة: ص 104، الخطب 78.

 (2) شرح نهج البلاغة لابن ميثم: ج 2 ص 213.

 (3) سورة هود: الآية 114.

 (4) الدرّ المنثور: ج 3 ص 253 مع اختلاف يسير في العبارة.

433
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

الثاني ص : 431

.......... يحصون أعمال العباد. و الجملة في محلّ رفع صفة لتبعات، و مثله قد نسيتهنّ.

و كلّهن: أي كلّ فرد من النوعين، لأنّ كلا كما تفيد استغراق أفراد المنكّر نحو:

 «كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ»+ «1»، تفيد استغراق أفراد المعرّف المجموع نحو: «وَ كُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً» «2».

و الباء من قوله: «بعينك»: للملابسة، أي: متلبّسة بعينك.

و العين: حقيقة في الجارحة، و هي هنا جارية مجرى التمثيل، و الكلام استعارة تمثيليّة، كما صرّح به الزمخشري في آخر سورة الطور في قوله تعالى: «وَ اصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا»، قال: و هو مثل، أي: بحيث نراك و نكلؤك، انته‏ «3».

و بيانه: أنّه مثّل إحاطته تعالى بجميع تبعاته بحيث لا يشذّ و لا يغيب عنه شي‏ء منها، بإحاطة الناظر بعينه إلى الشي‏ء به، بحيث لا يعزب و لا يغيب عنه شي‏ء منه.

و وصف العين بعدم النوم لبيان استمرار الإحاطة، إذ لو اتّصفت به احتمل شذوذ شي‏ء من مدركاتها عنها في حالة النوم.

و قوله: «لا ينسى» أي: لا يذهب عنه شي‏ء و لا يخفى عليه أمر. و في إسناد النسيان إلى العلم إشارة إلى أنّ علمه تعالى عين ذاته، و ليس علمه صفة زائدة على ذاته ليتعلّق النسيان بما تعلّق به العلم.

و الفقرة الأولى إشارة إلى كونه تعالى عالما بالكلّ محيطا به مطلّعا على كلّياته و جزئياته، و الثانية إشارة إلى ثبات ذلك العلم و رسوخه، أي: ما علمت منها لا تنساه.

 [ 897] و عوّضته من الشي‏ء تعويضا: أعطيته عوضا و هو البدل.

فإن قلت: لم أعاد الضمير أوّلا بصيغة الجمع فقال: حفظتهنّ و نسيتهنّ و كلّهن،

______________________________

 (1) سورة آل عمران: الآية 185.

 (2) سورة مريم: الآية 95.

 (3) تفسير الكشاف: ج 4 ص 415.

434
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيهان: ص : 435

 

.......... ثمّ أعاده بصيغة الإفراد فقال: منها و أهلها و وزرها و ثقلها و مثلها؟

قلت: قد نصّ علماء العربيّة على أنّ الأحسن و الغالب في جمع المؤنّث غير العاقل إن كان للقلّة أن يعاد الضمير إليه بصيغة الجمع، و إن كان للكثرة أن يعاد بصيغة الإفراد، كما قال تعالى: «إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً» «1» إلى أن قال:

 «مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ» «2»، فأعاد «منها» بصيغة الإفراد على الشهور و هي للكثرة، ثمّ قال:

 «فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ» «3»، فأعاده جمعا على أربعة حرم و هي للقلّة.

و ذكر الفرّاء لهذه القاعدة سرّا لطيفا، و هو أنّ المميّز مع جمع الكثرة- و هو ما زاد على العشرة- لمّا كان واحدا وحّد الضمير، و مع جمع القلّة لمّا كان جمعا جمع الضمير «4».

إذا عرفت ذلك فإعادته عليه السّلام الضمير أوّلا بصيغة الجمع نظرا إلى هذه القاعدة، إذ كان جمع السلامة مذكّرا كان أو مؤنثا موضوعا للقلّة كما نصّ عليه النحويّون، و إعادته ثانيا بصيغة الإفراد نظرا إلى قوله: «كلّهن» لدلالته على الكثرة، و اللّه أعلم.

تنبيهان:

الأوّل‏

: ذهب المعتزلة إلى أن ردّ المظالم شرط في صحّة التوبة، فقالوا: لا تصحّ التوبة عن مظلمة دون الخروج عن تلك المظلمة، كردّ المال أو الاستبراء منه، أو الاعتذار إلى المغتاب و استرضائه إن بلغه الغيبة و نحو ذلك.

و ذهب أصحابنا الإماميّة و وافقهم الأشعريّة إلى أنّ ذلك واجب برأسه‏

______________________________

 (1) سورة التوبة: الآية 36.

 (2) سورة التوبة: الآية 36.

 (3) سورة التوبة: الآية 36.

 (4) لم نتحقّقه.

 

435
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

الثاني: ص : 436

.......... لا مدخل له في الندم على ذنب آخر.

قال الآمدي: إذا أتى بالمظلمة كالقتل و الضرب مثلا وجب عليه أمران:

التوبة و الخروج عن المظلمة، و هو تسليم نفسه مع الإمكان ليقتصّ منه، و من أتى بالتوبة فقد أتى بأحد الواجبين، و من أتى بأحد الواجبين فلا تكون صحّة ما أتى به متوقّفة على الإتيان بالواجب الآخر، كما لو وجب عليه صلاتان فأتى بإحداهما دون الأخرى‏ «1».

قال‏ «2» شيخنا البهائي قدّس سرّه: و اعلم أن الإتيان بما تستتبعه الذنوب، من قضاء الفوائت و أداء الحقوق و التمكين من القصاص و الحدّ و نحو ذلك، ليس شرطا في صحّة التوبة بل هذه واجبات برأسها، و التوبة صحيحة بدونها، و بها تصير أكمل و أتمّ‏ «3» انته.

الثاني:

ذهب أصحابنا رضوان اللّه عليهم أنّ الذنب إذا لم يكن مستتبعا لأمر آخر يلزم الإتيان به شرعا، كلبس الحرير و شرب الخمر و سماع الغناء، كفى الندم عليه و العزم على عدم العود إليه، و لا يجب سوى ذلك، و إن كان مستتبعا لأمر آخر من حقوق اللّه أو من حقوق الناس ماليّا أو غير مالي وجب مع التوبة الإتيان به، و ربّما كان المكلّف مخيّرا بين الإتيان بذلك الأمر و بين الاكتفاء بالتوبة من الذنب المستتبع له.

فحقوق اللّه الماليّة كالعتق في الكفّارة مثلا يجب الإتيان بها مع القدرة، و غير الماليّة إن كان غير حدّ كقضاء الفوائت و صوم الكفّارة فكذلك، و إن كان حدّا فالمكلّف مخيّر إن شاء أقرّ بالذنب عند الحاكم ليقام عليه، و إن شاء ستره و اكتفى‏

______________________________

 (1) لم نعثر عليه.

 (2) «الف»: و قال.

 (3) كتاب الأربعين للشيخ البهائي: ص 174- 175.

436
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

الثاني: ص : 436

.......... بالتوبة، فلا حدّ عليه حينئذ إن تاب قبل قيام البيّنة به عند الحاكم.

و أمّا حقوق الناس الماليّة فيجب تبرئة الذمّة منها بقدر الإمكان، فإن مات صاحب الحقّ فورثته في كلّ طبقة قائمون مقامه، فمتى‏ «1» ردّه إليهم هو أو ورثته أو أجنبي متبرّع برئت ذمّته، و إن بقي إلى يوم القيامة فلفقهائنا رضوان اللّه عليهم في مستحقّه أقوال:

الأوّل: أنّه لصاحب الأوّل.

الثاني: أنه لآخر وارث و لو بالعموم كالإمام.

الثالث: أنّه ينتقل إلى اللّه سبحانه.

و الأوّل هو الأصحّ كما دلّت عليه الروية الصحيحة عن الصادق عليه السّلام‏ «2».

و أمّا حقوقهم غير الماليّة فإنّ كان إضلالا وجب الإرشاد، و إن كان قصاصا وجب إعلام المستحقّ له و تمكينه من استيفائه، فيقول له: أنا الذي قتلت أباك مثلا فإن شئت القصاص فاقتصّ مني و إن أحببت العفو فاعف عنّي، و إن كان حدّا كما في القذف فإن بلغ المقذوف مثلا وجب التمكين، و إن لم يبلغه فهل يجب إعلامه به أم لا؟ وجهان من كونه حقّ آدمي فلا يسقط إلاّ بإسقاطه، و من كون الإعلام تجديدا للأذى و تنبيها على ما يوجب البغضاء، و مثل هذا يجري في الغيبة أيضا «3».

و كلام المحقّق الطوسي‏ «4» و تلميذه العلاّمة طاب ثراهما يعطي عدم وجوب الإعلام‏ «5».

______________________________

 (1) «الف»: فمن.

 (2) وسائل الشيعة: ج 3، أبواب الدين و القرض ص 83 ح 3.

 (3) راجع كشف المراد: ص 421.

 (4) كشف المراد: ص 422.

 (5) كشف المراد: ص 422.

437
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

الثاني: ص : 436

.......... إذا عرفت ذلك فسؤاله عليه السّلام ربّه أن يعوّض من التبعات التي عليها أهلها و يحطّ عنه وزرها، إنّما هو للتبعات التي لا يتمكّن من الخروج عنها إلى أصحابها، إمّا لعجزه عن ذلك أو لنسيانه لها كما صرّح به، و كذلك ورد في الحديث: أنّ من كانت عليه مظلمة و لم يمكنه ردّها على صاحبها و التحلّل منه و سأل اللّه تعالى أن يقضيها عنه قضاها اللّه تعالى عنه و أرضى صاحبها عنه‏ «1».

و روى ثقة الإسلام بإسناده عن معتب قال: دخل محمّد بن بشر الوشاء على أبي عبد اللّه عليه السّلام يسأله أن يكلّم شهابا أن يخفّف عنه حتى ينقضي الموسم، و كانت له عليه ألف دينار، فأرسل إليه فأتاه فقال له: قد عرفت حال محمّد و انقطاعه إلينا، و قد ذكر أنّ لك عليه ألف دينار و لم تذهب في بطن و لا فرج، و إنّما ذهبت دينا على الرجال و وضائع وضعها و انا أحبّ أن تجعله في حلّ، و قال: لعلّك ممّن يزعم أنه يقتصّ من حسناته فتعطاها، فقال: كذلك في أيدينا، فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: اللّه أكرم و أعدل من أن يتقرّب إليه عبده فيقوم في الليلة القرّة أو يصوم في اليوم الحار أو يطوف بهذا البيت، ثمّ يسلبه ذلك فتعطاه، و لكن للّه فضل كثير يكافئ المؤمن، قال: فهو في حلّ‏ «2».

و في هذا الحديث دلالة ظاهرة على أنّ المكافاة و التعويض منه تعالى يكون من غير اقتصاص من حسنات العبد إذا عجز عن ردّ التبعات، و اللّه أعلم.

رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين ؛ ج‏4 ؛ ص438

 

له عليه السّلام: «و احطط عنّي وزرها» الحطّ: في الأصل للأجسام و هو إنزالها عن علوّ إلى سفل، يقال: حطّوا الأحمال عن ظهور الدواب، ثمّ استعمل في المعاني.

______________________________

 (1) لم نعثر عليه.

 (2) الكافي: ج 4 ص 36 ح 2 باب تحليل الميت.

438
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

الثاني: ص : 436

.......... قال الزمخشري في الأساس: و من المجاز: حطّ اللّه أو زارهم و حطّ اللّه وزرك‏ «1».

و الوزر: الثقل، و قيل: الحمل، و عن ابن الأعرابي: حمّلته الوزر، و هو الحمل الثقيل‏ «2».

و المراد بحطّه عنه: مغفرته له آثام تلك التبعات بقضائها عنه. و هو استعارة تمثيليّة، كما قاله الزمخشري في قوله تعالى: «وَ وَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ» «3» و الحطّ هاهنا من ترشيح الاستعارة التمثيليّة. و مثله قوله عليه السّلام: «و خفّف عني ثقلها».

و معنى تخفيف ثقلها: أن لا يكون عليه ثقل.

قال بعضهم: و انّما سميّت الذنوب أوزارا و أثقالا، لما يستحقّ عليها من العقاب العظيم.

فإن قلت: ما مفاد الفقرة الثانية، هل هو تأكيد أو تأسيس؟ قلت: بل هو تأسيس، لأنّ المراد بالوزر في الفقرة الأولى: ما يترتّب على تلك التبعات من الإثم و القصاص، و بالثقل في الفقرة الثانية: ما غمّه و همّه من أمرها، و العرب تجعل الهمّ ثقيلا، و هو أحد الوجوه التي فسّر بها قوله تعالى: «وَ وَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ» «4».

قوله عليه السّلام: «و اعصمني من أن أقارف مثلها» عصمه اللّه من المكروه يعصمه- من باب ضرب-: حفظه و وقاه. و قارف الذنب: قاربه و خالطه.

و قال الزمخشري في الفائق: قارف الذنب و اقترفه: إذا التبس به، و يقال لقشر

______________________________

 (1) أساس البلاغة: ص 131.

 (2) أساس البلاغة: ص 673.

 (3) تفسير الزمخشري: ج 4 ص 770.

 (4) سورة الشرح الآية 2.

439
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

الثاني: ص : 436

اللّهُمَّ و انّه لا وفاءَ لِي بِالتوْبَةِ إلاّ بعصْمَتِكَ، وَ لا اسْتمساكَ بي عَنِ الخَطايا إلاّ عن قُوَّتِكَ، كلّ شي‏ء: قرفه، لأنّه ملتبس به‏ «1».

و المراد بعصمته منها: حسم أسبابها و عدم الإعداد لها، و اللّه أعلم+.

 [ 898] الضمير في «إنّه»: للشأن و مدار وضعه موضعه مع عدم سبق ذكره الإيذان بأنه من الشهرة و النباهة بحيث يستحضره كلّ أحد فهي مغنية عن ذكره. و السرّ في تصدير الجملة به التنبيه من أوّل الأمر على فخامة مضمونها مع ما فيه من زيادة التحقيق و التقرير، لأنّ الضمير لا يفهم منه من أوّل الأمر إلاّ شأن مبهم له خطر، فيبقى الذهن مترقبا لما يعقبه ممّا يفسّره و يزيل إبهامه، فيتمكّن عند وروده عليه فضل تمكن، كأنّه قيل: إنّ الشأن الخطير هذا، أي: لا وفاء لي بالتوبة إلاّ بعصمتك إلى آخره.

يقال: وفيت بالعهد و الوعد أفي به وفاء.

و العصمة لغة: اسم من عصمه اللّه: إذا حفظه و وقاه، و عرفا: فيض إلهي يقوى به العبد على تحرّي الخير و تجنّب الشرّ. و استمسك عن الأمر: كفّ عنه.

و القوّة: تطلق على كمال القدرة و شدّة الممانعة و الدفع، و يقابلها الضعف.

و من العجيب‏ «2» ما وقع لبعض المعاصرين ممّن اعتنى بإعراب الصحيفة الشريفة، حيث قال: «لا» من قوله: «لا وفاء لي بالتوبة»: نافية للجنس و وفاء اسمها، تركّب معها فبني على الفتح، و الظرفان من قوله: «لي» و «بالتوبة» متعلّقان به، و قوله: «إلاّ بعصمتك» الخبر و مثله ما بعده، انته.

و هذا يدلّ على قصور بيّن منه في علم النحو، فإنّه أخطأ بهذا الإعراب في ثلاثة مسائل:

______________________________

 (1) الفائق: ج 3 ص 175.

 (2) «الف»: العجب.

440
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

الثاني: ص : 436

.......... إحداها: قوله: الظرفان من قوله «لي» و «بالتوبة» متعلّقان باسم «لا» مع تصريحه ببنائه على الفتح لتركبّه معها، و هو خلاف قول سيبويه و جمهور النحويّين من أن اسم «لا» إذا كان عاملا فيما بعده لزم تنوينه و إعرابه‏ «1».

قال الرضي: الظرف بعد المنفي في نحو: «لا تثريب عليكم اليوم» عند سيبويه و جمهور النحويين لا يتعلّق بالمنفي و إلاّ كان مضارعا للمضاف فانتصب كما في لا خيرا من زيد، بل الظرف متعلّق بمحذوف، و هو خبر المبتدأ، كما في قولك: عليك تثريب، و اليوم معمول لعليكم، و يجوز العكس، و كذا قوله تعالى: «لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ» اليوم خبر المبتدأ و إن كان جثة، إذا المعنى: لا وجود عاصم على حذف المضاف، و قوله: «من أمر اللّه» متعلق بما دلّ عليه «لا عاصم» أي:

لا يعصم من أمر اللّه، فلا تظنّن أن مثل هذا الجارّ و المجرور متعلّق بالمنفي و إن أوهم ذلك في الظاهر، بل مثله متعلّق بمحذوف، انته‏ «2».

الثانية: جعله «لي» لغوا متعلّقا باسم «لا»، و جهله أنّه هو خبر الاسم مع تعيّنه لذلك.

الثالثة: جعله «إلاّ بعصمتك» الخبر، مع ظهور أنّه ليس محطّ الفائدة و تمام الكلام بدونه، و من كان هذا مبلغة من العربيّة كيف يتجّرأ على شرح كلام المعصوم نسأل اللّه الهداية.

فان قلت: فما الصواب في إعراب الفقرتين المذكورتين؟.

قلت: الصواب أن قوله: «لي» و «بي» متعلّق كلّ منهما بمحذوف هو الخبر، أي: لا وفاء كائن لي و لا استمساك ملتبس بي، و قوله: «بالتوبة» و «عن الخطايا» كلّ من الظرفين متعلّق بمحذوف أيضا، دلّ عليه قوله: «لا وفاء لي» و «لا

______________________________

 (1) شرح الكافية في النحو: ج 1 ص 257.

 (2) شرح الكافية في النحو: ج 1 ص 257.

441
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

الثاني: ص : 436

فَقَوِّني بِقُوَّةٍ كافِيَةٍ، و تولَّني بِعصْمَةٍ مانِعَةٍ.

استمساك بي» أي: لا أفي بالتوبة و لا أستمسك عن الخطايا، كما مرّ من قول الرضي في‏ «لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ» «1».

و الاستثناء في الفقرتين مفرّغ من حال عامّة، و التقدير: لا وفاء لي بالتوبة في حال من الأحوال إلاّ في حال تلبّسه بعصمتك، و لا استمساك بي عن الخطايا في حال من الأحوال إلاّ حال في حال صدوره عن قوّتك.

قال بعضهم: لعلّ المراد بالوفاء: الوفاء الذي لا يتغيّر إلاّ بميل صاحبه إلى التغيّر كما هو شأن العصمة فلا ينافي الاستطاعة، و اللّه أعلم+.

قوله عليه السّلام: «فقوّني بقوّة كافية» الفاء: للسببيّة. و تقويته تعالى له عليه السّلام عبارة عن إفاضة قوّة على استعداده يقوى بها عقله على قهر النفس الأمّارة.

و قوله: «كافية» أي: مغنية، من قولهم كفى الشي‏ء يكفي كفاية فهو كاف:

إذا حصل به الاستغناء عن غيره، أي: لا أحتاج معها إلى سؤال قوّة مرّة أخرى، أو واقية دافعة، من كفاه اللّه الشرّ أي: وقاه منه و دفعه عنه.

و تولاّه بكذا: قام عليه به، يقال: تولاك اللّه بحفظه أي: كان اللّه لك وليّا بحفظه.

و توليته تعالى بالعصمة عبارة عن عدم إعداده للمعاصي و حسم أسبابها عنه.

و مدار هذا الفصل من الدعاء على الاعتراف بالعجز عن مقاومة النفس و هواها و مقاتلة دواعيها و قواها، و دفع وساوسها و أذاها، تنبيها للغافلين و تحريضا للمذنبين على التوسّل بأذيال الألطاف الإلهيّة و التوفيقات الربانية، فإنّ ذلك جذب للهدايات الخاصّة الوافية و العنايات، التامّة الشافية للأمراض الظاهرة و الخافية، و ليس لمريض الدين أنفع من هذا الدواء بيقين.

______________________________

 (1) سورة هود: الآية 43.

442
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

الثاني: ص : 436

اللَّهُمَّ أيُّما عَبْدٍ تابَ إلَيْكَ وَ هُوَ في عِلْمِ الغَيْبِ عِنْدَكَ فاسِخٌ لِتَوْبَتِهِ، و يقرب من ذلك ما رواه ثقة الإسلام في الكافي بسنده عن أبي جعفر عليه السّلام، قال: إنّ اللّه عزّ و جل أوحى إلى داود عليه السّلام أن ائت عبدي دانيال، فقل له: إنّك عصيتني فغفرت لك و عصيتني فغفرت لك و عصيتني فغفرت لك، فإن أنت عصيتني الرابعة لم أغفر لك، فأتاه داود عليه السّلام فقال: يا دانيال إنّي رسول اللّه إليك، و هو يقول لك: إنّك عصيتني فغفرت لك و عصيتني فغفرت لك و عصيتني فغفرت لك، فإن أنت عصيتني الرابعة لم أغفر لك، فقال له دانيال: قد أبلغت يا نبيّ اللّه، فلمّا كان في السحر قام دانيال فناجى‏ «1»، فقال: يا ربّ إنّ داود نبيّك أخبرني عنك أنّني قد عصيتك فغفرت لي و عصيتك فغفرت لي و عصيتك فغفرت لي، و أخبرني عنك أنّي إن عصيتك الرابعة لم تغفر لي فو عزّتك لئن لم تعصمني لأعصينّك ثمّ لأعصينّك ثمّ لأعصينّك‏ «2».

و على ذلك ما حكي أنّ بعض المحبّين جنى جناية فوبّخه اللّه بها، ثمّ عاد إليها في وقت آخر، فأوحى اللّه إلى نبيّ ذلك الزمان أن قل له: إن رجعت إلى تلك الجناية أغضب عليك و تعذّب عليها، فعاد إليها بعد حين و مات فيها، فغسّلوه و كفّنوه و وضعوه على الجنازة، و خافوا أن يصلّوا عليه لما توهّموا أنّه مقطوع عن الربّ، و كانت له ندامة بعد ارتكاب كلّ جناية و كانت تلك الحالة مستورة، فلمّا رفعوا الجنازة جاءت ريح و كشفت عن بعض أكفانه، فوجدوا عليه رقعة مكتوب عليها: هذا عتاب الأحبّاء لاعتاب الأعداء فصلّوا عليه‏ «3» و اللّه أعلم+.

 [ 899] أيّ: اسم شرط مبتدأ، و «ما» بعدها مزيدة لتأكيد إبهام «أيّ» و شياعها، و «عبد» مجرور بإضافة «أيّ» إليه، و جملة «تاب إليك» الخبر كما هو مختار الأندلسي.

______________________________

 (1) «الف»: فنادى.

 (2) الكافي: ج 2 ص 435- 436 ح 11.

 (3) لم نعثر عليه.

443
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

الثاني: ص : 436

و عائدٌ في ذنْبِهِ وَ خطِيئتِه، فَإنّي أعُوذُ بِكَ أنْ أكُونَ كَذَلِكَ، فَاجْعَلْ تَوْبَتي هَذهِ تَوْبَةً لا أحْتاجُ بَعْدَها إلى‏ تَوْبَةٍ، تَوْبَةً موجِبةً لمحْوِ ما سَلَفَ، وَ السَلامةِ فِيما بَقيَ.

قال ابن هشام: و هو الصحيح، لأنّ اسم الشرط تام و جملة الشرط مشتملة على ضميره، و إنّما توقّفت الفائدة على الجواب من حيث التعليق فقط لا من حيث الخبرية «1».

و قيل: الخبر هو جملة الجزاء، و هو المشهور، لأنّ الفائدة بها تمّت، و لالتزامهم عود ضمير منها على الأصحّ.

و قيل: الشرط مع جزائه هو الخبر، لصيرورتهما بسبب كلمة الشرط كالجملة الواحدة.

و الواو من قوله: «و هو في علم الغيب»: حاليّة، و الجملة في محلّ نصب على الحال.

و «في علم الغيب»: متعلّق بفاسخ، و عندك بدل منه، و يجوز أن يكون حالا من العلم، و لا مانع من جعل كلّ من الظرفين صفة لفاسخ صارت حالا بتقدّمها.

و الغيب: إمّا مصدر وصف به الغائب مبالغة، كالشهادة في قوله تعالى: «عالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ»+ «2»، أو فيعل خفّف كميّت و ميت و هيّن و هين.

قيل: و لم يستعمل فيه الأصل كما استعمل في نظائره.

و ايّا ما كان فهو ما غاب عن الحسّ و العقل غيبة كاملة، بحيث لا يدرك بواحد منهما ابتداء بطريق البداهة. و هو قسمان:

قسم نصب عليه دليل كالصانع و صفاته و النبوّات و متعلّقاتها و اليوم الآخر و أحواله.

______________________________

 (1) مغني اللبيب: ص 608.

 (2) سورة الانعام: الآية 73.

444
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

الثاني: ص : 436

.......... و قسم لا دليل عليه، و هو الذي أريد بقوله سبحانه: «وَ عِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ» «1»، و هو المراد هنا، و لذلك قيّده بقوله: عندك.

و فسخ البيع و العهد فسخا- من باب نفع-: نقضه.

و اللام من قوله: «لتوبته»: للتقوية، فلك أن تقول: تتعلّق و لك أن تقول:

لا تتعلّق.

و عدّى عائد ب «في» و حقّه أن يعدّى ب «إلى» لتضمينه معنى الدخول، كما في قوله تعالى: «أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا»+ «2».

و عطف الخطيئة على الذنب من باب عطف الشي‏ء على مرادفه، نحو: «إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَ حُزْنِي إِلَى اللَّهِ» «3» و «أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ رَحْمَةٌ» «4».

و الفاء من قوله: «فإنّي»: رابطة لجواب الشرط لكونه جملة اسميّة.

و أن: مصدريّة، و هي مع مسبوكها في محلّ جرّ ب «من» محذوفة، و التقدير: أعوذ بك من أن أكون، و حذف الجارّ مطرد مع أن و ان و بعضهم يقول: إن نحو ذلك منصوب بنزع الخافض، و رجّحه الرضي بضعف حرف الجرّ من أن يعمل مضمرا «5»، و الأوّل هو رأي سيبويه‏ «6».

و كذلك: إشارة إلى العبد المتّصف بالصفات المذكورة. و هو نائب عن الضمير الرابط لجواب اسم الشرط المرفوع بالابتداء، و الأصل أن أكون مثله. و إيثار الإشارة باعتبار اتّصافه بما ذكر من الصفات الشنيعة المميّزة له عمّا عداه أكمل تمييز، بحيث صار كأنّه حاضر مشاهد على ما هو عليه. و ما فيها من معنى البعد للإيذان ببعد منزلته في الخذلان و سوء الحال.

______________________________

 (1) سورة الانعام: الآية 59.

 (2) سورة الأعراف: الآية 88.

 (3) سورة يوسف: الآية 86.

 (4) سورة البقرة: الآية 157.

 (5) شرح الكافية في النحو: ج 2 ص 263.

 (6) شرح الكافية في النحو: ج 2 ص 263.

445
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

الثاني: ص : 436

.......... [ 900] و الفاء من قوله: «فاجعل»: سببيّة.

و جعل: بمعنى صيّر، و المنصوبان بعده مفعولان.

و جملة «لا أحتاج»: في محلّ نصب صفة لتوبة، و هي ثاني مفعولي اجعل.

و توبة الثانية بدل من الأولى بدل‏ «1» كلّ، أو عطف بيان عند من يرى انّه يكون بلفظ الأوّل و هم الجمهور، خلافا لابن الطراوة و ابن مالك‏ «2».

و موجبة: من أوجبت الشي‏ء إيجابا: إذا جعلته واجبا أي: لازما، و منه:

 «موجبات رحمتك» «3».

و محو ما سلف: أي مضى من الذنوب، و المراد بمحوه: إمّا العفو و التجاوز عنه، أو محوه و إزالته من ديوان الحفظة الذين كتبوه عند صدوره منه.

و السلامة: الخلوص من الآفات، و المراد: السلامة من الذنوب فيما بقي من العمر.

و مدار هذا الفصل من الدعاء على سؤاله عليه السّلام الثبات على توبته، و حسم أسباب نقضها، و جعل توبته مانعة من العود إلى ذنب بعدها، كافية في العفو عمّا سلف منه، واقية باجتناب ما يجب الاجتناب عنه، و لا ريب في أنّ التوبة إذا كانت بهذه المثابة كانت أنجح و أنصح، كما يدلّ عليه ما رواه ثقة الإسلام بسنده عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنه قال: إنّ اللّه يحبّ العبد المفتن التّوّاب و من لا يكون ذلك منه كان أفضل‏ «4».

قال الزمخشري في الفائق: المفتن: الممتحن الذي فتن كثيرا «5».

و قال ابن الأثير في النهاية: و منه الحديث: المؤمن خلق مفتتنا توّابا، أي: ممتحنا

______________________________

 (1) «الف»: من كلّ.

 (2) لم نعثر عليه.

 (3) النهاية لابن الأثير: ج 5 ص 153.

 (4) الكافي: ج 2 ص 435 ح 9، و فيه: لم يكن ذلك‏

 (5) الفائق في غريب الحديث: ج 3 ص 150.

446
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه: ص : 447

اللّهُمَّ إنّي أعْتَذِرُ إلَيْكَ مِنْ جَهْلِي، وَ أسْتَوْهِبُكَ سُوءَ فِعْلي، فَاضمُمْني إلى‏ كَنَفِ رَحْمَتِكَ تَطَوُّلاً، و اسْتُرْني بِستْر عافيتِكَ تَفضُّلاً.

يمتحنه اللّه بالذنب ثمّ يتوب ثمّ يعود ثمّ يتوب‏ «1».

تنبيه:

قد يستفاد من قوله عليه السّلام: «فاجعل توبتي هذه توبة لا أحتاج بعدها إلى توبة» عدم وجوب تجديد التوبة عند تذكّر الذنب، خلافا لمن ذهب إلى أنّ المتذكّر للذنب كالمقارف له فيجب عليه تجديد التوبة.

قال الآمدي: يدلّ على بطلان ذلك أنّا نعلم بالضرورة أنّ الصحابة و من أسلم بعد كفره كانوا يتذكّرون ما كانوا عليه في الجاهليّة من الكفر، و لم يجب عليهم تجديد الإسلام و لا أمروا بذلك، و كذلك في كلّ ذنب وقعت التوبة عنه‏ «2»، و اللّه أعلم.

اعتذر من ذنبه: تنصّل، و اعتذر إليه: طلب معذرته أي: رفع اللوم عنه، و قيل:

الاعتذار: محو أثر الذنب.

و قال الراغب: المعتذر: هو المظهر لما يمحو به الذنب، و جميع المعاذير لا تنفكّ من ثلاثة أوجه. إمّا أن يقول: لم أفعل، أو يقول: فعلت لأجل كذا فيبيّن ما يخرجه عن كونه ذنبا، أو يقول: فعلت و لا أعود، فمن أنكر و بين كذب ما نسب إليه فقد برئت ساحته، و إن فعل و جحد فقد يعدّ التغابي عنه كرما، و إيّاه قصد الشاعر بقوله:

تغابى و ما بك من غفلة

 

 لفرط الحياء و فرط الكرم‏

 

 و من أقرّ فقد استوجب العفو لحسن ظنّه بك، و إن قال: فعلت و لا أعود فهذا هو

______________________________

 (1) النهاية لابن الأثير: ج 3 ص 410.

 (2) لم نعثر عليه.

447
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه: ص : 447

.......... التوبة «1»، انته.

 [ 901] إذا عرفت ذلك فقوله عليه السّلام: «أعتذر إليك» معناه: أمّا طلب العذر أي: رفع اللوم، من قولهم: عذرته فيما صنع عذرا- من باب ضرب-: رفعت عنه اللوم فهو معذور أي: غير ملوم، و الاسم العذر بالضمّ و المعذرة، أو طلب عفو الذنب بإظهار ما يوجبه من الإقرار، أو التوبة على ما بيّنه الراغب.

و المراد بالجهل هنا: ما يدعو إلى ارتكاب الذنب و هو عدم التفكّر في العاقبة، و سمّي جهلا من حيث عدم استعمال صاحبه ما معه من العلم بالعقاب و الثواب، فكأنّه الجهل الذي هو عدم العلم، و بذلك فسّر قوله تعالى: «إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ» «2».

قال أكثر المفسّرين: كلّ من عصى اللّه فهو جاهل و فعله جهالة.

و قال قتادة: اجتمع أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فرأوا أنّ كلّ ذنب أصابه العبد فهو بجهالة عمدا كان أو خطأ «3».

و قال أمين الإسلام الطبرسي: و هذا المعنى هو المروي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، فإنّه قال: كلّ ذنب عمله عبد و إن كان عالما فهو جاهل حين خاطر بنفسه في معصية ربّه، فقد حكى اللّه سبحانه قول يوسف في إخوته: «هل علمتم ما فعلتم بيوسف و أخيه إذ أنتم جاهلون»، فنسبهم إلى الجهل لمخاطرتهم بأنفسهم في معصية اللّه‏ «4»، انته.

و قد تقدّم الكلام على هذه المسألة فيما سبق في الروضة السادسة عشر مستوفى، فليرجع إليه.

______________________________

 (1) الذريعة إلى مكارم الشريعة: 171، و فيه: فصل الكرم.

 (2) سورة النساء: الآية 17.

 (3) مجمع البيان: ج 3- 4 ص 22.

 (4) مجمع البيان: ج 3- 4 ص 22.

448
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه: ص : 447

.......... و استوهبته الشي‏ء: سألته هبته أي: إعطاء بلا عوض.

و السوء بالضمّ: اسم من ساء الشي‏ء يسوء: إذا قبح، أو من ساءه سوءه: إذا فعل به ما يكرهه. و الغرض سؤال عفوه تعالى عن قبيح الفعل أو مكروهه من غير استحقاق كما يدلّ عليه لفظ الاستيهاب. و ضممت الشي‏ء إلى الشي‏ء: قبضته إليه و جمعته به، يقال: ضممته إلى صدري إذا ألصقته به.

و الكنف بفتحتين: الجانب و الناحية.

و في القاموس: أنت في كنف اللّه تعالى محرّكة: في حرزه‏ «1» و ستره، و هو الجانب و الظلّ و الناحية.

و في شرح جامع الأصول: كنف الإنسان: ظلّه و حماه الذي يأوي إليه الخائف‏ «2».

و الكلام استعارة تمثيليّة أو «3» تصريحيّة. و يحتمل أن يكون الكنف في عبارة الدعاء بمعنى الجناح، فإنّ جناح الطائر يسمّى كنفا، و يؤيّد هذا الاحتمال قوله:

 «فاضممني»، كما قال تعالى: «وَ اضْمُمْ يَدَكَ إِلى‏ جَناحِكَ» «4»، أي: أدخلها تحت عضدك، فيكون المعنى: أدخلني تحت جناح رحمتك، و هو أيضا تمثيل او استعارة تصريحيّة. و تطوّلا: أي امتنانا أو تفضّلا.

قال الزمخشري في الأساس: هو ذو طول عليّ: ذو منّة، و قد تطوّل عليّ بذلك‏ «5».

و في القاموس: تطوّل عليهم: امتنّ‏ «6».

و قال الفارابي في ديوان الأدب: تطوّل عليه بكذا أي: تفضّل‏ «7» و ستره تعالى:

______________________________

 (1) القاموس المحيط: ج 3 ص 192.

 (2) لا يوجد لدينا هذا الكتاب.

 (3) «الف» و.

 (4) سورة طه: الآية 22.

 (5) أساس البلاغة: ص 399.

 (6) القاموس المحيط: ج 4 ص 9.

 (7) ديوان الأدب: ج 3 ص 456.

449
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه: ص : 447

اللّهُمَّ وَ إنِّي أتُوبُ إلَيْكَ مِنْ كُلِّ ما خالفَ إرادَتَكَ، أو أزالَ عَنْ‏ عبارة عن عدم كشف مقابح العبد و سوء آثاره من الذنوب و المعاصي في الدنيا و الآخرة.

روى ثقة الإسلام في الصحيح عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنه قال: إذا تاب العبد توبة نصوحا أحبّه اللّه فستر عليه في الدنيا و الآخرة، فقلت: و كيف يستر عليه؟

قال: ينسي ملكيه ما كتبا عليه من الذنوب، و يوحي إلى جوارحه اكتمي ذنوبه، و يوحي إلى بقاع الأرض اكتمي ما كان يعمل عليه من الذنوب، فيلقى اللّه حين يلقاه و ليس شي‏ء يشهد عليه بشي‏ء من الذنوب‏ «1».

قال بعض أصحابنا: المراد بكتمان الجوارح و بقاع الأرض ذنوبه: إمّا نسيانهما كما في الملكين، أو عدم الشهادة بها، و الأول أظهر «2» و يؤيّده ما روي من طريق العامّة: أنّه تعالى ينسي أيضا جوارحه و بقاع الأرض ذنوبه‏ «3».

و المراد بعافيته سبحانه: دفعه عن جميع المكروهات في الظاهر و الباطن و الدين و الدنيا و الآخرة، و هي مصدر جاءت على فاعلة، من عافاه اللّه: إذا دفع عنه ما يكرهه، و مثلها الخاتمة بمعنى الختم، و الكاذبة بمعنى الكذب، و الكاشفة بمعنى الكشف.

و تفضّلا: أي: من غير استحقاق حقيقة التفضّل إعطاء الفضل و هو الزيادة، ثمّ استعمل في الإحسان من غير جزاء، و قد بسطنا الكلام عليه فيما سبق.

و نصب تطوّلا و تفضّلا يحتمل المصدرية و الحاليّة و المفعول لأجله، و قد مرّ نظير ذلك مرارا، و اللّه أعلم+.

 [ 902] خالفته مخالفة و خلافا و تخالف القوم و اختلفوا: إذا ذهب كلّ واحد إلى خلاف ما ذهب إليه الآخر، و الاسم الخلف بالضمّ و المراد بإرادته تعالى هنا: رضاه.

______________________________

 (1) الكافي: ج 2 ص 430- 431 ح 1، و فيه: اكتمي عليه ذنوبه.

 (2) شرح الكافي للمولى محمّد صالح المازندراني: ج 10 ص 150.

 (3) شرح الكافي للمولى محمّد صالح المازندراني: ج 10 ص 150.

450
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه: ص : 447

مَحَبتِكَ مِنْ خَطَراتِ قَلْبي، وَ لَحَظاتِ عَيْني، وَ حِكاياتِ لِساني، تَوْبَةً تَسْلَمَ بِها كلّ جارِحَةٍ عَلى‏ حِيالِها مِنْ تَبِعاتكَ، وَ تَأمَنُ مِمّا يَخافُ المُعْتَدُونَ مِنْ أليم سَطَواتِكَ.

و أزلت الشي‏ء عن موضعه إزالة: نحّيته عنه.

و محبّته تعالى‏ «1» للعبد: إرادته لثوابه و تكميله و الإحسان إليه، و لعمله: إرادته لوقوعه منه على نهج الصواب.

و «أو»: لأحد الأمرين، و العموم إنّما جاء من النفي الذي تضمّنه معنى أتوب، كأنّه قيل: لا أفعل كلّ واحد منهما، كما قيل في قوله تعالى: «وَ لا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً» «2» أي: لا تطع واحدا منهما.

و ذكر الزمخشري ل «أو» في هذا المقام وجهين آخرين يمكن توجيه عبارة الدعاء بهما: أحدهما: أنّ «أو» في أصلها لتساوي شيئين فصاعدا في الشكّ، ثمّ اتّسع فيها فاستعيرت للتساوي في غير الشك، و ذلك كقولك: جالس الحسن أو ابن سيرين، تريد أنّهما سيّان في استصواب أن يجالسا، و منه قوله تعالى: «وَ لا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً» أي: الإثم و الكفور متساويان في وجوب عصيانهما «3»، انته.

فكذلك قوله عليه السّلام: «أو أزال عن محبّتك» معناه: أتوب من كلّ ما خالف أو أزال، فهما متساويان في وجوب التوبة منهما، فعن أيّهما تبت فواجب، و إن تبت عنهما جميعا فكذلك.

الثاني: أن «أو» باقية على حقيقتها، و المعيّة إنّما جاءت من دلالة النصّ، و هي المسمّاة بمفهوم الموافقة، فإنّ الناهي في نحو: «وَ لا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً» عن طاعة أحدهما، يكون عن طاعتهما جميعا أنهى، كما إذا نهى أن يقول لأبويه: افّ،

______________________________

 (1) «الف» سبحانه.

 (2) سورة الإنسان: الآية 24.

 (3) تفسير الكشاف: ج 1 ص 81.

451
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه: ص : 447

.......... علم أنّه منهيّ عن ضربهما على طريق الأولى، «1» انته.

و كذلك هنا، فإنّ التائب عن أحد الأمرين المذكورين يكون عنهما جميعا أولى بالتوبة، فاحفظ ذلك فإنّ نظير هذه العبارة في الصحيفة الشريفة كثير، و هذه الوجوه جارية فيها، و اللّه أعلم.

قوله عليه السّلام: «من خطرات قلبي» «من» بيانيّة.

و الخطرات: جمع خطرة، و هي ما يخطر و يرد على القلب ممّا ليس للعبد فيه تعمّل و يسمّى الخاطر. قال بعض العلماء: و هو على أربعة أقسام:

ربّاني، و هو اوّل الخواطر، و هو لا يخطئ أبدا، و قد يعرف بالقوّة و التسلّط و عدم الاندفاع بالدفع.

و ملكي، و هو الباعث على مندوب أو مفروض، و بالجملة: كلّ ما فيه صلاح، و يسمّى إلهاما.

و نفساني، و هو ما فيه حظّ للنفس، و يسمّى هاجسا.

و شيطاني، و هو ما يدعو إلى مخالفة الحقّ، قال اللّه تعالى: «الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَ يَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ» «2».

و قال النبي صلّى اللّه عليه و آله: لمّة الشيطان تكذيب بالحقّ و إيعاد بالشرّ [1]، و يسمّى وسواسا.

و يعبّر بميزان الشرع فما فيه قربة فهو من الأوّلين، و ما فيه كراهة أو مخالفة شرعا فهو من الآخرين، و يشتبه في المباحات، فما هو أقرب إلى مخالفة النفس فهو من‏

______________________________

 [1] الجامع الصغير: ج 1 ص 95، نهج الفصاحة: ص 178 ح 883، و فيهما: فأمّا لمّة الشيطان فإيعاد بالشرّ و تكذيب بالحقّ.

______________________________

 (1) لم نعثر عليه.

 (2) سورة البقرة: الآية 268.

452
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه: ص : 447

.......... الأوّلين، و ما هو أقرب إلى الهوى و موافقة النفس فهو من الآخرين، و الصادق الصافي القلب الحاضر مع الحقّ سهل عليه الفرق بينهما بتيسير اللّه و توفيقه.

قال بعض المحقّقين: خطرات القلب التي لا يشعر بتفصيلها إذا خالفت أوامر اللّه تعالى، قد تستتبع حركة بعض الجوارح إلى فعل خارج عن حدود اللّه أيضا، و ذلك و إن كان لا يوجب أثرا في النفس و لا يؤاخذ به، إلاّ أنّه ربّما يقوى بقوّة أسبابه و كثرتها، فيقطع العبد عن سلوك سبيل اللّه، كما في حقّ المنهمكين في لذّات الدنيا المتجرّدين لها، فإنّ أحدهما ربّما رام التشبّه بمن يصلّي الفرض فيصلّي الصلاة الواحدة مرّتين أو مرارا و لا يستثبت عدد ركعاتها و سجداتها، و التوبة و الاستغفار عن مثل ذلك يجذب العبد عن الأسباب الموجبة له.

و لحظات العين: جمع لحظة و هي المرّة، من لحظه و لحظ إليه لحظا- من باب نفع- أي: رآه.

و قيل: هو النظر بمؤخر العينين عن يمين و يسار.

و المراد بها: ما كان خارجا عن حدود الشريعة كالنظر إلى غير محرم، و كالإشارة باللحظ إلى شخص ليعاب أو ليضحك منه أو ليظلم، و كلّ تلك عن خواطر شيطانيّة مخالفة لرضا اللّه تعالى و محبّته.

 [ 903] و حكايات اللسان: جمع حكاية، من حكى عنه الحديث حكاية: أي نقله.

و المراد بها: ما تجاوز من القول حدود اللّه، و خرج به الإنسان عن مستقيم صراطه، فإنّه ممّا يخالف رضاه تعالى و يزيل عن محبّته، فينبغي الإقلاع و التوبة عن مثل ذلك كلّه قبل تمكّنه من النفس و تدنّس جوهرها به.

و توبة: مفعول مطلق مبيّن لنوع عامله.

و تسلم: أي تخلص من الآفاق.

و الجارحة: واحدة الجوارح، و هي الأعضاء التي يعمل بها.

453
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه: ص : 447

اللّهُمَّ فَارْحَمْ وَحْدَتِي بَيْنَ يَدَيْكَ، وَ وَجِيبَ قَلْبي مِنْ خَشيتِكَ‏ و على حيالها بالكسر: أي بانفرادها.

قال الفيومي في المصباح: فعلت كلّ شي‏ء على حياله أي: بانفراده‏ «1».

و من تبعاتك: ظرف لغو متعلّق ب «تسلم». و تبعاته تعالى: عبارة عن الأعمال السيّئة التي تكسب الآثام و توجب معاقبته تعالى عليها.

قال ابن سيده في محكم اللغة: التبعة و التباعة: ما فيه إثم يتبع به‏ «2».

و الأمن: عدم توقّع مكروه في الزمان الآتي.

و في المصباح: أمن زيد الأسد أمنا و أمن منه: مثل سلم وزنا و معنى، و الأصل أن يستعمل في سكون القلب‏ «3».

و المعتدون: المتجاوزون لحدود اللّه سبحانه.

و أليم سطواتك: أي مؤلمها.

و قيل: إنّ فعيلا بمعنى مفعل غير ثابت، و لذلك قال الزمخشري: يقال: ألم فهو أليم كوجع فهو وجيع، و وصف العذاب به نحو قوله:

تحيّة بينهم ضرب وجيع‏

 

 

 

 و على طريقة جدّ جدّه، و الألم في الحقيقة للمؤلم و الجدّ للجادّ «4»، انته.

و السطوات: جمع سطوة، من سطا عليه وسطا به يسطو سطوا و سطوة: أي صال عليه و قهره و أذلّه، و هو البطش و الأخذ بعنف و شدّة، و اللّه أعلم+.

 [ 904] الفاء: للترتيب في الذكر.

و وحدتي: أي انفرادي، يقال: وحد بالضمّ و حادة و وحدة أي: انفرد بنفسه فهو وحيد.

______________________________

 (1) المصباح المنير: ص 219.

 (2) المحكم في اللغة: ج 2 ص 43.

 (3) المصباح المنير: ص 33.

 (4) تفسير الكشاف: ج 1 ص 60.

454
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه: ص : 447

وَ اضْطِرابَ أرْكانِي مِنْ هَيْبَتِكَ، فَقَدْ أقامَتْني يا رَبِّ ذُنُوبي مَقامَ الخِزْي بِفنائكَ، فإنْ سَكَتُّ لَمْ يَنْطِقْ عَنّي أحَدٌ، وَ إنْ شَفَعْتُ فَلَسْتُ بِأهْلِ الشَفاعَةِ.

و بين يديك: أي تجاهك، و الكلام تمثيل كما مرّ مرارا.

و وجب القلب وجبا و وجيبا: رجف و خفق.

و الاضطراب: التحرّك، و أصله اضطراب إلاّ أنّ تاء الافتعال إذا تلت الضاد قلبت طاء.

قال الفارابي في ديوان الأدب: و ذلك أنّ التاء لأنّ مخرجها، فلم توافق الضاد لشدّة مخرجها، فابدلت طاء لأنّ الطاء شديدة المخرج فاتفقتا، و كان ذلك أعذب في اللفظ و أخفّ على اللسان، و العرب تميل عن الذي يلزم كلامها الجفاء إلى ما يلين حواشيه و يرقّها و قد نزّه اللّه لسانها عمّا يجفيه‏ «1» انته.

و الأركان: جمع ركن، و هو الجانب القوي من كلّ شي‏ء، و المراد بها هنا:

الأعضاء القويّة لاستناد البدن إليها.

قال ابن الأثير في النهاية: في حديث الحساب: و يقال لأركانه انطقي، أي:

جوارحه، و أركان كلّ شي‏ء جوانبه التي يستند إليها و يقوم بها «2».

و الخشية و الهيبة في اللغة: بمعنى الخوف. و فرّق بعض العلماء بينهما فقال:

الخوف: توقّع مكروه عن أمارة، و الخشية: خوف يشوبه تعظيم المخشي مع المعرفة به، و لذلك قال تعالى: «مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ» «3»، و قال: «إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ» «4»، و الهيبة: خوف داع للخضوع مع‏ «5» استشعار تعظيم، و لذلك يستعمل في كلّ محتشم.

______________________________

 (1) ديوان الأدب: ج 2 ص 395.

 (2) النهاية لابن الأثير: ج 2 ص 260.

 (3) سورة ق: الآية 33.

 (4) سورة فاطر: الآية 28.

 (5) «الف» عن.

455
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه: ص : 447

.......... قال الشاعر:

أهابك إجلالا و ما بك قدرة

 

 عليّ و لكن مل‏ء عين حبيبها

 

 [ 905] و الفاء من قوله: «فقد»: للسببيّة، بمعنى أنّ ما بعدها سبب لما قبلها، كقوله تعالى: «فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ»+ «1».

و المعنى: ارحم وحدتي إلى آخره بسبب إقامة الذنوب لي مقام الخزي بفنائك.

و الخزي: الذلّ و الهوان المقارن للندامة و الفضيحة، يقال: خزي خزيا- من باب علم-: ذلّ و هان، و أخزاه اللّه: أذلّه و أهانه.

و الفناء بالكسر و المدّ: ما اتّسع أمام البيت، و قيل: ما امتدّ من جوانبه.

و الكلام استعارة تمثيليّة، مثل حاله و قد استشعر ذنوبه حال مراقبة اللّه تعالى، بحال مذنب أقيم مهينا بفناء ملك جبّار يخشى نقمته و يخاف سطوته.

و قد أرشد عليه السّلام بهذه الفقرات إلى أنّ من الواجب على المذنب دوام الانكسار و ملازمة التضرّع و الاستغفار، و استشعار الوجل إلى الأجل. و بحقّ ما قيل:

إنّ التوبة ذوبان الحشاء لما كان عن الفحشاء.

و قال بعضهم: التوبة أن تكون للّه وجها بلا قفاء حتّى تفنى، كالشمع الذي يضي‏ء من جميع جهاته و يحترق عن آخره.

و قال آخر: المذنب التائب محتشم مستحي قد غلب الخوف على قلبه، فيأتي باب مولاه خزيان منكسرا.

و سكت سكوتا- من باب قعد-: صمت.

و شفعت في الأمر شفعا و شفاعة- من باب منع-: طالبت بوسيلة أو ذمام، قاله الشهاب الفيومي في المصباح المنير «2».

______________________________

 (1) سورة الحجر: الآية 34.

 (2) المصباح المنير: ص 432.

456
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه: ص : 447

اللّهُمَّ صَلِّ عَلى‏ مُحَمَّدٍ وَ آلِهِ، وَ شَفّعْ فِي خَطايايَ كَرَمَكَ، وَ عُدْ عَلى‏ سيّئاتي بعفْوك، و لا تجزني جَزائي مِنْ عُقوبتِكَ، وَ ابْسُطْ عَلَيَّ طَوْلَكَ، وَ جَلِّلْني بِسِتْرِكَ، وَ افْعَلْ بِي فِعْلَ عَزيزٍ تَضَرَّعَ إلَيْهِ عَبْدٌ ذَليلٌ فَرَحِمَهُ، أوْ غنيٍّ تَعَرَّضَ لَهُ عَبْدٌ فقيرٌ فَنَعشَهُ.

و خفي على بعضهم هذا المعنى، فقال: كون الإنسان شفيع نفسه من باب التجريد، نحو: رأيت منه أسدا، أو يكون شفعت بمعنى طلبت شفيعا لا صرت شفيعا ليكون معنى فلست بأهل الشفاعة: لست أهلا أن يشفع في أحد، لا لست أهلا لأنّ تقبل شفاعتي‏ «1»، انته.

و هو ضيّق عطن، و اللّه المستعان+.

 [ 906] شفعت إليه في فلان فشفعني فيه تشفيعا: أي مضى شفاعتي فيه و قبلها.

و لفظ «شفع» في الدعاء استعارة تبعيّة، قدّر تشبيه اقتضاء كرمه تعالى للتجاوز عن الخطايا بشفاعة الشافع في استدعاء التجاوز و العفو، ثمّ أدخل اقتضاء الكرم لذلك في جنس الشفاعة بالتأويل المذكور، فاستعار له لفظ الشفاعة، ثمّ اشتقّ منه الفعل، فتكون الاستعارة في المصدر أصليّة و في الفعل تبعيّة.

و مثل هذه الاستعارة قوله البحتري:

أعزّ لنا من جوده و سماحه‏

 

 ظهير علينا لا يخيب و شافع‏

 

 و عاد علينا فلان بمعروفه يعود عودا- من باب قال-: تفضّل و تعطّف، و الاسم العائدة، تقول: ما أكثر عائدة فلان على قومه، و إنّه لكثير العوائد عليهم، أي: كثير الإفضال و التعطّف.

و الجزاء: المكافاة على الشي‏ء جزاه به و عليه جزاء. و هو يستعمل في الخير و الشرّ، يقال: جزاه اللّه خيرا و جزاه شرّا، و لذلك بيّنه عليه السّلام بقوله: من‏

______________________________

 (1) لم نعثر عليه.

457
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه: ص : 447

.......... عقوبتك». سأله عليه السّلام أوّلا معاملته تعالى له بالكرم و الفضل، ثمّ سأل عدم معاملته بالعدل، و لذلك قال بعضهم: من شهد من نفسه زلّة واحدة فلا يعتمدنّ على شي‏ء من حسناته و إن كثرت وصفت، لأنّ الزلّة مستلزمة للعقوبة بغير شرط، و العفو مقرون بشرط التوبة، و التوبة مقرونة بالقبول، و القبول إلى غيره إن شاء قبل و إن شاء ردّ، فله الفضل إذا قبل مع عظيم معصيته و كفران حقّ نعمته، و له العدل إن عاقب بعد الاستحقاق و تقدمة الإعذار و الإنذار.

 [ 907] و بسط اللّه الرزق بسطا- من باب قتل- وسّعه و كثّره. و الطول بالفتح: الفضل و الغنى و السعة.

و حلّلت الشي‏ء: إذا غطّيته. و الستر بالكسر: ما يستتر به. و هو تمثيل لإخفائه تعالى مساوئ عباده. و في بعض الأخبار: إذا أعطي العبد صحيفة أعماله يوم القيامة يجد تحت كلّ سيّئة مكتوبة: تاب باهرا بنوره ظلمة السيّئة، فربّما أتى العبد على عظيمة كان اقترفها يشقّ عليه النظر إليها، فتدركه رحمة ربّه فتستر عليه تلك العظيمة، و يقال له: جاوزها، لأنّه كان قد دعاه أيّام الحياة في الدنيا: يا عظيم العفو يا حسن التجاوز، فإذا انته إلى آخرها غفر له ما فيها و ستر عليه، فيصير جميع ما فيها بياضا و نورا، لأنّ حسنة التوبة قد علته و أذهبته، فينظر الخلق إلى صحيفة حسناته، فيقولون: طوبى لهذا العبد لم يذنب قطّ ذنبا، فعند ذلك يقول: «هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ. إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ. فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ. فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ» «1».

قوله عليه السّلام: «و افعل بي فعل عزيز» إلى آخره أصله افعل بي فعلا مثل فعل عزيز، فحذف الموصوف، ثمّ حذف المضاف من الصفة، و أناب المضاف إليه مناب الموصوف، على حدّ قولهم في ضربته ضرب الأمير.

______________________________

 (1) لم نعثر عليه.

458
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه: ص : 447

.......... و العزيز فعيل من العزّة، و هي الرفعة و الامتناع و الشدّة و القوّة و الغلبة.

و قال الراغب: العزيز: الذي يأبى تحمّل المذلّة «1».

و اشتقاقه من العزاز و هو الأرض الصلبة الشديدة، كأنّه حصل في عزاز لا يلحقه فيه ذلّ و لا غضاضة.

و قيل: العزيز: الكريم، يقال: عززت عليه أي: كرمت. و فرّق بعضهم بين العزيز و الكريم، فقال: العزيز يأبى أن يقضى عليه، و الكريم يأبى أن يقضى له.

و تضرّع له: ذلّ و خضع، و عدّاه ب «إلى» لتضمينه معنى الالتجاء. و الغنيّ: ذو الغنا، و هو عدم الحاجة.

و تعرّض له: تصدّى، و منه: تعرّضوا لنفحات اللّه‏ «2».

و في تعرّض و تضرّع جناس التصريف، و هو ما كان أحد ركنيه مخالفا لترتيب الآخر ببعض حروفه.

و نعشه نعشا- من باب منع- جبره بعد فقر.

و في المحكم: نعشه اللّه و أنعشه: سدّ فقره‏ «3».

و «أو» من قوله: «أو غني»: مستعارة للتساوي في غير الشكّ، كأنّه قال: افعل بي فعل هذا أو فعل ذاك فهما متساويان في الحسن.

و اعلم أنّ العزيز و الغني من قوله عليه السّلام: «فعل عزيز» «أو غنيّ» كناية عن اللّه سبحانه، لاختصاص العزّة و الغنى على الإطلاق به تعالى، كأنّه قال: افعل بي فعلك إذا تضرّع إليك عبد ذليل فرحمته، أو فعلك إذا تعرّض لك عبد فقير فنعشته، فحذف الضمير و وضع الظاهر موضعه ليجري عليه الصفتين المذكورتين،

______________________________

 (1) لم نتحققه.

 (2) النهاية لابن الأثير: ج 5 ص 90.

 (3) المحكم في اللغة ج 1 ص 231.

459
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه: ص : 447

اللّهُمَّ لا خَفِيرَ لِي مِنْكَ فَلْيَخْفُرْني عزُّكَ، وَ لا شَفيعَ لِي إلَيْكَ فَلْيَشْفَعْ لِي فَضْلُكَ، وَ قَدْ أوْجَلَتْني خَطايايَ فَلْيُؤْمِنّي عَفْوكَ.

و يتمكّن من المقابلة بين العزيز و الذليل و الغني و الفقير، فإن شئت جعلت ذلك من باب الكناية المطلقة، فيكون مثل قولك: جاء المضياف و أنت تريد زيدا لشهرته بذلك، و لكونه كاللازم له تركت ذكر زيد و ذكرت لازمه لينتقل الذهن منه إليه، كما هو شأن الكناية، و إن شئت جعلته من باب التجريد على سبيل الكناية إمّا بتقدير من التجريديّة و التقدير: افعل بي فعل عزيز منك أو غني منك، أو من قسم ما دلّ عليه السياق كقوله.

فلئن بقيت لأرحلن بغزوة

 

 تحوي الغنائم أو يموت كريم‏

 

 فإن السياق دلّ على أنّ المراد بالكريم نفسه، و لو قدّرت «من» هنا صحّ و نظير ذلك من التنزيل قوله تعالى: «وَ لا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ» «1»، و قوله تعالى: «فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً» «2»، فإنّ المراد بالخبير فيهما: هو اللّه سبحانه، و مثله قوله تعالى: «فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ» «3»، إذ لا عزيز مقتدر سواه جلّ شانه.

و من توّهم أنّ المراد بالعزيز و الغني في عبارة الدعاء غيره تعالى، و أنّه سأل عليه السّلام أن يكون فعله به مثل فعلهما، فقد أخطأ من كلّ وجه، تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا+.

 [ 908] خفرت الرجل أخفره خفرا- من باب ضرب- و في لغة من باب قتل: حميته و أجرته من طالب فأنا خفير، و الاسم الخفارة بضمّ الخاء و كسرها.

و الظرف من قوله: «لي» مستقرّه، و هو خبر اسم «لا». و منهم من يقول: عامله المحذوف هو الخبر، و التقدير: لا خفير كائن أو حاصل لي. لكن قال التفتازاني في شرح الكشاف: الظرف إذا كان عامله معنى الحصول و الاستقرار- و يسمّى‏

______________________________

 (1) سورة فاطر: الآية 14.

 (2) سورة الفرقان: الآية 59.

 (3) سورة القمر: الآية 42.

460
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه: ص : 447

.......... المستقر- كان خبرا و لا يقال: إنّ الخبر محذوف و لا يحتاج إلى قرينة «1».

و قوله: «منك»: متعلّق بمحذوف، و التقدير: و لا خفير لي خفير منك، فحذف عامله لذكر مثله، و حسنه رفع التكرار و لا تتوهّم أنّه متعلّق بخفير المذكور، لأنّه لو كان متعلّقا به وجب تنوينه، و الروايات‏ «2» إنّما جاءت بغير تنوين.

و أمّا قول بعض الطلبة: «خفير» اسم «لا» بني معها على الفتح، و «لي» و «منك» متعلّقان به، فهو جهل صريح.

و اللام من قوله: «فليخفرني»: طلبيّة عاملة للجزم، و إسكانها بعد الواو و الفاء أكثر من تحريكها، نحو: «وَ لْيُؤْمِنُوا بِي» «3»، «فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي» «4»، و كذلك وردت الرواية في الدعاء.

و عزّه تعالى: عبارة عن غلبته و قهره، فيقال: عزّه يعزّه عزّا: إذا غلبه و قهره، و منه: «وَ عَزَّنِي فِي الْخِطابِ» «5» أي: غلبني، و في المثل: من عزّ بزّ، أيّ: من غلب سلب‏ «6».

و لمّا كانت الخفارة لا يقوم بها إلاّ الغالب القاهر سأل عليه السّلام أن يخفره عزّه تعالى.

و الشفيع: الشافع، و شفعت إلى فلان لفلان: سألته أن يتجاوز عن ذنبه.

و الفضل: الإحسان.

و وجل وجلا:- من باب تعب- خاف، و يتعدّى بالهمزة فيقال: أوجله.

و آمنه: أذهب خوفه.

و عفى اللّه عنه عفوا: محا ذنوبه.

______________________________

 (1) لا يوجد لدينا هذا الكتاب.

 (2) «الف» الرواية.

 (3) سورة البقرة: الآية 186.

 (4) سورة البقرة: الآية 186.

 (5) سورة ص: الآية 23.

 (6) المفردات في غريب القرآن: ص 333.

461
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه: ص : 447

فَما كُلُّ ما نَطَقْتُ بِهِ عَنْ جَهْلٍ مِنّي بِسُوءِ أثَرِي، وَ لا نِسْيان لِما سَبقَ مِنْ ذَمِيمِ فِعْلي، لكنْ لِتَسْمَعَ سَماؤُكَ وَ مَنْ فِيها، وَ ارْضُكَ وَ مَنْ عَلَيْها، ما أظْهَرْتُ لَكَ مِنَ النَدَمِ، وَ لَجأتُ إلَيْكَ فِيهِ مِنَ التَوْبَة، فَلَعَلَّ بَعْضُهُمْ بِرَحْمَتِكَ يَرْحَمُني لِسُوءِ مَوْقفي، أوْ تُدْرِكُهُ الرِقَّةُ عَلَيَّ لِسُوءِ حالِي، فَيَنالَنِي مِنْهُ بِدَعْوَةٍ هِيَ أَسْمَعُ لديكَ مِنْ دُعائي، أوْ شَفاعَةٍ أوْكَدَ عِنْدَكَ مِنْ شَفاعَتي، تَكُونَ بِها نَجاتِي مِنْ غَضَبِكَ وَ فوْزتِي بِرِضاك.

و مدار هذا الفصل من الدعاء على الفرار من اللّه إلى اللّه و الإقبال عليه، و توجيه وجه النفس إلى كعبة وجوب وجوده تعالى، و قد تقدّم الكلام على ذلك مبسوطا+.

 [ 909] الفاء: فصيحة، أي: إذا كان حالي على ما وصفت من فقدان الخفير و الشفيع و إيجال الخطايا، فما كلّ ما نطقت به عن جهل منّي إلى آخره. و ذلك أن العبد المراقب لربّه الخائف من ذنبه إذا علم اطلاع اللّه تعالى عليه، و تحقّق أن لا منجى منه إلاّ إليه، امتلأ قلبه هيبة، و انقبضت نفسه حياء، و ارتعدت فرائصه رهبة، فاقتضى ذلك أن لا يطاوعه لسانه بلفظ و لا جنانه بمعنى و لا جوارحه بحركة، فإن فعل شيئا من ذلك فعله تكلّفا و تعاطاه تعسّفا، و لذلك قال بعضهم: ينبغي لمن ذكر ذنبا أن ييبس لسانه على حنكه من خشية اللّه تعالى.

و في دعائهم عليهم السّلام: اللّهم إنّ كثرة الذنوب تكفّ أيدينا عن انبساطها إليك بالسؤال، و المداومة على المعاصي تمنعنا من التضرّع و الابتهال‏ «1».

فكأنّه عليه السّلام خشي أن ينكر عليه اتّساعه في الكلام بالتوبة، و استرساله في النطق بطلب المغفرة، فأخذ في الاعتذار عن ذلك و بيان الباعث له عليه.

و أمّا ما قيل من أنّ المعنى: أنّ نطقي بما نطقت به لم يكن عن جهل بقبح عملي،

______________________________

 (1) مفتاح الفلاح: ص 259.

462
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه: ص : 447

.......... فذكرته معتقدا حسنه لفرط جهلي، و لا عن نسيان لما سبق من ذميم فعلي، فذكرت ما ذكرت لاعتقادي أنّه حسن، فهو بمعزل عن المقام، و اللّه أعلم.

قوله عليه السّلام: «فما كلّ ما نطقت به» أي: كلّ شي‏ء نطقت به من إظهار الندم و التوبة و الإنابة إلى غير ذلك ممّا تقدّم كلّ ذلك بقرينة السياق، فتكون «ما» نكرة موصوفة بالجملة بعدها، و يحتمل أن تكون موصولة، لأنّ المراد بها الكلام و هو كالنكرة في المعنى، فتفيد عموم الجزئيّات لا الأجزاء.

فإن قلت: قد نصّ البيانيّون على أنّ «كلا» حيث وقعت في حيّز النفي، كان النفي موجّها إلى الشمول خاصّة، و أفاد بمفهومه الثبوت لبعض الأفراد، كقوله:

ما كلّ ما يتمنى المرء يدركه‏

 

 

 

 «1».

و على هذا فتشكل عبارة الدعاء، لاقتضائه أنّ بعض ما نطق به صادر عن جهل و نسيان، حاشاه من ذلك.

قلت: قد صرّح بعض المحقّقين أنّ هذا الحكم أكثريّ لا كليّ فلا إشكال، و عليه قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ» «2».

و نطق نطقا- من باب ضرب-: تكلّم بصوت و حروف تعرف بها المعاني، و الاسم النطق بالضمّ.

و الظرف من قوله: «عن جهل» مستقرّ، و هو خبر كلّ، أي: صادر عن جهل كائن منّي و الباء من قوله: «بسوء أثري» زائدة قياسا على الفعل.

قال الرضي تزاد الباء قياسا في مفعول علمت و عرفت و جهلت و سمعت و تيقّنت‏ «3»، انته.

______________________________

 (1) مغني اللبيب: ص 265.

 (2) سورة لقمان: الآية 18.

 (3) شرح الكافية في النحو: ج 2 ص 328.

463
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه: ص : 447

.......... و على هذا فلا متعلّق لها، لأنّ الحرف الزائد لا يتعلّق بشي‏ء. و قول بعضهم: إنّها متعلّقة ب «جهل» جهل.

و سوء أثري: أي قبحه و رداءته.

و الأثر: العمل، لأنّه يؤثر عن صاحبه أي: ينقل و يروى، أو لأنّ صاحبه يتّسم به، أخذا من الأثر بمعنى العلامة و السمة، أو لأنّ أثره يبقى في صحائف الأعمال حسنا كان أو قبيحا، و الأثر بقية الشي‏ء.

و قيل: هو العمل الذي يبقى سنّة بعد عامله خيرا كان أو شرّا. و قد تقدّم بيان ذلك في الروضة السادسة عشرة عند قوله عليه السّلام: «بل أنا يا إلهي أكثر ذنوبا و أقبح آثارا» «1».

و النسيان: الغفلة عن معلوم في حال اليقظة.

و الذميم: فعيل بمعنى مفعول، من ذممته أذمّه ذما: خلاف مدحته فهو ذميم، و مذوم: أي غير محمود.

 [ 910] و لكن: حرف ابتداء لمجرد إفادة الاستدراك.

و إسناد السمع إلى السماء و الأرض، و عطف من فيها و من عليها عليهما، ممّا يدلّ على أنّ السمع متصوّر منهما حقيقة، إذ لو حمل إسناده إليهما على المجاز، و إلى المعطوف على كلّ منهما على الحقيقة، لزم استعمال اللفظ في المعنى المجازي و الحقيقي معا، و هو ممّا لا مساغ له عند المحقّقين. و قد ذهب كثير من أرباب العقل و الكشف أن لكلّ موجود حياة و إدراكا يليق به، و أجمع الطبيّعيّون على أنّ الأجرام العلوية ذوات نفوس مجرّدة ناطقة عاقلة بذواتها، ذوات إدراكات كليّة و جزئيّة مطيعة لمبدعها و خالقها، و أكثرهم على أنّ الغاية من حركاتها هو حصول التشبيه بما فوقها إلى أن ينتهي التشبيه‏

______________________________

 (1) ج 3، ص 147.

464
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه: ص : 447

.......... إلى اللّه جلّ شأنه.

قالوا: و القوى الأرضيّة كلّها كالنفوس الفلكيّة في أنّ الغاية في أفاعليها هو التشبيه بما فوقها إلى أن تنتهي سلسلة التشبّهات إلى الغاية القصوى‏ «وَ أَنَّ إِلى‏ رَبِّكَ الْمُنْتَهى‏» «1». و من هنا قال بعض أرباب القلوب: لقد أتّصل بالسماء و الأرض من لذيذ الخطاب في قوله عزّ شأنّه: «ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً» «2» من مشاهدة جمال القهر ما طربت له السماء طربا رقصها، فهي بعد ذلك في ذلك الرقص و النشاط، و غشي به على الأرض لقوّة الوارد، فهي ملقاة مطروحة على البساط، فسريان لذّة القهر هو الذي عبدهما، و مشاهدة لطف الجلال هي التي سلبت أفئدتهما، حتّى قالا قول الوامق ذي الحنين: «أَتَيْنا طائِعِينَ» «3».

على أنّه قد ذهب جمع من المفسّرين في هذه الآية، و هي قوله تعالى: «ثُمَّ اسْتَوى‏ إِلَى السَّماءِ وَ هِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ» «4» إلى إجراء الكلام على ظاهره، فإنّه ليس بمستبعد من اللّه إبداع الحياة و الفهم في أيّ جسم فرض، و لهذا قال: «طائعين» على لفظ جمع المذكر السالم المختّص بالعقلاء و لم يقل: «طائعات»، لأنّ جمع المؤنثّ السالم لا يختصّ بالعقلاء، و وجه الجمع أنّ أقلّ الجمع اثنان، أو لأنّ كلّ واحد منهما سبع، و في ظاهر كثير من الآيات و الروايات ما يشعر بهذا المعنى.

قال شيخنا البهائي قدّس سرّه: و لا استبعاد في ذلك نظرا إلى قدرة اللّه تعالى، إلاّ أنّه لم يثبت بدليل عقلي قاطع يشفي العليل‏ «5»، أو نقلي ساطع لا يقبل التأويل‏ «6» انته.

______________________________

 (1) سورة النجم: الآية 42.

 (2) سورة فصلت: الآية 11.

 (3) سورة فصلت: الآية 11.

 (4) سورة فصلت: الآية 11.

 (5) «الف» الغليل.

 (6) الرسالة الهلالية: ص 8.

465
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه: ص : 447

.......... و إنّما قال عليه السّلام: «و أرضك و من عليها» و لم يقل: و من فيها، ليخرج من لا يتصوّر منه السماع و هم الأموات، فإنّهم في الأرض و ليسوا عليها، قال تعالى:

 «وَ ما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ» «1». و المراد بسماعهم لذلك: سماعهم له حال اتّصاله بهم، فلا يشكل باستحالته حال الدعا.

و «ما» من قوله: «ما أظهرت لك من الندم»: موصولة، و هي في محلّ نصب مفعولا به لتسمع، و من: بيانيّة.

و لجأ إليه لجاء و لجا مهموزين- من باب نفع و تعب-: لاذ به و اعتصم، أي: و ما لجأت إليك فيه أي: بسببه، كقوله عليه السّلام: إنّ امرأة دخلت النار في هرّة حبستها، «2» أي: بسببها.

و من التوبة بيان لها، و قول بعضهم: «من» فيه سببيّة و المعنى: ما لجأت إليك فيه من الذنب بسبب التوبة، تعسّف ظاهر.

و الفاء من قوله: «فلعلّ»: سببيّة.

 [ 911] و لعلّ: للترّجي و تختصّ بالممكن.

و الباء من قوله: «برحمتك»: «للملابسة متعلّقة بمحذوف حالا من بعضهم، و العامل في الحال حرف الترجّي لتضمّنه معنى الفعل، و التقدير: لعلّ بعضهم حال كونه ملتبسا برحمتك يرحمني. و يحتمل أن تكون للسببيّة متعلّقة ب «يرحمني» أي:

يرحمني بسبب رحمتك لأجل سوء موقفي، إذ كان هو الراحم الحقيقي سبحانه و من عداه كالواسطة.

و أدركه إدراكا: لحقه.

و الرقّة: مصدر رقّ له قلبي أي: حنّ عليه و أشفق، و هي عبارة عن تأثّر القلب‏

______________________________

 (1) سورة فاطر: الآية 22.

 (2) مسند أحمد: ج 2 ص 507.

466
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه: ص : 447

.......... و انفعاله عن حال الغير أو كيفيّة تتبع التأثّر.

و في القاموس: الرقّة الرحمة «1».

و في ناظر عين الغريبين: الرحمة في الإنسان: رقّة القلب ثمّ عطفه، و رحمة اللّه:

عطفه و إحسانه‏ «2»، انته.

و أراد بالعطف البرّ و الصلة، و على هذا فالرحمة في الإنسان أخصّ من الرقّة.

و قال بعض المترجمين: ينبغي أن يراد بالرحمة في الفقرة الأولى: الإنعام، لمشاكلة رحمة اللّه تعالى المراد بها الإنعام، و إن كانت هي في الإنسان بمعنى الرقّة، ليكون قوله: «أو تدركه الرقّة» تأسيسا لا تأكيدا، انته بالمعنى.

و فيه: أنّ الرحمة إنّما أريد بها الإنعام في حقّه تعالى لاستحالة معناها الحقيقي عليه، لكونه من الكيفيات المزاجيّة التابعة للتأثّر و الانفعال، فاريد به غايته التي لا تستحيل عليه سبحانه و هي الإحسان و الإنعام، و هذا معنى قولهم: إن أسماءه تعالى- أي: الألفاظ الدالة على صفات لا يمكن اتصافه تعالى بها- إنّما تؤخذ باعتبار الغايات دون المبادي، فإطلاق الرحمة مرادا بها الإحسان في صفته جلّ شأنه إمّا على طريقة المجاز المرسل بذكر لفظ السبب و إرادة المسبّب، و إما على طريقة التمثيل بأن شبّه حاله تعالى بالقياس إلى المرحومين في إيصال الخير إليهم، بحال الملك إذا عطف على رعيّته و رقّ لهم فأصابهم بمعروفه و إنعامه، فاستعير الكلام الموضوع للهيئة الثانية للأولى. و كلا الطريقتين غير متصورتين في إطلاق الرحمة مرادا بها الإنعام في الإنسان، إلاّ إذا قامت قرينة قاطعة بأن المراد بها ذلك، و لا قرينة هنا أصلا.

فإن قلت: قد أشار إلى القرينة بقوله: لمشاكلة رحمة اللّه تعالى.

قلت: المشاكلة في عرفهم هي أن يذكر الشي‏ء بلفظ غيره لوقوعه في صحبة

______________________________

 (1) القاموس المحيط: ج 3 ص 237.

 (2) لا يوجد لدينا هذا الكتاب.

467
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه: ص : 447

.......... مرادا به معناه الأصلي، كالجزاء المذكور بلفظ السيّئة لوقوعه في صحبته من قوله تعالى: «وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها» «1»، فالمراد بالسيّة الثانية: الجزاء لا السيّئة حقيقة، لكونه حقا فلا يكون سيّئة، لكن لوقوعه في صحبة الأولى عبّر عنه بالسيّئة، و لا مشاكلة بهذا المعنى في عبارة الدعاء. و كأنّه فهم أن معنى المشاكلة التعبير عن الشي‏ء بلفظ غيره مرادا به معنى ذلك الغير لوقوعه في صحبته، و هذا شي‏ء لم يقل به أحد قطعا، و اللّه الملهم للصواب.

فإن قلت: فهل يكون قوله عليه السّلام: «أو تدركه الرقّة عليّ» تأكيدا لما قبله أو تأسيسا؟

قلت: بل هو تأسيس كما تدلّ عليه «أو» التي لأحد الأمرين، و الرحمة و الرقّة و إن كانا مترادفين على ما في القاموس‏ «2»، إلاّ أن تعليل كلّ منهما بعلّة أوجب تغايرهما باعتبار باعثهما، فإنّه عليه السّلام علّل الرحمة بقوله: «لسوء موقفي»، و إدراك الرقّة بقوله:

 «لسوء حالي»، فكانت إحداهما غير الأخرى، لأنّ سوء الموقف عبارة عن وقوفه موقف الخوف و الوجل من الانتقام، و سوء الحال عبارة عن اجتراحه الماثم التي أوجبت له سوء الموقف، و اللّه أعلم بمقاصد أوليائه.

قوله عليه السّلام: «فينالني منه بدعوة هي أسمع لديك من دعائي» الفاء:

سببيّة، و اتّفقت نسخ الصحيفة الشريفة على نصب الفعل بعدها، و نظيره قوله تعالى في قراءة حفص: «لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ. أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ» «3» بالنصب‏ «4».

و اختلف النحويّون في وجهه، فقال الكوفيّون: هو ب «أن» مضمرة بعد الفاء وجوبا جوابا للترجيّ.

______________________________

 (1) سورة الشورى: الآية 40.

 (2) القاموس المحيط: ج 4 ص 117.

 (3) سورة غافر: الآية 36 و 37.

 (4) مجمع البيان: ج 7- 8 ص 523.

468
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه: ص : 447

.......... و منع ذلك البصريّون قاطبة، و قالوا: الترجّي في حكم الواجب فلا ينصب الفعل بعد الفاء جوابا له، و تأوّلوا القراءة المذكورة بأنّ النصب بعدها من العطف على التوهّم، لأن خبر «لعلّ» كثر في لسان العرب دخول «أن» عليه.

و اعترض ابن هشام على الزمخشري في تخريجه قوله تعالى: «فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً» «1»، أنّه يجوز «تجعلوا» منصوبا في جواب الترجيّ أعني‏ «لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ»+ «2»، على حدّ النصب في قراءة حفص‏ «فَاطَّلَعَ»+.

قال: و هذا لا يجيزه بصري، ثمّ إنّ ثبت قول الكوفيّين: إنّ جواب الترجّي منصوب كجواب النهي فهو قليل، فكيف تخرّج عليه القراءة المجمع عليها؟ «3» انته.

و هذا الاعتراض بعينه وارد على من خرّج عبارة الدعاء هنا على قول الكوفيّين، لأنّ الرواية بالنصب مجمع عليها فيه.

و نلته بخير أناله- باب تعب- نيلا: أصبته.

و الدعوة: المرة من الدعاء.

و أسمع: أفعل تفضيل يجوز أن يكون للفاعل، و بناؤه من ذي الزيادة قياس عند سيبويه كما تقدّم، و يجوز أن يكون للمفعول كأشهر و أشغل، أي: أشدّ مسموعيّة لديك. و مجيئه للمفعول مقصور على السماع، فيكون من جملة الألفاظ المسموعة فيه، لأنه عليه السّلام أفصح العرب في زمانه، و يكون من الشاذّ الفصيح.

و الجملة من قوله: «هي أسمع» في محلّ جرّ صفة لدعوة.

و أو: لأحد الأمرين.

______________________________

 (1) سورة البقرة: الآية 22.

 (2) سورة البقرة: الآية 21.

 (3) راجع مغني اللبيب ص 379- 380، أوضح المسالك: ج 4 ص 177- 179.

469
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه: ص : 447

.......... و لديك: أي عندك، و هي هنا للقرب المعنوي.

 [ 912] و أوكد: أي أقوى و أثبت، من وكد الأمر يكد وكودا أي: قوي و ثبت. و ضمّه في الرواية المشهورة على أنّه خبر مبتدأ محذوف دلّ عليه ما قبله، أي: هي أوكد. و أمّا فتحه كما وجد بخطّ الشهيد فهو على أنّ الفتحة فيه نائبة عن الكسرة، لامتناعه من الصرف بالوصفيّة و وزن الفعل، إذ هو نعت لشفاعة المجرورة بالعطف على قوله:

 «بدعوة».

و ممّا لا يكاد يقضى العجب منه قول بعضهم: نصبه على أنّه خبر يكون محذوفة يدلّ عليها يكون بعدها، و الجملة في محلّ خفض نعت لشفاعة، لينال‏ «1» اللّه الهداية إلى سلوك جادّة الصواب.

و الجملة من قوله عليه السّلام: «تكون بها نجاتي من غضبك» إمّا استئنافيّة لا محلّ لها من الإعراب، كأنّه سئل ما يكون بتلك الدعوة أو الشفاعة إذا أنلت بها؟

فقال: تكون بها نجاتي.

و وحّد الضمير في «بها» و لم يقل: بهما، لأنّ «أو» لأحد الشيئين، كأنّه قيل:

تكون بإحداهما نجاتي، كقوله تعالى: «وَ مَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً» «2»، و قوله تعالى: «وَ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ» «3». «وَ إِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها» «4»، فوحّد الضمير لاتحاد المرجع بناء على كون العطف ب «أو»، لكنّه راعى في الآيتين الاوليين القرب فأعاد الضمير مذكّرا، و في الآية الأخيرة الأوّلية فأعاده مؤنّثا.

و أمّا قوله تعالى: «إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى‏ بِهِما» «5».

______________________________

 (1) (الف) فينال.

 (2) سورة النساء: الآية 112.

 (3) سورة البقرة: الآية 270.

 (4) سورة الجمعة: الآية 11.

 (5) سورة النساء: الآية 135.

470
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه: ص : 447

اللّهُمَّ إنْ يَكُنِ النَدَمُ تَوْبَةً إلَيْكَ فَأنا أنْدَمُ النَادِمينَ، وَ إنْ يَكُنِ‏ فقال الزمخشري في الكشاف: فإن قلت: لم ثنّى الضمير في «اولى بهما» و كان حقّه أن يوحّد، لأنّ قوله «إن يكن غنيا أو فقيرا» في معنى إن يكن أحد هذين؟.

قلت: قد رجع الضمير إلى ما دلّ عليه قوله: «إن يكن غنيّا أو فقيرا» لا إلى المذكور، فلذلك ثنّى و لم يفرد، هو جنس الغني و جنس الفقير، كأنّه قال: فاللّه أولى بجنسي الغني و الفقير أي بالأغنياء و الفقراء «1»، انته.

لكن قال صاحب التقريب: فيه نظر، لأنّ سؤال التثنية باق، إذ التقدير حينئذ إن يكن أحد هذين الجنسين‏ «2».

و أجاب صاحب الكشف أنّ «أو» غير داخلة على الجنسين حتى يبقى السؤال‏ «3».

و إمّا نعتيّة، فتكون في محلّ جرّ نعتا لدعوة أو شفاعة أي: لإحداهما، لمكان العطف ب «أو»، كأنّه قيل: فينالني بواحدة منهما تكون نجاتي بها، و يحتمل احتمالا مرجوحا أن يكون نعتا لشفاعة فقط. و النجاة: الخلاص من الهلاك.

يقال: نجا منه ينجو نجاة أي: خلص، و الاسم النجاء بالفتح و المدّ و قد يقصر.

و الفوزة: المرّة من الفوز، و هو الظفر، يقال: فاز بما أمّل يفوز فوزا أي: ظفر به.

و في نسخة ابن إدريس رحمه اللّه: «و فوزي برضاك» من دون تاء، و اللّه أعلم+.

 [ 913] ندم ندما و ندامة- من باب تعب-: إذا فعل شيئا ثمّ كرهه.

و قيل: الندم: تمنّي الإنسان إن ما وقع منه لم يقع. و في الحديث: الندم توبة «4».

و أناب إلى اللّه إنابة: رجع إليه بالتوبة عن المعاصي.

______________________________

 (1) تفسير الكشاف: ج 1 ص 575.

 (2) لم نعثر عليه.

 (3) لا يوجد لدينا كتابه.

 (4) الصحاح: ج 5 ص 2040.

471
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه: ص : 447

الترْكُ لِمَعْصِيَتِكَ إنابَةً فَأنا أوّلُ المُنيبينَ، وَ إنْ يَكُنْ الإسْتِغْفارُ حِطَّةً لِلذُنُوبِ فَإنّي لَكَ مِنَ المُسْتَغْفِرِينَ.

و [ 914] الحطّة بالكسر: فعلة من الحطّ بمعنى الوضع، كالجلسة من الجلوس و الركبة من الركوب.

و في مجمع البيان: حطّة: مصدر مثل ردّة و حدّة من رددت و حددت‏ «1».

قال الخليل: الحطّة: وضع الأحمال عن الدواب‏ «2».

و قال في الأساس: و من المجاز: حطّ اللّه أوزارهم، و حطّ اللّه وزرك، و قولوا حطّة، استحطّوا أوزاكم‏ «3».

و في النهاية: في قوله عليه السّلام: من ابتلاه اللّه في جسده فهو له حطّة، أي:

تحطّ عنه خطاياه و ذنوبه، و هي فعلة من حطّ الشي‏ء يحطّه: إذا أنزله و ألقاه‏ «4».

فإن قلت: «إن» الشرطيّة تختصّ بالمستقبل المشكوك وقوعه، نحو: إن تكرمني اكرمك، و كون الندم توبة و الترك للمعصية إنابة و الاستغفار حطة أمر مجزوم مقطوع به، فما وجه هذا الشرط؟

قلت: قد نصّ أرباب البيان أنّ الأصل في «إن» الشرطيّة أن لا يجزم بشي‏ء من طرفي الشرط، لكنّها قد تستعمل في مقام الجزم لنكتة.

قال الطيبي في التبيان: قد تستعمل «إن» في الجزم، إمّا للاحتياط كما إذا سئل العبد عن سيّده هل هو في الدار؟- و هو يعلم أنّه فيها- فيقول: إن كان فيها أخبرك، فيحتاط بالتجاهل خوفا من السيّد، و إمّا لتقرير وقوع الجزاء و تحقّقه، نحو قول السلطان لمن هو تحت قهره: إن كنت سلطانا انتقمت منك‏ «5»، انته ملخّصا بالمعنى.

______________________________

 (1) مجمع البيان: ج 1- 2 ص 117.

 (2) العين: ج 3 ص 18، و فيه الحطّ.

 (3) أساس البلاغة: ص 131.

 (4) النهاية لابن الأثير: ج 1 ص 402.

 (5) لا يوجد لدينا هذا الكتاب.

472
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه: ص : 447

اللّهُمَّ فَكَما أمَرْتَ بِالتَوْبَةِ وَ ضَمِنْتَ القَبُولَ، وَ حَثثْتَ عَلى‏ الدُعاءِ وَ وَعَدْتَ الإِجابَة، فَصَلِّ عَلى‏ مُحَمَّدٍ وَ آلِهِ وَ اقْبَلْ تَوْبَتِي، وَ لا تَرْجِعْنِي مرْجِعَ الخَيْبَةِ مِنْ رَحْمَتِكَ، إنَّكَ أنْتَ التَوّابُ عَلى‏ المُذْنِبينَ، وَ الرّحيمُ للْخاطِئينَ المُنيبينَ.

و عبارة الدعاء من هذا الباب، و النكتة فيها إمّا الاحتياط و هو ظاهر، و إمّا تقرير وقوع الجزاء و تحقّقه، حيث علّق ندمه و إنابته و استغفاره بكينونة الندم توبة و ترك المعصية إنابة و الاستغفار حطّة، و ذلك أمر محقّق ثابت بالنصّ و الإجماع، فكان المعلّق بها محقّقا ثابتا مثلها.

و الحاصل: أنّها قضيّة شرطية متّصلة، حكم فيها باتّصال تحقّق التالي بتحقّق المقدّم في نفس الأمر اتّصالا على سبيل اللزوم، حتّى إذا تحقّق هذا فيه تحقّق ذاك قطعا، لكنّ المقدّم متحقّق فالتالي مثله.

و قوله عليه السّلام: «فأنا أوّل المنيبين» عبارة عن مسارعته إلى الاتّصاف بالإنابة من غير توقّف و لا إبطاء، و اللّه أعلم+.

 [ 915] الفاء: لترتيب مضمون الكلام على ما ينبئ عنه السياق، من تحقّق توبته و إنابته و استغفاره.

و الكاف: إمّا للتعليل عند من أثبتها له، و ما: مصدريّة كقوله تعالى:

 «وَ اذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ» «1»، و التقديم للقصر، أي: لأجل أمرك بالتوبة و ضمانك القبول لا لغيره.

قال ابن هشام: و زعم الزمخشري و ابن عطيّة و غيرهما أنّ «ما» في الآية كافّة، و فيه إخراج الكاف عمّا ثبت لها من عمل الجرّ لغير مقتض‏ «2»، انته.

و إمّا للتشبيه بجعله من وضع الخاصّ موضع العامّ، كما تقدّم بيانه غير مرّة،

______________________________

 (1) سورة البقرة: الآية 198.

 (2) مغني اللبيب: ص 234.

473
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه: ص : 447

.......... و التقديم للاهتمام كقوله تعالى: «كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ» «1»، و هي في محلّ نصب على النعت لمصدر محذوف، أي: أقبل توبتي قبولا مماثلا لأمرك بالتوبة في كونه إحسانا و تفضّلا.

و «أل» في القبول و الإجابة: إمّا نائبة عن الضمير المضاف إليه، أي: و ضمنت قبولها و وعدت إجابته، و ذلك عند من يرى نيابة «أل» عن الضمير المضاف إليه، و هم الكوفيّون و بعض البصريّين و كثير من المتأخّرين، و خرّجوا عليه‏ «فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى‏» «2» أي: مأواه، و نسبه بعضهم لسيبويه، فإنّه نصّ على أنّ بدل البعض من الكلّ لا بدّ فيه من ضمير، ثمّ فسّر قول العرب: ضرب زيد الظهر و البطن بقوله: ظهره و بطنه.

و إمّا للتعريف فقط عند من لا يرى ذلك، فيقدّر «لها» في الأوّل، و «له» في الثاني، أي: و ضمنت القبول لها و وعدت الإجابة له، و كذلك قدّرة المانعون في الآية، و قدّروا «منه» في المثال.

 [ 916] و الفاء من قوله: «فصلّ» فيها وجهان:

أحدهما: كونها زائدة عند من أثبت أن تكون الفاء زائدة دخولها في الكلام كخروجها، يعني باعتبار أصل المعنى، و إلاّ فكلّ زائد يفيد دخوله التأكيد و خروجه يخلّ بهذه الفائدة، فليس دخوله كخروجه بهذا الاعتبار.

و لهذا أجاب بعض العلماء و قد سئل عن معنى التوكيد الذي يفيد الحرف الزائد و لا يوجد مع حذفه، مع انّ حذفه لا يخل بمعنى الكلام، فقال: هذا شي‏ء يعرفه أهل الطباع، فيقولون: نجد أنفسنا مع وجود الحرف الزائد على خلاف ما نجدها بحذفه، و قال: مثال ذلك مثل العالم بوزن الشعر طبعا، فإذا انكسر البيت قال: أجد نفسي‏

______________________________

 (1) سورة الأعراف: الآية 29.

 (2) سورة النازعات: الآية 41.

474
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه: ص : 447

.......... على خلاف ما أجدها مع تمامه، لا يقدر أنّ يعبّر عمّا يجده باكثره من هذا، فكذلك الحروف المعبّر عنها بالزوائد تتغيّر نفس ذي الطبع السليم عند نقصانها، و يجد نفسه بزيادتها على معنى خلاف ما يجدها عند نقصانها، و من ثمّ أجمعوا على أنّه ليس في القرآن حرف إلاّ و له معنى، و لذلك سمّى بعضهم الحرف الزائد صلة، تفاديا من إطلاق الزائد على شي‏ء من حروف القرآن، و على هذا فالكاف على القول بأنّها تعليليّة متعلّقة ب «صلّ»، لأنّ الفاء زائدة لا يمتنع عمل ما بعدها فيما قبلها.

الثاني: كونها عاطفة على محذوف عند من لا يثبت زيادتها، و التقدير: لأجل أمرك بالتوبة و ضمانك القبول و حثّك على الدعاء و وعدك الإجابة تفضّل فصلّ على محمّد و آله و أقبل توبتي. و عليه فحرف التعليل متعلّق بالمحذوف لا بما بعد الفاء، لئلاّ يلزم عمل ما بعدها فيما قبلها، فقد أجمعوا على أنّ ما بعد واو العطف وفائه و غيرهما من حروف العطف لا يعمل فيما قبلها، لأنّها دلائل على أنّ ما بعدها من ذيول ما قبلها، فكره وقوع ما بعدها قبلها.

و على هذا الوجه خرّج البدر الدماميني ما حكاه سيبويه من قولهم: كما أنّه لا يعلم فتجاوز اللّه عنه، فقال: يحتمل أن يقال فيه: ليست «ما» كافّة و إنّما هي مصدريّة، و إنّه لا يعلم فاعل ثبت مقدّرا، و الفاء عاطفة على محذوف، أي: لأجل ثبوت عدم علمه سامحه اللّه فتجاوز عنه، و حرف التعليل متعلّق بالمحذوف لا بما بعد الفاء، لئلاّ يلزم تقدّم ما بعدها عليها.

قال: و إنّما فعلنا ذلك محافظة على عدم زيادة الفاء، لأنّ سيبويه لا يرى زيادتها «1»، انته بنصه.

و من الفواقر ما وقع لبعضهم هنا من أنّ الفاء في «فصلّ» رابطة لشبه الجواب‏

______________________________

 (1) لم نعثر عليه.

475
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه: ص : 447

.......... بشبه الشرط، كما في الذي يأتيني فله درهم، فسبحان واهب العقول، و إنّ من كان ذلك مبلغه من علم النحو لجدير أن يقعد مع صغار المتأدّبين، لا أنّ يتصدّى لشرح كلام المعصومين.

قوله عليه السّلام: «و لا ترجعني مرجع الخيبة» يقال: رجع يرجع رجوعا- من باب ضرب-: أي انصرف، و يتعدّى بنفسه في اللغة الفصحى، فيقال: رجعته عن الشي‏ء رجعا و مرجعا كمعقد و منزل أي: صرفته و رددته، و بها جاء التنزيل قال تعالى: «فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ» «1» و هذيل تعدّيه بالألف فتقول: أرجعته.

و خاب يخيب خيبة: لم يظفر بما طلب، و في المثل: الهيبة خيبة. و مرجع الخيبة مفعول مطلق مبيّن لنوع عامله.

و من رحمتك: متعلّق به أو بترجعني أو بالخيبة.

 [ 917] و التوّاب- من أسمائه تعالى-: هو الرجاع على عباده بالمغفرة و الذي يكثر إعانتهم على التوبة.

و قال الغزالي في المقصد الأسنى: التوّاب: هو الذي يرجع إلى تيسير أسباب التوبة لعباده مرّة بعد أخرى، بما يظهر لهم من آياته، و يسوق إليهم من تنبيهاته، و يطلعهم عليه من تخويفاته و تحذيراته، حتى إذا اطّلعوا بتعريفه على غوائل الذنوب استشعروا الخوف بتخويفه فرجعوا إلى التوبة، فرجع فضل اللّه إليهم بالقبول‏ «2».

و الرحيم: صفة مشبّهة مبنيّة من رحم بعد جعله لازما بمنزلة الغرائز بنقله إلى رحم بالضمّ كما هو المشهور.

و قيل: ليس بصفة مشبّهة بل صيغة مبالغة، نصّ عليه سيبويه في قولهم: هو رحيم فلانا، و قد سبق الكلام على الرحمة في الروضة الأولى فأغنى عن الإعادة.

______________________________

 (1) سورة التوبة: الآية 83.

 (2) المقصد الأسنى: ص 101.

476
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تنبيه: ص : 477

.......... و تأكيد الجملة لغرض كمال قوّة يقينه عليه السّلام بمضمونها، و الجملة تعليل للدعاء و مزيد استدعاء للإجابة.

تنبيه:

المراد بقبول التوبة: إسقاط العقاب المترتب على الذنب الذي تاب منه، و سقوط العقاب بالتوبة ممّا أجمع عليه أهل الإسلام، و إنّما الخلاف في أنّه هل يجب على اللّه تعالى حتّى لو عاقب بعد التوبة كان ظلما، أو هو تفضل يفعله سبحانه كرما منه و رحمة بعباده؟

المعتزلة على الأوّل، و الأشاعرة على الثاني، و إليه ذهب الشيخ أبو جعفر الطوسي قدّس اللّه روحه في كتاب الاقتصاد «1»، و العلامة جمال الملّة و الدين في بعض كتبه الكلاميّة «2»، و توقّف المحقّق الطوسي طاب ثراه في التجريد «3».

و مختار الشيخين هو الظاهر، و دليل الوجوب مدخول، قاله العلامة البهائي في شرح الأربعين. «4».

تتمّة

قال بعض أرباب القلوب: التائبون المنيبون على أنواع: تائب يتوب من الذنوب و السيّئات، و تائب يتوب من الزلل و الغفلات، و تائب يتوب من رؤية الحسنات و مشاهدة الطاعات، و على هذا سئل بعضهم أيّ الأعمال أرفع ثوابا؟

فأنشد:

إذا محاسني اللاتي ادل بها

 

 كانت ذنوبي فقل لي كيف أعتذر

 

______________________________

 (1) الاقتصاد: ص 124.

 (2) كشف المراد: ص 450.

 (3) لم نعثر عليه.

 (4) لا يوجد لدينا هذا الكتاب.

477
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تتمة ص : 477

اللّهُمَّ صَلِّ عَلى‏ مُحَمَّدٍ وَ آلهِ كَما هَدَيْتَنا بِهِ، وَ صَلِّ عَلى‏ مُحَمَّدٍ وَ آلِهِ كَما اسْتَنْقَذْتَنا بِهِ، وَ صَلِّ عَلى‏ مُحَمَّدٍ وَ آلِهِ صَلاةً تَشْفَعُ لَنا يَوْمَ القِيامَةِ وَ يَوْمَ الفاقَةِ إلَيْكَ، إنَّكَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَديرٌ، وَ هُوَ عَلَيْكَ سَهْلٌ يَسِيرٌ.

كأنّه يشير إلى الحديث المشهور: حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين‏ «1»، و اللّه سبحانه أعلم+.

 [ 918] الصلاة من اللّه تعالى: الرحمة.

و الكاف: تعليليّة أو تشبيهية كما مرّ.

و المراد بالهداية: الدعوة إلى الحقّ و تعريف طريق الصواب.

و انقذه و استنقذه من الشر: خلّصه عنه‏ «2»، و فيه تلميح إلى قوله تعالى: «وَ كُنْتُمْ عَلى‏ شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها» «3»، أي: بأن أرسل إليكم رسولا هداكم للإيمان و دعاكم إليه فنجوتم بإجابته من النار.

روى ثقة الإسلام في كتاب الروضة بسنده عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

كان أبو عبد اللّه عليه السّلام: إذا ذكر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: بأبي و أمّي و قومي و عشيرتي عجبا للعرب كيف لا تحملنا على رءوسها و اللّه عزّ و جلّ يقول في كتابه: «و كنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها»، فبرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنقذوا «4».

 [ 919] و إسناد الشفاعة إلى الصلاة مجاز عقلي لملابسة السببيّة. و الفاقة: الحاجة، أي:

وقت الحاجة، و العرب قد تطلق اليوم و تريد الوقت و الحين نهارا كان أو ليلا، فتقول: ذخرتك لهذا اليوم، أي: لهذا الوقت الذي افتقرت إليك فيه.

______________________________

 (1) بحار الأنوار: ج 73 ص 316.

 (2) «الف»: منه.

 (3) سورة آل عمران: الآية 103.

 (4) روضة الكافي: ص 221- 222 ح 388.

478
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

تتمة ص : 477

.......... و الجملة من قوله عليه السّلام: «إنّك على كلّ شي‏ء قدير» مستأنفة لتعليل الدعاء، فإن كمال قدرته تعالى على جميع الأشياء موجب لقدرته عزّ و جلّ على إجابة دعائه و إنجاح مأموله و رجائه.

و قوله: «و هو عليك يسير» جملة تذييليّة لمزيد استدعاء الإجابة، أي: و ما سألتك عليك سهل يسير لتحقّق القدرة التامّة و قبول المادّة أو كلّ شي‏ء عليك يسير هيّن لا يصعب عليك لكمال قدرتك، و اللّه أعلم. [] هذا آخر الروضة الحادية و الثلاثين من رياض السالكين، و قد وفق اللّه جلّت قدرته لإتمامها و اقتطاف أزهارها من أكمامها، قبيل العصر من يوم الأربعاء لإحدى عشرة خلت من صفر، ثاني شهور السنة الرابعة بعد المائة و الألف من الهجرة النبويّة، على صاحبها و آله أفضل السّلام و التحيّة، و قد وقع الفراغ من نسخها في اليوم الرابع عشر.

479
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

الفهارس ص : 481

 

الفهارس‏

فهرس الموضوعات‏

الروضة الثالثة و العشرون‏

نصّ الدعاء الثالث و العشرين: في سؤال العافية و شكرها 5

خطبة و ديباجة الروضة الثالثة و العشرين 7

في بيان معنى العافية 9

في بيان معنى الصحّة 13

في بيان معنى البصيرة 14

الفرق بين الخشية و الخوف 14

الحجّ و العمرة لغة و شرعا 16

الروايات الواردة في فضلهما 17

في استحباب زيارة قبر الرسول (ص) 17

في استحباب زيارة قبور آل الرسول (عليهم السّلام) 19

في معنى المقبول من الأعمال 20

معنى الشكر و المشكور 21

في بيان معنى شرح القلب 21

معنى الاستعاذة من الشيطان الرجيم 24

في بيان معنى السامّة و العامّة و الحامّة 24

الأقوال في معنى المريد 25

 

481
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

فهرس الموضوعات ص : 481

في بيان معنى المترف و الحفيد 26

تعريف الناصب 27

الدابة لغة و عرفا 27

في بيان معنى قوله عليه السّلام «و من أرادني بسوء فاصرفه عنّي» 28

معنى الجبروت و ميزانها الصرفي 31

في بيان معنى الغمز و الهمز و اللمز 32

قول الكشّاف في قوله تعالى «و استفزز من استطعت منهم بصوتك و أجلب عليهم بخيلك و رجلك» 33

الروضة الرابعة و العشرون‏

نصّ الدعاء الرابع و العشرين: في دعائه لأبويه (ع) 37

خطبة و ديباجة الروضة الرابعة و العشرين 40

رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين ؛ ج‏4 ؛ ص482

 

 بيان المراد من الأبوين 41

الروايات الواردة في الحثّ على برّ الوالدين 42

تنبيه: في وجوب الدعاء للوالدين و لو مرّة في العمر 42

الوجوه في تقديم الدعاء للنبي (ص) على الوالدين 45

في بيان معنى قوله (ع): «و اخصصهم بأفضل صلواتك» 47

في بيان معنى إلهام الخير من اللّه 48

في معنى قوله تعالى: «وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً»+ 50

الأخبار الدّالة على مجهولية أكثر حقوق الوالدين 51

تبصرة: في ما ينفرد به الأبوين من الأحكام 52

تتمّة: في عدم توقّف برّ الوالدين على الإسلام 53

في إعراب «كما» 54

في بيان حق المؤمن على أخيه 55

482
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

فهرس الموضوعات ص : 481

في معنى العسوف 56

برّ الوالدين ما المراد منه؟ 57

في معنى قرّت العين 58

في معنى رقدة الوسنان و ثلج الصدر 59

في بيان معنى قوله (ع): «و ان قلّ و إن كثر» 61

في تفسير قوله تعالى: «و أخفض لهما جناح الذل من الرحمة» 61

الأقوال في معنى القول الكريم 62

في معنى لين العريكة 62

بحث في الشكر من اللّه 63

الفرق بين المسّ و اللمس 65

في بيان معنى الأذى 66

في معنى الخلوص إلى الشي‏ء و الحطّة 67

تحقيق في معنى السرف 69

في التجاوز عن اساءة الأبوين 70

في معنى قوله (ع): «فإنّي لا اتهمهما» 71

الفرق بين المقاصّة و المجازاة 73

بحث لغوي في «إذن» 74

تنبيه: في رسم «إذن» 78

في بيان معنى الحراسة 79

في معنى هيهات 80

في معنى قوله (ع): «و لا أنا بقاض وظيفة خدمتهما» 82

بحث لغوي في لفظة «أمّهات» 83

في اشتقاق لفظة «آل» 84

في حكم الصفة للمتضائفين 85

483
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

فهرس الموضوعات ص : 481

في بيان معنى «آناء» 86

في تفسير قوله تعالى «إنّ ذلك من عزم الأمور» 87

في المراد بمواطن السلامة 88

الروضة الخامسة و العشرون‏

نصّ الدعاء الخامس و العشرين: في دعائه لولده (ع) 93

خطة و ديباجة الروضة الخامسة و العشرين 96

الروايات الواردة في الحثّ على البرّ بالأولاد 97

في معنى قوله تعالى: «و أصلح لي ذريتي» 98

في معنى الأعمار و الآجال 99

في معنى قوله (ع): «و أدرر لي و على يدي أرزاقهم» 100

في بيان معنى الأبرار و الأتقياء و البصراء 102

في معنى العضد 103

في بيان معنى قوله تعالى: «سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ» 104

في بيان معنى قوله (ع): «و أحي بهم ذكري» 105

في معنى المخطئ 107

في معنى قوله تعالى: «أَ يَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَ بَنِينَ‏ ... الآية» 108

تنبيه: في تحقيق سبب عداوة ابليس لآدم (ع) و ذرّيته 110

في تعيين محلّ وسوسة الشيطان 112

في بيان المراد من القلب 113

في معنى جريان الشيطان مجرى الدم 114

الفرق بين الغفلة و النسيان 115

في معنى قوله (ع): «و ينصب لنا» 117

484
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

فهرس الموضوعات ص : 481

في معنى خلف الوعد 118

تنبيه: تعليقة حول قوله (ع): «يضلّنا و يستزلّنا» 120

بحث مختصر في العصمة 123

في تفسير قوله تعالى: «وَ قالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ» 124

في معنى قوله (ع): «و اجعلني في جميع ذلك من المصلحين» 127

في معنى قوله (ع): «غير الممنوعين بالتوكّل عليك» 128

في معنى قوله (ع): «المعوذين بالتعوذ بك» 129

في استعارة لفظ التجارة للأعمال الصالحة 130

ربح المؤمن على المؤمن ربا 131

في معنى قوله (ع): «المجارين بعزّتك» 132

في معنى قوله (ع): «من فضلك الواسع» 133

في معنى قوله (ع): «المعزّين من الذل بك» 134

بحث في الابتلاء 135

في معنى الزلل 137

في معنى قوله (ع): «الموفّقين للخير و الرشد و الصواب» 138

في معنى قوله (ع): «المحال بينهم» 139

في معنى الترك 140

في معنى السكن في جوار اللّه تعالى 141

في الدعاء للمؤمنين 142

في معنى سمع اللّه و علمه 143

في معنى العفوّ و الغفور 144

في معنى الرءوف 145

485
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

فهرس الموضوعات ص : 481

الروضة السادسة و العشرون)

نصّ الدعاء السادس و العشرين: في دعائه لجيرانه و أوليائه 149

خطبة و ديباجة الروضة السادسة و العشرين 150

الأقوال في تحديد معنى الجار 151

في معنى الأولياء 152

في معنى المنابذة 153

الفرق بين الولاية و الولاية 154

في معنى إقامة السنّة 154

في معنى الأدب 155

في معنى الخلّة و العيادة 156

في بيان معنى المواساة 157

الاختلاف في معنى الماعون و اشتقاقه 158

في معنى قوله (ع): «و العود عليهم بالجدة» 159

في معنى قوله (ع): «و اجعلني اللهم أجزي بالإحسان مسيئهم» 161

في معنى «كافّة» و اعرابها 163

في أنّ أفعال المؤمنين محمولة على الصحّة 165

في حرمة سوء الظنّ في المؤمن 166

في تأويل معنى عورة المؤمن 167

في معنى الغيب 169

في معنى حامّة الرجل 170

في بيان المراد من البصيرة 171

486
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

فهرس الموضوعات ص : 481

الروضة السابعة و العشرون)

نصّ الدعاء السابع و العشرين: في دعائه لأهل الثغور 177

خطبة و ديباجة الروضة السابعة و العشرين 182

في معنى الثغور 183

في بعض أحكام المرابطة 184

في معنى العزّة و الحمّاة و القوة 185

في بيان مصداق السلاح 186

في معنى المواترة 187

في معنى المير و المؤن 188

في أنواع الصبر 189

الأقوال في معنى المعرفة 189

في معنى الخدّاعة 191

في معنى خطرات المال 192

في معنى مساكن الخلد 193

في اشتقاق لفظ «الحوراء» و معناه. 194

في معنى الأشجار المتدلية 195

في معنى القرن 196

تنبيه: في تعلّق قوله (ع): «عن قرنه» 197

في معنى قوله (ع): «اللهمّ افلل بذلك عدوّهم» 198

في معنى الوثائق 199

في معنى حار في أمره 201

في معنى بسط اليد و قبضها 202

في معنى خزم الألسنة 203

487
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

فهرس الموضوعات ص : 481

في معنى قوله (ع): «و شرّد بهم من خلفهم» 203

في معنى التنكيل 204

في معنى عقم الأرحام 205

في معنى الأصلاب 206

في معنى إذنه تعالى 207

في تفسير قوله تعالى: «و هو شديد المحال» 209

في فضل الصلاة على الجهاد 210

في معنى الخلوة 211

في معنى البقاع 212

في معنى الغزو 213

في الفرق بين أذهبه و ذهب به 214

في معنى الناحية 214

في معنى المدّ 216

في معنى الملائكة المردفين 217

في المراد بمنقطع التراب 219

في معنى البلد و القطر و المصر و المدينة 221

في أوصاف بلاد الهند و سكّانها 222

في أوصاف بلاد الروم و سكّانها 222

في أوصاف بلاد الترك و سكانها 223

في معنى الخزر 223

في أوصاف بلاد الحبش و النوبة و الزنج 224

في أوصاف الصقالبة 225

في أوصاف الديالمة 226

في معنى قوله (ع): «و قد أحصيتهم» 227

488
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

فهرس الموضوعات ص : 481

هل يتناول لفظ المشركين الكفّار من أهل الكتاب؟ 228

في معنى اشغال المشركين بالمشركين 229

في معنى الأطراف 229

في معنى قوله (ع): «و خذهم بالنقص عن تنقّصهم» 230

في معنى قوله (ع): «اللهمّ أخل قلوبهم من الأمنة» 231

في معنى الأركان و الأبطال 232

في تاريخ «وقعة بدر» 233

الاختلاف في عدد الملائكة يوم بدر 234

الاختلاف في علّة هبوطهم 235

الروايات الواردة في المقام 236

في معنى قوله (ع): «تقطع به دابرهم» 239

في معنى الوباء 241

في معنى رمي الأرض بالخسوف 242

في معنى الحصّ 243

في معنى أمنع الحصون 244

في معنى الجوع المقيم و السقم الأليم 245

في معنى الملّة 247

الجهاد لغة و شرعا 248

في معنى الحزب و الحظّ 249

في معنى الظهر 251

حكم حذف حرف العلّة المبدل من الهمزة 252

في تعريف الشوق 253

في بيان المراد برواية حسن النية 253

في بيان معنى العافية و الجبن 254

489
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

فهرس الموضوعات ص : 481

في معنى تعليم اللّه سبحانه لعباده 255

في تعريف السيرة 256

في معنى المراءاة 257

في ذمّ الرياء شرعا 258

قول لبعض العارفين في المقام 259

في حكمة تقليل العدوّ في عين المجاهد 260

في معنى قوله (ع): «و أدل له منهم و لا تدلهم منه» 261

في معنى السعادة 262

في معنى قوله (ع): «و بعد أن يجهد بهم الأسر» 264

في معنى قوله (ع): «و بعد أن تأمن أطراف المسلمين» 265

في معنى قوله تعالى: «ولّى مدبرا» 266

في بيان معنى المرابط 267

في بيان معنى الحرمة 268

في بيان معنى الوزن 269

في معنى العجلة 270

تنبيهان:

الأوّل: ان ثواب الأعمال الصحالة يكون في الدنيا و الآخرة 271

الثاني: اتّصال الروح بثوابها بعد فراقها للبدن 272

في معنى الجهاد 273

في معنى قوله تعالى: «كتب اللّه لأغلبنّ أنا و رسلي» 274

تحقيق في معنى الصلاة على محمد و آل محمّد 276

في معنى قوله عليه السّلام: «إنّك المنان الحميد» 277

تحقيق في صفات اللّه تعالى و التي جاءت بصيغة المبالغة 277

490
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

فهرس الموضوعات ص : 481

الروضة الثامنة و العشرون‏

نصّ الدعاء الثامن و العشرين: متفزعا إلى اللّه جلّ و عزّ 281

خطبة و ديباجة الروضة الثامنة و العشرين 282

في معنى الفزع إلى اللّه 283

معنى الانقطاع إلى اللّه تعالى 284

تعريف العقل 285

في معنى الارتفاع و الاتّضاع 287

في بيان معنى الأمثال 289

إطلاق الاعتبار على معنيين 290

في بيان معنى الموضع 292

في معنى قوله عليه السّلام: «لك يا إلهي وحدانية العدد» 293

في معنى قوله عليه السّلام: «و ملكة القدرة الصمد» 297

في معنى الفضيلة 301

في منع العلوّ المكاني على اللّه سبحانه 302

في معنى قوله عليه السّلام: «و من سواك مرحوم في عمره» 304

في بيان معنى الشأن 305

تنقل المخلوقات في الصفات 306

في بيان معنى الأضداد 307

الروضة التاسعة و العشرون‏

نصّ الدعاء التاسع و العشرين: إذا قتر عليه الرزق 311

خطبة و ديباجة الروضة التاسعة و العشرين 312

في حكمة ابتلاء اللّه لأنبيائه و أوليائه 313

491
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

فهرس الموضوعات ص : 481

في معنى سوء الظنّ 317

في معنى الأمل 318

في معنى الالتماس 319

فائدة: في من عاش مائة و عشرين سنة كان من المعمّرين 320

ذكر جملة من المعمّرين 324

في معنى الإعفاء 328

التمسك بالأسباب لا ينافي اليقين 329

في بيان معنى التصريح 330

في بيان معنى الحسم 331

في معنى قوله عليه السّلام: «و في السماء رزقكم» 332

في معنى قوله تعالى: «مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ» 333

الروضة الثلاثون‏

نصّ الدعاء الثلاثين: في المعونة على قضاء الدين 339

خطبة و ديباجة الروضة الثلاثين 340

في معنى المعونة 341

في معنى الهمّ 343

تتمة تشتمل على عدة مسائل 444

روايات في ذمّ الدين 345

بحث فقهي في أحكام الدين 346

في بيان معنى الإسراف 348

تحقيق روائي في حسن التقدير 349

في بيان معنى التبذير 350

في بيان معنى الإنفاق 351

492
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

فهرس الموضوعات ص : 481

في بيان معنى الخيلاء 352

تحقق في معنى البغي 353

في معنى قوله تعالى: «إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى‏» 354

في معنى قوله عليه السّلام: «حبّب اليّ صحبة الفقراء» 355

تذنيب في طبقات الفقراء و منزلتهم 358

تحقيق في حسن الصحبة و حقوقها 362

في بيان معنى المتاع 364

في بيان معنى الجوار 366

في أنّ متاع الدنيا يكون سببا للخير و الشرّ 367

في بيان معنى العظيم 368

الروضة الحادية و الثلاثون‏

نصّ الدعاء الحادي و الثلاثين: في ذكر التوبة و طلبها 373

خطبة و ديباجة الروضة الحادية و الثلاثين 378

مباحث في تعريف التوبة و شروطها 379

في معنى قوله عليه السّلام: «لا يصفه نعت الواصفين» 387

في بيان معنى الرجاء 389

في بيان معنى التقوى 390

في معنى الأزمّة 392

في معنى التفريط 394

في معنى قوله عليه السّلام: «تقشّعت عنه سحائب العمى» 395

في بيان معنى التفكّر 396

في بيان معنى الحياء 398

في بيان معنى الإخلاص 399

493
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

فهرس الموضوعات ص : 481

في معنى أفرخ 400

في معنى التضرّع 401

في معنى التذلّل 402

في معنى الإحصاء 403

في معنى قوله تعالى: «وَ تَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَ هُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ» 404

تعريف اللّذة 406

في معنى الاستعظام 407

في معنى تنجّز الوعد 409

في معنى قوله عليه السّلام: «إذ تقول ادعوني أستجب بكم» 410

تنبيه: في قول بعض الأكابر ممن شرح الصحيفة 411

في معنى قوله عليه السّلام: «و القني بمغفرتك» 414

في معنى المصرع 416

في معنى النيّة 417

في معنى قوله عليه السّلام: «و توفني على ملتك» 418

في معنى الإثم و اقسامه 421

تحقيق في التوبة و موارد قبولها 423

في معنى المحكم و المتشابه 426

في معنى قوله عليه السّلام: «إنّك تقبل التوبة» 427

تنبيهان:

الأوّل: شرط المعتزلة عدم معاودة الذنب في صحة التوبة 431

الثاني: عدم لياقة غير المعصوم قراءة بعض فقرات الدعاء 431

كيفية مغفرة اللّه للعبد 433

في تفسير قوله تعالى: «وَ اصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا» 434

494
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

فهرس الموضوعات ص : 481

تنبيهان:

الأوّل: هل ردّ المظالم شرط في صحّة التوبة 435

الثاني: التوبة تستتبع أداء حقوق اللّه 436

في معنى قوله عليه السّلام: «و اعصمني من أن اقارف مثلها» 439

في معنى العصمة 440

في معنى قوله عليه السّلام: «فقوّني بقوّة كافية» 442

في معنى السلامة 446

تنبيه: في تجديد التوبة عند تذكّر الذنب 447

في معنى الكنف 449

في معنى العافية 450

في معنى قوله عليه السّلام: «أو أزال عن محبّتك» 451

في معنى خطرات القلب و أقسامها 452

في معنى السطوة 454

في معنى الخشية و الهيبة 455

في ملازمة التضرّع و الاستغفار 456

في بيان معنى الجزاء 457

في معنى قوله عليه السّلام: «و جللني بسترك» 458

في معنى العزيز 459

في معنى الشفيع 461

في معنى الأثر 464

في اسناد السمع إلى السماء و الأرض 465

تحقيق في الرحمة 467

في معنى قوله تعالى: «وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها» 468

495
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

فهرس الموضوعات ص : 481

في بيان معنى الندم 471

في بيان معنى الحطّة 472

في معنى قوله عليه السّلام: «و لا ترجعني مرجع الخيبة» 476

تنبيه في ان قبول التوبة إسقاط العقاب 477

تتمة في أنواع التائبين 477

في معنى الهداية 478

496
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

فهرس فواتح الجمل من أدعية الصحيفة ص : 497

فهرس فواتح الجمل من أدعية الصحيفة

الدعاء الثالث و العشرون‏

فواتح الأدعية الصفحة

اللّهم صل على محمّد و آله و ألبسني عافيتك ... 10

اللهم صلّ على محمّد و آله و عافني عافية كافية ... 12

و امنن عليّ بالصحّة و الأمن و السلامة في ديني ... 13

اللّهم و امنن عليّ بالحج و العمرة و زيارة قبر رسولك ... 16

و انطق بحمدك و شكرك و ذكرك و حسن الثناء ... 21

و أعذني و ذريتي من الشيطان الرجيم و من شرّ ... 23

اللّهم صلّ على محمد و آله و من أرادني بسوء فاصرفه ... 28

الدعاء الرابع و العشرون‏

اللّهم صلّ على محمّد عبدك و رسولك و أهل بيته الطاهرين ... 45

و اخصص اللهمّ والديّ بالكرامة لديك و الصلاة منك ... 48

اللّهم صل على محمّد و آله و الهمني علم ما يجب لهما عليّ الهاما ... 48

اللّهم صلّ على محمّد و آله كما شرّفتنا به و صلّ على ... 54

اللّهم اجعلني أهابهما هيبة السلطان العسوف ... 56

اللّهم خفّض لهما صوتي و أطب لهما كلامي ... 61

497
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

فهرس فواتح الجمل من أدعية الصحيفة ص : 497

اللّهم اشكر لهما تربيتي و أثبهما على تكرمتي ... 63

اللّهم و ما مسّهما مني من أذى أو خلص إليهما ... 65

اللّهم و ما تعديا عليّ فيه من قول أو أسرفا عليّ ... 68

اللّهم صلّ على محمّد و آله و ذرّيته و اخصص أبويّ ... 84

اللّهم لا تنسني ذكرهما في أدبار صلواتي و في آناء ... 85

اللّهم صل على محمّد و آله و اغفر لي بدعائي لهما و اغفر ... 87

اللّهم و إن سبقت مغفرتك لهما فشفّعهما فيّ و ان سبقت ... 88

الدعاء الخامس و العشرون‏

إلهي امدد لي في أعمارهم و زدلي في آجالهم ... 99

اللّهم اشدد بهم عضدي و أقم بهم أودي ... 103

و أعذني و ذريّتي من الشيطان الرجيم فانّك خلقتنا ... 109

اللّهم أعطني كلّ سؤلي و اقض لي حوائجي ... 123

اللّهم أعطنا جميع ذلك بتوفيقك و رحمتك .... 141

الدعاء السادس و العشرون‏

اللّهم صل على محمّد و آله و تولّني في جيراني و مواليّ ... 152

و وفّقهم لإقامة سنّتك و الأخذ بمحاسن أدبك ... 154

و اجعلني اللّهمّ أجزي بالإحسان مسيئهم و اعرض بالتجاوز ... 161

اللّهم صلّ على محمّد و آله و ارزقني مثل ذلك منهم و اجعل ... 171

الدعاء السابع و العشرون‏

اللّهم صلّ على محمّد و آله و حصّن ثغور المسلمين بعزّتك ... 184

اللّهم صلّ على محمد و آله و كثّر عدّتهم و اشحذ اسلحتهم ... 186

498
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

فهرس فواتح الجمل من أدعية الصحيفة ص : 497

اللّهم صل على محمد و آله، و عرّفهم ما يجهلون و علّمهم ما لا يعلمون و بصرّهم ما لا يبصرون 189

اللّهم صلّ على محمّد و آله و أنسهم عند لقائهم العدوّ ... 191

اللّهم افلل بذلك عدوّهم و اقلم عنهم أظفارهم ... 198

اللّهم عقّم أرحام نسائهم و يبّس أصلاب رجالهم ... 205

اللّهم وقوّ بذلك محال أهل الإسلام و حصّن ... 209

اللّهم اغز بكلّ ناحية من المسلمين على من ... 213

اللّهم و اعمم بذلك اعداءك في أقطار البلاد من الهند ... 221

اللّهم اشغل المشركين بالمشركين عن تناول أطراف المسلمين ... 227

اللّهم أخل قلوبهم من الأمنة و أبدانهم من القوّة و أذهل ... 231

اللّهم و أمزج مياههم بالوباء و أطعمتهم بالأدواء و ارم بلادهم ... 241

اللّهم و أيّما غاز غزاهم من أهل ملّتك أو مجاهد جاهدهم ... 246

فإذا صافّ عدوّك و عدوّه فقللهم في عينه و صغّر شأنهم ... 259

اللّهم و أيّما مسلم خلف غازيا أو مرابطا في داره و تعهّد ... 267

اللّهم و أيّما مسلم أهمّه أمر الإسلام و أحزنه تحزّب أهل الشرك ... 272

اللّهم صلّ على محمّد عبدك و رسولك و آل محمّد صلاة عالية على الصلوات ... 275

اللّهم إنّي أخلصت بانقطاعي إليك و أقبلت بكليّ عليك ... 283

فكم قد رأيت يا إلهي من أناس طلبوا العزّ بغيرك فذلوا ... 286

الدعاء الثامن و العشرون‏

لك يا إلهي وحدانية العدد و ملكة القدرة الصمد و فضيلة ... 293

الدعاء التاسع و العشرون‏

اللّهم انّك ابتليتنا في أرزاقنا بسوء الظن و في آجالنا ... 317

499
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

فهرس فواتح الجمل من أدعية الصحيفة ص : 497

فصل على محمّد و آله و هب لنا يقينا صادقا تغضينا به ... 327

و اجعل ما صرّحت به من عدتك في وحيك و أتبعته من ... 330

فقلت و قولك الحقّ الأصدق و أقسمت و قسمك الأبرّ الأوفى ... 332

الدعاء الثلاثون‏

اللّهم إنّي أعوذ بك من دين تخلق به وجهي و يحار فيه ذهني ... 341

و أعوذ بك يا ربّ من همّ الدين و فكره و شغل الدين و سهره ... 343

و استجير بك يا ربّ من ذلّته في الحياة و من تبعته بعد ... 343

اللّهم صل على محمّد و آله و احجبني عن السرف و الازدياد ... 348

و أجر من أسباب الحلال أرزاقي و وجّه في أبواب البرّ ... 351

اللّهم حبّب إليّ صحبة الفقراء و أعنّي على صحبتهم بحسن الصبر. 355

و ما زويت عنّي من متاع الدنيا الفانية فاذخره لي في خزائنك الباقية. 364

و اجعل ما خولتني من حطامها و عجّلت لي من متاعها بلغة إلى جوارك و وصلة إلى قربك و ذريعة إلى جنّتك 366

انّك ذو الفضل العظيم و أنت الجواد الكريم 368

الدعاء الواحد و الثلاثون‏

اللهم يا من لا يصفه نعت الواصفين و يا من لا يجاوزه رجاء ... 387

هذا مقام من تداولته أيدي الذنوب و قادته أزمة الخطايا ... 392

حتى إذا انفتح له بصر الهدى و تقشعت عنه سحائب ... 395

فأقبل نحوك مؤمّلا لك مستحييا منك و وجّه رغبته إليك ... 397

فمثل بين يديك متضرّعا و غمض بصره إلى الأرض متخشعا و طأطأ رأسه لعزّتك متذلّلا ... 401

و أبثّك من سره ما أنت أعلم به منه خضوعا و عدّد ... 402

500
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

فهرس فواتح الجمل من أدعية الصحيفة ص : 497

لا ينكر يا إلهي عدلك ان عاقبته و لا يستعظم عفوك ... 406

اللّهم فها أنا ذا قد جئتك مطيعا لأمرك فيما أمرت به ... 407

اللّهم فصلّ على محمّد و آله و القني بمغفرتك كما لقيتك ... 414

اللّهم و ثبت في طاعتك نيتي و أحكم في عبادتك ... 417

اللّهم أنّي أتوب إليك في مقامي هذا من كبائر ذنوبي ... 420

و قد قلت يا إلهي في محكم كتابك انك تقبل التوبة عن ... 426

و لك يا ربّ شرطي أن لا أعود في مكروهك و ضماني ... 430

اللّهم انك أعلم بما عملت فاغفر لي ما علمت و اصرفني بقدرتك إلى ما أحببت ... 432

اللّهم و عليّ تبعات قد حفظتهنّ و تبعات قد نسيتهنّ ... 433

اللّهم و انه لا وفاء لي بالتوبة الاّ بعصمتك و لا استمساك ... 440

اللهم أيّما عبد تاب إليك و هو في علم الغيب عندك ... 443

اللّهم إنّي اعتذر إليك من جهلي و استوهبك سوء فعلي ... 447

اللّهم و إنّي أتوب إليك من كلّ ما خالف إرادتك أو أزال ... 450

اللّهم فارحم وحدتي بين يديك و وجيب قلبي من خشيتك ... 454

اللّهم صلّ على محمد و آله و شفّع في خطاياي كرمك و عد على ... 457

اللّهم لا خفير لي منك فليخفرني عزّك و لا شفيع ... 460

فما كلّ ما نطقت به عن جهل مني بسوء أثري ... 462

اللّهم إن يكن الندم توبة إليك فأنا اندم النادمين و إن يكن ... 471

اللّهم فكما أمرت بالتوبة و ضمنت القبول و حثثت على الدعاء ... 473

اللهم صلّ على محمد و آله كما هديتنا به و صل على محمّد و آله ... 478

501
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

فهرس الآيات ص : 502

فهرس الآيات‏

2- سورة البقرة

رقم الآية الصفحة

3 يؤمنون بالغيب 169

8 و ما هم بمؤمنين 412

9 يخادعون اللَّه 412

15 و يمدهم في طغيانهم يعمهون 216

17 و تركهم في ظلمات 140

19 يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت 394

21 لعكم تتقون 469

22 فلا تجعلوا للّه اندادا 469

31 و علم آدم الأسماء كلها 255

36 ان اللَّه لا يستحيي أن يضرب مثلا 298

37 فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه 287

58 قولوا حطة 67

63 خذوا ما آتيناكم بقوة 15

68 قالوا ادعُ لنا ربّك يبين لنا ما هي 413

83 و بالوالدين إحسانا 50

91 مصدقا لما معهم 262

502
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

فهرس الآيات ص : 502

93 خذوا ما آتيناكم بقوة 15

105 ما يودّ الذين كفروا من أهل الكتاب و لا المشركين 228

110 و ما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند اللَّه 365

115 فثم وجه اللَّه 201

116 قالوا اتخذ اللَّه ولدا سبحانه 413

127 و إذ يرفع إبراهيم القواعد 410

152 و اشكروا لي 63 و 64

157 أولئك عليهم صلوات من ربهم و رحمة 445

165 يحبونهم كحب اللَّه 57

186 و إذا سألك عبادي عني فاني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان 143

186 فليستجيبوا لي و ليؤمنوا بي 461

195 و لا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة 118

198 و اذكروه كما هداكم 54 و 415 و 473

200 فإذا قضيتم مناسككم 341

203 و اذكروا اللَّه في ايام معدودات 43

206 و إذا قيل له اتق اللَّه أخذته العزة بالاثم فحسبه جهنم 71

208 ادخلوا في السلم كافة 163

214 و زلزلوا حتى يقول الرسول 318

222 ان اللَّه يحب التوابين و يحب المتطهرين 428

222 ان اللَّه يحب التوابين 429

239 فاذكروا اللَّه كما علّمكم ما لم تكونوا تعلمون 255

249 و من لم يطعمه فانه منّي 242

268 الشيطان يعدكم الفقر و يأمركم بالفحشاء 452

270 و ما انفقتم من نفقة او نذرتم من نذر فان اللَّه يعلمه 470

503
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

فهرس الآيات ص : 502

276 و اللَّه لا يحب كلّ كفار أثيم 140

282 و لا يأب كاتب ان يكتب كما علمه اللَّه 256

3- سورة آل عمران‏

7 هو الذي انزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب و اخر متشابهات 426

30 يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا 465

36 و اني اعيذها بك و ذريتها من الشيطان الرجيم 24

48 و يعلمه الكتاب و الحكمة 255

66 ها أنتم هؤلاء 407

92 لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون 51

103 فأصبحتم بنعمته اخوانا 123

103 و كنتم على شفا حفرة من النار فانقذكم منها 478

108 و ما اللَّه يريد ظلما للعالمين 422

120 ان تمسسكم حسنة تسؤهم و ان تصبكم سيئة يفرحوا بها 66

120 و ان تصبروا و تتقوا لا يضركم كيدهم شيئا 120

123 و لقد نصركم اللَّه ببدر و أنتم أذلة 234

124 إذ تقول للمؤمنون أ لن يكفيكم ان يمدكم ربكم بثلاثة الاف من الملائكة منزلين 234

125 يمددكم ربكم بخمسة الاف من الملائكة 202

125 بلى ان تصبروا و تتقوا و يأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة الاف من الملائكة مسومين 234

127 ليقطع طرفا من الذين كفروا 229 و 265

148 فآتاهم اللَّه ثواب الدنيا و حسن ثواب الآخرة 271

504
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

فهرس الآيات ص : 502

151 سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب 202

159 فبما رحمة من اللَّه لنت لهم 167

185 كل نفس ذائقة الموت 434

4- سورة النساء

9 و ليخش الذين لو تركوا من خلفهم 264

17 انما التوبة على اللَّه للذين يعملون السوء بجهالة 448

18 و ليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال اني تبت الآن و لا الذين يموتون و هم كفار أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما 425

18 قال اني تبت الآن 427

23 و حلائل أبنائكم الذين من أصلابكم 206

28 خلق الإنسان ضعيفا 427 و 431

36 و بالوالدين إحسانا 50

93 و من يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها 193

95 لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر 128

95 فضل اللَّه المجاهدين بأموالهم و أنفسهم على القاعدين درجة 301

103 فإذا قضيتم الصلاة 341

112 و من يكسب خطيئة او اثما ثم يرم به بريئا 470

120 يعدهم و يمنيهم و ما يعدهم الشيطان إلا غرورا 119

135 ان يكن غنيا أو فقيرا فاللّه أولى بهما 470

153 فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا ارنا اللَّه جهرة 332

505
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

فهرس الآيات ص : 502

5- سورة المائدة

3 حرمت عليكم الميتة و الدم و لحم الخنزير 427

6 إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم 247 و 420

6 أو لامستم النساء 65

رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين ؛ ج‏4 ؛ ص506

 

أعدلوا هو أقرب 105

11 اذكروا نعمة اللَّه عليكم إذ همّ قوم ان يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم 202

11 فكف أيديهم عنكم 202

37 عذاب مقيم 245

42 و ان حكمت فاحكم بينهم بالقسط 263

56 فان حزب اللَّه هم الغالبون 249

64 بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء 203

108 و اتقوا اللَّه و اسمعوا 102

110 و تبرئ الأكمه و الأبرص باذني و إذ تخرج الموتى باذني 207

6- سورة الأنعام‏

52 و لا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة و العشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شي‏ء و ما من حسابك عليهم من شي‏ء فتطردهم فتكون من الظالمين 356

59 و عنده مفاتح الغيب لا يعلمها الا هو 445

61 توفته رسلنا 419

73 عالم الغيب و الشهادة 444

91 و ما قدروا اللَّه حق قدره 388

506
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

فهرس الآيات ص : 502

120 و ذروا ظاهر الإثم و باطنه 421

125 فمن يرد اللَّه ان يهديه يشرح صدره للإسلام 22

151 و بالوالدين إحسانا 50

161 دينا قيما ملّة إبراهيم حنيفا 419

7- سورة الأعراف‏

4 فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون 233

12 انا خير منه خلقتني من نار و خلقته من طين 110

18 اخرج منها مذؤما مدحورا 110

29 كما بدأكم تعودون 474

34 لا يستأخرون ساعة 86

38 ادخلوا في أمم 474

55 ادعو ربكم تضرعا و خفية 401

81 انكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم مسرفون 69

88 أو لتعودُنّ في ملتنا 445

95 ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا و قالوا قد مسّ آباءنا الضراء و السراء 318

142 و قال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي 266

161 قولوا حطة 67

171 خذوا ما آتيناكم بقوة 15

172 و إذا أخذ ربّك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم 206

199 خذ العفو و أمر بالعرف و أعرض عن الجاهلين 163

507
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

فهرس الآيات ص : 502

8- سورة الأنفال‏

7 و إذ يعدكم اللَّه 410

9 إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم اني ممدكم بألف من الملائكة مردفين 217

9 فاستجاب لكم اني ممدكم بألف من الملائكة مردفين 234

11 إذ يغشيكم النعاس 410

12 إذ يوحي ربّك إلى الملائكة انّي معكم فثبتوا الذين آمنوا 214

12 فاضربوا فوق الاعناق و اضربوا منهم كل بنان 235 و 238

17 بلاء حسنا 135

24 و اعلموا ان اللَّه يحول بين المرء و قلبه 139

39 و قاتلوهم حتى لا تكون فتنة و يكون الدين كله للّه 210

44 و إذ يريكموهم إذ التقيتم في اعينكم قليلا و يقللكم في أعينهم ليقضي اللَّه أمرا كان مفعولا 260

50 و لو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة 419

57 فاما تثقفنهم في الحرب فشرّد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون 203

60 ترهبون به عدوّ اللَّه و عدوكم 260

9- سورة التوبة

30 و قالت اليهود عزير ابن اللَّه و قالت النصارى المسيح ابن اللَّه ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم اللَّه أنى يؤفكون 228

31 اتخذوا أحبارهم و رهبانهم أربابا من دون اللَّه و المسيح ابن‏

508
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

فهرس الآيات ص : 502

مريم و ما أمروا الا ليعبدوا الها واحدا لا إله الا هو سبحانه عما يشركون 228

32 يريدون أن يطفئوا نور اللَّه بأفواههم 252

36 ان عدة الشهور عند اللَّه اثنا عشر شهرا 435

36 أربعة حرم 435

36 فلا تظلموا فيهن أنفسكم 435

60 انما الصدقات للفقراء و المساكين و العاملين عليها و المؤلفة قلوبهم و في الرقاب و الغارمين 346

75 و منهم من عاهد اللَّه لئن آتانا من فضله لنصّدقن و لنكونن من الصالحين 431

76 فلما آتاهم من فضله بخلوا به و تولّوا و هم معرضون 431

77 فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما اخلفوا اللَّه ما وعدوه و بما كانوا يكذبون 431

83 فان رجعك اللَّه 476

90 و قعد الذين كذبوا اللَّه و رسوله 118

117 رءوف رحيم 47

120 ان اللَّه لا يضيع أجر المحسنين 390

123 قاتلوا الذين يلونكم من الكفار 230

10- سورة يونس‏

7 رضوا بالحياة الدنيا و اطمأنّوا 367

62 ألا أن أولياء اللَّه لا خوف عليهم و لا هم يحزنون 392

83 و ان فرعون لعال في الأرض و انه لمن المسرفين 69

509
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

فهرس الآيات ص : 502

11- سورة هود

1 كتاب احكمت آياته 426

43 لا عاصم اليوم من أمر اللَّه الا من رحم 441 و 442

43 و حال بينهما الموج فكان من المغرقين 139

45 و نادى نوح ربه فقال رب ان ابني من أهلي 332

48 اهبط بسلام منا 399

56 اني توكلت على اللَّه ربي و ربكم ما من دابّة الا هو آخذ بناصيتها ان ربي على صراط مستقيم 28

73 قالوا أ تعجبين من أمر اللَّه رحمت اللَّه و بركاته عليكم أهل البيت انه حميد مجيد 18

91 يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول و انا لنراك فينا ضعيفا و لو لا رهطك لرجمناك و ما أنت علينا بعزيز 315

107 ان ربك فعال لما يريد 278

108 و أما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السموات و الأرض الا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ 262

114 ان الحسنات يذهبن السيئات 433

12- سورة يوسف‏

33 و الاّ تصرف عني كيدهن أصب إليهن 119

35 ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه 81

36 أراني اعصر خمرا 247

43 ان كنتم للرؤيا تعبرون 262

52 اني لم أخنه بالغيب 169

510
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

فهرس الآيات ص : 502

76 و فوق كل ذي علم عليم 389

86 انما اشكو بثي و حزني إلى اللَّه 445

89 هل علمتم ما فعلتم بيوسف و أخيه إذ أنتم جاهلون 448

13- سورة الرعد

2 يدبر الأمر 187

13 و هو شديد المحال 209

21 يخشون ربهم و يخافون سوء الحساب 14

41 أو لم يروا انا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها 229

14- سورة إبراهيم‏

9 فردّوا أيديهم في أفواههم 430

14 و ذلك لمن خاف مقامي و خاف وعيد 391

35 و اجنبني و بنيّ ان نعبد الأصنام 16

15- سورة الحجر

21 و ان من شي‏ء الا عندنا خزائنه و ما ننزله الا بقدر معلوم 317

29 فإذا سوّيته و نفخت فيه من روحي 46

34 فاخرج منها فإنك رجيم 456

94 فاصدع بما تؤمر 109

16- سورة النحل‏

28 الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم 419

32 الذين تتوفاهم الملائكة طيبين 419

511
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

فهرس الآيات ص : 502

61 لا يستأخرون ساعة 86

63 و لهم عذاب اليم 245

70 و منكم من يرد إلى أرذل العمر 193

90 و ينهى عن الفحشاء و المنكر و البغي 353

98 فإذا قرأت القرآن فاستعذ باللّه 247 و 420

106 و لكن من شرح بالكفر صدرا 22

126 و ان عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به 263

17- سورة الاسراء

6 و أمددناكم بأموال و بنين 216

17 و بالوالدين إحسانا 50

18 من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء 366

23 و قضى ربك الاّ تعبدوا الا إياه و بالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما افّ و لا تنهرهما و قل لهما قولا كريما 41

23 الا تعبدوا الا إياه و بالوالدين إحسانا 43

23 و قل لهما قولا كريما 61

23 و 24 إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما اف و لا تنهرهما و قل لهما قولا كريما و اخفض لهما جناح الذل من الرحمة 51

24 و اخفض لهما جناح الذل من الرحمة و قل رب ارحمهما كما ربياني صغرا 41

24 و اخفض لهما جناح الذل من الرحمة 61

24 و قل ربّ ارحمهما كما ربياني صغيرا 42

26 و آت ذا القربى حقه و المسكين و ابن السبيل و لا تبذر تبذيرا 350

512
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

فهرس الآيات ص : 502

27 ان المبذرين كانوا اخوان الشياطين و كان الشيطان لربه كفورا 351

64 و استفزز من استطعت منهم بصوتك و أجلب عليهم بخيلك و رجلك 33

85 قل الروح من أمر ربّي 113

85 و ما أوتيتم من العلم الاّ قليلا 47

18- سورة الكهف‏

18 و تحسبهم أيقاظا و هم رقود 59

28 و اصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة و العشي يريدون وجهه و لا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا و لا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا و اتبع هواه و كان أمره فرطا 356

28 و اصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم 357

34 انا أكثر منك مالا و أعز نفرا 404

65 علمناه من لدنا علما 255

108 لا يبغون عنها حولا 198

110 فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا و لا يشرك بعبادة ربه أحدا 258

19- سورة مريم‏

13 و كان تقيّا 102

14 و برّا بوالديه 102

25 و هزي إليك بجذع النخلة 117 و 215

71 كان على ربك حتما مقضيا 132

79 و نمد له من العذاب مدا 216

513
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

فهرس الآيات ص : 502

95 و كلهم آتيه يوم القيامة فردا 434

20- سورة طه‏

7 يعلم السرّ و أخفى 126

22 و اضمم يدك إلى جناحك 449

46 لا تخافا انني معكما اسمع و أرى 214

68 لا تخف انك أنت الأعلى 249

108 و خشعت الأصوات للرحمن 402

 (21) سورة الأنبياء

17 و أرادوا به كيدا 29

34 و ما جعلنا لبشر من قبلك الخلد 193

45 قل انما انذركم بالوحي 331

51 و لقد آتينا إبراهيم رشده من قبل و كنّا به عالمين 139

91 فنفخنا فيه من روحنا 46

101 ان الذين سبقت لهم منا الحسنى 88

104 كما بدأنا أول خلق نعيده 278

 (22) سورة الحج‏

15 فليمدد بسبب إلى السماء 117 و 264

25 و من يرد فيه بإلحاد 117

46 فانها لا تعمى الأبصار و لكن تعمى القلوب التي في الصدور 396

514
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

فهرس الآيات ص : 502

 (23) سورة المؤمنون‏

35 أ يعدكم أنكم إذا متّم و كنتم ترابا و عظاما انكم مخرجون 81

36 هيهات هيهات لما توعدون 81

55 أ يحسبون أنما نمدّهم به من مال و بنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون 108

 (24) سورة النور

2 و لا تأخذكم بهما رأفة 198

15 و تحسبونه هيّنا و هو عند اللَّه عظيم 404

33 لا يجدون نكاحا 245

45 و اللَّه خلق كلّ دابة من ماء 27

 (25) سورة الفرقان‏

41 أ هذا الذي بعث اللَّه رسولا 364

59 فاسأل به خبيرا 460

67 و الذين إذا انفقوا لم يسرفوا و لم يقتروا و كان بين ذلك قواما 348

70 الا من تاب و آمن و عمل عملا صالحا فأولئك يبدّل اللَّه سيئاتهم حسنات 418

 (26) سورة الشعراء

111 أ نؤمن لك و اتبعك الأرذلون 356

515
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

فهرس الآيات ص : 502

 (27) سورة النمل‏

10 ولى مدبرا 266

47 قالوا أطيّرنا بك 413

54 أ تاتون الفاحشة و أنتم تبصرون 190

 (28) سورة القصص‏

24 رب اني لما أنزلت الي من خير فقير 315

35 سنشد عضدك بأخيك 104

58 و كم أهلكنا من قرية 286

81 فخسفنا به و بداره الأرض 242

 (29) سورة العنكبوت‏

8 و وصينا الإنسان بوالديه حسنا 53

14 فلبث فيهم الف سنة الا خمسين عاما 321

62 اللَّه يبسط الرزق لمن يشاء من عباده و يقدر له 313

 (31) سورة لقمان‏

14 ان اشكر لي و لوالديك 43

15 و ان جاهداك على ان تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما و صاحبهما في الدنيا معروفا 53

17 ان ذلك من عزم الأمور 87 و 88

18 ان اللَّه لا يحب كل مختال فخور 463

27 و البحر يمده من بعده سبعة أبحر 216

516
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

فهرس الآيات ص : 502

 (32) سورة السجدة

8 ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين 46

9 ثمّ سوّاه و نفخ فيه من روحه 46

32 قل يتوفاكم ملك الموت الذي و كلّ بكم 419

 (33) سورة الأحزاب‏

4 و اللَّه يقول الحق و هو يهدي السبيل 122

37 و إذ تقول للذي انعم اللَّه عليه و أنعمت عليه 410

40 ما كان محمّد أبا أحد من رجالكم و لكن رسول اللَّه و خاتم النبيين 45

56 يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه و سلموا تسليما 43

 (34) سورة سبأ

28 و ما أرسلناك الاّ كافة للناس 163

39 و ما انفقتم من شي‏ء فهو يخلفه و هو خير الرازقين 126

54 و حيل بينهم و بين ما يشتهون 139 و 383

 (35) سورة فاطر

10 من كان يريد العزة فلله العزة جميعا 402

14 و لا ينبئك مثل خبير 460

18 الذين يخشون ربهم بالغيب 169

22 و ما أنت بمسمع من في القبور 466

28 انما يخشى اللَّه من عباده العلماء 15 و 390 و 455

517
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

فهرس الآيات ص : 502

34 و قالوا الحمد للّه الذي أذهب عنا الحزن 413

37 نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل 128

 (36) سورة يس‏

23 ان يردن الرحمن بضر 29

76 فلا يحزنك قولهم انا نعلم ما يسرّون و ما يعلنون 411

 (37) سورة الصافات‏

84 إذ جاء ربه بقلب سليم 408

97 قالوا ابنوا له بنيانا 413

102 فلما بلغ معه السعي 197

 (38) سورة ص‏

16 و قالوا ربنا عجل لنا قطّنا قبل يوم الحساب 366

20 و آتيناه الحكمة و فصل الخطاب 412

23 و عزني في الخطاب 185 و 461

 (39) سورة الزمر

9 هل يستوي الذين يعلمون و الذين لا يعلمون 127

10 انما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب 360

42 اللَّه يتوفى الأنفس حين موتها 418 و 419

53 ان اللَّه يغفر الذنوب جميعا 428

73 ادخلوها خالدين 410

74 و قالوا الحمد للّه الذي صدقنا وعده 414

518
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

فهرس الآيات ص : 502

74 و أورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء فنعم أجر العاملين 307

 (40) سورة غافر

15 رفيع الدرجات 302

36 لعلي ابلغ الأسباب 468

37 أسباب السموات فاطلع 468

60 ادعوني استجب لكم 124 و 125 و 409 و 414

60 و قال ربكم ادعوني استجب لكم ان الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين 410

60 ان الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين 125

 (41) سورة فصّلت‏

11 ثم استوى إلى السماء و هي دخان فقال لها و للأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين 465

21 قالوا أنطقنا اللَّه الذي أنطق كل شي‏ء 21

 (42) سورة الشورى‏

25 و هو الذي يقبل التوبة عن عباده و يعفو عن السيئات و يعلم ما تفعلون 427

27 و لو بسط اللَّه الرزق لعباده لبغوا في الأرض 354

40 و جزاء سيئة سيئة مثلها 162 و 468

519
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

فهرس الآيات ص : 502

 (43) سورة الزخرف‏

32 نحن قسمنا بينهم معايشهم في الحياة الدنيا 317

 (44) سورة الدخان‏

25 كم تركوا من جنات 286

31 انه كان عاليا من المسرفين 69

54 و زوجناهم بحور عين 194

 (45) سورة الجاثية

22 و خلق اللَّه السموات و الأرض بالحق و لتجزى كل نفس بما كسبت و هم لا يظلمون 83

 (46) سورة الأحقاف‏

15 و أصلح لي في ذريتي 98 و 152

 (47) سورة محمّد

5 سيهديهم و يصلح بالهم 126

15 مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن و أنهار من لبن لم يتغير طعمه و انهار من خمر لذة للشاربين و انهار من عسل مصفى‏ 195

15 و لهم فيها من كل الثمرات 196

21 فإذا عزم الأمر 88

33 اطيعوا اللَّه و أطيعوا الرسول و أولي الامر منكم 55

520
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

فهرس الآيات ص : 502

 (48) سورة الفتح‏

25 و لو لا رجال مؤمنون و نساء مؤمنات 121

27 لقد صدق اللَّه رسوله الرؤيا بالحق 118

29 أشداء على الكفار رحماء بينهم 255

 (49) سورة الحجرات‏

7 لو يطيعكم في كثير من الأمر 409

11 و من لم يتب فأولئك هم الظالمون 382

 (50) سورة ق‏

33 من خشي الرحمن بالغيب 455

40 و من الليل فسبّحه و أدبار السجود 86

 (51) سورة الذاريات‏

22 و في السماء رزقكم 334

23 فورب السماء و الأرض انه لحق 334

23 مثل ما انكم تنطقون 333

 (52) سورة الطور

48 و اصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا 434

 (53) سورة النجم‏

42 و ان إلى ربك المنته 465

521
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

فهرس الآيات ص : 502

 (54) سورة القمر

42 فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر 460

54 ان المتقين في جنات و نهر 367

55 في مقعد صدق عند مليك مقتدر 367

 (55) سورة الرحمن‏

1 الرحمن 111

2 علّم القرآن 111

3 خلق الإنسان 111

4 علمه البيان 111

60 هل جزاء الإحسان الا الإحسان 161

 (56) سورة الواقعة

86 فلو لا ان كنتم غير مدينين 121

87 ترجعونها ان كنتم صادقين 121

 (57) سورة الحديد

23 و اللَّه لا يحب كل مختال فخور 140

27 رأفة و رحمة 47

 (58) سورة المجادلة

21 كتب اللَّه لأغلبن أنا و رسلي 274

522
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

فهرس الآيات ص : 502

 (59) سورة الحشر

2 فاعتبروا يا أُولي الأبصار 290

 (60) سورة الممتحنة

1 تسرون إليهم بالمودة 169

2 و يبسطوا إليكم أيديهم و ألسنتهم بالسوء 202

 (62) سورة الجمعة

11 و إذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها 470

 (63) سورة المنافقون‏

10 من قبل ان يأتي أحدكم الموت فيقول رب لو لا أخرتني الى اجل قريب 383

 (65) سورة الطلاق‏

11 خالدين فيها ابدا 193

 (66) سورة التحريم‏

8 يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى اللَّه توبة نصوحا 382

 (67) سورة الملك‏

5 و جعلناها رجوما للشياطين 23

15 فامشوا في مناكبها و كلوا من رزقه 330

523
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

فهرس الآيات ص : 502

 (68) سورة القلم‏

10 و لا تطع كل حلاف مهين 140

43 خاشعة أبصارهم 402

 (69) سورة الحاقة

19 هؤم اقرءوا كتابيه 458

20 اني ظننت اني ملاق حسابيه 458

21 فهو في عيشة راضية 458

22 في جنة عاليه 458

 (70) سورة المعارج‏

44 خاشعة أبصارهم 402

 (71) سورة نوح‏

17 و اللَّه انبتكم من الأرض نباتا 270

 (72) سورة الجن‏

3 و انه تعالى جد ربنا 249

 (73) سورة المزمّل‏

20 و ما تقدّموا لانفسكم من خير تجدوه عند اللَّه 270

524
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

فهرس الآيات ص : 502

 (74) سورة المدّثر

33 و الليل إذا أدبر 405

 (76) سورة الإنسان‏

9 انما نطعمكم لوجه اللَّه لا نريد منكم جزاء و لا شكورا 43

24 و لا تطع منهم آثما أو كفورا 451

 (79) سورة النازعات‏

41 فإنّ الجنّة هي المأوى 474

 (83) سورة المطففين‏

2 إذا اكتالوا على الناس يستوفون 131

14 كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون 384

 (85) سورة البروج‏

13 انه هو يبدئ و يعيد 278

 (86) سورة الطارق‏

5 فلينظر الإنسان ممّ خلق 206

6 خلق من ماء دافق 206

7 يخرج من بين الصلب و الترائب 206

525
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

فهرس الآيات ص : 502

 (87) سورة الأعلى‏

1 سبّح اسم ربّك الأعلى 85

 (89) سورة الفجر

29 فادخلى في عبادي 83

 (91) سورة الشمس‏

7 و نفس و ما سويها 113

 (94) سورة الشرح‏

2 و وضعنا عنك وزرك 439

7 فإذا فرغت فانصب و إلى ربّك فارغب 86

 (96) سورة العلق‏

6 ان الإنسان ليطغى 354

7 ان رآه استغنى 354

17 فليدع ناديه 215

 (98) سورة البيّنة

1 لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب و المشركين 228

 (99) سورة الزلزلة

5 بأن ربّك أوحى لها 169

 (113) سورة الفلق‏

1 قل أعوذ بربّ الفلق 129

 (114) سورة الناس‏

1 قل أعوذ بربّ النّاس 129

5 الذي يوسوس في صدور الناس 111 و 112

526
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

فهرس الأحاديث ص : 527

فهرس الأحاديث‏

حرف الألف‏

القائل الصفحة

الباقر (ع): ابدءوا بمكة و اختموا بنا 18

الصادق (ع): اتى رجل رسول اللَّه (ص) فقال: يا رسول اللَّه اني راغب في الجهاد ... 51

الصادق (ع): الإحسان أن تحسن صحبتهما ... 51

الصادق (ع): إذا تاب العبد توبة نصوحا ... 428 و 450

رسول اللَّه (ص): أربعة لا ترد لهم دعوة ... 97

في الحديث: أرزاق الخلائق في السماء الرابعة ... 333

في الحديث: اسبغوا لليتيم في النفقة 185

في الحديث: استقيموا لقريش ما استقاموا لكم 106

النبي (ص): أسره ملك من الملائكة كريم 239

النبي (ص): اعجل الخير ثوابا صلة الرحم 271

الامام علي (ع): اعلموا علما يقينا ان اللَّه لم يجعل للعبد ... 318

النبي (ص): اعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين 322

الامام علي (ع): اعملوا في غير رياء و لا سمعة ... 258

في الحديث: اعوذ بكلمات اللَّه التامة ... 25

527
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

فهرس الأحاديث ص : 527

الصادق (ع): (لعثمان بن عيسى) افترى اللَّه عز و جل اخلف وعده 125

الصادق (ع): (حول معنى الصمد) الذي ليس بمجوف 300

الصادق (ع): اللَّه عز و جل يلتفت يوم القيامة إلى فقراء ... 359

النبي (ص): اللهم احيني مسكينا ... 357

الامام علي (ع): اللهم اغفر لي ما أنت اعلم به مني 433

المعصوم (ع): اللهم ان كثرة الذنوب تكف أيدينا ... 462

النبي (ص): ان أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر ... 258

الصادق و الباقر (ع): ان آدم عليه السلام قال: يا ربّ سلّطت ... 115

الامام علي (ع): ان التوبة يجمعها ستة أشياء: على الماضي ... 381

في الحديث: ان الشيطان يجري من بني آدم ... 114

الصادق (ع): ان العبد المؤمن الفقير ليقول: يا رب ارزقني ... 274

الباقر (ع): ان العبد ليكون برا بوالديه في حياتهما ... 42

الصادق (ع): ان اللَّه تبارك و تعالى جعل لملك الموت ... 419

الصادق (ع): ان اللَّه تعالى يبتلي المؤمن بكل بلية ... 113

الصادق (ع): ان اللَّه جل ثناؤه ليعتذر إلى عبده المؤمن ... 358

الصادق (ع): ان اللَّه خلق خلقا ضنّ بهم عن البلاء ... 136

الباقر (ع): ان اللَّه عز و جلّ أوحى إلى داود عليه السلام ... 443

الصادق (ع): ان اللَّه عز و جل يقول: ان الذين يستكبرون ... 125

الصادق (ع): ان اللَّه ليرحم العبد لشدة حبه لولده 97

الامام علي (ع): ان اللَّه يبتلى العبد و هو يحبه ليسمع تضرعه 316

الصادق (ع): ان اللَّه يحب العبد المفتن التوّاب ... 446

في الحديث: ان اللَّه يحب من عباده المفتن التوّاب 428

النبي (ص): ان اللَّه يقبل توبة العبد ما لم يغرغر 425

528
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

فهرس الأحاديث ص : 527

عنهم (ع): ان المحكم ما يعمل به و المتشابه ... 427

الامام علي (ع): ان الندم على الشر يدعو إلى تركه 381

النبي (ص): ان امرأة نادت ابنها و هو في صومعة ... 53

الامام علي (ع): (يصف المؤمن) ان بغي عليه صبر ... 134

في الحديث: ان جبرئيل عليه السّلام نزل على رسول اللَّه (ص) ... 162

الصادق (ع): ان فقراء المؤمنين يتقلبون في رياض الجنة ... 358

الصادق (ع): ان كان على يديه من غير فساد ... 347

الرضا (ع): ان لكل إمام عهدا في عنق شيعته ... 19

في الحديث: ان للَّه تعالى ضنائن من خلقه ... 135

الصادق (ع): ان للَّه عز و جل ضنائن من خلقه يغذوهم ... 136

الباقر (ع): ان للَّه عز و جل ضنائن يضن بهم ... 135

الصادق (ع): ان له بكل درهم عشرة ... 347

في الخبر: ان من حق المسلم لأخيه ما يحب ... 142

السجاد (ع): اني اجالس من انتفع بمجالسته في ديني 357

حديث قدسي: (لموسى (ع)) أوصيك بأمك ... 51

النبي (ص): أولئك قوم عجلت طيباتهم و هي ... 565

الامام علي (ع): إياكم و الدّين فانه مذلة ... 345

حرف الباء

الصادق (ع): (إذا ذكر رسول اللَّه (ص)) بأبي و أمي ... 345

حرف التاء

النبي (ص): تابعوا بين الحج و العمرة ... 17

الصادق (ع): تعوذوا من غلبة الدين ... 345

النبي (ص): تفكروا في الاء اللَّه ... 396

529
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

فهرس الأحاديث ص : 527

حرف الثاء

في الخبر: ثلاثة لا يحل منعها: الماء و النار و الملح 158

حرف الجيم‏

النبي (ص): الجار إلى أربعين دارا 151

حرف الحاء

الصادق (ع): الحاج و المعتمر وفد اللَّه ... 17

النبي (ص): الحجة ثوابها الجنة ... 17

الباقر (ع): حد الجوار أربعون دارا ... 151

في الحديث: حسنات الأبرار سيئات المقربين 478

في الحديث: حسن الملكة نماء و سوء الملكة شؤم 297

النبي (ص): الحمد للَّه الذي لم يمتني حتى أمرني ... 357

حرف الخاء

حديث قدسي: خلقت الخير و أجريته على يدي ... 101

النبي (ص): خير سبيكم النوبة 224

حرف الدال‏

الصادق (ع): الدعاء هو العبادة التي قال اللَّه ... 125

النبي (ص): الدين ربقة اللَّه في الأرض ... 345

530
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

فهرس الأحاديث ص : 527

حرف الراء

الصادق (ع): ربح المؤمن على المؤمن ربا ... 131

الصادق (ع): الرجل يعمل شيئا من الثواب لا يطلب ... 258

النبي (ص): رحم اللَّه والدين أعانا ولدهما على برهما 97

الصادق (ع): الرزق: المطر ينزل من السماء ... 333

النبي (ص): الرياء أخفى من دبيب النملة ... 258

حرف السين‏

الباقر (ع): (لرجل) سألت قوت النبيين، قل ... 133

الصادق (ع): (عن حق المسلم) سبع حقوق واجبات ... 55

الصادق (ع): (عن حق المسلم) سبعون حقا 55

الباقر (ع): السيد المصمود إليه في القليل و الكثير 298

حرف الصاد

الباقر (ع): صلة الأرحام تزكي الأعمال ... 271

الحسين (ع): الصمد الذي لا جوف له ... 298

أبو الحسن (ع): الصمد الذي لا جوف له 300

السجاد (ع): الصمد الذي لا شريك له ... 299

السجاد (ع): الصمد الذي لا من شي‏ء ... 299

الباقر (ع): الصمد السيد المطاع الذي ... 298

حرف الطاء

النبي (ص): طوبى للمساكين بالصبر ... 359

531
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

فهرس الأحاديث ص : 527

حرف الضاد

الصادق (ع): ضمان الحاج و المعتمر على اللَّه ... 17

حرف العين‏

النبي (ص): عرض علي ربي ان يجعل لي بطحاء مكة ... 317

الباقر (ع): علامات المؤمن ثلاث ... 349

النبي (ص): (و قد حمل ميت إلى المسجد) على ميتكم دين ... 345

حرف الفاء

الامام علي (ع): فان اللَّه سبحانه يختبر عباده المستكبرين ... 314

الامام علي (ع): الفقر أزين للمؤمن من العذار ... 358

الصادق (ع): الفقير الذي لا يسأل الناس ... 358

الصادق (ع): في مناجاة موسى عليه السلام: يا موسى ... 358

حرف القاف‏

الصادق (ع): قد عرفت حال محمّد و انقطاعه إلينا و قد ... 438

حرف الكاف‏

المعصوم (ع): الكاد على عياله كالمجاهد في سبيل اللَّه 346

الصادق (ع): كان أبي يقول: خمس دعوات لا يحجبن عن ... 97

الصادق (ع): كان علي عليه السلام يحبس الرجل إذا ... 347

الباقر (ع): كان محمد بن الحنفية يقول: الصمد القائم ... 299

الباقر (ع): كانت على الملائكة العمائم البيض ... 236

532
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

فهرس الأحاديث ص : 527

النبي (ص): كل أربعين دار جيران ... 151

الباقر (ع): كل ذنب يكفره القتل في سبيل اللَّه ... 345

الصادق (ع): الكمال كل الكمال في ثلاثة ... 349

الصادق (ع): (لمولى له) كم عندنا من طعام ... 349

الصادق (ع): (عمن زار رسول اللَّه (ص)) كمن زار اللَّه ... 19

الصادق (ع): (لرجل) كيف من خلفت من اخوانك ... 160

رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين ؛ ج‏4 ؛ ص533

 

ف اللام‏

النبي (ص): لا أحصي ثناء عليك ... 388

الرضا (ع): لا، الاّ ان يخاف على ذراري المسلمين ... 184

الامام عليّ (ع): لا تجاوزوا بنا ما قالت الملائكة ... 19

الصادق (ع): لا خير فيمن لا يحب جمع المال من حلال ... 352

المعصوم (ع): لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق 54

النبي (ص): لا فانهما كانا يفعلان ذلك و هما يحبان بناءك ... 65

المعصوم (ع): لا مال لمن لا تقدير له 349

النبي (ص): لا وجع الا وجع العين ... 345

في الخبر: لا يزال الدعاء محجوبا حتى يصلى على محمد و آله 275

النبي (ص): للمؤمن على المؤمن سبع حقوق واجبة ... 55

الصادق (ع): لما أفاض آدم من منى تلقته ... 16

النبي (ص): لم أر شيئا أحسن طلبا ... 433

النبي (ص): لمة الشيطان تكذيب بالحق ... 452

النبي (ص): لم تكن سيئة الخلق حين حملتك ... 65

النبي (ص): لو كان جريح فقيها لعلم ان إجابة أمه ... 53

في الحديث: لو لا الفقراء لم يستوجب الأغنياء الجنة 359

533
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

فهرس الأحاديث ص : 527

الصادق (ع): ليس حيث يذهبون انما عنى عورة المؤمن ... 167

الامام علي (ع): ليس لصفته حد محدود ... 389

الصادق (ع): ليس هذا طلب الدنيا ... 352

النبي (ص): ليلة أسري بي إلى السماء رأيت ... 223

حرف الميم‏

الصادق (ع): ما أعظم حق المسلم على أخيه المسلم 55

النبي (ص): ما أنا بطارد المؤمنين ... 356

الامام علي (ع): ما كنت تصنع بسعة هذه الدار ... 368

الباقر (ع): ما من شي‏ء أفسد للقلب من خطيئة ... 384

النبي (ص): ما من صاحب يصحب صاحبا و لو ساعة ... 364

الباقر (ع): ما من عبد الا و في قلبه نكتة بيضاء ... 384

حديث قدسي: ما من مخلوق يعتصم بمخلوق دوني ... 288

النبي (ص): ما من مولود يولد الا و الشيطان يمسه ... 24

النبي (ص): ما من مؤمن دعا للمؤمنين و المؤمنات ... 142

الصادق (ع): ما هو ان ينكشف فيرى منه شي‏ء و انما ... 167

الصادق (ع): ما يمنع الرجل منكم ان يبرّ والديه ... 42

الصادق (ع): المصائب منح من اللَّه ... 358

النبي (ص): من أتى مكة حاجا او معتمرا و لم يزرني ... 18

النبي (ص): من أتى مكة حاجا و لم يزرني ... 17

الامام علي (ع): من آتاه اللَّه مالا فليصل به القرابة ... 367

الصادق (ع): من استدان دينا فلم ينو قضاءه ... 346

الصادق (ع): من أغاث أخاه المؤمن اللهفان ... 271

النبي (ص): من انقطع إلى اللَّه كفاه كل مئونة ... 129

534
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

فهرس الأحاديث ص : 527

المعصوم (ع): من باب كالا في طلب الحلال غفر له 346

النبي (ص): من حج و لم يزرني فقد جفاني 17

في الحديث: من شرما أعطي الرجل شح هالع ... 200

النبي (ص): من طلب الشهادة بصدق بلغه اللَّه ... 275

النبي (ص): من طلب الشهادة صادقا أعطيها ... 275

الرضا (ع): من طلب هذا الرزق من حل ليعود ... 346

الصادق (ع): من كان عليه دين ينوي قضاءه ... 346

حرف النون‏

في الحديث: الندم توبة 471

النبي (ص): نعم، الصلاة عليهما و الاستغفار لهما 42

الصادق (ع): نعم العون الدنيا على الآخرة 352

الباقر و الصادق (ع): نعم العون الدنيا على طلب الآخرة 368

النبي (ص): نعم العون على تقوى اللَّه الغنى 368

النبي (ص): نور يقذفه اللَّه في قلب المؤمن 22

حرف الهاء

النبي (ص): هؤلاء أهل بيتي و حامّتى اذهب عنهم الرجس 170

الباقر (ع): هل سمّي عالما و قادرا الاّ لأنه وهب ... 338

النبي (ص): هل من والديك أحد؟ قال: نعم كلاهما ... 52

الباقر (ع): هل يعطف الغني على الفقير 160

الصادق (ع): هو أخبار القيامة و الرجعة ... 333

الصادق (ع): هو الدعاء في دبر الصلاة و أنت جالس ... 86

الصادق (ع): هو الذي يغلب و لا يغلب 299

535
رياض السالکين في شرح صحيفة سيد الساجدين4

فهرس الأحاديث ص : 527

الصادق (ع): هو القرض تقرضه، و المعروف تصنعه 158

حرف الواو

الامام علي (ع): واحد لا بعدد، و دائم لا بأمد 294

الصادق (ع): و إذا علمت ان له حاجة ... 161

الصادق (ع): والديك، قال: قد مضيا، قال: بر ولدك 97

الامام علي (ع): و اللَّه لقد شهدنا في عسكرنا هذا قوم ... 275

الامام علي (ع): و ان العالم العامل بغير علمه ... 395

الامام علي (ع): و ايم اللَّه يمينا استثني فيها بمشيئة اللَّه ... 314

حديث قدسي: و عزّتي و جلالي و مجدي و ارتفاعي لأقطعنّ ... 288

الامام علي (ع): و لقد كان في رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله كاف ... 315

حرف الياء

الحسين (ع): (لرسول اللَّه (ص)) يا أبتا ما لمن زارك ... 18

حديث قدسي: يا أحمد ان المحبة للَّه هي المحبة للفقراء ... 357

الامام علي (ع): يا أعرابي ان القول بأن اللَّه واحد ... 294

الصادق (ع): يا داود لا يصلح المرء المسلم الاّ ثلاثة ... 350

النبي (ص): (يوم بدر) يا ربّ ان تهلك هذه العصابة ... 236

النبي (ص): يا علي انا و أنت أبوا هذه الأمة 45

النبي (ص): يا معشر المساكين طيبوا نفسا 359

في الحديث: يحب المرء المسلم لأخيه ما يحبّ ... 142

النبي (ص): يلزم الوالدين من العقوق لولدهما 71

536