×
☰ فهرست و مشخصات
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

مقدمة التحقيق ؛ ج‌1، ص : 7

 

الجزء الأول

مقدّمة التحقيق

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ

الحمد للّه على هدايته لدينه، و التوفيق لِما دعا إليه من سبيله، و الصلاة و السلام على محمّدٍ حبيبه و خليله، و على آله الهادين إلى صراط الحقّ المبين.

بين يديك أيّها القارئ الكريم كتاب روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان، واحد من سلسلة آثار الشهيد الثاني زين الدين الجبعي المستشهد سنة 965 ه‍ التي قام بتحقيقها قسم إحياء التراث الإسلامي في مركز الأبحاث و الدراسات الإسلاميّة، و قد أخرج منها إلى الآن: المقاصد العليّة في شرح الرسالة الألفيّة و الفوائد المليّة لشرح الرسالة النفلية و فوائد القواعد و حاشية الإرشاد. و لا زال العمل قائماً على تحقيق و نشر آثاره و ستصدر قريباً بقيّة رسائله و كتبه إن شاء الله.

و كعادة المحقّقين في مقدّمات الكتب، فإنّا أثبتنا هنا مقدّمة مختصرة تحدّثنا فيها عن متن الكتاب ثمّ تعرّضنا للشرح الذي هو روض الجنان و لم نتعرّض لترجمة الماتن و الشارح، فإنّ فيما ورد في مقدمة منية المريد و غاية المراد غنى و كفاية.

إرشاد الأذهان

إرشاد الأذهان إلى أحكام الإيمان، للعِمة الحلّي، الحسن بن يوسف بن عليّ بن المطهّر الحلّي، كتاب فقهي فتوائي، كامل من الطهارة إلى الديات. و يعدّ من المصادر الرئيسيّة للفقه الجعفري و من المتون المهمّة المعتمد عليها؛ لأنّه ذو عبارة سلسة و لطيفة، و جامع لأكثر المسائل الفقهيّة و تفريعاتها المفيدة، و لذلك صار محطّ أنظار العلماء من عصره إلى أيّامنا هذه شرحاً‌

 

7
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

روض الجنان ؛ ج‌1، ص : 8

و تعليقاً و تدريساً و تحشية عليه.

فقد ذكر الشيخ آقا بزرگ الطهراني في الذريعة ثمانية و ثلاثين شخصاً من شرّاحه، «1» و في موضعٍ آخَر منها عدّ ثلاث عشرة حاشية من حواشيه. «2».

و أفرد بعض العلماء رسائل مستقلّة في شرح جملة واحدة منه، كما شرح الشيخ لطف الله الميسي قولًا واحداً للعِمة في مسألة الوصيّة بالمال، و فيه فوائد جليلة و عليه تعليقات كثيرة من الشارح. «3».

و قال التنكابني: حسبوا مسائل كتاب إرشاد الأذهان إلى أحكام الإيمان فكانت اثنتي عشرة ألف مسألة، و لكن حسبها فخر المحقّقين فكانت أربعة عشر ألف مسألة «4». و قال بعض الفضلاء: خمسة عشر ألف مسألةٍ. «5».

و طبع لأوّل مرّة سنة 1410 ه‍ بأعداد حجة الإسلام الشيخ فارس الحسّون، و قامت بنشره مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين في مدينة قم المقدّسة، ثمّ طبع محقّقةً بتحقيق أنيق ضمن غاية المراد في أربعة مجلّدات.

روض الجنان

و سُلّط الضوء عليه عبر نقاط:

الأُولى: عدم وجود اختلاف في اسم الكتاب و نسبته إلى الشهيد الثاني، فقد ذكره مؤلّفه باسم: روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان، كما في آخر النسخة الخطّيّة للكتاب التي بخطّ الشهيد نفسه، المحفوظة في مكتبة الإمام الرضا برقم 2770، و كذلك في إجازته للشيخ تاج الدين ابن الشيخ هلال الجزائري، الصادرة في ليلة الجمعة في الرابع عشر من شهر ذي الحجّة سنة 964 ه‍. «6».

______________________________
(1) الذريعة 1: 510.

(2) الذريعة 6: 14- 17.

(3) الذريعة 14: 25.

(4) قصص العلماء: 386.

(5) الذريعة 1: 510.

(6) بحار الأنوار 105: 144.

8
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

روض الجنان ؛ ج‌1، ص : 8

و ذكره أيضاً بهذا الاسم مع نسبته للشهيد الثاني كلّ من ترجم له و ذكر أحواله. «1»

الثانية: أنّ كافّة المصادر صرّحت بأنّ الشهيد الثاني لم يكمّل شرحه للإرشاد، حيث توقّف في آخر بحث الصلاة، أي أنّه شرح كتابي الطهارة و الصلاة من الإرشاد فقط. و فرغ من تأليف كتاب الصلاة منه يوم الجمعة الخامس و العشرين من شهر ذي القعدة سنة 949 ه‍.

و كذلك كتب الشهيد الثاني قدّس سرّه حاشية على قطعة من عقود الإرشاد، إلا أنّنا لم نعثر على نسخة منها، و يستفاد من كلام الطهراني أنّ نسخة منها في مجموعة في خزانة الشيخ علي كاشف الغطاء. «2».

و له أيضاً حاشية أُخرى مختصرة على كافّة مباحث الإرشاد، و المأخوذ أكثرها من حاشية الإرشاد للمحقّق الكركي، و لها نسخ، و قد طبعت مؤخّراً بتحقيق الشيخ رضا المختاري بذيل غاية المراد في شرح نكت الإرشاد.

و أمّا الحاشية على فرائض الإرشاد الذي نسبها إليه الطهراني قائلًا: «الظاهر أنّه أي صاحب الرياض لم يطّلع على بعض المدوّنات له مثل: الحاشية على فرائض الإرشاد، الملحقة بآخر نسخة من الموجودة في الرضوية كما ذكر في (ج 2: 4). و ذكر إنّ أوّلها: الحمد للّه الذي هدانا لإدراك العلوم الأُصوليّة، إلى آخره «3»» فهي كما ذكره الشيخ رضا المختاري في مقدّمة غاية المراد ليست من تأليف الشهيد الثاني. «4».

الثالثة: انتهى الشهيد الثاني من تأليفه لروض الجنان في يوم دحو الأرض الخامس و العشرين من شهر ذي القعدة سنة 949 ه‍، كما هو مثبت في النسخة الخطّيّة لهذا الكتاب المحفوظة في مكتبة الإمام الرضا في مدينة مشهد المقدّسة برقم (2770) حيث جاء فيها: تمّ الجزء الأوّل من كتاب روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان، و يتلوه الجزء الثاني كتاب الزكاة، و اتّفق الفراغ منه يوم الجمعة الخامس و العشرين من شهر ذي القعدة .. سنة تسع و أربعين و تسعمائة على يد مصنّفه .. زين الدين بن علي بن أحمد العاملي.

______________________________
(1) انظر أمل الآمل 1: 86؛ رياض العلماء 2: 368؛ لؤلؤة البحرين: 34؛ قصص العلماء: 278؛ تنقيح المقال 1: 473؛ أعيان الشيعة 7: 154؛ الذريعة 1: 511/ 2509 و 11: 275/ 1659؛ معجم رجال الحديث 7: 372.

(2) الذريعة 6: 15.

(3) الذريعة 6: 15.

(4) غاية المراد (مقدّمة التحقيق) 1: 317.

9
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

روض الجنان ؛ ج‌1، ص : 8

أمّا شروعه في تأليفه، و هل هو أوّل كتاب ألّفه؟ «1»؟

فإنّ بعض أصحاب التراجم و السير صرّح بذلك، و أقدمهم و أصلهم في هذا المدّعى هو ابن العودي محمَّد بن علي الجزّيني- الذي كان حيّاً سنة 975 ه- حيث قال: فأوّل ما أفرغه في قالب التصنيف الشرح المذكور [روض الجنان] خرج منه مجلّد ضخم، ثمّ قطع عنه على آخر كتاب الصلاة، و التفت إلى التعلّق بأحوال الألفيّة. «2».

و تبعه في ذلك الحرّ العاملي (ت 1104 ه‍، «3») و المحقّق التستري (ت 1237 ه) «4»، و الميرزا محمّد التنكابني (ت 1302 ه‍، «5»، و السيّد الخوانساري (ت 1313 ه‍، «6»)، و السيّد حسن الصدر (ت 1354 ه‍، «7») و السيّد محسن الأمين (ت 1371 ه) «8»، و السيّد الخوئي (ت 1413 ه‍. «9»).

و تردّد المحدّث البحراني (ت 1186 ه‍) في هذه النسبة، فنسبها إلى قيل. «10».

و على الرغم من كثرة القائلين بهذه الدعوى و علوّ منزلتهم العلميّة، فهناك عدّة مؤثّرات تعارضها:

منها: أنّ الشهيد الثاني أنهى عدداً من مؤلّفاته قبل هذا التأريخ، ككشف الريبة الذي أنهاه في الثالث عشرين شهر صفر سنة 949 ه‍، و تقليد الميّت التي أنهاها في الخامس عشر من شهر شوّال سنة 949 ه‍، و تفسير آية البسملة الذي أنهاه في شهر رمضان سنة 940 ه‍.

و منها: أنّ الشهيد الثاني ذكر بعض مؤلّفاته في روض الجنان، ففي بحث الحيض و أحكامه، قال:

و قد أفردنا لتحقيق الإجماع في حال الغيبة رسالة تنفع في هذا المقام، من أرادها وقف عليها، و إنّما‌

______________________________
(1) انظر البحثَ حولَ هذا الموضوع في منية المريد، مقدّمة التحقيق.

(2) الدرّ المنثور 2: 184.

(3) أمل الآمل 1: 86.

(4) مقابس الأنوار: 15.

(5) قصص العلماء: 278.

(6) روضات الجنّات 3: 378.

(7) أمل الآمل 1: 86.

(8) أعيان الشيعة 7: 154.

(9) معجم رجال الحديث 7: 372.

(10) لؤلؤة البحرين: 34.

10
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

عملنا في التحقيق ؛ ج‌1، ص : 11

 

أطنبنا القول في هذه المسألة لفوائد فيها، و شدّة الحاجّة إليها. «1».

و في بحث صلاة المسافر، قال:

إنّ هذه المسألة ليست من المسائل الأُصول المنصوصة .. و نحن قد أفردنا لتحقيقها و ذكر أقسامها و ما يتمّ فيه قول كلّ واحد من الأصحاب رسالة مفردة، من أراد الاطّلاع على الحال فليقف عليها. «2».

و في بحث صلاة القضاء، قال:

و قد أفردنا لتحقيق هذه المسألة رسالة مفردة من أرادها وقف عليها. «3».

عملنا في التحقيق

أ) النسخ المعتمدة:

1. مخطوطة مكتبة الروضة الرضوية بمدينة مشهد المقدّسة المرقّمة 2770، و هي نسخة الأصل بخطّ المصنّف الشهيد، أنهاها المصنّف في يوم الجمعة 25 ذي القعدة سنة 949 ه‍، و قال:

تمّ الجزء الأوّل من كتاب روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان، و يتلوه في الجزء الثاني إن شاء الله تعالى كتاب الزكاة. و اتّفق الفراغ منه يوم الجمعة الخامس و العشرين من شهر ذي القعدة و هو اليوم المبارك الذي دحيت فيه الأرض من تحت الكعبة سنة تسع و أربعين و تسعمائة على يد مصنّفه العبد الفقير إلى الله تعالى، زين الدين بن علي بن أحمد العاملي الشامي، عامله الله بفضله، و عفا عنهم بمنّه، و وفّقه لإكماله، و جعله خالصاً لوجهه الكريم.

و كتب على الورقة الأُولى من النسخة:

كتاب روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان إملاء العبد الفقير إلى الله تعالى زين الدين بن علي بن أحمد عفا الله عنهم بمنّه و كرمه.

و النسخة كاملة نفيسة قيّمة، عليها تصحيحات أيضاً بخطّ الشهيد نفسه.

و رمزنا إليها ب‍ «ق».

2. مخطوطة مكتبة مجلس الشورى الإسلامي (فهرست سنا، ج 1، ص 293، رقم 502)

______________________________
(1) روض الجنان 1: 220.

(2) روض الجنان 2: 1062.

(3) روض الجنان 2: 950.

 

11
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

ب) تصحيح النص و تقويمه ؛ ج‌1، ص : 12

المستنسخة عن الأصل، و عليها علائم التصحيح و المقابلة، و عليها حواشٍ: «منه قدّس سرّه» و «كذا بخطّه قدّس سرّه». و على الورقة الأُولى منها تملّك بخطّ و مهر: «شرف الدين محمّد ضياء الدين بن الحسن بن زين الدين من ذرّيّة الشريف الشهيد شمس الدين محمّد بن مكّي، المؤرّخة سنة 1157 ه‍».

و ذكر مفهرس المكتبة: لعلّ النسخة من خطّ الشهيد نفسه، من ورقة 49 إلى آخر النسخة غير الصفحة الأخيرة. و الظاهر أنّه لم يصب في قوله؛ لأنّ القرائن الموجودة على النسخة لا تدلّ على ادّعائه.

و رمزنا إليها ب‍ «م».

3. النسخة المطبوعة على الحجر سنة 1307 ه‍ بالقطع الكبير الرحلي في 400 صفحة مع كتاب منية المريد في أدب المفيد و المستفيد للمصنّف.

ب) تصحيح النصّ و تقويمه

اعتمدنا في تصحيح الكتاب على نسخة الأصل المذكورة آنفاً و التي هي بخطّ الشهيد و قد استعنّا بالنسختين الأُخريين لتثبيت الصحيح، و للتأييد في تشخيص الكلمات الغريبة و المبهمة، و أشرنا أحياناً في الهامش إلى مواضع الاختلاف بين النسخ لأجل الحفاظ على الأمانة و سلامة النصّ و صحّته.

هذا، و قد ضبطنا الكلمات التي تحتاج إلى الضبط من الأعلام و الألفاظ اللغويّة و العبارات الموهمة.

ج) إرجاع المنقولات إلى المصادر

كان المعوّل عليه في تخريج الأحاديث و الآثار المنقولة- نصّاً أو مضموناً أو إشارةً المصادر الحديثيّة و الجوامع الأصليّة كالكتب الأربعة من طريق الشيعة و الصحاح و المسانيد من طريق السنّة.

و قد بذلنا الجهد التامّ للتعرّف على ما أورده المصنّف من الأقوال و الآراء و الأدلّة و الاعتراضات، و تخريجها و عَزْوها إلى مصادرها الأصليّة، و لم نركن إلى المصادر الثانويّة إلا بعد الفحص و اليأس من الوصول إلى المصدر الأصلي؛ و لم ترد هذه الحالة إلا نادراً و قد أشرنا إليها.

12
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

د) إعداد الفهارس ؛ ج‌1، ص : 13

 

و قمنا بشرح معاني اللغات الغريبة و ذلك من خلال الاستعانة بأُمّهات كتب المعاجم اللغوية.

د) إعداد الفهارس

و أخيراً عملنا فهارس عامّة للكتاب تسهيلًا لمهمّة الباحثين و المراجعين، ألحقناها بالمجلّد الثاني، تحتوي على الفهارس الفنّية.

هذا، و قد كان أملنا من عملنا هذا تقديم نصّ صحيح سليم مضبوط، خالٍ من التعقيد و الإبهام.

شكر و ثناء

و في الختام نرى لزاماً علينا أن نتقدّم بخالص الشكر و جميل الثناء إلى الإخوة الأعزّاء المحقّقين الذين ساهموا بمساعدتنا على إتمام تحقيق هذا الكتاب و نخصّ منهم بالذكر: سماحة حجّة الإسلام و المسلمين الشيخ محمّد الباقري، فإنّه تصدّى لمسؤولية تقويم نصّ الكتاب، و فضيلة الشيخ غلام رضا النقي، لمساعدته في توزيع النصّ. و المساهمين في التخريج و مقابلة النسخ و تصحيح التجارب المطبعيّة، الإخوة الأعزّاء: الشيخ محمّد مهدي عادل نيا و السيّد خليل العابديني و الشيخ محمّد الرباني و الشيخ غلام حسين الدهقان و الشيخ محسن النوروزي و الأخ إسماعيل بيك المندلاوي و الأخ حسان فرادي.

و أيضاً نتقدّم بخالص شكرنا للأُستاذ الأديب البارع أسعد الطيّب لمراجعته النهائيّة للكتاب، و فضيلة الشيخ علي أوسط الناطقي، لمساعدته على تصحيح الكتاب و إرشادات علميّة و فنّيّة حتّى إخراج الكتاب.

و الله تعالى هو المسئول أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم؛ فإنّه أرحم الراحمين و هو حسبنا و نعم الوكيل.

قسم إحياء التراث الإسلامي مركز الأبحاث و الدراسات الإسلاميّة 15 شعبان 22 1421 آبان 1379‌

 

13
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

شرح الخطبة ؛ ج‌1، ص : 21

[شرح الخطبة]

بسم الله الرحمن الرحيم، و به ثقتي الحمد للّه المتفضّل بشرح معالم شريعته لإرشاد الأنام، المتطوّل بإرسال الرسل لتبريز الأحكام و تمييز الحلال عن الحرام، مكمّل من اختارهم من خلقه بالقيام بوظائف هذا المرام، و جاعل أقدامهم واطئةً على أجنحة ملائكته الكرام، و مرجّح مدادهم يوم القيام على دماء الشهداء الأعلام.

أحمده سبحانه، و أشكره و أتوب إليه و أستغفره من جميع الآثام، و أُصلّي و أُسلّم على نبيّه الذي شيّد و أحكم الأحكام أشدّ تشييد- و أحكم إحكامٍ، محمّد الذي أزاح بنور عزّته غياهب الظلام، و أدأب نفسه الشريفة في تبليغ رسالة الملك العلام، و دعا بشريعته المقدّسة إلى دار السلام، و على آله الغرّ الكرام أئمّة الإسلام، و حَفَظَة الشرع الكريم عن تطرّق الأوهام، صلاةً و سلاماً دائمين لا انقضاء لهما و لا انفصام ما تعاقب الليالي و الأيّام و تناوب الشهور و الأعوام.

و بعد، فهذا تعليق مختصر كافل بالإمداد للمشتغل «1» بكتاب الإرشاد، حقّقت فيه مقام المقال حسب مقتضى الحال، معرضاً عن تطويل العبارة بالقيل و القال، مكتفياً في الغالب بالجواب عن السؤال، راجياً في ذلك وجْهَ اللّه الكريم و ثوابه الجسيم، و التقرّب إلى نبيّه محمّد و آله عليهم أفضل الصلاة و التسليم، معترفاً بالقصور عن شَأْو هذا الشأن، و بأنّ الإنسان محلّ الخطاء و النسيان، ما خلا الذوات المقدّسة الذين هم أعيان الإنسان، و أيّ كلام لا يتأتّى عليه كلام؟ حاشا كلام الملك العلام و أنبيائه و أوصيائه عليهم السّلام.

مع أنّي أرجو ممّن اشتمل على الإنصاف إهابه، و قلّ في سبيل الحسد ذهابه و قليل ما‌

______________________________
(1) في الطبعة الحجريّة: «للمشتغلين».

21
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

شرح الخطبة ؛ ج‌1، ص : 21

هم أن يحمد منّي ما يجده في مطاويه، و يشكر سعيي عند وقوفه على دقائق مودعة فيه لا يجدها إذا أرادها في كتاب، و لا يبتهج بها إلا المتّقون من اولي الألباب، و اللّه يحقّ الحقّ بكلماته و يُبطل الباطل و لو كره المبطلون.

هذا، مع تقسّم البال و تقلقل الحال من تراكم أمواج فتن و أهوال، و على اللّه قصد السبيل و إرشاد الدليل، و هو حسبي و نعم الوكيل.

اعلم أنّ العلماء رضوان اللّه عليهم قد استقرّ أمرهم على أن يبتدئوا في مصنّفاتهم بتسمية اللّه تعالى و تحميده؛ اقتداءً بخير الكلام، كلام الملك العلام، و استدلالًا بأحاديث وردت عن رسوله و آله «، فسلك المصنّف رحمه اللّه هذا النهج القويم، و قال:

(بسم اللّه الرحمن الرحيم).

و توهّم التنافي بين مشهوري خبري «البَسْمَلة» و «الحَمْدَ له» اللّذين أحدهما: قوله عليه السلام: «كلّ أمرٍ ذي بال لم يُبدأ فيه ببسم اللّه فهو أبتر «1»» و الثاني: قوله عليه السلام: «كلّ أمرٍ ذي بال لم يُبدأ فيه بحمد اللّه فهو أجذم» «2»»- باعتبار أنّ الابتداء بمدلول أحدهما يوجب تأخير الآخر يندفع: بأنّ الابتداء هو التقديم على المقصود الذاتي، و هو مسائل الفنّ، و الخطبة بأجمعها مقصودة بالعرض، و المحلّ متّسع، أو بأنّ الابتداء حقيقيّ و إضافيّ، فالحقيقيّ حصل بالبَسْمَلَة، و الإضافيّ بالحَمْد لَه، فهو مبتدأ به بالإضافة إلى ما بعده، أو بأنّ الحمد هو الثناء بنعوت الكمال، و اسم اللّه المتعال منبئ عن صفات الإكرام و نعوت الجلال، فالابتداء بالتسمية يستلزم العمل بالخبرين جميعاً.

و المراد بالأمر ذي البال ما يخطر بالقلب من الأعمال، جليلةً كانت أم حقيرة، فإنّ أفعال العقلاء تابعة «3» لقصودهم و دواعيهم المتوقّفة على الخطور بالقلب.

و الأبتر يطلق على المقطوع مطلقاً، و على مقطوع الذنب، و على ما لا عقب و لا نتيجة له، و على ما انقطع من الخير أثره.

و المعنى على الأوّل و الأخير أنّ ما لا يبتدأ فيه من الأُمور بالتسمية مقطوع الخير و البركة، و على الثاني يراد به الغاية الحاصلة من البتر، و هي النقص و تشويه الخلقة و نقص القدر.

______________________________
(1) الكشّاف 1: 3- 4؛ التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السّلام: 25، ذيل الحديث 7.

(2) المعجم الكبير- للطبراني- 19: 72/ 141؛ سنن أبي داود 4: 261/ 4840 بتفاوت يسير.

(3) في «م»: تقع تابعة».

22
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

شرح الخطبة ؛ ج‌1، ص : 21

و في تخصيص الوصف بالآخر مع أنّ الفائت مع عدم التسمية الأوّل إشارة إلى اعتبار ما لا تسمية فيه في الجملة و إن كان ناقصاً، بخلاف ناقص الرأس مثلًا؛ فإنّه لإبقاء له.

و الكلام في الثالث نحو الكلام في الأوّل و الأخير؛ فإنّ ما لا نتيجة له و لا عقب ناقص البركة، مضمحل الفائدة، منقطع الخير.

و التعبير بالابتداء الصادق على القول و الكتابة يدخل فيه ابتداء العلماء بها كتابةً، و ابتداء الصنّاع بها قراءةً، فسقط ما قيل «1»: إنّه إن أراد بالابتداء القراءة، لم تكن فيه دلالة على الاجتزاء بالكتابة، فلا يتمّ تعليلهم ابتداء التصنيف بها؛ لأنّ الكتابة لا تستلزم القراءة. و إن أُريد الكتابة، لم يحصل امتثال النجّار و نحوه للخبر حتّى يبتدئ أوّلًا، فيكتب بسم اللّه إلى آخره؛ لاندفاع ذلك بالتعبير بالابتداء على وجهٍ كلّيّ. نعم، ربما استفيد من القرائن الحاليّة اختصاص كلّ أمرٍ بما يناسبه من فردَي الابتداء، فلا تكفي الكتابة لمريد النجارة مثلًا.

و «الباء» في «بسم اللّه» إمّا صلة فلا تحتاج «2» إلى ما تتعلّق به، أو للاستعانة أو للمصاحبة «3» متعلّقة بمحذوف اسم فاعل خبر مبتدإ محذوف، أي: ابتدائي ثابت باسم اللّه، أو فعل «4» أو حال من فاعل الفعل المحذوف، أي: ابتدئ متبرّكاً أو مستعيناً، أو مصدر مبتدإ خبره محذوف، أي: ابتدائي باسم اللّه ثابت، و نحوه. و لا يضرّ على هذا حذف المصدر و إبقاء معموله؛ لأنّه يتوسّع في الظرف و الجارّ و المجرور ما لا يتوسّع في غيرهما، و تقديم المعمول هنا أوقع، كما في قوله تعالى: بِسْمِ اللّٰهِ مَجْرٰاهٰا «5» و إِيّٰاكَ نَعْبُدُ «6» و لأنّه أهمّ و أدلّ على الاختصاص و أدخل في التعظيم و أوفق للوجود.

و إنّما كُسرت الباء و من حقّ الحروف المفردة أن تُفتح؛ لاختصاصها بلزوم الحرفيّة و الجرّ كما كسرت لام الأمر و لام الجرّ إذا دخلت على المظهر؛ للفرق بينها و بين لام التأكيد.

و «الاسم» مشتقّ من السمو، حُذفت الواو من آخره، و زِيدت همزة الوصل في أوّله؛

______________________________
(1) لم نعثر على القائل.

(2) في الطبعة الحجريّة: «لا يحتاج».

(3) في «ق، م»: «المصاحبة».

(4) كلمة «أو فعل» لم ترد في «م».

(5) هود (11): 41.

(6) الفاتحة (1): 5.

23
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

شرح الخطبة ؛ ج‌1، ص : 21

لأنّه من الأسماء العشرة التي بنوا أوائلها على السكون.

و سُمّي اسماً لسموّه؛ على مسمّاه و عُلوّه على ما تحته من معناه.

و قيل: أصله وسم، «1» و هو العلامة.

و الأوّل أولى؛ بدليل تصغيره على سُمّي، و جمعه على أسماء؛ و لأنّ بينه و بين أصله على الأوّل مناسبة لفظيّة و معنويّة، بخلاف الثاني؛ فإنّها معنويّة فقط.

و إنّما علّق الجارّ على الاسم مع أنّ المعنى إنّما يراد تعلّقه بالمسمّى؛ للإشعار بعدم اختصاص التعلّق بلفظ «اللّه» لا غير؛ لأنّه أحد الأسماء، و للتحرّر من إيهام القسم، و لقيام لفظ «اللّه» مقام الذات في الاستعمال، و من ثَمّ يقال: الرحمن، و الرحيم، و غيرهما اسم من أسماء اللّه، و لا ينعكس؛ و لجريان باقي الأسماء صفة له من غير عكس.

و «اللّه» اسم للذات الواجب الوجود الخالق لكلّ شي‌ء، و هو جزئيّ حقيقيّ لا كلّيّ انحصر في فرد، و إلا لما أفاد قولنا: «لا إله إلا اللّه» التوحيد؛ لأنّ المفهوم الكلّيّ من حيث هو محتمل للكثرة.

و عُورض بقوله تعالى: قُلْ هُوَ اللّٰهُ أَحَدٌ «2» فإنّ الله لو كان جزئيّاً حقيقيّا، لما حسن الإخبار عنه بالأحديّة؛ للزوم التكرار.

و يجاب: بأنّ الجزئي إنّما ينفي الكثرة الخارجيّة و التعدّد الذاتي مثلًا، و هو مرادف للواحد، فليس فيه إلا نفي الشريك المماثل مع جواز الكثرة بحسب أجزائه و صفاته، بخلاف الأحد؛ فإنّه يقتضي نفي التعدّد و الكثرة فيه مطلقاً حتّى في الصفات، فإنّها اعتبارات و نسب لا وجود لها في الخارج، كما قال عليّ: عليه السّلام‌

و كمال الإخلاص له نفي الصفات عنه

«3» سلّمنا، لكنّ المعارضة إنّما تتمّ لو جعلنا هو ضمير الشأن و الله أحد مبتدأً و خبراً في موضع خبر هو و ليس ذلك متعيّناً؛ لجواز كون هو مبتدأً بمعنى المسئول عنه؛ لأنّهم قالوا: «ربّك من نحاس أم من ذهب؟» «4»»؟ فعلى هذا يجوز أن يكون الله خبر‌

______________________________
(1) انظر الوسيط- للواحدي- 1: 63؛ و الجامع لأحكام القرآن 1: 101؛ و تهذيب اللغة 13: 117، «س م ا».

(2) الإخلاص (112): 1.

(3) نهج البلاغة: 14 (الخطبة 1).

(4) انظر مجمع البيان 9- 10: 564.

24
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

شرح الخطبة ؛ ج‌1، ص : 21

المبتدأ و أحد بدلًا، و حينئذٍ فلا يلزم من تساويهما في المعنى انتفاء كونه جزئيّاً حقيقيّا.

و «الرحمن الرحيم» اسمان بُنيا للمبالغة من «رحم» بتنزيله منزلة اللازم، أو بجَعْله لازماً و نقله إلى فَعُل بالضمّ.

و «الرحمة» لغةً: رقّة القلب و انعطاف يقتضي الإحسان، فالتفضّل غايتها، و أسماؤه تعالى، المأخوذة من نحو ذلك إنّما تؤخذ باعتبار الغاية دون المبدأ، فالرحمة في حقّه تعالى معناها إرادة الإحسان، فتكون صفةَ ذات، أو الإحسان، فتكون صفةَ فعل، فهي إمّا مجاز مرسل في الإحسان أو في إرادته، و إمّا استعارة تمثيليّة بأن مَثّلت حالَه تعالى بحالة مَلِك عَطَفَ على رعيّته و رقّ لهم، فغمرهم معروفُه، فأُطلق عليه الاسم و أُريد به غايته التي هي فعل لا مبدؤه الذي هو انفعال.

و «الرحمن» أبلغ من «الرحيم» لأنّ زيادة المباني تدلّ على زيادة المعاني، كما في «قطع» و «قطّع» و «كبار» و «كبّار».

و نُقض ب‍ «حَذِر» فإنّه أبلغ من «حاذر».

و أُجيب: بأنّ ذلك أكثريّ لا كلّيّ، و بأنّه لا تنافي أن يقع في الأنقص زيادة معنى بسببٍ آخر، كالإلحاق بالأُمور الجبلّيّة ك‍ «شَرِه» و «نَهم» و بأنّ الكلام فيما إذا كان المتماثلان في الاشتقاق متّحدَي النوع في المعنى، ك‍ «غَرِث» و «غَرثان» و «صَدٍ» «صَديان» لا ك «حَذِر» و «حاذر» للاختلاف.

و إنّما قدّم و القياس يقتضي الترقّي من الأدنى إلى الأعلى، كقولهم: «عالِم نحرير» و «جواد فيّاض؛ لأنّه صار كالعَلَم من حيث إنّه لا يوصف به غيره، أو أنّه صفة في الأصل لكنّه صار عَلَماً بالغلبة، كما اختاره جماعة من المحقّقين.

قال ابن هشام: و ممّا يُوضّح أنّه غير صفة: مجيئهُ كثيراً غير تابع، نحو: الرَّحْمٰنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ «1» قُلِ ادْعُوا اللّٰهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمٰنَ «2» وَ إِذٰا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمٰنِ «3» «4». انتهى.

______________________________
(1) الرحمن (55): 1 و 2.

(2) الإسراء (17): 110.

(3) الفرقان (25): 60.

(4) مغني اللبيب 2: 602.

25
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

شرح الخطبة ؛ ج‌1، ص : 21

و فيه: إمكان بناء ذلك على حذف الموصوف و إبقاء الصفة، كقوله تعالى أَنِ اعْمَلْ سٰابِغٰاتٍ «1» و أَرْسَلْنٰا رُسُلَنٰا بِالْبَيِّنٰاتِ «2» و يرجّح الأوّل مجازيّة الإضمار، و يبتنى على عَلَميّته أنّه بدل لا نعت، و أنّ «الرحيم» بعده نعت له لا للاسم دونه «3»؛ إذ لا يتقدّم البدل على النعت.

(الحمد) و هو لغةً: الثناء باللسان على الجميل الاختياري على جهة التعظيم، فخرج بالجميل الثناءُ على غيره على قول بعضهم: إنّ الثناء حقيقة في الخير و الشرّ، و على رأي الجمهور: إنّه حقيقة في الخير فقط، ففائدة ذِكْر ذلك تحقيق الماهيّة، أو دفع توهّم إرادة الجمع بين الحقيقة و المجاز عند مُجوّزه من الأُصوليّين.

و بالاختياري المدحُ، فإنّه يعمّ الاختياري و غيره عند الأكثر. و على القول بالأُخوّة بمعنى الترادف يحذف القيد ليعمّ.

و «على جهة التعظيم» يخرج ما كان على جهة الاستهزاء أو السخرية، ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ «4» و يتناول الظاهر و الباطن، إذ لو تجرّد عن مطابقة الاعتقاد أو خالفته أفعال الجوارح، لم يكن حمداً، بل هو تهكّم أو تمليح، و هذا لا يقتضي دخول الجوارح و الجنان في التعريف؛ لأنّهما اعتُبرا فيه شرطاً لا شطراً.

و نُقض في عكسه بالثناء على اللّه تعالى بصفاته الذاتيّة؛ فإنّها ليست اختياريّةً.

و أُجيب بأنّه يتناولها تبعاً، أو أنّها منزّلة منزلة أفعال اختياريّة حيث إنّ ذاته اقتضت وجودها على ما هي عليه، أو أنّها مبدأ أفعال اختياريّة، فالحمد عليها باعتبار تلك الأفعال، فالمحمود عليه اختياريّ في المآل؛ تنزيلًا للمسبّب منزلة السبب، و الكلّ تكلّف.

و «الحمدُ» عرفاً: فعل يُنبئ عن تعظيم المُنْعِمِ من حيث إنّه مُنعم على الحامد أو غيره، سواء كان باللسان أم بالجنان أم بالأركان.

و «الشكر» لغةً: هو هذا الحمد. و عرفاً: صرف العبد جميع ما أنعم اللّه به عليه إلى‌

______________________________
(1) سبأ (34): 11.

(2) الحديد (57): 25.

(3) في «ق، م» بدل «لا للاسم دونه»: «لا لاسم اللّه».

(4) الدخان (44): 49.

26
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

شرح الخطبة ؛ ج‌1، ص : 21

ما خلق لأجله.

و «المدح» لغةً: الثناء باللسان على الجميل مطلقاً على جهة التعظيم. و عرفاً: ما يدلّ على اختصاص الممدوح بنوع من الفضائل، فبين كلّ من الستّة و البقيّة نسبة: إمّا تباين كالحمد اللغوي لا بالنظر إلى شرطه، و المدح اللغوي مع الشكر العرفي؛ لصدقهما بالثناء باللسان فقط، و الشكر إنّما يصدق بذلك مع غيره، أو تساوٍ كالحمد العرفي مع الشكر اللغوي، أو عموم و خصوص مطلق كالحمد اللغوي مع كلّ من المدحين؛ لصدقه بالاختياري فقط، و صدقهما به و بغيره، أو مع الشكر العرفي بالنظر إلى شمول متعلّق الحمد للّه تعالى و لغيره، و اختصاص متعلّق الشكر به تعالى، و كالشكر اللغوي مع الشكر العرفي؛ لصدقه بالنعمة فقط، و صدق العرفي بها و بغيرها، و كذا بين المدحين و بين الحمد و الشكر العرفيّين، و بين الشكر و المدح كذلك، و بين الحمد و المدح كذلك، و بين الشكر اللغوي و المدح العرفي، أو عموم من وجه كالحمد اللغوي مع العرفي؛ لصدقهما بالثناء باللسان في مقابلة نعمة، و انفراد اللغوي؛ لصدقه بذلك في غيرها، و العرفي؛ لصدقه بغير اللسان، فمورده أعمّ، و متعلّقه أخصّ، و اللغوي عكسه، أو مع الشكر اللغوي كذلك، و كالحمد العرفي و الشكر اللغوي مع المدح اللغوي؛ لاجتماعهما معه في الثناء باللسان على النعمة، و انفرادهما عنه؛ لصدقهما بغير اللسان، و انفراده عنهما؛ لصدقه بغير النعمة، فمورده أخصّ، و متعلّقه أعمّ، و هُما بالعكس.

و اعلم أنّ نقيض الحمد الذمُ، و الشكرِ الكفرانُ، و المدحِ الهجوُ، و الثناءِ النثاءُ بتقديم النون.

(للّه) الجار و المجرور ظرف مستقرّ مرفوع المحلّ على أنّه خبر لقوله: «الحمد» و هو في الأصل ظرف لغوٍ لَهُ؛ لأنّه من المصادر التي تنصب بأفعال مضمرة، كقولهم: «شكراً» و «كفراً» فكان في الأصل أحمد حمداً للّه، و إنّما عدل عن النصب إلى الرفع ليدلّ على ثبات المعنى و استقراره.

و منه قوله تعالى قٰالُوا سَلٰاماً قٰالَ سَلٰامٌ+ «1» فزاد إبراهيم عليه السّلام تحيّته بالرفع؛ لتكون أحسن.

______________________________
(1) هود (11): 69.

27
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

شرح الخطبة ؛ ج‌1، ص : 21

و اللام في «الحمد» للاستغراق عند الجمهور. و للجنس عند الزمخشري «1»، و لا فرق هنا؛ لأنّ لام «للّه» للاختصاص، فلا فرد منه لغيره، و إلا لوُجد الجنس في ضمنه، فلا يكون الجنس مختصّاً به. و للحقيقة عند بعضهم بمعنى أنّ حقيقة الحمد و طبيعته ثابتة للّه. و للعهد عن آخرين. و أجازه الواحدي «2» بمعنى أنّ الحمد الذي حَمِد اللّه به نفسه و حَمِدَه به أنبياؤه و أولياؤه مختصّ به، و العبرة بحَمْد مَنْ ذُكر.

و إنّما قدّم الحمد؛ لاقتضاء المقام مزيد اهتمام به و إن كان ذكر اللّه أهمّ في نفسه؛ و لأنّ فيه دلالةً على اختصاص الحمد به. و جملة الحمد خبريّة لفظاً، إنشائيّة معنىً؛ لحصول الحمد بالتكلّم بها، و يجوز أن تكون موضوعةً شرعاً للإنشاء.

(المتفرّد) بالتاء المثنّاة من فوق، و الراء المشدّدة بعد الفاء. و يحتمل على ضعفٍ أن تكون بالنون مع تخفيف الراء.

و إنّما رجّح الأوّل؛ ليناسب مفتتح بقيّة الفقرات، ك‍ «المتنزّه» و «المتفضّل» و «المتطوّل؛ و لأنّه يقتضي المبالغة في الوصف؛ لما مرّ من أنّ زيادة البناء تدلّ على زيادة المعنى.

(بالقِدَم) الذاتي فلا أوّل لوجوده، و لا يشركه فيه شي‌ء، و هذا الوصف يستدعي كمال قدرته و علمه؛ لأنّ مشاركة غيره له فيه موجبة لواجبيّته المنافية لذلك، و يندرج فيه باقي الصفات الثبوتيّة لزوماً.

و فيه تكذيب للقائل بِقدَم الأجسام السمائيّة، كأرسطو، و للقائل بأنّ مادّة العالم قديمة، كسقراط، على اختلافٍ في تلك المادّة.

(و الدوام) الذاتي، فلا آخر لوجوده، و لا يشركه فيه شي‌ء.

و التقييد بالذاتي يخرج أهل الجنّة؛ فإنّهم يشاركونه فيه، لكن دوامهم ليس ذاتيّاً، و هذا القيد من لوازم صفاته تعالى و إن لم يصرّح به؛ فإنّها أُمور اعتباريّة، و مرجعها حقيقةً إلى الذات المقدّسة.

و ربما يقال في دفع المشاركة أيضاً: إنّ المراد انفراده تعالى بالقِدَم و الدوام معاً بجعل الواو بمعنى «مع» و أهل الجنّة لا يشاركونه في الأُولى. و الأوّل أولى.

______________________________
(1) الكشّاف 1: 9- 10.

(2) انظر: الوسيط- للواحدي- 1: 65- 66.

28
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

شرح الخطبة ؛ ج‌1، ص : 21

و أولويّة تقديم هذه الفقرة على ما بعدها مبنيّة على أشرفيّة الصفات الثبوتيّة على السلبيّة بناءً على أنّها وجوديّة؛ و الوجود أشرف من العدم.

و فيه بحث في محلّ يليق به، و لا يخفى خلوّ افتتاح المقال من براعة الاستهلال.

(المتنزّه) من النزاهة بفتح النون و هي البُعْد، أي المتباعد (عن مشابهة الأعراض و الأجسام؛ لحدوثهما و اللّه تعالى قديم واجب الوجود، كما برهن عليه في محلّه.

و تعبيره بالبُعْد عن المشابهة كناية عن نفي المشابهة أصلًا، لا أنّ بينهما مشابهةً بعيدة، و هذه قاعدة معروفة من قواعد العرب يعبّرون بهذا و ما جرى مجراه، و مرادهم بذلك المبالغة في النفي و تأكيده.

و من القاعدة قولهم: فلان بعيد عن الخنا «1» و غير سريع إليه.

قال المرتضى رضي اللّه عنه: يريدون أنّه لا يقرب الخنا، لا نفي الإسراع إليه حسب. «2».

و هكذا القول في البُعْد عن المشابهة في كلام المصنّف يراد به عدمها أصلًا، لا حصولها على بُعْدٍ.

قال رحمه اللّه: و منها: قوله تعالى الَّذِي رَفَعَ السَّمٰاوٰاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهٰا «3» وَ لٰا تَكُونُوا أَوَّلَ كٰافِرٍ بِهِ «4» و لٰا يَسْئَلُونَ النّٰاسَ إِلْحٰافاً. «5».

و من كلامهم: فلان لا يرجى خيره، و ليس مرادهم أنّ فيه خيراً لا يرجى، و إنّما غرضهم أنّه لا خير عنده على وجه من الوجوه.

و قول بعضهم:

لا تُفْزِعُ الأرْنَبَ أهوالُها

و لا ترى الضبّ بها يَنْجَحِر

أراد ليس بها أهوال تفزع الأرنب، و لا ضبّ بها فينجحر.

و قول الآخر:

من أُناس ليس في أخلاقهم

عاجلُ الفحش و لا سوءُ الجَزعْ

______________________________
(1) الخنا: الفحش. لسان العرب 14: 244، «خ ن ا».

(2) أمالي السيّد المرتضى 1: 230.

(3) الرعد (13): 2.

(4) البقرة (2): 41.

(5) البقرة (2): 273.

29
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

شرح الخطبة ؛ ج‌1، ص : 21

لم يرد أنّ في أخلاقهم فحشاً آجلًا و لا جزعاً غير سيّ‌ء، و إنّما أراد نفي الفحش و الجزع عن أخلاقهم. «1»

و نظائر ذلك كثيرة في كلامهم.

و في هذه الفقرة إشارة إلى سائر صفاته السلبيّة إجمالًا.

(المتفضّل) أي: المحسن، «2»، و مجيئُهُ بصيغة التفعّل مبالغة فيه، كما سبق.

(بسوابغ الأنعام) أي بالأنعام السوابغ، و أضاف الصفة إلى موصوفها مراعاةً للفاصلة، و جرى في ذلك على مذهب الكوفيّين، ك‍ «جرد قطيفة» و «أخلاق ثياب» و عند المانعين من إضافة الصفة إلى الموصوف يُؤوّل هنا بما أُوّل به تلك الأمثلة بأنّهم حذفوا الأنعام هنا حتى صارت السوابغ كأنّها اسم غير صفة، فلمّا قصدوا تخصيصه بكونه صالحاً لأن يكون للأنعام و غيرها مثل خاتم في كونه صالحاً لأن يكون فضّةً و غيرها أضافوه إلى جنسه الذي يتخصّص به، كما أضافوا خاتماً إلى فضّة، فليس إضافته إليها من حيث إنّه صفة لها، بل من حيث إنّه جنس مبهم أُضيف إليها ليتخصّص، و على هذا القياس نظائر ذلك. «3».

و السوابغ جمع كثرةٍ ل‍ «سابغة» و هي التامّة الكاملة. قال الجوهري: يقال: شي‌ء سابغ، أي: كامل وافٍ، و سبغت النعمة تسبغ بالضمّ سبوغاً، أي اتّسعت. و أسبغ اللّه عليه النعمة، أي: أتمّها، و منه إسباغ الوضوء: إتمامه. «4».

و الأنعام جمع قلّة ل‍ «نعمة» و هي لغةً: اليد و الصنيعة و المنّة. و عرفاً هي: المنفعة الحسنة الواصلة إلى الغير على جهة الإحسان إليه، و هي إمّا: ظاهرة أو باطنة، قال اللّه تعالى وَ أَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظٰاهِرَةً وَ بٰاطِنَةً «5» و ربما تخصّ الباطنة باسم الآلاء. و العموم هنا أبلغ.

(المتطوّل) من الطّوْل بالفتح و هو المنّ، يقال: طال عليه و تطوّل عليه: إذا امتنّ عليه، «6»، أي: الممتنّ (بالفواضل) جمع «فاضلة» و هي الإحسان.

و أبلغ في وصفه مع إتيانه بجمع الكثرة بقوله: (الجسام) بالكسر، أي: العظام، جمع‌

______________________________
(1) أمالي السيّد المرتضى 1: 228- 230.

(2) في «م» زيادة: «و أيّ إحسان».

(3) في الطبعة الحجريّة بدل «ذلك»: «كثيرة».

(4) الصحاح 4: 1321، «س ب غ».

(5) لقمان (31): 20.

(6) في «ق» زيادة: قاله الجوهري. أنظر: الصحاح 5: 1755، «ط و ل».

30
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

شرح الخطبة ؛ ج‌1، ص : 21

جسيم، يقال: جسُم الشي‌ء، أي: عظم، فهو جسيم و جُسام بالضمّ.

و إنّما ترك ذكر المتفضّل و المتطوّل عليه؛ لكون الغرض إثبات الوصف له على الإطلاق، ثمّ مقام الخطابة يفيد العموم في أفراد مَنْ يصلح تعلّقه به، أو للاختصار مع إرادة التعميم، كما تقول: قد كان منك ما يؤلم، أي: كلّ أحد، و منه قوله تعالى وَ اللّٰهُ يَدْعُوا إِلىٰ دٰارِ السَّلٰامِ «1» أي: يدعو كلّ أحد، أو لمجرّد الاختصار، كقولك: أصغيت إليه، أي: اذني، و منه قوله تعالى أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ «2» أي: إلى ذاتك، و قوله تعالى أَ هٰذَا الَّذِي بَعَثَ اللّٰهُ رَسُولًا «3» أي: بعثه اللّه، أو لغير ذلك ممّا هو مقرّر في محلّه من فنّ المعاني.

(أحمده) بفتح الميم؛ لأنّ ماضيه «حمِد» بكسرها، كعَلِم يعلَم، و ما في قوله: (على ما) موصولة، و صلتها (فضّلنا) و العائد على الموصول الهاء في (به) و «من» في قوله: (من الإكرام) لبيان الجنس.

و أشار بذلك إلى قوله تعالى وَ لَقَدْ كَرَّمْنٰا بَنِي آدَمَ إلى قوله وَ فَضَّلْنٰاهُمْ عَلىٰ كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنٰا تَفْضِيلًا «4».

و الذي كرم به بنو آدم على ما اختاره محصّلو المفسّرين: القوّة و العقل و النطق و العلم و الحكمة و تعديل القامة و الأكل باليد، و تسليطهم على غيرهم، و تسخير سائر الحيوانات لهم، و أنّهم يعرفون اللّه، و أن جَعَل محمّداً صلّى اللّه عليه و آله منهم، و غير ذلك من النعم التي خُصّوا بها.

و يحتمل أن يريد المصنّف ما هو أخصّ من ذلك، و على هذا يجوز كون «من» تبعيضيّةً، لكنّ الأوّل أمتن و أبدع.

(و أشكره على جميع الأقسام) أي: الأحوال؛ لأنّه تعالى في جميع الحالات لا يفعل إلا لغرضٍ تعود مصلحته على العبد، فيستحقّ الشكر على جميعها.

و هاتان الفقرتان و إن كانتا خبريّتين لفظاً لكنّهما إنشائيّتان معنىً، فإنّ الإنشاء أكثر فائدةً و أعم نفعاً و أقوى حمداً و شكراً.

______________________________
(1) يونس (10): 25.

(2) الأعراف (7): 143.

(3) الفرقان (25): 41.

(4) الإسراء (17): 70.

31
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

شرح الخطبة ؛ ج‌1، ص : 21

و لمّا فرغ من حمد اللّه و الثناء عليه بما هو أهله توسّل في تحصيل مرامه بالدعاء للأرواح المقدّسة المتوسّطة بين النفوس الناقصة المنغمسة في الكدورات البشريّة، و بين المبدإ الفيّاض المتنزّه عن شوائب النقص في استفادة العنايات و الأنوار منه و إفاضتها عليها بقوله: (و صلّى اللّه) من الصلاة المأمور بها في قوله تعالى صَلُّوا عَلَيْهِ وَ سَلِّمُوا «1».

و كان الأحسن أن تقرن الصلاة عليه بالسلام، كما يقتضيه ظاهر الآية، لكنّ أصحابنا جوّزوا أن يراد بقوله وَ سَلِّمُوا تَسْلِيماً «2» أي: انقادوا لأمره انقياداً، كما في قوله: فَلٰا وَ رَبِّكَ لٰا يُؤْمِنُونَ إلى قوله وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً «3» فلذلك سهل الخطب عندهم في إفراد الصلاة عن السلام و إن احتمل أن يراد به التحيّة المخصوصة؛ لعدم تحتّم ذلك.

و الصلاة: الدعاء من اللّه و غيره، لكنّها منه مجاز في الرحمة، كما قال بعضهم. و قال آخرون: هي منه الرحمة.

و يرجّح الأوّل أنّ المجاز خير من الاشتراك، و قوله تعالى أُولٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوٰاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ رَحْمَةٌ «4» فإنّ العطف يقتضي المغايرة. و ربما يرد هذا على الأوّل أيضاً، لكن يمكن دفعه بأنّ التصريح بالحقيقة بعد إرادة المجاز يفيد تقوية المدلول المجازيّ، و لجأ بعضهم إلى أنّها من اللّه تعالى بمعنى الرضوان حذراً من ذلك.

و الأولى في الجواب عن ذلك: المنع من اختصاص العطف بلزوم المغايرة؛ فإنّ من أنواع «الواو» العاطفة عطف الشي‌ء على مرادفه، كما ذكره ابن هشام في المغني «5». و ذَكَر من شواهده قوله تعالى أُولٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوٰاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ رَحْمَةٌ «6» و قوله تعالى إِنَّمٰا أَشْكُوا بَثِّي وَ حُزْنِي إِلَى اللّٰهِ «7» و نحو لٰا تَرىٰ فِيهٰا عِوَجاً وَ لٰا أَمْتاً «8» و قوله عليه السلام: صلّى اللّه عليه و آله: «لِيَلِيني منكم ذوو الأحلام و النهى» «9».

______________________________
(1) الأحزاب (33): 56.

(2) الأحزاب (33): 56.

(3) النساء (4): 65.

(4) البقرة (2): 157.

(5) مغني اللبيب 1: 467.

(6) البقرة (2): 157.

(7) يوسف (12): 86.

(8) طه (20): 107.

(9) سنن ابن ماجة 1: 312- 313/ 976؛ سنن أبي داود 1: 180/ 674؛ سنن النسائي 2: 78؛ سنن الدارمي 1: 290؛ سنن البيهقي 3: 137، ذيل ح 5161؛ المستدرك- للحاكم- 2: 8؛ مسند أحمد 5: 102/ 6653 باختلاف يسير.

32
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

شرح الخطبة ؛ ج‌1، ص : 21

و قول الشاعر:

و ألفى قولها كذباً و مَيْناً «1»

و هذه الجملة إنشائية معنىً؛ لأنّ الدعاء كلّه من قبيل الإنشاء، و وقوعه بصيغة المضي؛ للتفاؤل بحصول المسئول و الحرص على وقوعه، كما قرّر في المعاني، و لمناسبة المقام، فلا إشكال في عطفها على ما قبلها من هذا الوجه.

نعم، تخالف جملة الحمد الاولى في كونها فعليّةً. و في عطفها على الاسميّة كلام، و الحقّ جوازه و إن كان مرجوحاً، و لو جُعلت الواو للاستئناف صحّ أيضاً إلا أنّه لا ضرورة إليه.

(على سيّدنا محمّد) عطف بيان على «سيّدنا» أو بدل منه على ما اختاره ابن مالك «2» من أنّ نعت المعرفة إذا تقدّم عليها أُعرب بحسب العوامل، و أُعيدت المعرفة بدلًا، و صار المتبوع تابعاً، كقوله تعالى إِلىٰ صِرٰاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ اللّٰهِ «3» على قراءة الجرّ.

و «محمد» عَلَم منقول من اسم المفعول المضعّف للمبالغة، سُمّي بِه نبيّنا عليه الصلاة و السلام؛ إلهاماً من اللّه تعالى؛ و تفؤلًا بأنّه يكثر حمد الخلق له لكثرة خصاله الحميدة.

و قال الجوهري: المحمّد: الذي كثرت خصاله المحمودة «4».

و قد ورد أنّه قيل لجدّه عبد المطلب و قد سمّاه في سابع ولادته لموت أبيه قبلها: لِمَ سمّيْتَ ابنك محمداً و ليس من أسماء آبائك و لا قومك؟ قال: رجوت أن يُحْمد في السماء و الأرض «5». و قد حقّق اللّه رجاءه.

(النبي‌ء) بالهمز من النبإ، و هو الخبر؛ لأنّ النبيّ مُخبر عن اللّه تعالى، و يجوز ترك الهمز و هو الأكثر إمّا تخفيفاً من المهموز بقلب همزته ياءً، و إمّا لأنّ أصله من النّبوة بفتح النون و سكون الباء، أي: الرفعة؛ لأنّ النبيّ مرفوع الرتبة على غيره من الخلق.

______________________________
(1) عجز بيت لعدي بن زيد العبادي من شعراء الجاهليّة، و صدره:

فقدّدت الأديم لراهشيه

مغني اللبيب 1: 467؛ الصحاح 6: 2210؛ لسان العرب 13: 425، «م ى ن».

(2) حاشية الصبّان على شرح الاشموني على الفيّة ابن مالك 3: 72.

(3) إبراهيم (14): 1 و 2.

(4) الصحاح 2: 466، «ح م د».

(5) البداية و النهاية- لابن كثير- 2: 325.

33
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

شرح الخطبة ؛ ج‌1، ص : 21

و هو إنسان أوحى إليه بشرع و إن لم يؤمر بتبليغه، فإن أُمر بذلك فرسول أيضاً.

و قيل: و أُمر بتبليغه و إن لم يكن له كتاب أو نَسْخ لبعض شَرع مَنْ قبله، فإن كان له ذلك فرسول أيضاً. «1» فهارون رسول، على الأوّل دون الثاني، و يوشع غير رسولٍ، عليهما.

و قيل: إنّهما بمعنى «2».

و إطلاق الرسول على المَلَك غير مستعمل هنا، فعموم الرسول من هذه الجهة غير مراد.

(المبعوث) أي: المرسل (إلى الخاصّ) و هُم أهله و عشيرته، أو العلماء، أو مَنْ كان في زمانه (و العامّ) و هو في مقابلة الخاصّ بالاعتبارات الثلاثة، و هي مترتّبة في القوّة ترتّبها في اللفظ.

(و على عترته) و هُم الأئمّة الاثنا عشر، و فاطمة «.

قال الجوهري: عترة الرجل: نسله و رهطه الأدنون «3». فيدخل في الأوّل مَنْ عدا عليّ عليه السّلام، و يدخل هو في الثاني.

(الأماجد) جمع أمجد؛ مبالغة في ماجد. يقال: مجُد الرجل بالضمّ، فهو مجيد و ماجد، أي: كرم.

(الكرام) قال ابن السكّيت: الشرف و المجد يكونان في الآباء، يقال: رجل شريف ماجد: له آباء متقدّمون في الشرف.

قال: و الحسب و الكرم يكونان في الرجل و إن لم يكن له آباء لهم شرف «4».

(أمّا بعد) ما سبق من الحمد و الصلاة. و آثر هذه الكلمة؛ للأحاديث الكثيرة أنّ رسول اللّهُ يقولها في الخُطبة و شبهها، رواه عنه اثنان و ثلاثون صحابيّاً. و فيه «5» إشارة إلى الباعث على التصنيف، كما هو دأبهم.

و «أمّا» كلمة فيها معنى الشرط، و التقدير: مهما يكن من شي‌ء بعد الحمد و الصلاة فهو كذا، كما نصّ عليه سيبويه «6»، و لذلك كانت الفاء لازمةً لها.

______________________________
(1) أنظر الكشّاف 3: 164؛ و التفسير الكبير- للرازي- 12: 50.

(2) مجمع البيان 7- 8: 91.

(3) الصحاح 2: 735، «ع ت ر».

(4) نقله عنه الجوهري في الصحاح 2: 536- 537، «م ج د».

(5) قوله: «ما سبق من الحمد .. و فيه» لم يرد في «م».

(6) كما في شرح ابن عقيل 2: 390.

34
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

شرح الخطبة ؛ ج‌1، ص : 21

قال الشيخ الرضي رحمه اللّه:

أصل «أمّا زيد فقائم» مهما يكن من شي‌ء فزيد قائم، أي إن يقع في الدنيا شي‌ء يقع قيام زيد، فهذا جزم بوقوع قيامه و قطع به؛ لأنّه جعل حصول قيامه لازماً لحصول شي‌ء في الدنيا و ما دامت الدنيا، فلا بدّ من حصول شي‌ء فيها.

ثمّ لمّا كان الغرض الكلّي من هذه الملازمة المذكورة لزوم القيام لزيدٍ حُذف الملزوم الذي هو الشرط، أعني «يكن من شي‌ء» و أُقيم ملزوم القيام و هو زيد مقام ذلك الملزوم، و بقي الفاء بين المبتدأ و الخبر؛ لأنّ فاء السببيّة ما بعدها لازم لما قبلها، فحصل لهم من حذف الشرط و إقامة بعض الجزاء موقعه شيئان مقصودان، أحدهما: تخفيف الكلام بحذف الشرط، و الثاني: قيام ما هو الملزوم حقيقة في قصد المتكلّم مقام الملزوم في كلامهم، أعني الشرط، و حصل أيضاً من قيام بعض الجزاء موضع الشرط ما هو المتعارف من شغل حيّز واجب الحذف بشي‌ء آخر، و حصل أيضاً بقاء الفاء متوسّطةً في الكلام كما هو حقّها «1». انتهى.

و إنّما حكيناه ملخّصاً مع طوله؛ لعظم قدره و محصوله.

و «بعد» من الظروف الزمانيّة، و كثيراً ما يحذف منه المضاف إليه و ينوى معناه. و تُبنى على الضمّ. و يجوز في ضبطها «2» هنا أربعة أوجه: ضمّ الدال، و فتحها، و رفعها منوّنةً، و كذا نصبها. و مجموع الكلمتين يُسمّى بفصل الخطاب.

و قد اختلف فيمن تكلّم «3» بهذه الكلمة أوّلًا، فقيل: داوُد عليه السّلام «4» و قيل «5» نبيّنا محمّدُ صلّى اللّه عليه و آله. و قيل: عليّ عليه السّلام «6». و قيل: قُسّ بن ساعدة «7». و قيل: كعب بن لُؤيّ «8». و قيل: يَعْرب بن قحطان «9». و قيل: سحبان بن وائل «10». و لا فائدة مهمّة في هذا الخلاف.

______________________________
(1) شرح الكافية في النحو 2: 396.

(2) في «م»: «و في تجويز ضبطها» بدل «و يجوز في ضبطها».

(3) في «م»: «في المتكلّم» بدل «فيمن تكلّم».

(4) الأوائل- للعسكري-: 45؛ الأوائل- للطبراني-: 68/ 40؛ الأوائل- لابن أبي عاصم النبيل-: 67/ 191؛ الوسائل إلى مسامرة الأوائل: 21/ 117؛ الجامع لأحكام القرآن 15: 162.

(5) لم نعثر على القائل فيما بين أيدينا من المصادر.

(6) كما في كشف الالتباس 1: 7.

(7) الأوائل- للعسكري-: 45؛ الوسائل إلى مسامرة الأوائل: 21/ 118؛ الأغاني 15: 246.

(8) الوسائل إلى مسامرة الأوائل: 21/ 119.

(9) الوسائل إلى مسامرة الأوائل: 21/ 119.

(10) خزانة الأدب 10: 369.

35
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

شرح الخطبة ؛ ج‌1، ص : 21

(فإنّ اللّه سبحانه كما أوجب على الولد طاعة أبويه) بقوله وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسٰانَ بِوٰالِدَيْهِ+ «1» و نظائرها.

و المراد بالأبوين: الأب و الأُمّ، و جمعهما باسم أحدهما؛ تغليباً و مراعاةً لجانب التذكير، كما يراعى جانب الأخفّ مع التساوي فيه، كالحسنين و العمرين، و لو تساويا خفّةً و ثقْلًا، جاز جمعهما باسم أيّهما كان، كالكسوفين و الظهرين.

(كذلك أوجب عليهما) أي على الأبوين (الشفقة عليه بإبلاغ مراده) حذف المفعول في الإبلاغ إيجازاً و مبالغةً و تفخيماً لشأن المريد، أي بإبلاغه مراده (في الطاعات و تحصيل مآربه) جمع إرب. و فيه خمس لغات، و هي: الحاجة (من القُرُبات) واحدها قُربة، و هي ما يطلب بها التقرّب إلى اللّه تعالى قرب الشرف لا الشرف.

(و لمّا) حرف وجود لوجود، و عند جماعة «2» ظرف بمعنى «حين» أو بمعنى «إذ» استعمل استعمال الشرط، يليه فعل ماضٍ مقتضٍ جملتين وجدت ثانيتهما عند وجود الأُولى، و الفعل الماضي هنا قوله (كثر طلب الولد العزيز) و هو هنا «الكريم» تقول: عززتُ على فلان: إذا كَرُمتَ عليه (محمّد) بدل من الولد، أو عطف بيان عليه.

(أصلح اللّه له أمر دارَيْه) دنياه و آخرته (و وفّقه للخير) التوفيق: جَعْل الأسباب متوافقة، و حاصله توجيه الأسباب بأسرها نحو المسبّبات، و يقال: هو اجتماع الشرائط و ارتفاع الموانع (و أعانه عليه، و أمدّ) أي: أمهل و طوّل (له في العمر السعيد) أي: الميمون، خلاف النحس.

و إذا كان الوصف للإنسان، قابلَ الشقيّ، لكن يختلف فيهما الفعل الماضي، فإنّه في الأوّل مفتوح العين، و في الثاني مكسورها، قاله الجوهري. «3».

(و العيش الرغيد) أي: الطيّب الواسع، يقال: عيشَة رَغد و رَغَد: أي طيّبة واسعة.

(لتصنيف) متعلّق ب‍ «طلب» و التصنيف جَعل الشي‌ء أصنافاً، و تمييز بعضها من بعض.

(كتاب) فعال من الكَتب، و هو الجمع بمعنى المكتوب، إلا أنّه خصّ استعماله بما فيه كثرة المباحث.

______________________________
(1) العنكبوت (29): 8؛ لقمان (31): 14؛ الأحقاف (46): 15.

(2) أنظر: مغني اللبيب 1: 369.

(3) الصحاح 2: 487، «س ع د».

36
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

شرح الخطبة ؛ ج‌1، ص : 21

(يحوي النكت) جمع نكتة، و هي الأثر في الشي‌ء يتميّز به بعض أجزائه عن بعض، و يوجب له التفات الذهن إليه، كالنقطة في الجسم و الأثر فيه الموجب للاختصاص بالنظر، و منه رُطَبَة مُنكِتة: إذا بدا إرطابها، ثمّ عُدّي إلى الكلام و الأُمور المعقولة التي يختصّ بعضها بالدقّة الموجبة لمزيد العناية و الفكر فيها، فيسمّى ذلك البعض نكتة.

(البديعة) و هي فعيلة بمعنى مفعولة، و هي: الفعل على غير مثالٍ، ثمّ صار يستعمل في الفعل الحسن و إن سُبق إليه مبالغةً في حسنه، فكأنّه لكمال حسنه لم يسبق إليه.

(في مسائل) جمع مسألة، و هي القول من حيث إنّه يُسأل عنه، و يسمّى ذلك القول أيضاً مبحثاً من حيث إنّه يقع فيه البحث، و مطلوباً من حيث يطلب بالدليل، و نتيجةً من حيث يستخرج بالحجّة، و مدّعىً من حيث إنّه يدّعى، فالمسمّى واحد و إن اختلفت العبارات باختلاف الاعتبارات.

(أحكام) واحدها: حكم، و هو بإضافته إلى (الشريعة) خطاب اللّه المتعلّق بأفعال المكلّفين بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع.

و يدخل في الاقتضاء ما عدا المباح من الأحكام الخمسة، و يدخل هو في التخيير، و في الوضع: السبب و الشرط و العلّة و المانع و غيرها من الأحكام الوضعيّة، و بسطه في محلّه.

و «الشريعة» فعيلة بمعنى مفعولة: ما شرعه اللّه لعباده من الدين.

و في بعض النسخ: «في مسائل الشريعة» بغير توسّط الأحكام.

(على وجه الإيجاز و الاختصار) و المعنى واحد، و هو: أداء المقصود بأقلّ من العبارة المتعارفة بين الأوساط الذين ليسوا في مرتبة البلاغة و لا في غاية الفهاهة. «1».

(خالٍ عن التطويل و الإكثار) و هُما أيضاً بمعنى، و هو: أداء المعنى المقصود بلفظ أزيد من المتعارف بين مَنْ ذُكر، و ليس مطلق التطويل و الإطناب واقعاً على وجه ينبغي العدول عنه، بل مع خلوّه من النكتة و الفائدة الموجبة له حسب مقتضى الحال، و إلا فقد يكون مقتضى البلاغة استعماله، كما قرّر في محلّه.

و لمّا كان الغرض من التصنيف إيصال المعنى إلى فهم المكلّف كان التطويل زيادةً على ما تحصل به التأدية خالياً عن البلاغة، فلا جرم حسُن خُلوّ الكتاب من الإطناب.

______________________________
(1) الفهّة و الفهاهة: العيّ. الصحاح 6: 2245، «ف ه ه».

37
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

شرح الخطبة ؛ ج‌1، ص : 21

(فأجبت) جواب «لمّا» أي: كان ما تقدّم سبباً لإجابة (مطلوبه) و في جَعل المجاب هو المطلوب ضرب من التعظيم للمجاب.

(و صنّفت هذا الكتاب) و «هذا» إشارة إلى المدوّن في الخارج، و يناسبه قوله: «فأجبت و صنّفت» فتكون الديباجة بعد التصنيف، أو إلى المرتّب الحاضر في الذهن.

و الإتيان بصيغة الماضي؛ تفؤّلًا بلفظه على أنّه من الأُمور الحاصلة التي من حقّها أن يخبر عنها بأفعال ماضية، أو لإظهار الحرص على وقوعه؛ لأنّ الإنسان إذا عظمت رغبته في شي‌ء كثر تصوّره إيّاه، فيورده بلفظ الماضي تخييلًا لحصوله. و من هذا القبيل الدعاء بلفظ الماضي مع أنّه من قبيل الإنشاء، كما هو مقرّر في المعاني.

و التحقيق أنّه إشارة إلى المرتب الحاضر في الذهن، سواء كان وضع الديباجة قبل التصنيف أم بعده؛ إذ لا حضور للألفاظ المرتّبة و لا لمعانيها في الخارج.

و توضيح ذلك أنّ الكتاب المؤلّف لا يخلو إمّا أن يكون عبارةً عن الألفاظ المعيّنة أي العبارات التي من شأنها أن يلفظ بها الدالّة على المعاني المخصوصة، و هو الظاهر، و إمّا عن النقوش الدالّة عليها بتوسّط تلك الألفاظ، و إمّا عن المعاني المخصوصة من حيث إنّها مدلولة لتلك العبارات أو النقوش، فهذه ثلاثة احتمالات بسيطة و تتركّب منها ثلاثة أُخرى «1» ثنائيّة، و رابع ثلاثي، فالاحتمالات سبعة.

و أنت خبير بأنّه لا حضور في الخارج للألفاظ المرتّبة و لا لمعانيها و لا لما يتركّب منهما و لا لما يتركّب من النقوش معهما أو مع أحدهما، و هذا كلّه واضح.

و أمّا النقوش الدالّة على الألفاظ فيحتمل أن يشار إليها بذلك. لكن فيه أنّ الحاضر من المنقوش لا يكون إلا شخصاً، و لا ريب في أنّه ليس المراد تسمية ذلك الشخص باسم الكتاب، بل تسمية نوعه، و هو النقش الكتابي الدالّ على تلك الألفاظ المخصوصة بإزاء المعاني المخصوصة أعمّ من أن يكون ذلك الشخص أو غيره ممّا يشاركه في ذلك المفهوم، و لا حضور لذلك الكلّي في الخارج، فالإشارة إلى الحاضر المرتّب في الذهن أصوب على جميع التقديرات، فكأنّه نزّل العبارات الذهنيّة التي أراد كتابتها منزلة الشخص المشاهد المحسوس، فاستعمل لفظ «هذا» الموضوع لكلّ مشار إليه محسوس.

______________________________
(1) في «ق، م»: «احتمالات أخرى».

38
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

شرح الخطبة ؛ ج‌1، ص : 21

(الموسوم) أي المسمّى، يقال: وسمت الشي‌ء وَسماً و سِمَةً، إذا أثّرت فيه أثراً. و الهاء عوض من الواو، و لمّا كانت السمة علامةً و الاسم علامةً على مسمّاه اشتقّ له منه لفظ، و هو أحد القولين في الاسم (بإرشاد الأذهان) جمع ذهن، و هو قوّة للنفس مُعدّة لاكتساب الآراء (إلى أحكام الإيمان) المراد به هنا مذهب الإماميّة دامت بركاتهم (مستمدّاً) حال من الضمير في «صنّفت» أي: صنّفت هذا الكتاب في حال «1» كوني مستمدّاً (من اللّه حسن التوفيق) و قد تقدّم تعريفه (و هداية الطريق) إليه سبحانه.

و المراد بها الدلالة على ما يوصل إلى المطلوب.

و قيل: الدلالة الموصلة إلى المطلوب «2».

و يؤيّد الأوّل إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلىٰ صِرٰاطٍ مُسْتَقِيمٍ «3».

و يرد عليه إِنَّكَ لٰا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ «4» و على الثاني وَ أَمّٰا ثَمُودُ فَهَدَيْنٰاهُمْ «5».

و أُجيب عن الإيراد الأوّل بأنّ الهداية المنفيّة في الآية محمولة على الفرد الكامل، و هو ما يكون موصلًا بالفعل لمن له الهداية، أو يقال: الآية من قبيل وَ مٰا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لٰكِنَّ اللّٰهَ رَمىٰ «6» في تنزيل وجود الشي‌ء منزلة عدمه؛ فإنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لمّا لم يكن مستقِلا بالهداية و الدلالة، بل دلالته بإقدار اللّه تعالى و تمكينه و توفيقه فكأنّه ليس بهادٍ، بل الهادي هو اللّه تعالى، و الحاصل يرجع إلى نفي الاستقلال في الهداية.

و أُورد عليه: بأنّه يلزم أنّ مَنْ يكون عارفاً بالشريعة، متقاعداً عن العمل بمقتضاها مُهتدٍ، و ليس كذلك.

و أُجيب: بالتزام أنّه مُهتدٍ بالمعنى اللغوي، أو مُهتدٍ بالنسبة إلى العلم و ضالّ بالنسبة إلى مطلوبٍ آخر، و هو نيل الثواب و الفوز بالسعادة الأُخرويّة حيث لم يعمل بمقتضى علمه، فيصدق الاسمان بالحيثيّتين.

و قد اتّسع مسلك الكلام بين العلماء الأعلام من الجانبين، و لا يبعد القول بالاشتراك،

______________________________
(1) في الطبعة الحجريّة: «حالة».

(2) الكشّاف 1: 35.

(3) الشورى (42): 52.

(4) القصص (28): 56.

(5) فصّلت (41): 17.

(6) الأنفال (8): 17.

39
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

شرح الخطبة ؛ ج‌1، ص : 21

و أولى منه أنّها حقيقة في الأوّل مجاز في الثاني؛ لأرجحيّته على الاشتراك، و كثرة استعمالها فيه. و تحقيقه في غير هذا المحلّ.

و اعلم أنّ المصنّف رحمه اللّه أضاف الهداية إلى مفعولها الثاني، و هي تتعدّى بنفسها إلى المفعول الأوّل و إلى الثاني بنفسها أيضاً، و ب‍ «إلى» و باللام. و من الأوّل قوله تعالى اهْدِنَا الصِّرٰاطَ «1» و من الثاني هَدٰانِي رَبِّي إِلىٰ صِرٰاطٍ «2» و من الثالث الَّذِي هَدٰانٰا لِهٰذٰا «3».

(و التمست منه) أي: طلبت. و يُطلق على الطلب من المساوي حقيقةً أو ادّعاءً حسب ما يقتضيه المقام (المجازاة على ذلك) التصنيف، و في الإشارة إليه بصيغة البعيد توسّع (بالترحّم عليّ عقيب الصلوات، و الاستغفار) و هو سؤال المغفرة (لي في الخلوات) فإنّها مظنّة إجابة الدعوات و نزول البركات (و إصلاح ما يجده) في هذا الكتاب بمقتضى السياق. و يحتمل أن يريد الأعمّ منه و من غيره، كما صرّح به في وصيّته له في آخر القواعد «4» (من الخلل و النقصان) بينهما عموم و خصوص مطلق؛ فإنّ كلّ نقصان خلل و لا ينعكس.

(فإنّ السهو) و هو زوال الصورة عن القوّة الذاكرة، أو عدم العلم بعد حصوله عمّا من شأنه أن يكون عالماً (كالطبيعة الثانية للإنسان).

و توضيح ذلك: أنّ الطبيعة الأُولى للشي‌ء هي ذاته و ماهيّته، كالحيوان الناطق بالنسبة إلى الإنسان، و ما خرج عن ماهيّته من الصفات و الكمالات الوجوديّة اللاحقة لها تسمّى «5» طبيعة ثانية، سواء كانت لازمةً، كالضحك و التنفّس بالقوّة للإنسان، أم مفارقةً، كهُما بالفعل له، و سواء كانت لاحقةً بلا واسطة، كالتعجّب اللاحق للإنسان، أم بواسطة أمرٍ خارج عنه مساوٍ له، كالضحك اللاحق له بواسطة التعجّب، أم بواسطة جزئه، كالحركة الإراديّة اللاحقة له بواسطة أنّه حيوان.

ثمّ لمّا كان السهو ليس طبيعةً أُولى و هو ظاهر، و لا ثانيةً؛ لأنّه أمر عدميّ فإنّ العدم‌

______________________________
(1) الفاتحة (1): 6.

(2) الأنعام (6): 161.

(3) الأعراف (7): 43.

(4) قواعد الأحكام 2: 347.

(5) في الطبعة الحجريّة: «سمّي».

40
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

شرح الخطبة ؛ ج‌1، ص : 21

جزء مفهومه؛ لأنّه زوال الصورة العلميّة عن القوّة الذاكرة، أو عدم العلم بعد حصوله عمّا من شأنه أن يكون عالماً، كما تقدّم، لكنّه أشبه الطبيعة الثانية في العروض و الكثرة التي تشبه اللزوم، كان كالطبيعة الثانية للإنسان خصوصاً على التعريف الثاني؛ فإنّ العدم المنسوب إلى الملكة له حظّ من الوجود بافتقاره إلى محلّ وجوديّ، كافتقار الملكة إليه؛ فإنّه عبارة عن عدم شي‌ء مع إمكان اتّصاف الموضوع بذلك الشي‌ء، كالعمى؛ فإنّه عدم البصر لا مطلقاً بل عن شي‌ء من شأنه أن يكون بصيراً، فهو يفتقر إلى الموضوع الخاصّ المستعدّ للملكة، كما تفتقر الملكة إليه، بخلاف باقي الأعدام. ثمّ أكّد الاعتذار عمّا يجده من الخلل بقوله (و مثلي) ممّن لم يتّصف بالعصمة من بني آدم، و التعبير بالمثل كناية عن أنّي لا أخلو من ذلك من قبيل قولهم: «مثلك لا يبخل» و «مثلك مَنْ يجود» فإنّه كناية عن ثبوت الفعل أو نفيه عمّن أُضيف إليه لفظ «مثل» لأنّه إذا ثبت الفعل لمن يسدّ مسدّه و مَنْ هو على أخصّ أوصافه أو نُفي عنه، كان من مقتضى القياس و العرف أن يفعل هو كذا أو أن لا يفعل، و من لازم هذه الكناية تقديم لفظ «مثل» كما قرّر في المعاني.

و لفظة «يخلو» من قوله (لا يخلو) ليس بعدها ألف؛ لأنّ الواو فيها لام الفعل المعتلّ، و إنّما أثبتوا الألف بعد الواو المزيدة و هي واو الجماعة فرقاً بينها و بين الأصليّة، كهذه و نظائرها، فإتيانه بعدها خطأ (من تقصير في اجتهاد) لابتنائه على مقدّمات متعدّدة و قواعد متبدّدة يحتاج إلى استحضارها في كلّ مسألة يجتهد فيها، و ذلك مظنّة التقصير، و لهذا اختلفت الأنظار في الفروع التي لم ينصّ على عينها، كما هو معلوم.

(و اللّه الموفّق للسداد) و هو الصواب و القصد من القول و العمل، قاله في الصحاح. «1».

(فليس المعصوم) من بني آدم كما يقتضيه الاستثناء من النفي المستلزم لحصر الإثبات في المستثنى مع الإجماع على عصمة الملائكة عليهم السّلام مع خروجهم عن الأنبياء و الأوصياء، فلو لا التقييد ببني آدم، أشكل الحصر (إلا مَنْ عصمه اللّه).

و «من» في قوله (من أنبيائه و أوصيائه) لبيان الجنس، لاتّفاقنا على عصمة الجميع، و التقدير: ليس المعصوم من نوع الإنسان إلا الأنبياء و أوصياءهم (عليهم أفضل الصلوات

______________________________
(1) الصحاح 2: 458، «س د د».

41
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

شرح الخطبة ؛ ج‌1، ص : 21

و أكمل التحيّات) جمع تحيّة و الأصل: تحيية، نُقلت كسرة الياء إلى ما قبلها و أُدغم الياء في الياء. و اشتقاقها من الحياة؛ لأنّ المحيّي إذا حيّا صاحبه فقد دعا له بالسلامة من المكاره، و الموت من أشدّها، فدخل في ضمنها. و اختصّت بالاشتقاق منها؛ لقوّتها. و المراد هنا ما هو أعمّ من ذلك.

(و نبدأ في الترتيب) و هو جمع الأشياء المختلفة و جَعلها بحيث يطلق عليها اسم الواحد، و يكون لبعضها نسبة إلى بعضٍ بالتقدّم و التأخّر في النسبة العقليّة و إن لم تكن مؤتلفةً، و هو أعمّ من التأليف من وجه؛ لأنّه ضمّ الأشياء مؤتلفة، سواء كانت مرتّبة الوضع أم لا، و هُما معاً أخصّ من التركيب مطلقاً؛ لأنّه ضمّ الأشياء مؤتلفةً كانت أم لا، مرتّبة الوضع أم لا. و منهم مَنْ جَعَل الترتيب أخصّ مطلقاً من التأليف. و منهم مَنْ جَعَلهما مترادفين. و منهم مَنْ جَعَل التركيب و التأليف مترادفين. فهذه ألفاظ ثلاثة موضوعة للدلالة على ضمّ شي‌ء إلى آخر يحسن التنبيه عليها (بالأهمّ فالأهمّ).

أي: نبدأ بالأهمّ أوّلًا، فإذا فرغنا منه، ذكرنا الأهمّ بالنسبة إلى الباقي. فبدأ بالعبادات أوّلًا؛ إذ الأحكام الأُخرويّة أهمّ من الدنيويّة؛ لأنها المقصودة بالذات من خلق المكلّفين. و أتبعها بالعقود؛ لتوقّف نظام النوع و قوامه على معرفتها، ثمّ بالإيقاعات؛ لأنّها بالنسبة إلى العقود كالفروع، فإنّ الطلاق و توابعه فرع النكاح، و العتق و توابعه فرع الملك الحاصل بالابتياع و نحوه، و هكذا القول في نظائرها.

و أُخّرت الأحكام؛ لأنّها خارجة عن حقيقة مستحقّ التقدّم، كالفرائض و الجنايات، أو لازمة للعقود و الإيقاعات معاً، كالقضاء و الشهادات، و اللازم متأخّر عن الملزوم طبعاً، فأُخّر وضعاً ليطابق الطبع الوضع.

ثمّ بدأ من العبادات بالصلاة؛ لأنّها أفضل و أكثر تكرّراً، و قدّم عليها الطهارة؛ لكونها شرطاً فيها، و الشرط مقدّم على المشروط، و كان من حقّها أن تجعل باباً من أبواب الصلاة، كباقي شروطها، كما فعل الشهيد رحمه اللّه في الذكرى، لكن لكثرة مسائلها و تشعّب أنواعها أفردها عن باقي الشروط في كتابٍ، و قدّم منها الوضوء؛ لعموم البلوى به و تكرّره ضرورة في كلّ يوم، بخلاف الغسل و التيمّم. و قدّم بعده الغسل على التيمّم؛ لأصالته عليه، و التيمّم طهارة ضروريّة، و قدّم على إزالة النجاسات؛ لأنّها تابعة للطهارة بالمعنى‌

42
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

شرح الخطبة ؛ ج‌1، ص : 21

المعتبر عند علماء الخاصّة.

ثمّ أتى بالزكاة بعد الصلاة؛ لاقترانها معها في الآيات «1» الكريمة، و تكرّرها في كلّ سنة بالنسبة إلى الخمس و الحجّ، و الخمس و الاعتكاف تابعان للزكاة و الصوم من وجه، فناسب ذكرهما معهما، ثمّ بالصوم؛ لاختصاصه ببعض هذه العلل، ثمّ بالحجّ؛ لوقوعه في العمر مرّة. و أخّر الجهاد؛ لخلوّ وقتنا منه غالباً. و هكذا قرّر ما يرد عليك من بقيّة أجزاء الكتاب لا زلت موفّقاً لصوب الصواب.

______________________________
(1) البقرة (2): 43 و 110 و 277؛ النساء (4): 162؛ المائدة (5): 12؛ التوبة (9): 5 و 11 و 18 و 71؛ مريم (19):

31؛ الأنبياء (21): 73؛ الحجّ (22): 41 و 78؛ النور (24): 37 و 56؛ النمل (27): 3؛ لقمان (31): 3؛ الأحزاب (33): 33؛ المجادلة (58): 13؛ المزّمّل (73): 20؛ البيّنة (98): 5.

43
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

[كتاب الطهارة] ؛ ج‌1، ص : 45

[كتاب الطهارة]

45
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

[كتاب الطهارة] ؛ ج‌1، ص : 45

كتاب الطهارة خبر مبتدأ محذوف، أي هذا كتاب الطهارة، و كذا القول في بقيّة الفصول و الأبواب.

و الكتاب اسم مفرد، و جمعه كتب بضمّ التاء و سكونها. و هو فعال من الكتب بفتح الكاف، سمّي به المكتوب، كالخلق بمعنى المخلوق، و كقولهم: هذا درهم ضرب الأمير، و ثوب نسج اليمن.

و قد صرّح الجوهري و غيره من أهل اللغة بأنّه نفسه مصدر، تقول: كَتَبتُ كَتباً و كِتاباً و كِتابَةً. «1».

و استشكل ذلك جماعة من المحقّقين بأنّ المصدر لا يشتقّ من المصدر، بل الخلاف منحصر في أنّ الفعل هل يشتقّ من المصدر أو بالعكس كما هو المعلوم؟

و أسدّ ما يقال في الجواب: إنّ الكلام إنّما هو في المصدر المجرّد، و أمّا المزيد فإنّه مشتقّ منه؛ لموافقته إيّاه بحروفه و معناه، و قد نصّ على ذلك العلامة التفتازاني «2».

و الكتب معناه: الجمع، تقول: كتبتُ البغلَةَ: إذا جمعت بين شُفريها بحَلقةٍ أو سيرٍ. و كتبتُ القِربةَ أيضاً كَتباً: إذا خرزتها. و منه: تكتّب بنو فلان: إذا تجمّعوا. و منه سُمّي الكتاب؛ لأنّه يجمع أُموراً من علمٍ يُعبّر عنها تارة بالأبواب، و أُخرى بالفصول و غيرها.

و الطهارة مصدر طهر بضمّ عين الفعل و فتحها، و الاسم: الطهر، و هي لغةً: النظافة و النزاهة، و قد نقلت في الاصطلاح الشرعي إلى معنى آخر بناءً على وجود الحقائق الشرعيّة.

______________________________
(1) الصحاح 1: 208؛ لسان العرب 1: 698، «ك ت ب».

(2) شرح التصريف (ضمن جامع المقدّمات) 1: 211.

47
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

[كتاب الطهارة] ؛ ج‌1، ص : 45

و قد اختلف الأصحاب في تعريفها؛ لاختلافهم في المعنى المنقول إليه، فكلّ عرّفها بحسب «1» ما ذهب إليه، و لا تكاد تجد تعريفاً سليماً عن الطعن حتى لجأ بعضهم «2» إلى أنّ المراد بتعريفها اللفظي على قانون اللغة، و هو تبديل لفظ بلفظ آخر أجلى منه من دون اشتراط الاطّراد و الانعكاس.

و حاصل الخلاف: أنّ منهم مَنْ يُطلقها على المبيح دون إزالة الخبث. و منهم مَنْ يُطلقها عليه و على إزالة الخبث. و علماؤنا الأكثرون على الأوّل بناءً على أنّ إزالة الخبث في الحقيقة أمر عدميّ، فلا حظّ له في المعاني الوجوديّة.

ثمّ هُم مختلفون في إطلاقها على الصورة غير المبيحة حقيقةً أو ظاهراً، كوضوء الحائض و المجدّد: و المصنّف لم يتعرّض لتعريفها في هذا الكتاب، لكن قد استقرّ أمره تبعاً لغيره على تقييدها بالمبيحة و لو بالصلاحيّة.

و من الإشكال العامّ أنّهم يُخرجون من التعريف وضوءَ الحائض إمّا لعدم الإباحة به، أو للحديث «3» الدالّ على عدم تسميته طُهراً.

ثمّ يقسّمون الطهارة إلى واجبٍ و ندبٍ، و الندب إلى المجدّد و إلى وضوء الحائض، و غسل الجمعة، و التيمّم لصلاة الجنازة و نحوها، فاللازم إمّا فساد التقسيم أو خلل التعريف.

و ربما اعتذر بأنّ المقسم غير المعرّف، أو بأنّ ذكر هذه الأشياء في التقسيم لضربٍ من المجاز و الاستطراد، و مثله يجوز ارتكابه في التقسيم بعد سلامة التعريف. و لا يخفى بُعْدهما.

و قد ناقش شيخنا الشهيد رحمه اللّه في إخراج وضوء الحائض و إدخال المجدّد: بأنّ التعريف إن كان للطهارة المبيحة للصلاة، فينبغي إخراج المجدّد منه عند مَنْ لا يكتفي بنيّة التقرّب منفردة؛ لأنّه غير صالح للتأثير. و إن أُريد بالصلاحيّة ما يعمّ البعيدة و هو أنّه لو اقترن به ما يجب اقتران غيره به لأثّر فيدخل «4» وضوء الحائض؛ إذ الصلاحيّة حاصلة‌

______________________________
(1) في «ق، م»: «حسب».

(2) المحقّق الحلّي في الرسائل التسع: 200- 201.

(3) الكافي 3: 100- 101/ 1.

(4) في «ق، م» و الطبعة الحجريّة: «دخل». و ما أثبتناه من المصدر.

48
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

[كتاب الطهارة] ؛ ج‌1، ص : 45

لكلّ وضوء من حيث هو، و ما بالذات لا يزيله ما بالعرض. و إن كان لما يقع عليه لفظ الطهارة صحيحاً أم لا، مبيحاً أم لا، فلا معنى للتقييد بالمبيح للصلاة أو بالصالح لها. «1»

و اعتذر عن ذلك بالفرق بين ما اقترن به ما يمنع الإباحة بحالٍ، كما في وضوء الحائض، و بين ما أخلّ فيه بشرط لو أتى به لكان مبيحاً، فكأنّه صالح بالقوّة، و من ثَمَّ قال جمع بإباحة المجدّد. و منهم مَنْ يرى الاكتفاء بالقربة.

و أنت خبير بأنّ هذا الاعتذار اقتضى اختلافهما، و أنّ أحدهما أقوى من الآخر، أمّا جواب ما نحن بصدده فلا؛ لأنّ الكلام إنّما هو على القول بعدم رفعه و عدم الاجتزاء بالقربة، و حينئذٍ فلا دَخْلَ له في الإباحة على وجه الحقيقة، و إلا فنحن لا ننازع في أنّه أقوى و أقرب إلى الإباحة، لكن تعريفهم لا يجتزئ بذلك.

اللّهمّ إلا أن ترتكب في التعريف ضرباً من التجوّز. بأن تحمل الإباحة أو الصلاحيّة لها على ما يعمّ القوّة القريبة على معنى أنّه لو أتى ببقيّة الشروط المعتبرة حصلت، فيندرج في ذلك المجدّد و الأغسال المسنونة، و يخرج عنه وضوء الحائض، لكن يبقى الكلام في إدخال وضوء الحائض في التقسيم، و قد مرّ الكلام فيه.

(و النظر) يقع في الطهارة من ستّة أوجه على وجه الحصر الجعلي الاستحساني، لا العقلي و الاستقرائي (في أقسامها و أسبابها) و يندرج فيها واجباتها و كيفيّتها و أحكامها. و يقع النظر فيها من ثلاثة أوجه بحسب تعدّد أنواعها (و ما تحصل به) و هو الماء المطلق، و التراب على ما يأتي (و توابعها) و هي إزالة النجاسات و تعدادها، و بقيّة المطهّرات، و أحكام الأواني.

و وجه ما اختاره من الحصر أنّ البحث إمّا عن المقصود بالذات أولا، و الأوّل إمّا عن تقسيمه و تفصيله على وجه يصير الشارع فيه على بصيرةٍ منه، و هو النظر الأوّل، أو عن كيفيّته و ما معه من السبب و الحكم، و هو الثاني و الثالث و الرابع حسب تعدّد أنواعه. و تقديم الثاني و الثالث على الرابع ظاهر؛ لأنّه طهارة اضطراريّة مشروطة بفقد الاختياريّة التي هي المائيّة. و المائيّة قسمان: وضوء و غسل، و قدّم الوضوء على الغسل؛ لزيادة الحاجة إليه. و الثاني إمّا أن يتوقّف عليه المقصود بالذات أولا، و الأوّل هو الخامس، و هو‌

______________________________
(1) غاية المراد 1: 26- 27 و فيه: بالصالح له.

49
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

[كتاب الطهارة] ؛ ج‌1، ص : 45

البحث عن المياه و أقسامها و أحكامها، و إنّما أخّره عمّا سبق مع أنّه مادّته و هي متقدّمة على الصورة؛ لأنّ ما بالذات أولى ممّا بالعرض و لما ذكرناه من العلّة قدّم غيره البحثَ عن المياه أوّلًا حتّى المصنّف في غير هذا الكتاب و الثاني هو السادس، و هو التابع، و رتبته التأخّر عن متبوعه. و لأنّه طهارة لغويّة عنده، و إنّما بحث عنه في كتاب الطهارة؛ لأنّ النجاسة مانعة من الصلاة.

و لمّا بحث عن الطهارة الشرعيّة التي هي شرط الصلاة بحث عن المانع منها؛ ليتمّ للمكلّف معرفة ما به يخرج عن التكليف بها. و لأنّه عند بعضهم طهارة شرعيّة حقيقةً، و مجازاً عند الباقين، فالمناسبة حاصلة على التقديرين.

و ربما نظر بعضهم إلى أنّه يتوقّف عليه استعمال ما يتطهّر به ليتحقّق الخروج عن العهدة باستعماله، فقدّم البحث عنه على المقصود بالذات؛ لذلك، كما فَعَل المصنّف في القواعد، و لكلٍّ وجه. و المرجّح ما يقع في الخَلَد «1» وقت التصنيف.

______________________________
(1) الخَلَد: البال. الصحاح 2: 469، «خ ل د».

50
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

النظر الأول في أقسامها ؛ ج‌1، ص : 51

[النظر الأوّل في أقسامها]

(النظر الأوّل: في أقسامها) (و هي) أي الطهارة منقسمة انقسام الكلّي إلى جزئيّاته لا الكلّ إلى أجزائه إلى ثلاثة أنواع (وضوء و غسل و تيمّم) و لمّا كان هذا الكلّي لا وجود له في الخارج إلا في ضمن جزئيّاته صدق على كلّ جزئيّ من الثلاثة أنّه طهارة.

و ينساق إلى هذا و نظائره شكّ لطيف، و هو أنّ الانقسام لازم لمطلق الطهارة، و هو لازم لكلّ واحد من أقسامها، فيلزم أن يكون الانقسام لازماً لكلّ واحد من أقسامها، و يلزم منه انقسام الشي‌ء إلى نفسه و مباينه أو مساواة الجزئي لكلّيّة، و كلاهما فرض محال.

و جوابه: أنّ المنقسم إلى الثلاثة هو الطهارة المطلقة، أي مقيّدة بقيد العموم، لا مطلق الطهارة، و فرق بين الصيغتين؛ فإنّ الطهارة من حيث إنّها عامّ موصوفة بالانقسام، كما أنّ الحيوان من حيث إنّه عامّ موصوف بالجنسيّة، و هي قسم من المطلق، و ما هو ملزوم للانقسام هو مطلق الطهارة، بل الطهارة المطلقة. و فيه بحث.

أو نقول: الانقسام المذكور لازم للطهارة بحسب وجودها الذهني، و هي لازمة لأقسامها من حيث حصولها العينيّ لأمن تلك الحيثيّة، و لازم الشي‌ء باعتبارٍ لا يلزم أن يكون لازماً لملزومه باعتبارٍ آخر، كالكلّيّة اللازمة لمفهوم الحيوان، اللازم لزيدٍ مثلًا.

و اعلم أنّ الظاهر من هذا الانقسام أنّ مقوليّة الطهارة على أنواعها الثلاثة بطريق الحقيقة لا بالمجاز، و لا ريب في ذلك بالنسبة إلى المائيّة.

و يؤيّده بالنسبة إلى الترابيّة: قوله عليه السلام: صلّى اللّه عليه و آله‌

الصعيد طهور المسلم «1»

و‌

جُعلت لي الأرض

______________________________
(1) سنن الترمذي 1: 212/ 124.

51
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

أما الوضوء ؛ ج‌1، ص : 52

 

مسجداً و ترابها طهوراً «1»

إلى غير ذلك من الأحاديث الدالّة على إطلاق الطهارة على التيمّم؛ لأنّ السياق لإباحة الصلاة بالنسبة إلى الحدث، و لصدق التعريفات بأسرها عليه.

ثمّ على تقدير الحقيقة فهل تلك المقوليّة بطريق الاشتراك اللفظي أو التواطؤ أو التشكيك؟ الظاهر انتفاء الأوّل؛ لاشتراك الثلاثة في معنى مشترك بينها، و هو صلاحيّة الإباحة للصلاة و لو بالقوّة القريبة على ما تقرّر، و هو ينفي الاشتراك. و مُحتمِل الاشتراك ينظر إلى اختلاف ذاتَي المائيّة و الترابيّة، فهي كالعين.

و هو ضعيف؛ إذ لا جامع لأفراد العين غير اللفظ، بخلافه هنا.

نعم، يقع الشكّ بين الأخيرين؛ لاشتراكهما في هذا الوجه.

و ليس ببعيد مقوليّتها على الثلاثة بالتشكيك، و على الوضوء و الغسل بالتواطؤ؛ فإنّ إطلاقها على المائيّة أقوى من الترابيّة، و فردا المائيّة متساويان.

و تظهر فائدة الخلاف في نذر الطهارة، و سيأتي.

(و كلّ منها) أي الثلاثة التي هي الوضوء و الغسل و التيمّم (واجب) إمّا بأصل الشرع أو بالعرض، كالنذر و شبهه (و ندب) بالأصالة أو بالعرض أيضاً. فالأقسام أربعة، و يخرج من ضربها في الأنواع الثلاثة اثنا عشر قسماً ذكر المصنّف رحمه اللّه منها تسعة الواجبة بأصل الشرع و العارض، و الثلاثة المندوبة بأصل الشرع، و ستراها مفصّلةً. و بقي ثلاثة أقسام، و هي المندوب من الثلاثة بسببٍ من المكلّف، و ذلك حيث يكون أحدها متعلّقاً بما يستحبّ الوفاء به، كالنذر المنوي غير المتلفّظ به.

[أما الوضوء]

[فمنه الواجب]

(فالوضوء يجب) بأصل الشرع (للصلاة و الطواف الواجبين).

إمّا للصلاة: فلقوله تعالى إِذٰا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلٰاةِ فَاغْسِلُوا «2» و لقوله عليه السلام: صلّى اللّه عليه و آله‌

لا صلاة إلا بطهور «3»

و للإجماع.

و يلحق بالصلاة أجزاؤها المقضيّة منفردةً، كالسجدة و التشهّد و سجود السهو و الاحتياط إن لم نجعله صلاةً مستقلّة، لا سجود التلاوة.

______________________________
(1) صحيح مسلم 1: 371/ 522؛ سنن البيهقي 1: 328/ 1023.

(2) المائدة (5): 6.

(3) التمهيد- لابن عبد البرّ- 8: 215.

 

52
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

و منه المستحب ؛ ج‌1، ص : 53

و أمّا للطواف: فلقوله عليه السلام: صلّى اللّه عليه و آله‌

الطواف بالبيت صلاة «1»

فيشترط فيه ما يشترط فيها إلا ما أخرجه الدليل.

(و) يجب الوضوء أيضاً بالأصالة ل‍ (مسّ كتابة القرآن إن وجب) المسّ بنذرٍ و شبهه على الأصحّ من توقّف المسّ على الطهارة؛ للآية. «2»

و الضابط في وجوب الوضوء ما كانت غايته واجبةً، و لمّا كان الصلاة و الطواف واجبين بأصل الشرع جعل الوجوب معهما وصفاً، و لمّا لم يجب المسّ بالأصل «3» جعل الوجوب فيه شرطاً.

و ربما أُعيد ضمير «وجب» إلى الوضوء إشارة إلى الخلاف في وجوب الوضوء على المحدث للمسّ.

و فيه بُعْد؛ لحكم «4» المصنّف بوجوبه، فلا وجه لتردّده هنا، بل الوجه ما قلناه.

[و منه المستحبّ]

(و يستحبّ) الوضوء بأصل الشرع (لمندوبَي الأوّلين) و هُما: الصلاة و الطواف؛ فإنّ الغاية لمّا لم تجب لم يجب شرطها؛ لجواز تركها، فكان الشرط كإلغائه؛ إذ لا يتصوّر وجوب الشرط لمشروطٍ غير واجب، لكن مع الشرطيّة في الصلاة فلا تصحّ بدونه.

و قد يطلق عليه هنا الوجوب؛ لمشابهته الواجب في أنّه لا بدّ منه بالنسبة إلى مشروطه، و يعبّر عنه بالوجوب الشرطي. و كذا القول في مسّ خطّ المصحف مع عدم وجوبه.

و أمّا الطواف المندوب فهو من كماله على الأصحّ، فيصحّ الطواف بدونه. و اشترطها فيه المصنّف في النهاية. «5»

(و دخول المساجد) للخبر، «6» و لاستحباب التحيّة، و هي متوقّفة على الوضوء (و قراءة القرآن، و حمل المصحف، و النوم، و صلاة الجنائز، و السعي في حاجة، و زيارة المقابر) كلّ ذلك للنصّ. «7»

______________________________
(1) سنن النسائي 5: 222؛ سنن البيهقي 5: 141- 142/ 9304؛ سنن الدارمي 2: 44؛ المعجم الكبير- للطبراني- 11:

34/ 10955؛ المستدرك للحاكم- 1: 459، و 2: 267.

(2) الواقعة (56): 79.

(3) في «م»: «بالأصالة».

(4) في «ق، م»: «و لحكم».

(5) نهاية الإحكام 1: 20.

(6) التهذيب 3: 263/ 743.

(7) انظر: الكافي 3: 468/ 5؛ و الفقيه 1: 296/ 1353، و 3: 95/ 365؛ و التهذيب 1: 127/ 344، 359/ 1077، و 2: 116/ 434، و 3: 203/ 476؛ و الاستبصار 1: 113- 114/ 378؛ و قرب الإسناد: 395/ 1386؛ و الخصال 2: 627. و لم نعثر على نصّ بالخصوص لاستحباب الوضوء لزيارة المقابر. نعم، قال الشهيد في الذكرى 1: 193: و يستحبّ لندبي الصلاة و الطواف .. و لصلاة الجنازة و زيارة قبور المؤمنين .. كلّ ذلك للنصّ.

53
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

و منه المستحب ؛ ج‌1، ص : 53

و في كلّ هذه ينوي الاستباحة أو الرفع، و يحصلان له عدا النوم ففيه نظر.

أمّا نيّة الرفع: فلا إشكال فيها بعد ثبوت إيقاع هذه الأشياء على طهارة.

و أمّا الاستباحة: فذكرها الشهيد رحمه اللّه في بيانه «1» ساكتاً عليها. و أمرها مشكل فيما عدا الصلاة المندوبة؛ لإباحة هذه الأشياء بدونها، فكيف ينوي استباحتها بها!؟ و الأولى في النيّة رفع الحدث أو إيقاع هذه الأشياء على الوجه الأكمل؛ لتوقّفه على رفع الحدث.

و أمّا النوم: فالوضوء له غايته الحدث فكيف يرفعه!؟

و ألحقه في المعتبر «2» بالصحيح؛ لأنّه قصد النوم على أفضل أحواله، و لما في الحديث من استحباب النوم على طهارة، و هو مشعر بحصولها.

و اعترضه شيخنا الشهيد رحمه اللّه بأنّه لا يلزم من استحباب النوم على الطهارة صحّة الطهارة للنوم؛ إذ الموصل إلى ذلك وضوء رافع للحدث، فلينو رفعه أو استباحة مشروط به لا منافٍ له.

قال: و التحقيق أنّ جَعْل النوم غايةً مجاز؛ إذ الغاية هي الطهارة في آن قبل النوم بحيث يقع النوم عليها، فيكون من باب الكون على طهارة، و هي غاية صحيحة. «3»

(و نوم الجنب) و إنّما خصّه بالذكر مع دخوله في استحباب الوضوء للنوم؛ لمزيد الاهتمام به، و لورود النصّ «4» عليه بخصوصه، و لدفع توهّم عدم شرعيّة الوضوء للجنب. (و جماع المحتلم) قبل الغسل. و عُلّل في الخبر «5» بأنّه لا يؤمن أن يجي‌ء الولد مجنوناً لو حملت من ذلك الجماع. و هو يقتضي تخصيص الكراهة بوقت احتمال الحمل، فتنتفي بدونه.

و الأولى تعميم الحكم؛ إذ لا يلزم من تأثيره في الحمل على تقدير كونه مسبّباً عنه انتفاء‌

______________________________
(1) البيان: 37.

(2) المعتبر 1: 140.

(3) الذكرى 2: 111- 112.

(4) الكافي 3: 51/ 10؛ الفقيه 1: 47/ 179؛ التهذيب 1: 370/ 1127.

(5) الفقيه 3: 256/ 1212؛ علل الشرائع 2: 229/ 3، الباب 289؛ التهذيب 7: 412/ 1646.

54
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

و منه المستحب ؛ ج‌1، ص : 53

الكراهة لو لم يكن، و الكراهة منوطة بالاحتلام، فلا يكره الجماع من غير وضوء؛ للأصل.

(و ذِكْر الحائض) للّه تعالى في وقت كلّ صلاة. و الخبر «1» ورد في الحائض. و الظاهر إلحاق النفساء بها؛ لأنّها حائض في المعنى.

و هذه الثلاثة لا يتصوّر فيها رفع الحدث؛ لمصاحبته لها، و عدم صلاحيّته للارتفاع به في هذه الحالة.

(و الكون) بالجرّ عطفاً على ما قبله، أي: و يستحبّ الوضوء أيضاً للكون (على طهارة) أي: للبقاء على حكمها، فاندفع توهّم التكرار حيث يصير التقدير: تستحبّ الطهارة للكون على طهارةٍ؛ لأنّ البقاء على حكمها ليس هو نفسها، بل لازمها، و ليس الكون غايةً مستقلّة، بل مستلزمة للرفع أو الاستباحة؛ إذ لا تحصل إلا بأحدهما، فكأنّ المنوي أحدهما، و من ثَمَّ صحّ الوضوء المنوي به ذلك، كما قرّبه في الذكرى، «2» مع أنّ ذلك وارد في بقيّة الغايات المستحبّة، و الجواب واحد.

و يجوز رفع «الكون» عطفاً على الضمير المستتر في قوله: «و يستحبّ» أو على الابتداء، و الخبر محذوف، و تقديره: مستحبّ.

و ربما توهّم التكرار على التقدير الأوّل من هذين بناءً على أنّه في قوّة: يستحبّ الوضوء و يستحبّ الكون على وضوء.

و لا وجه له؛ لأنّ المعطوف عليه ليس هو استحباب الوضوء مطلقاً، بل للمذكور من الصلاة و الطواف المندوبين و غيرهما ممّا عُدّ.

ثمّ إنّ المكلّف إذا أراد الكون، فإن نوى رفع الحدث، فلا ريب في الصحّة و حصول ما نواه؛ إذ لا يحصل الكون عليها إلا مع ارتفاعه مع الاختيار، و هو إحدى الغايتين. و إن نوى الاستباحة لشي‌ء ممّا يتوقّف على الوضوء، حصل المقصود أيضاً لزوماً، لكن يكون الكون حينئذٍ تابعاً. و إن نوى الكون على طهارةٍ، فقد قرّب الشهيد رحمه اللّه الإجزاء كما حكيناه عنه، «3» و هو حسن؛ لأنّه إحدى الغايات المطلوبة للشارع، و لأنّه يستلزم الرفع؛ لأنّ الكون على طهارةٍ لا يتحقّق إلا معه.

______________________________
(1) الكافي 3: 101/ 4؛ التهذيب 1: 159/ 456.

(2) الذكرى 2: 111.

(3). آنفا

55
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

و أما الغسل ؛ ج‌1، ص : 56

 

(و التجديد) بالجرّ أيضاً عطفاً على ما سبق. و لا ينوي هنا الرفع و لا الاستباحة. و لا يرفع الحدث على المشهور؛ لعدم نيّته.

و حُكي عن الشيخ في المبسوط الرفعُ، «1» و قوّاه الشهيد في الدروس «2» لأنّ شرعيّة المجدّد لتدارك الخلل و كماليّة الطهارة، مع أنّهما يشترطان في الوضوء الواجب الاستباحةَ أو الرفع. «3» و سيأتي في ذلك بحث آخر إن شاء اللّه.

و لو اكتفينا في الوضوء بالقربة، فلا إشكال حينئذٍ في رفع المجدّد على تقدير الحاجة إليه.

ثمّ إنّ تجديد الوضوء إن كان بعد أن صلّى بالأوّل و لو نافلةً، فلا ريب في استحبابه.

و ألحق المصنف في التذكرة الطوافَ و سجودَ الشكر و التلاوة بها. «4»

و رجّح الشهيد عدمَ اللّحاق. «5»

و هل يستحبّ قبل الصلاة أو ما يلحق بها؟ جزم به المصنّف في التذكرة «6» للعموم.؛ و توقّف الشهيد. «7»

و يقوى الإشكال في تعدّده لصلاة واحدة؛ لعدم النصّ على الخصوص. و توقّف فيه المصنّف في المختلف. «8»

و يمكن دخوله في عموم الإذن فيه من غير تقييدٍ.

و رجّح العدم في الذكرى محتجّاً بأصالة عدم المشروعيّة، و أدائه إلى الكثرة المفرطة. «9»

و يضعّف الأوّل ما ذكرناه، و الثاني لا يصلح للدلالة.

[و أما الغسل]

[فمنه الواجب]

(و الغسل يجب) بأصل الشرع (لما وجب له الوضوء) و هو الصلاة و الطواف الواجبان، و المسّ إن وجب؛ للآية «10» و الحديث «11» و الإجماع، فيشترك مع الوضوء في هذه الثلاثة.

______________________________
(1) حكاه عنه الشهيد في الذكرى 2: 112.

(2) الدروس 1: 86.

(3) المبسوط 1: 19؛ الدروس 1: 90.

(4) تذكرة الفقهاء 1: 203- 204، الفرع «ه».

(5) الذكرى 2: 196.

(6) تذكرة الفقهاء 1: 204.

(7) الذكرى 2: 195- 196.

(8) مختلف الشيعة 1: 141، المسألة 92.

(9) الذكرى 2: 196.

(10) الواقعة (56): 79.

(11) التهذيب 1: 127/ 344؛ الاستبصار 1: 113- 114/ 378.

 

56
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

فمنه الواجب ؛ ج‌1، ص : 56

(و) يجب أيضاً زيادةً على الوضوء لأربعة أشياء (لدخول المساجد) مع اللبث في غير المسجدين، و فيهما يكفي في الوجوب مجرّد الدخول (و قراءة) سور (العزائم) الأربع أو شي‌ء منها حتّى البسملة إذا قصدها لأحدها.

و المراد بالعزائم نفس السجدات الواجبة، فإطلاقها على السور من باب حذف المضاف، أي: سور العزائم، و تسميتها عزائم بمعنى إيجاب اللّه تعالى لها على العباد، كما هو أحد معنيي العزيمة.

و في تسميتها عزائم احتراز عن باقي السجدات المستحبّة، لا بالمعنى المشهور للأُصوليّين من أنّ العزيمة ما وجب فعله مع عدم قيام المانع، و هو المعنى المقابل للرخصة؛ إذ لا وجه لاختصاصها بذلك من بين نظائرها هنا من الواجبات و إن كان التعريف صادقاً عليها.

و مستند الحكم فيهما النصّ و الإجماع.

و إنّما يجب الغسل لهما إذا كانا واجبين بنذرٍ و شبهه؛ إذ لا وجوب لأحدهما بأصل الشرع، كما نبّه عليه المصنّف بقوله (إن وجبا) أي كلّ واحد من الدخول و القراءة بانفراده.

و إطلاق الغسل يشمل بظاهره تحريم هذه الأشياء على محدثٍ يجب عليه الغسل بجنابةٍ أو غيرها، فيدخل فيه حدث مسّ الأموات، و هو على إطلاقه في الغاية «1» التي شارك فيها الوضوء.

و أمّا دخول المساجد و قراءة العزائم فعمّم المصنّف الحكمَ فيها في التذكرة. «2»

و استثنى الشهيد رحمه اللّه ماسّ الميّت من تحريم دخول المساجد. «3» و ادّعى عليه ابنُ إدريس الإجماع. «4» و المنقول منه بخبر الواحد حجّة مع اعتضاده بأصالة البراءة و خُلوّ الأخبار من الدلالة عليه نفياً و إثباتاً.

و أمّا قراءة العزائم له فليس فيها تصريح لأحد من الأصحاب. و الظاهر أنّ الحكم فيه كذلك؛ لأصالة البراءة و عدم الدليل المحرّم.

و أمّا حدث الاستحاضة، الموجب للغسل: فظاهر عبارة جماعة أنّه كالحيض في منع‌

______________________________
(1) في «ق، م»: «الغايات».

(2) تذكرة الفقهاء 1: 235 و 238، المسألتان 68 و 70.

(3) الدروس 1: 117.

(4) السرائر 1: 163.

57
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

فمنه الواجب ؛ ج‌1، ص : 56

دخول المساجد و قراءة العزائم مع عدم فعل ما يلزمها من الأغسال و الوضوءات، أمّا لو فعلَت ذلك، استباحت ما يستبيحه المتطهّر.

و في الدروس جوّز لها دخول المسجد مع أمن التلويث من غير تقييدٍ، محتجّاً بخبر زرارة عن الباقر «1» عليه السّلام «2»، و سيأتي الكلام فيه.

(و) يجب الغسل أيضاً (لصوم الجنب) إذا بقي من الليل مقدار فعله؛ للأخبار و الإجماع. و خلاف ابن بابويه «3» لا يقدح فيه.

و يلحق به الحائض و النفساء إذا انقطع دمهما قبل الفجر، دون ماسّ الميّت؛ للأصل و عدم النصّ، كما اعترف به الشهيد في الذكرى. «4»

قيل «5» عليه: إنّ مطلق صوم الجنب لا يكون مشروطاً بالغسل؛ لأنّ مَنْ نام بنيّة الغسل حتى أصبح لا يفسد صومه، و كذا مَن لم يعلم بالجنابة حتى طلع الفجر أو تعذّر عليه الغسل.

و جوابه: أنّ الحكم بوجوب الغسل أعمّ من كونه شرطاً. و يؤيّده ما ذكر من الصور إذ لو كان شرطاً، لم يصحّ الصوم على وجه. نعم، هو واجب موسّع قبل النوم، و بعده لا تكليف. و لأنّ شرطيّة الطهارة قويّة لا يعذر فيها الناسي. و مقتضى كلامهم أنّه شرط على بعض الوجوه لا مطلقاً، فسقط الإيراد. «6»

و قد يجاب بأنّ المفرد المحلّى باللام لا يعمّ عند المصنّف، فيصدق بجُنبٍ ما من غير أن يندرج فيه ما ذُكر.

و أورد العلامة قطب الدين الرازي على المصنّف أنّ قوله: «و لصوم الجنب» يدلّ على أنّ غسل الجنابة واجب لغيره، و هو لا يقول به.

و أجاب المصنّف: بأنّ المراد تضيّق الوجوب، و معناه أنّ الصوم ليس موجباً للغسل، بل يتضيّق وجوبه بسببه، و إنّما الموجب له الجنابة، فذكره لبيان كيفيّة الوجوب لا لبيان ماهيّته، كذا قرّره الشهيد رحمه اللّه و أقرّه. و زُيّف بأنّ الغسل شرط للصوم قطعاً،

______________________________
(1) علل الشرائع 1: 334/ 1، الباب 210.

(2) الدروس 1: 99.

(3) المقنع: 189.

(4) الذكرى 1: 193.

(5) لم نعثر على القائل فيما بين أيدينا من المصادر.

(6) في الطبعة الحجريّة زيادة: «كما مرّ».

58
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

و منه المستحب ؛ ج‌1، ص : 59

و وجوب المشروط يقتضي وجوب الشرط.

و يمكن الجواب عن الإيراد و إن قلنا بالشرطيّة بعدم المنافاة بين وجوبه لنفسه و وجوبه لكونه شرطاً للصوم؛ لأنّ الواجب في نفسه لا يمتنع جعله شرطاً لواجبٍ آخر، كستر العورة مع وجود الناظر؛ فإنّه واجب في نفسه و شرط للصلاة، و كصوم رمضان بالنسبة إلى الاعتكاف المنذور فيه، و حينئذٍ فيجب لوجوبه، قضيّةً للاشتراط، و لهذا يتعلّق به حكم الوجوب اللاحق، كتضيّقه بتضيّق مشروطه.

(و) يجب الغسل أيضاً لصوم (المستحاضة مع غمس) دمها (القطنة) سواء سال أم لم يسل، فيشمل حالتيها: الوسطى و العليا، و تخرج القليلة.

و المستند بعد الأخبار الإجماعُ.

و لا إشكال في الحكم إذا كان الغمس بعد انتصاف الليل و قبل الفجر بالنسبة إلى اليوم المستقبل، و كذا إذا كان بعد الفجر قبل الصلاة على الظاهر؛ لعموم توقّف الصوم على الأغسال.

و يحتمل ضعيفاً عدم وجوبه للصوم هنا و إن وجب للصلاة؛ لسبق انعقاده.

أمّا لو كان بعد صلاة الفجر، لم يجب الغسل للصوم قطعاً؛ لعدم وجوبه بالنسبة إلى صلاة الفجر.

ثمّ إن استمرّ إلى صلاة الظهر و كان كثيراً توقّف عليه الصوم؛ لوجوبه لصلاة الظهر.

أمّا لو كثر و انقطع قبل الظهر، ففي إيجابه الغسل خلاف يأتي تحقيقه إن شاء اللّه.

و لو تجدّدت الكثرة بعد صلاة الظهرين، لم يتوقّف صوم اليوم الحاضر على الغسل و إن استمرّت إلى وقت العشاءين، مع احتماله. و الظاهر توقّف صوم اليوم المستقبل عليه، للعموم.

و كذا إذا تجدّدت الكثرة بعد صلاة العشاء، سواء انقطعت قبل الانتصاف أم استمرّت. و الظاهر الاكتفاء حينئذٍ بغسلٍ واحد قبل الفجر و إن وجب في السابق أكثر.

و لو كان متوسّطاً، فإن استمرّ إلى الفجر، فتوقُف الصوم عليه ظاهر. و إن انقطع قبله، فالأجود وجوب الغسل له، و توقّف الصوم عليه؛ للعموم.

[و منه المستحبّ]

(و يستحبّ) الغسل بأصل الشرع (للجمعة) على المشهور؛ لقوله عليه السلام صلّى اللّه عليه و آله‌

مَنْ توضّأ

59
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

و منه المستحب ؛ ج‌1، ص : 59

يوم الجمعة فبها و نِعمَت، و من اغتسل فالغسل أفضل «1»

و قول الكاظم عليه السّلام‌

إنّه سُنّة و ليس بفريضة. «2»

و الأخبار الدالّة على الوجوب محمولة على تأكّد الاستحباب جمعاً بين الأخبار.

و وقته للمختار من طلوع الفجر، و يمتدّ إلى الزوال؛ لقول الصادق عليه السّلام‌

كانت الأنصار تعمل في نواضحها و أموالها، و إذا كان يوم الجمعة جاؤوا المسجد «3» فيتأذّى الناس بأرواح آباطهم و أجسادهم، فأمرهم رسول اللّهُ صلّى اللّه عليه و آله بالغسل يوم الجمعة، فجرت بذلك السّنّة. «4»

و كلّما قرب من الزوال كان أفضل؛ لزيادة المعنى عند الحاجة إليه في الأصل.

و لو فاته قبل الزوال لعذرٍ و غيره على الأصحّ، استحبّ قضاؤه إلى آخر السبت ليلًا و نهاراً، مع احتمال عدمه ليلًا، لظاهر النصّ. «5»

و يستحبّ تعجيله يوم الخميس مع خوف فوت الأداء و إن علم التمكّن من القضاء.

و احتمل المصنّف هنا تحتّم القضاء، كصلاة الليل.

و أفضل وقتي التعجيل و القضاء الأقرب إلى وقت الأداء، و هو آخر الأوّل و أوّل الثاني.

(و) يستحبّ الغسل أيضاً (أوّل ليلة من شهر رمضان) و هو إجماع، و رواه عثمان بن عيسى عن سماعة عن أبي عبد الله عليه السّلام «6» و هُما واقفيّان، لكن أُيّدت الرواية بعمل الأصحاب.

(و ليلة نصفه) و هي ليلة الخامس عشر. و لم نعلم فيها نصّاً على الخصوص.

قال المحقّق في المعتبر: و لعلّه لشرف تلك الليلة، فاقترانها بالطهر حسن. «7»

و يظهر من المصنّف في النهاية «8» أنّ به روايةً.

(و) ليلة (سبع عشرة، و) ليلة (تسع عشرة، و) ليلة (إحدى و عشرين، و) ليلة‌

______________________________
(1) سنن أبي داود 1: 97/ 1354؛ سنن الترمذي 2: 369/ 497؛ سنن النسائي 3: 94؛ سنن ابن ماجة 1: 347/ 1091؛ سنن البيهقي 1: 441- 442/ 1410؛ مسند أحمد 5: 644- 645/ 19661 و 19664.

(2) التهذيب 1: 112/ 295؛ الاستبصار 1: 102/ 333.

(3) كلمة «المسجد» لم ترد في «ق، م» و العلل و التهذيب.

(4) الفقيه 1: 62/ 230؛ علل الشرائع 1: 331/ 3، الباب 203؛ التهذيب 1: 366/ 1112.

(5) انظر: الكافي 3: 43/ 7.

(6) الكافي 3: 40/ 2؛ التهذيب 1/ 104/ 270.

(7) المعتبر 1: 335.

(8) نهاية الإحكام 1: 177.

60
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

و منه المستحب ؛ ج‌1، ص : 59

(ثلاث و عشرين) من شهر رمضان، و هو إجماع.

و رواه محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما السّلام، قال‌

الغسل في سبعة عشر موطناً: ليلة سبع عشرة، و هي ليلة التقى الجمعان، و تسع عشرة فيها يكتب وفد السنة، و ليلة إحدى و عشرين، و هي الليلة التي أُصيب فيها أوصياء الأنبياء، و فيها رُفع عيسى بن مريم عليه السّلام و قُبض موسى عليه السّلام و ثلاث و عشرين يرجى فيها ليلة القدر. «1»

(و ليلة الفطر) ذكره الشيخان. «2»

و رواه الحسن بن راشد، قال‌

إذا غربت الشمس ليلة العيد فاغتسل «3»

الحديث، و الحسن بن راشد ضعّفه النجاشي. «4»

و لم يذكر هذا الغسل جماعة، لكن أحاديث السنن يتسامح فيها.

(و يومي العيدين) و هو إجماعنا، و مذهب الجمهور.

و حكي عن أهل الظاهر وجوبه فيهما. «5»

و وقته مجموع النهار، عملًا بإطلاق اللفظ، لكنّ الأفضل فعله عند الصلاة؛ للتعليل المذكور في الجمعة. و لو فات، لم يقض؛ لعدم النصّ.

(و ليلة نصف رجب) و هو مشهور، لكن لم يعلم فيه خبر، و ربما كان ذلك لشرف الوقت، كما تقدّم.

(و) ليلة نصف من (شعبان) رواه أبو بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال‌

صوموا شعبان، و اغتسلوا ليلة النصف منه «6»

و في بعض رجالها ضعف.

و ذكر الشيخ في المصباح روايةً عن سالم مولى [أبي «7»] حذيفة عن رسول اللّهُ صلّى اللّه عليه و آله قال‌

مَنْ تطهّر ليلة النصف من شعبان فأحسن الطهر

و ساق الحديث إلى قوله‌

قضى اللّه له ثلاث حوائج، ثمّ إن سأل أن يراني في ليلته رآني. «8»

______________________________
(1) التهذيب 1: 114/ 302.

(2) المقنعة: 51؛ المبسوط 1: 40.

(3) الكافي 4: 167/ 3؛ التهذيب 1: 115/ 303.

(4) رجال النجاشي: 38/ 76.

(5) كما في المعتبر 1: 356.

(6) التهذيب 1: 117/ 308.

(7) ما بين المعقوفين من المصدر.

(8) مصباح المتهجّد: 838- 839.

61
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

و منه المستحب ؛ ج‌1، ص : 59

و هذه الرواية أيضاً ضعيفة، و المعوّل على الاستحباب اتّباعاً.

(و يوم المبعث) و هو السابع و العشرون من رجب، ذكره الشيخ في الجُمل و المصباح، «1» و لم يثبت فيه خبر، و الكلام فيه كنصف رجب.

(و) يوم (الغدير) و هو إجماع منّا.

و رواه علي بن الحسين العبدي، قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول‌

مَنْ صلّى فيه ركعتين يغتسل عند زوال الشمس من قبل أن تزول بمقدار نصف ساعة

إلى قوله‌

ما سأل اللّه حاجةً من حوائج الدنيا و الآخرة إلا قُضيت له كائناً ما كانت. «2»

(و) يوم (المباهلة) و هو الرابع و العشرون من ذي الحجّة على المشهور.

و قيل: الخامس و العشرون، و اختاره المحقّق. «3»

و روى سماعة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال‌

غسل المباهلة واجب «4»

و المراد تأكيد الاستحباب؛ للإجماع على عدم وجوبه.

(و) يوم (عرفة) عند الزوال.

(و غسل الإحرام) على الأصحّ.

و أوجبه ابن أبي عقيل. «5» و نقله المرتضى عن كثير منّا. «6»

و الأولى حمل لفظ «الفرض» في الحديث «7» به على تأكيد الاستحباب، أو أنّ ثوابه ثواب الفرض، كما ذكره الشيخ رحمه اللّه في التهذيب «8»؛ جمعاً بين الأخبار، مع أنّ في الرواية ضعفاً.

(و) غسل (الطواف، و) غسل (زيارة النبي و الأئمّة عليهم السّلام) للرواية «9» في ذلك كلّه.

(و) غسل (قضاء) صلاة (الكسوف) العارض للشمس و القمر (للتارك عمداً مع

______________________________
(1) الجُمل و العقود (ضمن الرسائل العشر): 167؛ مصباح المتهجّد: 12.

(2) التهذيب 3: 143- 144/ 317.

(3) المعتبر 1: 357.

(4) الفقيه 1: 45/ 176؛ التهذيب 1: 104/ 207.

(5) حكاه عنه العلّامة الحلّي في مختلف الشيعة 1: 152، المسألة 102.

(6) مسائل الناصريّات: 147، المسألة 44.

(7) التهذيب 1: 271105؛ الاستبصار 1: 98/ 316.

(8) التهذيب 1: 105 ذيل الحديث 271؛ و كذا في الاستبصار 1: 98 ذيل الحديث 316.

(9) التهذيب 1: 114/ 302.

62
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

و منه المستحب ؛ ج‌1، ص : 59

استيعاب الاحتراق) للقرص كلّه؛ للخبر. «1»

و اقتصر المفيد و المرتضى على تركها متعمّداً. «2»

و أوجبه سلّار. «3»

و استقرب المصنّف رحمه اللّه استحبابه لجاهل وجوب الصلاة أيضاً. «4»

(و) غسل (المولود) حين ولادته، لأنّه خرج من محلّ الخبث، و للخبر. «5»

و أوجبه ابن حمزة «6» محتجّاً برواية «7» ضعيفة.

(و) غسل (السعي إلى رؤية المصلوب) مع الرؤية (بعد ثلاثة) من صلبه.

و قيل: من موته. «8» و لا شاهد له.

و لا فرق بين مصلوب الشرع و غيره، عملًا بالإطلاق.

و ربما قيل باستحباب الغسل برؤية مصلوب غير الشرع من أوّل يوم؛ لمساواته الأوّل بعدها في تحريم وضعه على الخشبة.

و كذا لا فرق بين المصلوب على الهيئة المعتبرة شرعاً و غيره.

و لو قُتل بغير الصلب، لم يستحبّ الغسل؛ للأصل.

و أوّل وقته الرؤية.

و نُقل عن أبي الصلاح القول بوجوبه. «9»

(و للتوبة) من فسق أو كفر و إن كان ارتداداً.

و وقته بعد التوبة و الإسلام؛ لتضيّقهما.

و تقييدهم بالفسق يقتضي عدم الاستحباب للتوبة من صغيرةٍ لا توجبه.

و يمكن دخوله في العموم و التعليل بالتفاؤل بغسل الذنب و الخروج من دنسه.

______________________________
(1) انظر: التهذيب 1: 117- 118/ 309.

(2) المقنعة: 51؛ و حكاه عنه و عن السيّد المرتضى المحقّق في المعتبر 1: 358.

(3) انظر: المراسم: 52.

(4) نهاية الإحكام 1: 178.

(5) الكافي 3: 40/ 2؛ الفقيه 1: 45/ 176؛ التهذيب 1: 104/ 270.

(6) الوسيلة: 54.

(7) نفس المصادر في الهامش (5).

(8) نقله العاملي في مفتاح الكرامة 1: 18 عن بعض الناس في حاشية البيان.

(9) الكافي في الفقه: 133- 135.

63
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

و منه المستحب ؛ ج‌1، ص : 59

(و) غسل (صلاة الحاجة، «1» و) صلاة (الاستخارة) للخبر. و ضعفه معتضد بعمل الأصحاب.

(و) غسل (دخول الحرم و المسجد الحرام و مكة و الكعبة و المدينة و مسجد النبي صلى الله عليه و آله صلّى اللّه عليه و آله) للنصّ «2» في ذلك كلّه.

(و لا تتداخل) هذه الأغسال عند اجتماع أسبابها؛ لأنّ كلّ واحد منها سبب مستقلّ في استحباب الغسل، و الأصل عدم تداخلها. و إن تداخلت في بعض الصور، فعلى خلاف أصلها، لأمرٍ عرضيّ من نصّ أو غيره. و لاعتبار نيّة السبب و خصوصاً مع انضمام واجبٍ إليها، لتضادّ وجهَي الوجوب و الندب، فإنّه إمّا أن ينوي الندب أو الوجوب أو هُما، و يلزم من الأوّل عدمُ ارتفاع الحدث؛ لعدم رفع هذه الأغسال المندوبة الحدثَ بل قد تُجامعه، كما يصحّ غسل الإحرام من الحائض. و من الثاني نيّةُ وجوب ما ليس بواجب. و من الثالث الجمعُ بين الضدّين، فإن اجتمعا، فظاهر بطلانه. و إن حصل أحدهما، فهو ترجيح بلا مرجّح.

و الحقّ: التداخل مطلقاً و خصوصاً مع انضمام الواجب؛ لما رواه زرارة عن أحدهما عليهما السّلام‌

إذا اجتمعت للّه عليك حقوق أجزأك عنها غسل واحد

قال‌

و كذلك المرأة يجزئها غسل واحد لجنابتها و إحرامها و جمعتها و غسلها من حيضها و عيدها. «3»

و الأوّل شامل لاجتماع المسنونة خاصّة و الواجبة خاصّة و اجتماعهما معاً، و الآخر صريح في الاجتزاء بغسلٍ واحد مع انضمام الواجب لكن مع اجتماع الأسباب المندوبة.

و الأولى اشتراط نيّة الجميع؛ لأنّ نيّة السبب في المندوب مطلوبة، إذ لإيراد به رفع الحدث، بخلاف الواجبة.

و لو نوى البعض، فالوجه: اختصاصه بما نواه.

و مع انضمام الواجب يكفي أحد الأمرين: نيّة الواجب أو نيّة الجميع، صرّح به‌

______________________________
(1) الكافي 3: 476/ 1، و 477/ 3؛ الفقيه 1: 353/ 1551؛ التهذيب 1: 116/ 305، 117/ 306.

(2) الكافي 3: 40/ 1 و 2؛ الفقيه 1: 44/ 172، و 45/ 176؛ الخصال 2: 498- 499/ 5، و 603/ 9؛ عيون اخبار الرضا عليه السّلام 2: 123؛ التهذيب 1: 104/ 270، و 105/ 272، و 110- 111/ 290، و 114/ 302.

(3) التهذيب 1: 107/ 279؛ و في الكافي 3: 41 (باب ما يجزئ الغسل منه إذا أجمع) الحديث 1 مضمرا.

64
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

و أما التيمم ؛ ج‌1، ص : 65

جماعة. «1» و لا يخلو من إشكال؛ لتضادّ الوجه، و اعتبار نيّة السبب.

و يمكن سقوط اعتبار السبب هنا و دخوله تحت الوجوب، كما في الأذكار المندوبة خلال الصلاة الواجبة، و الصلاة على جنازتي مَنْ زاد عن الستّ و نقص عنها، مع أنّ بعض «2» مشايخنا المعاصرين مع حكمه بالتداخل مطلقاً أسقط اعتبار السبب، عملًا بظاهر الرواية. قال: و لأنّه حكم شرعيّ، فلا يتوقّف على اختيار المكلّف، فيكون معناه سقوط الاستحباب و زيادة ثواب هذا الغسل على غيره. و هو قريب.

[و أما التيمّم]

(و التيمّم يجب) بأصل الشرع (للصلاة و الطواف الواجبين) بل الصواب أنّه يجب لما تجب له الطهارتان (و) يزيد عليهما (لخروج الجنب من المسجدين) ليدخل فيه التيمّم لمسّ كتابة القرآن إن وجب، و للصوم إن قلنا بوجوب التيمّم مع تعذّر الغسل لئلا يدخل في قوله‌

و المندوب ما عداه.

و شمل قوله: «لخروج الجنب» مَنْ أجنب في المسجد باحتلام كما ورد به النصّ «3» و بغيره، و مَنْ دخل مجنباً؛ لاشتراك الجميع في العلّة، و هو قطع شي‌ء من المسجدين جنباً، فإنّه محرّم بدون الطهارة مع الإمكان.

و إطلاق الحكم بالتيمّم مبنيّ على الغالب من عدم وجود ماءٍ في المسجدين يصلح للغسل من غير تلويث المسجد بالنجاسة خصوصاً في مورد النصّ، و هو الاحتلام فيهما، فإنّه يستلزم النجاسة، أو على الغالب من نقصان زمانه عن «4» زمان الغسل.

و لو فرض تساوي زمانيهما أو نقصان زمان الغسل و أمكن الغسل في المسجد، وجب الغسل. و إطلاق الخبر بالتيمّم مقيّد بعدم ذلك، جمعاً بينه و بين ما دلّ على اشتراط عدم الماء في جواز التيمّم، مع احتمال التيمّم مطلقاً؛ لظاهر النصّ في تخصيص التيمّم بالذكر مع حرمة الكون في المسجد.

و يؤيّده ما رُوي‌

أنّ الحائض إذا أصابها الحيض تفعل ذلك. «5»

و هو دليل على عدم‌

______________________________
(1) منهم: الشيخ الطوسي في المبسوط 1: 40؛ و الخلاف 1: 221، المسألة 189.

(2) هو السيّد حسن بن السيد جعفر الأعرجي رحمه الله، كما في هامش «م». و انظر: الدرّ المنثور 2: 159.

(3) الكافي 3: 73/ 14؛ التهذيب 1: 407/ 1280.

(4) في «ق، م» و الطبعة الحجرية: «على» بدل «عن» و الصحيح ما أثبتناه.

(5) الكافي 3: 73/ 14.

65
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

و أما التيمم ؛ ج‌1، ص : 65

اعتبار الطهر في هذا التيمّم.

و في المعتبر نفى الوجوب عن الحائض و إن استحبّ؛ لأنّه لا سبيل لها إلى الطهارة، بخلاف الجنب. «1» و ردّه الشهيد «2» رحمه اللّه بأنّه اجتهاد في مقابلة النصّ، ثمّ عارضه باعترافه بالاستحباب.

و يشكل بأنّ المحقّق «3» طعن فيه في الرواية بالقطع، «4» فلا حجّة فيها، فيرجع إلى الاجتهاد. و يصحّ استناد الاستحباب إلى الرواية؛ للتسامح في دلائل السنن.

و يمكن كون التيمّم مبيحاً لهذا الجواز و إن كان الحدث باقياً.

و الظاهر إلحاق النفساء بالحائض هنا؛ لأنّها حائض في المعنى، دون المستحاضة المخاطَبة بالغسل؛ لعدم النصّ.

و إنّما قيّدنا جواز الغسل في المسجد مع إمكانه بمساواة زمانه لزمان التيمّم أو قصوره عنه مع أنّ الدليل يقتضي تقديمه مطلقاً مع إمكانه؛ لعدم العلم بالقائل بتقديمه مطلقاً، و إلا كان القول به متوجّهاً.

بقي هنا بحث، و هو: أنّ هذا التيمّم للخروج من المسجدين هل يُبيح الصلاة و نحوها؟ قيل «5» لا؛ لوجوب الخروج عقيبه بغير فصلٍ متحرّياً أقرب الطرق، فعلى هذا لا ينوي فيه البدليّة.

و التحقيق أن يقال: إن كان الغسل ممكناً في المسجد و لم نقل بتقديمه على التيمّم، فلا إشكال في عدم إباحة هذا التيمّم؛ للإجماع على عدم إباحة الصلاة بالتيمّم مع إمكان الغسل.

و إن لم يكن في المسجد، فلا يخلو إمّا أن يكون الغسل ممكناً خارجه، «6» كما لو كان الماء موجوداً و لا مانع لهذا المتيمّم من الغسل من مرضٍ و لا غيره، و هنا يتوجّه أيضاً عدم‌

______________________________
(1) المعتبر 1: 222- 223.

(2) الذكرى 1: 207.

(3) المعتبر 1: 222.

(4) أي: انّها مقطوعة.

(5) القائل هو المحقّق الكركي في حاشية الشرائع، الورقة 4.

(6) في الطبعة الحجريّة: «خارجا».

66
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

و أما التيمم ؛ ج‌1، ص : 65

إباحته للصلاة «1»؛ لأنّ وقوعها في المسجد ممتنع، لوجوب المبادرة إلى الخروج، و بعد الخروج يتمكّن من الغسل، فيفسد التيمّم، و إنّما شُرّع التيمّم هنا مع إمكان الغسل خارجاً، لتحريم المرور في المسجدين من دون الغسل أو التيمّم، فإذا تعذّر الغسل داخله، قام التيمّم مقامه في إباحة قطع مسافته.

و إن كان الغسل غير مقدور خارج المسجد، فالوجه: كون هذا التيمّم مبيحاً؛ لعدم المانع، فإنّ التيمّم مع تعذّر الطهارة المائيّة يبيح ما تبيحه، إلا على قول ولد المصنّف رحمه الله من عدم إباحة دخول المساجد مطلقاً بالتيمّم. «2»

و سيأتي بطلانه.

و يمنع حينئذٍ وجوب المبادرة إلى الخروج و تحرّي أقرب الطرق؛ لأنّ ذلك مشروط بإمكان الغسل خارج المسجد، جمعاً بين قولهم هنا كذلك و قولهم في باب التيمّم: إنّه يبيح ما تبيحه المائيّة، و من جملة ما تبيحه المائيّة اللبث في المسجدين و غيرهما، فيصحّ اللبث و الصلاة.

و لا يلحق باقي المساجد بالمسجدين في شرعيّة التيمّم؛ لعدم النصّ.

و قرّب في الذكرى استحبابه لها، للقرب إلى الطهارة، و عدم زيادة الكون فيها على الكون له في المسجدين. «3»

و الفرق واضح بعد ورود النصّ، و لأنّ قطع المسجدين مشروط بالغسل مع إمكانه، بخلاف غيرهما من المساجد. و استحباب قطعها بالغسل مع عدم اللبث لا يقتضي جوازه هنا، مع استلزامه اللبث المحرّم، لأنّ ذلك يحصل مع الغسل خارجها، فلا يعارض ما دلّ على تحريم اللبث فيها للجنب. و لو سلّم فتركه أولى؛ لأنّ ترك ما هو عرضة للتحريم أولى من الطمع في تحصيل المندوب.

(و) التيمّم (المندوب) بأصل الشرع (ما عداه) فيستحبّ بدلًا من الوضوء المستحبّ في كلّ موضع يكون الوضوء رافعاً، لتحقّق البدليّة.

______________________________
(1) في «ق، م»: «الصلاة».

(2) قال فخر المحقّقين في إيضاح الفوائد 1: 66: لا يبيح- أي التيمّم- للجنب الدخول في المسجدين و لا الاستقرار في باقي المساجد، إلى آخره.

(3) الذكرى 1: 207.

67
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

و أما التيمم ؛ ج‌1، ص : 65

و هل يستحبّ بدلًا من غير الرافع، كنوم الجنب و ذِكْرِ الحائض؟ يحتمله؛ لحلوله محلّ الرافع، فغيره أولى. و العدم؛ لعدم النصّ.

و يستحبّ أيضاً بدلًا من غسل الإحرام مع تعذّره.

و هل يستحبّ بدلًا من غيره؟ وجهان أرجحهما: العدم؛ لعدم النصّ.

و على القول برفع الغسل المندوب الحدث كما هب إليه المرتضى «1»- لا إشكال في الاستحباب، و يكون مبيحاً للصلاة.

و يستحبّ أيضاً للنوم مع وجود الماء. و لصلاة الجنازة على المشهور. و ادّعى عليه الشيخ «2» الإجماعَ. و حجّيّة المنقول منه بخبر الواحد كما قرّر في الأُصول يدفع منع المحقّق له في المعتبر «3» بعدم معرفته.

و الظاهر في نيّتهما البدليّة، كغيرهما؛ لعدم المانع.

و رجّح بعضُ «4» المحقّقين عدمَها فيهما.

فهذه ستّة أقسام من الاثني عشر واجبة و مندوبة بأصل الشرع.

ثمّ أشار إلى الثلاثة الواجبة بسببٍ من المكلّف بقوله (و قد تجب الثلاثة بالنذر و شبهه) كالعهد و اليمين.

و يشترط في انعقاد نذر كلّ منها أن يكون راجحاً لولا النذر، سواء كان واجباً أم مندوباً على الأصحّ في الأوّل، فالوضوء ينعقد نذره دائماً؛ لرجحان فعله دائماً.

و هل ينصرف النذر إلى الرافع للحدث أو المبيح للصلاة أم الأعمّ؟ وجهان، و الثاني لا يخلو من قوّة.

ثمّ إن أطلق، كان وقته العمر، و يتضيّق عند ظنّ الوفاة، كنظائره من أفراد النذر المطلق. و إن قيّده بوقتٍ و اتّفق فيه محدثاً، فالأمر واضح، و إلا بني على الوجهين. فإن لم نعتبر أحد الأمرين، وجب التجديد. و إن اعتبرناه، لم يجب الوضوء؛ لامتناع تحصيل‌

______________________________
(1) حكاه عنه المحقّق الحلّي في المعتبر 1: 196؛ و العلّامة الحلّي في مختلف الشيعة 1: 178، المسألة 124؛ و الشهيد في الدروس 1: 87؛ و الذكرى 1: 202.

(2) الخلاف 1: 160- 161، المسألة 112.

(3) المعتبر 1: 405.

(4) لم نتحقّقه.

68
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

و أما التيمم ؛ ج‌1، ص : 65

الحاصل، و لا الحدث؛ لعدم وجوب تحصيل شرط الواجب المشروط.

و يجي‌ء على القول برفع المجدّد احتمال وجوبه؛ لإمكان أن يظهر بعد ذلك الخلل في الأوّل، بل يحتمل وجوبه و إن لم يظهر.

و يضعّفان معاً بأنّه الآن غير رافع؛ لاستحالة تحصيل الحاصل، فلا يخاطب به.

و لو اتّفقت المرأة حائضاً في الوقت المعيّن و حضر وقت صلاة، بُني على الوجهين أيضاً.

و أمّا الغسل فإن قيّده في نذره بأحد أسبابه الراجحة، انعقد. و إن أطلق، أوقعه على أحد تلك الأسباب. و في إجزاء الواجب حينئذٍ منه و من الوضوء وجه.

ثمّ إن عيّن زماناً و لم يوجد السبب فيه، بطل النذر.

و أمّا التيمّم فلمّا كانت مشروعيّته مشروطةً بعدم الماء أو عدم التمكّن من استعماله اشترط ذلك في انعقاد نذره، فيتوقّع مع الإطلاق، و يبطل مع التعيين حيث لا يتعذّر استعمال المائيّة و لا يجب عليه تحصيل سببه بالحدث، كما مرّ.

و يشترط في صحّة نذره إطلاقه أو تعليقه بأحد أسبابه الراجحة، ففي الواجبِ الحكمُ ظاهر، و في بدل المندوب من الوضوء يشترط كونه رافعاً، كما تقدّم، و من الغسل يختصّ بغسل الإحرام.

هذا كلّه إذا نذر كلّ واحد من الثلاثة على حدته أو نذرها بلفظ يشملها، كأن نذر الطهارة ملاحظاً إطلاقها على الأنواع الثلاثة، أمّا لو نذر الطهارة مطلقاً، ففي تخييره بين الثلاثة أو حمله على المائيّة خاصّة أو على الترابيّة أوجُه مبنيّة على ما سلف من الكلام على أنّ مقوليّة الطهارة على الثلاثة هل هو بطريق الاشتراك أو التواطؤ أو التشكيك أو الحقيقة و المجاز؟

فعلى الأوّلين يبرّ بكلّ واحد من الثلاثة، لكن يشترط في التيمّم تعذّر الآخَرَين. و على الثالث يحتمل قويّاً ذلك أيضاً. و يحتمل انصرافه إلى الفرد الأقوى، و هو المائيّة مخيّراً بين فرديها؛ لأنّه المتيقّن، و إلى الأضعف و هو التيمّم لأصالة البراءة. و هو أضعفها. و على الرابع ينصرف إلى المائيّة خاصّة قطعاً، و قد سبق تحقيقه.

69
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

النظر الثاني: في أسباب الوضوء و كيفيته ؛ ج‌1، ص : 71

[النظر الثاني: في أسباب الوضوء و كيفيته]

(النظر الثاني: في أسباب الوضوء) بضمّ الواو اسم للفعل مأخوذ من الوضاءة بالمدّ. و هي: النظافة و النظارة، و هو اسم مصدر؛ لأنّ قياس المصدر: التوضّؤ، كالتعلّم و التكلّم، و تقول: «توضّأت» بالهمزة. و يجوز على قلّة «توضّيت» بالياء. و كذا «قرأت» و نحوهما. و الوضوء بفتح الواو اسم للماء الذي يتوضّأ به.

و قيل: هُما جميعاً بالفتح. «1» و قيل بالضمّ. «2»

و إطلاق الأسباب على الأحداث المعهودة باعتبار استلزامها الطهارة إمّا وجوباً أو ندباً، فإنّ السبب عند الأُصوليّين هو كلّ وصفٍ ظاهرٍ منضبطٍ دلّ الدليل على كونه معرّفاً لإثبات حكمٍ شرعيّ لذاته، و هو هنا عبارة عن الوصف الدالّ على المخاطبة بالطهارة وجوباً أو ندباً.

و لا يرد حدث الصبي و المجنون و الحائض، فإنّ حدثهم بحسب ذاته دالّ عليها مستلزم لها، و إنّما تخلّف الحكم لعارضٍ، و هو فَقدُ الشرط في الأوّلين و وجود المانع في الأخير، و تخلّف الحكم لفقد الشرط أو وجود المانع لا يقدح في السببيّة، كما قرّر في محلّه. و عدم تكليفهما لا يدلّ على عدم ترتّب حكم السببيّة و لو بالقوّة، و لهذا تجب عليهما الطهارة عند الكمال بالسبب الحاصل قبله، كما صرّح به الشهيد «3» رحمه اللّه و غيره.

و يعلم من ذلك أنّ التعبير عن الأحداث بالأسباب أولى من التعبير بالنواقض و الموجبات،

______________________________
(1) انظر: الصحاح 1: 81، «و ض أ».

(2) انظر: الصحاح 1: 81، «و ض أ».

(3) انظر: الحاشية النجّاريّة، الورقة 3.

71
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في مبطلات الوضوء ؛ ج‌1، ص : 72

كما فَعَله غيره؛ لأنّ تسميتها نواقض باعتبار تعقّبها لطهارةٍ سابقة، و ظاهر أنّ الحدث أعمّ من ذلك. و تسميتها موجباتٍ باعتبار وجودها عند تكليف المكلّف بما يشترط فيه الطهارة، أو عند وجود السبب فيما وجب منها لنفسه، كغسل الجنابة عند المصنّف، «1» و غسل الأموات، و ظاهر أيضاً أنّ الأحداث أعمّ من ذلك، فالأسباب أعمّ منهما مطلقاً.

أمّا من النواقض: فلاجتماعهما في حدثٍ تعقّب طهارةً و تخلّف الأسباب فيما عدا ذلك، و لا يتصوّر ناقض غير سبب بعد ما تلوناه.

و أمّا من الموجبات: فلأنّه يصدق على الأحداث السببيّة عند وجودها حال براءة ذمّة المكلّف من مشروطٍ بالطهارة، و لا تصدق الموجبيّة حينئذٍ.

و أمّا النواقض: فبينها و بين الموجبات عموم من وجه؛ لصدق الناقض بدون الموجب في حدثٍ تعقّب طهارةً صحيحة مع خلوّ ذمّة المكلّف من مشروطٍ بها، و يصدق الموجب بدون الناقض في الحدث الحاصل عقيب التكليف بصلاةٍ واجبة من غير سبق طهارة.

و لا يرد أنّ الوجوب حاصل من قبلُ حيث لم يكن متطهّراً، فيلزم تحصيل الحاصل أو اجتماع علّتين أو عِلَل على معلولٍ شخصيّ.

لأنّا نقول: إنّ كلّ واحد من الحدث السابق و المفروض لو انفرد كان موجباً، و ليس للاجتماع مدخل في نفي هذا الحكم، و الأحداث كلّها معرّفات شرعيّة للأحكام لا علل عقليّة.

و يصدقان معاً في الحدث المتعقّب لطهارةٍ شرعيّة مع اشتغال ذمّة المكلّف بمشروطٍ بها.

(و) نبحث في هذا النظر أيضاً عن (كيفيّته) أي الوضوء. و إطلاق الكيفيّة على الذات من حيث إنّه يُسأل عنها بكيف هي؟.

[القول في مبطلات الوضوء]

(إنّما يجب الوضوء) خاصّةً (من) خروج (البول و الغائط و الريح من) الموضع (المعتاد) لخروج هذه الثلاثة منه، و هو المخرج الطبيعيّ. و إطلاق المعتاد عليه باعتبار التعريف، لا لملاحظة اشتراط اعتياد الخروج منه، فيجب الوضوء بالخارج منه بأوّل مرّة بمعنى كون الخروج سبباً فيه و إن تخلّف تأثيره لفقد شرطٍ، كالصغر.

و لو خرجت الثلاثة من غير الموضع الطبيعيّ، أوجبت إن اعتيد، و إلا فلا و يمكن‌

______________________________
(1) مختلف الشيعة 1: 159، المسألة 107.

72
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في مبطلات الوضوء ؛ ج‌1، ص : 72

دخوله في العبارة أيضاً سواء كان فوق المعدة أم تحتها.

هذا مع عدم انسداد الطبيعيّ، و معه لا يعتبر في غيره الاعتياد، و يصير معتاداً بالخروج منه مرّتين متواليتين عادةً.

و يعلم من الحصر المستفاد ب‍ «إنّما» عدم الوجوب بالخارج غير الثلاثة من حبّ و دود و غيرهما مع عدم مصاحبته لشي‌ء من الثلاثة، و معها ينقض لا باعتباره، بل باعتبار ما خرج معه منها.

و يستفاد أيضاً عدم الوجوب من الريح الخارج من القُبُل، سواء الرجل و المرأة على الأصحّ.

و المتعارف من الخروج ما كان معه انفصال، فلو خرجت المقعدةُ ملطّخةً بالغائط ثمّ عادت و لمّا ينفصل، لم يجب الوضوء على الأصحّ.

(و) من (النوم الغالب) غلبة مستهلكة معطّلة للحاسّتين لا مطلق الغلبة (على الحاسّتين) و هُما: السمع و البصر.

و إنّما خصّهما بالذكر من بين الحواسّ مع اشتراط زوال الجميع قطعاً؛ لأنّهما أقوى الحواسّ، فغلبته عليهما تقتضي غلبته على باقي الحواسّ من غير عكسٍ.

و المعتبر في غلبته عليهما التحقيق على تقدير سلامتهما من الآفة، أو التقدير مع عدمها.

(و) يجب الوضوء ممّا يغلب على العقل من (الجنون و الإغماء و السكر).

و استدلّ على ذلك بقول الباقر و الصادق عليه السّلام» حين عدّدا موجبات الوضوء‌

و النوم حتى يذهب العقل «1»

فيعلم منه حكم مزيل العقل.

و بقول الصادق «2» عليه السّلام‌

إذا خفي عليه الصوت وجب الوضوء. «3»

و في الاستدلال بهما بحث.

(و) من (الاستحاضة القليلة) خلافاً لابن أبي عقيل، فإنّه لم يوجبه بها. «4»

______________________________
(1) الكافي 3: 36/ 6؛ الفقيه 1: 37/ 137؛ التهذيب 1: 8/ 12.

(2) كذا في «ق، م» و الطبعة الحجريّة و الذكرى 1: 210؛ و في الكافي و التهذيب عن أبي الحسن عليه السّلام.

(3) الكافي 3: 37/ 14؛ التهذيب 1: 9/ 14.

(4) حكاه عنه المحقّق في المعتبر 1: 242.

73
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في أحكام التخلي ؛ ج‌1، ص : 74

 

و إنّما خصّ القليلة بالذكر؛ لأنّ المتوسّطة و الكثيرة توجبان الغسل في الجملة و إن أوجبتا الوضوء خاصّةً على بعض الوجوه.

و لا «1» يرد ما قيل: إنّه إن أراد ما يوجب الوضوء خاصّةً، فكان عليه أن يذكر مع الاستحاضة القليلة قسمَي المتوسّطة، أعني ما عدا الصبح. و إن أراد موجب الوضوء في الجملة، فكان عليه أن يذكر الموجبات الأحد عشر. «2»

لأنّا قد بيّنّا أنّ المتوسّطة من حيث هي موجبة للغسل و إن كانت بالنظر إلى بعض أحوالها موجبةً للوضوء خاصّةً.

و أيضاً فما ذُكر لو تمّ، لورد في الكثيرة أيضاً؛ لإيجابها الوضوء خاصّةً على بعض الوجوه، و هو لصلاة العصر و صلاة العشاء، فلا وجه للنقض بالمتوسّطة خاصّة، و الجواب عنهما واحد.

ثمّ أكّد الحصر ب‍ «إنّما» في إيجاب الوضوء خاصّةً بهذه الأشياء بقوله (لا غير) أي: لا غير هذه الأشياء الثمانية موجب للوضوء خاصّةً.

و يحتمل ضعيفاً أن يتعلّق بالاستحاضة القليلة، أي: لا غيرها من حالتيها المتوسّطة و الكثيرة.

و هذا المعنى يحصل على التقدير الأوّل مع إفادة ما هو أعمّ منه، فكان الأوّل أولى.

[القول في أحكام التخلي]

و لمّا كان من ضرورات بعض هذه الأسباب موضع خاصّ و تلحقه أحكام خاصّة انجرّ البحث منه إليه هنا، فقال‌

[يجب على المتخلّي أمور]

(و يجب على المتخلّي) للبول أو الغائط (ستر العورة) عن ناظرٍ بشريّ محترم؛ لقول النبي صلى الله عليه و آله صلّى اللّه عليه و آله‌

احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك. «3»

و خرج بالمحترم الطفلُ غير المميّز و مَنْ ذُكر في الرواية و ما ساواه، كالزوج.

و المراد بملك اليمين الأُنثى غير المزوّجة، و المعتدّة، و أمة المرأة بالنظر إليها.

(و عدم استقبال القبلة) على حدّ ما يعتبر في الصلاة؛ لاتّحاد المعنى و الدليل.

و معنى وجوب عدم الاستقبال إيجاد ضدّه، فإنّ الأعدام غير مقدورة و التكليف‌

______________________________
(1) في «ق، م»: «فلا» بدل «و لا».

(2) الحاشية النجارية، و الورقة 3 و 4.

(3) سنن ابن ماجة 1: 418/ 1920؛ سنن أبي داود 4: 40- 41/ 4017؛ سنن الترمذي 5: 110/ 2794؛ سنن البيهقي 1:

306- 307/ 960؛ المستدرك- للحاكم- 4: 180؛ مسند أحمد 5: 624/ 19530، و 625/ 19536.

 

74
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

يجب على المتخلي أمور ؛ ج‌1، ص : 74

مقدور، كما حقّق في الأُصولَين.

(و) عدم (استدبارها) بالمعنى المذكور في الاستقبال؛ لقوله عليه السلام صلّى اللّه عليه و آله‌

إذا دخلت المخرج فلا تستقبل القبلة و لا تستدبرها و لكن شرّقوا أو غرّبوا «1»

و النهي للتحريم، و الأمر للوجوب.

و هذا الحكم و الخبر مطلقان يتناولان الفعل (في الصحاري) بفتح الراء على الأفصح، جمع صحراء، كعذراء و عذارى. و ربما كُسرت في لغة قليلة. و هي البرّيّة، و المراد بها هنا ما خرج عن البنيان (و) في (البنيان) فيحرم فيهما؛ لعدم دليلٍ يقيّد المطلق.

و خالف ابنُ الجنيد فيهما معاً، و إنّما استحبّ ترك الاستقبال في الصحراء خاصّة، «2» و سِرُ في البنيان، و إنّما جعل تجنّبه أفضل. «3»

و اختلف النقل عن المفيد في ذلك، فنقل عنه المصنّف في المختلف كراهة الاستقبال و الاستدبار معاً في الصحاري و المواضع التي يتمكّن فيها من الانحراف عن القبلة، و عدمها في دارٍ قد بُني فيها المقعد على استقبال القبلة أو استدبارها. «4»

قال المصنّف بعد حكاية ذلك عنه: و هذا الكلام يُعطي الكراهة في الصحاري، و الإباحة في البنيان. «5»

قلت: و في إعطائه ذلك نظر واضح.

و نقل الشهيد رحمه اللّه في الذكرى عن المفيد الكراهة في الصحاري، دون البنيان، «6» و أطلق.

و يفهم من الدروس «7» أنّ المفيد إنّما خالف في التحريم في الأبنية خاصّةً. و الظاهر أنّه سهو إلا بتقدير حمله على أنّه عمل بالمفهوم، فمخالفته في الأبنية لا تدلّ على عدم مخالفته في الصحاري؛ فإنّ العمل بالمفهوم ضعيف، لكن لا يخفى أنّه خلاف الظاهر.

______________________________
(1) التهذيب 1: 25/ 64؛ الاستبصار 1: 47/ 130.

(2) حكاه عنه المحقّق الحلّي في المعتبر 1: 122؛ و العلّامة الحلّي في مختلف الشيعة 1: 99، المسألة 56.

(3) المراسم: 32.

(4) مختلف الشيعة 1: 99، المسألة 56؛ و انظر: المقنعة: 41.

(5) مختلف الشيعة 1: 99، المسألة 56.

(6) الذكرى 1: 163.

(7) الدروس 1: 88.

75
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

يجب على المتخلي أمور ؛ ج‌1، ص : 74

و نقل المحقّق في المعتبر عن سلار و المفيد الكراهةَ في البنيان، «1» و أطلق. و هو يقتضي الكراهة في الصحاري بطريق أولى «2» بل التحريم؛ للاتّفاق على أنّ حكم الصحاري أغلظ من البنيان، فحينئذٍ يوافق ما نقله عنه في الدروس.

و يؤيّد التحريم أنّ سلار مصرّح بعدم الترخّص في الصحاري؛ فإنّه قال بعد النهي عن الاستقبال و الاستدبار: هذا إذا كان في الصحاري و الفلوات، و قد رخص ذلك في الدُّور، و تجنّبه أفضل. «3»

تنبيه: قال المصنّف رحمه اللّه في المختلف بعد أن حكى كلام ابن الجنيد بمعنى ما حكيناه عنه: و هو موافق لكلام المفيد. «4» و أنت خبير باختلافهما من وجهين:

أحدهما: أنّ المفيد شرّك في الكراهة بين الصحاري و بين المواضع التي يتمكّن فيها من الانحراف عن القبلة، و المراد بها البنيان؛ لأنّها قسيمة للصحارى، فلا تكون قسماً منها. و ابن الجنيد خصّ الاستحباب بالصحراء.

و الثاني: أنّ المفيد رحمه اللّه عمّم الحكم بالكراهة فيما ذكر في الاستقبال و الاستدبار، و ابن الجنيد رحمه اللّه إنّما ذكر الاستقبال خاصّةً، كما حكاه المصنّف عنه. و هو لفظه في كتاب الأحمدي «5» مختصر التهذيب.

و إنّما أطنبنا القول في تحرير هذا الخلاف؛ لكثرة ما قد رأيت فيه من الاختلاف، و ما ذكره المصنّف في المختلف كلّه منقول بعباراتهم. و لا يرد احتمال اختلاف مواضع النقل مع بُعد إطلاق النقل عن أحد بقولٍ له في المسألة خلافه من غير بيان.

(و) يجب (غَسل موضع البول بالماء خاصّة) عند علمائنا أجمع؛ للأصل من بقاء حكم النجاسة الشرعيّة إلى أن يرد المزيل شرعاً.

و لقول الباقر عليه السّلام‌

و أمّا البول فلا بدّ من غسله. «6»

و إطلاق الوجوب هنا باعتبار توقّف الصلاة و نحوها على إزالة النجاسة، فيكون واجباً‌

______________________________
(1) المعتبر 1: 123.

(2) في «ق، م»: «الأولى».

(3) المراسم: 32.

(4) مختلف الشيعة 1: 99، المسألة 56.

(5) هذا الكتاب مفقود.

(6) التهذيب 1: 49- 50/ 144؛ الاستبصار 1: 55/ 160.

76
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

يجب على المتخلي أمور ؛ ج‌1، ص : 74

موسّعاً يتضيّق بتضيّق عبادة متوقّفة على ذلك. و إطلاق الوجوب قبل الوقت مجاز.

(و كذا) يجب الماء في غسل (مخرج الغائط) و هو لغةً: ما انخفض من الأرض. و سُمّي الحدث المعلوم غائطاً باسم ما كان يفعل فيه؛ لأنّ الرجل كان إذا أراد الحاجة قصد الغائط، و لذلك قال تعالى أَوْ جٰاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغٰائِطِ+ «1» (مع التعدّي) للمخرج، و هو حواشي الدُّبُر و إن لم يبلغ التعدّي إلى الأليين.

و هذا الحكم إجماعيّ من الكلّ.

و لقوله عليه السلام‌

يكفي أحدكم ثلاثة أحجار إذا لم يتجاوز محلّ العادة. «2»

و غاية الغسل فيهما (حتى تزول العين و الأثر) و هو الرسم الدالّ عليها.

قيل: و هو اللون؛ لأنّه عَرَض لا يقوم بنفسه، فلا بدّ له من محلّ جوهريّ يقوم به؛ إذ الانتقال على الأعراض محال، فوجود اللون دليل على وجود العين، فتجب إزالته، و لا يلزم مثل ذلك في الرائحة؛ لأنّها قد تحصل بتكيّف الهواء، فوجودها لا يستلزم وجود العين. «3»

و فيه نظر؛ لأنّ اللون معفوّ عنه في سائر النجاسات ففي الاستنجاء أولى. و لأنّه لا يلزم من عرضيّته و استحالة الانتقال عليها نجاسته؛ إذ لا تلازم «4» بين عدم قيامه بنفسه و قيامه بالنجاسة؛ لأنّ هنا قسماً ثالثاً، و هو: قيامه بمحلّ طاهر، و هو الجسم. و لانتقاضه بالرائحة؛ فإنّها من جملة الأعراض و لا تقوم بنفسها، و الهواء إنّما يتكيّف بوصف النجاسة، و الكلام فيهما واحد.

(و يتخيّر مع عدمه) أي التعدّي (بين ثلاثة أحجار طاهرة و شبهها) من كلّ جسمٍ طاهرٍ جافّ صلب غير صقيل و لا لزج و لا محترم. فخرج النجس ذاتاً و عرضاً؛ لأنّ النجاسة لا تُزال بالنجس، و حينئذٍ يتحتّم الماء؛ لأنّ الحجر رخصة و تخفيف فيما تعمّ به البلوى، فيقف على موردها، و هي نجاسة الغائط المختصّ بالمحلّ، فلا يلحق به غيره.

و احتمل المصنّف بقاءَ الرخصة؛ لأنّ النجس لا يتأثّر بالنجاسة، و التفصيل، فإن كانت‌

______________________________
(1) النساء (4): 3؛ المائدة (5): 6.

(2) لم نعثر عليه فيما بين أيدينا من المصادر.

(3) القائل هو السيوري في التنقيح الرائع 1: 72.

(4) في «ق، م»

لا ملازمة.

77
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

يجب على المتخلي أمور ؛ ج‌1، ص : 74

نجاسته بغير الغائط، تعيّن الماء، و إلا اكتفى بثلاثة غيره. «1»

و يدخل في إطلاق العبارة الحجرُ الثاني و الثالث على تقدير النقاء بدونهما، فيجوز استعمالهما مرّة أُخرى؛ لحصول الشرط. و قطع به المصنّف في غير «2» هذا الكتاب.

و خرج بالجافّ الرطبُ؛ لأنّ البلل الذي عليه ينجس بإصابة النجاسة له و نفوذ شي‌ء منه إلى محلّ النجو، فيحصل عليه نجاسة أجنبيّة، فيكون قد استعمل الحجر النجس، كذا قرّره المصنف في النهاية «3» و اختاره.

و ردّه الشهيد رحمه اللّه- بأنّ النجاسة العارضة للبلل من نجاسة المحلّ، فلا يؤثّر. و بأنّه كالماء لا ينجس حتى ينفصل. «4» و سيأتي جوابه.

و بالصلبِ الرخوُ، كالتراب و الفحم الرخو؛ لالتصاقه بالنجاسة، فلا يسقط الفرض به لكن يجزئ بعده الحجر ما لم ينقل النجاسة و ينشرها.

و لو اتّفق نقاء العين به هل يجزئ أم لا؟ قطع المصنّف في النهاية «5» بعدمه. و يحتمله؛ لحصول الفرض و إن ندر.

و كذا القول في الصقيل الذي يزلق عن النجاسة و اللزج.

و المحترم أقسام ما كُتب عليه شي‌ء من كلام اللّه تعالى، أو العلم، كالحديث و الفقه، و التربة المقدّسة الحسينيّة، و في هذه يحكم بكفر الفاعل بها مع علمه، فلا تتصوّر حينئذٍ الطهارة بها، و أمّا مع جهله فالظاهر أنّها مطهّرة، و قد صرّح به جماعة «6»؛ لعدم المنافاة بين التطهير و بينه، و دليل المانع لا يتناول الجاهل بأصل هذه الأشياء.

و من المحترم: المطعوم؛ لأنّ له حرمةً تمنع من الاستهانة به. و لأنّ طعام الجنّ منهيّ عنه، فطعام أهل الصلاح أولى، و منه العظم و الروث بإجماع علمائنا و أكثر مَنْ خالفنا؛ لقوله عليه السلام‌

لا تستنجوا بالعظم و لا بالروث فإنّه زاد إخوانكم من الجنّ. «7»

______________________________
(1) نهاية الإحكام 1: 88.

(2) نهاية الإحكام 1: 89.

(3) نهاية الإحكام 1: 88.

(4) الذكرى 1: 174.

(5) نهاية الإحكام 1: 88.

(6) حكاه العاملي في مفتاح الكرامة 1: 48 عن شرح الألفية؛ و انظر: رسائل المحقّق الكركي 3: 217.

(7) سنن الترمذي 1: 29/ 18؛ المعجم الكبير- للطبراني- 10: 77/ 10010؛ مسند أحمد 2: 7/ 4138.

78
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

يجب على المتخلي أمور ؛ ج‌1، ص : 74

و عن أبي عبد اللّه عليه السّلام‌

أنّهما طعام الجنّ، و ذلك ممّا اشترطوا على رسول اللّهُ صلّى اللّه عليه و آله. «1»

و لو استعمل هذه الأشياء، فَعَل حراماً، و طهر المحلّ على الأصحّ؛ لما تقدّم. و مَنَعه المحقّق في المعتبر، «2» و الشيخ في المبسوط «3» و ابن إدريس. «4»

و إنّما يكتفى بالثلاثة الأحجار و شبهها مع اتّصافها بكونها (مزيلةً للعين).

و لا يشترط هنا زوال الأثر، كالرائحة، بخلاف الرطوبة، قاله في الذكرى. «5» و هو يشعر بأنّ الرائحة من الأثر.

و يشكل بأنّ الرائحة لا يعتبر إزالتها بالماء مع اشتراط إزالة الأثر به، إلا أن يريد بذلك أنّه لا تجب إزالة الأثر بالأحجار، كما أنّه لا تجب إزالة الرائحة بها. و هو بعيد؛ لما عرفت من عدم اشتراط زوالها بما هو أقوى من الأحجار.

و قوله (و بين الماء) تتمّة الفردين المخيّر بينهما مع عدم التعدّي، لكن هذا الفرد أفضل من الآخر؛ لأنّه أقوى المطهّرين؛ لإزالته العينَ و الأثرَ.

و لمّا نزل قوله تعالى فِيهِ رِجٰالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا «6» الآية، قال رسول اللّهُ‌

يا معشر الأنصار قد أحسن اللّه عليكم الثناء، فماذا تصنعون

قالوا: نستنجي بالماء، «7» و روى أنّهم قالوا: نتبع الغائط بالأحجار ثمّ نتبع الأحجار بالماء. «8» فيكون حينئذٍ دليلًا على استحباب الجمع، كما يأتي.

(و لو لم ينق) المحلّ من عين النجاسة (بالثلاثة، وجب الزائد) عليها، و لا حدّ له، بل ما يحصل به النقاء، لكن يستحبّ أن لا يقطع إلا على وترٍ؛ للخبر. «9»

و لا فرق في وجوب الزائد بين تحقّق عدم البقاء و عدم تحقّق النقاء، فيجب مع الشكّ فيه‌

______________________________
(1) التهذيب 1: 354/ 1053.

(2) المعتبر 1: 133.

(3) المبسوط 1: 17.

(4) السرائر 1: 96.

(5) الذكرى 1: 170.

(6) التوبة (9): 108.

(7) التبيان 5: 300، مجمع البيان 5- 6: 73.

(8) الكشّاف 2: 311.

(9) التهذيب 1: 45/ 126؛ الاستبصار 1: 52/ 148؛ سنن ابن ماجة 1: 121/ 337؛ سنن أبي داود 1: 9/ 35؛ سنن البيهقي 1: 167- 168/ 504- 507.

79
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

يجب على المتخلي أمور ؛ ج‌1، ص : 74

حتى يتيقّن.

(و لو نقي) المحلّ منها (بالأقلّ) من الثلاثة (وجب الإكمال) لها؛ لقوله عليه السلام صلّى اللّه عليه و آله‌

إذا جلست لحاجة فامسح ثلاث مسحات. «1»

و قول سلمان رضي اللّه عنه: نهانا رسول اللّهُ صلّى اللّه عليه و آله أن نستنجي بأقلّ من ثلاثة أحجار. «2»

و قول أبي جعفر عليه السّلام‌

جرت السّنة في أثر الغائط بثلاثة أحجار. «3»

و اختار المصنّف في المختلف الاكتفاء بالواحد لو نقي المحلّ به، «4» تبعاً للمفيد «5» و ظاهر الشيخ «6» رحمهما اللّه.

(و يكفي ذو الجهات الثلاث) على المشهور؛ لأنّ المراد ثلاث مسحات بحجرٍ، كما لو قيل: اضربه عشرة أسواط، فإنّ المراد عشر ضربات و لو بسوطٍ. و لأنّ المقصود إزالة النجاسة و قد حصل. و لأنّها لو انفصلت لأجزأت فكذا مع الاتّصال، و أيّ عاقلٍ يفرق بين الحجر متّصلًا بغيره و منفصلًا. و لأنّ ثلاثة لو استجمروا بهذا الحجر، لأجزأ كلّ واحد عن حجرٍ.

و في الكلّ نظر.

أمّا الأوّل: فلأنّه ليس بين المشبّه و المشبّه به تطابق، فإنّ قوله عليه السّلام‌

جرت السّنّة بثلاثة أحجار «7»

و نظائرها لا يطابق‌

اضربه ثلاثة أسواط

بل‌

اضربه بثلاثة أسواط

و فرق بين الصيغتين؛ إذ لو كان كذلك، لمنع أنّ المراد به ثلاث ضربات بسوط.

و قوله: إنّ المقصود إزالة النجاسة، إن أراد إزالتها على الوجه المعتبر شرعاً، فمسلّم، لكنّه محلّ النزاع؛ لعدم تحقّق نقله شرعاً، أو مطلقاً، فهو ممنوع؛ لأنّها حكم شرعيّ، فيتوقّف زوالها على الإذن الشرعيّ.

و قياس الاتّصال على الانفصال استبعاد غير مسموع، مع أنّه لا ملازمة بينهما؛ فإنّ‌

______________________________
(1) أورده الشهيد في الذكرى 1: 170 بتفاوت يسير؛ و انظر: مسند أحمد 4: 291/ 14198.

(2) صحيح مسلم 1: 223/ 262؛ سنن ابن ماجة 1: 115/ 316؛ سنن أبي داود 1: 3/ 7؛ سنن الترمذي 1: 24/ 16؛ سنن النسائي 1: 38- 39؛ سنن البيهقي 1: 181/ 545.

(3) التهذيب 1: 46/ 129.

(4) مختلف الشيعة 1: 102، المسألة 60.

(5) حكاه عنه ابن إدريس في السرائر 1: 96.

(6) انظر: النهاية 10؛ و الخلاف 1: 104، المسألة 50.

(7) التهذيب 1: 46/ 129.

80
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

و يستحب أمور ؛ ج‌1، ص : 81

حكم الشارع بإجزاء أجزاء الشي‌ء في حالٍ لا يقتضي إجزاءها في كلّ حال.

و الفرق بين استجمار كلّ واحد بالحجر و استجمار الواحد به واضح؛ لصدق العدد في كلّ واحد، فامتثل الأمر الوارد بالثلاثة، المقتضي للإجزاء، بخلاف الواحد؛ لعدم صدق العدد عليه، كما قال العلامة قطب الدين الرازي تلميذ المصنّف: أيّ عاقل يحكم على الحجر الواحد أنّه ثلاثة «1»؟

و استدلّ الشهيد- رحمه اللّه- على الإجزاء بحديث المسحات، «2»- «3» بناءً على أنّ المراد بالأحجار في تلك الأخبار المسحات. و لا يخفى ما فيه.

و يمكن أن يعكس الحكم؛ إذ لا منافاة بين المسح بثلاثة أحجار و بين المسح ثلاث مسحات، بخلاف المسحات بالواحد؛ فإنّه لا يصدق عليها المسح بثلاثة أحجار.

و ربما يقال: لو كان حديث الأحجار على ظاهره، لم يجزئ ما شابهه من الخرق و نحوها، لكن جواز العدول إلى المشابه قطعاً يدلّ على عدم إرادة الأحجار حقيقةً، بل المسحات.

و يجاب: بأنّ المشابه خرج بنصٍ خاصّ، كرواية زرارة، قال‌

يستنجي من البول ثلاث مرّات، و من الغائط بالمدر و الخرق «4»

و غيرها، فيبقى الباقي على حقيقته.

و التزم المانع من إجزاء الحجر الواحد- كالمحقّق في المعتبر- «5» بعدم إجزاء الخرقة الطويلة من جهاتها الثلاث إلا بعد قطعها.

[و يستحبّ أمور]

(و يستحبّ تقديم) الرِّجل (اليسرى دخولًا، و) تقديم الرِّجل (اليمنى خروجاً) عكس المسجد؛ لأنّ اليسرى للأدنى، و اليمنى لغيره.

و لا يختصّ ذلك بالبنيان على الأصحّ، فيقدّم اليسرى إذ بلغ موضع جلوسه في الصحراء، فإذا فرغ ابتدأ بنقل اليمنى.

(و) يستحبّ (تغطية الرأس) حال التخلّي إن كان مكشوفاً؛ لأنّه من سنن النبي صلى الله عليه و آله صلّى اللّه عليه و آله‌

______________________________
(1) لم نعثر عليه في مظانّه من المصادر المتوفّرة لدينا.

(2) تقدّمت الإشارة إلى مصدره في ص 80، الهامش (1).

(3) الذكرى 1: 170.

(4) التهذيب 1: 209/ 606.

(5) المعتبر 1: 129 و 132.

81
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

و يستحب أمور ؛ ج‌1، ص : 81

، و ليأمن من وصول الرائحة الكريهة إلى دماغه. و روى: التقنّع فوق العمامة «1» أيضاً.

(و الاستبراء) من البول.

و أوجبه الشيخ- رحمه اللّه- في الاستبصار. «2»

و هو الاستظهار في إخراج بقاياه بأن يمسح بيده من عند المقعدة إلى أصل القضيب ثلاثاً ثمّ يمسحه ثلاثاً و ينتره ثلاثاً.

و الأفضل في ذلك وضع الوسطى في الأولى تحت المقعدة و المسح بها إلى أصله ثمّ يوضع المسبّحة تحته و الإبهام فوقه و ينتره باعتماد.

و الاستبراء ثابت للذكر إجماعاً، و للأُنثى عند جماعة، فتستبرئ عَرضاً، و يلحقها حكم الاستبراء.

و نفاه المصنّف «3»؛ للأصل، فلا حكم للخارج المشتبه منها.

(و الدعاء دخولًا) بقوله: بسم اللّه و باللّه، اللّهمّ إنّي أعوذ بك من الخبث المخبث الرجس النجس الشيطان الرجيم. (و خروجاً) بقوله: الحمد للّه الذي رزقني لذّته، و أبقى في جسدي قوّته و أخرج منّي أذاه يا لَها نعمة- ثلاثاً- لا يقدر القادرون قدرها.

(و عند الاستنجاء) و هو استفعال من النجو، و هو الحدث الخارج. و المراد به غسل الموضع أو مسحه، كما نصّ عليه في الصحاح، «4» فيستحبّ الدعاء عنده في الحالين بقوله: اللّهمّ حصّن فرجي، و استر عورتي، و حرّمهما على النار، و وفّقني لما يقربني منك يا ذا الجلال و الإكرام.

(و) عند (الفراغ منه).

و الظاهر أنّه الدعاء المذكور عند مسح بطنه؛ لأنّه الأقرب إلى الفراغ من التخلّي، و هو: الحمد للّه الذي أماط عنّي الأذى، و هنّأني طعامي، و عافاني من البلوى.

و قال المحقّق في المعتبر بعد قوله: و الدعاء عند الدخول و الاستنجاء و عند الفراغ: و أمّا دعاء الفراغ فروى معاوية بن عمّار، قال‌

إذا توضّأت فقُلْ: أشهد أن لا إله إلا اللّه، اللّهمّ

______________________________
(1) انظر: الفقيه 1: 17/ 41؛ و التهذيب 1: 24/ 62.

(2) الاستبصار 1: 48 باب (28) وجوب الاستبراء قبل الاستنجاء من البول.

(3) قواعد الأحكام 1: 4.

(4) الصحاح 6: 2502، «ن ج ا».

82
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

و يكره أمور ؛ ج‌1، ص : 83

اجعلني من التوّابين، و اجعلني من المتطهّرين، و الحمد للّه رب العالمين «1»

و «2» ثمّ عقّبه بدعاء الخروج المذكور، فتأمّل.

(و) يستحبّ (الجمع بين الماء و الأحجار) سواء تعدّى أم لا.

أمّا مع التعدّي: فللمبالغة في الاستظهار. و لقول الصادق عليه السّلام‌

جرت السّنّة في الاستنجاء بثلاثة أحجار أبكار، و يتبع بالماء «3»

و لما تقدّم «4» في حديث أهل قبا من الأنصار.

و يقدّم الأحجار إذا اختار الجمع؛ إذ لا فائدة فيها بعد إزالة النجاسة.

و أمّا مع عدمه: فلجمعه بين المطهّرين، فالحجر يزيل العين، و الماء يزيل الأثر. و يمكن شمول الخبر لهما.

[و يكره أمور]

(و يكره الجلوس) للبول و الغائط (في المشارع) جمع مشرعة، و هي موارد المياه، كشطوط الماء و رؤوس الآبار؛ لما فيه من أذى الواردين (و) في (الشوارع) جمع شارع، و هو الطريق الأعظم، قاله الجوهري. «5»

و المراد هنا ما هو أعمّ منه، و خصّها في الرواية بالطرق النافذة. «6» و هي المستند.

(و) في (في‌ء النزّال) و هو مرجعهم و مجتمعهم.

(و تحت) الأشجار (المثمرة) و هي ما من شأنها الثمر و إن لم تكن مثمرةً بالفعل؛ لإطلاق الخبر. و لأنّ بقاء المعنى المشتقّ منه غير شرط في صحّة الاشتقاق عندنا.

و هذا في المملوك و المباح، و أمّا ملك الغير فلا يجوز تحته بغير إذنه مطلقاً.

(و) في (مواضع اللعن) و هي أبواب الدُّور؛ لما روي عن أبي عبد اللّه قال‌

قال رجل لعليّ بن الحسين: أين يتوضّأ الغرباء؟ فقال: يتّقى شطوط الأنهار و الطرق النافذة و تحت الأشجار المثمرة و مواضع اللعن، قيل له: و أين مواضع اللعن؟ قال: أبواب الدور. «7»

و روى أنّ أبا حنيفة خرج من عند أبي عبد اللّه عليه السّلام و أبو الحسن موسى عليه السّلام قائم و هو‌

______________________________
(1) الكافي 3: 16/ 1؛ التهذيب 1: 25/ 63.

(2) المعتبر 1: 135- 136.

(3) التهذيب 1: 46/ 130.

(4) في ص 79.

(5) الصحاح 3: 1236، «ش ر ع».

(6) الكافي 3: 15/ 2؛ التهذيب 1: 30/ 78.

(7) الكافي 3: 15/ 2؛ التهذيب 1: 30/ 78.

83
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

و يكره أمور ؛ ج‌1، ص : 83

غلام، فقال له أبو حنيفة: يا غلام أين يضع الغريب ببلدكم؟ فقال‌

اجتنب أفنية المساجد و شطوط الأنهار و مساقط الثمار و منازل النزّال، و لا تستقبل القبلة بغائط و لا بول، و ارفع ثوبك و ضَعْ حيث شئت. «1»

(و استقبال) جرمي ( «2» النيّرين): الشمس و القمر، لا جهتهما؛ لنهي النبي صلى الله عليه و آله عنه. «3»

و تزول الكراهة بالحائل.

و لا فرق بين حالتي ظهور نورهما و استتاره بالكسف.

و لا يكره استدبارهما، مع احتماله؛ للمساواة في الاحترام.

(و) استقبال (الريح بالبول) و الجارّ متعلّق بالمصدر، فيشمل الثلاثة، و إنّما خصّ البول؛ لما روي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال‌

نهى رسول اللّهُ صلّى اللّه عليه و آله أن يستقبل الرجل الشمس و القمر بفرجه و هو يبول. «4»

و حمل بعضهم الغائط عليه؛ لأنّه أغلظ.

و أمّا الريح: فالرواية به عن الحسن عليه السّلام حين سُئل ما حدّ الغائط؟ قال‌

لا تستقبل الريح و لا تستدبرها «5»

شاملة لهما، فلا وجه لاختصاصه بالبول، و أراد بالغائط التخلّي.

و التعليل بخوف ردّه عليه يخصّ البول.

و لا فرق بين استقبال الريح و استدبارها؛ للخبر. «6»

و خصّ المصنّف في النهاية حالة استدباره بخوف الردّ عليه. «7» و لا وجه له مع عموم الخبر.

(و البول في) الأرض (الصّلبة) بضمّ الصاد و سكون اللام، أي: الشديدة؛ لئلا تردّه عليه.

قال الصادق عليه السّلام‌

كان رسول اللّهُ صلّى اللّه عليه و آله أشدّ الناس توقّياً من البول، كان إذا أراد البول يعمد إلى مكان مرتفع من الأرض أو إلى مكان من الأمكنة يكون فيه التراب الكثير كراهة

______________________________
(1) الكافي 3: 16/ 5، التهذيب 1: 30/ 79.

(2) في الطبعة الحجريّة: «جرم».

(3) الفقيه 4: 3/ 1؛ التهذيب 1: 34/ 91.

(4) التهذيب 1: 34/ 91.

(5) الفقيه 1: 18/ 47؛ التهذيب 1: 26/ 65، و 33/ 88؛ الاستبصار 1: 47/ 131.

(6) الفقيه 1: 18/ 47؛ التهذيب 1: 26/ 65، و 33/ 88؛ الاستبصار 1: 47/ 131.

(7) نهاية الإحكام 1: 82.

84
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

و يكره أمور ؛ ج‌1، ص : 83

أن ينضح عليه البول. «1»

(و) في (ثقوب الحيوان) و هي جحرتها بكسر الجيم و فتح الحاء؛ لنهي النبي صلى الله عليه و آله صلّى اللّه عليه و آله عنه «2» خوفاً من الأذى.

و قيل: لأنّها مساكن الجنّ. «3»

(و في الماء) جارياً و راكداً، و الثاني أشدّ كراهةً؛ لقوله عليه السلام صلّى اللّه عليه و آله‌

لا يبولنّ أحدكم في الماء الدائم. «4»

و قول علي عليه السّلام‌

نهي أن يبول الرجل في الماء الجاري إلا من ضرورة، و قال: إنّ للماء أهلًا. «5»

و ما روي عن الصادق عليه السّلام‌

لا بأس به في الجاري «6»

لا ينافي الكراهة، فيضعف قول عليّ بن بابويه «7» بعدم الكراهة فيه.

و النصّ ورد في البول، فلذلك خصّه المصنّف رحمه اللّه، و أُلحق به الغائط بطريق أولى.

و لا فرق في ذلك بين الليل و النهار و إن كان الليل أشدّ كراهةً؛ لما قيل: إنّ الماء للجنّ ليلًا، فلا يبال فيه و لا يفسد حذراً من إصابة آفةٍ من جهتهم. «8»

(و الأكل و الشرب) في وقت التخلّي؛ لتضمّنه مهانة النفس.

و لفحوى ما روي عن الباقر عليه السّلام أنّه وجد لقمةً في القذر لمّا دخل الخلاء، فأخذها و غسلها و دفعها إلى مملوكٍ معه، و قال‌

تكون معك لآكلها إذا خرجت

فلمّا خرج عليه السّلام قال للمملوك‌

أين اللقمة؟

قال: أكلتها يا ابن رسول اللّه، قال‌

إنّها ما استقرّت في جوف أحد إلا وجبت له الجنّة، فاذهب فأنت حُرٌّ لوجه اللّه، فإنّي أكره أن استخدم رجلًا من أهل الجنّة «9»

فإنّ تأخيره عليه السّلام أكلَها إلى الخروج مع ما فيه من الثواب يدلّ بفحواه على كراهة‌

______________________________
(1) الفقيه: 1: 16/ 36؛ علل الشرائع 1: 278/ 1، الباب 186؛ التهذيب 1: 33/ 87.

(2) سنن أبي داود 1: 8/ 29؛ سنن النسائي 1: 33- 34؛ سنن البيهقي 1: 160/ 479؛ مسند أحمد 6: 83/ 20251.

(3) سنن أبي داود 1: 8/ 29؛ سنن النسائي 1: 33- 34؛ سنن البيهقي 1: 160/ 479؛ مسند أحمد 6: 83/ 20251.

(4) صحيح مسلم 1: 235/ 282؛ سنن أبي داود 1: 18/ 69 و 70؛ سنن الترمذي 1: 100/ 68؛ سنن النسائي 1: 49 و 197؛ مسند أحمد 2: 511/ 7473.

(5) التهذيب 1: 34/ 90؛ الاستبصار 1: 13/ 25.

(6) التهذيب 1: 31/ 81، و 43/ 120- 122؛ الاستبصار 1: 13/ 22- 24.

(7) كما في الذكرى 1: 165.

(8) كما في نهاية الإحكام 1: 83.

(9) الفقيه 1: 18 19/ 49.

85
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

و يكره أمور ؛ ج‌1، ص : 83

الأكل حينئذٍ.

و يلحق به الشرب؛ لاشتراكهما في المعنى.

(و السواك) لما روي أنّه يورث البَخَر ( «1» و الاستنجاء باليمين) لقوله عليه السّلام‌

إنّه من الجفاء. «2»

و لا كراهة في الاستعانة باليمين لصبّ الماء و غيره؛ لعدم تناول النهي له، و لا مع الحاجة، كتعذّره باليسرى لمرضٍ و نحوه.

(و باليسار) بفتح الياء (و فيها خاتم) بفتح التاء و كسرها، مكتوب (عليه اسم اللّه تعالى و) اسم أحد من (أنبيائه و) اسم أحد من (الأئمّة عليهم السّلام).

و المراد باسم الأنبياء و الأئمّة عليهم السّلام ما قصد به أحدهم، لا ما قصد به اسم موافق لهم في الاسم، و لا ما أُطلق و لم يقصد به أحد إن اتّفق.

و إنّما كره ذلك؛ لاشتماله على ترك التعظيم.

هذا مع عدم ملاقاته النجاسة، و إلا حرم.

و كره بعضهم «3» استصحاب ذلك في الخلاء مطلقاً.

و يلحق بذلك ما كان فصّه حجر زمزم؛ للخبر. «4» و روى بدله من حجارة زمرّذ، «5» بفتح الزاي المعجمة و ضمّها و ضمّ الميم و الراء المشدّدة المهملة و الذال المعجمة، و هو الزبرجد معرّب، قاله الجوهري. «6»

(و الكلام) في حال التخلّي؛ لنهي النبي صلّى اللّه عليه و آله عنه، «7» و إنّما يكره (بغير ذكر اللّه تعالى و الحاجة و آية الكرسي) لقول الصادق عليه السّلام‌

لم يرخّص في الكنيف في أكثر من آية الكرسي و حَمد الله أو آية. «8»

______________________________
(1) الفقيه 1: 32/ 110؛ التهذيب 1: 32/ 85.

(2) الفقيه 1: 19/ 51.

(3) لم نتحقّقه.

(4) التهذيب 1: 355/ 1059.

(5) الكافي 3: 17/ 6.

(6) الصحاح 2: 565، «ز م ر ذ».

(7) الفقيه 1: 21 ذيل الحديث 60؛ التهذيب 1: 27/ 69.

(8) الفقيه 1: 19/ 57؛ التهذيب 1: 352/ 1042.

86
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في كيفية الوضوء ؛ ج‌1، ص : 87

 

و أمّا الذكر على الخصوص: فروي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال‌

إنّ موسى عليه السّلام قال: يا ربّ تمرّ بي حالات أستحي أن أذكرك فيها، فقال: يا موسى ذكرى حسن على كلّ حال. «1»

و أمّا الحاجة: فلما في الامتناع من الكلام عندها من الضرر المنفيّ بالآية. «2»

و التقييد بالحاجة يخرج ما لو حصل الغرض بالتصفيق و شبهه؛ لانتفائها حينئذٍ.

و يلحق بذلك ردّ السلام؛ لعموم الأمر «3» به، و كذا حمد الله على العطسة؛ لأنّه ذكر، و كذا تسميت العاطس.

و استثنى المصنّف أيضاً حكاية الأذان. «4» و هو حسن في فصلٍ فيه ذِكر، دون الحيعلات؛ لعدم النّص عليه على الخصوص، إلا أن يبدّل بالحوقلة، كما ذكر في حكايته في الصلاة.

[القول في كيفية الوضوء]

[يجب في الوضوء أمور]

[الأول النيّة]

(و يجب في الوضوء النيّة، و هي) لغةً: مطلق العزم و الإرادة. و شرعاً بالنسبة إلى الوضوء (إرادة الفعل) أي: الوضوء، فاللام للعهد (لوجوبه أو ندبه) حال كون الفاعل المدلول عليه بالإرادة التزاماً- (متقرّباً) بالفعل إلى اللّه تعالى، فالإرادة بمنزلة الجنس يدخل فيها إرادة الفعل و الترك و ما اشتمل على الوجوه المذكورة و غيره، و خرج بالفعل المعهود غيرُه من الطهارات و الأفعال، و شمل الوضوء الواجبَ و المندوب، و يمتاز أحدهما عن الآخر بنيّة الوجوب أو الندب.

و يحتمل أن يريد تعريف مطلق النيّة، و يريد بالفعل الأعم من الوضوء، و غاية الجميع التقرّب إلى اللّه تعالى بمعنى موافقة إرادته، أو طلب الرفعة عنده تعالى بواسطة نيل الثواب تشبيهاً بالقرب المكاني، و كلتاهما محصّلة للامتثال، مخرجة عن العهدة و إن كان بين المنزلتين بُعد المشرقين.

و في حكم الثانية الخوفُ من العقاب. و إلى الاولى أشار أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام بقوله‌

ما عبدتك خوفاً من نارك و لا طمعاً في جنّتك و لكن وجدتك أهلًا للعبادة فعبدتك. «5»

و يدلّ على الثانية ظواهر الآي «6» و الأخبار المشتملة على الترغيب و الترهيب، كقوله‌

______________________________
(1) التهذيب 1: 27/ 68.

(2) الحجّ (22): 78.

(3) النساء (4) 86.

(4) نهاية الإحكام 1: 84.

(5) شرح نهج البلاغة- لابن ميثم البحراني- 5: 361.

(6) في الطبعة الحجريّة: «الآيات».

 

87
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

الأول النية ؛ ج‌1، ص : 87

تعالى وَ يَدْعُونَنٰا رَغَباً وَ رَهَباً «1» و قوله تعالى يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَ اسْجُدُوا وَ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَ افْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. «2»

أي: راجين الفلاح، أو لكي تفلحوا، و الفلاح هو الفوز بالثواب، قاله الطبرسي «3» رحمه اللّه. و يحتمل غير ذلك. و نقل الشهيد- رحمه اللّه- في قواعده عن الأصحاب بطلان العبادة بهاتين الغايتين. «4» و به قطع السيّد رضي الدين ابن طاوُس- رحمه اللّه- محتجّاً بأنّ قاصد ذلك إنّما قصد الرشوة و البِرطيل، «5» و لم يقصد وجه الربّ الجليل، و هو دالّ على أنّ عمله سقيم و أنّه عبد لئيم. «6»

و اختار فيها و في الذكرى الصحّة؛ محتجّاً بأنّ قصد الثواب لا يخرج عن ابتغاء اللّه بالعمل؛ لأنّ الثواب لمّا كان من عند اللّه فمُبتغيه مُبتغٍ وجهَ اللّه، و بأنّ الغرض بها اللّه في الجملة.

و لا يقدح كون تلك الغاية باعثةً على العبادة؛ لأنّ الكتاب و السّنّة مشتملان على المرهّبات من الحدود و التعزيرات و الذمّ و الإيعاد بالعقوبات، و على المرغّبات من المدح و الثناء في العاجل، و الجنّة و نعيمها في الآجل.

قال: و لو قصد المكلّف الطاعةَ للّه و ابتغاء وجه الله، كان كافياً، و يكفي عن الجميع قصد الله سبحانه الذي هو غاية كلّ مقصد. «7»

إذا تقرّر ذلك، فوجوب نيّة القربة في الوضوء بل في كلّ عبادة لا ريب فيه و لا شبهة تعتريه.

و ممّا استدلّ به عليه قوله تعالى وَ مٰا أُمِرُوا إِلّٰا لِيَعْبُدُوا اللّٰهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ «8» و لا يتحقّق الإخلاص إلا بها. و الضمير لأهل الكتاب، و يدلّ على ثبوت حكمها في حقّنا‌

______________________________
(1) الأنبياء (21): 90.

(2) الحجّ (22): 77.

(3) مجمع البيان 7- 8: 98.

(4) القواعد و الفوائد 1: 77.

(5) البرطيل: الرشوة. القاموس المحيط 3: 344.

(6) لم نعثر عليه في مظانّه.

(7) القواعد و الفوائد 1: 77؛ الذكرى 2: 104.

(8) البيّنة: (98): 5.

88
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

الأول النية ؛ ج‌1، ص : 87

قوله تعالى بعدُ وَ ذٰلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ «1» قال الإمام الطبرسي: القيّم هي المستمرّة في جهة الصواب. «2» و حينئذٍ فلا يصلح «3» النسخ عليها.

و قوله تعالى قُلِ اللّٰهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي «4» و الأمر للنبيّ، فيجب علينا ذلك؛ للاتّباع و التأسّي.

و أمّا نيّة الوجوب: فلم يعتبرها الشيخ في النهاية و جماعة، منهم: المحقّق في المعتبر، «5» بل اكتفى الشيخ بالقربة «6» لمفهوم الحصر في قوله تعالى وَ مٰا أُمِرُوا إِلّٰا لِيَعْبُدُوا اللّٰهَ مُخْلِصِينَ «7» فلو زِيدَ عليه، لكان نسخاً؛ لمنافاة الزيادة له.

و هو ضعيف؛ لمنع أنّ مطلق الزيادة مُنافٍ للإخلاص، بل إنّما ينافي الحصر ما ينافي الإخلاص، و باقي قيود النيّة ليست كذلك.

و الأولى الاستدلال في نصرة هذا القول بأصالة عدم الوجوب حتى يدلّ دليل معتبر على مجامعة شي‌ء آخر، و سيأتي ما يدلّ على متمسّك مَنْ زاد على ذلك.

و قد قال السيّد السعيد جمال الدين أحمد بن طاوُس: لم أعرف نقلًا متواتراً و لا آحاداً يقتضي القصد إلى رفع الحدث أو استباحة الصلاة لكن علمنا أنّه لا بدّ من نيّة القربة، و إلا كان هذا من باب‌

أُسكتوا عمّا سكت اللّه عنه. «8»

و جزم المصنّف في هذا الكتاب و قَبله المحقّق في الشرائع «9» بوجوب نيّة الوجوب إمّا لوجوب إيقاع الفعل على وجهه، و لا يتمّ إلا بذلك، كمااستدلّ لهم به الشهيد رحمه اللّه في الشرح، «10» أو لوجوب التعرّض في النيّة لتشخيص الفعل الواقع على جهات متعدّدة بنيّة أحدها، و لمّا كان الوضوء تارة يقع على وجه الندب و أُخرى على وجه الوجوب اشترط‌

______________________________
(1) البيّنة: (98): 5.

(2) مجمع البيان 9- 10: 522.

(3) في «ق، م»: فلا يصحّ».

(4) الزمر (39): 14.

(5) المعتبر 1: 139.

(6) النهاية: 15.

(7) البيّنة (98): 5.

(8) حكاه عنه الشهيد في الذكرى 2: 108 نقلا عن كتابه «البشري».

(9) شرائع الإسلام 1: 12.

(10) غاية المراد 1: 32- 33.

89
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

الأول النية ؛ ج‌1، ص : 87

تشخيصه بأحدهما حيث يكون ذلك هو المطلوب.

و لا يخفى ضعف الأوّل و عدم صلاحيّته للدلالة و تأسيس حكم شرعيّ حتى قيل: إنّه كلام شعريّ. «1»

و أمّا الثاني فلا يتمّ في الوضوء و إن تمّ في غيره من العبادات؛ لعدم اجتماع الوضوء الواجب و الندب في وقتٍ واحد حتى يحتاج المكلّف في نيّته إلى تمييز أحدهما عن الآخر؛ لأنّه إن كان المكلّف مخاطباً بمشروط بالوضوء، فليس له إلا نيّة الوجوب، و إلا فليس له إلا نيّة الندب.

و لا ينتقض بالمجدّد بتقدير جوازه قبل الصلاة حيث إنّه غير واجب، مع أنّ المجدّد مخاطب بمشروطٍ بالطهارة؛ لأنّه في وقت إيقاع أحدهما لا يمكن وقوع الآخر؛ إذ قبل الوضوء الأوّل الواجب لا يتصوّر الندب المجدّد، و عند وضوء التجديد لا يتصوّر نيّة الوجوب، فلم يقع أحدهما على وجهين.

و ربما ذكر في بعض عبارات شيخنا الشهيد- رحمه اللّه- أنّ الوجوب لإخراج عبادة الرياء. «2» و هو موضع تأمّل. و ربما أخرجها أيضاً بنيّة القربة، فلا وجه للجمع حينئذٍ.

و يمكن أن يقال: إنّ الوجوب المذكور هنا- و هو «لوجوبه»- علّة غائيّة للفعل، لا لإخراج شي‌ء تحقيقاً لقول المتكلّمين: إنّه ينبغي إيقاع الواجب لوجوبه أو لوجه وجوبه، و كذا القربة غاية أُخرى، و هو الحصول على رضاه و الوصول إلى ثوابه، كما تقدّم، و هو موافق للدليل الأوّل من دليلي الموجبين، لكن لا دليل على وجوب ذلك إلا ما نقل عن المتكلّمين، و هو غير صالح للدلالة على توقّف الفعل عليه و إن أمكن جَعْل الكمال منسوباً إليه.

و بالجملة، فمشخّصات النيّة غير القربة لم يرد بها نصّ على الخصوص، فلا بدّ لمثبت شي‌ء منها «3» من دليلٍ صالح.

و قد ذكر شيخنا الشهيد- رحمه اللّه- في خلاصة مناسك الحجّ «4» أنّ الوجوب الغائي قيد في النيّة لتميز الفعل عن إيقاعه لندبه، فالإشكال باقٍ، فتأمّل.

______________________________
(1) القائل هو المحقّق الحلّي في المسائل الطبريّة (ضمن الرسائل التسع): 317.

(2) لم نعثر عليه في مظانّها.

(3) في «ق، م»: «شرعيّتها» بدل «شي‌ء منها».

(4) المنسك الكبير (ضمن رسائل الشهيد الأوّل). المقالة الأولى/ الإحرام.

90
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

الأول النية ؛ ج‌1، ص : 87

(و في وجوب) نيّة (رفع الحدث أو) نيّة (الاستباحة) للصلاة أو لمشروط بالطهارة (قولان):

أحدهما: العدم، و إليه ذهب الشيخان حيث اكتفيا بالقربة، «1» و المحقّق في الشرائع. «2» و وجهه قد عُلم ممّا سلف.

و الثاني: الوجوب، كما هب إليه المصنّف في المختلف «3» و غيرِه، «4» و المحقّقُ في المعتبر إلا أنّه أسقط نيّة الوجوب، و اكتفى بالقربة و أحد الأمرين «5»؛ لقوله تعالى إِذٰا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلٰاةِ فَاغْسِلُوا «6» أي: لأجل الصلاة؛ إذ هو المفهوم لغةً من قولهم: إذا لقيت الأسد فخُذ سلاحك، و إذا لقيت الأمير فخُذ أُهبتك، أي: لأجل لقاء الأسد و الأمير، و لا معنى لفعله لأجل الصلاة إلا إرادة استباحتها.

و فيه نظر؛ لمنع إرادة ذلك لغةً، بل الظاهر أنّ المعنى: لا تلق الأسد إلا بسلاح، «7» و الأمير إلا بأُهبة، و كذا الآية تقدير الجملة فيها: لا تقوموا إلى الصلاة إلا متطهّرين، و إنّما كان هذا هو الظاهر؛ لأنّه لو كان متطهّراً في المثال أو آخذاً سلاحه و أُهبته، كفى ذلك في امتثال الأمر، و لو كان المطلوب إيقاعه لأجله، لم يكف.

و لا يقال: إذا حصل سبب الفعل مع استصحابه، يصير حينئذٍ كأنّه واقع لأجله؛ لأنّا نمنع ذلك، بل ربما كانت الغاية الأُولى منافيةً للغاية الأُخرى، كما لو كان قد قصد بأخذ السلاح تأهّبه للعدوّ، فإنّه يكفي ذلك عن أخذه للأسد مع عدم صدق الأخذ لأجله. و كذا لو نوى بالوضوء إباحة الطواف مثلًا.

و لا يكفي اللزوم؛ لأنّ الآية إنّما دلّت على وقوعه لأجلها، و ظاهر أنّ اللزوم غير بيّن، فلا يلزم من نيّة أحدهما نيّة الآخر.

و أيضاً فإنّ اللازم من الآية تحتّم استباحة الصلاة- كما هو مذهب السيّد المرتضى «8»- لا التخيير بينها و بين الرفع، الذي هو المدّعى، فما تدلّ عليه لا تقولون به، و ما تقولون به‌

______________________________
(1) المقنعة: 46؛ النهاية: 15.

(2) شرائع الإسلام 1: 12.

(3) مختلف الشيعة 1: 107، المسألة 65.

(4) قواعد الأحكام 1: 9- 10.

(5) المعتبر 1: 139.

(6) المائدة (5): 6.

(7) في الطبعة الحجريّة: «بسلاحك».

(8) حكاه عنه المحقّق الحلّي في الرسائل التسع: 317؛ و الشهيد في غاية المراد 1: 32- 33.

91
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

الأول النية ؛ ج‌1، ص : 87

لا تدلّ عليه.

و اعتذر المصنّف- رحمه اللّه- في المختلف عن ذلك بأنّ الاستباحة عنده أحد الأمرين الواجبين، و أحد أفراد الواجب المخيّر يصدق عليه الوجوب بقولٍ مطلق، و بأنّ نيّة رفع الحدث تستلزم الاستباحة؛ لأنّها نيّة لإزالة المانع من الدخول في الصلاة ليدخل المكلّف فيها، فإنّه الغاية الحقيقيّة، فإنّ إزالة الحدث ليس غايةً ذاتيّة، و إنّما هو مراد بالعرض لأجل استباحة الصلاة. «1»

و فيه نظر؛ فإنّا لا ندّعي أنّ نيّة الرفع [لا] ترفع وجوب الاستباحة أو تنافيها، بل نقول: إنّ الرفع لا دليل عليه، و إنّ الآية إنّما تستلزم على ما قرّرتم الاستباحةَ لا الرفع.

و أمّا استلزام الرفع الاستباحةَ فحقّ في حقّ المختار، لكن لا يلزم من نيّته نيّتها إلا إذا كان اللزوم بيّناً بحيث يلزم من تصوّر الملزوم تصوّر اللازم، و ظاهر أنّ استلزام رفع الحدث لاستباحة الصلاة ليس كذلك، و إنّما يعلم اللزوم مع اقتران وسطٍ، و هو آية غير البيّن، كما إذا قيل: إنّ المراد بالاستباحة رفع المنع من الصلاة، و برفع الحدث رفع المانع، و رفع المانع يستلزم رفع المنع و بالعكس في غير المتيمّم و دائم الحدث. لكنّ المفهوم من لزوم أحدهما للآخر كون تصوّر ماهيّة كلّ منهما من حيث هي يستلزم تصوّر الأُخرى، و خروج الفردين يستلزم عدم الاستلزام كذلك، إلا أن ينظر إلى التلازم بينهما بعد إخراج الفردين المذكورين، و مع ذلك لا بدّ من اقتران وسط.

و من هنا ذهب جماعة «2» من أصحابنا إلى وجوب الجمع بين الأمرين محتجّين على ما حكاه الشهيد- رحمه اللّه- في الشرح بالجمع بين أدلّة الأقوال، و نيّة كلّ من الرفع و الاستباحة بالمطابقة؛ لأنّ اللزوم غير بيّن، و الاتّحاد غير حاصل.

ثمّ أورد عليهم منع عدم اللزوم البيّن لو سُلّمت المغايرة، «3» و لم يذكر للمنع سنداً.

و التحقيق أنّ اللازم البيّن له معنيان:

أحدهما: ما يلزم تصوّره من تصوّر الملزوم، ككون الاثنين ضِعف الواحد؛ فإنّ مَنْ‌

______________________________
(1) مختلف الشيعة 1: 108، المسألة 65.

(2) منهم: القاضي ابن البرّاج في المهذّب 1: 43؛ و أبو الصلاح الحلبي في الكافي في الفقه: 132؛ و ابن حمزة في الوسيلة: 51؛ و قطب الدين الراوندي و معين الدين المصري كما في غاية المراد 1: 37.

(3) غاية المراد 1: 37.

92
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

الأول النية ؛ ج‌1، ص : 87

صوّر الاثنين أدرك أنّهما ضِعف الواحد، و يقال له: البيّن بالمعنى الأخصّ.

و الثاني: ما يلزم من تصوّره مع الملزوم و النسبة بينهما الجزم باللزوم، و هو البيّن بالمعنى الأعمّ.

فعلى المعنى الأوّل اللزوم بينهما غير بيّن، كما تقدّم؛ لأنّ تصوّر أحدهما لا يلزم منه تصوّر الآخر.

و على الثاني يثبت المطلوب؛ فإنّه متى تصوّر رفع المانع و رفع المنع و النسبة بينهما علم لزوم أحدهما للآخر.

هذا كلّه على تقدير دلالة الآية على اعتبار الاستباحة، و قد عرفت ما فيه، و الكلام في نيّة استباحة غير الصلاة من المشروط بالطهارة قريب من الكلام في رفع الحدث.

(و) تجب (استدامتها) أي: النيّة (حكماً) لا فعلًا (إلى) وقت (الفراغ) من الفعل بمعنى أن لا ينوي نيّةً تنافي النيّة الاولى إمّا لجميعها، كما لو نوى إبطال العمل أو ما يبطله، أو لجزئها، كما لو نوى ببقيّة الأعضاء في الوضوء الواجب الندبَ أو غير ذلك ممّا ينافي قيود النيّة، فحينئذٍ الاستدامة الحكميّة من الأُمور العدميّة؛ لأنّها عدم الإتيان بنيّة تنافي الاولى.

و ربما فسّرت بأمرٍ وجوديّ، و هو البقاء على حكم النيّة الأُولى و العزم على مقتضاها؛ استدلالًا بأنّ مقتضى الدليل الدالّ على اعتبار النيّة في العبادات- كقوله عليه السّلام‌

إنّما الأعمال بالنيّات- «1»

وجوب استصحاب النيّة فعلًا لكن لمّا تعذّر في العبادة البعيدة المسافة أو تعسّر في غيرها اكتفي بالاستمرار الحكميّ. «2»

و في دلالة الحديث على ذلك نظر؛ لأنّ المراد بالنيّة أمّا العزم على الفعل و إن تقدّم، كما ذكره أهل اللغة، أو إرادته عند الشروع فيه، كما اختاره الفقهاء.

و المراد بالأعمال المعهودةُ عند الشارع، كالصلاة و الصيام و نحوهما، أمّا إطلاق ذلك على أجزائها فليس حقيقيّا بل من حيث التسمية لغةً، و هي غير مرادة هنا؛ للاكتفاء في كلّ واحد ممّا ذكرناه بنيّة واحدة.

مع أنّ مقتضى الدليل وجوب الإتيان بالقدر الممكن، سواء كان مع استصحاب الأُولى‌

______________________________
(1) التهذيب 1: 83/ 218، و 4: 186/ 519؛ سنن ابن ماجة 2: 1413/ 4227؛ سنن البيهقي 1: 68/ 181.

(2) انظر: القواعد و الفوائد 1: 93.

93
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

الأول النية ؛ ج‌1، ص : 87

فعلًا، أم الرجوع إليها مع إمكانه؛ لعدم الدليل الدالّ على الاكتفاء بالاستدامة الحكميّة بهذا المعنى حتى يقال: إنّه بدل مخصوص فلا ينتقل إلى غيره و إن أمكن.

بل الحقّ في توجيه الاستدامة الحكميّة أنّ إرادَتي الضدّين لمّا كانتا متنافيتين إمّا لذاتيهما أو لأمرٍ عرَضيّ كما قرّر في الكلام و كان الواجب إيقاع الفعل بجملته على الوجه المخصوص اقتضى ذلك عدم إيجاد نيّةٍ تنافي النيّة الأُولى، فمتى لم ينو ما ينافي النيّة حصل له ما نواه، و لا يفتقر إلى تجديد العزم المذكور؛ لعدم الفائدة فيه. و الدلالة عليه؛ لأنّ دلالة الخبر على الشي‌ء الأقوى- و هو النيّة- لا يدلّ على الاكتفاء بالأضعف، و هو العزم على مقتضاها من غير إحضارها في الذهن.

و بنى شيخنا الشهيد- رحمه اللّه- التفسيرين على أنّ الباقي هل هو مستغن عن المؤثّر أو محتاج إليه؟ و هي مسألة كلاميّة، «1» فعلى الأوّل الأوّلُ، و نَقَله عن الشيخ- رحمه اللّه- في المبسوط، «2» و على الثاني الثاني، و اختاره.

و هو محلّ نظر حكماً و بناءً؛ فإنّ ذلك إنّما يتّجه أن لو كانت النيّة بعد إحضارها يحصل منها أثر خارجي يستغني عن الموجد أو يحتاج إليه و ليست كذلك، بل عند عزوبها عن القلب تلحق بالأعدام المفتقرة إلى المؤثّر قطعاً.

مع أنّ اللازم من الاحتياج إلى المؤثّر وجوب إحضار النيّة بجميع مشخّصاتها، لا العزم المذكور؛ فإنّه غير الوجود الأوّل، و غير مستلزم له و إن دخل ضمناً، لكنّ الدلالة التضمّنيّة ملغاة في هذه الأحكام و نظائرها.

و على كلا التفسيرين لو نوى ما ينافي النيّة الأُولى، بطل الوضوء (فلو نوى) المكلّف بوضوئه بعد النيّة المعتبرة (التبرّد خاصّة) من غير ضمّ نيّة الوجوب و القربة (أو ضمّ الرياء) إلى الوجوب و القربة (بطل) وضوؤه؛ للمنافاة للنيّة الأُولى و الإخلاص. و لأنّ الأُولى قد عدمت حقيقةً بالذهول عنها و حصل غيرها حقيقةً، فتكون أقوى.

و إنّما قيّدنا النيّة المذكورة ببعديّة النيّة الأُولى المعتبرة و إن كان اللفظ أعمّ من ذلك بل هو ظاهر في مصاحبة المنافي للنيّة الأُولى؛ لأنّه فرّعها على الاستدامة حكماً، و إنّما يتمّ‌

______________________________
(1) كما في جامع المقاصد 1: 200؛ و انظر المنسك الكبير (ضمن رسائل الشهيد الأوّل) المقالة الأولى/ الإحرام.

(2) الذكرى 2: 110؛ و انظر: المبسوط 1: 19.

94
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

الأول النية ؛ ج‌1، ص : 87

التفريع على التفسيرين بفرض طروء النيّة المنافية على المعتبرة، مع أنّ الحكم في الطارئ و المصاحب واحد و إن كان الأوّل أوفق لسياق الكلام.

و ظاهر المرتضى- رحمه اللّه- أنّه لو نوى الرياء بصلاة، لم تبطل بمعنى عدم إعادتها، لا بمعنى حصول الثواب. «1» و هو يستلزم الصحّة مع ضمّ الرياء إلى القربة «2» بطريق أولى.

و هو مبنيّ على قاعدته من عدم الملازمة بين قبول الأعمال و صحّتها، فبالصحّة يحصل الامتثال، و بالقبول يستحقّ الثواب.

و في الأصل و الفرع منع.

و اعلم أنّ قطع الاستدامة الحكميّة بنيّةٍ مخالفه إنّما يؤثّر في بطلان الوضوء مع فعل شي‌ء منه كذلك، أمّا لو جدّد النيّة الأُولى قبل أن يفعل شيئاً بعد القطع، أو بعده و أعاده قبل جفاف ما سبق على قطع الاستدامة، صحّ الوضوء؛ لأنّ أفعال الوضوء بمنزلة عبادات متعدّدة لا تتوقّف صحّة بعضها على بعض، و لهذا لو نكس وضوءه، أعاد على ما يحصل معه الترتيب و لا يبطل، بخلاف الصلاة؛ فإنّها تبطل بمنافاة الاستدامة و إن أعاد النيّة قبل فعل شي‌ء منها بغير نيّة معتبرة.

و هذا كلّه (بخلاف ما لو ضمّ التبرّد) بعد النيّة المعتبرة إليها، فإنّه لا يضرّ عند المصنّف؛ لحصوله و إن لم ينوه، فنيّته لاغية، كما لو كبّر الإمام و قصد مع التحرّم إعلام القوم.

و اختار المصنّف في غير «3» هذا الكتاب- تبعاً لجماعة- «4» البطلان هنا؛ للمنافاة أيضاً. و لأنّه لا يلزم من حصوله ضرورة جواز نيّة حصوله، و هل الكلام إلا فيه؟ و هذا أجود.

و يجوز كون قوله: «فلو نوى» إلى آخره، تفريعاً على النيّة المذكورة سابقاً، المشتملة على التقرُّب، و جعل الاستدامة الحكمية معترضةً، و وجه التفريع منافاة ذلك كلّه للقربة.

(و) يجوز أن (يقارن بها) أي بالنيّة (غَسل اليدين) المستحبّ له على المشهور؛ لأنّه من جملة الوضوء الكامل. و أولى منه عند المضمضة و الاستنشاق؛ لقربهما إلى الواجب.

و جوّز ابن إدريس تقديمها عند غَسل اليدين في الغُسل دون الوضوء. «5» و هو تحكّم.

______________________________
(1) الانتصار: 100، المسألة 9.

(2) في الطبعة الحجريّة: «التقرّب».

(3) نهاية الإحكام 1: 29.

(4) منهم: فخر المحقّقين في إيضاح الفوائد 1: 36؛ و المحقّق الكركي في جامع المقاصد 1: 203.

(5) السرائر 1: 98.

95
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

الأول النية ؛ ج‌1، ص : 87

و توقّف بعض «1» المحقّقين في الجميع؛ لعدم صدق الوضوء الحقيقي عليها. «2»

و لا يجوز تقديمها عند غيرها من مسنونات الوضوء، كالسواك و التسمية إجماعاً.

و المراد بالغَسل المستحبّ للوضوء ما كان لوضوءٍ من حدث النوم أو البول أو الغائط لأمن الريح.

و لا يجوز إيقاعها عند غَسلهما من غير ذلك إمّا مع استحبابه لا له، كما إذا وقع الوضوء عقيب الأكل أو بعد مباشرة مَنْ يتّهم بالنجاسة، أو مع وجوبه، كغَسلهما من النجاسة؛ إذ لا يعدّ من أفعال الوضوء، مع احتماله؛ لأنّه أولى بالمراعاة من الندب خصوصاً على ما ورد من التعليل في النائم بأنّه‌

لا يدري أين باتت يده «3»

فإنّه يقتضي أنّه لدفع نجاسة موهومة، فالمحقّقة أولى.

و أولى بعدم الجواز ما لو كان غَسلهما لغير الواجب و الندب من باقي الأحكام الخمسة إمّا الإباحة كغَسلهما من الريح، أو التحريم، كفعله مع قصر الماء عن الغسلات الواجبة، أو الكراهة، كالقصور بسببه عن الغسلات المستحبّة؛ إذ لا يعدّ من السنن فضلًا عن سنن الوضوء، كلّ ذلك للخبر.

و اشترط المصنّف- «4» رحمه اللّه- أيضاً كون الغَسل من ماءٍ قليل في إناء واسع الرأس بحيث يغترف منه، فلو توضّأ من نهر أو مصنع أو من إناء لا يمكن الاغتراف منه، لم تجز النيّة عنده بل لم يستحبّ غَسلهما حينئذٍ؛ لمفهوم قول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله‌

إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يده قبل أن يدخلها الإناء ثلاثاً؛ فإنّ أحدكم لا يدري أين باتت يده. «5»

و استوجه الشهيد- رحمه اللّه- القول بالاستحباب في الأخير؛ لأنّ النجاسة الموهومة تزول بالنسبة إلى غَسل باقي الأعضاء و إن لم يكن لأجل الماء. «6»

و يؤيّده إطلاق الروايات، كرواية حريز عن الباقر عليه السّلام‌

يغسل الرجل يده من النوم مرّة،

______________________________
(1) في هامش «ق، م»: هو السيّد جمال الدين ابن طاوس رحمه اللّه.

(2) حكاه عنه الشهيد في الذكرى 2: 108.

(3) صحيح مسلم 1: 233/ 278؛ سنن أبي داود 1: 25- 26/ 105؛ سنن النسائي 1: 99؛ مسند أحمد 2: 477- 478/ 7240.

(4) منتهى المطلب 1: 296.

(5) المصادر في الهامش (3).

(6) الذكرى 2: 109.

96
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

الثاني غسل الوجه ؛ ج‌1، ص : 97

و من الغائط و البول مرّتين، و من الجنابة ثلاثاً «1»

و نحوها.

و اعلم أنّه متى قدّم النيّة عند غسل اليدين دخلت نيّة المندوب تحت الواجب، فلا يفتقر في تحصيل الثواب إلى نيّة أُخرى. و إن أخّرها إلى أوّل الفرض أو ما بعده من السنن، فلا بدّ للمتقدّم منها عليها من نيّةٍ على الخصوص، و إلا لم يُثَب عليها.

(و تتضيّق) النيّة (عند) أوّل (غَسل الوجه) فلا يجوز تأخيرها عنه؛ لئلا يخلو أوّل الفرض عن النيّة فيبطل؛ إذ ليس للمرء من عمله إلا ما نوى.

[الثاني غَسل الوجه]

(و) يجب (غَسل الوجه بما يسمّى غَسلًا) و هو في اللغة: إمرار الماء على الشي‌ء على وجه التنظيف و التحسين و إزالة الوسخ و نحوها. و المراد هنا ما يحصل معه الجريان على جميع أجزاء ما يجب غَسله. و أقلّه أن يجري جزء من الماء على جزءين من البشرة و لو بمعاونٍ، فمتى وصل بلل الماء إلى حدّ لا يقبل الانتقال من محلّه إلى محلّ آخر لم يصدق عليه حينئذٍ الغَسل، بل يصير دهناً لا غَسلًا.

و أمّا تمثيل مَنْ بالغ في وصف تقليل الغسل بالدهن فهو ضرب من المبالغة في جواز تقليل الجريان، و لا يريد جواز عدمه أصلًا؛ لعدم صدق مسمّى الغَسل حينئذٍ.

و لا يجب الدلك؛ لصدق الغَسل بدونه لغةً و عرفاً. و ربما استحبّ؛ لما فيه من الاستظهار.

و أوجبه ابن الجنيد «2» رحمه اللّه.

فلو غمس الأعضاء في الماء أو صبّ عليها من غير مسّ، أجزأ.

و حدّ الوجه (من قصاص) مثلّث القاف، و الضمّ أفصح (شعر الرأس) و الشعر بفتح العين و إسكانه. و المراد بقصاصه: منتهى نبته (إلى محادر شعر الذقن) بالذال المعجمة المفتوحة و فتح القاف. و المراد إلى طرف الذقن (طولًا، و ما دارت عليه الإبهام) بكسر الهمزة، و هي الإصبع العظمى، و الجمع الأباهيم (و) الإصبع (الوسطى عَرضاً) كلّ ذلك (من مستوى الخلقة، و غيره) من الأغمّ و الأنزع و طويل الأصابع و قصيرها (يحال عليه) فيغسل ما يغسله.

(و لا يجزئ) غسل الوجه (منكوساً) بل تجب البدأة بالأعلى؛ لوصف الباقر عليه السّلام وضوءَ‌

______________________________
(1) التهذيب 1: 36/ 97؛ الاستبصار 1: 50/ 142.

(2) حكاه عنه العلّامة الحلّي في مختلف الشيعة 1: 119، المسألة 72.

97
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

الثاني غسل الوجه ؛ ج‌1، ص : 97

رسول الله صلى الله عليه و آله صلّى اللّه عليه و آله، و أنّه غسل وجهه من أعلاه. «1»

و لأنّ الوضوء البياني الصادر من النبيّ- الذي قال عنه‌

إنّ هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلّا به «2»

أي بمثله- يمنع أن تكون البدأة فيه بغير الأعلى، و إلا لما جازت البدأة بالأعلى مع إجماع المسلمين على جوازه.

و هذا الوجه مطّرد في جميع المسائل المختلف فيها من نظائر ذلك؛ إلا ما دلّ الدليل على خروجه، كما تراه مفصّلًا.

و استحبّ السيّد المرتضى و ابن إدريس البدأة بالأعلى «3»؛ لإطلاق الآية. «4»

و قول الصادق عليه السّلام‌

لا بأس بمسح الوضوء مقبلًا و مدبراً. «5»

و لا دلالة في الخبر على مطلوبهما؛ لتغاير حقيقتي الغَسل و المسح. و مطلق الآية مقيّد بفعله صلّى اللّه عليه و آله؛ لأنّه المبيّن للناس.

(و لا يجب تخليل اللحية و إن خفّت) سواء كانت للرجل (أو كانت للمرأة) لأنّ الوجه اسم لما يواجه به ظاهراً، و لا يتبع غيره، و لا يلزم الانتقال إلى الشعر؛ لعدم صدق الوجه عليه عرفاً، و الخفيف و إن لم يمنع رؤية الجميع لكنّه يستر ما تحته فيزول عنه الاسم.

و لعموم قول الباقر عليه السّلام‌

كلّ ما أحاط به الشعر فليس على العباد أن يطلبوه و لا أن يبحثوا عنه لكن يجري عليه الماء «6»

فإنّه شامل للخفيف و الكثيف. و غيره من الأخبار الشاملة بعمومها لهما.

و أوجب المصنّف- رحمه اللّه- في غير هذا الكتاب تخليل اللحية الخفيفة؛ محتجّاً بأنّ الوجه ما تقع به المواجهة، و إنّما ينتقل الاسم إلى اللحية مع الستر لا مع عدمه، فإنّ الوجه مرئيّ، و هو المواجه، دون اللحية، فلا ينتقل الاسم إليها. و حَمَل الأخبار الدالّة على عدم الوجوب على الساتر دون غيره. «7»

______________________________
(1) التهذيب 1: 55/ 157؛ الاستبصار 1: 58/ 171.

(2) الفقيه 1: 25/ 76؛ سنن البيهقي 1: 130/ 380.

(3) الانتصار: 99، المسألة 9؛ رسائل الشريف المرتضى 1: 213؛ السرائر 1: 99 و 100.

(4) المائدة (5): 6.

(5) التهذيب 1: 58/ 161؛ الاستبصار 1: 57/ 169.

(6) الفقيه 1: 28/ 88.

(7) مختلف الشيعة 1: 133- 114، المسألة 69.

98
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

الثالث غسل اليدين من المرفقين إلى أطراف الأصابع ؛ ج‌1، ص : 99

و أنت خبير بأنّ هذه الحجّة- مع مخالفة مدلولها للأصحاب- إنما تستلزم غَسل ما لا شعر فيه من الوجه؛ لعدم انتقال الاسم عنه، لا وجوب غسل ما تحت الشعر الساتر الذي هو المتنازع، فدليله لا يطابق مدّعاه.

و اعلم أنّ الخلاف إنّما هو في وجوب تخليل البشرة التي تحت الشعر الخفيف، المستورة به، أمّا ما كان منها مرئيّاً بين الشعر فيجب غَسله قطعاً؛ لعدم انتقال اسم الوجه عنه.

[الثالث غَسل اليدين من المرفقين إلى أطراف الأصابع]

(و) يجب (غَسل اليدين) مبتدئاً فيهما وجوباً (من المرفقين) بكسر الميم و فتح الفاء و بالعكس، سُمّيا بذلك؛ لأنّه يرتفق بهما في الاتّكاء و نحوه (إلى أطراف الأصابع) لما تقدّم في الوجه.

(و يُدخل المرفقين في الغَسل) إجماعاً منّا و من أكثر مخالفينا إمّا لأنّ إلى في الآية «1» بمعنى «مع» و هو كثير، كقوله تعالى مَنْ أَنْصٰارِي إِلَى اللّٰهِ «2»+ أو لأنّ الغاية تدخل في المغيّا حيث لا مفصل محسوس، أو لدخول الحدّ المجانس في الابتداء و الانتهاء، مثل‌

بعت الثوب من هذا الطرف إلى هذا الطرف.

و الوضوء البيانيّ أوضح دلالةً في ذلك؛ فإنّهُ صلّى اللّه عليه و آله أدار الماء على مرفقيه مبتدئاً بهما ثمّ قال‌

هذا وضوء لا يقبل اللّه الصلاة إلا به. «3»

و بالجملة، فوجوب غسل المرفق لا خلاف فيه، إنّما الخلاف في سبب الوجوب هل هو النصّ؟ كما تقدّم، أو الاستنباط من باب مقدّمة الواجب بجَعل إلى للغاية؟ و هي لا تقتضي دخول ما بعدها فيما قبلها و لا خروجه؛ لورودها معهما.

أمّا الدخول: فكقولك‌

حفظت القرآن من أوّله إلى آخره

و منه سُبْحٰانَ الَّذِي أَسْرىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرٰامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى. «4»

و أمّا الخروج: فك‍ أَتِمُّوا الصِّيٰامَ إِلَى اللَّيْلِ «5» و فَنَظِرَةٌ إِلىٰ مَيْسَرَةٍ «6» و حينئذٍ‌

______________________________
(1) المائدة (5): 6.

(2) آل عمران (3): 52.

(3) أورده الشهيد في الذكرى 2: 131.

(4) الإسراء (17): 1.

(5) البقرة (2): 178.

(6) البقرة (2): 280.

99
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

الثالث غسل اليدين من المرفقين إلى أطراف الأصابع ؛ ج‌1، ص : 99

لا دلالة على دخول المرفق من الآية نصّاً، و البيانيّ أعمّ منه و من الاستنباط.

و تظهر الفائدة في وجوب غَسل جزء من العضد فوق المرفق فيما لو قُطعت اليد من المرفق، و سيأتي الكلام فيه.

(و لو نكس) الغَسل بأن ابتدأ فيه بالأصابع (بطل) الغسل، فإن لم يُعِده على الوجه المعتبر، بطل الوضوء، خلافاً للسيّد المرتضى و ابن إدريس. «1» و الكلام فيه كالكلام في البدأة بأعلى الوجه حجّةً و جواباً.

(و لو كان له يد زائدة، وجب غَسلها) إن كانت تحت المرفق مطلقاً أو فوقه و لم تتميّز عن الأصليّة، و هذا كلّه لا خلاف فيه.

أمّا لو كانت فوقه و تميّزت، فالأمر فيه كذلك عند المصنّف، و لذا أطلق القول هنا، و صرّح به في المختلف؛ محتجّاً بصدق اسم اليد، و بصحّة تقسيمها إلى الزائدة و الأصليّة، و مورد التقسيم مشترك بين الأقسام التي قسّم إليها، و بالمعارضة بما تحت المرفق. «2»

و فيه نظر؛ لوجوب حمل الأيدي على المعهود المتعارف. و الاحتجاج باشتراك مورد التقسيم بين جميع أفراد الأقسام مع اشتهاره بين القوم قد أُورد عليه أنّه غير لازم، فإنّا نقسّم الحيوان إلى الأبيض و غير الأبيض- مثلًا- مع أنّ في كلّ منهما غيرَ الحيوان.

و اعتذر عنه بأنّ التقسيم عبارة عن ضمّ القيود المتخالفة إلى مورد القسمة ليحصل بانضمام كلّ قيد إليه قسم منه، فالقسم عبارة عن مجموع مورد القسمة مع القيد، و لا يتحقّق بدون مورد القسمة، فلا بدّ أن يكون المورد مشتركاً بين جميع أفراد أقسامه. و القسم في المثال المذكور هو الحيوان الأبيض و الحيوان الغير الأبيض. و فيه بحث.

سلّمنا، لكن صحّة التقسيم إنّما هو باعتبار الصورة لا باعتبار المتعارف الحقيقي، و إلا لكان لمانعٍ أن يمنع صحّته.

و المعارضة ليست لازمةً؛ لأنّ ما تحت المرفق لم يوجب غَسله لكونه يداً، بل لأنّه في محلّ الفرض، فكان من جملته، كغير اليد من الأجزاء التي لا يصدق اسمها عليها حقيقةً و لا مجازاً.

______________________________
(1) انظر الهامش (3) من ص 98.

(2) مختلف الشيعة 1: 121، المسألة 74.

100
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

الثالث غسل اليدين من المرفقين إلى أطراف الأصابع ؛ ج‌1، ص : 99

و لو كانت في نفس المرفق، فكذلك عند المصنّف «1» أيضاً بطريق أولى، و كذا عند مَنْ أوجب غَسل المرفق نصّاً.

أمّا مَنْ أوجبه تبعاً من باب مقدّمة الواجب فيمكن القول بوجوب غَسلها عنده؛ لأنّها في محلّ الفرض ظاهراً. و عدمه؛ لعدم كونه كذلك في نفس الأمر، و غَسل المرفق لاشتباه حدّ اليد، و هو منتفٍ في الخارج عنها و عن مسمّاها. و هو ضعيف.

(و كذا) يجب غَسل (اللحم الزائد) الكائن (تحت المرفق) أو فيه لا فوقه؛ لخروجه عن محلّ الفرض، و منه ما يتدلّى من اللحم و الجلد من غير محلّ الفرض إليه؛ لوجود العلّة فيه (و) كذا (الإصبع) بمثلّث الهمزة مع مثلّث الباء (الزائدة) في محلّ الفرض.

(و مقطوع اليد) من دون المرفق (يغسل الباقي) لوجوب غَسل الجميع على تقدير وجوده، فإذا زال البعض، لم يسقط الآخر.

(و يسقط) وجوب غَسل اليد (لو قُطعت من المرفق) بناءً على أنّ غَسل المرفق إنّما وجب تبعاً من باب المقدّمة لا أصالةً، كما يجب غَسل جزء من الرأس تبعاً للوجه ليتحقّق غَسل جميعه، و كما في ستر جزء من البدن مع العورة ليتحقّق سترها، فإذا زال الاشتباه بالقطع من المفصل، سقط الوجوب؛ لظهور خروجه عن محلّ الفرض، فيلحق بباقي أجزاء البدن.

و لو جعلنا «إلى» بمعنى «مع» وجب غَسل رأس العضد أصالةً؛ لأنّه جزء من محلّ الفرض.

و ممّا يرجّح هذا الوجه- مع ما تقدّم- أنّ حملها على الانتهاء يوهم ابتداء الغَسل من رؤوس الأصابع، فالحمل على ما لا يُوهم شيئاً أولى، و على هذا لا يسقط غَسل موضع القطع؛ لأنّ المرفق هو العظمان المتداخلان، فإذا ذهب أحدهما، وجب غَسل الآخر؛ إذ لا يسقط الميسور بالمعسور.

و يزيد الوجوب ما احتجّ به المصنّف «2» على استحباب غَسل العضد من الروايات:

كقول أبي الحسن الكاظم عليه السّلام في مقطوع اليد من المرفق‌

يغسل ما بقي من عضده. «3»

و الظاهر أنّ المراد به رأس العضد الذي كان يغسل قبل القطع، و أطلق عليه العضد‌

______________________________
(1) نهاية الإحكام 1: 39.

(2) مختلف الشيعة 1: 120، المسألة 73.

(3) الكافي 3: 29/ 9؛ الفقيه 1: 30/ 99؛ التهذيب 1: 360/ 1086.

101
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

الرابع مسح بشرة مقدم الرأس ؛ ج‌1، ص : 102

لعدم اللّبس؛ للإجماع على عدم وجوب غَسل جميع العضد في حالٍ، و هو أولى من حمله على الاستحباب؛ لأنّه خبر معناه الأمر، و هو حقيقة في الوجوب.

و أوضح دلالةً ما روي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في الأقطع اليد أو الرّجْل كيف يتوضّأ؟ قال‌

يغسل ذلك المكان الذي قطع منه. «1»

و كذا القول فيما لو قُطعت رِجْله من الكعب، و قد ذُكر أيضاً في هذه الرواية.

و لو قُطعت اليد من فوق المرفق أو الرّجْل من فوق الكعب، لم يجب الغسل و لا المسح إجماعاً.

و هل يستحبّ مسح باقي العضد؟ أثبته جماعة، منهم: المصنّف و الشهيد «2» رحمهما اللّه؛ استناداً إلى الرواية السابقة عن الكاظم عليه السّلام، مع أنّها إنّما وردت في القطع من المرفق. و على ما ذكرناه من توجيهها يسقط الاحتجاج بها رأساً.

و أمّا الرّجْل فلا نصّ معتبر على مسح ما خرج عن محلّ الفرض، غير أنّ الصدوق- رحمه اللّه- لمّا روى عن الكاظم عليه السّلام ما تقدّم قال: و كذلك روي في أقطع الرِّجْلين. «3» و مثل هذا لا يصلح للاحتجاج.

[الرابع مسح بشرة مقدّم الرأس]

(و) يجب (مسح بشرة مقدّم الرأس) دون وسطه أو خلفه أو أحد جانبيه؛ لأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله مسح في الوضوء البيانيّ بناصيته. «4» و عليه إجماع الإماميّة (أو شعره) أي: شعر المقدّم (المختصّ به) فلا يجزئ المسح على شعر غير المقدّم و إن كان موضوعاً عليه، و لا على شعره غير المختصّ به، كالطويل بحيث لو استرسل لخرج عن حدّ المقدّم.

و المراد بالممنوع منه هنا الجزء الخارج بمدّه عن حدّه دون أصله و ما يتّصل به ممّا لا يخرج به عنه.

و قوله (بأقلّ اسمه) أي: يجب المسح المذكور بأقلّ اسم المسح، و هو إجراء جزء من الإصبع على المحلّ الممسوح.

و تخصيص الإصبع في كلامهم بناءً على أنّ أقلّ ما يمسح به المكلّف بحسب الواقع‌

______________________________
(1) التهذيب 1: 359/ 1078.

(2) مختلف الشيعة 1: 120، المسألة 73؛ منتهى المطلب 2: 37- 38؛ نهاية الإحكام 1: 38؛ الذكرى 2: 133- 134.

(3) الفقيه 1: 30/ 99.

(4) صحيح مسلم 1: 230/ 81؛ سنن أبي داود 1: 38/ 150؛ سنن البيهقي 1: 100/ 280.

102
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

الرابع مسح بشرة مقدم الرأس ؛ ج‌1، ص : 102

إذا قلّل هو الإصبع، فكأنّها آلة للمسح لا ملحوظة بالتقدير.

و هذا هو اختيار جماعة «1» من المتأخّرين.

و أوجب المرتضى- رضي اللّه عنه- في مسائل الخلاف و ابن بابويه- رحمه اللّه- ثلاث أصابع مضمومة. «2» و تبعهما الشيخ- رحمه اللّه- في النهاية. «3»

و إنّما أجزأ ذلك كلّه؛ لمكان الباء في قوله تعالى بِرُؤُسِكُمْ. «4»

أمّا عندنا فظاهر؛ للنصّ عليه في خبر زرارة، قال: قلت لأبي جعفر عليه السّلام: أ لا تخبرني من أين علمت و قلت: إنّ المسح ببعض الرأس و بعض الرِّجْلين؟ فضحك، ثمّ قال‌

يا زرارة قاله رسول اللّهُ صلّى اللّه عليه و آله، و نزل به الكتاب من اللّه عزّ و جلّ يقول فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ فعلمنا أنّ الوجه كلّه ينبغي أن يغسل، ثمّ قال وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرٰافِقِ ثمّ فصل بين الكلام فقال وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ فعرفنا حين قال بِرُؤُسِكُمْ أنّ المسح ببعض الرأس؛ لمكان الباء، ثمّ وصل الرِّجْلين بالرأس كما وصل اليدين بالوجه، فقال وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ فعرفنا حين وصلها بالرأس أنّ المسح على بعضها. «5»

و إنّما نقلتُ الحديث بأسره؛ لكثرة الاختلاف في هذه الباء بين الأُصوليّين، و حيث هي منصوصة عندنا عن أئمّة الهدى فلا يلتفت حينئذٍ إلى مَنْ مَنَع من ذلك من الأُصوليّين، و لا إلى إنكار سيبويه «6» إفادتها التبعيض في سبعة عشر موضعاً من كتابه، و تبعه على ذلك ابن جنّي «7»، مع أنّها شهادة على النفي، و معارضة بإقرار الأصمعي و أبي علي الفارسي و ابن كيسان و القتيبي «8» و ابن مالك من المتأخّرين، «9» و أكثر عليها من الآيات الإلهية و الشواهد الشعريّة، كقوله تعالى يَشْرَبُ بِهٰا عِبٰادُ اللّٰهِ. «10»

______________________________
(1) منهم: ابن إدريس في السرائر 1: 101؛ و المحقّق الحلّي في المعتبر 1: 144؛ و الفاضل الآبي في كشف الرموز 1: 66.

(2) الفقيه 1: 28؛ و حكاه عنهما المحقّق الحلّي في المعتبر 1: 145.

(3) النهاية: 14.

(4) المائدة (5): 6.

(5) الكافي 3: 30/ 4؛ الفقيه 1: 56/ 212؛ علل الشرائع 1: 324/ 1، الباب 190؛ التهذيب 1: 61/ 168؛ الاستبصار 1: 62- 63/ 186.

(6) انظر على سبيل المثال: الكتاب 4: 217.

(7) كما في الذكرى 2: 136.

(8) في مغني اللبيب: القتبيّ.

(9) مغني اللبيب 1: 142؛ الذكرى 2: 136.

(10) الإنسان (76): 6.

103
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

الرابع مسح بشرة مقدم الرأس ؛ ج‌1، ص : 102

و قول الشاعر:

شربن بماء البحر ثمّ ترفّعت «1»

و قوله:

شرب النزيف ببرد ماء الحشرج «2»

و نُقل عن جميع الكوفيّين. «3» و حُمل النفي المتقدّم على أنّه عن أهل بلد النافي لا غير، كما صرّح به ابن جنّي. «4»

و لما ذكره محقّقو الأُصول من أنّها إذا دخلت على المتعدّي بنفسه، أفادت التبعيض، و إلا لزم عدم فائدتها، و للفرق بين‌

مسحت المنديل

و‌

مسحت بالمنديل.

و هذه الحجّة قرّرها المصنّف أيضاً في كتب الأُصول، «5» لكن مع ثبوت النصّ عندنا لا يحتاج إلى ذلك.

و أمّا عند غيرنا ممّن لم يوجب استيعاب الرأس بالمسح: فلما نقلناه عن أهل العربيّة و الأُصول.

و يدلّ على عدم وجوب الثلاث: قول الباقر عليه السّلام في حديث الأخوين‌

«6» إذا مسحت بشي‌ءٍ من رأسك أو بشي‌ءٍ من قدميك ما بين كعبيك إلى أطراف الأصابع فقد أجزأك

«7» فالشي‌ء كما يتناول أقلّ من الثلاث يتناول أيضاً ما هو أقلّ من قدر الإصبع عَرضاً، و هو معنى أقلّ الاسم كما قلنا.

إذا تقرّر ذلك، فإن اقتصر المكلّف على الأقلّ، فهو الواجب. و إن زاد عليه، فلا ريب‌

______________________________
(1) صدر بيت لأبي ذؤيب الهذلي، و عجزه:

متى لجج خضر لهنّ نئيج

الخصائص- لابن جني- 2: 85؛ شرح ابن عقيل 2: 6.

(2) عجز بيت، و صدره:

فلَثَمْتُ فاها آخذاً بقرونها

و الحشرج: كوز صغير لطيف. تهذيب اللغة- للأزهري- 5: 310؛ لسان العرب 2: 237، «ح ش ر ج».

(3) كما في مغني اللبيب 1: 105؛ و الذكرى 2: 136.

(4) كما في الذكرى 2: 136.

(5) منها: نهاية الوصول، المقصد الثاني: في اللغات، الفصل الثامن: في تفسير حروف، البحث الثالث: في باقي الحروف، المسألة الرابعة: الباء للإلصاق و الاستعانة.

(6) هما: زرارة و بكير ابنا أعين.

(7) التهذيب 1: 90/ 237؛ الإستبصار 1: 61/ 182.

104
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

الرابع مسح بشرة مقدم الرأس ؛ ج‌1، ص : 102

في استحبابه عيناً، لكن هل يوصف مع ذلك بالوجوب تخييراً أم لا؟ الذي يظهر من المصنّف- رحمه اللّه- هنا و صرّح به في الأُصول «1» عدم الوصف بالوجوب محتجّاً بأنّه «2» يجوز تركه لا إلى بدلٍ، و لا شي‌ء من الواجب كذلك، فلا شي‌ء من الزائد بواجبٍ. و بأنّ الكلّي قد وُجد فخرج المكلّف به عن العهدة، فلم يكن شي‌ء مطلوب منه حتماً حتى يوصف بالوجوب.

و فيه نظر؛ إذ لا مانع من إلحاقه بالواجبات الكلّيّة، كأفراد الواجب المخيّر.

و الاستدلال بجواز تركه إن أراد به مطلق الواجب، مُنعت الصغرى؛ لجواز ترك بعض أفراد الواجب المخيّر مع الإتيان بالفرد الآخر، و ظاهر إطلاق اسم الواجب على كلّ واحد منها أو فرداً خاصّاً لم يستلزم المدّعى؛ لعدم كلّيّة الكبرى.

و قد وقع مثل ذلك في التخيير بين القصر و التمام في أماكن التخيير عندنا، و مطلقاً عند غيرنا؛ فإنّ الركعتين الأخيرتين من هذا القبيل، و لا امتناع في أن يكون الشي‌ء مطلوباً وجوباً على وجهين أحدهما أكمل من الآخر، كمثال القصر «3» و التمام. و من هذا الباب تكرار التسبيحات الأربع في الأخيرتين، و تكرار التسبيح في الركوع و السجود و نحوها.

و استقرب شيخنا الشهيد- رحمه اللّه- استحباب الزائد عن أقلّ الواجب، محتجّاً بجواز تركه، كما مرّ. قال في الذكرى: هذا إذا أوقعه دفعةً، و لو أوقعه تدريجاً، فالزائد مستحبّ قطعاً. «4»

و هذا التفصيل حسن؛ لأنّه مع التدريج يتأدّى الوجوب بمسح جزء، فيحتاج إيجاب الباقي إلى دليلٍ، و الأصل يقتضي عدم الوجوب، بخلاف ما لو مسحه «5» دفعةً؛ إذ لم يتحقّق فعل الفرد الواجب إلا بالجميع.

و اعلم أنّ الخلاف المتقدّم في تقدير المسح إنّما هو في الرأس، أمّا في الرِّجْلين: فقال المحقّق في المعتبر: يكفي المسح من رؤوس الأصابع إلى الكعبين و لو بإصبع واحدة، و هو‌

______________________________
(1) نهاية الوصول، المقصد الرابع: في الأمر و النهي، الفصل الخامس: في أحكام الوجوب، البحث الأوّل: فيما يتوقّف عليه الواجب، الفرع السادس.

(2) أي: بأنّ الزائد على الواجب.

(3) في «م»: «كما في القصر» بدل «كمثال القصر».

(4) الذكرى 2: 142.

(5) في «م»: «مسح».

105
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

الرابع مسح بشرة مقدم الرأس ؛ ج‌1، ص : 102

إجماع فقهاء أهل البيت عليهم السّلام «1». فافهم ذلك، فإنّ الإجماع المنقول بخبر الواحد حجّة، مع أنّه لم يدّع خلاف ذلك.

(و لا يجزئ الغَسل عنه) أي: عن المسح؛ لأنّهما حقيقتان مختلفتان لا تدخل إحداهما تحت الأمر بالأُخرى، و لتحريم الماء الجديد، و للخبر. «2»

و هل اختلاف حقيقتي الغَسل و المسح على وجه العموم و الخصوص من وجه أم على وجه التباين بحيث لا تجتمعان في مادّة؟

يحتمل الأوّل؛ لأنّ المراد بالغَسل إجراء الماء على العضو، و بالمسح إمرار اليد عليه مع وجود بلل الوضوء عليها، و هو أعمّ من كونه مع ذلك جارياً على العضو و عدمه، و حينئذٍ فيصدق الغَسل بدون المسح في إجراء الماء على العضو من دون إمرار اليد، و المسح بدونه مع إمرارها ببلل غير جارٍ، و يجتمعان في إمرارها ببللٍ يجري على العضو.

و يحتمل الثاني؛ لدلالة الآية و الأخبار على اختصاص أعضاء الغَسل به و أعضاء المسح به، و التفصيل قاطع للشركة، فلو أمكن اجتماعهما في مادّة، أمكن غَسل الممسوح، فيتحقّق الاشتراك.

و لأنّ المصنّف نقل في التذكرة الإجماع على أنّ الغَسل لا يجزئ عن المسح. «3» و لا شكّ أنّ الماء الجاري على العضو على ذلك الوجه غَسل، فلا يجزئ إجماعاً، و لا اعتبار بعدم نيّة الغسل به؛ لأنّ الاسم تابع للحقيقة لا للنيّة.

و تظهر الفائدة فيما لو مسح على العضو الممسوح ببللٍ كثير بحيث جرى عليه، فعلى الأوّل يجزي دون الثاني.

و ممّن صرّح بالإجزاء الشهيدُ- رحمه اللّه- في الذكرى، قال فيها: و لا يقدح قصد إكثار الماء لأجل المسح؛ لأنّه من بلل الوضوء. و كذا لو مسح بماء جارٍ على العضو و إن أفرط الجريان؛ لصدق الامتثال. و لأنّ الغسل غير مقصود. «4»

و في تحقّق الامتثال ما مرّ من المنع. و عدم قصد الغَسل مع وجوده لا يُخرجه عن كونه‌

______________________________
(1) المعتبر 1: 150.

(2) الكافي 3: 31/ 9؛ علل الشرائع 1: 336/ 2، الباب 212؛ التهذيب 1: 65/ 184؛ الاستبصار 1: 64/ 191.

(3) تذكرة الفقهاء 1: 168، المسألة 50.

(4) الذكرى 2: 143.

106
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

الخامس مسح بشرة الرجلين ؛ ج‌1، ص : 107

غَسلًا، فالمتّجه حينئذٍ عدم الإجزاء.

(و يستحبّ المسح مُقبِلًا) تفصّياً من الخلاف، فيحصل القطع برفع الحدث معه، و ليس بواجب على الأصحّ، خلافاً للأكثر «1»؛ لإطلاق الآية «2» و الأخبار.

و لصحيحة حمّاد بن عثمان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال‌

لا بأس بمسح الوضوء مُقبلًا و مُدبراً. «3»

و ما تقدّم من الاستدلال بالوضوء البياني من أنّه إن كان عليه السّلام مسح رأسه منكوساً، تعيّن ذلك، لكنّ الإجماع على خلافه، بل غايته الجواز، فدلّ على مسحه مُقبِلًا فيجب، يندفع هنا بدليلٍ خارجي، و هو الخبر المتقدّم. و حاصله: أنّه حجّة فيما لا يثبت خلافه؛ لاشتماله على مقطوعٍ بعدم وجوبه.

و العجب! أنّ المرتضى- رحمه اللّه- مَنَع من استقبال الشعر هنا مع تجويزه الاستقبال في الوجه و اليدين؛ محتجّاً هنا بتوقّف القطع برفع الحدث عليه. «4»

(و لا يجوز) المسح (على حائلٍ، كعمامة و غيرها) و لو حنّاء- و ما ورد من نفي البأس عنه «5» محمول على أثره، و هو اللون- لإفادة الباء في الآية «6» الإلصاقَ مع التبعيض؛ إذ لا منافاة، فلا يخرج عن العهدة بدونه.

و لقول الصادق عليه السّلام حين سُئل عن رجل يتوضّأ و ثقل عليه نزع العمامة، قال‌

يدخل إصبعه. «7»

[الخامس مسح بشرة الرِّجْلين]

(و) يجب (مسح بشرة الرِّجْلين) بإجماعنا، و تواتر الأخبار به عن أئمّتنا عليهم السّلام و روى عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من طريق العامّة في جملة أخبار. «8»

______________________________
(1) كما في الذكرى 2: 138؛ و منهم: الشيخ الصدوق في الفقيه 1: 28؛ و الشيخ الطوسي في الخلاف 1: 83، المسألة 31؛ و النهاية: 14؛ و ابن حمزة في الوسيلة: 50.

(2) المائدة (5): 6.

(3) التهذيب 1: 58/ 161؛ الاستبصار 1: 57/ 169.

(4) الانتصار: 99 و 103، المسألتان 9 و 11؛ و كما في الذكرى 2: 138.

(5) التهذيب 1: 359/ 1079 و 1081 و الاستبصار 1: 75/ 232 و 233.

(6) المائدة (5): 6.

(7) الكافي 3: 30/ 3؛ التهذيب 1: 90/ 239؛ الاستبصار 1: 61- 62/ 183.

(8) سنن أبي داود 1: 41/ 160؛ سنن البيهقي 1: 429/ 1360.

107
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

الخامس مسح بشرة الرجلين ؛ ج‌1، ص : 107

و لقوله تعالى وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ «1» بالجرّ عطفاً على الرؤوس لفظاً، أو بالنصب على المحلّ؛ لأنّ الرؤوس في محلّ نصب بامسحوا و هو أولى من عطف الأرجل على تقدير النصب على الأيدي؛ للقرب، و الفصل، و الإيهام المخلّ بالفصاحة من الانتقال من جملةٍ إلى أُخرى قبل إكمالها، كقولك‌

ضربت زيداً و عمرواً، و أكرمت خالداً و بكراً

و يجعل بكراً معطوفاً على زيد و عمرو المضروبين.

و حَملُ الجرّ في الأرجل على المجاورة للمجرور- كقوله تعالى عَذٰابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ «2»+ و قراءة حمزة وَ حُور عين «3» إذ ليس معطوفاً على لَحْمِ طَيْرٍ «4» لعدم كون الحور معطوفاً بهنّ- ضعيف؛ لإنكار أكثر أهل العربيّة الجرّ بالمجاورة، فيضعف جدّاً إن لم يمنع، و لا يليق بكتاب اللّه عزّ و جلّ، مع أنّه مشروط عند مجوّزة بعدم الالتباس و عدم العطف، و هُما مفقودان هنا.

و ما ورد ممّا يوهم خلاف الشرطين مقرّر على وجه يدفع التوهّم، و جرّ أليم لا يلبسه بيوم و حور عين مجرور عطفاً على جنات «5» أي: المقرّبون في جنّاتٍ و مصاحبة حور عين؛ لمنع الجوار مع العطف بالواو.

و اعلم أنّه يستفاد من قوله‌

بشرة الرِّجلين

مع قوله في الرأس كذلك أو شعره المختصّ: أنّه لا يجزئ المسح على الشعر في الرِّجْلين، بل يتحتّم البشرة، و الأمر فيه كذلك.

(بأقلّ اسمه) كما تقدّم في مسح الرأس؛ لعطف الأرجل على الرؤوس، فشاركه في الحكم، إلا أنّه لا خلاف هنا في إجزاء المسمّى، كما ذكره المحقّق- رحمه اللّه- في المعتبر. «6»

و حدّه (من رؤوس الأصابع إلى الكعبين) و لا بدّ من إدخال جزء من الحدّين؛ لعدم المفصل المحسوس، كنظائره.

(و هُما) أي: الكعبان (مجمع القدم و أصل الساق) على المختار عند المصنّف رحمه اللّه-

______________________________
(1) المائدة (5): 6.

(2) هود (11): 26.

(3) الواقعة (56): 22.

(4) الواقعة (56): 21.

(5) الواقعة (56): 12.

(6) المعتبر 1: 150.

108
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

الخامس مسح بشرة الرجلين ؛ ج‌1، ص : 107

و تبعه الشهيد- رحمه اللّه- في الألفيّة، «1» و المقدادُ في الكنز، «2» مع أنّ الشهيد رحمه اللّه في الذكرى ادّعى إجماعنا و كثير ممن خالفنا- كسائر الحنفيّة و بعض الشافعيّة على أنّهما قبّتا القدم عند معقد الشراك. «3»

و لاشتقاقه من قولهم: كعب: إذا ارتفع. و منه: كعب ثدي الجارية: إذا علا.

قال:

قد كعب الثدي على نحرها

في مُشرق ذي صَبَح نائِر «4»

فهو بالاشتقاق أنسب.

و كذلك المحقّق في المعتبر «5» ادّعى أيضاً إجماع فقهاء أهل البيت عليهم السّلام على ذلك، و قَبله الشيخ- رحمه اللّه- في التهذيب. «6»

و للنقل المتواتر عن أهل البيت عليهم السّلام، كما روي عن أبي جعفر عليه السّلام أنّه وصف الكعب في ظهر القدم. «7»

و عنه عليه السّلام في وصف وضوء رسول اللّهُ صلّى اللّه عليه و آله‌

ثمّ وضع يده على ظهر القدم ثمّ قال: هذا هو الكعب. قال: و أومأ بيده إلى أسفل العُرقُوب و قال: هذا هو الظنبوب. «8»

«9» و لا ريب أنّ الكعب الذي يدّعيه المصنّف ليس في ظهر القدم، و إنّما هو المفصل بين الساق و القدم، و المفصل بين شيئين يمتنع كونه في أحدهما.

و احتجّ المصنّف على مذهبه بما رواه زرارة و بكير ابنا أعين عن أبي جعفر عليه السّلام حيث سألاه عن الكعبين، فقال: «ها هنا» يعني المفصل دون عظم الساق. «10»

______________________________
(1) الألفيّة: 44.

(2) كنز العرفان 1: 18.

(3) الذكرى 2: 149.

(4) البيت ورد في الذكرى 2: 149 كما في المتن؛ و في ديوان الأعشى: 189 هكذا:

قد نهد الثدي على صدرها

(5) المعتبر 1: 151.

(6) التهذيب 1: 75.

(7) الكافي 3: 26- 27/ 7؛ التهذيب 1: 75/ 189؛ الاستبصار 1: 69/ 210.

(8) الظنبوب: العظم اليابس من قدم الساق. الصحاح 1: 175، «ظ ن ب».

(9) التهذيب 1: 75/ 190.

(10) الكافي 3: 25- 26/ 5؛ التهذيب 1: 76/ 191.

109
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

الخامس مسح بشرة الرجلين ؛ ج‌1، ص : 107

و بما تقدّم من وصف الباقر عليه السّلام لوضوء رسول اللّهُ صلّى اللّه عليه و آله، إلى أن قال‌

و مسح على مقدّم رأسه و ظهر قدميه «1»

و هو يعطي استيعاب المسح لجميع ظهر القدم.

و بأنّه أقرب إلى ما حدّده أهل اللغة. «2»

و أنت خبير بعدم دلالة الحديث الثاني، و قد تقرّر.

و أمّا حديث الأخوين: فهو و إن لم يناف مدّعاه لا ينافي مدّعى الجماعة أيضاً، فيجب حمله على ما يوافق الحديثين المتقدّمين؛ جمعاً بين الأخبار، و موافقةً للإجماع، مع أنّ الشهيد- رحمه اللّه- جَعَله أوّل الأدلّة النقليّة على قول جماعة الأصحاب. «3»

و أمّا استدلاله بقربه إلى ما حدّده أهل اللغة: فقد أجاب عنه في الذكرى بأنّه إن أراد بأهل اللغة لغويّة العامّة، فهُم مختلفون. و إن أراد لغويّة الخاصّة، فهُم متّفقون على ما قرّرناه أوّلًا حتى أنّ العلامة اللغوي عميد الرؤساء صنّف في الكعب كتاباً مفرداً، و أكثر فيه من الشواهد على أنّه قبّة القدم. «4»

و الظاهر أنّ تفسير الشهيد- رحمه اللّه- له في الألفيّة بأنّه ملتقى الساق و القدم «5» على سبيل الاحتياط لا الوجوب، كما ذكره في البيان «6»؛ لكثرة تشنيعه على الفاضل في القول بذلك حتى ألزمه خرق إجماع الكلّ و إحداث قولٍ ثالث مستلزم رفعَ ما أجمع عليه الأُمّة؛ لأنّ الخاصّة على ما ذُكر، و العامّة على أنّ الكعب ما نتأ عن يمين الرّجْل و شمالها. «7»- «8»

و العجب من المصنّف حيث قال في المختلف: إنّ في عبارة أصحابنا اشتباهاً على غير المحصّل «9»؛ مشيراً إلى أنّ المحصّل لا يشتبه عليه أنّ مرادهم بالكعب المفصل بين الساق و القدم، و أنّ مَنْ لم يفهم ذلك من كلامهم لا يكون محصّلًا. ثمّ حكى كلام جماعة منهم، و الحال أنّ المحصّل لو حاول فهم ذلك من كلامهم، لم يجد إليه سبيلًا و لم يقم عليه دليلًا.

______________________________
(1) الكافي 3: 25/ 4؛ الفقيه 1: 24/ 74.

(2) مختلف الشيعة 1: 125- 126، المسألة 78.

(3) انظر: الذكرى 2: 150.

(4) الذكرى 2: 149- 151.

(5) الألفيّة: 44.

(6) البيان: 48.

(7) في «ق، م» و الطبعة الحجريّة: «شماله». و الأنسب ما أثبتناه.

(8) الذكرى 2: 151.

(9) مختلف الشيعة 1: 125، المسألة 78.

110
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

الخامس مسح بشرة الرجلين ؛ ج‌1، ص : 107

و كأنّه تعرّض في ذلك لشيخه أبي القاسم حيث ادّعى إجماع علماء أهل البيت عليهم السّلام على خلاف مدّعاه، كما تقدّم «1» النقل عنه، و اللّه أعلم بحقيقة الحال.

(و يجوز) المسح على الرِّجْلين (منكوساً) بأن يبتدئ بالكعب و يختم بالأصابع (كالرأس)؛ لرواية حمّاد- المتقدّمة- «2» عن أبي عبد اللّه عليه السّلام‌

لا بأس بالمسح في الوضوء مُقبِلًا و مُدبراً

و هو شامل بإطلاقه للجميع. و في عبارة أُخرى له عنه عليه السّلام‌

لا بأس بمسح القدمين مُقبلًا و مُدبراً «3»

و غير ذلك من الأخبار، و هي مخصّصة أيضاً لدليل الوضوء البياني، كما تقدّم.

و الكلام في إلى في الآية «4» هنا كما مرّ في احتمال المعيّة و الغاية، فعلى الأوّل لا دلالة فيها على الابتداء، و كذا على الثاني إذا جُعلت الغاية للممسوح.

و أوجب جماعة «5» الابتداء برؤوس الأصابع، و وافقهم المرتضى «6» هنا- مع مخالفته في غَسل الوجه و اليدين- جَعلًا لإلى على بابها من الانتهاء، و أرادوا به انتهاء المسح. و لأنّ في وصف الباقر عليه السّلام وضوء رسول اللّهُ صلّى اللّه عليه و آله‌

مسح قدميه إلى الكعبين «7»

و لأنّ الوضوء البياني لم ينكس فيه، و إلا لما أجزأ خلافه مع جوازه إجماعاً، و التقريب ما تقدّم. و لا ريب أنّه أولى و أحوط لتحقّق الخروج عن العهدة بفعله.

(و لا يجوز) المسح (على حائلٍ، كخُفّ و غيره اختياراً) إجماعاً منّا؛ لعدم مسمّى الرّجْل فيه. و لإفادة الباء المقدّرة في المعطوف الإلصاقَ. و لعدم المسح في الوضوء البياني- المحكوم بأنّه لا تقبل الصلاة إلا به- على حائلٍ بين البشرة و بينه من خُفّ و غيره إجماعاً.

و قد روي عن عليّ عليه السّلام‌

ما أُبالي أمسح على الخُفين أو على ظهر عير بالفلاة «8»

بالعين المهملة ثمّ الياء المثنّاة من تحت، ثمّ الراء المهملة، و هو الحمار. و مثله عن أبي هريرة و عائشة. «9»

______________________________
(1) تقدّم في ص 109.

(2) تقدّمت في ص 107.

(3) التهذيب 1: 83/ 217.

(4) المائدة (5): 6.

(5) منهم: الشيخ الصدوق في الفقيه 1: 28؛ و ابن إدريس في السرائر 1: 99.

(6) الانتصار: 115، المسألة 16.

(7) التهذيب 1: 56/ 158؛ الإستبصار 1: 57/ 168.

(8) أورده المحقّق الحلّي في المعتبر 1: 153.

(9) المصنّف- لابن أبي شيبة- 1: 213- 214/ 9؛ الفقيه 1: 30/ 97؛ أمالي الصدوق: 515؛ و كما في المعتبر 1: 153.

111
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

الخامس مسح بشرة الرجلين ؛ ج‌1، ص : 107

و عنها عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال‌

أشدّ الناس حسرةً يوم القيامة مَنْ رأى وضوءه على جلد غيره. «1»

و عنها: لأن تقطع رِجْلاي بالمواسي أحبّ إليّ من أن أمسح على الخُفّين. «2»

و إنكار هؤلاء يدلّ على عدم فعل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إيّاه.

و أمّا الروايات عن أهل البيت عليهم السّلام في ذلك فكثيرة غنيّة عن الإيراد هنا.

(و يجوز) ذلك (للتقيّة و الضرورة) كالبرد. و لا يختصّ بكيفيّة عندهم، كاللّبس على طهارةٍ، و لا كمّيّة، كاليوم و الليلة للحاضر، و الثلاثة للمسافر.

و لا يبطل الوضوء بزوال التقيّة و الضرورة ما لم يحدث على الأصحّ؛ لأنّها طهارة شرعيّة، و لم يثبت كون ذلك ناقضاً. و يحتمله؛ لزوال المشروط بزوال شرطه. و قرّبه المصنّف- رحمه اللّه- في التذكرة، «3» و توقّف في غيرها. «4»

و لا يشترط في جواز ذلك و نحوه للتقيّة عدم المندوحة، و هو يؤيّد بقاء الطهارة مع زوال سبب التقيّة.

و لو تأدّت التقيّة بأحد الأمرين: إمّا المسح على الخُفّ أو غَسل الرِّجْلين، تعيّن الغَسل؛ لأنّه أقرب إلى المفروض بالأصل.

(و لو غسل) رِجْليه (مختاراً، بطل وضوؤه) لاختلاف الحقيقة، و مخالفة الأمر، و للإجماع. و احترز بالاختيار عن التقية، فيجوز الغَسل لها. و لا يجب الاستيعاب حينئذٍ، بل لو تأدّت بغَسل موضع المسح خاصّةً، أجزأ.

و لو انعكس الحكم بأن مسح في موضع التقيّة، بطل وضوؤه أيضاً؛ للنهي المقتضي للفساد في العبادة، مع احتمال الصحّة؛ لأنّ النهي لوصفٍ خارج.

و اعلم إنّ الحالة الموجبة للتقيّة أن يحصل للمكلّف العلم أو الظنّ بنزول الضرر بتركها به أو ببعض المؤمنين قريباً أو بعيداً، سواء كان ذلك في واجبٍ عندهم أم مستحبّ أم مباح.

و لو لم يخف ضرراً عاجلًا و يتوهّم ضرراً آجلًا أو ضرراً سهلًا، استحبّت. و كذا‌

______________________________
(1) الفقيه 1: 30/ 96؛ أمالي الصدوق: 515.

(2) المعتبر 1: 153، المصنّف- لابن أبي شيبة- 1: 213/ 1 و 214/ 10.

(3) تذكرة الفقهاء 1: 174، الفرع «ب».

(4) قواعد الأحكام 1: 11؛ نهاية الإحكام 1: 45.

112
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

الخامس مسح بشرة الرجلين ؛ ج‌1، ص : 107

لو كانت التقيّة في المستحبّ، كغَسل الوجه باليدين معاً حيث لا ضرر معلوماً و لا مظنوناً، و لا يبطل الفعل بتركها هنا قطعاً.

و قد تكره، كالتقيّة في المستحبّ حيث لا ضرر عاجلًا و لا آجلًا مع خوف الالتباس على عوام المذهب.

و قد تحرم حيث يتحقّق الأمن من الضرر بفعل الواجب عاجلًا و آجلًا. و لا يتصوّر إباحتها في العبادة و إن أمكنت في الجملة، كالتقيّة في بعض المباحات التي ترجّحها العامّة و لا يحصل بتركها ضرر، فهي إذَن منقسمة بانقسام الأحكام الخمسة، و لا اختصاص لها بهذا الباب و إن أمكن فرض الأربعة فيه.

(و يجب مسح الرأس و الرّجْلين ببقيّة نداوة الوضوء) لوصف وضوء رسول اللّهُ صلّى اللّه عليه و آله، و فيه‌

ثمّ مسح ببقيّة ما بقي في يده رأسه و رِجْليه «1»

و غيره من الأخبار.

و هذا الحكم قد استقرّ عليه إجماعنا بعد ابن الجنيد مع أنّه لم يُجوّز الاستئناف مطلقاً، بل مع جفاف أعضاء الوضوء أو مع غَسل الأعضاء مرّتين مرّتين. «2» مع أنّ الحكم الأوّل يأتي عندنا على بعض الوجوه، كشدّة الحرّ و قلّة الماء.

(فإن استأنف ماءً جديداً، بطل وضوؤه) لعدم مماثلته للوضوء المحكوم عليه بأنّه لا تُقبل الصلاة إلا به.

(فإن جفّ) البلل عن يديه (أخذ من لحيته و أشفار عينيه) و حاجبيه (و مسح به).

و يجوز الأخذ من هذه المواضع و غيرها من غير جفاف؛ لاشتراك الجميع في كونه بلل الوضوء، و لا يصدق عليه الاستئناف.

و لإطلاق قول الصادق عليه السّلام فيما رواه مالك بن أعين عنه عليه السّلام‌

مَنْ نسي مسح رأسه ثمّ ذكر أنّه لم يمسح رأسه فإن كان في لحيته بلل فليأخذ منه و ليمسح به «3»

فجوّز عليه السّلام الأخذ من اللّحية من غير تقييدٍ بجفاف اليد.

(فإن جفّ) جميع ذلك أو لم يمكن أن ينفصل عنه ما يتحقّق به المسح (بطل) الوضوء إلّا مع الضرورة، كإفراط الحرّ و قلّة الماء، فيجوز حينئذٍ استئناف الماء، لكن لو أمكن إبقاء جزء‌

______________________________
(1) الكافي 3: 12/ 1؛ التهذيب 1: 55- 56/ 157؛ الاستبصار 1: 58/ 171.

(2) حكاه عنه المحقّق في المعتبر 1: 147؛ و الشهيد في الذكرى 2: 138- 139.

(3) التهذيب 2: 201/ 788.

113
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

السادس الترتيب ؛ ج‌1، ص : 114

من اليد اليسرى ثمّ الصبّ عليه أو غمسه في الماء و تعجيل المسح به، وجب مقدّماً على الاستئناف.

[السادس الترتيب]

(و يجب) في الوضوء (الترتيب) بين الأعضاء المغسولة و الممسوحة (يبدأ بغَسل الوجه ثمّ باليد اليمنى ثمّ باليسرى ثمّ بمسح الرأس ثمّ بالرّجْلين) عند علمائنا أجمع؛ لترتيب الوضوء البياني. و لأنّ الفاء في فَاغْسِلُوا «1» تفيد الترتيب بين إرادة القيام و بين غَسل الوجه، فتجب البدأة بغَسل الوجه، و كلّ مَنْ قال بوجوب البدأة به قال بالترتيب بين باقي الأعضاء؛ لأنّ أبا حنيفة و مالكاً لا يريان الترتيب فيه و لا في غيره، بل يُجوّزان تأخيره عن الجميع «2»، و صوره مع النكس عندهما سبعمائة و عشرون كلّها مجزئة، و عندنا لا تجزئ منها إلا واحدة.

و الروايات عندنا على وجوبه و توقّف صحّة الوضوء عليه متظافرة.

و المعتبر في الترتيب تقديم المقدّم لا عدم تأخيره، فلا تجزئ المعيّة، بل يحصّل الوجه دخولًا و اليمنى خروجاً. فإن أعادها فاليسرى. و يجوز المسح بمائها؛ لعدم صدق التجديد عليه. و لو أخرجها مرتّباً، صحّ غَسل الجميع. و لو كان في جارٍ و تعاقبت عليه ثلاث جريات أو في واقفٍ و طال المكث، صح غَسل الوجه و اليدين أيضاً.

(و لا ترتيب) واجب (بينهما) أي: بين الرِّجْلين؛ للأصل. و لقوله تعالى وَ أَرْجُلَكُمْ «3» فيصدق مع الترتيب و عدمه؛ إذ لا دلالة للكلّيّ على الجزئيّ المعيّن.

و أوجبه جماعة «4»؛ لتقريب الدليل في الوضوء البياني، و هو أنّه لو قدّم فيه اليسرى أو مسحهما معاً، تعيّن ذلك، و هو خلاف الإجماع، فتعيّن كون اليمنى فيه مقدّمةً.

و هذا الدليل لا معارض له هنا كما في صورتي نكس المسح، فيعمل عليه. و الآية كما أنّها لا تدلّ عليه لا تنافيه، كجمع الأيدي مع وجوب الترتيب فيها، و هذا هو الأجود.

[السابع الموالاة]

(و تجب) فيه (الموالاة) و لا خلاف عندنا في وجوبها، و لكن اختلف في معناها على‌

______________________________
(1) المائدة (5): 6.

(2) الهداية- للمرغيناني- 1: 13؛ المبسوط- للسرخسي- 1: 55؛ بدائع الصنائع 1: 18 و 21- 22؛ المدوّنة الكبرى 1:

14؛ بداية المجتهد 1: 16- 17.

(3) المائدة (5): 6.

(4) منهم ابن أبي عقيل و ابن الجنيد كما حكاه عنهما العلّامة الحلّي في مختلف الشيعة 1: 130، المسألة 81؛ و الشيخ الصدوق في الفقيه 1: 28 ذيل الحديث 88؛ و سلّار في المراسم: 38.

114
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

السابع الموالاة ؛ ج‌1، ص : 114

ثلاثة أقوال:

أحدها: أنّها مراعاة الجفاف مطلقاً، فمتى أخّر متابعة الأعضاء على وجه لا يحصل معه جفاف فلا إثم عليه و لا إبطال. و هو قول الأكثر، «1» و منهم: الشيخ في الجُمل. «2»

و ثانيها: متابعة الأَعضاء بعضها لبعض بحيث إذا فرغ من عضوٍ شرع في آخَرَ في حال الاختيار، فإن أخلّ بها معه، أثم، و لا يبطل إلا بالجفاف. و مع الضرورة- كفراغ الماء و نحوه لا إثم بالتأخير و لا إبطال ما لم يجف. و هو قول الشيخين «3» في غير الجُمل و المبسوط و المصنّف رحمهم اللّه، و إليه أشار هنا بقوله (و هي) أي: الموالاة (المتابعة اختياراً، فإن أخّر) بعض الأعضاء عن بعض (فجفّ المتقدّم، استأنف) و إلا فلا لكن مع الإثم في حال الاختيار.

و ثالثها: المتابعة مع الاختيار، فمتى أخلّ بها معه، بطل الوضوء، سواء حصل معه جفاف أم لا. و هو قول الشيخ في المبسوط. «4»

و هذا القول أسقطه المصنّف في المختلف، و جَعَل فيها قولين خاصّة، «5» و قد عرفت أنّ الثلاثة للشيخ- رحمه اللّه- وحده فضلًا عمّن شاركه في بعضها.

و ممّن صرّح بالثلاثة المحقّقُ في المعتبر «6» و الشهيد في الذكرى «7» و كذا في حاشيته على القواعد «8» و إن كانت لا تخلو من إجمال.

و استدلّ المصنّف على مذهبه هنا باقتضاء الأمر في قوله تعالى فَاغْسِلُوا «9» إلى آخره الفور؛ لأنّه أحوط. و بقوله تعالى سٰارِعُوا إِلىٰ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ «10»- فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرٰاتِ «11»+

______________________________
(1) منهم: السيّد المرتضى في مسائل الناصريّات: 126، المسألة 33؛ و القاضي ابن البرّاج في المهذّب 1: 45؛ و أبو الصلاح الحلبي في الكافي في الفقه: 133، و ابن إدريس في السرائر 1: 101؛ و المحقّق الحلّي في شرائع الإسلام 1: 14.

(2) الجمل و العقود (ضمن الرسائل العشر): 159.

(3) المقنعة: 47؛ النهاية: 15.

(4) المبسوط 1: 23.

(5) مختلف الشيعة 1: 133، المسألة 82.

(6) المعتبر 1: 157.

(7) الذكرى 2: 164- 169.

(8) الحاشية النجّاريّة، الورقة 12.

(9) المائدة (5): 6.

(10) آل عمران (3): 133.

(11) البقرة (2): 148.

115
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

السابع الموالاة ؛ ج‌1، ص : 114

و بأنّه تعالى أوجب غَسل الوجه و اليدين و المسح عند إرادة القيام إلى الصلاة بلا فصلٍ، و فعلُ الجميع دفعةً متعذّر، فيحمل على الممكن، و هو المتعابعة.

و بما رواه أبو بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال‌

إذا توضّأت بعض وضوئك فعرضت لك حاجة حتى يبس وضوؤك فأعد وضوءك فإنّ الوضوء لا يتبعّض «1»

فحكمه عليه السّلام بأنّ الوضوء لا يتبعّض يصدق مع الجفاف و عدمه.

و بقوله عليه السّلام‌

أتبع وضوءك بعضه بعضا. «2»

و بالوضوء البياني كما تقدّم من أنّه لو لم يتابعه لوجب التفريق، و هو خلاف الإجماع. و بأنّه أحوط. «3»

و في كلّ واحد من هذه الوجوه نظر.

أمّا الأوّل: فلأنّه مخالف لمذهبه في سائر كتبه الأُصوليّة حيث ذهب إلى أنّ الأمر لا يفيد الفور و لا التراخي؛ لاستعماله فيهما، «4» بل هو الظاهر من دليله هنا في قوله: لأنّه أحوط؛ فإنّ البحث ليس فيه، بل في الواجب الذي يحصل الإثم بتركه.

و الاستدلال بآية المسارعة أجاب هو عنها في الكتب الأُصوليّة بأنّ المسارعة إلى المغفرة مجاز؛ إذ المراد ما يقتضيها. و لو سلّم كونها للوجوب و الفور، فلا تدلّ على فوريّة مطلق الأمر؛ لأنّ المسارعة إلى المغفرة بفعل سببها و هو التوبة، و هو واجب فوريّ. «5»

و أمّا الآية الثانية: فنمنع أنّ الأمر فيها للوجوب؛ إذ ليس استباق جميع الخيرات واجباً.

و أمّا قوله: إنّ اللّه سبحانه أوجب غَسل الوجه عقيب إرادة القيام إلى الصلاة بلا فصلٍ بناءً على دلالة الفاء على التعقيب بغير مهلة: فقد أُجيب عنه بأنّ الفاء الدالّة عليه كذلك هي العاطفة، كقولك: جاء زيد فعمرو، و أمّا الداخلة على الجزاء، كقولك: إذا جاء زيد فأكرمه، فقد نصّوا على عدم إفادتها التعقيب. و مع تسليمه يلزم عدم جواز تأخير الطهارة عن أوّل وقت لمن أراد القيام إلى الصلاة في آخر الوقت مثلًا؛ إذ يصدق عليه أنّه مريد القيام‌

______________________________
(1) الكافي 3: 35/ 7؛ علل الشرائع 1: 337/ 2، الباب 214؛ التهذيب 1: 87/ 230، و 98/ 225؛ الاستبصار 1:

72/ 220.

(2) الكافي 3: 34/ 4؛ التهذيب 1: 99/ 259؛ الاستبصار 1: 74/ 228.

(3) مختلف الشيعة 1: 134- 135، المسألة 82.

(4) نهاية الوصول، المقصد الرابع، الفصل الثالث، البحث الخامس.

(5) نهاية الوصول، المقصد الرابع، الفصل الثالث، البحث الخامس.

116
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

السابع الموالاة ؛ ج‌1، ص : 114

إلى الصلاة و لم يقل به أحد.

و أمّا الخبر: فهو بالدلالة على نقيض المدّعى أولى من الدلالة عليه، و قوله فيه‌

إنّ الوضوء لا يتبعّض

تعليل للإعادة، فإن كان المراد به مطلق التفريق، وجب إعادته، و هو لا يقول به، و إن كان المراد غير ذلك، لم يدلّ على مطلوبه.

و الظاهر أنّ المراد بالتبعيض فيه الجفاف، كأنّه يصير بعضه جافّاً- و هو المتقدّم- و بعضه رطباً. و المراد التبعيض على هذا الوجه، و هو مع فرض إهماله حتى يجفّ جميع ما تقدّم، لا مطلق التبعيض.

و أمّا حديث الأمر بالاتباع: فإنّ الظاهر أنّ المراد فيه الترتيب بمعنى إتباع كلّ عضو سابقه بحيث لا يقدّمه عليه؛ لأنّه كان في سياقه، مع أنّ فيه جمعاً بين الأخبار. و لأنّ المتابعة بهذا المعنى لو وجبت، لبطل الوضوء بالإخلال بها؛ لعدم الإتيان بالفعل على الوجه المأمور به. و توهّم كونه واجباً لا شرطاً يندفع بذلك، فيبقى في عهدة التكليف.

و أمّا متابعة الوضوء البياني فمسلّمة، لكن لو وجب مراعاته بهذا المعنى، لوجب علينا المطابقة بين زمان فعلنا و القدر الذي تابع فيه من الزمان، و لم يقل به أحد، فسقطت دلالته.

و لأنّا بيّنّا أنّه إنّما يحتجّ به مع عدم دليلٍ خارجيّ يقتضي تقييد مطلقه، و ليس هنا كذلك؛ للأخبار الدالّة على مراعاة الجفاف، فالأولى العمل بها و اتّباع الأكثر.

و اعلم أنّ المراد بجفاف المتقدّم جفاف جميع الأعضاء المتقدّمة؛ لإطباقهم على الأخذ من اللحية و نحوها للمسح و لا بلل هنا على اليدين.

و قيل: المراد به العضو الذي انتهى إليه الغَسل، فمتى جفّ وجب الإعادة و إن كان البلل باقياً على غيره. «1»

و المعتبر في البللِ الحسّيّ، فلا اعتبار بتقدير الهواء حال كونه مفرط الرطوبة بكونه معتدلًا. و لا بتقييد بعضهم الهواء بالمعتدل ليخرج طرف الإفراط في الحرارة؛ فإنّ زوال البلل حينئذٍ مغتفر، كما تقدّم.

و لا فرق على تقدير الجفاف في البطلان بين العامد و الناسي و الجاهل؛ لإطلاق الأخبار و إن سلم الناسي من الإثم.

______________________________
(1) ابن إدريس في السرائر 1: 101.

117
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

حكم الجبيرة ؛ ج‌1، ص : 118

[حكم الجبيرة]

(و ذو الجبيرة) على عضو كسير من أعضاء الوضوء، و نحوها من الخِرَق المعصوبة على الجرح و القرح (ينزعها) إن أمكن و كانت على محلّ مسح مطلقاً؛ لوجوب إلصاق الماسح بالممسوح.

و إن كانت على عضو مغسول، تخيّر بين أن ينزعها (أو يكرّر الماء) عليها (حتّى يصل) إلى (البشرة) و يجري عليها على الوجه المعتبر في الغَسل مع طهارة العضو تحتها، و إلا اعتبر مع ذلك أن يجري قبله عليها على الوجه المعتبر في التطهير أيضاً.

هذا (إن تمكّن) من النزع أو إيصال الماء على ذلك الوجه (و إلا) هذه الكلمة في هذا التركيب و نظائره هي المركّبة من «إن» الشرطيّة و «لا» النافية، و جملة الشرط محذوفة، أي: و إن لم يتمكّن من ذلك (مسح عليها) أي: على الجبيرة إن كان ظاهرها طاهراً، أو نجساً بعد تطهيره إن أمكن، و إلا وضع عليها شيئاً طاهراً و مسح عليه مستوعباً لها إن كانت على عضو مغسول، و إلا أجزأ مسمّى المسح، كالأصل.

و لا فرق في إجزاء المسح عليها و وجوبه بين أن يمكن إجراء الماء عليها أولا؛ لعدم التعبّد بغَسلها مع تعذّر وصول الماء إلى أصلها، و لا بين أن تستوعب الجبيرة عضواً كاملًا أو الأعضاء كلّها أولا؛ للعموم.

و يمكن استفادة ذلك من إطلاق المصنّف هنا.

و لو لم يكن على الكسر أو الجرح خرقة، فإن أمكن غَسله أو مسحه إذا كان في موضع المسح، وجب كالجبيرة، و إلا غسل ما حوله. و الأحوط مسحه إن أمكن، أو وضع شي‌ء عليه و المسح فوقه مستوعباً أو مبعّضاً، كما مرّ.

و لا يخفى ما في العبارة من الإجمال و القصور عن تحقيق المسألة، المؤدّي إلى الاختلال، و إذا راعيت ما ذكرناه، عرفت مواضع إجمالها و محالّ اختلالها.

[أما المسلوس و المبطون]

(و صاحب السلس) و هو الذي لا يستمسك بوله (يتوضّأ لكلّ صلاة) على أصحّ الأقوال؛ لأنّ الأصل في الحدث الطارئ بعد الطهارة إيجابها، فعُفي عنه في قدر الضرورة، و هو الصلاة الواحدة، فيبقى الباقي على الأصل.

و جَعَله في المبسوط «1» كالاستحاضة بالنسبة إلى الغسل، فكما أنّها تجمع بين الصلاتين‌

______________________________
(1) المبسوط 1: 68.

118
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

أما المسلوس و المبطون ؛ ج‌1، ص : 118

و الصلوات بغُسلٍ واحد في الوقت فكذا هنا يجمع بينهما بوضوءٍ واحد، إلا أنّه جوّز له هنا الجمع مطلقاً. و هو قياس لا يتمّ عنده فضلًا عن غيره.

و جوّز المصنّف في المنتهي له الجمع بين الظهر و العصر خاصّة بوضوءٍ واحد جامعاً بينهما، و كذا المغرب و العشاء كالمستحاضة «1»؛ استناداً إلى ما روي عن الصادق عليه السّلام‌

في الرجل يقطر منه البول إذا كان حين الصلاة اتّخذ كيساً و جعل فيه قطناً ثمّ علّقه عليه و أدخل ذكره فيه ثمّ صلّى يجمع بين الصلاتين الظهر و العصر يؤخّر الظهر و يعجّل العصر، و يؤخّر المغرب و يعجّل العشاء، و يفعل ذلك في الصبح. «2»

و وجه الدلالة: عدم فائدة الجمع مع تجديد الوضوء، و أنّ تخصيص الصلاتين بالذكر يدلّ على نفي ما عداهما.

و فيهما منع؛ إذ لا دلالة فيه على أنّ الجمع بوضوءٍ واحد. و عدم ظهور فائدة الجمع بين الصلاتين مع التجديد لا يدلّ على عدمها و لا على نفي جواز ما عداهما، و فائدة ذكرهما البناء على الغالب بالنسبة إلى الأداء.

و في مقطوع سماعة: سألته عن رجل أخذه تقطير من فرجه إمّا دم أو غيره، قال‌

فليضع خريطةً و ليتوضّأ و ليصلّ فإنّما ذلك بلاء ابتلي به، فلا يعيدنّ إلا من الحدث الذي يتوضّأ منه. «3»

قال الشهيد رحمه اللّه: و هو يشعر بفتوى المبسوط. «4»

و قال بعض «5» المحقّقين: هو دالّ على ذلك. و فيه نظر؛ فإنّ غايته العفو عمّا يتجدّد في أثناء الصلاة لا بعدها؛ لأنّ الخارج إن كان بولًا، كان من الحدث الذي توضّأ منه، فأقلّ ما يدلّ [عليه «6»] إعادة الوضوء للصلاة الأخرى. و إن كان دماً كما ذكر في الرواية فالأمر واضح، و أمره بالوضوء و الصلاة كما يحتمل شموله للمتعدّدة يحتمل الأمر بالوضوء لكلّ صلاة، كما تقدّم.

______________________________
(1) منتهى المطلب 2: 137.

(2) الفقيه 1: 38/ 146؛ التهذيب 1: 348/ 1021.

(3) التهذيب 1: 349/ 1027.

(4) الذكرى 2: 202.

(5) لم نتحقّقه.

(6) في «ق، م» و الطبعة الحجريّة: «على» بدل «عليه» و ما أثبتناه هو الصحيح.

119
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

أما المسلوس و المبطون ؛ ج‌1، ص : 118

قيل «1» و حسنة منصور بن حازم قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: الرجل يعتريه البول و لا يقدر على حبسه، قال‌

إذا لم يقدر على حبسه فاللّه أولى بالعذر يجعل خريطة «2»

تشعر بقول الشيخ في المبسوط أيضاً؛ لأنّ العذر يشعر بسقوط الحكم الخارج، و إلا لم يكن معذوراً.

و فيه أيضاً مع تسليمه نظر، بل إنّما يشعر بالعفو عن الخارج بعد الطهارة بالنسبة إلى الصلاة؛ لأنّه لمّا دلّ الدليل على إيجاب كلّ خارج من الحدث كان قبول العذر فيما نافاه في مواضع الضرورة، و محلّ قبول العذر هو الاكتفاء بالوضوء الواحد للصلاة الواحدة، كما في المستحاضة، فالقياس عليها يوجب تعدّد الوضوء لا عدمه، كما ذكره الشيخ.

إذا تقرّر ذلك، فالحكم إنّما يكون كذلك إذا لم يكن له في الوقت فترة معتادة تَسَع الطهارة و الصلاة، و إلا وجب انتظارها؛ لزوال الضرورة التي هي مناط التخفيف.

(و كذا المبطون) و هو مَنْ به البَطَن بالتحريك بحيث يعتريه الحدث من ريح أو غائط على وجه لا يمكنه دفعه، يتوضّأ لكلّ صلاة، ثمّ لا أثر للحدث الواقع بعد ذلك و إن كان في أثناء الصلاة على المختار عند المصنّف «3» إذا لم يمكنه التحفّظ بقدر الطهارة و الصلاة إمّا بالشدّ أو بانتظار فترة معتادة.

و أوجب الشيخ «4» و جماعة «5» منهم الشهيد في الذكرى «6» هنا في الحدث المفاجئ في أثناء الصلاة الطهارةَ و البناء على الصلاة، لما روي في الصحيح عن الباقر عليه السّلام‌

صاحب البطن الغالب يتوضّأ و يبني على صلاته.

«7» و قوله عليه السّلام في حديثٍ آخر‌

انصرف ثمّ توضّأ و ابنِ على ما مضى من صلاتك ما لم تنقض الصلاة بالكلام متعمّداً، فإن تكلّمت ناسياً فلا شي‌ء عليك و هو بمنزلة مَنْ تكلّم في الصلاة ناسياً

قلت: و إن قلب وجهه عن القبلة؟ قال‌

و إن قلب وجهه عن القبلة. «8»

______________________________
(1) في هامش «م»: القائل الشيخ علي عليه الرحمة. و لم نعثر على قوله فيما بين أيدينا من المصادر.

(2) الكافي 3: 20/ 5.

(3) مختلف الشيعة 1: 146، المسألة 98.

(4) النهاية: 129.

(5) منهم: المحقّق في المعتبر 1: 163.

(6) الذكرى 2: 202- 203.

(7) الفقيه 1: 237/ 1043.

(8) الفقيه 1: 240/ 1060؛ التهذيب 2: 232/ 1370؛ الاستبصار 1: 401/ 1533.

120
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

أما المسلوس و المبطون ؛ ج‌1، ص : 118

و ردّهما المصنّف رحمه اللّه مع اعترافه بصحّتهما. «1»

و احتمل بعض «2» المحقّقين في الرواية الاولى أن يراد بالبناء فيها الاستئناف؛ إذ لا امتناع في أن يراد بالبناء على الشي‌ء فعله.

و فيه نظر، بل البناء على الشي‌ء يستلزم سبق شي‌ء منه حتى يبني عليه، كأنّ الماضي منه بمنزلة الأساس الذي يترتّب عليه.

و أورد على الروايتين معاً معارَضتهما بغيرهما من الأخبار الدالّة على أنّ الحدث يقطع الصلاة.

و هو ضعيف؛ لأنّ عامّ تلك الأخبار أو مطلقها مخصّص أو مقيّد إجماعاً بالمستحاضة و السلس، فلا وجه [لعدم إخراج «3»] هذا الفرد مع النصّ عليه بالتعيين.

و استدلّ المصنّف على مذهبه هنا بأنّ الحدث المتكرّر لو نقض الطهارة، لأبطل الصلاة؛ لأنّ شرط صحّة الصلاة استمرار الطهارة. «4»

و هو مصادرة على المطلوب، كما ذكره الشهيد «5» رحمه اللّه.

و ردّها بعض «6» المحقّقين بأنّ الطهارة شرط الصلاة إجماعاً، و المشروط عدم عند عدم شرطه، و الحدث مانع اتّفاقاً؛ لإخلاله بالشرط، و ليس في هذا مصادرة بوجه.

و هو ضعيف جدّاً؛ فإنّ المصادرة نشأت من ادّعاء الملازمة بين نقض الطهارة و بطلان الصلاة مع ورود النصّ الصحيح على فساد هذه الملازمة، فلا معنى حينئذٍ لدفعها بدعوى الإجماع على أنّ الطهارة شرط الصلاة مع تخلّفها في مواضع كثيرة.

و أُجيب بأنّ الاحتجاج ليس هو بانتقاض الطهارة هنا الذي هو محلّ النزاع حتى يكون مصادرةً، بل بالأدلّة الدالّة بعمومها على إعادة الصلاة بالحدث، و قد عرفت أنّ الأدلّة التي تدّعيها مخصوصة أو مقيّدة إجماعاً؛ فاندفع الجواب أيضاً، و قوي وجوب الطهارة و البناء.

______________________________
(1) مختلف الشيعة 1: 145، المسألة 98.

(2) لم نتحقّقه.

(3) في «ق، م» و متن الطبعة الحجرية: «لإخراج» بدل «لعدم إخراج». و الظاهر أنّ الصحيح ما أثبتناه، كما استظهر في هامش الطبعة الحجريّة.

(4) مختلف الشيعة 1: 146، المسألة 98.

(5) الذكرى 2: 203.

(6) في هامش «ق، م»: الشيخ علي رحمه اللّه. و لم نعثر على قوله فيما بين أيدينا من المصادر.

121
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

و يستحب في الوضوء أمور ؛ ج‌1، ص : 122

[و يستحبّ في الوضوء أمور]

و لمّا فرغ من فروض الوضوء و بعض أحكامه أخذ يذكر شيئاً من مستحبّاته، فقال:

(و يستحبّ) للمتوضّئ (وضع الإناء على اليمين) إن كان ممّا يغترف منه باليد؛ لما روي أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان يحبّ التيامن في طهوره و شأنه كلّه. «1»

و لو كان الإناء لا يمكن الاغتراف منه، وضع على اليسار ليصبّ منه في اليمين للغسل بها، أو للإدارة إلى اليسار.

(و الاغتراف بها) مطلقاً، و عند إرادة غسلها يدار منها إلى اليسار؛ لفعل الباقر عليه السّلام ذلك في وصف وضوء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله. «2»

و في حديثٍ عن الباقر عليه السّلام أنّه أخذ باليسرى فغسل اليمنى. «3» و هو لبيان الجواز.

(و التسمية) و هي: بسم اللّه و باللّه، اللّهم اجعلني من التوّابين و اجعلني من المتطهّرين. و لو اقتصر على بسم اللّه، أجزأ.

و لو نسيها في الابتداء، تدارك في الأثناء، كما في الأكل. و كذا لو تعمّد تركها، مع احتمال عدمه هنا.

(و تثنية الغسلات) في الأعضاء الثلاثة بعد إتمام الغسلة الأُولى على أصحّ الأقوال. و نقل ابن إدريس فيه الإجماع «4» بناءً على عدم قدح معلوم النسب فيه.

و قد روي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام‌

الوضوء مثنى مثنى. «5»

و ليس المراد به الواجب؛ للإجماع على الاجتزاء بالمرّة، فتُحمل الثانية على الندب.

و يظهر من الصدوق رحمه اللّه عدم شرعيّة الثانية؛ حيث قال: لا يؤجر عليها. «6» و هو يقتضي أنّها ليست من الوضوء؛ لأنّ أفعاله إمّا واجبة أو مندوبة، و كلاهما محصّل للأجر، محتجّاً بما روي عن الصادق عليه السّلام‌

و اللّه ما كان وضوء رسول اللّهُ صلّى اللّه عليه و آله إلّا مرّة مرّة «7»

و نحوه.

______________________________
(1) صحيح مسلم 1: 226/ 67؛ سنن النسائي 1: 78 و 205؛ مسند أحمد 7: 136/ 24106.

(2) الكافي 3: 25/ 4؛ الفقيه 1: 24/ 74؛ التهذيب 1: 55/ 157؛ الإستبصار 1: 58/ 171.

(3) الكافي 3: 24/ 1؛ التهذيب 1: 55- 56/ 157؛ الإستبصار 1: 58/ 171.

(4) السرائر 1: 100.

(5) التهذيب 1: 80- 81/ 208 و 210؛ الاستبصار 1: 70/ 213 و 215.

(6) الفقيه 1: 29 ذيل الحديث 92.

(7) الفقيه 1: 25/ 76.

122
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

و يستحب في الوضوء أمور ؛ ج‌1، ص : 122

و هو محمول على الوضوء البياني الذي لا تقبل الصلاة إلا به؛ جمعاً بين الأخبار.

و يؤيّده: ما روي أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله توضّأ مرّة مرّة، و قال‌

هذا وضوء لا يقبل اللّه الصلاة إلا به

ثمّ توضّأ مرّتين و قال‌

هذا وضوء مَنْ ضاعف اللّه له الأجر. «1»

و لو سلّم أنّه لغير البيان، لم يدلّ على تحريم الثانية؛ لأنّ الاقتصار على الواحدة لا يدلّ على تحريم ما سواها، مضافاً إلى عدّة روايات صحيحة دلّت على شرعيّة الثانية.

(و الدعاء عند كلّ فعل) من أفعال الوضوء الواجبة و المستحبّة بما روي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام‌

قال: بينا أمير المؤمنين عليه السّلام قاعد و معه ابنه محمّد إذ قال: يا محمّد ائتني بإناء من ماء، فأتاه به، فصبّه بيده اليسرى على يده اليمنى، و قال: الحمد للّه الذي جعل الماء طهوراً و لم يجعله نجساً، ثمّ استنشق فقال: اللّهمّ لا تحرّم عليّ ريح الجنّة و اجعلني ممّن يشمّ ريحها و طيبها و ريحانها، ثمّ تمضمض و قال: اللّهمّ أنطق لساني بذكرك و اجعلني ممّن ترضى عنه، ثمّ غسل وجهه فقال: اللّهمّ بيّض وجهي يوم تسودّ فيه الوجوه، و لا تسوّد وجهي يوم تبيضّ فيه الوجوه، ثمّ غسل يمينه فقال: اللّهمّ أعطني كتابي بيميني و الخلد في الجنان بيساري و حاسبني حساباً يسيراً، ثمّ غسل شماله فقال: اللّهمّ لا تعطني كتابي بشمالي و لا تجعلها مغلولةً إلى عنقي، و أعوذ بك من مقطّعات النيران، ثمّ مسح رأسه فقال: اللّهمّ غشّني رحمتك و بركاتك و عفوك، ثمّ مسح على رِجْليه فقال: اللّهمّ ثبّت قدمي على الصراط يوم تزلّ فيه الأقدام و اجعل سعيي فيما يرضيك عنّي، ثمّ التفت إلى محمد فقال: يا محمّد مَنْ توضّأ مثل ما توضّأت و قال مثل ما قلت خلق اللّه له من كلّ قطرة ملكاً يقدّسه و يسبّحه و يكبّره و يهلّله فيكتب له ثواب ذلك إلى يوم القيامة. «2»

و زاد المفيد في دعاء الرِّجْلين‌

يا ذا الجلال و الإكرام. «3»

و إذا فرغ من الوضوء قال: الحمد لله ربّ العالمين، اللّهمّ اجعلني من التوّابين و اجعلني من المتطهرين.

(و غَسل اليدين) من الزندين (قبل إدخالهما الإناء).

و الأولى أن يراد به مطلق الإناء سواء كان ماؤه قليلًا أم كثيراً؛ لعدم تحقّق التعليل‌

______________________________
(1) سنن البيهقي 1: 130/ 379.

(2) الكافي 3: 70- 71/ 6؛ الفقيه 1: 26- 27/ 84؛ التهذيب 1: 53- 54/ 153.

(3) المقنعة: 44.

123
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

و يستحب في الوضوء أمور ؛ ج‌1، ص : 122

بالنجاسة الوهميّة، بل هو تعبّد محض، فيثبت الاستحباب مع تحقّق طهارتهما، لكن مع الكثرة و سعة رأس الإناء يكفي غسلهما فيه، و على هذا لا فرق أيضاً بين إمكان وضع اليد في الإناء أولا، ككونه ضيّق الرأس، فيستحب غَسلهما حينئذٍ قبل الاشتغال بباقي الأفعال و إن كان الأولى اختصاص الحكم في إيقاع النيّة عنده بالإناء الواسع المشتمل على الماء القليل، كما تقدّم.

و هذا الغَسل يكون (مرّة من) حدث (النوم) سواء في ذلك نوم الليل و النهار، و سواء كانت اليد مطلقةً أم مشدودةً، و سواء كان النائم مُسَرْوَلًا أم لا؛ للعموم.

(و) كذا يستحبّ غَسلهما مرّةً من حدث (البول، و مرّتين من الغائط، و ثلاثاً من الجنابة) و ذكرها هنا استطراداً. «1» و لا يستحبّ غَسلهما من باقي الأحداث، كالريح.

و لو اجتمعت الأحداث، تداخلت مع التساوي، و مع الاختلاف يدخل الأقلّ تحت الأكثر.

و لو أدخل يده قبل الغَسل، فَعَل مكروهاً.

ثمّ إن كان كثيراً و قلنا فيه بالاستحباب، حُسب بمرّة، فيبني عليها. و كذا إن كان قليلًا و جعلناه تعبّداً. و إن كان لدفع نجاسة موهومة، لم يستحب بعد ذلك بالنسبة إلى هذا الإناء، بل يستحبّ العدول إلى إناء آخر، أو إلى هذا بعد إزالة ما تعدّى إليه من النجاسة الموهومة بوضعه في الكثير.

و حكم الغمس قبل كمال العدد حكمه قبل الشروع.

و هذا الغسل من سنن الوضوء، فتستحبّ فيه النيّة، كباقي العبادات.

و لم يعتبرها المصنّف في النهاية، «2» معلّلًا بأنّه لدفع وَهم النجاسة. و لو تحقّقها، لم يشترط النيّة فمع وهمها أولى، مع أنّه اختار في آخر البحث أنّ الغسل تعبّد، فلو تحقّق طهارة يده، استحبّ. «3»

(و المضمضة و الاستنشاق) على المشهور.

و قول ابن أبي عقيل: إنّهما ليسا بفرض و لا سنّة، «4» ضعيف، أو مؤوّل بالسنّة المحتّمة‌

______________________________
(1) في «ق، م»: «استطراد».

(2) نهاية الإحكام 1: 54.

(3) نهاية الإحكام 1: 54.

(4) حكاه عنه العلّامة الحلّي في مختلف الشيعة 1: 111، المسألة 68.

124
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

و يستحب في الوضوء أمور ؛ ج‌1، ص : 122

، فيرادف الفرض، و الجمع بينهما؛ للتأكيد، و كثيراً ما يذكر في كتابه السنّة و يريد بها الفرض.

و كيفيّتهما أن يبدأ بالمضمضة ثلاثاً بثلاث أكفّ من ماء على الأفضل. و لو فَعَلها بكفّ واحدة، أجزأ. أو يدير الماء في فيه إلى أقصى الحنك و وجهي الأسنان و اللّثّات مُمرّاً مسبّحته و إبهامه عليها لإزالة ما هناك من الأذى ثمّ يستنشق ثلاثاً كذلك، و يجذب الماء إلى خياشيمه إن لم يكن صائماً، و الأفضل مجّ الماء. و لو ابتلعه جاز. و ليكونا باليمين. و لو فَعَلهما على غير هذا الوجه، تأدّت السّنّة و إن كان أدون فضلًا.

و يشترط تقديم المضمضة عليه، فلو عكس، صحّت المضمضة خاصّةً، فيعيده بعدها.

و جوّز المصنّف في النهاية الجمع بينهما بأن يتمضمض مرّة ثمّ يستنشق مرّة و هكذا ثلاثاً، سواء كان الجميع بغرفة أم بغرفتين أم بأزيد و إن كان الأوّل أفضل. «1»

(و بدأة الرجل بظاهر ذراعيه في) الغسلة (الأُولى، و بباطنهما في الثانية، عكس المرأة) لقول الرضا عليه السّلام‌

فرض اللّه على النساء أن يبدأن بباطن أذرعهنّ، و في الرجال بظاهر الذراع «2»

هكذا احتجّ عليه المصنّف، «3» و ليس في الرواية تفصيل الغسلتين كما ذكر، بل هي شاملة للغسلتين.

و جماعة من الأصحاب لم يفرّقوا بين الغسلتين؛ لإطلاق الخبر، غير أنّ الشيخ في المبسوط «4» ذكر الفرق، و تبعه عليه جماعة، منهم: المصنّف و المحقّق. «5» و لم يثبت الوجه فيه.

و الخنثى تتخيّر في الوظيفتين، سواء قلنا بالتفصيل أم الإطلاق، فلو بدأت بظاهرهما فيهما أو بباطنهما، لم تحصل السّنّة على القول بالتفصيل.

(و الوضوء بمُدّ) لقوله عليه السلام‌

الوضوء بمُدّ و الغسل بصاع، و سيأتي أقوام بعدي يستقلّون ذلك فأُولئك على خلاف سنتّي، و الثابت على سنّتي معي في حظيرة القدس. «6»

و المُدّ يؤدّى به سنن الوضوء و فروضه، و الأغلب زيادته عليهما.

______________________________
(1) نهاية الإحكام 1: 56.

(2) الكافي 3: 28- 29/ 6؛ الفقيه 1: 30- 31/ 100؛ التهذيب 1: 76- 77/ 193.

(3) نهاية الإحكام 1: 57.

(4) المبسوط 1: 20- 21.

(5) شرائع الإسلام 1: 16.

(6) الفقيه 1: 23/ 70.

125
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

و يكره أمور ؛ ج‌1، ص : 126

الظاهر أنّ ماء الاستنجاء منه؛ لما تقدّم «1» من حديث دعاء الأعضاء عن أمير المؤمنين عليه السّلام حيث قال فيه‌

أتوضّأ للصلاة

ثمّ ذكر الاستنجاء.

و يمكن العدم؛ لعدم صدق الاسم عليه، و حُذف‌

أتوضّأ للصلاة

في بعض نسخ «2» الحديث.

و يضعّف بأنّ المثبت مقدّم.

[و يكره أمور]

(و تكره الاستعانة) في الوضوء؛ للخبر في ذلك عن الرضا عليه السّلام، و تعليله بقوله تعالى فَمَنْ كٰانَ يَرْجُوا لِقٰاءَ رَبِّهِ إلى قوله وَ لٰا يُشْرِكْ بِعِبٰادَةِ رَبِّهِ أَحَداً «3» ثمّ قال‌

و ها أنا ذا أتوضّأ للصلاة و هي العبادة فأكره أن يشركني فيها أحد. «4»

و المراد بالاستعانة نحو صبّ الماء في اليد ليغسل المتوضّئ به، لا صبّه على العضو؛ فإنّه تولية.

و هل تصدق بطلب إحضار الماء ليتوضّأ به؟ يحتمل قويّاً ذلك؛ لأنّه بعض العبادة بل هو عبادة في نفسه، فيشمله التعليل بالآية. و كذا القول في طلب إسخانه حيث يحتاج إليه، و نحوه، كلّ ذلك بعد العزم على الوضوء، أمّا لو استعان لا لَه ثمّ عرض له إرادة الوضوء، لم يكره قطعاً.

(و) كذا يكره (التمندل) على المشهور، و هو: مسح أعضاء الوضوء بالمنديل و نحوه؛ لقول الصادق عليه السّلام‌

مَنْ توضّأ فتمندل كان له حسنة، و إن توضّأ و لم يتمندل حتى يجفّ وضوؤه كانت له ثلاثون حسنة. «5»

و علّل المصنّف الكراهة مع الحديث بأنّ فيه إزالة أثر العبادة، «6» و هو يقتضي تعميم الكراهة بكلّ ما يحصل به إزالة الأثر من منديلٍ و كُمّ و نار و نحوها، و هو الظاهر.

و خصّه المحقّق الشيخ علي بالمنديل و الذيل لا بالكُمّ؛ لعدم صدق التمندل عليه. «7»

______________________________
(1) تقدّم في ص 123.

(2) كما أنّه لم يرد في الكافي.

(3) الكهف (18): 110.

(4) الكافي 3: 69/ 1؛ التهذيب 1: 365/ 1107.

(5) الكافي 3: 70/ 4؛ الفقيه 1: 31/ 105.

(6) نهاية الإحكام 1: 58.

(7) جامع المقاصد 1: 232.

126
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في شرائط الوضوء ؛ ج‌1، ص : 127

و هو ضعيف؛ لأنّ التمندل إن لُوحظ فيه مأخذ الاشتقاق، فلا وجه لتعدية الحكم عن المنديل؛ إذ لا يصدق على الذيل أنّه منديل قطعاً. و إن كانت العلّة إزالةَ البلل، فلا وجه للحصر فيما ذُكر.

و المحقّق في الشرائع عبّر عن التمندل بمسح الأعضاء. «1» و هو حسن و إن كان التعبير بإزالة البلل أحسن.

(و تحرم التولية اختياراً) فيبطل الوضوء بها، و هو إجماع إلا من ابن الجنيد؛ فإنّه استحبّ تركها. «2»

لنا مع الإجماع قوله تعالى فَاغْسِلُوا .. وَ امْسَحُوا «3» و إسناد الفعل إلى فاعله هو الحقيقة.

و تجوز مع الضرورة بل تجب؛ لأنّ المجاز يصار إليه عند تعذّر الحقيقة.

و يتولّى المكلّف النيّة؛ إذ لا عجز عنها مع التكليف. و لو نويا معاً، كان حسناً. و تُشترط مطابقة نيّة المتولّي لفعله فينوي: اوضّئ، لا: أتوضّأ. و كذا المريض.

و يجب تحصيل المعين مع العجز و لو بأُجرة مقدورة.

و لو أمكن تقديم ما يغمس المعذور فيه الأعضاء، لم تجز التولية.

و لا يشترط العجز عن الكلّ، فيجوز أن يتبعّض.

[القول في شرائط الوضوء]

(و يجب) أي: يشترط (الوضوء و جميع الطهارات) الشرعيّة كالأغسال (بماء مطلق) و سيأتي تعريفه، سواء كان مستعملًا في الأكبر أم لا؛ للإجماع على بقائه على الإطلاق، و إنّما الخلاف في جواز استعماله ثانياً في رفع الحدث، ففي العبارة إشارة إلى جوازه.

(طاهر مملوك أو مباح) و يدخل في المباح المأذون فيه مع كونه ملكاً للغير.

و إنّما فسّرنا الوجوب بالاشتراط؛ لأنّه لو تطهّر بالمضاف مثلًا، لم يكن مأثوماً، بل طهارته فاسدة لا غير.

اللّهمّ إلا أن يعتقد شرعيّة ذلك، أو يستمرّ عليه و يصلّي به مثلًا، فيأثم حينئذٍ، و مع ذلك لا يتوجّه حمل الوجوب على معناه الأصلي؛ لأنّ النهي عن الشي‌ء أمر بضدّه العامّ لا المعيّن.

______________________________
(1) شرائع الإسلام 1: 16.

(2) حكاه عنه العلامة الحلّي في مختلف الشيعة 1: 135، المسألة 83.

(3) المائدة (5): 6.

127
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في أحكام الوضوء ؛ ج‌1، ص : 128

[القول في أحكام الوضوء]

(و لو تيقّن) المكلّف (الحدث و شكّ في الطهارة) كأن تيقّن أنّه أحدث في الوقت الفلاني و شكّ الآن أنّه هل تطهّر بعد ذلك أم لا (أو تيقّنهما) أي: الحدث و الطهارة في وقتٍ معيّن (و شكّ) بعده (في المتأخّر) منهما، سواء علم أنّه كان قبلهما متطهّراً أم محدثاً، أم شكّ في ذلك (أو شكّ في شي‌ء منه) أي: من الوضوء، كما لو شكّ في الإتيان ببعض أفعاله (و هو على حاله) أي حال الوضوء لم يفرغ منه بعدُ (أعاد) الوضوء في الصورتين الأوّلتين و الشي‌ء المشكوك فيه في الثالثة و ما بعده؛ قضيّةً للترتيب.

و لا يخفى ما في العبارة من الإجمال و التجوّز في إطلاق العود على الاولى؛ لعدم العلم بسبقِ طهارةٍ حتى تصدق الإعادةُ.

أمّا وجوب الوضوء في الأُولى فظاهر؛ لأنّ يقين الحدث لا يرفع إلا بيقينِ مثله، فيعمل الاستصحاب عمله.

أمّا الثانية: فليحصّل يقين الطهارة؛ لاحتمال كون المتأخّر هو الحدث، و لا إشكال في ذلك مع عدم علم المكلّف بحاله قبلهما؛ فإنّ تأخّر كُلّ منهما محتمل على حدّ سواء، فيتكافأ الاحتمالان و يتساقطان فتجب الطهارة.

أمّا لو علم حاله قبلهما بالطهارة أو بالحدث، فالأمر فيه كذلك عند المصنّف هنا و في أكثر كتبه «1» و الشيخين «2» و جماعة «3»؛ للاحتمال أيضاً، فلا يدخل في الصلاة إلا بيقين الطهارة.

و اختار المصنّف رحمه اللّه في المختلف استصحاب حاله قبلهما، فإن كان متطهّراً، فهو الآن متطهّر؛ لأنّه تيقّن أنّه نقض تلك الطهارة ثمّ توضّأ، و لا يمكن أن يتوضّأ عن حدثٍ مع بقاء تلك الطهارة، و نقض الطهارة الثانية مشكوك فيه، فلا يزول عن اليقين بالشكّ. و إن كان مُحدثاً، فهو الآن مُحدث؛ لتيقّنه انتقاله عن الحدث السابق عليهما إلى طهارة ثمّ نقضها، و الطهارة بعد نقضها مشكوك فيها. «4»

و هذا القول لا يتمّ إلا مع تيقّن عدم التجديد و عدم تعقيب حدث لحدث و تساويهما،

______________________________
(1) منها: تحرير الأحكام 1: 11؛ و منتهى المطلب 2: 141؛ و نهاية الإحكام 1: 59.

(2) المقنعة: 50؛ المبسوط 1: 24.

(3) منهم: ابن إدريس في السرائر 1: 104.

(4) مختلف الشيعة 1: 142، المسألة 94.

128
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في أحكام الوضوء ؛ ج‌1، ص : 128

كما في المثال، و مع هذه القيود لا تبقى المسألة بعد التروّي من باب الشكّ في شي‌ء؛ لأنّ علم الترتيب المذكور يحصّل اليقين بأحدهما، فهو كالشاكّ في مبدأ السعي و هو يعلم الزوجيّة أو الفرديّة، فبأدنى توجيه الذهن يعلم المبدأ، لكن لمّا كان الشكّ حاصلًا في أوّل الأمر قبل التروّي جاز عدّ المسألة من مسائل الشكّ، كمن شكّ في صلاته ثمّ تيقّن أحد الطرفين أو ظنّه، فإنّها تذكر في مسائل الشكّ باعتبار أوّل أمرها.

و لمّا استشعر المصنّف في القواعد عدم تماميّة استصحاب الحالة السابقة مطلقاً قيّدهما بكونهما متّحدين متعاقبين، ثمّ حكم باستصحاب حاله. «1» و أراد به لازم الاستصحاب مجازاً؛ فإنّه إذا حكم بكونه متطهّراً مع تخلّل الحدث المزيل لحكم استصحاب الطهارة الأُولى ثبت لازمه، و كذا الحدث.

و المحقّق في المعتبر مال إلى عكس ما ذكره المصنّف؛ فإنّه قال فيه بعد ما ذكر توجيه كلام الشيخين: و يمكن أن يقال: يُنظر إلى حاله قبل تصادم الاحتمالين، فإن كان حدثاً، بنى على الطهارة؛ لأنّه تيقّن انتقاله عن تلك الحال إلى الطهارة و لم يعلم تجدّد الانتقاض فصار متيقّناً للطهارة شاكاً في الحدث فيبني على الطهارة، و إن كان قبل تصادم الاحتمالين متطهّراً، بنى على الحدث؛ لعين ما ذكرناه من التنزيل. «2» انتهى.

و الذي يحصل لنا في المسألة بعد تحرير كلام الجماعة أنّه إن علم التعاقب، فلا ريب في الاستصحاب، و إلا فإن كان لا يعتاد التجديد بل إنّما يتطهّر حيث يتطهّر طهارة رافعة للحدث، فكلام المحقّق رحمه اللّه مع فرض سبق الحدث أوجه؛ لضعف الحكم بوجوب الطهارة مع العلم بوقوعها على الوجه المعتبر، و عدم العلم بتعقّب الحدث لها، المقتضي للإبطال إذا علم أنّه كان قبلهما مُحدثاً.

و لا يرد حينئذٍ أنّ يقين الحدث مكافئ ليقين الطهارة؛ لأنّ الطهارة قد علم تأثيرها في رفع الحدث، أمّا الحدث فغير معلوم نقضه للطهارة؛ لاحتمال أن يقع بعد الحدث الأوّل قبل الطهارة؛ إذ الفرض عدم اشتراط التعاقب، فلا يزول المعلوم بالاحتمال، بل يرجع إلى يقين الطهارة مع الشكّ في الحدث.

______________________________
(1) قواعد الأحكام 1: 12.

(2) المعتبر 1: 171.

129
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في أحكام الوضوء ؛ ج‌1، ص : 128

و كلام المختلف في فرض سبق الطهارة أوجه؛ لأنّ نفي احتمال التجديد يقتضي توسّط الحدث بين الطهارتين، إلا أنّ هذا القسم راجع إلى التعاقب، فلا يحتاج إلى استدراكه هنا.

و إن لم يتّفق له تحقيق هذه القيود، بل إنّما تحقّق الطهارة و الحدث و شكّ في المتأخّر منهما من غير تحقيقٍ لحاله كما ذكرناه، وجب عليه الطهارة، سواء علم حاله قبلهما أم لا؛ لقيام الاحتمال و اشتباه الحال.

و اعلم أنّ هذه المسألة تتشعّب إلى اثني عشر قسماً؛ لأنّ الطهارة و الحدث إمّا أن يتيقّنهما متّحدين، أي: متساويين عدداً، متعاقبين، أي: لا يتكرّر منهما مِثلان، بل إنّما يعقب الطهارة الحدث أو بالعكس، أو لا و لا، أو أحدهما خاصّةً، فالصّور أربع، ثمّ إمّا أن يعلم حاله قبل زمانهما متطهّراً أو مُحدثاً، أو لا يعلم شيئاً، و مضروب الثلاثة في الأربعة اثنا عشر يعلم حكمها بالتأمّل بعد مراجعة ما تلوناه.

و أمّا الثالثة و هي الشكّ في شي‌ء من أفعال الوضوء و هو على حاله فوجه الإعادة فيه ما رواه زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام‌

إذا كنت قاعداً على وضوئك فلم تدر أ غسلت ذراعك أم لا فأعد عليها و على جميع ما شككت فيه، فإذا قمت من الوضوء و فرغت منه و صرت إلى حالة أُخرى في الصلاة أو غيرها و شككت في شي‌ء ممّا سمّى اللّه عليك وضوءه فلا شي‌ء عليك. «1»

و هذه الرواية «2» كما يحتمل أن يريد ب «حاله» حال الوضوء كما قلناه أوّلًا يحتمل أن يريد به حال المتوضّئ، فيعود الضمير على الفاعل المضمر في قوله: «و لو شكّ» فعلى هذا يرجع ما دام على حاله التي توضّأ عليها و إن فرغ من أفعال الوضوء.

لكن يرجّح الأوّل ما رواه عبد اللّه بن أبي يعفور عنه عليه السّلام‌

إذا شككت في شي‌ء من الوضوء و قد دخلت في غيره فليس شكّك بشي‌ء، إنّما الشكّ إذا كنت في شي‌ء لم تجزه «3»

و المراد: إنّما الشكّ الذي يلتفت إليه و غيره من الأخبار.

و احتمال عود الضمير في «حاله» إلى الشي‌ء المشكوك فيه المذكور قبله صريحاً لا دليل‌

______________________________
(1) الكافي 3: 33/ 2؛ التهذيب 1: 100/ 261.

(2) كذا في «ق، م» و الطبعة الحجريّة. و الظاهر زيادة جملة «هذه الرواية» بقرينة ما بعدها، و يحتمل سقط عبارة هنا، فلاحظ.

(3) التهذيب 1: 101/ 262.

130
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في أحكام الوضوء ؛ ج‌1، ص : 128

عليه من النقل و إن أمكن بحسب اللفظ.

(و لو تيقّن الطهارة و شكّ في الحدث أو شكّ في شي‌ء منه) أي: من الوضوء (بعد الانصراف) عنه حقيقةً أو حكماً. و المراد به الفراغ من أفعاله و إن لم ينصرف عن مكانه (لم يلتفت) فيهما؛ لما تقدّم.

و لما رواه بكير بن أعين، قال: قلت له: الرجل يشكّ بعد ما يتوضّأ، قال‌

هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشكّ. «1»

(و لو جدّد) المكلّف وضوءه (ندباً) احترازاً عمّا لو جدّده وجوباً بالنذر و شبهه فإنّه يرفع الحدث عند المصنّف في هذا الكتاب بناءً على اشتراط الوجه و عدم اشتراط أحد الأمرين (ثمّ ذكر بعد الصلاة) الواقعة بعدهما (إخلال عضو) من إحدى الطهارتين (جهل تعيينه) في إحداهما (أعاد الطهارة و الصلاة) لإمكان كون الخلل من الطهارة الأُولى، و المجدّد ندباً غير رافع للحدث عند المصنّف «2»؛ لاشتراط نيّة الوجه في الوضوء.

فعلى هذا لو اشترك الوضوءان في الرفع أو الإباحة إمّا مع وجوبهما، كما لو توضّأ واجباً بعد دخول الوقت ثمّ نذر التجديد و جدّد ثمّ صلّى و ذكر الإخلال، صحّت الصلاة الواقعة بعدهما؛ للقطع بسلامة طهارة مبيحة. و لو فرض تخلّل صلاة واجبة بينهما، وجب إعادتها مطلقاً. و يمكن تصوّر وجوب الثاني بغير النذر بأن ذهل عن الأوّل فتوضّأ واجباً و صلّى، فإنّ الوضوء الثاني رافع أيضاً؛ للجزم فيه بنيّة الوجوب، و مطابقة الجزم للواقع، أو مع ندبهما، كما لو توضّأ قبل حصول السبب ثمّ جدّد الوضوء ندباً ثمّ دخل الوقت فصلّى به ثمّ ذكر الإخلال المجهول، فإنّ الصلاة صحيحة أيضاً؛ لأنّ الجزم حاصل بسلامة طهارة منهما.

و إلى هذه الصورة أشار المصنّف بقوله (إلا مع ندبيّة الطهارتين) كذا فسّره شيخنا الشهيد رحمه اللّه في الشرح، «3» و هو الظاهر من كلام المصنّف في النهاية. «4» و لا يخلو من إشكال.

______________________________
(1) التهذيب 1: 101/ 265.

(2) نهاية الإحكام 1: 34.

(3) غاية المراد 1: 38.

(4) انظر: نهاية الإحكام 1: 61.

131
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في أحكام الوضوء ؛ ج‌1، ص : 128

و يمكن تفسير الندبين على وجه يرفع الإشكال بأن يتوضّأ ندباً قبل السبب ثمّ يذهل عنه و يتوضّأ ندباً أيضاً ثمّ يصلّي به. و كذا مع ندب الأوّل و وجوب الثاني على تقدير الذهول عن الأوّل الواقع قبل الوقت، فتوضّأ واجباً بعده، أو نذر تجديد الوضوء الواقع قبل الوقت، سواء كان قبله أم بعده مع عدم الذهول عنه.

هذا كلّه على تقدير اشتراط نيّة الوجه و عدم وجوب نيّة أحد الأمرين: الرفع أو الاستباحة، أمّا على هذا التقدير كما هو مختار المصنّف في أكثر كتبه «1» لا يتصوّر في الواجبين بتقدير نذر التجديد؛ لعدم نيّة أحدهما في المجدّد و إن نذر، كما سيأتي تحقيقه، و لا في الواجب بعد المندوب كذلك.

نعم، يتصوّر على تقدير الذهول في الواجبين و المندوبين و الواجب بعد المندوب كما سلف، دون العكس، إلا بتقدير توسّط صلاة بينهما، كما لو توضّأ للصبح مثلًا و صلاها ثمّ توضّأ ندباً قبل الزوال و صلّى الظهر ثمّ ذكر الإخلال، فإنّ الظهر واقعة بعد طهارة رافعة ظاهراً و إن وجب إعادة الصبح قطعاً. لكن في هذا الفرض إشكال يأتي تحقيقه.

و الشهيد رحمه اللّه حكى في الشرح عن شيخه عميد الدين فَرضَ الذهول على هذا التقدير في صورة الندبين. «2» و لا فرق بينها و بين الأُخريين.

و قال في توجيه إباحة الثاني على تقدير الذهول: و لا يرد كونه غير مكلّفٍ حالة الغفلة؛ لأنّه غير مكلّف بالمذهول عنه و كلامنا في المذكور، و لا كونه على حالة لو ذكر لما جزم؛ لأنّا نعتبر جزمه حالة النيّة، كما لو شهد العدلان ظاهراً بالهلال فصام، فإنّه على حالةٍ لو علم فسقهما لما جزم، و قد حكموا بصحّة صومه على تقدير ثبوت الهلال بغيرهما بعد ذلك.

و يمكن فرض الواجبين كذلك فيمن تيقّن الحدث و شكّ في الطهارة أو تيقّنهما و لا يعلم حاله قبل زمان الطهارتين ثمّ ذكر بعد الطهارة الثانية تقدّم الحدث على الاولى، فإنّه يسوغ له الطهارة بجزم معتبر شرعاً. «3»

و اعلم أنّه على القول بالاجتزاء بنيّة القربة تصحّ الصلاة على جميع التقادير؛ لسلامة‌

______________________________
(1) منها: تذكرة الفقهاء 1: 141؛ و قواعد الأحكام 1: 109؛ و مختلف الشيعة 1: 107، المسألة 65؛ و نهاية الأحكام 1: 29.

(2) غاية المراد 1: 38- 39.

(3) غاية المراد 1: 39.

132
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في أحكام الوضوء ؛ ج‌1، ص : 128

طهارةٍ قطعاً، و هو واضح. و كذا على القول بأنّ المجدّد يرفع الحدث كما اختاره الشيخ في المبسوط، و المحقّق في المعتبر، و الشهيد في الدروس «1» بناءً على أنّه طهارة شرعيّة قصد بها تحصيل فضيلة لا تحصل إلا بها، فإنّ شرعيّة المجدّد لاستدراك ما عساه فات في الأُولى، فينبغي أن يحصل له ذلك، و الاستباحة إنّما تكون معتبرةً مع الذكر، أمّا إذا ظنّ المكلّف حصولها فلا، كيف! و هُم يعلّلون مشروعيّة المجدّد بما قلناه. و مثله استحباب الغسل أوّل ليلة من شهر رمضان تلافياً لما عساه فات من الأغسال الواجبة، و الاتّفاق واقع على إجزاء يوم الشكّ بنيّة الندب عن الواجب، و الصدقة بدرهمٍ تمراً كفّارةً لما لعلّه لزمه في الإحرام، و فتح هذا الباب يؤدّي إلى سدّ باب الاحتياط.

و أقول: لا بدّ قبل الحكم برفع الوضوء المجدّد من تحقيق حال نيّته، فإنّ الذي يظهر من كلام المصنّف في التذكرة و النهاية «2» أنّه مقتصر فيه على نيّة القربة، و أنّ المقصود به زيادة التنظيف خاصّةً، و على هذا فعدم حكمه بأنّه رافع متوجّه عند مَنْ لا يكتفي بها.

لكنّ الظاهر من كلام المحقّق في المعتبر بعد حكمه برفعه أنّه لا بدّ فيه من نيّة استباحة الصلاة، فلو نوى وضوءاً مطلقاً، لم يرفع، «3» مع أنّه حكم فيه بعدم نيّة الوجوب في الوضوء الواجب. «4»

فعلى هذا نيّة الوضوء المجدّد على تقدير الحكم بالرفع كنيّة الأوّل، و حينئذٍ يتّجه ما تقدّم من التعليل برفعه.

و هذا هو الظاهر من كلام الشهيد رحمه اللّه في الذكرى؛ فإنّه قال بعد نقله كلام المصنّف بعدم رفعه معلّلًا بعدم نيّة الوجوب فيه: و يشكل بأنّا نتكلّم على تقديرها. «5»

و قال في موضعٍ آخر: إنّ ظاهر الأصحاب و الأخبار أنّ شرعيّة التجديد للتدارك، فهو منويّ به تلك الغاية، و على تقدير عدم نيّتها لا يكون مشروعاً. «6»

و في هذا ردّ على المحقّق حيث اقتضى كلامه جواز نيّة الاستباحة في المجدّد و عدمها،

______________________________
(1) المبسوط 1: 25؛ المعتبر 1: 140؛ الدروس 1: 94.

(2) انظر: تذكرة الفقهاء 1: 213؛ و نهاية الإحكام 1: 32.

(3) المعتبر 1: 140 و 173.

(4) المعتبر 1: 139.

(5) الذكرى 2: 112- 113.

(6) الذكرى 2: 210.

133
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في أحكام الوضوء ؛ ج‌1، ص : 128

و أنّه يرفع في الأوّل دون الثاني، و على المصنّف مطلقاً.

(و لو تعدّدت الصلاة) الواقعة بعد الطهارة المعقّبة بالتجديد مع ذكر الخلل المذكور (أيضاً) معناه في هذا التركيب: عوداً إليه، أي: عُد إلى كذا عَوْداً، فالحكم فيه كذلك، فانتصابه على المصدريّة المعبّر عنها بالمفعول المطلق. قال ابن السكّيت: هو مصدر قولك: آض يئيض، أي: عاد، يقال: آض فلان إلى أهله، أي: رجع ( «1» أعاد الطهارة و الصلاتين) لما تقدّم؛ إذ لا فرق مع تطرّق الاحتمال إلى الطهارة بين الصلاة المتّحدة الواقعة بعدها و المتعدّدة.

و كذا يعيد الصلاة الواقعة بين الطهارتين أيضاً بطريق أولى، بل الحكم بإعادتها جارٍ على جميع الأقوال، بخلاف الواقعة بعد الطهارتين.

(و لو تطهّر و صلّى و أحدث) و المراد مرتّباً كما ذكر و إن كانت الواو لا تفيد الترتيب عند المصنّف، «2» بل الجمع المطلق (ثمّ تطهّر و صلّى) كذلك (ثمّ ذكر إخلال عضو) من إحدى الطهارتين (مجهول) بالنسبة إليهما و إن علم عينه في نفسه، كالوجه مثلًا (أعاد الصلاتين بعد الطهارة إن اختلفتا) أي الصلاتان (عدداً) كالمغرب و العشاء؛ لفساد إحداهما يقيناً، و لا يمكن الترديد؛ للاختلاف.

(و إلا) أي: و إن لم تكونا مختلفتين، كالظهر و العصر (فالعدد) أي: وجب إعادة فريضة بعدد إحداهما مطلقة بينهما، فيصلّي في المثال المذكور رباعيّةً يطلق فيها بين الظهر و العصر؛ لأنّ الفاسد إحداهما خاصّةً؛ لأنّ الطهارتين رافعتان. و الإطلاق محصّل لذلك على أصحّ القولين.

و أوجب الشيخ في المبسوط «3» قضاء الصلاتين؛ تحصيلًا لليقين حتى أوجب قضاء الخمس لو صلاها بخمس طهارات ثمّ ذكر الإخلال المذكور في إحدى الطهارات مع تخلّل الحدث بين كلّ طهارة و صلاة منها.

و على ما ذكره المصنّف رحمه اللّه هنا يجزئه في هذا الفرض ثلاث فرائض رباعيّة كما ذكر، و يزيد فيها الإطلاق على العشاء، و صبح و مغرب؛ لأنّ الغاية فريضة واحدة‌

______________________________
(1) حكاه عنه الجوهري في الصحاح 3: 1065، «أ ى ض».

(2) مبادئ الوصول إلى علم الأُصول: 77، نهاية الوصول إلى علم الأُصول، المقصد الثاني في اللغات، الفصل الثامن في تفسير حروفٍ، البحث الأوّل في الواو.

(3) المبسوط 1: 25.

134
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في أحكام الوضوء ؛ ج‌1، ص : 128

مجهولة من الخمس، و يتخيّر في تقديم أيّها شاء و توسيطه و تأخيره.

و يتخيّر في الرباعيّة بين الجهر و الإخفات؛ لاحتمال كونها إحدى الظهرين أو العشاء و لا يمكن الجمع بين النقيضين.

و لو كان الذكر في وقت العشاء، نوى بالمغرب الأداء، و ردّد في الرباعيّة بين الأداء و القضاء.

مع أنّ الشيخ رحمه اللّه وافق الجماعة في الاجتزاء بثلاث فرائض ممّن فاته فريضة مجهولة من الخمس «1»؛ معوّلًا على رواية «2» مثّل فيها بمن نسي فريضة، فلم يقس عليها؛ لمخالفتها للأصل، و هو وجوب الجزم في النيّة، و في الإطلاق ترديد.

و أُجيب: بأنّ الترديد مشترك الإلزام؛ لأنّ مَنْ أعاد الصلاتين يعلم قطعاً بأن إحداهما ليست في ذمّته؛ للجزم بأنّ الفساد في إحدى الطهارتين خاصّة، فعند نيّة كلّ منهما إنّما يقصد الوجوب على تقدير الفساد، و لا أثر لصورة جزمه؛ لأنّ ذلك هو المراد.

و الجواب عنهما واحد، و هو: أنّ الجزم إنّما يعتبر إذا كان ممكناً و للمكلّف إليه طريق، و هو منفيّ في المسألتين، و الخبر ينبّه عليه، مع أنّ المتنازع لا يكاد يخرج عن النسيان.

و اعلم أنّ الوضوءين هنا يمكن فرضهما واجبين، و هو واضح، و مندوبين، كما إذا توضّأ بري‌ء الذمّة من مشروطٍ به ثمّ صلّى فريضةً في وقتها ثمّ تأهّب لأُخرى قبل وقتها و صلّى ثمّ ذكر الإخلال، و متفرّقين، فمع تقدّم الواجب كما لو توضّأ لصلاة في وقتها و صلاها ثمّ تأهّب لأُخرى قبل وقتها، و بالعكس على العكس.

و استشكل شيخنا الشهيد رحمه اللّه صورة الندبين و الندب بعد الواجب؛ لعدم الجزم ببراءة الذمّة لمّا توضّأ ندباً ثانياً؛ لجواز أن يكون الخلل من الاولى فتفسد صلاته و تصير في الذمّة، فيقع الندب في غير موضعه. «3»

و للبحث في تأثير ذلك مجال؛ لاستحالة تكليف الغافل، و الفرض أنّ تجدّد العلم بعد الصلاتين، و لأنّه كان مأموراً بإيقاعه على ذلك الوجه، فيقتضي الإجزاء.

______________________________
(1) النهاية: 127؛ المبسوط 1: 127؛ الخلاف 1: 309 310، المسألة 58.

(2) التهذيب 2: 197/ 774.

(3) لم نعثر عليه في مظانّه.

135
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

النظر الثالث في أسباب الغسل ؛ ج‌1، ص : 137

[النظر الثالث في أسباب الغسل]

(النظر الثالث) من الأنظار الستّة في أسباب الغسل) و قد تقدّم تحقيق السبب، و أنّه الوصف الظاهر المنضبط الذي دلّ الدليل على كونه معرّفاً لحكمٍ شرعيّ بحيث يلزم من وجوده الوجودُ و من عدمه العدمُ لذاته.

(إنّما يجب) الغسل (بالجنابة) بفتح الجيم (و الحيض و الاستحاضة) على تفصيل يأتي (و النفاس) بكسر النون (و مسّ الأموات من الناس بعد بردهم بالموت و قبل الغسل) الواجب اختياراً.

و يدخل في «الغسل» مَنْ قدّم غسله ليُقتل، فلا يجب بمسّه غسل. و كذا لا يجب بمسّ الشهيد؛ لعدم وجوب الغسل عليه.

و خرج به المتيمّم و لو عن بعض الأغسال، فيجب الغسل بمسّه؛ لفقد التطهير الحقيقي.

و خرج بالاختيار مُغسّل الكافر مع عدم المماثل؛ لعدم التطهير حقيقةً أيضاً.

و إطلاق الغسل هنا إمّا بناءً على الغالب، أو لعدم إيجاب الغسل بمسّ المذكور؛ لأنّ فيه خلافاً.

و هذه الأسباب الخمسة لا خلاف فيها عندنا إلا في غسل المسّ، فمنع السيّد المرتضى من وجوبه، «1» و سيأتي ما يدلّ على الوجوب.

و قوله (و غسل الأموات) لا يجوز عطفه على شي‌ء من هذه الأسباب؛ لفساد المعنى‌

______________________________
(1) حكاه عنه الشيخ الطوسي في الخلاف 1: 222، المسألة 193؛ و المحقّق في المعتبر 1: 351 نقلًا عن شرح الرسالة و المصباح.

137
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

النظر الثالث في أسباب الغسل ؛ ج‌1، ص : 137

حينئذٍ؛ لأنّه يصير التقدير إنّما يجب الغسل بالجنابة إلى آخره، و بغسل الأموات، فيصير غسل الأموات من جملة الأسباب، و هو فاسد، بل الأولى عطفه على الضمير المستتر في «يجب» ليصير التقدير إنّما يجب الغسل بهذه الأسباب، «1» و إنّما يجب غسل الأموات، مضافاً إلى الأغسال المسبّبة عن هذه الخمسة، و على كلّ تقدير فلا تخلو العبارة عن ثقلٍ.

و يمكن أن يكون قوله: «و غسل الأموات» مبتدأ محذوف الخبر، أي: واجب، و إنّما غيّر الأُسلوب في العبارة؛ لأنّ غسل الأموات ليس على نهج الأغسال السالفة. و لو قال بدل «غسل الأموات»: «و الموت» كما صنع شيخنا الشهيد «2» ليكون معطوفاً على الأسباب المتقدّمة؛ لأنّه بعضها، كان أوضح.

(و كلّ الأغسال لا بدّ معها من الوضوء) قبلها أو بعدها على المشهور، خلافاً للسيّد المرتضى؛ فإنّه اكتفى بالغسل مطلقاً «3»؛ استناداً إلى صحيحة محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام قال‌

الغسل يجزئ عن الوضوء، و أيّ وضوء أطهر من الغسل «4»

؟ بناءً على أنّ هذا اللام للجنس، و أنّ لام الجنس إذا دخل على اسمه أفاد العموم.

و المقدّمتان ممنوعتان؛ لإمكان حمل اللام على العهد، و يراد به غسل الجنابة؛ جمعاً بينها و بين ما سيأتي من الأخبار الدالّة على اختصاص الحكم بغسل الجنابة نصّاً.

(إلا) غسل (الجنابة) فإنّه لا وضوء معه عندنا وجوباً إجماعاً، و لا استحباباً على المشهور؛ لقوله تعالى حَتَّىٰ تَغْتَسِلُوا «5» غيّا المنعَ بالغسل، فلا يتوقّف على غيره؛ لوجوب مخالفة ما بعد الغاية لما قبلها. و لئلا يلزم جَعْل ما ليس بغاية غايةً.

و لقول الصادق عليه السّلام‌

في كلّ غسل وضوء إلا الجنابة. «6»

و لصحيح ابن أبي عمير المرسل عن الصادق عليه السّلام‌

كلّ غسل قبله وضوء إلا غسل الجنابة «7»

و قد عمل الأصحاب بمراسيله.

______________________________
(1) في الطبعة الحجريّة: «الأشياء» بدل «الأسباب».

(2) اللمعة الدمشقيّة: 4؛ الذكرى 1: 218.

(3) حكاه عنه المحقّق في المعتبر 1: 196.

(4) التهذيب 1: 139/ 390؛ الاستبصار 1: 126/ 427.

(5) النساء (4): 43.

(6) التهذيب 1: 143/ 403، و 303/ 881.

(7) الكافي 3: 45/ 13؛ التهذيب 1: 139/ 391؛ الاستبصار 1: 126/ 428.

138
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

النظر الثالث في أسباب الغسل ؛ ج‌1، ص : 137

و قيل للباقر عليه السّلام: كان علي عليه السّلام يأمر بالوضوء قبل غسل الجنابة، فقال: كذبوا على عليّ عليه السّلام، قال اللّه تعالى وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا «1»

«2» و في حكايته عليه السّلام للآية إشارة إلى أنّ المراد من الطهارة المأمور بها الغسل.

و قد نقل المحقّق في المعتبر إجماع المفسّرين على ذلك. «3»

و قد يقرّر مع ذلك بأنّ اللّه سبحانه أمر مريد الصلاة بالوضوء المعبّر عنه بغَسل الأعضاء المخصوصة و مسحها، ثمّ قال وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا «4» و لا يجوز أن يراد بالطهارة الوضوء؛ لأنّ التفصيل قاطع للشركة، و لا الوضوء و الغُسل معاً؛ لعدم جواز استعمال المشترك في معنييه عند المحقّقين. و لو سلّم فلا دليل على إرادتهما معاً من الآية؛ لأنّ الجواز لا يتحتّم المصير إليه، بل غيره و هو المتّفق عليه أولى، فتعيّن أن يراد به الغسل.

و حيث كانت الأسباب الموجبة للغسل ستّة كما عرفت (فهنا مقاصد) أربعة تشتمل على بيان الأسباب الستّة. و جمع بين الاستحاضة و النفاس في مقصدٍ؛ لقلّة مباحثهما بالنسبة إلى غيرهما، و كذا جمع المسّ مع أحكام الميّت؛ لقلّة أحكامه.

______________________________
(1) المائدة (5): 6.

(2) التهذيب 1: 139/ 389؛ الاستبصار 1: 125- 126/ 426.

(3) المعتبر 1: 195.

(4) المائدة (5): 6.

139
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

المقصد الأول في ماهية الجنابة و أحكامها ؛ ج‌1، ص : 140

 

[المقصد الأوّل في ماهيّة الجنابة و أحكامها]

(المقصد الأوّل) (في) ماهيّة (الجنابة) و أحكامها و هي مصدر قولك: أجنب الرجل و جنب و اجتنب جنابة.

و مَنَع بعض أهل العربيّة من الثاني، قال: لأنّ معناه: أصابته ريح الجنوب. «1»

و هي في اللغة: البُعْد و شرعاً: ما يكون سبباً للبُعْد عن أحكام الطاهرين من غيبوبة الحشفة أو قدرها قُبُلٍ أو دُبُرٍ أو نزول المنيّ على ما يأتي تفصيله.

[تحصل الجنابة]

(و هي) أي: الجنابة (تحصل للرجل و المرأة) و الخنثى بل لجميع الناس على الأصحّ، فلو فرض من الصغير جماع، وجب عليه الغسل عند البلوغ بسبب الجنابة الاولى. و تخلّف الحكم عنه؛ لفقد شرطٍ لا يُخرجه عن السببيّة.

و أمّا إنزال المنيّ فقد يفرض مع عدم تحقّق الرجوليّة، و يكون حينئذٍ سبباً فيها؛ لأنّ المنيّ ليس دليلًا على سبق البلوغ بل موجداً له، كما سيأتي، فالتعبير بالرجوليّة غير جيّدٍ. و مثله القول في المرأة؛ فإنّها تأنيث المرء، و هو لغةً: الرجل، كما نصّ عليه أهل اللغة.

و حصولها بأحد أمرين (بإنزال المنيّ مطلقاً) يقظةً و نوماً، بشهوة و بغير شهوة؛ لقوله عليه السلام صلّى اللّه عليه و آله‌

إنّما الماء من الماء. «2»

و لا فرق بين نزوله من الموضع المعتاد الخلقي أو من غيره مطلقاً مع تحقّق أنّه منيّ، عند المصنّف؛ للعموم.

______________________________
(1) حكاه السيوري في التنقيح الرائع 1: 92 عن الحريري.

(2) صحيح مسلم 1: 269/ 343؛ المعجم الكبير للطبراني 4: 267/ 4373؛ مسند أحمد 4: 443/ 11042.

 

140
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

تحصل الجنابة ؛ ج‌1، ص : 140

و اختار الشهيد إلحاقه بالحدث الأصغر الخارج من غير المعتاد، «1» فيعتبر فيه الاعتياد أو انسداد الخلقي.

و إن اعتبرنا هناك المعدة، احتمل اعتبار الصلب هنا؛ لأنّه يخرج منه.

و قرّبه المصنّف في النهاية. «2»

و يعتبر في الخنثى خروجه من فرجَيْه لأمن أحدهما إلا مع الاعتياد. و يأتي على إطلاق المصنّف، المتقدّم عدم اعتبار الاعتياد هنا مع تحقّق المنيّ.

(و بالجماع في قُبُل المرأة حتى تغيب الحشفة) فيه مع سلامتها، أو الباقي منها إن لم يذهب المعظم، أو قدرها من مقطوعها؛ لأنّه في معناها؛ لقوله عليه السّلام‌

إذا التقى الختانان وجب الغسل. «3»

و المراد بالتقائهما تحاذيهما؛ لعدم إمكان الالتقاء حقيقةً؛ فإنّ موضع الختان في المرأة أعلى الفرج، و مدخل الذكر في أسفله، و بينهما ثُقبة البول. و ذكر الختانين لا ينفي الحكم عمّا عداهما، فلو فرض انتفاؤهما أو أحدهما، يثبت للحي على الوجه المتقدّم؛ لقوله عليه السّلام‌

إذا أدخله فقد وجب الغسل.؛

(و) الجماع (في دُبُر الآدمي) سواء كان ذكراً أم أُنثى أم خنثى (كذلك) أي: كالجماع في قُبُل المرأة (و إن لم ينزل) الماء على الأصحّ.

أمّا دُبُر المرأة فادّعى السيّد المرتضى عليه الإجماع.؛ و لقول الصادق عليه السّلام‌

هو أحد المأتيّين فيه الغسل. «4»

(و) الجماع (في دُبُر الآدمي) سواء كان ذكرا أم أنثى أم خنثى (كذلك) أي: كالجماع في قبل المرأة (و إن لم ينزل) الماء على الأصحّ.

أمّا دبر المرأة فادّعى السيّد المرتضى عليه الإجماع «5». و لقول الصادق عليه السّلام‌

هو أحد المأتيّين فيه الغسل

«6». و ما ورد من الأخبار ممّا يدلّ بظاهره على عدم الوجوب فمؤوّل بما يحصل به الجمع بينهما.

و ذهب الشيخ في الاستبصار و النهاية إلى عدم الوجوب بالإيلاج في دُبُرها. «7»

و أمّا الذكر فاستدلّ السيّد عليه أيضاً بالإجماع المركّب، بمعنى أنّ كلّ مَنْ قال بوجوب‌

______________________________
(1) البيان: 54.

(2) نهاية الإحكام 1: 99.

(3) مسند أحمد 7: 341/ 25494.

(4) الكافي 3: 46/ 1؛ التهذيب 1: 118/ 310؛ الاستبصار 1: 108/ 358، و الحديث عن أحدهما».

(5) كما في الذكرى 1: 220؛ و جامع المقاصد 1: 257.

(6) التهذيب 7: 461/ 1847؛ الإستبصار 1: 112/ 373.

(7) الإستبصار 1: 112 (باب الرجل يجامع المرأة فيما دون الفرج ..)؛ النهاية: 19.

141
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

تحصل الجنابة ؛ ج‌1، ص : 140

الغسل في دُبُر المرأة قال به في دُبُر الذكر «1»، مع أنّه نقل في الأوّل الإجماع «2». و يلزم منه أن لا قائل بعدم الوجوب في الثاني.

و ردّه المحقّق في المعتبر، و قال: لم أتحقّق إلى الآن ما ادّعاه، فالأولى التمسّك فيه بالأصل. «3» و عنى به عدم وجوب الغسل بسببه.

و يندفع بأنّ الإجماع المنقول بخبر الواحد حجّة فكيف بمثل السيّد رحمه اللّه! و الخنثى لا يخرج عنهما، فدليلهما يشمله.

و إطلاق المصنّف الآدمي و المرأة «4» شامل للحيّ و الميّت، و الحكم فيه كذلك؛ للعموم.

و تقييده بالآدمي يقتضي بظاهره عدم وجوب الغسل بالإيلاج في فرج البهيمة، و لا نصّ فيه على الخصوص، و أصالة البراءة تقتضي عدمه.

و اختار المصنّف في النهاية وجوبه «5»؛ لفحوى إنكار عليّ عليه السّلام على الأنصار حيث لم يوجبوا الغسل في وطئ القُبُل من غير إنزال بقوله‌

أ توجبون عليه الرجم و الحدّ و لا توجبون عليه صاعاً من ماء. «6»»؟

و يمكن الاحتجاج له أيضاً بقوله عليه السّلام‌

ما أوجب الحدّ أوجب الغسل «7»

» و لفظة «ما» و إن كانت من صِيَغ العموم إلا أنّها مخصوصة بما عدا الأسباب الموجبة للحدّ، التي قد أُجمعَ على عدم إيجابها الغسل كالقذف، فيدخل المختلف فيه في العموم.

و توقّف المصنّف في النهاية في وطئ البهيمة مع جزمه بوجوب الغسل لو غاب فرج الميّت أو الدابّة في فرجه. «8»

و في الفرق نظر.

و شمل إطلاقه الآدمي و المرأة الحيّ و الميّت.

______________________________
(1) حكاه عنه المحقّق الحلّي في المعتبر 1: 181؛ و شرائع الإسلام 1: 18.

(2) تقدّم تخريجه في ص 141، الهامش (5).

(3) المعتبر 1: 181.

(4) كلمة «و المرأة» لم ترد في «ق، م».

(5) نهاية الإحكام 1: 96.

(6) التهذيب 1: 119/ 314.

(7) كنز العمّال 9: 543/ 27337.

(8) نهاية الإحكام 1: 96.

142
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

تحصل الجنابة ؛ ج‌1، ص : 140

و الفاعل في جميع ذلك كالمفعول.

و الخنثى باعتبار الدُّبُر كغيره، و هو داخل في إطلاق الآدمي، كما عرفت، فيجب عليه الغسل بإيلاج الواضح في دُبُره، دون الخنثى؛ لاحتمال الزيادة في الفاعل، و باعتبار القُبُل لا يجب عليه الغسل إلا باستعمال الفرجين منه معاً مع واضح، فلو أولج أحدهما في واضح و أولج في الآخر من واضحٍ، وجب عليه الغسل و لا يجب على الواضح على الأصحّ.

و أوجبه المصنّف في التذكرة محتجّاً بصدق التقاء الختانين و وجوب الحدّ به. «1» و فيهما منع.

نعم، يصير الواضحان كواجدي المنيّ في المشترك، فيقطع فيهما بجنب، كما يأتي.

و لو توالج الخنثيان، فلا شي‌ء؛ للشكّ في الحدث باحتمال الزيادة.

و المعتبر في الجماع ما كان محقّقاً، فلو رأى في منامه أنّه جامع و انتبه فلم يجد منيّاً، فلا غسل و إن وجد رطوبةً لا تشتمل على بعض أوصافه؛ لأصالة الطهارة.

(و لو اشتبه المنيّ) أي: اشتبه الخارج هل هو منيّ أم لا (اعتبر بالشهوة) المقارنة له بحيث يتلذّذ بخروجه (و الدفق) و هو خروجه في دفعات؛ لقوله تعالى مِنْ مٰاءٍ دٰافِقٍ «2» (و فتور الجسد) بعده بمعنى انكسار الشهوة.

و يعتبر أيضاً بالرائحة، فإنّه يشبه رائحة الطلع و العجين ما دام رطباً، و رائحة بياض البيض جافّاً.

و هذه الخواصّ الأربع متلازمة غالباً، و لو فرض انفكاكها، لم يشترط في الحكم به اجتماعها، بل تكفي واحدة منها.

و قوله (و في المريض لا يعتبر الدفق) إشارة إلى أنّه لا يشترط اجتماعها، و هو مبنيّ على الغالب من عدم انفكاكها، و أنّ الانفكاك يتّفق في المريض، و إلا فلو فرض الانفكاك، اكتفى بواحدة منها و إن لم يكن مريضاً كما قلناه، و قد صرّح به المصنّف في النهاية. «3»

لكن يفهم من عدم اعتبار الدفق فيه اشتراط اجتماع الشهوة عنده و انكسارها بعده بالمفهوم المخالف، و ليس مراداً بل على تقدير العمل به يبنى على الغالب حتى لو فرض عدم الشهوة‌

______________________________
(1) تذكرة الفقهاء 1: 228227، الفرع «ز».

(2) الطارق (86): 6.

(3) نهاية الإحكام 1: 99.

143
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

تحصل الجنابة ؛ ج‌1، ص : 140

في المريض أصلًا مضافاً إلى عدم الدفق؛ لضعف قوّته، اعتبر الخارج بالرائحة خاصّةً.

و على هذا لو خرج المنيّ بلون الدم؛ لاستكثار الجماع، وجب الغسل؛ تغليباً للخواصّ، مع احتمال العدم؛ لأنّه في الأصل دم، فإذا خرج على لونه، أشبه سائر الدماء.

(و لو وجد) المكلّف (على) شي‌ء من (جسده أو ثوبه) أو فراشه (المختصّ) بلُبْسه أو النوم عليه حين الوجدان و إن كان يلبسه أو ينام عليه هو و غيره تناوباً (منيّاً، وجب) على الواجد (الغسل) حينئذٍ.

و لو كان صبيّاً، حُكم ببلوغه إن كان ذلك في سنٍّ يمكن حصوله فيه، و هو اثنتا عشرة سنة فصاعداً، كما ذكره المصنّف في المنتهي، «1» و يحكم بنجاسة الثوب أو البدن في أقرب أوقات احتمال تجدّده، و يعيد الصلاة و نحوها الواقعة بعد ذلك الوقت خاصّة على الأصحّ؛ لأصالة عدم التكليف بالزائد، و استصحاباً ليقين الطهارة، فلا يرفعه احتمال الحدث، و يُعبّر عن هذا القول بإعادة كلّ صلاة يعلم عدم سبقها أو لا يحتمل سبقها، و هو آخر نومةٍ أو جنابة ظاهرة.

و احتاط الشيخ «2» رحمه اللّه بإعادة كلّ صلاة لا يعلم سبقها، و هو من أوّل نومةٍ أو جنابة ظاهرة وقعت في الثوب؛ لتوقّف اليقين بالبراءة عليه.

هذا كلّه بالنسبة إلى الحدث، و أمّا الخبث فيبنى على إعادة الجاهل بالنجاسة أوّلًا فيما حكم بحصوله فيه، لكن حكم الخبث هنا يدخل في حكم الحدث؛ لعدم الانفكاك و لو فرض تمشّي الحكم و الخلاف.

(و لا يجب) الغسل لو وجده (في المشترك) ثوباً و فراشاً. نعم، يستحبّ لهما الغسل و ينويان الوجوب، كما في كلّ احتياط. و لو علم المجنب منهما بعد ذلك، ففي الإعادة نظر تقدّم مثله في الوضوء.

و يتحقّق الاشتراك بالنوم فيه أو عليه دفعة لا بالتناوب، كما سبق، بل يجب على صاحب النوبة خاصّة و إن احتمل سبقه. و لم علم السبق، سقط عنه، و لم يجب على مَنْ قبله ما لم يتحقّق أنّه منه.

______________________________
(1) منتهى المطلب 2: 178.

(2) المبسوط 1: 28؛ و كما في الذكرى 1: 221.

144
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

و يحرم على الجنب أمور ؛ ج‌1، ص : 145

قيل «1» و لا يقطع بجنبٍ، كما في المشترك؛ لأصالة بقاء الطهارة، و عدم الدليل عليه. و فيه نظر.

و لو نسي صاحب النوبة بعينه، الحق بالمشترك، و مع تحقّق الاشتراك يقطع بجنبٍ، فلا يكمل بالمشتركين «2» عدد الجمعة؛ مبطلا" صلاة واحدٍ في نفس الأمر قطعاً.

و لو ائتمّ أحدهما بالآخر، بطلت صلاة المأموم خاصّة؛ للقطع بحدثه أو حدث إمامه، فتبطل صلاته على التقديرين.

و استوجه المصنّف الصحّةَ؛ لسقوط حكم هذه الجنابة في نظر الشرع. «3»

و لا ريب في جواز دخول المساجد دفعةً، و قراءة العزائم و نحوهما.

[و يحرم على الجنب أمور]

(و يحرم عليه) أي على الجنب المدلول عليه التزاماً (قراءة) كلّ واحدة من سُور السجدات (العزائم) و هي أربع سور: سجدة لقمان، و حم السجدة، و النجم، و إقرأ.

(و) كذا يحرم عليه قراءة (أبعاضها) حتى البسملة إذا قصدها منها، بل لفظة «بسم» و هو إجماع.

(و) كذا يحرم عليه (مسّ كتابة القرآن) إجماعاً. و لقوله تعالى لٰا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ «4» و هو خبر معناه النهي؛ لعدم الفائدة فيها لو أُريد بها الخبر، و لعدم مطابقة الواقع، و النهي للتحريم. و للأخبار.

و لا فرق في المسّ بين باطن الكفّ و غيره من أجزاء البدن؛ لشمول المسّ له لغةً.

و هل يحرم المسّ بما لا تحلّه الحياة من أجزاء البدن، كالشعر و الظفر؟ الظاهر لا؛ لعدم كونهما محلّ الحياة، و حكم الحدث من توابعها، و من ثَمَّ يسقط بالموت.

و كذا لا يجب الغسل بمسّ الميّت به و إن نجس، كما لا يجب بمسّه من الميّت.

و لا يخفى أنّ التحريم من باب خطاب الشرع المختصّ بالمكلّف، فلا يمنع الصبي منه؛ لعدم التكليف. نعم، يستحب للوليّ منعه تمريناً.

و لا فرق بين المنسوخ حكمه منه و غيره دون المنسوخ تلاوته.

______________________________
(1) لم نعثر على القائل في مظانّه من المصادر المتوفّرة لدينا.

(2) في الطبعة الحجريّة: «المشترك».

(3) نهاية الإحكام 1: 101.

(4) الواقعة (56): 79.

145
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

و يحرم على الجنب أمور ؛ ج‌1، ص : 145

و لا يلحق بالقرآن الكتبُ الدينيّة، كالحديث.

(أو شي‌ء مكتوب عليه اسم اللّه تعالى) و لو كان على درهمٍ أو دينار أو غيرهما؛ لقول الصادق عليه السّلام‌

لا يمسّ الجنب ديناراً و لا درهماً عليه اسم اللّه تعالى. «1»»

و هذه الرواية ذكرها الأصحاب في الدلالة، و هي ضعيفة السند، لكنّها مناسبة لما ينبغي من تعظيم اسم اللّه تعالى.

(و أسماء أنبيائه و الأئمّة عليهم السّلام) المقصودة بالكتابة؛ لمناسبة التعظيم أيضاً.

و جوّزه هنا المحقّق في المعتبر «2» على كراهيةٍ؛ لعدم الدليل على التحريم، مع أنّه قد روي عن الصادق عليه السّلام في الجنب يمسّ الدراهم و فيها اسم اللّه أو اسم رسوله، قال‌

لا بأس ربما فعلت ذلك.

«3»» و هذه الرواية إنّما تدلّ على جواز مسّ الدراهم المكتوب عليها ذلك خاصّة، فلا يتعدّى إلى غيرها. و جاز اختصاصها بالحكم؛ لعموم البلوى و دفع الحرج، و ليست مستندَ المحقّق و لا مطابقةً لقوله؛ لتخصيصه الحكم باسم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و الإمام، و تعميمه الرخصة في الدراهم و غيرها.

(و) كذا يحرم عليه (اللبث) بفتح اللام و سكون الباء على غير قياس (في المساجد) للخبر. «4» و لقوله تعالى وَ لٰا جُنُباً إِلّٰا عٰابِرِي سَبِيلٍ. «5»

و المراد من الصلاة في صدر الآية «6» مواضع الصلاة؛ لدلالة العجز عليه، أو يريد الصلاة و مكانها على طريق الاستخدام، كما ذكره بعض أهل البيان، إلا أنّه غير الاستخدام المشهور.

(و وضع شي‌ء فيها) أي في المساجد على الأصحّ، خلافاً لسلار؛ فإنّه كرهه خاصّة، «7» بل كره اللبث في المساجد أيضاً، «8» و لم يفرق بين المسجدين و غيرهما.

و مستند التحريم ما رواه عبد اللّه بن سنان، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الجنب‌

______________________________
(1) التهذيب 1: 31/ 82؛ الاستبصار 1: 113/ 374.

(2) المعتبر 1: 188.

(3) المعتبر 1: 188.

(4) التهذيب 1: 125/ 338، و 371/ 1132.

(5) النساء (4): 43.

(6) النساء (4): 43.

(7) المراسم: 42.

(8) المراسم: 42.

146
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

و يكره على الجنب أمور ؛ ج‌1، ص : 147

و الحائض يتناولان من المسجد المتاع يكون فيه، قال‌

نعم، و لكن لا يضعان في المسجد شيئاً.

«1»» و خصّ بعض المتأخّرين تحريمَ الوضع باستلزام اللبث. «2»

و هو ضعيف؛ لعموم النصّ، و استلزامه عدم فائدة ذكر الوضع؛ لأنّ اللبث سبب تامّ في التحريم، سواء حصل معه وضع أم لا.

(و الاجتياز) أي السلوك (في المسجدين): مسجد الحرام و مسجد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله دون غيرهما من المساجد؛ فإنّه يباح الاجتياز فيها على كراهة؛ لما روي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام حيث سُئل عن الجنب يجلس في المساجد، قال‌

لا، و لكن يمرّ فيها إلا المسجد الحرام و مسجد الرسول صلّى اللّه عليه و آله. «3»»

و لا يشترط في جواز الاجتياز في باقي المساجد أن يكون للمسجد «4» بابان يدخل من أحدهما و يخرج من الآخر، بل صدق السلوك و عدم اللبث، مع احتماله.

نعم، ليس له التردّد في جوانب المسجد بحيث يخرج عن اسم المجتاز قطعاً؛ لأنّه كالمكث.

و هذا كلّه مع الاختيار، فلو اضطرّ، جاز المكث في جميع المساجد متيمّماً، فإن أمكن التيمّم خارجاً، وجب، و إلا جاز بتراب المسجد، و يعيده كلّما أحدث و لو أصغر.

[و يكره على الجنب أمور]

(و يكره) له (الأكل و الشرب إلا بعد المضمضة و الاستنشاق) أو الوضوء، للخبر، «5» فإن أكل أو شرب قبل ذلك، خِيف عليه البرص. و روى أنّه يورث الفقر. «6» و يتعدّد بتعدّد الأكل و الشرب مع التراخي لا مع الاتّصال.

(و) كذا يكره له (مسّ المصحف) و حمله بغير علاقة، أمّا بها فلا بأس، قاله المصنّف، «7» و فيه نظر.

______________________________
(1) الكافي 3: 51/ 8؛ التهذيب 1: 125/ 339.

(2) ابن فهد الحلّي في المقتصر: 49.

(3) الكافي 3: 50/ 4؛ التهذيب 1: 125/ 338.

(4) في الطبعة الحجرية: «للمساجد».

(5) الكافي 3: 50/ 1 و 51/ 12؛ التهذيب 1: 129/ 354، و 130/ 357.

(6) الفقيه 1: 47/ 178.

(7) نهاية الإحكام 1: 104.

147
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

و يكره على الجنب أمور ؛ ج‌1، ص : 147

(و النوم إلا بعد الوضوء) للخبر. «1» و لاستحباب النوم على طهارة و إن كانت ناقصةً، كالتيمّم مع وجود الماء، فكذا يكفي فيه الوضوء عن الغسل و الغسل أفضل.

(و الخضاب) له بحنّاء و غيره. و كذا يكره أن يجنب و هو مختضب، كلّ ذلك للرواية. «2»

(و قراءة ما زاد على سبع آيات) في جميع أوقات جنابته، فلا يشترط التوالي. قيل «3» و يصدق السبع و لو بواحدة مكرّرة سبعاً.

و حرّم ابن البرّاج قراءة ما زاد على السبع، «4» و نُقل عن سلار في أحد قوليه تحريم القراءة مطلقاً «5»؛ لما روي عنه «6»

لا يقرأ الجنب و لا الحائض شيئاً من القرآن «7»»

و عن علي عليه السّلام‌

لم يكن يحجب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عن قراءة القرآن شي‌ء سوى الجنابة. «8»»

قلنا: يحمل على الكراهة إن صحّ السند؛ جمعاً بينهما و بين غيرهما من الأخبار كصحيح الفضيل بن يسارعن الباقر عليه السّلام‌

لا بأس أن تتلو الحائض و الجنب القرآن «9»»

و صحيح الحلبي عن الصادق عليه السّلام في الحائض و الجنب و المتغوّط‌

«يقرءون ما شاؤا. «10»»

و احتجّ أيضاً باشتهار النهي عن قراءة القرآن للجنب و الحائض في عهد النبي صلى الله عليه و آله بين الرجال و النساء، و من ثَمَّ تخلّص عبد اللّه بن رواحة و كان أحد النقباء من تهمة امرأته بأمته بشعرٍ مُوهماً القراءة، فقالت: صدق اللّه و كذب بصري، فأخبر النبي صلى الله عليه و آله فضحك حتى بدت نواجذه. «11»

(و تشتدّ الكراهة) بل الظاهر من كلام الشيخ في كتابي الأخبار «12» التحريم (فيما زاد على سبعين) أية.

______________________________
(1) الفقيه 1: 47/ 179.

(2) التهذيب 1: 181/ 517 519؛ الاستبصار 1: 116/ 386 و 387، و 117/ 392.

(3) لم نعثر على القائل فيما بين أيدينا من المصادر.

(4) المهذّب 1: 34.

(5) نقله عنه الشهيد في الذكرى 1: 269 عن «الأبواب».

(6) في «م»: «عن النبيّ».

(7) سنن الترمذي 1: 236/ 131؛ سنن الدارقطني 1: 117/ 1؛ سنن البيهقي 1: 461/ 1479.

(8) سنن ابن ماجة 1: 195/ 594؛ سنن أبي داوُد: 59/ 229؛ سنن النسائي 1: 144؛ مسند أحمد 1: 135/ 640.

(9) التهذيب 1: 128/ 347؛ الاستبصار 1: 114/ 380.

(10) التهذيب 1: 128/ 348؛ الاستبصار 1: 114/ 381.

(11) الاستيعاب 3: 901900؛ مختصر تاريخ دمشق 12: 158؛ سنن الدارقطني 1: 120/ 13.

(12) انظر: التهذيب 1: 128؛ و الاستبصار 1: 114- 115.

148
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

و يكره على الجنب أمور ؛ ج‌1، ص : 147

و الاحتجاج على تحريم ما زاد بالإذن في قراءة السبع أو السبعين ضعيف؛ فإنّ قراءة ما زاد على العدد أعمّ من التحريم، بل يجوز أن يكون مكروهاً أو مباحاً.

(و يجب عليه) أي على المجنب (الغسل) بسبب الجنابة و إن لم يكن مخاطباً بمشروطٍ بالطهارة عند المصنّف، فوجوبه عنده لنفسه «1» بمعنى أنّه سبب تامّ في وجوب الغسل شرعاً و إن كانت الذمّة بريئةً من عبادةٍ مشروطة بالغسل، محتجّاً بالأدلّة الدالّة بإطلاقها أو عمومها على ذلك، كقوله عليه السّلام‌

إذا التقى الختانان وجب الغسل «2»»

و‌

إنّما الماء من الماء «3»»

وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا «4» و قول عليّ عليه السّلام‌

أ توجبون عليه الرجم و الحدّ و لا توجبون عليه صاعاً من ماء «5»»

؟! و قوله عليه السّلام‌

إذا أدخله فقد وجب الغسل. «6»»

و لأنّه لو لم يجب إلا لما يشترط فيه الطهارة، لما وجب أوّل النهار للصوم، و التالي باطل إجماعاً فالمقدّم مثله، و الملازمة ظاهرة. «7»

و الأكثر «8» على أنّ وجوبه مشروط بوجوب شي‌ء من الغايات المتقدّمة، كباقي أغسال الأحياء؛ إذ لا خلاف بينهم في وجوبها لغيرها.

و ممّا يدلّ على اشتراك هذه الأغسال غير غسل الميّت في تعلّق وجوبها بوجوب الغايات تضيّقها بتضيّق وقتها و اتّساعها بسعته، فلا وجه لإخراج غسل الجنابة من البين.

و يدلّ على الجميع أيضاً ما رواه زرارة في الصحيح عن أبي جعفر عليه السّلام أنّه قال‌

إذا دخل الوقت وجب الطهور و الصلاة، و لا صلاة إلا بطهور «9»»

و في «إذا» معنى الشرط، فينتفي المشروط بانتفائه؛ لأنّ مفهوم الشرط حجّة عند كثير من الأُصوليّين و منهم المصنّف. «10»

______________________________
(1) مختلف الشيعة 1: 159، المسألة 107؛ منتهى المطلب 2: 256.

(2) مسند أحمد 7: 341/ 25494، عن النبي، الكافي 3: 46/ 2؛ التهذيب 1: 118/ 311؛ الاستبصار 1: 109108/ 359 عن الإمام الرضا.

(3) صحيح مسلم 1: 269/ 343، مسند أحمد 3: 443/ 11042، المعجم الكبير للطبراني 4: 267/ 4374.

(4) المائدة (5): 6.

(5) التهذيب 1: 119/ 314.

(6) الكافي 3: 46/ 1؛ التهذيب 1: 118/ 310؛ الاستبصار 1: 108/ 358.

(7) مختلف الشيعة 1: 161159، المسألة 107.

(8) منهم ابن إدريس في السرائر 1: 128.

(9) التهذيب 2: 140/ 546.

(10) انظر: مبادئ الوصول إلى علم الأُصول: 98، و نهاية الوصول إلى علم الأُصول، المقصد الرابع: في الأمر و النهي، الفصل الثالث: في مقتضيات الصيغة، البحث السادس: في أنّ المعلّق بشرطٍ عدم عند عدمه.

149
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

و يكره على الجنب أمور ؛ ج‌1، ص : 147

قال الشهيد رحمه اللّه: و هذا الخبر لم يذكره المتعرّضون لبحث هذه المسألة، و هو من أقوى الأخبار دلالةً و سنداً، أورده في التهذيب في باب تفصيل واجب الصلاة. «1»

و يدلّ على وجوب محلّ النزاع لغيره على الخصوص عطفه على الوضوء المشروط بالصلاة إجماعاً في قوله تعالى وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا «2» و عطف التيمّم عليه المشروط بها أيضاً اتّفاقاً، فلو لا كون حكمه كذلك، لزم تهافت كلامه تعالى بتوسيطه معطوفاً بين عبادتين مشروطتين كذلك مصرّحاً بالاشتراط في أُولاهنّ بقوله إِذٰا قُمْتُمْ «3» و الحكم إذا صدر بأداة الشرط، لزم من انتفائه انتفاؤه؛ قضيّةً للاشتراط، فلا يرد أنّ الإيجاب لأجل الصلاة لا ينفي الوجوب بدونها.

و المصنّف رحمه اللّه أجاب عن ذلك بالمنع من مساواة المعطوف للمعطوف عليه في الحكم، «4» مع أنّه قد ادّعى في غير موضعٍ التساوي بين المعطوف و المعطوف عليه، «5» فمنعه هنا خاصّة غريب، مع أنّك قد عرفت أنّا لو سلّمنا عدم لزوم المساواة، فالاحتجاج بها باقٍ باعتبار توسّط الغسل بين طهارتين مشروطتين.

و يدلّ عليه أيضاً صحيح الكاهلي عن الصادق عليه السّلام في المرأة يجامعها الرجل فتحيض و هي في المغتسل هل تغتسل؟ قال‌

قد جاءها ما يفسد الصلاة فلا تغتسل «6»»

علّل عليه السّلام عدم الغسل بمجي‌ء ما يفسد الصلاة عاطفاً بفاء التفريع، فدلّ بالإيماء على أنّ وجوب الغسل إنّما كان ناشئاً عن وجوب الصلاة، و إلا لزم عدم مطابقة الجواب للسؤال؛ إذ لا يلزم من إبطال الصلاة إبطال الطهارة، و المسؤول عنه إنّما هو فعل الغسل حال الحيض، فالجواب عنه بمجي‌ء مفسد الصلاة لو لم يرد ما قلناه غير مطابق سيّما و الإمام عليه السّلام قد علم من قول السائل بمجي‌ء المفسد لها، فهو مثل قوله عليه السّلام‌

أ ينقص إذا جفّ «7»»؟

في الإيماء إلى التعليل، فدلالة الخبر حينئذٍ ليست من باب المفهوم، كما أورده المصنّف في المنتهي. «8»

______________________________
(1) الذكرى 1: 194.

(2) المائدة (5): 6.

(3) المائدة (5): 6.

(4) مختلف الشيعة 1: 161، المسألة 107.

(5) منتهى المطلب 2: 257.

(6) الكافي 3: 183/ 1؛ التهذيب 1: 370/ 1128، و 395/ 1224.

(7) المستدرك للحاكم 2: 38.

(8) منتهى المطلب 2: 258.

150
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

و يكره على الجنب أمور ؛ ج‌1، ص : 147

و ما ذكر من الأخبار الدالّة على أنّ وجوبه معلّق على الالتقاء أو الماء و نحوهما غير مقيّد باشتراط وجوب عبادةٍ مشروطة بالغسل معارض بالأوامر الدالّة على وجوب الوضوء و باقي الأغسال غير مقيّدة بالصلاة كقول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله‌

مَنْ نام فليتوضّأ «1»»

و قول علي عليه السّلام مَنْ وجد طعم النوم وجب عليه الوضوء «2»»

و قول الرضا عليه السّلام‌

إذا خفي الصوت وجب الوضوء «3»»

و قول الصادق عليه السّلام‌

غسل الحائض واجب، و غسل الاستحاضة واجب، و غسل مَنْ مسّ ميّتاً واجب «4»»

إلى غير ذلك، و كالحكم بوجوب غسل الثوب و البدن و الإناء من النجاسة مع الاتّفاق على أنّ المراد بذلك الواجبُ المشروط، و مهما أجاب عن ذلك فهو الجواب عمّا احتجّ به لغسل الجنابة.

قال في الذكرى: و الأصل في ذلك أنّه لمّا كثر علم الاشتراط أُطلق الوجوب و غلب في الاستعمال. «5» انتهى.

و لا يرد أنّ تقييد إطلاق تلك الأخبار ليس بأولى من تقييد مفهوم خبر زرارة، المتقدّم «6» و نحوه بما عدا غسل الجنابة؛ فإنّ المرجّح فيه أصالة براءة ذمّة المكلّف من الطهارة عند الخلوّ من مشروطٍ بها، مضافاً إلى ما ذكر من المعارضة.

و حديث الملازمة بين وجوبه لغيره و عدم وجوبه للصوم ممنوع، بل قيل «7» إنّه من قبيل المغالطة؛ للإجماع من غير الصدوق على اشتراط الصوم بالغسل على بعض الوجوه، و قد تقدّم القول فيه.

و أمّا غسل الأموات: فلا خلاف في وجوبه لنفسه، و الفرق بينه و بين غيره أنّ تلك شروط لعباداتٍ مخصوصة تتضيّق بتضيّق وقتها، و تتّسع بسعته، كما تقدّم، و لا كذا غسل الأموات، بل وجوبه بأصل الشرع ثابت باعتبار ذاته، و ترتّب الصلاة عليه على الغسل و اشتراط صحّتها به من قبيل الوجوب المرتّب، كترتّب التكفين على الغسل‌

______________________________
(1) سنن ابن ماجة 1: 161/ 477؛ سنن أبي داوُد 1: 52/ 303؛ سنن الدارقطني 1: 161/ 5؛ سنن البيهقي 1: 190/ 578.

(2) الكافي 3: 37/ 15؛ التهذيب 1: 8/ 10؛ الإستبصار 1: 8180/ 252.

(3) الكافي 3: 37/ 14؛ التهذيب 1: 9/ 14.

(4) الكافي 3: 40/ 2؛ الفقيه 1: 45/ 176؛ التهذيب 1: 104/ 270، الاستبصار 1: 9897/ 315، و ما في المتن موافق لما في الاستبصار نصّاً.

(5) الذكرى 1: 196.

(6) في ص 149.

(7) لم نعثر على القائل في مظانّه.

151
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

و يجب في الغسل أمور ؛ ج‌1، ص : 152

، و الدفن على الصلاة.

و من ثَمَّ ترى وجوب الغسل منفكّاً عن وجوب الصلاة في الطفل، و الصلاة منفكّةً عن وجوب الغسل في الشهيد، و ذلك يدلّ على عدم الاشتراط وجوداً و عدماً، و باقي الطهارات ليست كذلك؛ لاستحالة انفكاك المشروط عن الشرط، قضيّةً للاشتراط، و لا يلزم مثل ذلك في غسل الجنابة بالنسبة إلى ما يترتّب عليه من العبادة؛ لما تقدّم من الأدلة، و لاشتراط نيّة الرفع أو الاستباحة فيه عند مدّعي وجوبه لنفسه، و هو آية اشتراطها به، مع أنّ القول بإخراج غسل الجنابة من بينها غير معروف لأحدٍ من المتقدّمين، و إنّما هو قول حادث، و المصنّف اعترف بذلك في المختلف و المنتهى «1» حيث أطلق حكاية الخلاف عن المتأخّرين، و من ثَمَّ قال شيخه المحقّق في المسائل المصريّة: إخراج غسل الجنابة من بين سائر الأغسال تحكّم بارد. «2» و قال الشهيد رحمه اللّه في البيان: تحكّم ظاهر. «3»

و تظهر فائدة القولين في أمرين:

أحدهما: أنّ الجنابة على الأوّل سبب تامّ في إيجاب الغسل، فمتى حصلت للمكلّف وجب عليه الغسل و إن كانت ذمّته بريئةً من عبادةٍ مشروطة به، لكنّ الوجوب موسّع مع عدم تضيّق عبادةٍ مشروطة به، و على الثاني تكون الجنابة سبباً ناقصاً و إنّما يتمّ عند شغل الذمّة بمشروطٍ به، فينوي الوجوب حينئذٍ، و لو أراد الاغتسال بعدها و قبل اشتغال الذمّة بالمشروط به، نوى الندبَ و رَفعَ الحدث أو الاستباحة، و يدخل به في الصلاة و نحوها بعد تمام سبب الوجوب، كالوضوء المندوب كذلك.

و ثانيهما: لو ظنّ الوفاة قبل شغل ذمّته بالمشروط به، وجب عليه المبادرة إلى الغسل على الأوّل، كما في العبادات الموسّعة، فلو أخّر إلى وقتٍ يظنّ فيه الموت، عصى، و لا يجب على الثاني؛ لعدم تحقّق الوجوب.

[و يجب في الغسل أمور]

(و يجب فيه) أي: في الغسل (النيّة) المشتملة على التقرّب إجماعاً، و الوجه، و أحد الأمرين على ما فصّل في الوضوء، و أكثر ما هناك من البحث آتٍ هنا، و يزيد هنا اشتراط‌

______________________________
(1) مختلف الشيعة 1: 159، المسألة 107؛ منتهى المطلب 2: 256.

(2) كما في الذكرى 1: 196؛ و في الرسائل التسع: 100 المسألة الرابعة من المسائل العزّيّة.

(3) البيان: 36.

152
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

و يجب في الغسل أمور ؛ ج‌1، ص : 152

أحد الأمرين ضعيفاً على مذهب المصنّف من وجوبه لنفسه باعتبار عدم دلالة إِذٰا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلٰاةِ «1» عليه.

و وقتها فعلًا (عند الشروع) في مستحبّات الغُسل، كغَسل اليدين و المضمضة و الاستنشاق، أو واجباته، كغَسل الرأس في الترتيب، و جزءٍ من البدن في الارتماس.

و قد تقدّم تفصيله في الوضوء إلا أنّ المصنّف «2» و غيره «3» ذكر أنّ غَسل اليدين هنا غير مشروط بما ذكر في الوضوء. و فيه تأمّل.

(مستدامة الحكم) بمعنى أن لا ينوي منافياً للنيّة أو لبعض مشخّصاتها، أو البقاء على حكمها و العزم على مقتضاها، كما مرّ (حتى يفرغ) من الغسل.

فلو نوى في الأثناء منافياً، بطلت النيّة، فلو عاد، استأنف النيّة للباقي أن لم يطل الفصل مطلقاً أو طال و لم يكن الغسل ممّا يشترط فيه الموالاة كغسل الاستحاضة، و إلا أعاد الغسل من رأس.

و لو أخلّ بالموالاة فيما لا تعتبر فيه ثمّ عاد إلى الباقي، لم يفتقر إلى نيّة مستأنفة و إن طال الزمان مع بقاء الاستمرار الحكمي.

و أوجب المصنّف في النهاية «4» تجديد النيّة متى أخّر بما يعتدّ به؛ ليتميّز عن غيره، و تبعه في الذكرى «5» مع طول الزمان.

و لا فرق في تأثير نيّة المنافي بين وقوعها حالة الذهول و الذكر؛ لضعف الاستدامة الحكميّة في جانب الابتداء الحقيقي.

(و) يجب (غَسل بشرة جميع الجسد بأقلّه) أي بأقلّ الغَسل، و هو ما اشتمل على الجريان، كما في الوضوء؛ تحقيقاً لمسمّى الغَسل، فلا يكفي الإمساس من دونه.

و المراد بالبشرة ظاهر الجلد. و احترز بها عن الشعر، و لا يجب غسله إلا أن يتوقّف غَسل البشرة عليه، فيجب مقدّمةً لا أصالةً، فلا يجب على المرأة نقض الضفائر إذا وصل الماء إلى ما تحته بدونه.

______________________________
(1) المائدة (5): 6.

(2) حكاه عنه المحقّق الكركي في جامع المقاصد 1: 261؛ و انظر: نهاية الإحكام 1: 110109.

(3) انظر: الذكرى 2: 239238.

(4) نهاية الإحكام 1: 107.

(5) الذكرى 2: 115.

153
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

و يجب في الغسل أمور ؛ ج‌1، ص : 152

(و) كذا يجب (تخليل ما) أي الشي‌ء الذي (لا يصل إليه) أي إلى الجسد المذكور سابقاً. و المراد ما تحته منه. أو يريد بوصوله إليه وصوله إلى ما تحته من البشرة مجازاً، و ليس المراد به ما يظهر من العبارة من أنّ إصابة الماء للشي‌ء المخلّل يكفي عن وجوب تخليله؛ فإنّ منه ما لا يجب غَسله كالشعر و الخاتم، و لا يكفي وصول الماء إليه، إلا أن يريد بوصول الماء إليه وصوله إلى جميع أجزائه، المستلزم ذلك غالباً غَسل ما جاوره من البشرة، أو يحمل على ما يجب غَسله، كمعاطف الأُذنين و الإبطين و ما تحت ثدي المرأة، فإنّه يجب تخليله إذا لم يصل (الماء) إلى جميع أجزائه (إلا به) أي بالتخليل، و ذلك كالشعر، سواء خفّ أم كثف؛ لما روي‌

أنّ تحت كلّ شعرة جنابة فبلّوا الشعر و أنقوا البشرة. «1»

و سقوط تخليل الكثيف الكائن في وجه المتوضّئ؛ لأنّ الأمر فيه مختصّ بالوجه، و أخذه من المواجهة، فينتقل الاسم إلى الشعر، بخلافه في الغسل؛ لخروجه عن اسم البدن و البشرة و على هذا فيجب في الوضوء تخليل شعر اليدين و إن كثف؛ لتوقّف غَسل اليد عليه، و عدم انتقال الاسم إليه.

و استقرب في الذكرى غَسله أيضاً؛ لأنّه من توابع اليد. «2»

(و) كذا يجب في الغسل (الترتيب) بين أعضائه الثلاثة (يبدأ) في الغسل (بالرأس) مع الرقبة (ثمّ) ب‍ (الجانب الأيمن ثمّ الأيسر) و هو من تفرّدات علمائنا، و نقل الشيخ إجماعنا عليه، و احتجّ عليه مع الإجماع بما رواه زرارة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام حيث سأله كيف يغتسل الجنب؟ فقال‌

إن لم يكن أصاب كفّه شي‌ء «3» غمسها في الماء ثمّ بدأ بفرجه فأنقاه ثمّ صبّ على رأسه ثلاث أكفّ ثمّ صبّ على منكبه الأيمن مرّتين و على منكبه الأيسر مرّتين، فما جرى عليه الماء فقد أجزأه. «4» «5»

و نحوه رواية محمد بن مسلم عن أحدهما. «6» عليهما السّلام.

______________________________
(1) أورده كما في المتن المحقّق الكركي في جامع المقاصد 1: 278؛ و في سنن ابن ماجة 1: 196/ 597؛ و سنن أبي داوُد 1: 65/ 248: «.. فاغسلوا الشعر ..» بدل: «.. فبلّوا الشعر ..».

(2) الذكرى 2: 132.

(3) في التهذيب: «منّي».

(4) الكافي 3: 43/ 3؛ التهذيب 1: 133/ 368.

(5) الخلاف 1: 132، المسألة 75.

(6) الكافي 3: 43/ 1؛ التهذيب 1: 132/ 365؛ الاستبصار 1: 123/ 420.

154
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

و يجب في الغسل أمور ؛ ج‌1، ص : 152

و روى العامة عن عائشة في وصف وضوء «1» رسول اللّهُ مثله. «2»

و هذه الروايات دلّت صريحاً على تقديم الرأس على غيره؛ لعطف اليمين عليه ب‍ «ثمّ» الدالّة على التعقيب.

و أمّا تقديم الأيمن على الأيسر: فاستفيد من خارجٍ إن لم نقل بإفادة الواو الترتيب، كما هب إليه الفرّاء، «3» بل على الجمع المطلق أعمّ من الترتيب و عدمه، كما هو رأي الجمهور؛ إذ لا قائل بوجوب الترتيب في الرأس دون البدن، فالفرق إحداث قولٍ ثالث.

و لأنّ الترتيب قد ثبت في الطهارة الصغرى على هذا الوجه، و كلّ مَنْ قال بالترتيب فيها قال بالترتيب في غسل الجنابة، فالفرق مخالف للإجماع المركّب فيهما.

و ما ورد من الأخبار أعمّ من ذلك يحمل مطلقها على المقيّد.

و الترتيب واجب في جميع أنواع الغسل (إلا في) غسل (الارتماس) تحت الماء دفعةً واحدة عرفيّة بحيث يشمل الماء البشرة في زمانٍ قليل، فإنّه يسقط الترتيب فعلًا و نيّةً و حكماً.

و كذا يسقط الترتيب في شبه الارتماس، كالوقوف تحت المجرى و المطر الغزيرين، كما اختاره المصنّف في غير «4» هذا الكتاب و إن كان ظاهره هنا وجوب الترتيب فيه، كما اختاره ابن إدريس، «5» و مال إليه المحقّق في المعتبر. «6»

و ألحق بعضهم بهما صبّ الإناء الشامل للبدن، «7» و هو الظاهر منْ كلام مَن أطلق القول بشبه الارتماس، كالمصنّف و غيره. و جَعَله في الذكرى لازماً للشيخ «8»؛ حيث صرّح بالمطر و المجرى خاصّة. «9»

و وجه اللزوم مع المساواة في المعنى: أنّ النصّ إنّما ورد في المطر، «10» فذِكرُ الشيخ معه‌

______________________________
(1) كذا، و الظاهر: «غسل» بدل «وضوء».

(2) صحيح مسلم 1: 253/ 316؛ مسند أحمد 7: 79/ 23736.

(3) مغني اللبيب 1: 464.

(4) نهاية الإحكام 1: 108؛ تذكرة الفقهاء 1: 232، الفرع الثالث.

(5) السرائر 1: 135.

(6) المعتبر 1: 185184.

(7) كما في الذكرى 2: 226.

(8) الذكرى 2: 226.

(9) المبسوط 1: 29.

(10) الفقيه 1: 14/ 27؛ التهذيب 1: 149/ 424؛ الاستبصار 1: 125/ 425.

155
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

و يجب في الغسل أمور ؛ ج‌1، ص : 152

القعود تحت المجرى «1» يدلّ على التعدية إلى ما يساوي المطر في المعنى، و هذا لازم أيضاً في الحقيقة لكلّ مَنْ ذكر مع المطر شيئاً من ميزابٍ أو شبهه أو غيرهما، فلا وجه للتوقّف فيه على الخصوص، بل ينبغي إمّا إدخاله، أو تخصيص الحكم بالمطر.

و مستند الأوّل مع الإجماع قول أبي عبد اللّه عليه السّلام‌

و لو أنّ رجلًا ارتمس في الماء ارتماسة واحدة أجزأه ذلك و إن لم يدلك جسده «2»

و نحوه. «3»

و الثاني مع مساواته الأوّل في وحدة شمول الماء عرفاً ما رواه علي بن جعفر عن أخيه موسى عليه السّلام حين سأله عن الرجل يجنب هل يجزئه من غسل الجنابة أن يقوم في القطر حتى يغسل رأسه و جسده و هو يقدر على ما سوى ذلك؟ قال‌

إن كان يغسله اغتساله بالماء أجزأه ذلك. «4»

و أجود ما يقرّر في وجه الاستدلال به أنّه عليه السّلام حكم بصحّة الغسل به على تقدير مساواته للغسل بالماء في غيره، و معلوم أنّ الغسل بغيره ينقسم إلى ترتيب و ارتماس، فيلحق بما أشبهه؛ لأنّه عليه السّلام ألحقه بالمشابه في قوله‌

إن كان يغسله اغتساله

لأنّ كاف التشبيه مقدّرة في «اغتساله» أو يقدّر مصدراً موصوفاً تقديره: إن كان يغسله غسلًا مساوياً اغتساله.

و إذا كان كذلك، فإن كان الماء غزيراً بحيث يغسله دفعة عرفيّة كالمرتمس ارتماسة واحدة، كان كالارتماس في الحكم، و إن تراخي و حصل معه الجريان على الأعضاء، كان كغسل الترتيب.

و هذا توجيه واضح، و به يندفع قول المحقّق في المعتبر: إنّ هذا الخبر مطلق فينبغي أن يقيّد بالترتيب في الغسل «5»؛ إذ لا مقابل له حتى يقيّد بالترتيب؛ للإجماع على صحّة الارتماس.

و ما يتخيّل من عدم المساواة؛ لعدم صدق الدفعة هنا بل لا بدّ في استيعاب جميع البشرة من زمان أطول من زمان الارتماس يندفع بما ذكرناه من أنّ المراد به الدفعة العرفيّة القليلة الزمان، لا اللغويّة، لتخلّفها في المرتمس ذي الشعر الكثيف، و في السمين ذي العُكَن ببطنه، فإنّ تخليل ذلك لا بدّ من احتياجه إلى زمان، مع الإجماع على جواز‌

______________________________
(1) المبسوط 1: 29.

(2) التهذيب 1: 148/ 422، و 371370/ 1131.

(3) الكافي 3: 43/ 5؛ التهذيب 1: 149148/ 423؛ الاستبصار 1: 125/ 424.

(4) المصادر في ص 155، الهامش (10).

(5) المعتبر 1: 185.

156
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

و يجب في الغسل أمور ؛ ج‌1، ص : 152

الارتماس فيه. و كذا مَنْ كان قائماً في الماء على شي‌ء لا بدّ في غسل الملاصق من رِجْليه من زمانٍ بعد غمس بدنه إلا بتقدير مشقّة شديدة لا يدلّ عليها ما يدلّ على إجزاء الارتماس، و إرادة الوحدة العرفيّة تدفع ذلك كلّه، مع أنّ الحقائق العرفيّة مقدّمة على اللغويّة على ما تقرّر في الأُصول.

و منه يعلم عدم وجوب مقارنة النيّة في الارتماس لجميع البدن بل لجزء منه مع إتباع الباقي بغير مهلة.

و يندفع أيضاً بما قرّرناه في توجيه الخبر ما ذكره موجب الترتيب قصداً حيث قال كما حكاه عنه المصنّف في المختلف «1» إنّه عليه السّلام علّق الإجزاء على مساواة غسله عند تقاطر المطر لغسله عند غيره، و إنّما يتساويان لو اعتقد الترتيب، كما أنّه في الأصل مرتّب.

و أنت قد علمت أنّه أعمّ من ذلك، فلا وجه لهذا التخصيص، كما لا دلالة على اعتبار الترتيب الحكمي، و أصالة البراءة و إطلاق الأمر في الآية «2» بالتطهير و الإجزاء في الخبر يدفعه.

و نقل الشيخ في المبسوط أنّ الارتماس يترتّب حكماً. «3» و أطلق.

قال في الذكرى: و هو يحتمل أمرين:

أحدهما و هو الذي عقله الفاضل: أنّه يعتقد الترتيب حال الارتماس، و يظهر ذلك من المعتبر حيث قال: و قال بعض الأصحاب: يرتّب حكماً. «4» فذكره بصيغة الفعل المتعدّي، و فيه ضمير يعود إلى المغتسل.

و الأمر الثاني: أنّ الغسل بالارتماس في حكم الغسل المرتّب بغير الارتماس.

و تظهر الفائدة: لو وجد لمعةً مغفلة، فإنّه يأتي بها و بما بعدها.

و لو قيل بسقوط الترتيب بالمرّة، أعاد الغسل من رأس؛ لعدم الوحدة المذكورة في الحديث. و فيما لو نذر الاغتسال مرتّباً؛ فإنّه يبرأ بالارتماس، لأعلى معنى الاعتقاد المذكور؛ لأنّه ذكره بصورة اللازم المسند إلى الغسل، أي يترتّب الغسل في نفسه حكماً و إن‌

______________________________
(1) مختلف الشيعة 1: 175، المسألة 122.

(2) المائدة (5): 6.

(3) المبسوط 1: 29.

(4) المعتبر 1: 184.

157
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

و يجب في الغسل أمور ؛ ج‌1، ص : 152

لم يكن فعلًا، و قد صرّح في الاستبصار بذلك. «1» «2» انتهى.

و أورد عليه المحقّق الشيخ علي الإشكال من وجهين:

أحدهما: منع الفرق بين عبارة الفاضل و ما نقله في المعتبر؛ حيث فاوت الشهيد بينهما، فجعل ذلك ظاهر المعتبر و صريح الفاضل باعتبار النقل كما يفهم من قوله: و هو الذي عقله الفاضل. و عنى هذا المحقّق بعبارة الفاضل قوله في المختلف حكايةً عن الشيخ: قال: و في أصحابنا مَنْ قال: رتّب حكماً؛ لأنّه ذكره في حاشيته على هذا القول.

ثمّ قال: و الذي في عبارة الفاضل لا يزيد على ما في عبارة المعتبر؛ لأنّ العبارتين واقعتان بصيغة الفعل المتعدّي المشتمل على الضمير العائد على المغتسل، المنتصب بعده حكماً على التمييز، و لا يمتنع أن يراد به الأمر الثاني بمعنى أنّ المرتمس في حكم المرتب.

الثاني: قوله: إنّ قول الشيخ يحتمل أمرين، فيه نظر؛ لأنّ نقل الشيخ أنّه يترتّب لإيراد به إلا الأمر الثاني؛ لأنّ الترتيب حكماً لا ينطبق على اعتقاد الترتيب؛ فإنّه أعمّ منه، فلا يحتمل الأوّل.

على أنّه قد ذكر في توجيه الأمر الثاني أنّه ذكره بصورة اللازم، إلى آخره، و هو ينافي الاحتمال الأوّل. «3»

أقول: هذان الإيرادان ساقطان.

أمّا أوّلًا: فلأنّ الشهيد رحمه اللّه نقل عن الفاضل رحمه اللّه التصريح بتفسير الترتيب الحكمي باعتقاده من غير إشارة إلى موضع النقل، فمن أين علم المعترض أنّ ذلك هو قوله في المختلف: و في أصحابنا مَنْ قال: إنّه يرتّب حكماً، «4» حتى يدّعي مساواة نقله لنقل المعتبر؟

نعم، صرّح بنقل المعتبر و بلفظه، فكيف يتخيّل فهم اختلاف هاتين العبارتين من مثل المحقّق الشهيد رحمه اللّه مع تساويهما!؟ فأوّل ما كان ينبغي عند عدم الوقوف على تصريح الفاضل أن يشار إلى ذلك لا إلى حصر الحال فيما قيل.

______________________________
(1) الاستبصار 1: 125 ذيل الحديث 425.

(2) الذكرى 2: 224223.

(3) لم نعثر عليه في مظانّه.

(4) مختلف الشيعة 1: 174، المسألة 122.

158
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

و يجب في الغسل أمور ؛ ج‌1، ص : 152

و أمّا ثانياً: فلأنّ الفاضل قد صرّح بذلك في المختلف بعد ما نقله عنه المعترض بأسطرٍ في الاحتجاج لذلك القول بحديث علي بن جعفر، المتقدّم «1» إلى قوله: وجه الاستدلال: أنّه عليه السّلام علّق الإجزاء على مساواة غسله عند تقاطر المطر لغسله عند غيره، و إنّما يتساويان لو اعتقد الترتيب، كما أنّه في الأصل مرتّب. «2» انتهى، فهذا هو الدالّ على أنّ الفاضل عقل من معنى الترتيب الحكمي اعتقاده، فإنّ هذا التوجيه لم يذكره الشيخ صريحاً و إنّما قرّره الفاضل له على هذا الوجه حسب ما فهمه من معناه، فظهر الفرق بين عبارة الفاضل و المحقّق في المعتبر.

و إنّما جعل الشهيد رحمه اللّه ذلك ظاهر عبارة المعتبر؛ لأنّه غيّر ما عبّر به الشيخ في المبسوط حيث نقل عنه الشهيد الإتيان بلفظ «يترتّب» بالتاء المثنّاة من فوق قبل الراء و بعد الياء، بخلاف لفظ المعتبر حيث نقله بلفظ المتعدّي و حذف التاء المثنّاة من فوق. و كذا نقله الفاضل في المختلف في الكلام الذي نقله عنه المعترض، و اتّفاق الفاضلين في العبارة عن القول عادلين عن اللفظ اللازم الذي نقله الشهيد عن المبسوط ثمّ تصريح الفاضل بإرادة الاعتقاد في آخر البحث كما ذكرناه عنه يشعر ظاهراً بتساوي فهم الفاضلين في ذلك. فهذا هو السرّ في إطلاق الشهيد التصريح عن الفاضل و جَعله ظاهر المعتبر.

و أمّا ثالثاً: فلأنّ الاعتراض بأنّ كلام الشيخ لا يحتمل إلا الأمر الثاني و لا يحتمل الأوّل مبنيّ على ما فهمه من عدم العلم بتصريح الفاضل، و أنّ ما حكاه عنه و عن المعتبر يحتمل المعنى الثاني على أنّ المرتمس يكون في حكم المرتب.

و أمّا على ما بيّنّاه فلا بدّ من ذكر الأمرين، أمّا الأوّل: فلتصريح الفاضل به. و أما الثاني: فلأنّه هو الموافق لتعبير المبسوط بصيغة اللازم و للإستبصار، كما حكاه عنه. و للأدلّة المبيّنة أيضاً، بل هو الذي استنبطه الشهيد رحمه اللّه من كلام الشيخ و حقّقه، و إنّما بدأ بالأوّل؛ لفهم الفاضل له.

و أمّا رابعاً: فلأنّ قوله في الاستدلال على نفي الأوّل: إنّ الترتيب حكماً أعمّ من اعتقاد الترتيب فلا يحتمل الأوّل، غريب؛ فإنّ كونه أعمّ لا يدلّ على نفيه، بل غايته عدم‌

______________________________
(1) في ص 156.

(2) مختلف الشيعة 1: 175، المسألة 122.

159
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

و يستحب فيه أمور ؛ ج‌1، ص : 160

الدلالة عليه على الخصوص، فكما لا يدلّ عليه لا ينفيه، فيتخصّص به بدليلٍ خارجيّ.

و أيضاً فإنّه معارَض بمثله في الثاني؛ فإنّ اعترافه بأنّه أعمّ من الأوّل يستلزم أنّه أعمّ من الثاني تحقيقاً لمفهوم العموم، فلا يدلّ عليه أيضاً خصوصاً و قد بيّنّا أنّ ذِكرَ الشهيد له لا لترجيحه، بل لاختيار الفاضل إيّاه.

و أمّا خامساً: فلأنّ قوله: على أنّه قد ذكر في توجيه الأمر الثاني أنّه ذكره بصورة اللازم إلى آخره، و هو ينافي الاحتمال الأوّل، إنّما يدلّ على أنّ الشهيد رحمه اللّه مرجّح للاحتمال الثاني و مقرّر لما حكاه عن لفظ كتابَي الشيخ أنّه هو المراد، و هذا لا ريب فيه، لكن لا ينفي جَعل ما فهمه الفاضل و صرّح به احتمالًا خصوصاً و قد غيّر عبارة الشيخ إلى صيغة المتعدّي تبعاً للمعتبر، فإنّ الأصحاب و غيرهم يذكرون الاحتمال و إن ضعف و لم يقل به أحد فكيف بما فهمه الفاضل العلامة رحمه اللّه، فقوله: إنّ ذكره بصورة اللازم ينافي الاحتمال الأوّل لا يدلّ على نفي الاحتمال الأوّل في نفسه و إن كان المختار الثاني.

و إنّما أطنبنا القول في هذه المسألة؛ لوجهٍ ما.

[و يستحبّ فيه أمور]

(و يستحبّ الاستبراء) للرجل المجنب بالإنزال، فلا استبراء على المرأة عند المصنّف، «1» كما لا حكم للخارج منها بعده مشتبهاً، فتكون كرجلٍ استبرأ، مع احتمال الإعادة كمن لم يستبرئ.

و استحبّ جماعة استبراءها بالبول أو الاجتهاد.

و هو ضعيف؛ للأصل، و عدم النصّ، و اختلاف مخرجي البول و المنيّ، فلا يفيد.

و كذا الاستبراء على المجنب بالجماع مع الإكسال؛ لعدم فائدته، سواء تيقّن عدم الإنزال أم جوّز الإنزال مع عدم تيقّنه.

و ليس الاستبراء واجباً، خلافاً للشيخ «2» في أحد قوليه.

و المراد بالاستبراء في عبارة الكتاب الاجتهاد في إزالة بقايا المنيّ المتخلّفة في المحلّ بالبول، أو الاجتهاد بالاستبراء المعهود مع عدم إمكانه، لا الاستبراء المعهود مطلقاً بدليل قوله (فإن وجد) المغتسِلُ المستبرئ، المدلول عليه التزاماً بالمصدر، المُنزل المدلول عليه‌

______________________________
(1) مختلف الشيعة 1: 173، المسألة 120.

(2) المبسوط 1: 29.

160
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

و يستحب فيه أمور ؛ ج‌1، ص : 160

بالمقام؛ لأنّ «1» الاستبراء مختصّ به (بللًا مشتبهاً بعده) أي: بعد الاستبراء و الحال أنّه بعد الغسل أيضاً كما يدلّ عليه قوله (لم يلتفت) أي: لم يعد الغسل، «2» لكن يجب عليه على تقدير الاستبراء بالبول خاصّة الوضوءُ؛ لزوال أثر المنيّ بالبول، و عدم الاستبراء بعده اقتضى كونه بولًا، كما قرّروه في باب الوضوء.

و إنّما أطلق عدم الالتفات؛ لأنّ البحث عن الغسل.

و المراد بالمشتبه أن لا يعلم كونه منيّاً أو بولًا أو غيرهما، فلو علم، لزمه حكمه و إن اجتهد.

(و بدونه) أي: بدون الاستبراء المذكور (يعيد الغسل) و يتحقّق ذلك بعدم البول مع إمكانه و إن استبرأ، و بعدمهما معاً، فيعيد الغسل في صورتين، و لا يجب شي‌ء في صورتين، و يجب الوضوء خاصّةً في صورة، و إنّما ترك تفصيلها؛ لعدم تعلّقها بباب الغسل و إن اقتضاها التقسيم.

و الضابط: أنّ البول مزيل لأجزاء المنيّ، المتخلّفة، و كذا الاستبراء المعهود مع عدم إمكان البول، و الاستبراء بعد البول مزيل لأجزاء البول، و عليه تترتّب الأقسام الخمسة.

و مستند هذه الأقسام «3» أخبار كثيرة:

كرواية سليمان بن خالد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في رجل أجنب فاغتسل قبل أن يبول فخرج منه شي‌ء، قال: «يعيد الغسل» قلت: المرأة يخرج منها بعد الغسل، قال: «لا تعيد» قلت: فما الفرق؟ قال‌

لأنّ ما يخرج من المرأة إنّما هو من ماء الرجل. «4»

و عنه عليه السّلام في رواية حريز في الرجل يخرج من إحليله بعد ما اغتسل شي‌ء، قال‌

يغتسل و يعيد الصلاة إلا أن يكون قد بال قبل أن يغتسل فإنّه لا يعيد الغسل. «5»

و دلّ على إعادته الوضوء خاصّةً قوله عليه السّلام في رواية معاوية بن ميسرة في رجل رأى بعد الغسل شيئاً‌

إن كان بال بعد جماعه قبل الغُسل فليتوضّأ، و إن لم يَبُل حتى اغتسل ثمّ وجد البلل فليعد الغسل. «6»

______________________________
(1) في «ق، م»: «فإنّ».

(2) في «م» أي: لم يلتفت بعد الغسل.

(3) في «ق، م»: «الأحكام» بدل «الأقسام».

(4) الكافي 3: 49/ 1؛ التهذيب 1: 143/ 404، و 148/ 420؛ الاستبصار 1: 118/ 399.

(5) التهذيب 1: 144/ 407؛ الاستبصار 1: 119/ 402، و فيهما: عن حريز عن محمد.

(6) التهذيب 1: 144/ 408؛ الاستبصار 1: 119/ 403.

161
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

و يستحب فيه أمور ؛ ج‌1، ص : 160

و دلّ على إجزاء الاجتهاد مع عدم التمكّن من البول قوله عليه السّلام في رواية جميل بن درّاج في الرجل تصيبه الجنابة فينسى أن يبول حتى يغتسل ثمّ يرى بعد الغسل شيئاً أ يغتسل أيضاً؟ قال‌

لا، قد تعصّرت و نزل من الحبائل. «1»

و يستفاد حكم القادر على البول من الأخبار الدالّة على أنّ مَنْ لم يَبُل يُعيد الغسل؛ فإنّها تحمل على القادر على البول؛ جمعاً بين الأخبار.

(و) كذا يستحبّ (إمرار اليد على الجسد) حال غسله؛ لما فيه من المبالغة في إيصال الماء إلى البشرة، و هو المعبّر عنه بالدلك.

(و تخليل ما) أي الشي‌ء الذي (يصل إليه الماء) بدون التخليل، كمعاطف الأُذنين و الإبطين و ما تحت ثدي المرأة و الشعر الخفيف.

و المراد بوصول الماء إليه وصوله إلى ما تحته من البشرة، و قد تقدّم الكلام عليه.

(و المضمضة و الاستنشاق) ثلاثاً ثلاثاً بعد غَسل اليدين ثلاثاً من الزندين، و قد تقدّم بيان ذلك كلّه.

(و الغسل بصاع) هو تسعة أرطال بالعراقي، و ستّة بالمدني؛ للحديث المتقدّم في الوضوء، و غيره، و قد اشتمل على النهي عن الزيادة، و أنّ مستقلّة على خلاف سنّتهُ.

و هذا الصاع يتأدّى به واجبات الغسل و مندوباته المتقدّمة و المقارنة، فيكون في قوّة ثلاثة أغسال؛ لاستحباب تثليث الأعضاء.

(و تحرم التولية) في الغسل بصبّ الماء على الجسد و الدلك حيث يحتاج إليه، و نحوه.

(و تكره الاستعانة) فيه بنحو صبّ الماء في اليد ليغسل المكلّف، و نحوه على الوجه الذي تقدّم في الوضوء.

و لا فرق في الكراهة بين كونها قبل النيّة الشرعيّة أو بعدها، بل المعتبر كونها بعد العزم على الغسل أو الوضوء.

و التعبير بالاستعانة و هي طلب الإعانة هنا و في الوضوء يقتضي عدم الكراهة لو أعان مَنْ لم يطلب منه، و الأخبار الدالّة على الكراهة تدفعه، كحديث الوشّاء أنّه أراد الصبّ على الرضا عليه السّلام فقال: «مه يا حسن» فقلت له: أ تكره أن أُؤجر؟ فقال‌

تؤجر أنت

______________________________
(1) التهذيب 1: 145/ 409؛ الاستبصار 1: 120/ 406.

162
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

و يستحب فيه أمور ؛ ج‌1، ص : 160

و أُوزر أنا؟

و تلا قوله تعالى فَمَنْ كٰانَ يَرْجُوا لِقٰاءَ رَبِّهِ «1»- «2» الآية، فنهيه عليه السّلام كان عن الإعانة مع عدم سبق الاستعانة. و كذا غيره من الأخبار، فلا فرق في الكراهة بين تقدّم طلب الإعانة و عدمه، لكنّ الاستعانة عبارة الأكثر.

و يمكن أن يقال في شمولها لمطلق الإعانة: إنّ باب «استفعل» قد يأتي لغير طلب الفعل، بل للفعل نفسه ك‍ «استقرّ» و «استعلى» و «استبان» بمعنى «قرّ» و «علا» و «بان» و ك‍ «استيقن» و «استبان» بمعنى «أيقن» و «أبان» فيحمل كلامهم على ذلك.

و ذكر ابن مالك في التسهيل «3» أنّها تأتي للاتّخاذ، ك‍ «استأجر» و يمكن الحمل عليه أيضاً.

و ذكر جماعة «4» من المفسّرين أنّ معنى قوله تعالى اسْتَوْقَدَ نٰاراً «5» معنى «أوقد» فهو حينئذٍ من هذا الباب.

إن قيل: حمله على ذلك يوجب اختصاص الكراهة بالمُعين؛ لأنّه موجد الإعانة، و التكليف إنّما يتوجّه إلى الفاعل.

قلنا: لمّا دلّ النصّ على تعلّق النهي بالمتوضّئ تعيّن صرف الحكم إليه بمعنى أنّه يكره له طلبها ابتداءً و قبولها إن عُرضت عليه؛ لأنّ المصدر لا يتحقّق في الخارج هنا اختياراً إلا مع قبول المتوضّئ و أما المُعين فيمكن دخوله في العبارة أيضاً؛ لأنّه موجد الإعانة حقيقةً، فيتعلّق به الكراهة أيضاً. و لأنّه مُعين على المكروه و قد قال تعالى تَعٰاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَ التَّقْوىٰ «6» و مثله البيع بعد النداء يوم الجمعة إذا كان أحدهما غير مخاطب بها.

(و لو أحدث) المغتسل (في أثنائه) أي: أثناء غسل الجنابة، و «ما» في قوله (بما) نكرة موصوفة، أي بحدثٍ (يوجب الوضوء، أعاده) أي: الغسل من رأس على أصحّ الأقوال الثلاثة؛ لأنّ غسل الجنابة يرفع أثر الحدث الأكبر و الأصغر على تقدير وجوده قبل الغسل، فهو مؤثّر تامّ لرفعهما معاً، فكلّ جزء منه مؤثّر ناقص في رفعهما بمعنى أنّ له صلاحيّة التأثير، و لهذا لو أخلّ بلمعة يسيرة من بدنه، لم يرتفع الحدث أصلًا؛ لأنّ كمال التأثير‌

______________________________
(1) الكهف (18): 110.

(2) الكافي 3: 69/ 1؛ التهذيب 1: 365/ 1107.

(3) لا يوجد لدينا كتاب التسهيل.

(4) منهم: الشيخ الطوسي في التبيان 1: 86؛ و الطبرسي في مجمع البيان 21: 54؛ و البغوي في معالم التنزيل 1: 52.

(5) البقرة (2): 17.

(6) المائدة (5): 2.

163
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

و يستحب فيه أمور ؛ ج‌1، ص : 160

موقوف على كلّ جزء من الغسل، فإذا فرض عروض حدث أصغر في أثنائه، فلا بدّ لرفعه من مؤثّر تامّ، و هو إمّا الغسل بجميع أجزائه، كما قرّرناه، أو الوضوء، و الثاني منتفٍ في غسل الجنابة؛ للإجماع على عدم مجامعة الوضوء الواجب له، و ما بقي من أجزاء الغسل ليس مؤثّراً تامّاً لرفعه، فلا بدّ من إعادته من رأس.

و هذا الدليل كما دلّ على وجوب إعادته دلّ على انتفاء القولين الآخرين، و هُما: الاكتفاء بإتمامه خاصّةً، كما اختاره ابن البرّاج و ابن إدريس و الشيخ علي «1»؛ رحمهم اللّه، أو إكماله و الوضوء بعده، كما هب إليه السيّد المرتضى «2»؛ و المحقّق «3»

إن قيل: لانسلّم أنّ الغسل يرفع الحدث الأكبر و الأصغر معاً، بل إنّما يرفع الأكبر المنويّ رفعه، و لهذا لو خلا عن مقارنة الحدث الأصغر، كان رفعه منحصراً في الأكبر، و الأصغر لا أثر له معه.

سلّمنا أنّ له أثراً لكن أثره يرتفع على جهة الاستتباع لأعلى جهة الاستقلال، و إلا لوجب نيّة رفعه؛ لحديث‌

إنّما لكلّ امرئ ما نوى. «4»

سلّمنا لكن عدم تأثير ذلك البعض المتقدّم على الحدث الأصغر في رفعه يقتضي وجوب الوضوء للحدث لا إعادة الغسل، و إلا لزم كون الحدث الأصغر من موجبات الغسل؛ لاشتراك الناقض و الموجب في المعنى.

قلنا: لمّا دلّت الأدلّة بل الإجماع على أنّ الأحداث المعدودة سبب في وجوب الطهارة ثبت لها الحكم، سواء تعدّدت أم اتّحدت، و تداخلها مع اتّفاقها أو دخول الأصغر تحت الأكبر كما في الجنابة مع فرض الاجتماع لا يوجب سقوط ما ثبت لها من السببيّة و دلّ عليه الدليل و انعقد عليه الإجماع، فالأصل فيها أن يكون كلّ واحد منها سبباً تامّاً في مسبّبها، و لا معارض لذلك في غسل الجنابة إلا تخيّل الاكتفاء بالغسل لو اجتمع الأكبر و الأصغر أو وجد الأكبر خاصّة، فيقتضي عدم الفرق بين وجود الأصغر و عدمه. و لا حقيقة لهذا الخيال؛ لأنّ التداخل لمّا ثبت للمتساويين قوّةً و ضعفاً كما في اجتماع أحداث كثيرة توجب‌

______________________________
(1) جواهر الفقه: 12، المسألة 22؛ السرائر 1: 119؛ جامع المقاصد 1: 276.

(2) حكاه عنه المحقّق في المعتبر 1: 196.

(3) المعتبر 1: 196.

(4) صحيح البخاري 1: 3/ 1.

164
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

و يستحب فيه أمور ؛ ج‌1، ص : 160

الوضوء و اكتفي بوضوء واحد باعتبار ورود النصّ فيه لم يبعد حينئذٍ دخول الأضعف تحت الأقوى حيث يرد به الشرع أيضاً، كما في غسل الجنابة على تقدير مجامعته للحدث الأصغر.

و من هذا يعلم ضعف استلزام تأثير الأصغر نيّة رفعه في الغسل؛ إذ لا تجب نيّة جميع الأحداث المجتمعة حيث يحكم بتداخلها.

و حديث‌

إنّما لكلّ امرئ ما نوى؛

«1» لا يقولون به فيما لو اجتمعت أحداث تكفي عنها طهارة واحدة أمّا لتخصيصه بحديث‌

إذا اجتمعت لله عليك حقوق أجزأك حقّ واحد منها «2»

إلى آخره، و إمّا لأنّ رفع أحدها يقتضي رفع القدر المشترك بينها؛ لتوقّف الخصوصيّة على رفع الجميع؛ إذ ليس المراد ارتفاع حقيقة الخارج أو الحاصل، بل رفع حكمه، و هو شي‌ء واحد تعدّدت أسبابه، و إذا كان كذلك في المتّفق فلِمَ لا جاز في المختلف مع نيّة رفع الأكبر و الأقوى أو نيّة الاستباحة المطلقة؟ و إنّما لم يكتف بنيّة رفع الحدث الأصغر خاصّة على تقدير حصوله مع الأكبر؛ لعدم دخول الأقوى تحت الأضعف، و لهذا حَكَم جمع بعدم دخول غسل الجنابة و نحوها تحت غسل المستحاضة لغير الانقطاع و المتحيّرة؛ لضعفه باستمرار الحدث مع اشتراكهما في الأكبريّة، بل قيل: إنّ غسل الجنابة يجزئ عن غيره و لا يجزئ غيره عنه؛ لضعفه بافتقار رفع الحدث مطلقاً إلى مجامعة الوضوء، فكان هنا كذلك مع ما بين الحدثين من الاختلاف حكماً و قوّةً؟

و أمّا القول بأنّ اللازم من رفع تأثير ما مضى من الغسل وجوب الوضوء خاصّة لا إعادة الغسل: فقد أشرنا في أول الكلام إلى جوابه بالإجماع على عدم مجامعة الوضوء الواجب لغسل الجنابة، و إلا لم يكن لنا عنه عدول، و لهذا يكتفى بإعادة الوضوء لو عرض الحدث الأصغر في أثناء غسل يجامعه الوضوء على تقدير تقدّمه عليه، أو يكتفى بإكمال الغسل مع الوضوء إن لم يكن تقدّم.

و قد يتخيّل الإعادة هنا و طرد الخلاف بناءً على أنّ كلّ واحد من الغسل و الوضوء مؤثّر ناقص في رفع الحدث مطلقاً بتقريب الدليل المتقدّم.

______________________________
(1) صحيح البخاري 1: 3/ 1.

(2) الكافي 3: 41 (باب ما يجزئ الغسل منه إذا اجتمع) الحديث 1؛ التهذيب 1: 107/ 279 بتفاوت يسير.

165
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

و يستحب فيه أمور ؛ ج‌1، ص : 160

و يندفع بمنع ذلك؛ للإجماع على جواز الصوم بالغسل خاصّة مع توقّفه على رفع الحدث الأكبر غير المسّ، و كذا على جواز دخول المساجد و قراءة العزائم و غيرهما ممّا لا يتوقّف جوازه على رفع الحدث الأصغر، و ما يتوقّف على الوضوء كالصلاة و مسّ كتابة القرآن و نحوها يتوقّف على الغسل أيضاً.

و هذا يدلّ على أن الوضوء ليس له صلاحيّة التأثير فيما يتوقّف على الغسل خاصّة هنا، و لا جزءاً من المؤثّر فيه، فعلم منه أنّ حدث الغسل المكمل بالوضوء موجب للوضوء و الغسل معاً، فكان قائماً مقام الأكبر و الأصغر معاً، و كلّ واحد من الغسل و الوضوء الرافعين له منصرف إلى موجبه، لا أنّ لكلّ واحد منهما مدخلًا في رفع كلّ منهما.

و ربما بالغ بعضهم «1» في تعدية حال الإعادة هنا و طرد الخلاف إلى ما لو وقع الحدث الأصغر بعد الغسل قبل الوضوء بناءً على ما قرّرناه من اشتراك الطهارتين في التأثير في الحدثين. و هو باطل قطعاً؛ لما قلناه.

و قوله: إنّ نقض الغسل بهذا الحدث يستلزم كونه موجباً للغسل، ضعيف جدّاً.

أمّا أوّلًا: فلأنّه لم يحصل مسمّى الغسل بعدُ حتى يقال: إنّه نقض الغسل، و إنّما يتمّ ذلك لو كمل، و هو غير المتنازع، و لو فرض لم ينقضه إجماعاً، و إنّما حكم بنقض بعض الغسل، فلا يتمّ المدّعى.

و احتجّ المصنّف على مذهبه من وجوب الإعادة: بأنّ الحدث الأصغر لو تعقّب كمال الغسل أبطل حكم الاستباحة ففي أبعاضه أولى، فلا بدّ من تجديد طهارة لها، و هو الآن جنب؛ إذ لا يرتفع إلا بكمال الغسل، فيسقط اعتبار الوضوء. و هو دليل واضح، و عبارته التي حكيناها هنا منقّحة، و هي عبارته في النهاية. «2»

و قد عبّر في المختلف «3» عن هذا الدليل بلفظٍ لا يخلو ظاهره من مناقشة، و حاصله: أنّ الحدث المذكور لو وقع بعد الغسل بكماله أبطله فأبعاضه أولى بالبطلان، فيعيده.

و أورد عليه بعض المحقّقين منع الصغرى بأنّ الحدث الأصغر لو أبطل الغسل لأوجبه؛

______________________________
(1) لم نتحقّقه.

(2) نهاية الإحكام 1: 114.

(3) مختلف الشيعة 1: 176، المسألة 123.

166
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

و يستحب فيه أمور ؛ ج‌1، ص : 160

لاشتراك الناقض و الموجب في الحكم، و منع مساواة ما بعد الإكمال لما قبله؛ لأنّه بعد الإكمال ارتفع الحدث، فأمكن طروء حدثٍ آخر، بخلاف الأثناء، و بأنّ أثر الأصغر إنّما هو الوضوء، فلو سلّم تأثيره، كان اللازم الوضوء خاصّة. «1»

و جواب الأوّل: أنّه عنى بالإبطال إبطال الاستباحة التي هي غايته، و هو استعمال شائع، و قد صرّح به في العبارة التي حكيناها عنه من النهاية.

و قد تقدّم جواب الثاني؛ فإنّ الأصل في الحدث التأثير حيثما وقع، و الاجتزاء بالغسل عنه مع الجنابة؛ للنصّ لا يرفع ما ثبت له من الحكم، و الأصل في الحدث الأصغر إيجاب الوضوء، لكن امتنع هنا؛ للإجماع على عدمه في غسل الجنابة، و قد تقدّم تحقيق ذلك.

و احتجّ في الذكرى بنحو ما ذكرناه، و حاصله: أنّ الحدث لا يخلو عن أثرٍ ما مع تأثيره بعد الكمال، و الوضوء ممتنع في غسل الجنابة. «2»

و زيّفه ذلك المحقّق بأنّ أثر الحدث الأصغر لا يظهر ما دام الأكبر موجوداً، و ما لم يتمّ الغسل فالحدث بحاله. و لو سُلّم فلِمَ لا يكون أثره هنا كأثره قبل الشروع في الغسل. «3»؟

و قد تقدّم جواب هذا التزييف منقّحاً.

قال في الذكرى: و قد قيل: إنّه مرويّ عن الصادق عليه السّلام في كتاب عرض المجالس للصدوق. «4»

و اعترض «5» بأنّ مثل هذه الرواية لا اعتبار بها في الاستدلال.

و أنت خبير بأنّ الشهيد رحمه اللّه لم يخرجها للاستدلال، بل لما كان الظاهر أنّه ليس في المسألة نصّ عن أئمّة الهدى عليهم السّلام.

و ذكر بعض «6» الأفاضل أنّ في الإعادة روايةً في الكتاب المشار إليه ذكره على جهة الإرشاد لأعلى جهة الاستدلال لتحاشيه عن توهّم مثل ذلك، رحمه اللّه تعالى.

______________________________
(1) المحقّق الكركي في جامع المقاصد 1: 275.

(2) الذكرى 2: 248.

(3) جامع المقاصد 1: 275.

(4) الذكرى 2: 248.

(5) المعترض هو المحقّق الكركي في جامع المقاصد 1: 275.

(6) لم نتحقّقه.

167
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

المقصد الثاني في الحيض ؛ ج‌1، ص : 168

 

[المقصد الثاني في الحيض]

(المقصد الثاني) من المقاصد الأربعة المعقودة لبيان أسباب الغسل (في) بيان ماهيّة (الحيض) و بيان أحكامه الخاصّة به.

[القول في أوصاف دم الحيض]

و هو لغةً: السيل، يقال: حاض الوادي: إذا سال. و بعضهم اعتبر في صدق اسمه القوّة، فأطلقه لغةً على السيل بقوّة. «1» و شرعاً: دم يقذفه الرحم إذا بلغت المرأة ثمّ يعتادها غالباً في أوقات معلومة.

هذا هو الاصطلاح المشهور من انقسام تعريفه إلى اللغوي و الشرعي. و للبحث في ذلك مجال؛ فإنّ الظاهر من كلام أهل اللغة أنّ الحيض قد يطلق لغةً على هذا الدم المخصوص، لا باعتبار سيلانه بقوّة أو بغير قوّة؛ بل يطلق ابتداءً على مصطلح أهل الشرع، فلا يكون بين التعريف اللغوي و الشرعي فرق من حيث الماهيّة.

قال الجوهري: يقال: حاضت المرأة تحيض حيضاً و محيضاً فهي حائض و حائضة، إلى أن قال: و حاضت السمرة حيضاً، و هي شجرة يسيل منها شي‌ء كالدم. «2»

و قد أشار إلى ذلك «3» في المعتبر حيث جرى أوّلًا على ما هو المشهور من أنّه إنّما سُمّي حيضاً من قولهم: حاض السيل: إذا اندفع، فكأنّه لمكان قوّته و شدّة خروجه في غالب أحواله اختصّ بهذا الاسم.

قال: و يجوز أن يكون من رؤية الدم، كما يقال: حاضت الأرنب: إذا رأت الدم.

______________________________
(1) المحقّق الكركي في جامع المقاصد 1: 281.

(2) الصحاح 3: 1073- 1074، «ح ى ض».

(3) في «ق، م»: «هذا» بدل «ذلك».

 

168
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في أوصاف دم الحيض ؛ ج‌1، ص : 168

و حاضت السمرة: إذا خرج منها الصمغ الأحمر. «1» انتهى.

و متى ثبت ذلك عن أهل اللغة فهو خير من النقل، كما قرّر في الأُصول.

و يمكن الجواب بأنّ مطلق استعمال أهل اللغة لا يدلّ على الحقيقة؛ فإنّهم يذكرون الحقيقة و المجاز.

سلّمنا، لكن حمله على الحقيقة يوجب الاشتراك، و المجاز خير منه.

و اعلم أنّ الحكمة في الحيض إعداد المرأة للحمل ثمّ اغتذاؤه به جنيناً ثمّ رضيعاً باستحالته لبناً، و من ثَمَّ قلّ حيض الحامل و المرضع على خلافٍ في الأوّل.

أمّا المرضع فالإجماع واقع على إمكانه لها، و هو يؤيّد إمكانه للحامل؛ إذ يمكن فضل الغذاء في الموضعين، مضافاً إلى ما دلّ عليه من الروايات. فإذا خلت المرأة من حملٍ و رضاعٍ، بقي الدم لا مصرف له، فيستقرّ في مكانٍ ثمّ يخرج غالباً في كلّ شهر هلاليّ سبعة أَيّام أو ستّة أو أقلّ أو أكثر بحسب قُرب مزاجها من الحرارة و بُعده عنها، و قد يطول احتباسه و يقصر بحسب ما ركبه اللّه تعالى في طبعها.

و قد عرّفه المصنّف بتعريفٍ حسّيّ بخواصّ يشترك في العلم بها الفقيه و العامّيّ بقوله (و هو في الأغلب) و التقييد بالأغلبيّة؛ للتنبيه على أنّه قد يجي‌ء بخلاف ذلك على خلاف الغالب؛ لما سيأتي أنّ الصفرة و الكدرة في أيّام الحيض حيض، كما أنّ الأسود الحارّ في أيّام الطهر استحاضة (أسود) على حذف الموصوف و إبقاء الصفة، و هو شائع الاستعمال، أي: دم أسود.

و لا يشكل بأنّ الإضمار معيب في التعريفات؛ لأنّ ذلك حيث لا قرينة تدلّ عليه، و هي موجودة هنا، فالدم المحذوف في التعريف بمنزلة الجنس القريب شامل للدماء الثلاثة و غيرها.

و قوله: أسود (حارّ يخرج بحُرقة) بضمّ الحاء، و هي اللذع الحاصل من خروج الدم بدفعٍ و حرارةٍ خاصّة، مركّبة من القيود المذكورة، خرج بها باقي الدماء غير دم الحيض.

و قد استُفيدت هذه الخواصّ من الأخبار، كقول أبي عبد اللّه عليه السّلام‌

دم الحيض حارّ تجد له حُرقة. «2»

______________________________
(1) المعتبر 1: 197.

(2) الكافي 3: 9291/ 3؛ التهذيب 1: 152151/ 431.

169
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في أوصاف دم الحيض ؛ ج‌1، ص : 168

و في حديثٍ آخر عنه عليه السّلام‌

دم الحيض حارّ عبيط أسود له دفع و حرارة. «1»

و العبيط بالعين و الطاء المهملتين: الخالص الطريّ.

و ذكر الحرارة في الحديث الثاني مرّتين إمّا للتأكيد، أو أراد بالثانية معنى الحُرقة المذكورة في الحديث الآخر.

و إنّما خصّصنا الثانية بذلك؛ لقرينة الدفع المجاور لها؛ فإنّ الحُرقة كما قدّمنا مسبّبة عنه و عن الحرارة.

و قوله (من) الجانب (الأيسر) جارٍ على المشهور بين الأصحاب، و سيأتي تحقيقه. و على هذا التقدير فهو من جملة الخاصّة المركّبة، فالتعريف حينئذٍ رسميّ؛ لعدم الفصل القريب.

و إنّما قلنا: إنّ القيود المذكورة خاصّة مركّبة لا فصول؛ لأنّ كلّ واحد منها مع كونه من الأعراض اللاحقة للذات أعمّ من المعرّف و فصوله؛ فإنّ الأسود مثلًا أعمّ من الدم المطلوب تعريفه بل من سائر الدماء؛ لتعلّقه بكلّ جسم أسود، و كذلك الحارّ و الخارج بحُرقةٍ و من الأيسر، لكن جميع هذه القيود من حيث الاجتماع مخرجة ما عدا المعرّف.

و كلّ هذا إنّما هو في أغلب أحواله، كما سبق.

(فإن اشتبه) دم الحيض (بالعُذرة) بضمّ العين المهملة و سكون الذال المعجمة، أي: بدم العُذرة على حذف المضاف؛ لأنّ العُذرة هي البكارة لا دمها، وضعت قطنةً بعد أن تستلقي على ظهرها و ترفع رِجْليها ثمّ تصبر هنيئةً ثمّ تُخرجها إخراجاً رفيقاً (فإن خرجت القطنة مطوّقةً) بالدم (فهو) دم (عُذرة، و إلا) أي: و إن لم تخرج القطنة مطوّقةً بل مستنقعةً بالدم (فحيض).

و مستند ذلك روايات عن أهل البيت عليهم السّلام، لكن في بعضها الأمر باستدخال القطنة من غير تقييد بالاستلقاء، و في بعضها استدخال الإصبع مع الاستلقاء. و طريق الجمع حمل المطلق على المقيّد، و التخيير بين الإصبع و الكرسف إلا أنّ الكرسف أظهر في الدلالة.

و في حديث خلف بن حمّاد عن أبي الحسن الثاني عليه السّلام في حديثٍ طويل‌

إنّ هذا الحكم سرّ من أسرار اللّه تعالى، فلا تذيعوه و لا تعلّموا هذا الخلق أُصول دين اللّه، بل ارضوا لهم ما رضي اللّه لهم من ضلال. «2»

______________________________
(1) الكافي 3: 91/ 1؛ التهذيب 1: 151/ 429.

(2) الكافي 3: 92- 93/ 1.

170
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في أوصاف دم الحيض ؛ ج‌1، ص : 168

و المحقّق في المعتبر قطع بالحكم للعُذرة بالتطوّق، و نفى الحكم للحيض بالاستنقاع محتجّا بأنّه محتمل. «1»

و جوابه: منع الاحتمال مع ورود النصّ و الحال أنّه جامع للصفات غير أنّه مشتبه بالعُذرة خاصّة، فلا احتمال حينئذٍ.

(و ما) أي: و الدم الخارج من المرأة و لو على الوجه المتقدّم (قبل) إكمال (التسع) سنين القمريّة لا الشمسيّة (و) الخارج (من) الجانب (الأيمن) على أشهر القولين (و) الخارج (بعد) بلوغ المرأة سنّ (اليأس) من الحيض أو الولد (و) الخارج (أقلّ من ثلاثة) أيّام بلياليها (متوالية) لا في جملة عشرة على أصحّ القولين (و الزائد عن أكثره) أي أكثر الحيض (و) الزائد عن (أكثر النفاس) و سيأتي بيانه (ليس بحيض) خبر «ما» الموصولة، أي: ليس جميع ما ذُكر حيضاً و إن كان بصفة دم الحيض.

أمّا الأوّل: فلما تقدّم من أنّ دم الحيض إنّما خلقه اللّه تعالى لحكمة إعداد الرحم للحمل و تربية الولد حملًا ثمّ رضيعاً، و ذلك كلّه مفقود في الصغيرة التي لم تكمل التسع، و لقول أبي عبد اللّه عليه السّلام حين سُئل عن حدّها‌

إذا أتى لها أقلّ من تسع سنين «2»

فإذا كمل لها تسع سنين أمكن حيضها.

و الإجماعِ نَقَله في المعتبر عن أهل العلم كافّة. «3»

و شرطنا إكمال التسع؛ لعدم صدقها حقيقةً بدونه. و لقوله عليه السّلام‌

إذا كمل لها تسع

إلى آخره، فلا يكفي الطعن في التاسعة. و التقييد بالقمريّة؛ لأنّه المتعارف المستعمل شرعاً.

و الأقرب أنّه تحقيق لا تقريب، مع احتماله، فلو قلنا به، فإن كان بين رؤية الدم و استكمال التسع ما لا يسع الحيض و الطهر، كان الدم حيضاً. و لا فرق في ذلك بين البلاد الحارّة و الباردة.

بقي هنا بحث، و هو: أنّ المصنّف «4» و غيره ذكروا أنّ الحيض للمرأة دليل على بلوغها و إن لم يجامعه السنّ، و حكموا هنا بأنّ الدم الذي قبل التسع ليس بحيض، فما الدم المحكوم‌

______________________________
(1) المعتبر 1: 198.

(2) الكافي 6: 85/ 4.

(3) المعتبر 1: 199.

(4) قواعد الأحكام 1: 168.

171
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في أوصاف دم الحيض ؛ ج‌1، ص : 168

بكونه حيضاً حتى يستدلّ به على البلوغ قبل التسع؟

و جَمَع بعض مَنْ عاصرناه بين الكلامين بحمل الدم المحكوم بكونه حيضاً دالا على البلوغ على الحاصل بعد التسع و قبل إكمال العشر.

و تحريره أنّ البلوغ بالسنّ لها قيل بالتسع، و قيل بالعشر، و على القولين لو رأت دماً بشرائط الحيض بعد التسع، حكم بالبلوغ.

و لا يخفى ما في هذا الجمع من البُعد، بل الأولى في الجمع بين الكلامين أنّه مع العلم بالسنّ لا اعتبار بالدم قبله و إن جَمَع صفات الحيض، و مع اشتباهه و وجود الدم في وقت إمكان البلوغ يحكم بالبلوغ، و لا إشكال حينئذٍ.

و أمّا الحكم الثاني و هو أنّ الدم الخارج من الجانب الأيمن ليس بحيض فقد اختلف فيه كلام الأصحاب بسبب اضطراب الرواية.

فذهب الأكثر «1» و منهم المصنّف في جميع كتبه «2» إلى ما ذُكر هنا، و أنّ الخارج من الأيسر حيض، و من الأيمن ليس بحيض.

و ذهب أبو علي ابن الجنيد إلى أنّ الحيض يعتبر من الجانب الأيمن. «3»

و اختلف كلام الشهيد رحمه اللّه، ففي بعض «4» كتبه عمل بالأوّل، و في بعضها «5» بالثاني.

و منشأ هذا الاختلاف متن. الرواية.

فروي في الكافي عن محمد بن يحيى رفعه عن أبان، قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: فتاة منّا بها قرحة في جوفها و الدم سائل لا تدري من دم الحيض أو من دم القرحة، قال‌

مُرها فلتستلق على ظهرها و ترفع رِجْليها و تستدخل إصبعها الوسطى، فإن خرج الدم من الجانب الأيمن فهو من الحيض، و إن خرج من الجانب الأيسر فهو من القرحة. «6»

______________________________
(1) منهم: الشيخ الصدوق في الفقيه 1: 54؛ و الشيخ الطوسي في النهاية: 24؛ و المبسوط 1: 43؛ و ابن إدريس في السرائر 1: 146.

(2) منها: تحرير الأحكام 1: 13؛ و تذكرة الفقهاء 1: 252؛ و مختلف الشيعة 1: 194، المسألة 140؛ و منتهى المطلب 2: 269؛ و نهاية الإحكام 1: 116.

(3) حكاه عنه المحقّق في المعتبر 1: 199.

(4) البيان: 57.

(5) الدروس 1: 97؛ الذكرى 1: 229.

(6) الكافي 3: 94- 95/ 3.

172
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في أوصاف دم الحيض ؛ ج‌1، ص : 168

و على هذا المعنى عمل ابن الجنيد.

و أمّا التهذيب: فالذي نقله الشهيد في الذكرى عن كثير من نسخه أنّ الرواية فيه كما في الكافي بلفظها بعينه، «1» و الموجود في بعض نسخة في الرواية بعينها إلى أن قال‌

فإن خرج الدم من الجانب الأيسر فهو من الحيض، و إن خرج من الجانب الأيمن فهو من القرحة. «2»

و على هذه النسخة عمل المصنّف، و نقلها في احتجاجه «3» عن التهذيب ساكتاً عليها. و بمضمونها أيضاً أفتى الشيخ في النهاية، «4» و هو يؤيّد صحّتها؛ لأنّ عمله في النهاية إنّما هو على ما صحّ عنده من الرواية.

و اعترضها السيّد جمال الدين ابن طاوُس صاحب البُشرى بعد اعترافه بوجودها في بعض نسخ التهذيب بأنّ ذلك تدليس. «5» و فيه: أنّ التدليس إنّما يكون في الإسناد دون المتن، كما يروي عمّن لقيه و لم يسمع منه مُوهماً أنّه سمع منه، أو يروى عمّن عاصره و لم يلقه مُوهماً أنّه لقيه و سمع منه، فالأسدّ حينئذٍ ما ذكره المحقّق في المعتبر، و الشهيد في الدروس: أنّ الرواية مضطربة، «6» فإنّ الاضطراب كما يكون في الإسناد يكون في المتن.

و اعترض «7» بأنّ الاضطراب إنّما يصدق إذا تساويا، أمّا إذا ترجّح أحدهما بمرجّح فلا، و المرجّح هنا موجود مع رواية الأيسر بأنّه حيض؛ لفتوى الشيخ بمضمونها في النهاية.

قيل: و لا تعارضها رواية محمّد بن يعقوب لها بخلاف ذلك؛ لأنّ الشيخ أعرف بوجوه الحديث و أضبط خصوصاً مع فتوى الأصحاب بمضمونها. «8»

و فيه: الشكّ في كون ذلك ترجيحاً مع ما قد عرفت من أنّ أكثر نُسخ التهذيب موافقة‌

______________________________
(1) الذكرى 1: 229.

(2) التهذيب 1: 385- 386/ 1185.

(3) انظر: مختلف الشيعة 1: 194، المسألة 140؛ و منتهى المطلب 2: 269.

(4) النهاية: 24.

(5) حكاه عنه الشهيد في الذكرى 1: 230.

(6) المعتبر 1: 199؛ الدروس 1: 97.

(7) المعترض هو المحقّق الكركي في جامع المقاصد 1: 283.

(8) القائل هو المحقّق الكركي في جامع المقاصد 1: 284.

173
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في أوصاف دم الحيض ؛ ج‌1، ص : 168

للكافي، فيعارض مرجّح عمل الشيخ بمضمونها أمران: أحدهما: أكثريّة النسخ بخلافه، و الثاني: مخالفة الكافي، و إذا لم يحصل بهما الترجيح، فلا أقلّ من المساواة الموجبة للاضطراب.

هذا كلّه، مع أنّ الرواية مرسلة أرسلها محمّد بن يحيى عن أبان، فلذلك اطّرحها المحقّق في المعتبر، و قال: إنّ الرواية مقطوعة مضطربة، فلا أعمل بها. «1» فعنده هذه العلامة مطّرحة.

و أُجيب بأنّ عمل الأصحاب بمضمونها و اشتهارها بينهم جابر لوهن إرسالها، و قد اعترف بذلك المحقّقُ في غير موضعٍ من الكتاب.

بقي هنا شي‌ء، و هو: أنّ الرواية مع تسليم العمل بها إنّما دلّت على الحكم للحيض عند اشتباهه بالقرحة لا مطلقاً، و كذلك عبارة أكثر الأصحاب حتى المصنّف في كثير من عباراته، و ظاهره في هذا الكتاب اعتبار الجانب، سواء حصل اشتباه بالقرحة أم لا.

و تظهر الفائدة فيما لو انتفت القرحة و خرج الدم من الجانب المخالف بأوصاف الحيض و شرائطه، فإنّ مقتضى الرواية و كلام الجماعة أنّه حيض؛ لإمكانه.

و يمكن حمل كلام مَنْ أطلق الحكم على ذلك نظراً إلى المستند، مع أنّ النظر لا يأبى الإطلاق؛ لأنّ الجانب إن كان له مدخل في حقيقة الحيض، وجب اطّراده، و إلا فلا.

لكنّ الوقوف على ظاهر النصّ و كلام الأكثر يقتضي تخصيص مدخليّته بمصاحبة القرحة.

و بالجملة، فللتوقّف في هذه المسألة وجه واضح، و إن كان و لا بدّ فالعمل بما «2» عليه الأكثر، و هو الحكم للحيض بخروجه من الجانب الأيسر.

و أمّا الحكم الثالث و هو أنّ الخارج بعد سنّ اليأس لا يكون حيضاً فممّا لا خلاف فيه بين أهل العلم، كما نقله المحقّق في المعتبر، «3» مضافاً إلى ذلك ما دلّ عليه من الأخبار و إن اختلف في تقديره، و سيأتي الكلام فيه.

و أمّا الرابع و هو اشتراط عدم قصوره عن ثلاثة أيّام متوالية فعليه إجماع أصحابنا‌

______________________________
(1) المعتبر 1: 199.

(2) في الطبعة الحجريّة: «فالعمل على ما».

(3) المعتبر 1: 199.

174
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في أوصاف دم الحيض ؛ ج‌1، ص : 168

و بعض مَنْ خالفنا، كأبي حنيفة. «1»

و مستنده روايات من طرقنا و طرقهم.

و لفظ الأخبار «ثلاثة أيّام «2»» و الليالي معتبرة فيها إمّا لكونها داخلةً في مسمّاها بناءً على أنّ «اليوم» اسم للّيل و النهار، أو للتغليب، و قد صرّح بدخولها في بعض «3» الأخبار و في عبارة بعض الأصحاب «4» و ادّعى المصنّف في المنتهي عليه الإجماع. «5»

و أمّا قيد التوالي: فعليه الأكثر، «6» و خالف فيه الشيخ في النهاية، «7» و اكتفى بحصولها في جملة عشرة؛ استناداً إلى رواية «8» مَنَع من العمل بها شذوذُها و إرسالُها، فالعمل على ما عليه الأكثر، و دلّ عليه ظاهر النصّ من اعتبار الثلاثة من غير تقييد.

لكن ما المراد من التوالي؟ ظاهر النصّ الاكتفاء بوجوده في كلّ يوم من الثلاثة و إن لم يستوعبه؛ لصدق رؤيته ثلاثة أيّام؛ لأنّها ظرف له، و لا تجب المطابقة بين الظرف و المظروف، و هذا هو الظاهر من كلام المصنّف.

و ربما اعتبر مع ذلك في تحقّقه أن تتّفق ثلاثة دماء و ما بينها في ثلاثة أيّام من غير زيادة و لا نقصان، فيعتبر في ذلك أنّها إذا رأته في أوّل جزء من أوّل ليلة من الشهر، تراه في آخر جزء من اليوم الثالث بحيث يكون عند غروبه موجوداً، و في اليوم الوسط يكفي أيّ جزء كان منه.

و ربما بالغ بعضهم، فاعتبر فيه الاتّصال في الثلاثة بحيث متى وضعت الكرسف تلوّث به‌

______________________________
(1) الهداية للمرغيناني 1: 30؛ بدائع الصنائع 1: 40؛ المبسوط للسرخسي 3: 147؛ حلية العلماء 1: 281؛ المجموع 2: 380؛ العزيز شرح الوجيز 1: 291؛ المغني و الشرح الكبير 1: 354.

(2) الكافي 3: 75 (باب أدنى الحيض ..) الحديث 2، و 76/ 5؛ علل الشرائع 1: 338/ 1، الباب 217؛ الخصال 2: 606؛ التهذيب 1: 158157/ 452.

(3) سنن ابن ماجة 1: 204/ 623؛ سنن أبي داوُد 1: 71/ 274؛ سنن النسائي 1: 120 و 182؛ سنن البيهقي 1: 493/ 1576 و 1577.

(4) كما في جامع المقاصد 1: 287؛ و انظر: المعتبر 1: 202 حيث حكى عن ابن الجنيد قوله في مختصره: أقلّه ثلاثة أيّام بلياليها.

(5) منتهى المطلب 2: 279.

(6) منهم: ابنا بابويه كما في الفقيه 1: 50؛ و الشيخ الطوسي في المبسوط 1: 42؛ و أبو الصلاح الحلبي في الكافي في الفقه: 128؛ و ابن حمزة في الوسيلة: 56 و 57؛ و ابن إدريس في السرائر 1: 145.

(7) النهاية: 26.

(8) الكافي 3: 76/ 5؛ التهذيب 1: 157- 158/ 452.

175
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في أوصاف دم الحيض ؛ ج‌1، ص : 168

في جميع أجزائها، و قد صرّح بهذا الاعتبار الشيخ جمال الدين بن فهد في المحرّر، «1» و المحقّق الشيخ علي في الشرح، و زاد فيه أنّ الاكتفاء بحصوله فيها في الجملة رجوع إلى ما ليس له مرجع. «2»

و أمّا الحكم الخامس و السادس و هو أنّ الزائد عن أكثره و أكثر النفاس ليس بحيض فالوجه في الأوّل ظاهر، و في الثاني ما هو مقرّر من أنّ النفاس حيض محتبس، و من ثَمَّ شاركه في معظم الأحكام، و لا بدّ من تخلّل عشرة هي أقلّ الطهر بين النفاس و الحيض ليكون ما قبله و ما بعده حيضاً أو كالحيض، و إنّما جمع بين الأمرين مع اشتراكهما في العلّة و رجوع الثاني إلى الأوّل؛ لافتراقهما اسماً و حكماً من حيث الجملة، فلا يلزم حينئذٍ من نفي كون الزائد عن أقصى مدّة الحيض حيضاً نفي كون الزائد عن أقصى مدّة النفاس حيضاً.

و لمّا حكم بأنّ الخارج بعد سنّ اليأس لا يكون حيضاً أراد أن يبيّن السنّ الذي تصير به المرأة يائسةً، فقال (و تيأس) المرأة (غير القرشيّة) و هي المنسوبة إلى قريش بأبيها خاصّة على المشهور. و احتمال الاكتفاء بالأُمّ هنا أرجح من غيره في نظائره؛ لأنّ للأُمّ مدخلًا شرعيّاً في لحوق حكم الحيض في الجملة بسبب تقارب الأمزجة، و من ثَمَّ اعتبرت الحالات و بناتهنّ في المبتدأة، كما سيأتي. و المراد ب‍ «قريش» القبيلة المتولّدة من النضر بن كنانة بن خزيمة، و جلّ هذه القبيلة الهاشميّون (و النبطيّة) و هي المنسوبة إلى النبط، و هُم على ما ذكره في الصحاح: قوم ينزلون بالبطائح بين العراقين. قال: و في كلام أيّوب بن القِرّيّة أهل عمان عرب استنبطوا، و أهل البحرين نبيط استعربوا ( «3» ببلوغ) أي: بإكمال (خمسين) سنة هلاليّة، فلا يكفي الطعن في السنة الأخيرة؛ فإنّ الاعتبار هنا تحقيق لا تقريب (و إحداهما) أي: القرشيّة و النبطيّة (ب‍) بلوغ (ستّين) سنة، و هذا التفصيل هو المشهور.

و مستنده في غير النبطيّة صحيحة ابن أبي عمير عن الصادق عليه السّلام‌

إذا بلغت المرأة خمسين سنة لم تر حمرة إلا أن تكون امرأةً من قريش. «4»

______________________________
(1) المحرّر (ضمن الرسائل العشر): 140.

(2) جامع المقاصد 1: 287- 288.

(3) الصحاح 3: 1162، «ن ب ط».

(4) الكافي 3: 107/ 3؛ التهذيب 1: 397/ 1236.

176
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في أوصاف دم الحيض ؛ ج‌1، ص : 168

و ما ورد في بعض الأخبار من إطلاق الحكم بالستّين و الخمسين «1» مقيّد بهذا التفصيل؛ جمعاً بين الأخبار.

و حكم المصنّف في المنتهي «2» بالإطلاق الأوّل و الشيخ في النهاية «3» بالثاني، و التفصيل طريق الجمع، مع أنّ في طريق خبر الستّين ضعفاً.

و ما يوجد في بعض القيود من الحكم باليأس بالخمسين بالنسبة إلى العبادة مطلقاً و بالستّين بالنسبة إلى العدّة مطلقاً ليس له مرجع يجوز الاعتماد عليه و لا فقيه يعوّل على مثله يستند إليه. و اشتماله على نوع من الاحتياط غير كافٍ في الذهاب إليه، و ربما استلزم نقيض الاحتياط في بعض موارده.

و أمّا النبطيّة: فذكرها المفيد روايةً، «4» و تبعه جماعة «5» بحيث صار إلحاقها بالقرشيّة هو المشهور، لكن لم يوجد بها خبر مسند، و من ثَمَّ تركها المحقّق في المعتبر، و خصّ الحكم بالقرشيّة. «6»

و استوجه المحقّق الشيخ علي إلحاقها بها مستنداً مع الشهرة إلى أنّ الأصل عدم اليأس، فيقتصر فيه على موضع الوفاق، و الاحتياط في بقاء الحكم بالعدّة و توابع الزوجيّة؛ استصحاباً لما كان؛ لعدم القطع بالمنافي. «7»

و أنت خبير بأنّ هذا الأصل قد انتفى بما ورد من النصوص الدالّة على الحكم إمّا بالتفصيل القاطع للشركة أو بالإطلاق المتقدّم. و الاحتياط المذكور يُعارَض بمثله؛ فإنّ الحكم بصحّة الرجعة و لحوق أحكام الزوجيّة مع وجود الدليل الدالّ على نفيهما يوجب التهجّم على الفروج و الأموال بما لا يصلح سنداً. و الاستصحاب المدّعى قد انقطع بالدليل.

بقي هنا شي‌ء، و هو: أنّك قد علمت أنّ المراد بالقرشيّة من انتسبت إلى النضر بن كنانة، فهي حينئذ أعمّ من الهاشميّة، فكلّ امرأة علمت انتسابها إليه أو انتفاءها عنه‌

______________________________
(1) الكافي 3: 107/ 2 و 4؛ التهذيب 1: 397/ 1235 و 1237.

(2) منتهى المطلب 2: 272.

(3) النهاية: 516.

(4) المقنعة: 532.

(5) منهم: ابن حمزة في الوسيلة: 56؛ و الشهيد في الدروس 1: 97.

(6) المعتبر 1: 199.

(7) جامع المقاصد 1: 285- 286.

177
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في أوصاف دم الحيض ؛ ج‌1، ص : 168

فحكمها واضح. و مَن اشتبه نسبها كما هو الأغلب في هذا الزمان من عدم العلم بنسب غير الهاشميّين غالباً فالأصل يقتضي عدم كونها قرشيّةً.

و الاحتياط الذي ذكره الشيخ المحقّق يوجب إلحاقها بها.

و قد عرفت أنّ الاحتياط لا يسلم في جهة واحدة، فالأخذ بالأصل متعيّن.

و إن حصل الاتّفاق من الزوجين على الاحتياط بأن تتعبّد فيما بين الخمسين و الستّين في أيّام الدم المحتمل كونه حيضاً، و تعتدّ بالأشهر إن طابقت الأطهار المحتملة، و إلا فأكثر الأمرين، و لا يراجعها الزوج في هذه العدّة، إلى غير ذلك من الأحكام كان حسناً، و حينئذٍ يتمشّى ذلك في النبطيّة، و في تمشّيه حينئذٍ في التفصيل المتقدّم المزيّف بالنسبة إلى القرشيّة نظر.

(و أقلّه) أي: الحيض (ثلاثة أيّام) و الأخبار من طرقنا على ذلك متظافرة، مضافاً إلى إجماعنا، و رواه العامّة عن واثلة بن الأسقع و أبي أمامة الباهلي أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال‌

أقلّ الحيض ثلاثة أيّام و أكثره عشرة أيّام. «1»

(متواليات) فلا يكفي كونها في جملة عشرة، خلافاً للشيخ في أحد قوليه و ابن البرّاج. «2»

و قد عرفت أنّ مستندهما رواية مرسلة، فلا تكون حجّةً مزيلة لحكم الأصل، و هو عدم الحيض. و لأنّ العبادة ثابتة في الذمّة بيقين، فلا يسقط التكليف إلا مع تيقّن السبب.

و على هذا القول لو رأت الأوّل و الخامس و العاشر، فالثلاثة حيض لا غير. فإذا رأت الدم يوماً و انقطع، فإن كان يغمس القطنة، وجب الغسل؛ لأنّه إن كان حيضاً، فقد وجب الغسل؛ للحكم بأن أيّام النقاء طهر، و إن لم يكن حيضاً، فهو استحاضة. و الغامس منها يوجب الغسل، و إن لم يغمسها، وجب الوضوء خاصّة؛ لاحتمال كونه استحاضةً، فإن رأته مرّة ثانية يوماً مثلًا و انقطع، فكذلك، فإذا رأته ثالثة في العشرة، تبيّن «3» أنّ الأوّلين حيض، و تبيّن بطلان ما فَعَلَت بالوضوء؛ إذ قد تبيّن أنّ الدم حيض يوجب انقطاعه الغسل، فلا يجزئ عنه الوضوء. و لو اغتسلت للأوّلين احتياطاً، ففي إجزائه نظر.

______________________________
(1) سنن الدارقطني 1: 219218/ 6159؛ المعجم الكبير للطبراني 8: 129/ 7586.

(2) النهاية: 26؛ المهذّب 1: 34.

(3) في «ق» و الطبعة الحجريّة: «ثبت» بدل «تبيّن».

178
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في أوصاف دم الحيض ؛ ج‌1، ص : 168

(و أكثره عشرة) أيّام باتّفاقنا، فما زاد عن ذلك ليس بحيض قطعاً.

و ما ورد في بعض «1» الأخبار من كون أكثره ثمانية إمّا مطّرح؛ لشذوذه، أو محمول على مَنْ تكون عادتها ذلك و تعبر رؤيتها العشرة.

و (هي) أي: العشرة (أقلّ الطهر) باتّفاقنا، و للنصّ. «2» و لا حدّ لأكثره، خلافاً لأبي الصلاح حيث حدّه بثلاثة أشهر. «3»

و ادّعى المصنّف على الأوّل الإجماع، و حَمَلَ قول أبي الصلاح على الغالب. «4»

و الحقّ: أنّ دعوى الإجماع هنا لا تتوقّف على حمل كلام أبي الصلاح؛ لأنّ المنقول منه بخبر الواحد حجّة، و مخالفة معلوم النسب لا تقدح فيه.

و معنى حمله على الغالب عدم زيادته على الثلاثة غالباً، لا أنّ الغالب كونه ثلاثةً، فإنّ الأغلب كون الستّة و السبعة في الشهر الهلالي حيضاً و باقيه طهراً.

(و ما) أي: و العدد الذي (بينهما) أي: بين الثلاثة و العشرة يجوز أن يكون حيضاً، فيحكم به (بحسب العادة) المستقرّة بما أشار إليه بقوله (و تستقرّ) أي: العادة (بشهرين متّفقين) في حصول الحيض فيهما (عدداً) أي: في عدد أيّام الحيض (و وقتاً) أي: في وقت حصوله، فإذا وقع في الشهر الأوّل في السبعة الأُولى و وقع في السبعة الاولى من الشهر الثاني، فقد استقرّت العادة عدداً و وقتاً، فإذا رأت في أوّل الثالث، تحيّضت برؤيته، و لو تجاوز العشرة، رجعت إلى ما استقرّ لها من العدد.

و لو رأت الدم الثالث في آخر الشهر الثاني، تحيّضت بالعدد أيضاً مع عبوره العشرة، لكن هذه تستظهر بثلاثة في أوّله وجوباً أو استحباباً؛ لتقدّمه على وقت العادة، كما سيأتي إن شاء اللّه.

و قد علم من ذلك أنّه لا يشترط في استقرار العادة استقرار عادة الطهر، خلافاً للشهيد رحمه اللّه؛ فإنّه اشترط في الذكرى «5» استقرار عادة الطهر في تحقّق العادة عدداً و وقتاً،

______________________________
(1) التهذيب 1: 157/ 450؛ الإستبصار 1: 131/ 451.

(2) الكافي 3: 76/ 4 و 5؛ التهذيب 1: 158157/ 451 و 452؛ الاستبصار 1: 131/ 452.

(3) الكافي في الفقه: 128.

(4) تذكرة الفقهاء 1: 257 و 259، الفرع الثالث و الرابع؛ مختلف الشيعة 1: 193، المسألة 139.

(5) الذكرى 1: 232.

179
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في أوصاف دم الحيض ؛ ج‌1، ص : 168

فبدونه يستقرّ العدد لا غير، فحينئذٍ تستظهر برؤية الدم الثالث إلى ثلاثة و إن كان في وقت المتقدّم بناءً على استظهار المبتدأة و المضطربة. و لو عبر العشرة، رجعت إلى العدد قطعاً.

و إنّما اشترط في تحقّقها الشهران و لم يكتف بالرؤية مرّة واحدة؛ لأنّ العادة مأخوذة من المعاودة و لا تحصل بالمرّة الواحدة، و لا تطلق إلا مع التكرار.

و لقوله عليه السلام: صلّى اللّه عليه و آله‌

دعي الصلاة أيّام أقرائك «1»

أو‌

تحيّضي أيّام أقرائك «2»

و أقلّ ما يراد بهذه اللفظة اثنان أو ثلاثة لكنّ الثلاثة منفيّة بالاتّفاق.

و لقول الصادق عليه السّلام‌

فإن انقطع لوقته من الشهر الأوّل حتى توالت عليه حيضتان أو ثلاث فقد علم أنّ ذلك صار لها وقتاً و خلقاً معروفاً. «3»

و روى سماعة قال: سألته عن الجارية البكر أوّل ما تحيض يختلف عليها، قال‌

تجلس و تدع الصلاة ما دامت ترى الدم ما لم تجز العشرة، فإذا اتّفق شهران عدّة أيّام سواء فتلك عادتها. «4»

«5» و ما ذكره المصنّف رحمه اللّه من استقرار العادة باتّفاق الوقت و العدد ليس على جهة الانحصار، بل هو أحد أقسام العادة و أنفعها.

و لو فرض اختلاف الوقت مع اتّفاق العدد كما لو رأت في أوّل شهرٍ خمسةً و في وسط الثاني خمسةً استقرّت عادتها عدداً، فإذا رأت في شهر ثالث دماً و عَبَر العشرة، تحيّضت بالخمسة المستقرّة، لكن هذه تستظهر في أوّله؛ لعدم استقرار الوقت، بناءً على استظهار المضطربة.

و لو انعكس الفرض بأن استقرّ لها الوقت دون العدد كما لو رأت سبعةً أوّل شهر و ثمانيةً في أوّل الثاني تحقّقت العادة بالنسبة إلى الوقت، فتترك العبادة برؤية الدم في الثالث في الوقت، لكن هل تكون مضطربةً بالنسبة إلى العدد فتتحيّض بثلاثة، أو يثبت لها أقلّ العددين؛ لتكرّره؟ وجهان، اختار ثانيهما المصنّف في النهاية، «6» و الشهيد في‌

______________________________
(1) الكافي 3: 83 88/ 1؛ التهذيب 1: 384381/ 1183.

(2) أورده المحقّق في المعتبر 1: 212.

(3) المصدر في الهامش (1).

(4) في المصدر: «أيّامها».

(5) الكافي 3: 79/ 1؛ التهذيب 1: 380/ 1178.

(6) نهاية الإحكام 1: 144.

180
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في أوصاف دم الحيض ؛ ج‌1، ص : 168

الذكرى، «1» و أوّلهما الشيخ علي «2» رحمه اللّه؛ لعدم صدق الاستواء و الاستقامة. و هو أجود.

إذا تقرّر ذلك، فما المراد بالشهر المعتبر في تحقّق العادة؟ هل هو الهلالي كما هو الشائع في الاستعمال، المتبادر إلى الأفهام، الغالب وقوع الحيض فيه مرّة واحدة للنساء؟ أم ما يمكن أن يفرض فيه حيض و طهر صحيحين، المعبّر عنه بشهر الحيض؟ الذي صرّح به المصنّف في النهاية هو الثاني، قال فيها بعد قوله: و تثبت العادة بتوالي شهرين ترى فيها الدم أيّاماً سواء: و المراد بشهرها المدّة التي لها فيها الحيض و طهر، و أقلّه عندنا ثلاثة عشر يوماً. «3»

و هكذا نقّحه ولده فخر المحقّقين «4» على هذه العبارة و نظائرها، و كتبه الشهيد «5» رحمه اللّه على قواعده ناقلًا له عنه.

و عبارات الأصحاب محتملة لهما و إن كان فهم الشهر الهلالي من الإطلاق أغلب.

و يرجّح اعتبار الهلالي أيضاً أنّ اتّفاق الوقت بدمين فيما دونه لا يتّفق إلا مع تكرّر الطهر، و هو خروج عن المسألة، لكن قبل تكرّر الطهر تثبت العادة بالعدد خاصّة، فترجع في الثالث إليه مع عبوره العشرة بعد احتياطها بالصبر ثلاثة في أوّله.

و فرّع المحقّق الشيخ علي رحمه اللّه على اختياره إرادةَ الشهر الهلالي أنّ العادة الوقتيّة لا تحصل إلا بالشهرين الهلاليّين محتجّاً بأنّ الشهر في كلام النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و الأئمّة عليهم السّلام إنّما يحمل على الهلالي نظراً إلى أنّه الأغلب في عادات النساء و في الاستعمال.

قال: فلو رأت ثلاثة ثمّ انقطع عشرة ثمّ رأت ثلاثة ثمّ انقطع عشرة ثمّ رأته و عبر العشرة، فلا وقت لها؛ لعدم تماثل الوقت باعتبار الشهر. «6»

و فيما ذكره نظر؛ لأنّ تكرّر الطهر يحصّل الوقت كما قلناه، و قد صرّح بذلك في المعتبر و الذكرى، و حكاه فيه عن المبسوط و الخلاف ناقلًا عبارتهما في ذلك. «7»

و احتجاجه بأنّ الشهر في كلامهم عليهم السّلام يحمل على الهلالي إنّما يتمّ لو كان في النصوص‌

______________________________
(1) الذكرى 1: 232.

(2) جامع المقاصد 1: 304 305.

(3) نهاية الإحكام 1: 142 و 143.

(4) نسبه إليهما المحقّق الكركي في جامع المقاصد 1: 293؛ و انظر: الحاشية النجاريّة، الورقة 15.

(5) نسبه إليهما المحقّق الكركي في جامع المقاصد 1: 293؛ و انظر: الحاشية النجاريّة، الورقة 15.

(6) جامع المقاصد 1: 294.

(7) المعتبر 1: 217؛ الذكرى 1: 232؛ و انظر: المبسوط 1: 47؛ و الخلاف 1: 239، المسألة 206.

181
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في أحكام الحائض ؛ ج‌1، ص : 182

المقيّدة الدالّة على العادة ذِكرُ الشهر، و قد بيّنّا في أوّل المسألة حكايتها خاليةً من ذكر الشهر فيما عدا الحديثين الأخيرين، و في الاحتجاج بهما إشكال؛ لضعف أوّلهما بالإرسال، و ثانيهما بجرح سماعة و انقطاع خبره.

[القول في أحكام الحائض]

(و الصفرة و الكدرة) بحذف المضاف و إقامة اسم المصدر مقامه، أي: و الدم ذو الصفرة، و هي لون الأصفر، و ذو الكدرة، و هي ضدّ الصفاء على ما ذكره الجوهري، «1» الواقعتين (في أيّام الحيض) يحكم بأنّهما (حيض).

و المراد بأيّام الحيض ما يحكم على الدم الواقع فيها بأنّه حيض، سواء كانت أيّام العادة أم غيرها، فتدخل المبتدأة و مَنْ تعقّب عادتها بعد أقلّ الطهر.

و ضابطه ما أمكن كونه حيضاً.

و ربما فُسّرت بأيّام العادة. و النصوص دالّة بعمومها على الأوّل.

(كما أنّ) الدم (الأسود الحارّ) الواقع (في أيّام الطهر) يحكم بأنّه (فساد) أي: استحاضة.

و إنّما سمّاها فساداً؛ لأنّها مرض مخصوص، بخلاف الحيض؛ فإنّه دالّ على اعتدال المزاج، و من ثَمَّ كان عدم الحيض في الجارية ستّة أشهر ممّن شأنها ذلك عيب تُردّ به. و لم تحدّ المستحاضة إذا وجب عليها الحدّ حتى تبرأ.

و إنّما حكم بذلك مع مخالفتهما لأوصاف الدم، الملحقين به؛ لأنّ تلك الأوصاف مبنيّة على الغالب، كما تقدّم.

و عبّر بالمصدر في الشقّ الأوّل دون الثاني؛ للفرق بين ما ورد في لفظ الرواية و ما أكمله المصنّف من لفظه.

قال الصادق عليه السّلام‌

السنّة في الحيض أن تكون الصفرة و الكدرة فما فوقها في أيّام الحيض إذا عرفت حيضاً كلّه. «2»

و اعلم أنّ الدم المحكوم بكونه حيضاً متى انقطع على العشرة فما دون حكم بكونه حيضاً كلّه، سواء في ذلك من ابتدأ بها الحيضُ و المعتادة بأقسامها و المضطربة العادة.

(و لو تجاوز الدم عشرة) أيّام، فقد امتزج الحيض بالطهر؛ لما علمت من أنّ الحيض‌

______________________________
(1) الصحاح 6: 2401؛ «ص ف ا».

(2) الكافي 3: 83 86/ 1؛ التهذيب 1: 381- 382/ 1183.

182
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في أحكام الحائض ؛ ج‌1، ص : 182

لا يزيد عن عشرة، فلا يخلو حينئذٍ إمّا أن تكون مبتدأةً أو ذات عادة مستقيمة محفوظة أو مضطربة ناسية لعادتها وقتاً و عدداً أو وقتاً خاصّة أو عدداً خاصّة أو لم تستقر لها عادة أصلًا، و ربما خصّت هذه خاصّة باسم المضطربة، و سيأتي أنّها داخلة في قسم المبتدأة.

و على التقادير الستّة فإمّا أن يكون لها تمييز أو لا، فالأقسام اثنا عشر تُعلم مفصّلةً إن شاء اللّه.

فإن كانت ذات عادة محفوظة (رجعت ذات العادة المستقرّة إليها).

و معنى رجوعها إليها أن تجعل مقدار العادة حيضاً و ما زاد استحاضة، فتقضي ما تركته فيه من صوم و صلاة؛ لثبوت كونها طاهرةً فيه، و ما احتملته من كونه حيضاً قد تبيّن فساده.

و يستفاد من إطلاق الحكم برجوع ذات العادة إليها مع تقديمها و جَعلها قسيمةً لرجوع ذات التمييز إليه أنّه لو عارض العادة تمييز، قدّمت العادة عليه. و هذا هو أصحّ القولين و أشهرهما و مختار المصنّف. «1»

و مستنده الأخبار الدالّة على اعتبار العادة مطلقاً من غير تقييد بانتفاء التمييز.

كقوله عليه السلام‌

دعي الصلاة أيّام أقرائك. «2»

و قول الصادق عليه السّلام في صحيحة إسحاق بن جرير «3» حيث سأله «4» عن امرأة يستمرّ بها الدم الشهر و الشهرين و الثلاثة كيف تصنع؟ قال‌

تجلس أيّام حيضها ثمّ تغتسل لكلّ صلاتين «5»

و ترك الاستفصال مع قيام الاحتمال يدلّ على العموم في المقال.

و رجّح الشيخ في النهاية التمييز «6»؛ لقول الصادق عليه السّلام في صحيح معاوية بن عمّار‌

دم الحيض حارّ. «7»

و قوله عليه السّلام في حسنة حفص‌

دم الحيض حارّ عبيط أسود له دفع و حرارة «8»

و هو دالّ‌

______________________________
(1) مختلف الشيعة 1: 206، المسألة 147؛ نهاية الإحكام 1: 142.

(2) الكافي 3: 83- 88/ 1، التهذيب 1: 381- 384/ 1183.

(3) في التهذيب: إسحاق بن جرير عن حريز.

(4) السائل في المصدر هي امرأة.

(5) الكافي 3: 9291/ 3؛ التهذيب 1: 152151/ 431.

(6) حكاه عنه المحقّق في المعتبر 1: 212؛ و انظر: النهاية: 24.

(7) الكافي 3: 91/ 2؛ التهذيب 1: 151/ 430.

(8) الكافي 3: 91/ 1؛ التهذيب 1: 151/ 429.

183
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في أحكام الحائض ؛ ج‌1، ص : 182

على اعتبار التمييز من غير تقييد.

و حَملُ هذه الأخبار على غير المعتادة طريق الجمع بينها و بين ما دلّ على اعتبار العادة مطلقاً. و لقوّة العادة المتكرّرة.

و لا يقال: إنّ صفة الدم علامة فتصير إليها عند الاشتباه، كالصفة في المنيّ عنده؛ لأنّ صفة الدم يسقط اعتبارها في العادة؛ لأنّها أقوى من الوصف.

و لرواية محمد بن مسلم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في المرأة ترى الصفرة في أيّامها، قال‌

لا تصلّي حتى تنقضي أيّامها، فإن رأت الصفرة في غير أيّامها توضّأت و صلّت. «1»

و ربّما فرّق بعضهم بين العادة المستفادة من الأخذ و الانقطاع، و المستفادة من التمييز، فقدّم الاولى عليه دون الثانية؛ لأنّها فرعه فلا تزيد على أصله. «2»

هذا كلّه مع عدم إمكان الجمع، أمّا لو أمكن كما لو تخلّل بينهما من الدم الضعيف أقلّ الطهر حكم به في العادة و التمييز؛ لإمكانه، نصّ عليه المصنّف في النهاية، «3» و نبّه عليه في الذكرى. «4»

(و) لو لم تكن ذات عادة مستقرّة محفوظة، بل كانت أحد الأقسام الأُخر، فلا يخلو إمّا أن يكون لها تمييز أولا، فإن كان لها تمييز، رجعت (ذات التمييز إليه).

و التمييز مصدر قولك: ميّزت الشي‌ء أُميّزه تمييزاً: إذا فرزته و عزلته.

و المراد بها هنا التي ترى الدم على نوعين أو أنواع أحدها أقوى فتجعله حيضاً و الباقي استحاضةً.

و له «5» شروط: اختلاف صفته، كما قلناه، فلو كان بصفة واحدة، فلا تمييز. و كون ما هو بصفة الحيض أو الأقرب إليه لا ينقص عن ثلاثة أيّام و لا يزيد عن عشرة أيّام؛ لأنّ إلحاقه به يوجب ذلك. و كون الضعيف لا ينقص عن أقلّ الطهر، و يضاف إليه أيّام النقاء إن اتّفق؛ لأنّ جَعلَ القويّ حيضاً يوجب جَعل الضعيف طهراً؛ لأنّه مقابله.

______________________________
(1) الكافي 3: 78/ 1؛ التهذيب 1: 396/ 1230.

(2) المحقّق الكركي في جامع المقاصد 1: 301.

(3) نهاية الإحكام 1: 141- 142.

(4) الذكرى 1: 240239.

(5) أي: و للتمييز.

184
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في أحكام الحائض ؛ ج‌1، ص : 182

و ربما احتمل هنا عدم الاشتراط؛ لعموم قول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله صلّى اللّه عليه و آله‌

دم الحيض أسود يعرف. «1»

و بالاشتراط جزم المصنّف في النهاية. «2»

و لا يشترط في التمييز التكرار؛ لأنّه علامة، فيكفي حصولها" بخلاف العادة.

و هل يشترط في الدم المحكوم بكونه حيضاً أن يتوالى الوصف المجعول علامةً ثلاثة بحيث لا يتخلّلها وصف ضعيف، أو يكفي وجود القويّ في كلّ يوم من الثلاثة و لو لحظة؟ يبنى على ما سلف من تفسير التوالي.

و تعتبر القوّة و الضعف بثلاثة: اللون، فالأسود قويّ الأحمر، و هو قويّ الأشقر، و هو قويّ الأصفر، و هو قويّ الأكدر. و الرائحة، فذو الرائحة الكريهة أقوى ممّا لا رائحة له، هكذا عبّر المصنّف عنه في النهاية، «3» و مثله في الموجز. «4»

و لو كان أحدهما أنتن رائحةً من الآخر، فالظاهر قوّته عليه، لكنّه لا يدخل فيما حكيناه من العبارة. «5» و القوام، فالثخين قويّ الرقيق.

و لا يشترط في القوّة اجتماع صفاته، فذو الثلاث أقوى من ذي الاثنتين، و هو أقوى من ذي الواحدة، و هو أقوى من العادم.

و لو استوى العدد و إن كان مختلفاً، فلا تمييز.

و قد يتّفق لذات التمييز ترك العبادة شهراً متوالياً فما زاد بأن ترى الأحمر عشرةً، فإنّها تجلس فيها؛ لإمكان كونه حيضاً، أو بعد الثلاثة على تقدير الاستظهار، ثمّ ترى بعده أقوى منه عشرةً، فتجلس الأقوى، و تبيّن أنّ الأوّل استحاضة، ثمّ ترى بعده أقوى منهما، و هكذا.

قال في المعتبر: و لو قيل هنا: تحتاط إذا تجاوزته من أوّل الدم عشرة بالصلاة و الصوم، فإن انقطع الأسود على عشرة فما دون، فهو حيض، و قضت الصوم، كان حسناً. «6»

و يستفاد من إطلاق رجوع ذات التمييز إليه و جَعله قسيماً للمعتادة أنّ المضطربة إذا‌

______________________________
(1) الكافي 3: 8683/ 1؛ التهذيب 1: 383381/ 1183؛ سنن أبي داوُد 1: 75/ 286؛ سنن النسائي 1: 185؛ سنن الدارقطني 1: 207206/ 3؛ سنن البيهقي 1: 483 484/ 1551.

(2) نهاية الإحكام 1: 135.

(3) نهاية الإحكام 1: 135.

(4) الموجز (ضمن الرسائل العشر): 44.

(5) في «ق» و الطبعة الحجريّة: «القوم» بدل «العبارة».

(6) المعتبر 1: 206.

185
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في أحكام الحائض ؛ ج‌1، ص : 182

ذكرت العدد خاصّةً أو الوقت خاصّةً و وجدت تمييزاً في بعض أيّام الشهر، تحيّضت به.

و لا بُعد فيه في الاولى من جهة إطلاقهم تخييرها في تخصيص العدد بأيّ وقت شاءت، فإنّه يقيّد بعدم التمييز «1» جمعاً بين الإطلاقين.

لكنّ المحقّق الشيخ عليّ استشكل الأمر فيها، و قال ما هذا لفظه: الحكم برجوع المضطربة إلى التمييز لا يستمرّ؛ لأنّ ذاكرة العدد، الناسية للوقت لو عارض تمييزها عدد أيّام العادة، لم ترجع إلى التمييز بناءً على ترجيح العادة على التمييز. و كذا القول في ذاكرة الوقت ناسية العدد.

قال: و يمكن الاعتذار بأنّ المراد برجوعها إلى التمييز ما إذا طابق تمييزها العادة بدليل ما ذكره من ترجيح العادة على التمييز.؛ انتهى كلامه.

و أقول: إنّ الإشكال في ذاكرة العدد خاصّة غير واضح، و تحقّق المعارضة فيها بين التمييز و أيّام العادة غير متحقّق؛ فإنّها بسبب نسيان الوقت لا تتخصّص عادتها بأيّام معيّنة حتى يعارضه التمييز، بل يجوز كون أيّام التمييز هي العادة، فترجيح التمييز فيها باقٍ على حاله، و إنّما ترجّح العادة على التمييز مع العلم بوقتها.

نعم، قد يتوهّم التعارض على تقدير اختيارها عدداً من الشهر ثمّ يظهر التمييز في غيرها، و هنا ينبغي عدم الإشكال في تقديم التمييز؛ لما علمت من عدم انتظام هذه في سلك المعتادة، بل هي مضطربة يتأخّر اختيارها العدد على التمييز، و إنّما يقع الإشكال هنا فيما لو زادت أيّام التمييز على العدد المحفوظ. و كأنّه رحمه اللّه أراد بالتعارض هذا المعنى، و لم أتحقّق إلى الآن تصريحاً لأحدٍ من الأصحاب بشي‌ء، غير أنّ إطلاق كلامهم تقديم العمل بالتمييز يقتضي جَعل أيّام التمييز كلّها حيضاً.

و كذا الإشكال لو انعكس الفرض بأن نقصت أيّام التمييز عن العدد، لكنّ العمل هنا على العدد أقوى؛ ترجيحاً لعدد العادة على التمييز بناءً على ترجيحها.

و لا يرد مثله في الأوّل؛ لأنّ العادة إنّما تُقدّم على التمييز مع التعارض، و مع زيادة أيّام التمييز على العدد و انقطاعه على العاشر فما دون إذ هو الفرض؛ لأنّه من شروط التمييز لا تعارض، بل يمكن الجمع بينهما بجَعل الجميع حيضاً؛ فإنّ مثل هذا آتٍ في ذاكرة الوقت‌

______________________________
(1) جامع المقاصد 1: 298.

186
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في أحكام الحائض ؛ ج‌1، ص : 182

و العدد مع عبور الدم العشرة، فإنّهم ذكروا هناك أنّه مع إمكان الجمع بينهما يجمع و يجعل ما زاد من أيّام التمييز عن عادتها حيضاً. و قد أشرنا إليه فيما سلف.

لكنّ المصنّف في النهاية استقرب في ذاكرتهما مع زيادة التمييز على العادة و مجاوزة العشرة اختصاص الحيض بالعادة. «1» و على هذا يمكن اختصاص العدد.

و في المبنى عليه منع.

و أمّا ذاكرة الوقت خاصّة: فكلامه رحمه اللّه فيها وجيه؛ لإمكان فرض تحقّق المنافاة باعتبار علمها بالوقت، فهي من هذه الجهة معتادة في المعنى، و مع عدم منافاة التمييز لوقتها يمكن أن يفيدها التمييز زيادة على العدد المأمور به أو نقصاناً عنه سواء أوجبنا عليها الرجوع إلى الروايات أم جوّزنا لها الاقتصار على ثلاثة، فيصلح ذلك لحمل كلام المصنّف في تقديم التمييز على ما علمته من الوقت، لا بمعنى عدم الالتفات إلى الوقت، بل بمعنى عدم الالتفات إلى ما فرض لها من العدد عند البحث عنه من الرجوع إلى الروايات أو إلى غيرها.

و لا بأس بإمعان النظر في هذه المسألة و استقراء كلام الأصحاب ليتّضح الحال فيها، فإنها لا تستفاد إلا من عامّ أو مطلق.

(فإن فقدا) أي: العادة المستقرّة و التمييز، (رجعت المبتدئة) بكسر الدال اسم فاعل بمعنى التي ابتدأت الحيضَ. و يجوز فتحه؛ ليصير اسم مفعول بمعنى التي ابتدأ بها الحيضُ.

و يتحقّق حكم الابتداء برؤية الدم مرّة و مرّتين، أو بشهرين عند الاحتياج إلى استقرار الطهر.

و هل يتحقّق فيما زاد حتى يدخل فيها كلّ مَنْ لم تستقرّ لها عادة و لو باضطراب دورها؟ الظاهر من كلام المصنّف و الشهيد رحمه اللّه و جماعة في تقاسيمهم: ذلك؛ حيث يخصّون المضطربة بذات العادة المنسيّة بأحد وجوهها.

و قال في المعتبر: المبتدئة و هي التي رأت الدم أوّل مرّة إذا تجاوز دمها العشرة و لم يتميّز رجعت إلى عادة نسائها، إلى آخره.

ثمّ قال: المبتدئة إذا لم يكن لها نساء أو كنّ مختلفات، و المضطربة، و هي التي لم تستقرّ‌

______________________________
(1) انظر: نهاية الإحكام 1: 142.

187
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في أحكام الحائض ؛ ج‌1، ص : 182

لها عادة عدداً و لا وقتاً «1»، إلى آخره، و مقتضاه: اختصاص المبتدئة بأوّل مرّة، و أنّ التي لم تستقرّ لها عادة بَعدُ مضطربة.

و تظهر الفائدة في رجوع هذا النوع من المضطربة إلى عادة نسائها أم لا، فعلى الأوّل ترجع، و على قول المعتبر إنّما ترجع بعد التمييز إلى الروايات، كناسية العادة.

و كلام المعتبر أدخل في اسم المضطربة، و الترجيح مع الأوّل بندور المخالف، و استلزام قوله جَعل المبتدئة في الدور الثاني الذي به تتحقّق العادة مضطربةً. و بأنّ الحكمة في رجوع المبتدئة إلى النساء موجودة فيمن لم تستقرّ لها عادة، دون المضطربة الناسية، و هي أنّ الأُولى لم يسبق لها عادة ترجع إليها، بخلاف الناسية التي قد سبق لها عادة.

و هذه الوجوه لا تفيد القطع، و العمل على المشهور.

و خبر السنن يدلّ حصره بظاهره عليه؛ فإنّ أبا عبد اللّه عليه السّلام قال فيه‌

إنّ جميع حالات المستحاضة تدور على السنن الثلاث لا تكاد أبداً تخلو من واحدة منهنّ، إن كانت لها أيّام معلومة فهي على أيّامها

ثمّ قال‌

و إن لم تكن لها أيّام قبل ذلك و استحاضت أوّل ما رأت، فوقتها سبع و طهرها ثلاث و عشرون، فإن استمرّ بها الدم أشهراً، فَعَلَت في كلّ شهر كما قال لها، و إن انقطع الدم في أقلّ من سبع أو أكثر من سبع، فإنّها تغتسل ساعة ترى الطهر و تصلّي، فلا زال كذلك حتى تنظر ما يكون في الشهر الثاني، فإن انقطع الدم لوقته في الشهر الأوّل سواء حتى توالى عليها حيضتان أو ثلاث، فقد علم الآن أنّ ذلك قد صار لها وقتاً و خلقاً معروفاً، تعمل عليه، و تدع ما سواه

ثمّ قال‌

و إن اختلط عليها أيّامها و زادت و نقصت حتى لا تقف منها على حدّ و لا من الدم على لون، عملت بإقبال الدم و إدباره «2»

الحديث.

و مراده باختلاط الأيّام نسيان العادة؛ لأنّه موضّح للسنن المتقدّمة في أوّل الحديث، التي من جملتها‌

و أمّا سنّة التي قد كانت لها أيّام متقدّمة ثمّ اختلط عليها من طول الدم زادت و نقصت حتى أغفلت عددها و موضعها من الشهر «3»

إلى آخره.

______________________________
(1) المعتبر 1: 207 و 209.

(2) الكافي 3: 8883/ 1؛ التهذيب 1: 385381/ 1183.

(3) الكافي 3: 85/ 1؛ التهذيب 1: 382/ 1183.

188
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في أحكام الحائض ؛ ج‌1، ص : 182

و وجه دلالته على ما نحن فيه أنّه حصر أقسامها في الناسية و الذاكرة و المبتدئة، و لا يخفى أنّ مَنْ لم تستقرّ لها عادة بَعدُ لا تدخل في الناسية و لا في الذاكرة لعادتها، فلو لم تدخل في المبتدئة، بطل الحصر الذي ذكره عليه السّلام.

و لا يقال: إنّ قوله عليه السّلام في تعريفها‌

و إن لم تكن لها أيّام قبل ذلك و استحاضت أوّل ما رأت

يدلّ على خلاف مطلوبكم؛ لأنّه فسّر المبتدئة بأنّها مَنْ تستحاض في أوّل الدور.

لأنّا نقول: إنّ أوّل التعريف صادق على المدّعى، و إن اجري آخره و هو أنّها التي استحاضت أوّل ما رأت على ظاهره، بطل الحصر، فلا بدّ من حمله على وجه يصحّ معه الحصر، و هو أن يريد بالأوّليّة ما لا تستقرّ فيها العادة بَعدُ، و هو أوّل إضافيّ يصحّ الحمل عليه، و قد دلّ عليه مواضع من الحديث:

منها: ما هو داخل فيما حكيناه من لفظه.

و منها: ما أضربنا عن حكايته؛ لطوله.

و هو حديث شريف يدلّ على أُمور مهمّة في هذا الباب، و سيأتي الكلام على سنده إن شاء اللّه تعالى.

و يمكن أن يكون بياناً لبعض أفرادها أو للأغلب «1» منها؛ فإنّ العادة مع استواء الدم تستقرّ في أيّام يسيرة، و الغالب أنّ المرأة إذا استقام لها حيضة في الابتداء في شهر يتمّ لها ذلك في الشهر الثاني. و أمّا إن عرض لها ما يمنع استقرار العادة في هذه المدّة اليسرة، فالأغلب وقوع العارض من أوّل الأمر.

و بالجملة، فلا بدّ من تصحيح الحصر بوجه.

و بأيّ معنى فسّرنا المبتدئة فإنّها متى فقدت التمييز رجعت (إلى عادة أهلها) و هُنّ أقاربها من الطرفين أو من أحدهما، كالأُخت و العمّة و الخالة و بناتهنّ؛ لتقارب الأقارب في الأمزجة غالباً. و لا اختصاص للعصبة هنا؛ لأنّ الطبيعة جاذبة من الطرفين.

و هذا هو المشهور بين الأصحاب، و عليه عملهم، و الموجود على وفقه روايتان:

إحداهما: رواية زرارة و محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام، قال‌

المستحاضة تنظر

______________________________
(1) في «م»: «الأغلب».

189
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في أحكام الحائض ؛ ج‌1، ص : 182

بعض نسائها فتقتدي بأقرائها ثمّ تستظهر على ذلك بيوم. «1»

و في طريقها عليّ بن الحسن بن فضّال، و هو فطحيّ، لكنّ المصنّف اختار في الخلاصة الاعتماد على روايته، و ذكره في القسم الأوّل. «2»

و الثانية: مقطوعة سماعة أنّه سأله عن المبتدئة، فقال‌

أقراؤها مثل أقراء نسائها، فإن اختلفن فأكثر جلوسها عشرة أيّام و أقلّه ثلاثة. «3»

و هذه الرواية و إن اعتراها نقص بالقطع لكنّ الشيخ رحمه اللّه في الخلاف استدلّ على صحّة مضمونها بإجماع الفرقة، «4» فإن تمّ ذلك، و إلا فالاعتماد على اتّفاق الأعيان على الفتوى بمضمونها، كما نبّه عليه في المعتبر. «5»

و لا فرق بين الحيّة من الأهل و الميّتة المعلومة عادتها، و لا بين المساوية في السنّ للمبتدئة و المخالفة، و لا بين البلديّة لها و غيرها؛ للعموم.

و رجّح الشهيد رحمه اللّه في الذكرى اعتبار اتّحاد البلد في الأهل و الأقران محتجّاً بأنّ للبلدان أثراً ظاهراً في تخالف الأمزجة. «6» و في معارضته لعموم النصّ نظر.

و اعتبر شيخنا السيّد حسن رحمه اللّه اعتبار البلد، فإن فقد، فأقرب البلدان إلى بلدها فالأقرب.

و كلّ هذه الأُمور تُثمر الظنّ بتقارب الأمزجة إلا أنّها لا تصلح لتخصيص عموم النصّ.

و تتخيّر في وضع الأيّام حيث شاءت من الشهر؛ لعدم الأولويّة و إن كان وضعها في أوّل الشهر أولى.

هذا كلّه مع اتّفاق عادتهنّ و وجودهنّ (فإن اختلفن أو فقدن) إمّا بعدمهنّ أصلًا أو بموتهنّ و عدم علمها بعادتهنّ، أو لم يمكنها استعلام حالهنّ؛ لبُعْدٍ و نحوه (رجعت إلى أقرانها).

______________________________
(1) التهذيب 1: 401/ 1252؛ الاستبصار 1: 138/ 472.

(2) خلاصة الأقوال: 93/ 15.

(3) الكافي 3: 79/ 3؛ التهذيب 1: 381380/ 1181؛ الاستبصار 1: 138/ 471.

(4) الخلاف 1: 234، المسألة 200.

(5) المعتبر 1: 208.

(6) الذكرى 1: 247.

190
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في أحكام الحائض ؛ ج‌1، ص : 182

أمّا مع فقدهنّ: فظاهر.

و أمّا مع اختلافهنّ: فذكر الحكم بذلك جماعة من غير تقييدٍ بتساوي المختلفات.

و صرّح المصنّف في النهاية بالحكم مطلقاً، قال فيها: حتى لو كُنّ عشراً فاتّفق منهنّ تسع، رجعت إلى الأقران. «1»

و اختار الشهيد رحمه اللّه و مَنْ تبعه اتّباع الأغلب مع الاختلاف. «2»

و التحقيق أنّا إن اعتمدنا في الحكم على مقطوعة سماعة، فما قاله الجماعة أوجَه؛ لتصريحه فيها بأنّ الاختلاف موجب للانتقال عنهنّ. و إن اعتمدنا على الحديث الأوّل، فلا وجه للتخصيص بالأغلب؛ لأنّه دلّ بظاهره على الاكتفاء بواحدة من نسائها.

و حمله شيخنا الشهيد رحمه اللّه على غير المتمكّنة من معرفة عادات جميع نسائها، فتكتفي بالبعض الممكن. «3»

و الوجه: اتّباع الأغلب؛ لدلالته عليه، و خروج ما دونه بالإجماع، فيكون كالعامّ المخصوص في كونه حجّةً في الباقي.

و على هذا فلا فرق في اتّباع الأغلب مع اختلاف أسنانهنّ و بلدانهنّ بين كون الأغلب مخالفاً في السنّ و البلد أو موافقاً؛ للعموم، مع احتمال تقديم الأقرب إليها سنّاً و بلداً فالأقرب؛ لقوّة الظنّ بتقارب الطباع مع تقاربهما أو اتّحادهما.

و استقرب المصنّف في النهاية مع اختلافهنّ في السنّ ردّها إلى مَنْ هي أقرب إليها، مع حكمه بانتقالها إلى الأقران عند اختلافهنّ و إن اتّفق الأكثر. «4»

و بين الحكمين في بعض الموارد بَون كثير. و أمّا رجوعها إلى الأقران فاشتهر الحكم به بين الأصحاب.

و حكى المصنّف في المنتهي عن المرتضى و ابن بابويه عدم ذكر الأقران، و مال إليه «5»

و أنكره المحقّق في المعتبر مطالباً بدليله، و فارقاً بينهنّ و بين الأهل بأنّ بينهما و بين الأهل مشاكلة في الطباع و الجنسيّة، و الأصل تقوّي الظنّ مع اتّفاقهنّ بمساواتها لهنّ، و لا كذا‌

______________________________
(1) نهاية الإحكام 1: 139.

(2) الذكرى 1: 247.

(3) الذكرى 1: 247.

(4) نهاية الإحكام 1: 139.

(5) منتهى المطلب 2: 300.

191
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في أحكام الحائض ؛ ج‌1، ص : 182

الأقران؛ إذ لا مناسبة تقتضي ذلك؛ لأنّ النسب يعطي شبهاً دون المقارنة. «1»

و أجاب في الذكرى بأنّ لفظ «نسائها» في الخبر صادق عليهنّ، فإنّ الإضافة" تصدق بأدنى ملابسة ك‍ «كوكب الخرقاء».

و لمّا لابسنها في السنّ و البلد صدق عليهنّ النساء. و أمّا المشاكلة فمع السنّ و اتّحاد البلد تحصل غالباً.

قال: و ليس في كلام الأصحاب منع منه و إن لم يكن فيه تصريح به. نعم، الظاهر اعتبار اتّحاد البلد في الجميع؛ لأنّ للبلدان أثراً ظاهراً في تخالف الأمزجة. «2» انتهى.

و فيه نظر؛ لأنّ هذه الملابسة لو اكتفي بها، لم يتمّ اشتراط اتّحاد البلد و السنّ، بل كان يكتفى بأحدهما؛ لصدق الملابسة معه، و تماميّة المشاكلة و مقاربة المزاج بهما، و لا تصلح مؤسّسة لحكمٍ شرعيّ مخصّصة لعامّ النساء إن تمّ الاكتفاء بإضافته بأدنى ملابسة، بل لا ينحصر الصدق أيضاً في البلد وحده و السنّ وحده؛ لأنّ وجوه أدنى الملابسة متكثّرة ضرورة، و فتح هذا الباب يخرج إلى تناول اللفظ ما هو منفيّ بالإجماع.

و يمكن الجواب بنحو ما قلناه في الاختلاف، و هو: الإجماع على نفي الحكم عمّا عدا المتنازع مخصّص، فتبقى صورة النزاع داخلة في العموم، لكن يبقى اشتراط اتّحاد البلد، فإنّ الأكثر لم يعتبروه، و تقويته للمشاكلة المفيدة للظنّ بتقارب الأمزجة لا تصلح للتخصيص شرعاً، كما لا يخفى على العالم بمدارك الأحكام.

إذا تقرّر ذلك، فما القدر الذي يتحقّق به الأقران من السنّ؟ ليس في كلام الأصحاب تعيين له.

و في الصحاح: القَرن: مثلك في السنّ. «3»

و الظاهر الرجوع في ذلك إلى العرف. و هو دالّ على أنّ مَنْ وُلد في السنة الواحدة أقران، و فيما زاد عنها إشكال من دخوله في صدق لفظ «النساء» و خروجه عن صدق الأقران.

(فإن اختلفن) أي: الأقران و لو بواحدة منهنّ كما تقدّم (أو فُقدن) بأحد المعاني المتقدّمة (تحيّضت) المبتدئة (في كلّ شهر) هلالي (بسبعة أيام) أو ستّة؛ لورودها مع السبعة في‌

______________________________
(1) المعتبر 1: 208- 209.

(2) الذكرى 1: 247.

(3) الصحاح 6: 2180، «ق ر ن».

192
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في أحكام الحائض ؛ ج‌1، ص : 182

حديث السنن ( «1» أو بثلاثة) أيّام (من شهرٍ و عشرة) أيّام (من) شهر (آخر) و تتخيّر في الابتداء بأيّهما شاءت.

و هذه الأُمور الثلاثة هي بعض الأعداد المعبّر عنها بالروايات؛ لورودها فيها. و المشهور بين الأصحاب اختصاص الحكم بهذه الثلاثة.

و مستند الستّة و السبعة حديث «2» السنن، و الثلاثة و العشرة رواية عبد اللّه بن بكير عنه. عليه السّلام «3» و ضعّف المحقّق في المعتبر حديث السنن بأنّ راويه محمّد بن عيسى عن يونس و قد استثنى الصدوق من مرويّات يونس ما انفرد به محمّد بن عيسى «4» و بإرسال يونس له. و الثانيَ بأنّ عبد الله بن بكير فطحيّ. ثمّ اختار أخذها ثلاثة؛ لأنّها المتيقّن، و تتعبّد بقيّة الشهر. «5»

و أجاب في الذكرى بأنّ الشهرة في النقل و الإفتاء بمضمونه حتى عُدّ إجماعاً يدفعهما.

قال: و يؤيّده أنّ حكمة البارئ أجلّ من أن يدع أمراً مبهماً تعمّ به البلوى في كلّ زمان و مكان و لم يبيّنه على لسان صاحب الشرع، مع لزوم العسر و الحرج فيما قالوه، و هُما منفيّان بالآي و الأخبار و غير مناسبين للشريعة السمحة. «6»

(و المضطربة) الناسية لعادتها وقتاً و عدداً و هي المعبّر عنها بالمتحيّرة؛ لتحيّرها في نفسها، و المحيّرة للفقيه في أمرها لا ترجع عند فقد التمييز إلى أهلٍ و لا أقران، بل تتحيّض (بالسبعة، أو الثلاثة و العشرة) أو الستّة.

و إنّما خصّصنا بها اللفظ؛ لأنّ ناسية أحدهما خاصّة لا ترجع إلى الروايات عند المصنّف، «7» و سيأتي الكلام فيها.

و هل أخذها بأحد الأعداد الثلاثة على جهة التخيير أو الاجتهاد بمعنى أنّ مزاجها إن كان الغالب عليه الحرارة، أخذت السبعة، أو البرودة فالستّة، و إن كان معتدلًا، فالثلاثة‌

______________________________
(1) الكافي 3: 83- 87/ 1؛ التهذيب 1: 381- 383/ 1183.

(2) الكافي 3: 83- 87/ 1؛ التهذيب 1: 381- 383/ 1183.

(3) التهذيب 1: 381/ 1182؛ الاستبصار 1: 137/ 469.

(4) كما في الذكرى 1: 72؛ و حكاه النجاشي في رجاله: 333 ذيل الرقم 896.

(5) المعتبر 1: 210.

(6) الذكرى 1: 256.

(7) انظر: قواعد الأحكام 1: 14؛ و مختلف الشيعة 1: 207، المسألة 148؛ و نهاية الإحكام 1: 155.

193
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في أحكام الحائض ؛ ج‌1، ص : 182

و العشرة؟ وجهان، اختار ثانيهما المصنّف في النهاية محتجّاً بلزوم المحذور في التخيير بين فعل الواجب و تركه. «1»

و ينتقض بيومي الاستظهار بعد العادة، و بالتخيير بين القصر و التمام «2» في الأماكن الأربعة، و التسبيح بدل الحمد.

و اختار الشهيد «3» رحمه اللّه و المحقّقُ في المعتبر، «4» و جماعة «5» التخييرَ، و هو الظاهر؛ لدلالة «أو» على التخيير في سياق الطلب أو فيما يمتنع فيه الجمع.

و متى اختارت عدداً جاز لها وضعه حيث شاءت من الشهر؛ لعدم الترجيح في حقّها، و لا يتعيّن أوّله و إن كان أولى. و لا اعتراض للزوج.

هذا في الشهر الأوّل، و ما بعده يجب موافقته للأوّل في الوقت؛ لبُعد اختلاف مرّات الحيض، و لأنّ ذلك قائم مقام العادة في المعتادة، مع احتمال بقاء التخيير؛ للعموم، و لأنّ العادة تتقدّم و تتأخّر.

و كذا القول في التخيير في الأعداد بالنسبة إلى الدور الثاني إذا لم يوجد ما هو أولى منه من تمييزٍ أو عادة نساء تعذّر علمها في الدور الأوّل، هذا هو المشهور، و عليه العمل.

و نقل المصنّف عن الشيخ أنّ له قولًا بأنّها مأمورة بالاحتياط، فتفعل من أوّل الشهر إلى آخره ما تفعله المستحاضة، و تغتسل بعد الثلاثة لكلّ صلاة؛ لاحتمال انقطاع الدم عندها؛ إذ ما من زمان بعد الثلاثة إلا و يحتمل الحيض و الطهر و الانقطاع. «6»

و جَعَله المصنّف في القواعد أحوط. «7»

و يتفرّع على هذا القول فروع جليلة و مسائل مشكلة، لكن قال في الذكرى: و القول بالاحتياط عسر منفيّ بالآية و الخبر. «8» و في البيان: الاحتياط هنا بالردّ إلى أسوإ الاحتمالات‌

______________________________
(1) نهاية الإحكام 1: 138؛ و حكاه عنه المحقّق الكركي في جامع المقاصد 1: 299.

(2) في الطبعة الحجرية: «الإتمام».

(3) الذكرى 1: 246.

(4) المعتبر 1: 211.

(5) منهم: المحقّق الكركي في جامع المقاصد 1: 299.

(6) نهاية الإحكام 1: 146؛ و انظر: المبسوط 1: 51 و 58.

(7) قواعد الأحكام 1: 15.

(8) الذكرى 1: 256.

194
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في أحكام الحائض ؛ ج‌1، ص : 182

ليس مذهباً لنا و إن جاز فعله. «1» أشار بذلك إلى أنّه مذهب العامّة.

(و لو ذكرت) المضطربة الوقت دون العدد، فلا يخلو إمّا أن تذكر أوّله أو آخره أو وسطه أو شيئاً منه في الجملة.

فإن ذكرت (أوّل الحيض، أكملته) أقلّه، و هو (ثلاثة؛) لتيقّنه حينئذٍ، و تبقى سبعة بعدها مشكوك فيها بين الحيض و الطهر، فيحتمل أن تجعل طهراً بناءً على أنّ تلك الثلاثة هي وظيفة الشهر و الحيض و المتيقّن، و هو اختيار الشهيد في البيان. «2»

و يقوى رجوعها إلى الروايات السابقة، فلها جَعله عشرة أو سبعة أو ستّة؛ لصدق النسيان الموجب للحكم في حديث السنن، و اختاره الشهيد «3» أيضاً.

و يحتمل أمرها بالاحتياط إلى تمام العشرة بالجمع بين التكاليف، و هو اختيار المصنّف. «4»

(و لو ذكرت آخره، فهو نهايتها) أي: الثلاثة، فتجعلها حيضاً، و الكلام في السبعة السابقة، كما تقدّم.

(و تعمل في باقي الزمان) الزائد على الثلاثة في الصورتين (ما) أي: العمل الذي (تعمله المستحاضة) بناءً على الاحتياط (و تغتسل لانقطاع الحيض في كلّ وقت محتمل) انقطاعه فيه.

و هو في الصورة الأُولى بعد انتهاء الثلاثة، و عند كلّ صلاة و فعلٍ مشروط بالطهارة؛ لأنّه محلّ وجوب الطهارة و إن كانت العبارة أشمل؛ لأنّ كلّ وقت يحتمل الانقطاع و إن لم تحضر غاية مشروطة بالطهارة؛ للإجماع على عدم وجوب غسل الحيض لنفسه، فيجب عليها خمسة أغسال للصلوات الخمس.

قيل: و لا تداخل هنا بين هذه الأغسال و ما يجب للاستحاضة، فيجتمع عليها ثمانية أغسال مع كثرة الدم؛ لأنّ استمرار الحدث يمنع التداخل. «5»

و فيه نظر، فإن قلنا به، تخيّرت بين تقديم أيّهما شاءت، و كذا الوضوء.

______________________________
(1) البيان: 59.

(2) البيان: 60.

(3) الذكرى 1: 255.

(4) تذكرة الفقهاء 1: 319؛ قواعد الأحكام 1: 1514؛ نهاية الإحكام 1: 155.

(5) القائل هو المحقّق الكركي في جامع المقاصد 1: 304.

195
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في أحكام الحائض ؛ ج‌1، ص : 182

و الأصحّ تداخل الأغسال مطلقاً.

و على الأوّل تجب عليها المسارعة بين الصلاتين إلى الغسل الثاني، كما تجب عليها المسارعة إلى الوضوء لو كانت مستحاضةً، فإن أخلّت بها، اغتسلت للاستحاضة أيضاً. و يجب عليها مع ذلك أن تترك تروك الحائض بناءً على القول بالاحتياط، فتجتمع عليها تكاليف الحائض و المستحاضة المنقطعة.

و في الصورة الثانية و هي ما لو علمت آخره إنّما تغتسل لانقطاع الحيض في آخره، لكن تجمع في السبعة السابقة بين تكليفي الحائض و المستحاضة دون المنقطعة؛ لعدم الاحتمال.

و في دخول هذه الصورة في قول المصنّف‌

و تغتسل في كلّ وقت محتمل

نوع من اللطف.

و على القول برجوعها إلى الروايات تضمّ إلى الثلاثة الأخيرة تمام ما اختارته منها متّصلًا بها.

و لو ذكرت وسطه خاصّة بالمعنى المعروف لغةً، و هو ما بين الطرفين، أي: عرفت أثناء الحيض، فإن ذكرت يوماً واحداً، حفّته بيومين حيضاً بيقين، و ضمّت إلى الثلاثة تمام ما تأخذه من الروايات قبل المتيقّن أو بعده أو متفرّقاً.

و إن ذكرت يومين، حفّتهما بيومين آخرين، فيتحقّق لها أربعة حيضاً، و تضمّ إليها تمام الرواية. و على الاحتياط تكمل ما تحقّقته عشرة قبله أو بعده أو بالتفريق.

و لو ذكرت ثلاثة، كذلك تحقّقت خمسة، و أكملتها إحدى الروايات التي فوقها، أو عشرة على الاحتياط.

و لو ذكرت أربعة، تحقّق لها ستّة، و اقتصرت عليها لو أكملتها، و هكذا.

و لو ذكرت الوسط بمعنى المحفوف بمتساويين، فإن كان يوماً، فالحكم فيه ما تقدّم في اليوم غير أنّها لا تختار من الروايات زوجاً ليتحقّق تساوي الحافّ، بل تأخذ إمّا السبعة أو الثلاثة.

و على ما اختاره المصنّف من الاحتياط تضمّ إلى الثلاثة المتيقّنة ثلاثة أُخرى قبلها و ثلاثة بعدها، و تكتفي بالتسعة؛ للعلم بانتفاء العاشر حينئذٍ.

196
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في أحكام الحائض ؛ ج‌1، ص : 182

و إن كان الذي ذكرته وسطاً يومين، جعلت قبلهما يوماً و بعدهما يوماً، و ليس لها أن تختار من الروايات السبعةَ؛ لعدم إمكان كون اليومين وسطاً لها بالمعنى المذكور، بل إمّا الستّة، فتجعل يوماً قبل الأربعة المتيقّنة و يوماً بعدها، أو العشرة، فتجعل قبلها ثلاثة و بعدها ثلاثة، لكن في الشهر الثاني ليس لها الاقتصار على الثلاثة و إن كانت قسيمة العشرة؛ لتيقّنها الزيادة عليها، فتقتصر على الأربعة. و على الاحتياط تعمل كما تقدّم في اختيار العشرة.

و لو علمته ثلاثة، تحقّق لها خمسة، و تختار من الروايات السبعةَ خاصّة. و على الاحتياط تُكملها تسعة تجعل يومين قبلها و يومين بعدها.

و لو علمته أربعة، تحقّق لها ستّة و حفّتها بأربعة إن اختارت رواية العشرة، فيستوي في الشهر الأوّل القول بالرواية و الاحتياط، و في الشهر الثاني كذلك على الاحتياط، و تقتصر على الستّة على الروايات.

و على القول بالاقتصار على الثلاثة في الصورة الأُولى تقتصر في جميع هذه الصور على ما تيقّنته. و لو اختارت هذه رواية الستّة، اقتصرت على ما تيقّنته في الشهرين، و هكذا.

و هذه ثمان صور مكملة لما ذكره المصنّف من الصورتين يتمّ بها مع ما بعدها أقسام المسألة إن شاء اللّه تعالى، و لم أقف فيما قرّرته على كلامٍ للأصحاب غير أنّ الأُصول تقتضيه.

و لو ذكرت وقتاً في الجملة، فهو الحيض المتيقّن، فعلى الروايات تُكمله إحداها إن قصر عنها قبله أو بعده أو بالتفريق، و إن ساوى إحداها أو زاد، اقتصرت عليه حسب ما يتصوّر. و على الاحتياط تُكمله عشرة أو تجعله نهاية عشرة.

و هذا القسم إذا أُخذت فيه الأيّام كاملةً، احتمل تسع صور. و إن لحظ فيه الكسر، لم يتناه، و حكمه أجمع داخل فيما ذكرناه من العبارة.

و اعلم أنّ كلّ عدد متأخّر عمّا تيقّنته في جميع الأقسام تجمع فيه بين أفعال المستحاضة و المنقطعة مع تروك الحائض، و كلّ عدد متقدّم عليه لا يحتاج فيه إلى أفعال المنقطعة، و هو واضح كلّ ذلك على القول بالاحتياط. و أنّ كلّ موضع أُمرت فيه بالعشرة أو برواية‌

197
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في أحكام الحائض ؛ ج‌1، ص : 182

مشروط بعدم علمها بقصور عدد حيضها عنها، فلو علمت شيئاً، عملت به، فلو تيقّنت قصوره عن العشرة، اقتصرت على التسعة، و هكذا.

(و تقضي) ذاكرة الوقت خاصّة على القول بالاحتياط (صوم أحد عشر) يوماً من شهر رمضان، لاحتمال الكسر، و هو طروّ الحيض في أثناء اليوم، فيكمل في أثناء الحادي عشر و يفسد اليومان، إلا أن تعلم عدم الكسر فتقتصر على قضاء عشرة، و عليه يحمل إطلاق الشيخ «1» بقضاء عشرة.

(و لو ذكرت) المضطربة (العدد خاصّة) فإن لم تعرف قدر الدور و ابتداءه، لم تخرج عن التخيير المطلق إلا في نقصان العدد و زيادته عن الروايات، كما لو قالت: كان حيضي سبعة لكن لا أعلم في كَم أضللتها، أو قالت مع ذلك: و دوري ثلاثون لكن لا أعلم ابتداءه، أو قالت: دوري يبتدئ يوم كذا و لا أعرف قدره، ففي هذه الصور ترجع إلى الروايات؛ لاحتمال الحيض و الطهر و الانقطاع في كلّ وقت.

و إن حفظت قدر الدور و ابتداءه مع العدد، كما لو قالت: حيضي سبعة في كلّ شهر هلالي، فقدر العدد من أوّله لا يحتمل الانقطاع لكن يحتمل الحيض و الطهر، و بعده يحتمل الثلاثة إلى آخر الدور إن كان الإضلال فيه أجمع. و إن تيقّنت سلامة بعضه، كالعشرة الأخيرة من الشهر مثلًا، حكمت بكونها طهراً، و جاء في العشرين ما مرّ.

و المختار حينئذٍ عند المصنّف في غير هذا الكتاب «2» و جماعة «3» اختصاص الحيض بالعدد، و لها تخصيصه كما تقدّم في ناسيتهما، و تجعل باقي الدور استحاضةً.

و إن أمرناها بالاحتياط كما اختاره الشيخ «4» (؛ عملت في كلّ وقت) من أوقات الضلال (ما تعمله المستحاضة) و تركت تروك الحائض، و لزمها مع ذلك تكليف المنقطعة (و) هو أن (تغتسل للحيض في كلّ وقت يحتمل الانقطاع) و هو ما زاد من العدد من أوّل الدور؛ لعدم إمكان الانقطاع قبل انقضائه؛ لأنّ غايته الابتداء في أوّل الدور، فينتهي على العدد.

و المراد بالاغتسال في كلّ وقت بعد ذلك الاغتسالُ لكلّ صلاة و عبادة مشروطة به،

______________________________
(1) انظر: المبسوط 1: 59.

(2) قواعد الأحكام 1: 14؛ مختلف الشيعة 1: 207، المسألة 148.

(3) منهم: الشهيد في الدروس 1: 100؛ و المحقّق الكركي في جامع المقاصد 1: 304.

(4) المبسوط 1: 51.

198
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في أحكام الحائض ؛ ج‌1، ص : 182

كما تقدّم.

(و تقضي) هذه (صوم عادتها) خاصّة، و هي العدد الذي حفظته إن علمت عدم الكسر، و إلا لزمها قضاء يوم آخر.

(هذا) و هو لزوم الاحتياط في جميع الوقت و عدم تحقّق الحيض إنّما يتمّ (إن نقص العدد) الذي ذكرته (عن نصف الزمان) الذي أضلّته فيه، كما لو أضلّت سبعة في شهر (أو ساواه) كما لو أضلّت خمسة في العشرة الاولى من الشهر (و لو زاد) العدد عن نصف الزمان (فالزائد و ضعفه حيض) من وسط الزمان (كالخامس و السادس لو كان العدد) الذي أضلّته (ستّة في العشرة) الاولى من الشهر مثلًا؛ لاندراجهما حتماً تحت تقدير تقدّم الحيض و تأخّره و توسّطه، و يبقى لها من العدد أربعة. فعلى القول بالتخيير تضمّها إلى الخامس و السادس متّصلة بهما متقدّمة أو متأخّرة أو بالتفريق. و على الاحتياط تجمع في الأربعة الأُولى بين تكليف المستحاضة و تروك الحائض، و تزيد في الأربعة الأخيرة الاغتسال لكلّ صلاة و عبادة مشروطة بالطهارة.

و لو أضلّت خمسة في التسعة الأُولى، فالخامس خاصّة حيض؛ لأنّ العدد يزيد عن نصف الزمان بنصف يوم، فهو مع ضعفه يوم كامل حيض.

و لو أضلّت سبعة في العشرة، فالمتحقّق حيضاً أربعة، و هو الرابع و السابع و ما بينهما، و هكذا.

و هذه قاعدة كلّيّة ترجع إليها المسائل المعروفة بفروع الامتزاج، فلنذكر منها أمثلةً للتدرّب بها في تحصيل نظائرها؛ إذ لا حصر لها.

فلو ذكرت ذات العشرة مزج أحد نصفي الشهر بالآخر بيوم، فقد أضلّتها في ثمانية عشر، فالزائد من العشرة عن نصفها و هو يوم و ضعفه حيض في وسط وقت الضلال، و هو ما بين السادس و الخامس و العشرين، فالخامس عشر و السادس عشر حيض متيقّن، كما أنّ الستّة الاولى من الشهر و الأخيرة طهر متيقّن، و يتعلّق احتمال الانقطاع بالسادس عشر و الرابع و العشرين. فعلى الاحتياط تغتسل عليهما للحيض، و تجمع في الثمانية السابقة على اليومين و اللاحقة لهما بين أفعال المستحاضة و تروك الحائض. و على الاختيار تضمّ أيّ الثمانيتين شاءت إلى اليومين.

199
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في أحكام الحائض ؛ ج‌1، ص : 182

و لو علمت امتزاجهما بيومين، فالرابع عشر و السابع عشر و ما بينهما حيض متيقّن، لإضلال العشرة في ستّة عشر، و هي ما بين السابع و الرابع و العشرين، و السبعة الاولى و الأخيرة طهر متيقّن، و الباقي مشكوك و احتمال الانقطاع يتعلّق بالسابع عشر و الثالث و العشرين، و قِس عليهما مزج ما زاد.

و لو علمت أنّ الثاني عشر حيض، فلا يقين بغيره؛ لإضلالها العشرة في تسعة عشر، و هي ما بين الثاني و الثاني و العشرين، فالزائد عن نصفها و هو نصف يوم و ضعفه حيض، فهو الثاني عشر، و احتمال الانقطاع يتعلّق بآخره إلى آخر وقت الضلال، و الأوّلان و التسعة الأخيرة طهر متيقّن، و الباقي محلّ الاحتياط.

و لو علمت مزج إحدى العشرات بيوم، فلا يقين لها بالحيض؛ لزيادة نصف الزمان على العدد، لكن يتحقّق طهر الأوّل و الأخير، و يتعلّق احتمال الانقطاع بالحادي عشر و التاسع عشر و الحادي و العشرين و التاسع و العشرين.

و لو كان المزج بيومين، فمثلهما طهر من أوّله و آخره، و الباقي مشكوك فيه، و احتمال الانقطاع تألى الحادي عشر و الحادي و العشرين و متلوّ الآخرين. و قِس عليهما مزج ما زاد.

و لو مزجت ذات الخمسة إحدى العشرات بيوم، فالستّة الأُولى و الأخيرة و الخامس عشر و السادس عشر طهر متيقّن، و لا يقين بالحيض أيضاً، و يتعلّق احتمال الانقطاع بالحادي عشر و الرابع عشر و الحادي و العشرين و الرابع و العشرين، و الباقي مشكوك فيه بين الطهر و الحيض.

و من فروع القاعدة: ما لو علمت ذات الثمانية أنّ لها في كلّ شهر حيضتين، و ملاحظة أقلّ الطهر بينهما توجب انحصار الثمانية الاولى في الاثني عشر الاولى، و الأخيرة في الأخيرة، و هي تزيد على نصفها بيومين، فالأربعة الوسطى من كلّ واحدة حيض بيقين، و الطرفان مشكوك فيهما، و ما بينهما من الشهر و هو الستّة التي أوّلها الثالث عشر و آخرها الثامن عشر طهر بيقين؛ لأنّه لا يمكن تأخّر الحيض الأوّل عن أوّل الخامس، و لا تأخّر الثاني عن الثالث و العشرين، و المتيقّن من الاولى من أوّل الخامس إلى آخر الثامن، و في الثانية من الثالث و العشرين إلى السادس و العشرين، فالمتيقّن ثمانية، و الضالّ ثمانية تضعها حيث شاءت ممّا لا يدخل في الطهر المتيقّن، و هو الأربعة الأُولى و الأخيرة و من التاسع إلى‌

200
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في أحكام الحائض ؛ ج‌1، ص : 182

آخر الثاني عشر و من التاسع عشر إلى آخر الثاني و العشرين.

و رتّب على هذه الفروع ما يرد عليك من نظائرها.

(و كلّ دم يمكن أن يكون حيضاً فهو حيض) سواء كان بصفة دم الحيض أم لا، كما صرّح به المصنّفُ في غير هذا الكتاب، «1» و غيرُه. «2»

و قد تقدّم أنّ الصفرة و الكدرة في أيّام إمكان الحيض حيض، فلو رأت ثلاثة إلى العشرة ثمّ انقطع عشرة ثمّ رأت ثلاثة، فهُما حيضان.

و الإمكان إمّا باعتبار المرأة، كالبلوغ و عدم اليأس، أو المدّة، كعدم نقصه عن ثلاثة و عدم زيادته على عشرة، أو المحلّ، كخروجه من الجانب الأيسر مع اعتباره مطلقاً أو عند الاشتباه بالقرحة، أو دوام الوقت، كتوالي الثلاثة، أو الحال، كعدم الحمل إن لم نقل بحيض الحامل، أو تأخّر الولادة عنه عشرة فصاعداً إن قلنا به؛ لاستحالة قصور الطهر عن أقلّه.

و النفاس كالحيض هنا، و كذا ما يتعقّب النفاس من الدم يعتبر في الحكم بكونه حيضاً مضيّ أقلّ الطهر، و قد نبّه عليهما المصنّف في النهاية، «3» أو أوصاف الدم كالحمرة مع السواد حيث يتحقّق التمييز.

و إنّما يعتبر الإمكان بعد استقرار الحال فيما يتوقّف عليه، فلا يرد النقض بيومي الاستظهار مع عبور الدم العشرة، فإنّهما و إن أمكن كونهما حيضاً قبل التجاوز لكنّ الحكم فيهما موقوف على اعتبار التجاوز و عدمه. و كذا القول في أوّل رؤية الدم مع انقطاعه دون الثلاثة و نحوه.

و لا يخفى افتقار العبارة في تأدية ذلك إلى فضل تكلّف.

(و لو رأت) المرأة الدم (ثلاثة) أيّام (و انقطع ثمّ رأت) اليوم (العاشر خاصّة) بأن انقطع عليه و إن تجدّد بعد ذلك (فالعشرة حيض) سواء في ذلك المعتادةُ و غيرها.

و كذا الحكم لو انقطع على ما دون العشرة بطريق أولى.

______________________________
(1) تحرير الأحكام 1: 13؛ تذكرة الفقهاء 1: 257، الفرع الثاني؛ قواعد الأحكام 1: 14؛ منتهى المطلب 2: 287، نهاية الإحكام 1: 118.

(2) كالمحقّق الحلّي في المعتبر 1: 203.

(3) نهاية الإحكام 1: 117.

201
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

يجب على الحائض أمور ؛ ج‌1، ص : 202

و الضابط: أنّ كلّ دمين فصاعداً في العشرة تخلّلهما نقاء أو أكثر و حكم على الأوّل بكونه حيضاً فإنّ الجميع حيض.

و إن عبر الثاني العشرةَ، فالحيضُ الأوّلُ خاصّة إن لم تكن ذات عادة أو كانت و لم يصادف الدم الثاني جزءاً منها، و لو صادف، فجميع العادة حيض.

أمّا زمان الدمين: فظاهر.

و أمّا النقاء: فلكونه محفوفاً بدمي الحيض.

و لو تعدّد النقاء مع تجاوز أحد الدماء، فما في العشرة «1» من الدماء المنقطعة و النقاء حيض.

[يجب على الحائض أمور]

(و يجب عليها الاستبراء) و هو طلب براءة الرحم من الدم (عند الانقطاع لدون العشرة) بأن تضع قطنةً و تصبر عليها ثمّ تنظر (فإن خرجت القطنة نقيّةً، فطاهر) تجري عليها الأحكام.

و في رواية شرحبيل عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: قلت: كيف تعرف الطامث طهرها؟ قال‌

تعمد برِجْلها اليسرى على الحائط و تستدخل الكرسف بيدها اليمنى فإن كان مثل رأس الذباب خرج على الكرسف. «2»

و كلام المصنّف خالٍ عن الكيفيّة.

و يدلّ على إطلاقه رواية محمد بن مسلم عن الباقر عليه السّلام، قال‌

إذا أرادت الحائض أن تغتسل فلتستدخل قطنةً فإن خرج عليها شي‌ء من الدم فلا تغتسل، و إن لم تر شيئاً فلتغتسل. «3»

و لا استظهار حينئذٍ، خلافاً لظاهر المختلف. «4»

(و إلا) أي: و إن لم تخرج القطنة نقيّةً من الدم بأيّ لون اتّفق (صبرت المعتادة) عدداً و وقتاً أو عدداً خاصّة بعد عادتها (يومين) و هُما المعبّر عنهما بيومَي الاستظهار، و هو طلب ظهور الحال في كون الدم حيضاً أو طهراً.

______________________________
(1) في «م»: «العادة» بدل «العشرة».

(2) الكافي 3: 80/ 3؛ التهذيب 1: 161/ 461.

(3) الكافي 3: 80/ 2؛ التهذيب 1: 161/ 460.

(4) مختلف الشيعة 1: 199، المسألة 144.

202
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

يجب على الحائض أمور ؛ ج‌1، ص : 202

و لها الاقتصار على يوم؛ لوجوده مع اليومين في خبر «1» محمد بن مسلم و غيره، «2» و في بعضها‌

«أو ثلاثة. «3»

و في خبر يونس بن يعقوب عن الصادق عليه السّلام‌

تنتظر عادتها «4» ثمّ تستظهر بعشرة أيّام «5»

و المراد إلى تمام العشرة، و اختاره المرتضى «6» و ابن الجنيد، «7» و قوّاه في الذكرى «8» مطلقاً.

و في البيان مقيّداً بظنّها بقاء الحيض، «9» و كأنّه يريد به ظنّ الانقطاع على العشرة، و إلا فمع التجاوز ترجع ذات العادة إليها و إن ظنّت غيرها. و دلالة الأخبار على التخيير بين الجميع ظاهرة.

و الاستظهار المذكور على سبيل الاستحباب عند الأكثر؛ لقوله عليه السّلام‌

تحيّضي أيّام أقرائك «10»

و مفهومه الصلاة بعدها و أوضح منه دلالةً: خبر ابن أبي يعفور عن الصادق عليه السّلام‌

المستحاضة إذا مضى أيّام أقرائها اغتسلت «11»

و غيرهما من الأخبار الدالّة على الإذن في العبادة بعد العادة.

و لا فرق في الاستظهار و الرجوع إلى العادة بين تقدّمها و تأخّرها أو أن ترى قبلها و بعدها و فيها.

و التقييد بالمعتادة يقتضي عدم استظهار المبتدئة و المضطربة إذا لم ينقطع دمهما على العدد الذي تحيّضتا به.

و صرّح الشهيد في الدروس باستظهارهما، «12» و في الذكرى باستظهار المبتدئة بيوم «13»؛

______________________________
(1) أورده المحقّق الحلّي في المعتبر 1: 215 نقلًا عن كتاب المشيخة للحسن بن محبوب.

(2) التهذيب 1: 171/ 488؛ الاستبصار 1: 149/ 512.

(3) التهذيب 1: 172171/ 489 و 490؛ الاستبصار 1: 149/ 513 و 514.

(4) في المصدر: «عدّتها».

(5) التهذيب 1: 402/ 1259؛ الاستبصار 1: 149/ 516.

(6) حكاه عنه المحقّق الحلّي في المعتبر 1: 214.

(7) حكاه عنه العلامة الحلّي في مختلف الشيعة 1: 202، المسألة 145.

(8) الذكرى 1: 238.

(9) البيان: 58.

(10) أورده المحقّق الحلّي في المعتبر 1: 212.

(11) التهذيب 1: 402/ 1258.

(12) الدروس 1: 98.

(13) الذكرى 1: 239.

203
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

يجب على الحائض أمور ؛ ج‌1، ص : 202

لرواية محمد بن مسلم عن الباقر. «1» عليه السّلام (ثمّ) بعد الاستظهار المذكور (تغتسل و تصوم) و تتعبّد (فإن انقطع) الدم (على العاشر) تبيّن أنّ الجميع حيض، و أنّ ما عملته في أيّام الاستظهار موافق للواقع، و ما فَعَلَته بعد الاستظهار باطل؛ لوقوعه في الحيض، لكن لا حرج عليها فيما فَعَلَته من صلاةٍ و صومٍ و وقاعٍ؛ للإذن فيه ظاهراً.

و (قضت ما صامت) من العشرة بعد الاستظهار (و إلا) أي: و إن لم ينقطع على العاشر (فلا) قضاء لما صامت؛ لتبيّن وقوعه في الطهر. و لا ريب في قضاء صوم أيّام الاستظهار؛ لوجوبه على تقديري الحيض و الطهر، و كذا صلاته على المشهور؛ لظهور طهر ما زاد على العادة، و جواز تركها ارتفاقاً من الشارع بحالها لاحتمال الحيض لا يمنع من وجوب القضاء إذا تبيّن فساد الاحتمال بعبور العشرة، و لعموم‌

مَنْ فاته صلاة. «2»

و نقل عن المصنّف أنّه أفتى في المنتهي «3» بعدم الوجوب و جَعَله احتمالًا في النهاية «4» لأنّها مأمورة بالترك إمّا وجوباً أو استحباباً، فلا يتعقّب القضاء.

و قد عرفت جوابه، و لأنّ وجوب القضاء لا يتبع وجوب الأداء، و إنّما يجب بأمرٍ جديد و هو موجود هنا.

هذا حكم المعتادة (و) أمّا (المبتدئة): فإنّها (تصبر حتى تنقى أو تمضي العشرة) فإذا مضت و لم ينقطع، رجعت حينئذٍ إلى التمييز ثمّ إلى ما بعده، فتقضي العبادة على وفق ما قُرّر لها.

هذا في الشهر الأوّل، و في الثاني إن وجدت تمييزاً، عملت به و إن كانت في الأوّل قد أخذت بما بعده؛ لعدمه.

فلو رأت في الأوّل أحمر و عبر العشرة فرجعت إلى نسائها و أخذت السبعة مثلًا و في الشهر الثاني رأت خمسةً سواداً ثمّ أحمر و عبر العشرة، أخذت الخمسة؛ عملًا بالتمييز. و إن فقدته، اغتسلت و تعبّدت بعد تمام العدد المأخوذ المستفاد من عادة نساءٍ أو رواية. ثمّ إن‌

______________________________
(1) التهذيب 1: 401/ 1252؛ الإستبصار 1: 138/ 472.

(2) أورده المحقّق الحلّي في المعتبر 2: 406.

(3) لم نعثر على الحاكي عنه؛ و في منتهى المطلب 2: 321 استوجه القضاء.

(4) نهاية الإحكام 1: 123، و استشكل فيها في وجوب القضاء.

204
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

يجب على الحائض أمور ؛ ج‌1، ص : 202

عبر العشرة، ظهر صحّة عملها و قعودها، و إن انقطع عليها، تبيّن أنّ الجميع حيض، فتقضي ما صامت كالمعتادة، و ظهر بطلان الغسل، و لا إثم في الصلاة و الصوم و الوقاع بعد الغسل كما مرّ، و كذا القول فيما بعده من الأدوار.

و أمّا المضطربة: فتغتسل بعد ما تأخذه من الروايات مع عدم التمييز، و يجي‌ء عند انقطاعه على العشرة ما ذُكر. و قد تقدّم «1» اختيار الشهيد رحمه اللّه استظهارهما كالمعتادة بعد العدد المأخوذ.

(و لو «2» رأت) ذات العادة الدم في (العادة و) في (الطرفين) قبلها و بعدها (أو) رأته في العادة و في (أحدهما و لم يتجاوز) الجميع عشرة أيّام (فالجميع) و هو العادة و ما قبلها و مابعدها (حيض) لإمكانه، و لأنّ كلّ دم ينقطع على العشرة فما دون لا يفرق فيه بين المعتادة و غيرها في الحكم بكونه حيضاً (و إلا) أي: و إن تجاوز العشرة (فالعادة) حيض دون الطرفين؛ لما تقدّم من أنّ الدم متى تجاوز العشرة رجعت ذات العادة إليها.

و لا فرق في اختصاص العادة بالحيض بين إمكان ضميمة الطرف الأوّل إليها و عدمه؛ لما تقدّم، و لاستواء نسبة الطرفين إلى العادة، فضمّ الأوّل إليها خاصّةً ترجيح من غير مرجّح.

و لا يقال: إنّ المرجّح هو قولهم: كلّ دم يمكن أن يكون حيضاً فهو حيض، و ضميمة الأوّل إذا لم يستلزم عبور العشرة منه؛ لأنّ ذلك مقيّد بعدم عبوره العشرة، و إلا لوجب الحكم بالعشرة مع العبور مطلقاً؛ للإمكان بهذا المعنى.

و اعلم أنّه مع رؤية المعتادة الدم قبل العادة كما هو المفروض هنا هل تترك العبادة بمجرّد رؤيته، أم يجب الصبر إلى مضيّ ثلاثة أو وصول العادة؟ يبنى على إيجاب الاحتياط بالثلاثة على المبتدئة و المضطربة، و عدمه، فإن لم نوجبه عليهما كما هو اختيار المصنّف في المختلف «3» لم يجب عليها بطريق أولى، و إن أوجبناه كما اختاره المرتضى «4» و ابن الجنيد «5»

______________________________
(1) في ص 203.

(2) في إرشاد الأذهان: «و قد تتقدّم العادة و تتأخّر، فلو».

(3) مختلف الشيعة 1: 198197، المسألة 143.

(4) حكاه عنه المحقّق الحلّي في المعتبر 1: 213.

(5) كما في الذكرى 1: 236.

205
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

يجب على الحائض أمور ؛ ج‌1، ص : 202

و المحقّق في المعتبر «1» احتمل إلحاقها بهما؛ لأنّ تقدّمه على العادة الملحقة بالأُمور الجبليّة يوجب الشكّ في كونه حيضاً، فتكون فيما سبق على أيّام العادة كمعتادة العدد مضطربةَ الوقت.

و لظاهر قول الصادق عليه السّلام‌

«إذا رأت الدم أيّام حيضها تركت الصلاة «2»

إذ الظاهر أنّ المراد بأيّام حيضها العادة.

و مثله قوله عليه السّلام‌

«المرأة ترى الصفرة أيّام حيضها فلا تصلّي. «3»

و يحتمل قويّاً عدمه؛ لصدق الاعتياد عليها، و لأنّ العادة تتقدّم و تتأخّر.

و لعموم رواية منصور بن حازم عنه عليه السّلام‌

«أيّ ساعة رأت الصائمة الدم تفطر «4»

و مثله خبر محمد بن مسلم عن الباقر عليه السّلام‌

«تفطر إنّما فطرها من الدم. «5»

و هذان الحديثان كما يشملانها يشملان المبتدئة و المضطربة، و الخبران الأوّلان لا ينافيانهما؛ لما تقدّم من اختيار أنّ المراد بأيّام الحيض أيّام إمكانه.

و أجاب في المعتبر بأنّ الحكم بالإفطار عند الدم مطلقاً غير مراد، فيصرف إلى المعهود، و هو دم الحيض، و لا يحكم بكونه حيضاً إلا إذا كان في العادة، فيحمل على ذلك. «6»

و فيه منع؛ لأنّ اللام مع عدم سبق عهدٍ لها تُحمل على الجنسيّة أو الاستغراق، و كلاهما محصّل للمدّعى. و لو فرض خروج بعض الأفراد بنصٍ خاصّ، بقي الاستغراق حجّةً على الباقي. و لو سلّم حملها على العهد، لم يضرّنا؛ لأنّ المراد به ما يمكن كونه حيضاً، لا ما تحقّق كونه حيضاً؛ للقطع بأنّ تحقّق الحيض لا يتّفق في أوّل رؤية الدم كما هو المفروض في الرواية و إن كان في أيّام العادة؛ لإمكان انقطاعه قبل الثلاثة، و إمكان الحيض مشترك بين المعتادة و غيرها.

و اختار الشهيد في البيان عدم وجوب الاحتياط على المضطربة إذا ظنّت الدم حيضاً،

______________________________
(1) المعتبر 1: 213.

(2) الكافي 3: 76/ 5؛ التهذيب 1: 158157/ 452.

(3) الكافي 3: 78/ 1؛ التهذيب 1: 396/ 1230.

(4) التهذيب 1: 394/ 1218؛ الاستبصار 1: 146/ 499.

(5) التهذيب 1: 153/ 435.

(6) المعتبر 1: 214.

206
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

و يحرم على الحائض أمور ؛ ج‌1، ص : 207

و حمل عليه رواية إسحاق بن عمّار «1» عن الصادق عليه السّلام في المرأة ترى الصفرة‌

«إن كان قبل الحيض بيومين فهو من الحيض. «2» «3»

و هو عجيب؛ فإنّ المضطربة ليس لها أيّام للحيض حتى يسبقها الدم المذكور بيومين، بل هو دالّ على ما قدّمناه من رؤية المعتادة الدم قبل عادتها إلا أنّه لا يدلّ على حكم ما زاد على اليومين.

و يمكن أن يقال: جواز ترك العبادة قبل العادة بيومين يستلزم جوازه مطلقاً؛ لانحصار الخلاف في المنع مطلقاً، فالتقييد باليومين إحداث قولٍ ثالث.

(و يجب) عليها (الغسل عند الانقطاع) وجوباً مشروطاً بوجوب ما لا يتمّ إلا به، كالصلاة و الطواف؛ للإجماع على وجوب هذا الغسل لغيره.

و إنّما علّق الوجوب على الانقطاع؛ لأنّه وقت تمام السبب، فأطلق الوجوب عند حصوله و إن كان وجوب المسبّب معلّقاً على الشرط، كما تقول: يجب على الحائض القضاء و إن كان لا يتحقّق إلا مع الطهر.

و كيفيّته (كغسل الجنابة) ترتيباً و ارتماساً، فتلحقه أحكامهما، لكن لا بدّ معه من الوضوء سابقاً على الغسل أو لاحقاً له، و الأوّل أفضل. و تتخيّر بين الرفع و الاستباحة فيهما في الحالين.

[و يحرم على الحائض أمور]

(و يحرم عليها) في زمان رؤية الدم فعل (كلّ مشروط بالطهارة، كالصلاة) الواجبة و المندوبة (و الطواف) الواجب دون المندوب، خلافاً للمصنّف في النهاية، «4» كما تقدّم.

(و) كذا يحرم عليها (مسّ كتابة القرآن) لقوله تعالى لٰا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ «5» و هو خبر معناه النهي.

و في معناه اسم اللّه تعالى و أسماء الأنبياء و الأئمّة عليهم السّلام و فاطمة عليها السّلام، كما تقدّم.

(و لا يصحّ منها الصوم) في زمان رؤية الدم أيضاً؛ لقوله عليه السلام صلّى اللّه عليه و آله‌

«إذا حاضت المرأة

______________________________
(1) في المصدر: إسحاق بن عمّار عن أبي بصير.

(2) الكافي 3: 78/ 2، التهذيب 1: 396/ 1231.

(3) البيان: 64.

(4) نهاية الإحكام 1: 118 و 120.

(5) الواقعة (56): 79.

207
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

و يحرم على الحائض أمور ؛ ج‌1، ص : 207

لم تصلّ و لم تصم. «1»

و إنّما غيّر الأُسلوب في الصوم من التحريم إلى عدم الصحّة؛ لينبّه على اختلاف حكم الثلاثة المتقدّمة و حكم الصوم؛ فإنّ مشروطيّتها بالطهارة أقوى منه؛ للإجماع على عدم صحّتها بعد النقاء قبل الغسل، و الخلاف فيه. و كذا القول في تحريم طلاقها.

(و) كذا (لا يصحّ طلاقها) في زمان رؤية الدم (مع الدخول) بها (و حضور الزوج) عندها (أو حكمه) أي: حكم الحضور، و هو قربه منها بحيث يمكنه استعلام حالها أو غيبته عنها من دون أن يعلم انتقالها من الطهر الذي فارقها فيه إلى غيره بحسب عادتها الغالبة، فغير المدخول بها يصحّ طلاقها في حال الحيض، و كذا مَنْ غاب عنها زوجها مع العلم المذكور، أو كان في حكم الغائب، و هو القريب منها مع عدم إمكان استعلام حالها له، كالمحبوس.

و لا تقدير للغيبة المجوّزة للطلاق شرعاً، فيرجع فيها إلى العرف؛ لأنّه المرجع عند تعذّر الحقيقة الشرعيّة. و تقريبه: كلّ مَن ليس من شأنه الاطّلاع على أحوالها عادةً؛ لبُعد المنزل أو حكمه.

و ينبغي مراعاة الاحتياط في مواضع الاشتباه؛ حفظاً لحرمة الفروج و الأنساب.

و يشترط أيضاً في عدم صحّة طلاقها انتفاء حملها، فلو كانت حاملًا، صحّ طلاقها و إن كانت حائضاً بناءً على إمكان اجتماعهما، و سيأتي في باب الطلاق وجه ذلك كلّه.

(و يحرم) عليها (اللبث) بفتح اللام و سكون الباء (في المساجد) و هو المكث مُثلّث الميم.

و هذا في غير المسجدين الحرمين، و فيهما يحرم الدخول مطلقاً، رواه محمد بن مسلم عن الباقر. «2» عليه السّلام و الذي دلّت عليه الأخبار كخبر محمد بن مسلم «3» و ظاهر الآية «4» الإذن في الاجتياز و عبور السبيل، و هُما يقتضيان المرور من أحد بابي المسجد إلى الآخر.

و يلحق باللبث التردّدُ في جوانب المسجد؛ لأنّ التردّد في غير جهة الخروج كاللبث،

______________________________
(1) أورده العمة الحلّي في نهاية الإحكام 1: 119.

(2) التهذيب 1: 371/ 1132.

(3) التهذيب 1: 371/ 1132.

(4) النساء (4): 43.

208
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

و يحرم على الحائض أمور ؛ ج‌1، ص : 207

كما نبّه عليه المصنّف في النهاية. «1»

و لا فرق في الجواز بين أن يكون لها سبيل إلى المقصد غير المسجد أو لا يكون؛ للعموم، كما في الجنب؛ لاشتراكهما في الحدث و دليل المنع و الإباحة.

و يحرم عليها وضع شي‌ء في المساجد أيضاً كالجنب، رواه زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام، قال: سألته كيف صارت الحائض تأخذ ما في المسجد و لا تضع فيه؟ قال‌

«لأنّ الحائض تستطيع أن تضع ما في يدها في غيره و لا تستطيع أن تأخذ ما فيه إلا منه. «2»

و عدّ سلار اللبثَ في المساجد للجنب و الحائض و وضع شي‌ء فيها ممّا يستحبّ تركه، «3» و لم يفرّق بين المسجدين و غيرهما.

و يدفعه النصّ و الإجماع.

(و) كذا يحرم عليها (قراءة العزائم) الأربع و أبعاضها؛ للنصّ و الإجماع.

و لو فرض منها تلاوة إحداها، وجب عليها السجود و إن أثمت، كما أشار إليه بقوله (و تسجد) و هو خبر معناه الأمر بالسجود (لو تلت) إحدى السجدات (أو استمعت) لمن يقرؤها. و لا تحريم فيه. و المراد بالاستماع الإصغاء. و كذا تسجد لو سمعت السجدة من غير قصدٍ؛ لاشتراك الجميع في المقتضي، و عدم صلاحيّة الحيض للمانعيّة.

أمّا الأوّل: فلما روي في الصحيح عن الباقر عليه السّلام حيث سُئل عن الطامث تسمع السجدة، قال‌

«إن كانت من العزائم فلتسجد إذا سمعتها. «4»

و لما رواه أبو بصير عن الصادق عليه السّلام قال‌

«إذا قرئ شي‌ء من العزائم الأربع و سمعتها فاسجد و إن كنت على غير وضوء و إن كنت جنباً و إن كانت المرأة لا تصلّي. «5»

و أمّا الثاني: فلأنّ احتمال المنع إنّما نشأ من كون السجود جزءاً من الصلاة المشترطة بالطهارة، كما هو حجّة الشيخ على عدم السجود «6».؛ و هو ممنوع؛ لأنّ المساواة في الهيئة‌

______________________________
(1) نهاية الإحكام 1: 103.

(2) الكافي 3: 107106/ 1؛ التهذيب 1: 397/ 1233.

(3) المراسم: 42.

(4) الكافي 3: 106/ 3؛ التهذيب 1: 129/ 353؛ الإستبصار 1: 115/ 385.

(5) الكافي 3: 318/ 2؛ التهذيب 2: 291/ 1171.

(6) النهاية: 25.

209
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

و يحرم على الحائض أمور ؛ ج‌1، ص : 207

لا تقتضي المشاركة في الشرائط. و لأنّ اشتراط المجموع بشي‌ء لا يقتضي اشتراط الأجزاء بذلك.

و ما ورد من قوله عليه السّلام في خبر عبد الرحمن في الحائض‌

تقرأ و لا تسجد «1»

محمول على السجدات المستحبّة؛ بدليل قوله عليه السّلام: «تقرأ» فلا يصلح حجّةً للشيخ.

و إنّما ترك مسألة السماع؛ لأنّ بحثه عن الوجوب؛ لدلالة ظاهر الأمر عليه، و السماع لا يوجب السجود عنده. و لأنّ القصد التنبيه على خلاف الشيخ رحمه اللّه.

و قال الشهيد رحمه اللّه في بعض تحقيقاته: إنّ المصنّف إنّما ترك السماع؛ لأنّه مدلول عليه بالالتزام.

و في تحقيق اللزوم نظر.

و اعلم أنّ هذه الأُمور المحرّمة عليها ليست غاية زوال التحريم فيها واحدةً، بل منه ما غايته الطهارة، كالصلاة و الطواف و مسّ كتابة القرآن و دخول المساجد و قراءة العزائم، و منه ما غايته انقطاع الدم، كالطلاق؛ فإنّ تحريمه مرتفع «2» بالنقاء و إن لم تغتسل، و منه ما اختلف في إلحاقه بأحد القسمين، و هو الصوم، فالمشهور إلحاقه بالصلاة، فلا يصحّ الصوم بدون الغسل و إن لم يتوقّف على الوضوء.

و اختار المصنّف في النهاية تبعاً لابن أبي عقيل «3» انتهاء غاية التحريم فيه إلى النقاء و إن لم تغتسل، «4» و لم يذكر في النهاية عليه دليلًا، لكنّه مذهب العامّة، و هو باصولهم أشبه؛ لعدم اشتراط الطهارة في الصوم عندهم؛ لصحّته من الجنب، و الترجيح مع المشهور بأُمور:

أحدها: أنّ الحيض مانع من الصوم في الجملة، فيستصحب حكم المنع إلى أن يحصل المنافي له شرعاً باليقين، و هو غير حاصل قبل الغسل؛ لعدم الدليل الصالح على ذلك.

و لا يعارض بأنّ عموم الأوامر بالصوم يدخل المتنازع، و لا يخصّ إلا بدليل، و ليس المتنازع كذلك؛ لأنّ الحائض قد خرجت من عموم الأوامر بحصول الدم المحكوم بكونه حيضاً، فلا تعود حتى يتحقّق ارتفاع المانع، و هو إنّما يتمّ بالغسل.

______________________________
(1) التهذيب 2: 292/ 1172؛ الاستبصار 1: 320/ 1193، و فيه: «لا تقرأ ..».

(2) في «م»: «يرتفع».

(3) انظر: مختلف الشيعة 3: 278 279، المسألة 29.

(4) نهاية الإحكام 1: 119.

210
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

و يحرم على الحائض أمور ؛ ج‌1، ص : 207

و ثانيها: أنّ الصوم من الحائض غير صحيح قطعاً و الوصف ثابت بعد النقاء بل و بعد الغسل؛ لما تقرّر في الأُصول من أنّه لا يشترط لصدق الاشتقاق بقاء المعنى المشتقّ منه، لكن خرج من ذلك ما أخرجه الدليل، و هو ما بعد الغسل، فيبقى الباقي على أصله.

و ثالثها: أنّ المستحاضة الكثيرة الدم لا يصحّ صومها بدون الغسل إجماعاً مع أنّها أخفّ حدثاً من الحائض قطعاً، فعدم صحّة صوم الحائض قبله أولى.

و ليس هذا من باب القياس الممنوع، بل من باب مفهوم الموافقة.

و كذا القول في النفساء بعد النقاء بتقريب الدليل.

(و يحرم على زوجها وطؤها) قُبُلًا في زمان الدم بإجماع المسلمين حتى أنّ مستحلّه كافر مرتدّ؛ لإنكاره ما عُلم من الدين ضرورةً، فتجري عليه أحكامه ما لم يدّع شبهةً ممكنة في حقّه، كقُرب عهده من الإسلام، و نشوئه في بادية بعيدة عن العلم بمعالم الدين.

و لو كان غير مستحل، فإن كان عالماً بالحيض و التحريم، فَعَل محرّماً (فيعزّر) كما في كلّ فاعلِ محرّمٍ عالم به بما يراه الحاكم.

و نقل عن أبي علي ابن الشيخ أبي جعفر تقديره بثُمن حدّ الزاني. «1» و لا نعلم المأخذ، فالمرجع فيه إلى رأي الحاكم كما في غيره من التعزيرات غير المنصوصة.

و لو جهل الحيض أو التحريم أو نسيهما، فلا شي‌ء عليه؛ لرفع حكم الخطأ و النسيان.

و يجب القبول من المرأة لو أخبرت بالحيض إن لم تتّهم بتضييع حقّه؛ لقوله تعالى وَ لٰا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ «2» الآية، و لو لا وجوب القبول لما ظهر لتحريم الكتمان فائدة.

و لو اشتبه الحال، فإن كان لتحيّرها، فقد تقدّم حكمه. و إن كان لغلبة ظنّه بكذبها، فقد أوجب المصنّف في النهاية و المنتهى، و الشهيد في الذكرى الامتناع. «3» و فيه نظر.

و لو اتّفق الحيض في أثناء الوطي، وجب التخلّص منه في الحال، فإن استدام فكالمبتدي.

و لا فرق في ذلك بين الرجل و المرأة، فيجب عليها الامتناع بحسب الإمكان، فتعزّر أيضاً مع المطاوعة لكن لا كفّارة عليها إجماعاً. و لأصالة البراءة، و عصمة المال.

______________________________
(1) كما في جامع المقاصد 1: 320.

(2) البقرة (2): 228.

(3) نهاية الإحكام 1: 122؛ منتهى المطلب 2: 393، الفرع الثاني عشر؛ الذكرى 1: 278.

211
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

و يحرم على الحائض أمور ؛ ج‌1، ص : 207

(و) هل يجب عليه مع ذلك كفّارة؟ قيل: لا، بل (تُستحبّ الكفّارة) كما اختاره المصنّف و الشيخ في النهاية، «1» و جماعة «2» من المتأخّرين.

و المشهور خصوصاً بين المتقدّمين كالمفيد و المرتضى و ابن بابويه «3» و غيرهم «4» الوجوب حتى ادّعى الشيخ فيه الإجماع. «5»

و منشأ القولين من اختلاف الروايات.

فالأوّل استند مع أصالة البراءة إلى ما رواه الشيخ في الصحيح عن عيص بن القاسم، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن رجل واقع امرأته و هي طامث، قال‌

لا يلتمس فعل ذلك، قد نهى اللّه أن يقربها

قلت: فإن فعل عليه كفّارة؟ قال‌

لا أعلم فيه شيئاً يستغفر اللّه تعالى «6»

و هذا الخبر دالّ على عدم الكفّارة بأبلغ وجه؛ لأنّ ما لا يعلم الإمام وجوبه لا يكون واجباً، و إلا لعلمه؛ لامتناع أن يخفى عليه شي‌ء من الأحكام و الحال أنّه حافظ للشرع، و إلى غيره من الأخبار الدالّة على عدم الكفّارة صريحاً مع صحّة سندها.

و استند الثاني إلى روايات ضعيفة الإسناد، مختلفة التقدير، موجبة على تقدير دلالتها على الوجوب لتأخّر البيان عن وقت الحاجة، فحملها على الاستحباب أوجَه، فإنّ اختلاف التقادير في المستحبّ واقع، ك‍ «تصدّقوا بتمرة» و «بشقّ تمرة» و «بصاع» و «بنصف صاع» و لا ريب أنّ الاحتياط طريق اليقين ببراءة الذمّة.

و على تقديري الوجوب و الاستحباب فالكفّارة في الوطي (في أوّله) و هو ثلثه الأوّل على المختار، كالأوّل لذات الثلاثة (بدينار) أي: مثقال ذهباً خالصاً مضروباً كانت قيمته في زمانهُ عشرة دراهم، فلا تجزئ القيمة و لا التبر؛ لعدم تناول النصّ لهما، كباقي الكفّارات.

و لو طرأ نقصان قيمته أو زيادتها على ما كان في عهده صلّى اللّه عليه و آله كهذا الزمان، احتمل بقاء حكم القيمة و اعتبار الدينار بالغاً ما بلغ.

______________________________
(1) النهاية: 26.

(2) منهم: المحقّق الحلّي في المعتبر 1: 229 و 231؛ و المحقّق الكركي في جامع المقاصد 1: 321.

(3) المقنعة: 55؛ الانتصار: 126، المسألة 26؛ الفقيه 1: 53.

(4) كالقاضي ابن البرّاج في المهذّب 1: 35؛ و ابن إدريس في السرائر 1: 144؛ و ابن حمزة في الوسيلة: 58.

(5) الخلاف 1: 226، المسألة 194.

(6) التهذيب 1: 164/ 472؛ الإستبصار 1: 134/ 460.

212
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

و يحرم على الحائض أمور ؛ ج‌1، ص : 207

و في الذكرى نسب تقديره بعشرة دراهم إلى الشيخين، «1» و هو يشعر بتوقّفه فيه و أن يراد به المثقال.

(و) مع الوطي (في أوسطه) و هو الثلث الأوسط، كالثاني لذات الثلاثة (بنصفه) أي: بنصف الدينار، كما تقدّم.

(و) مع الوطي (في آخره) و هو الثلث الأخير (بربعه).

و مستند التفصيل رواية داوُد بن فرقد المرسلة عن أبي عبد اللّه، عليه السّلام «2» و لا رادّ لها و لا معارض.

و حيث كان الاعتبار في الأوّل و الأوسط و الأخير بالعادة، فتختلف باختلافها، فالأوّل لذات الثلاثة اليومُ الأوّل، و لذات الأربعة هو مع ثلث الثاني، و لذات الخمسة هو مع ثلثيه، و لذات الستّة اليومان الأوّلان، و على هذا القياس. و مثله الأوسط و الأخير.

و قال سلار: الوسط ما بين الخمسة إلى السبعة. «3»

و اعتبر الراوندي العشرة دون العادة. «4»

و عليهما قد يخلو بعض العادات عن الوسط و الآخر، و رجوع الضمير في قوله عليه السّلام‌

يتصدّق إذا كان في أوّله بدينار «5»

إلى الحيض من غير تفصيل يدفعهما، مع ندورهما.

و النفساء في ذلك كالحائض غير أنّه قد يمكن اجتماع زمانين أو ثلاثة في وطئ واحد بالنسبة إلى النفساء، و حينئذٍ فيحتمل تعدّد الكفّارة؛ لصدق الأزمنة لغةً، و اختاره الشهيد في الذكرى، «6» و احتمله في البيان. «7» و عدمُه؛ لعدم صدقها عرفاً، و هو مقدّم على اللغة مع أصالة البراءة.

و في شهادة العرف بذلك نظر، و لو تمّ لم يكن بُدّ من القول به؛ لتقدّمه عليها.

و مصرف هذه الكفّارة الفقراء و المساكين من أهل الإيمان، و لا يجب التعدّد، فيكفي‌

______________________________
(1) الذكرى 1: 279؛ و انظر: المقنعة: 55؛ و النهاية: 26.

(2) التهذيب 1: 164/ 471؛ الاستبصار 1: 134/ 459.

(3) المراسم: 44.

(4) فقه القرآن 1: 54.

(5) التهذيب 1: 164/ 471؛ الاستبصار 1: 134/ 459.

(6) الذكرى 1: 279.

(7) البيان: 67.

213
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

و يحرم على الحائض أمور ؛ ج‌1، ص : 207

الواحد.

و لا فرق في الزوجة بين الدائمة و المنقطعة، الحرّة و الأمة؛ للعموم.

و هل تلحقها الأجنبيّة المشتبهة أو المزنيّ بها؟ وجهان منشؤهما استلزام ثبوت الحكم في الأدنى ثبوتَه في الأعلى، و عدم النصّ، مع احتمال كون الكفّارة مسقطةً للذنب، فلا تتعدّى إلى الأقوى.

و اختار الأوّل المصنّف و الشهيد «1» رحمه اللّه.

و يشهد له أيضاً رواية أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام‌

مَنْ أتى حائضاً «2»

حيث علّق الحكم على المطلق من غير تقييدٍ، فكان كالعامّ.

و لو كانت الحائض الموطوءة أمتَه، تصدّق بثلاثة أمداد من طعام على ما اختاره المصنّف «3» تبعاً للشيخ في النهاية و الصدوق «4» وجوباً أو استحباباً. و المستند رواية «5» لا تنهض بحجّيّة المدّعى.

و لا فرق حينئذٍ بين أوّل الحيض و أوسطه و آخره؛ لإطلاق الرواية و الفتوى، و لا بين الأمة القِنّة و المدبّرة و أُمّ الولد و المزوّجة و إن حرم الوطء.

و في المكاتبة المشروطة و المطلقة وجهان مبنيّان على الأجنبيّة، و أولى بالوجوب.

أمّا المعتق بعضها فكالأجنبيّة، مع احتمال التقسيط و إعطاء كلّ من الجهتين حكمها.

فرع: لو كرّر الوطء، ففي تكرّر الكفّارة مطلقاً أو عدمه مطلقاً أو تكرّرها مع اختلاف الزمان أو سبق التكفير لا بدونهما أقوال اختار أوّلها الشهيد في مختصريه. «6»

و يشهد له كون كلّ وطئ سبباً في الوجوب، و تداخل الأسباب على خلاف الأصل، و إنّما الأصل أنّ اختلاف الأسباب يوجب اختلاف المسبّبات، و على هذا فيصدق تكرّر الوطي بالإدخال بعد النزع في وقتٍ واحد. و يتحقّق الإدخال بغيبوبة الحشفة؛ لأنّه مناط‌

______________________________
(1) نهاية الإحكام 1: 122؛ الذكرى 1: 279.

(2) التهذيب 1: 163/ 468؛ الإستبصار 1: 133/ 456.

(3) نهاية الإحكام 1: 122.

(4) النهاية: 572571؛ المقنع: 52؛ الفقيه 1: 53 ذيل الحديث 200.

(5) انظر: التهذيب 1: 164/ 470؛ و الاستبصار 1: 133/ 458.

(6) البيان: 63؛ الدروس 1: 101.

214
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

و يحرم على الحائض أمور ؛ ج‌1، ص : 207

الوطي شرعاً.

و استند ابن إدريس في عدم التكرّر مطلقاً إلى أصالة براءة الذمّة، فشغلها بواجبٍ أو ندبٍ يحتاج إلى دلالة شرعيّة، و استشهد عليه بعدم تكرّر الكفّارة على مَنْ كرّر الأكل في شهر رمضان اتّفاقاً. «1»

و قد عرفت جواب الاستدلال بالبراءة؛ فإنّ تعليق الحكم في النصوص على الوطي و جَعله سبباً أوجب شغل الذمّة، فمدّعي التداخل يحتاج إلى الدليل.

و القياس على تكرّر الأكل في الصوم إن كان مع تكرّر الأيّام، فالاتّفاق على عدم التكرّر فيه ممنوع، بل المختار فيه التكرّر.

و إن عنى به مع اتّحاد اليوم، فهو أخصّ من الدعوى، مع أنّه عين المتنازع. و إن لم يكن عليه إجماع، فالمختار فيه كما هنا.

و الثالث اختيار المصنّف «2» و الشهيد في الذكرى «3»؛ استناداً مع تغاير الوقت إلى أنّهما فعلان مختلفان في الحكم، فلا يتداخلان، كغيرهما من العقوبات المختلفة على الأفعال المختلفة. و مع تخلّل التكفير إلى أنّ الكفّارة إنّما تجب أو تستحبّ بعد موجب العقوبة، فلا تؤثّر المتقدّمة في إسقاط ما يتعلّق بالفعل المتأخّر. و في عدم التكرّر مع عدم الأمرين إلى أنّ الكفّارة متعلّقة على الوطي من حيث هو هو، و كما يصدق في الواحد يصدق في المتعدّد، فيكون الجزاء واحداً.

و جوابه: أمّا عن الأوّل: فيمنع أنّ عدم التداخل ثَمَّ معلّل باختلافها في الحكم. و الاستشهاد بالعقوبات قياس لا نقول به، بل الوجه في ذلك إنّما هو كون تداخل الأسباب على خلاف الأصل، و هو ثابت مع اتّفاق الحكم. و مثله القول في تعليل الثاني.

و عن الثالث: بأنّه لو تمّ، للزم مثله مع تغاير الوقت، فإنّ وجوب الكفّارة إن كان معلّقاً على الوطي من حيث هو هو بحيث لا مدخل للأفراد، لم يؤثّر في ذلك تغاير الوقت على وجه يقتضي التعدّد.

______________________________
(1) السرائر 1: 144 و 145.

(2) نهاية الإحكام 1: 122.

(3) الذكرى 1: 278.

215
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

و يكره على الحائض أمور ؛ ج‌1، ص : 216

ثمّ يمكن القول بموجب دليله و سوقه على وجه يستلزم التعدّد مطلقاً بأن يقال: الكفّارة مسبّبة عن الوطي، و صدقه في المتعدّد كصدقه في كلّ واحد من آحاده، فيتكرّر السبب، و الأصل فيه عدم التداخل، فقد ظهر أنّ القول الأوّل أوجَه. و مثله القول في تكرّر الإفطار في شهر رمضان مطلقاً.

[و يكره على الحائض أمور]

(و يكره) وطء الحائض (بعد انقطاعه) سواء كان في زمان العادة أم لا (قبل الغسل) من غير تحريم على أشهر القولين؛ لدلالة القرآن و الأخبار عليه.

أمّا الأوّل: فقوله تعالى فَاعْتَزِلُوا النِّسٰاءَ فِي الْمَحِيضِ وَ لٰا تَقْرَبُوهُنَّ حَتّٰى يَطْهُرْنَ. «1»

و الاستدلال به على وجهين:

أحدهما: دلالة صدر الآية على اختصاص النهي بزمان المحيض أو بمكانه؛ فإنّ المحيض إمّا بمعنى الزمان أو المكان، كالمجي‌ء و المبيت، أو أنّه مصدر يقدّر معه الزمان أو المكان، و إنّما يكون كذلك مع وجود الدم، و التقدير عدمه، فينتفي التحريم.

و الثاني: جَعله سبحانه غاية التحريم خروجهنّ من الحيض بقوله حَتّٰى يَطْهُرْنَ بالتخفيف، كما قرأ به السبعة، «2» أي: يخرجن من الحيض، يقال: طهرت المرأة: إذا انقطع حيضها، فيثبت الحلّ بعده بمقتضى الغاية.

و لا يعارض بقراءة التضعيف؛ حيث إنّ ظاهرها اعتبار التطهير، أعني الاغتسال؛ لإمكان حملها على الطهر؛ توفيقاً بين القراءتين، فقد جاء في كلامهم «تفعّل» بمعنى «فعل» مثل: تطعّمت الطعام و طعمته، و قطعت الحبل فتقطّع، و كسرت الكوز فتكسّر، فإنّ الثقيل في هذه الأمثلة بمعنى الخفيف. و مثله المتكبّر في أسماء اللّه تعالى، فإنّه بمعنى الكبير، أو تُحمل قراءة التضعيف على الاستحباب؛ صوناً للقراءتين عن التنافي، كما ذكره في المعتبر. «3»

______________________________
(1) البقرة (2): 222.

(2) كما في جامع المقاصد 1: 333. و القُرّاء السبعة هُمْ: حمزة بن حبيب الزيّات، و عاصم بن أبي النجود، و عليّ بن حمزة الكسائي، من الكوفة، و أبو عمرو بن العلاء، من البصرة، و ابن عامر، من الشام، و نافع بن عبد الرحمن، من المدينة، و عبد الله بن كثير، من مكة. السبعة في القراءات: 182؛ حجّة القراءات: 135134؛ الحجّة للقرّاء السبعة لأبي علي الفارسي 2: 321؛ التذكرة في القراءات 2: 333.

(3) المعتبر 1: 235.

216
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

و يكره على الحائض أمور ؛ ج‌1، ص : 216

و لا يعارض أيضاً بمفهوم الشرط في قوله تعالى فَإِذٰا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ «1» لأنّ غايته تعارض مفهوم الغاية و الشرط فيتساقطان و يرجع إلى حكم الأصل و هو الحلّ حتى يقوم الدليل على التحريم، أو أنّه مستأنف منقطع عمّا قبله، و لا يكون غايةً لزمان الحظر و لا شرطاً لإباحة قربهنّ. سلّمنا، لكنّ «2» المراد به غَسل الفرج.

و أمّا الأخبار: فمنها: ما رواه الشيخ عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام، قال: المرأة ينقطع عنها دم الحيض في آخر أيّامها، قال‌

إن أصابه شبق فليأمرها أن تغسل فرجها ثمّ يمسّها إن شاء. «3»

و منها: ما رواه علي بن يقطين عن أبي الحسن عليه السّلام، قال: سألته عن الحائض ترى الطهر أ يقع عليها زوجها قبل أن تغتسل؟ فقال‌

لا بأس، و بعد الغسل أحبّ إليّ «4»

و هذا الحديث دالّ على الكراهة.

و ذهب الصدوق أبو جعفر محمّد بن بابويه إلى التحريم «5»؛ محتجّاً بالآية مفسّراً معنى «يطهرن» مخفّفاً و مثقّلًا بمعنى يغتسلن، و بمفهوم الشرط.

و بما رواه أبو بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: سألته عن امرأة كانت طامثاً فرأت الطهر أ يقع عليها زوجها قبل أن تغتسل؟ قال‌

لا، حتى تغتسل. «6»

و بما رواه سعيد بن يسار عنه عليه السّلام، إلى قوله: أ فلزوجها أن يأتيها قبل أن تغتسل؟ قال‌

لا، حتى تغتسل. «7»

و أُجيب بالحمل على الكراهة؛ توفيقاً بين الأخبار، كما وُفّق بين القراءتين.

هذا أقصى ما وجّهوا به القولين حجّةً و جواباً.

و أقول: في حجّة الحلّ نظر من وجوه:

الأوّل: حمل الطهر مطلقاً على انقطاع الدم مع أنّه حقيقة شرعيّة في أحد الثلاثة أعني‌

______________________________
(1) البقرة (2): 222.

(2) في «م» و الطبعة الحجريّة: «أو أنّ» بدل «سلّمنا، لكنّ».

(3) الكافي 5: 539/ 1؛ التهذيب 1: 167/ 481؛ الإستبصار 1: 136/ 468.

(4) الكافي 5: 539 540/ 2؛ التهذيب 1: 167/ 481؛ الاستبصار 1: 136/ 468.

(5) الفقيه 1: 53.

(6) التهذيب 1: 166/ 478؛ الاستبصار 1: 136/ 465.

(7) التهذيب 1: 167/ 479؛ الاستبصار 1: 136/ 466.

217
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

و يكره على الحائض أمور ؛ ج‌1، ص : 216

الوضوء و الغسل و التيمّم كما لا يخفى. و غاية ما ذكروه أن يكون ثابتاً في اللغة، و الحقائق الشرعيّة مقدّمة على اللغويّة و العرفيّة، فقراءة التخفيف و إن صلحت لهما لغةً لكنّها محمولة شرعاً على الحالة الحاصلة لهنّ بعد فعل الطهارة الشرعيّة، و قراءة التشديد كالصريحة فيها.

الثاني: حمل قراءة التشديد على التخفيف استناداً إلى الشواهد المذكورة مع ما هو معلوم من القواعد العربيّة من أنّ كثرة المباني تدلّ على كثرة المعاني، و هذا هو الكثير الشائع.

و ما وقع من اتّفاقهما نادراً لا يوجب المصير إليه و ترك الأكثري، مع أنّ أكثر الشواهد ليست مطابقةً؛ فإنّ باب «تفعّل» الجاري عليه‌

كسرت الكوز فتكسّر

و نحوه‌

قطعت الحبل فتقطّع

ليس ممّا نحن فيه.

الثالث: أنّ صدر الآية و هو قوله تعالى وَ لٰا تَقْرَبُوهُنَّ حَتّٰى يَطْهُرْنَ «1» إنّما دلّ على تحريم الوطي في وقت الحيض، و لا يلزم منه اختصاص التحريم بوقته؛ إذ لا يلزم من تحريم شي‌ء في وقت أو مكان مخصوص اختصاص التحريم به؛ لأنّه أعمّ منه، و لا دلالة لعامّ على أفراده المعيّنة.

نعم، ربما دلّ بمفهوم الوصف على الاختصاص، و هو ليس بحجّة عند المصنّف «2» و الجماعة فكيف يحتجّون به!؟

الرابع: قولهم في جواب الغاية و الشرط: إنّه قد تعارض مفهومان، إلى آخره، لا يتمّ بعد ما قرّرناه، فإنّه لو حمل على الطهارة الشرعيّة أعني الغسل لم يقع تنافٍ أصلًا، و استغني عن التكلّف.

و يؤيّده قوله في آخر الآية إِنَّ اللّٰهَ يُحِبُّ التَّوّٰابِينَ وَ يُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ «3» فإنّ الموصوف بالمحبّة مَنْ فَعَل الطهارة بالاختيار حتى يستحقّ المدح و الثناء، و أمّا مَنْ حصل له الطهارة بغير اختياره كانقطاع الدم، لا يستحقّ لذلك «4»؛ الوصفَ بالمحبوبيّة خصوصاً و قد قرنها بالتوبة‌

______________________________
(1) صدر الآية قوله تعالى: فَاعْتَزِلُوا النِّسٰاءَ فِي الْمَحِيضِ.

(2) مبادئ الوصول: 100؛ نهاية الوصول، المقصد الرابع: في الأمر و النهي، الفصل الثالث، البحث التاسع.

(3) البقرة (2): 222.

(4) في «ق، م»: بذلك.

218
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

و يكره على الحائض أمور ؛ ج‌1، ص : 216

الصادرة عن الاختيار. و لو سُلّم، فمفهوم الشرط أقوى.

الخامس: اعتمادهم في دفع التنافي على كون قوله تعالى فَإِذٰا تَطَهَّرْنَ كلاماً مستأنفاً كما قرّره المصنّف في المختلف «1» لا يدفع التنافي بوجه؛ لأنّ الحجّة ليست في كونه معطوفاً على ما قبله حتى يدفعه الحمل على الاستئناف، بل في تصديره بأداة الشرط، الدالّة على اشتراط الإتيان بالتطهّر.

السادس: حَملُ الطهارة على غَسل الفرج كما حمله المصنّف «2» فيه أيضاً لا يوافق مذهبه، فإنّه لا يشترط في الإباحة غسل الفرج، «3» فلا وجه لجَعله شرطاً، مع مخالفته لمدلول الطهارة شرعاً و عرفاً.

و إن حمل غَسل الفرج على كونه شرطاً في الاستحباب كما ورد في بعض «4» الأخبار عُورض بأنّ حمله على الغسل أولى، فإنّ استحبابه ثابت عنده، فيكون أوفق بظاهر اللفظ إن لم يتعيّن المصير إليه.

السابع: حَملُ قراءة التضعيف على الاستحباب بمعنى توقّف الوطي على الغسل استحباباً عدول عن الحقيقة و الظاهر؛ فإنّ صدر الآية النهي عن القرب المغيّا بالطهارة، و النهي دالّ على التحريم فكيف يعلّق على المستحبّ!؟

الثامن: حَملُ الأخبار الدالّة على النهي الذي هو حقيقة في التحريم على الكراهة؛ جمعاً بين الأخبار غير مطابق للواقع؛ لوجهين:

أحدهما: أنّ هذه الروايات دلّت على الحظر، و ما ذكروه من الروايات دلّ على الإباحة، و إذا تعارض خبر الحظر و الإباحة، قدّم الخبر الدالّ على الحظر، كما قرّر في الأُصول.

الثاني: أنّ ذلك إنّما يكون مع تكافؤ الأخبار و الحال أنّ أخبار الحظر أقوى و أكثر، يعلم ذلك مَنْ راجع فيه كُتُبَ الحديث.

و الذي استفيد من ذلك كلّه قوّة ما ذهب إليه الصدوق رحمه اللّه؛ لدلالة الآية ظاهراً عليه، و ورود الأخبار الصحيحة به و إن عارضها ما لا يساويها.

______________________________
(1) مختلف الشيعة 1: 190، المسألة 134.

(2) مختلف الشيعة 1: 190، المسألة 134.

(3) نهاية الإحكام 1: 120.

(4) الكافي 5: 539/ 1؛ التهذيب 1: 166/ 475، و 7: 486/ 1952؛ الاستبصار 1: 135/ 463.

219
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

و يكره على الحائض أمور ؛ ج‌1، ص : 216

اللّهمّ إلا أن يدّعى الإجماع على خلافه بناءً على عدم العلم بموافقٍ له، و كونه معلوم النسب، فلا يقدح فيه، كما قرّر في الأُصول، أو يدّعى انعقاد الإجماع بعده، فإنّ الأئمّة الذين تصدّوا لنقل الخلاف لم يذكروا له موافقاً على ذلك فيجاب بمنع الإجماع؛ إذ لم يدّعه أحد، و بأنّا كما لا نعلم له موافقاً لا نعلم انتفاء الموافق، و هو كافٍ في عدم انعقاد الإجماع على خلافه، و مثل هذا القدر كافٍ في الحجّة.

و قد أشار إليه المحقّق في المعتبر في مسألة وجوب الكفّارة بوطي الحائض حيث نقل عن الشيخ و المرتضى دعوى الإجماع على وجوبها.

ثمّ قال ما هذا لفظه: أمّا احتجاج الشيخ و علم الهدى بالإجماع: فلا نعلمه، و كيف يتحقّق الإجماع فيما يتحقّق فيه الخلاف!؟ و لو قال: المخالف معلوم، قلنا: لكن لا نعلم أنّه لا مخالف غيره، و مع الاحتمال لا يبقى وثوق في خلافه. «1» انتهى.

فانظر كيف لم يعتمد المحقّق على الإجماع المنقول بخبر هذين الكبيرين، و جَعَل احتمال الموافقة للمعلوم كافياً في القدح فيه، فكيف في مسألةٍ لم يدّع أحد فيها الإجماع!؟

و هذه فائدة تتمشّى في كثيرٍ من المسائل التي يظنّ مَنْ لا تحصيل له صحّة دعوى الإجماع عليها مع علمه بمخالفة الواحد و الأكثر متوهّماً ما سلف، مع أنّه يمكن المعارضة بمثله بأن يقال: المخالف في الجانب الآخر جماعة كلّهم معلومو الأصل و النسب، فلا عبرة بخلافهم، فيمكن دعوى الإجماع في الجانب الآخر.

و قد قال المحقّق في المعتبر أيضاً: الإجماع عندنا حجّة بانضمام المعصوم، فلو خلا المائة من فقهائنا عن قوله، لما كان حجّةً، و لو حصل في اثنين، لكان قولهما حجّةً، فلا تغترّ إذن بمن يتحكّم فيدّعي الإجماع باتّفاق الخمسة و العشرة من الأصحاب مع جهالة قول الباقين إلا مع العلم القطعي بدخول الإمام. «2» انتهى.

و هذا يدلّك على تعذّر دعوى الإجماع الآن إلا ما نقله الأصحاب منه أو واحد منهم، فإنّ المنقول منه بخبر الواحد حجّة، كما حقّق في محلّه، فتأمّل.

و قد أفردنا لتحقيق الإجماع في حال الغيبة رسالة تنفع في هذا المقام مَنْ أرادها‌

______________________________
(1) المعتبر 1: 229- 230.

(2) المعتبر 1: 31.

220
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

و يكره على الحائض أمور ؛ ج‌1، ص : 216

وقف عليها.

و إنّما أطنبنا القول في هذه المسألة؛ لفوائد «1» فيها، و شدّة الحاجة إليها، و الله الموفّق.

و بعد ذلك كلّه فالقول بالكراهة أقوى؛ لأنّ هذه الأدلّة و إن دلّت على التحريم لكن يلزم من القول به اطّراح الأخبار الدالّة على الإباحة أصلًا و منها ما هو صحيح و هو غير جائز مع إمكان الجمع، و هو هنا ممكن بحمل أخبار النهي على الكراهة، كما تقدّم، بخلاف العكس؛ فإنّه لا يتوجّه معه حمل أخبار الإباحة على وجه يحصل معه الجمع، و ما تقدّم من وجوه الترجيح إنّما يتمّ مع تحقّق التعارض بحيث لا يمكن الجمع، و حينئذٍ يتعيّن الجمع بين القراءتين بما ذُكر و إن بعُدَ حذراً من معارضة الكتاب للسنّة، و كما يجب الجمع بين أجزاء الكتاب كذا يجب الجمع بينه و بينها، و فيه مع ذلك موافقة لأكثر الأصحاب و كُبرائهم.

و اعلم أنّ الأكثر «2» نقلوا عن الصدوق القول بالمنع من الوطي قبل الغسل من غير تفصيل.

و نقل المصنّف في المختلف عنه القول بأنّه مع عدم الغسل إذا غلبته الشهوة أَمَرَها بغَسل فرجها. «3» و في بعض «4» الأخبار التي استدلّ بها المجوّزون دلالة على هذا التفصيل.

لكن يبقى على هذا النقل القول بالمنع مطلقاً لا يعلم به قائل، فيشكل المصير إليه و إن قويت الدلالة عليه.

ثمّ على القول بالتحريم بوجه من الوجوه هل يتوقّف حلّ الوطي على التيمّم بدلًا من الغسل؟ الظاهر نعم، و به صرّح في الذكرى و الدروس، «5» و في بعض الأخبار عن الصادق عليه السّلام «6» دلالة عليه، لكن في طريقه ضعف.

و كذا تزول الكراهة بالتيمّم عند تعذّر الغسل عند المجوّزين.

و استقرب المصنّف في النهاية عدم وجوب التيمّم و إن قلنا بوجوب الغسل، «7»

______________________________
(1) في «ق، م»: «لكثرة الفوائد».

(2) منهم: المحقّق الكركي في جامع المقاصد 1: 333.

(3) مختلف الشيعة 1: 189، المسألة 134.

(4) الكافي 5: 539/ 1؛ التهذيب 1: 166/ 475، و 7: 486/ 1952؛ الاستبصار 1: 135/ 463.

(5) الذكرى 1: 272؛ الدروس 1: 101.

(6) الكافي 3: 82/ 3؛ التهذيب 1: 400/ 1250، و 405/ 1268.

(7) نهاية الإحكام 1: 121.

221
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

و يكره على الحائض أمور ؛ ج‌1، ص : 216

و لم يذكر له سنداً.

و لو قلنا بوجوب التيمّم و تعذّر الصعيد، فهل يباح الوطء من غير شبق، أو معه عند مَنْ أطلق القول بالمنع؟ استقرب المصنّف في النهاية عدمه؛ لفقد الشرط. «1»

و استحبّ المصنّف «2» و أكثر «3» المجوّزين غَسل الفرج عند عدم الغسل.

قال في المعتبر: و من الأصحاب مَنْ أورد ذلك بلفظ الوجوب. «4» فإن أراد به الصدوق، و إلا فهو قول آخر بوجوب غَسل الفرج عند غلبة الشهوة دون الغُسل. و يمكن دلالة خبر محمد بن مسلم «5» عليه.

و لا فرق في جواز الوطي بعد الانقطاع عند المجوّزين بين انقطاعه لأكثر الحيض أو لأقلّه، و لا بين انقطاعه على العادة أو بعدها، بل الدليل و الفتوى شاملان للانقطاع قبلها أيضاً.

و ربما استشكل الحكم هنا، إلا أنّ هذا الإشكال لا يزول بالاغتسال قبل العادة؛ لاحتمال معاودة الدم فيها. و لا يقال: لو أثّر هذا الاحتمال لتمشّي فيما بعد العادة قبل الوصول إلى الأكثر؛ لاحتمال معاودته أيضاً و الانقطاع على العشرة؛ لأنّ قيام الاحتمال في زمان العادة الملحقة بالأُمور الجبلّيّة أقوى. و لا ريب أنّ الاحتياط طريق البراءة و إن كان لظاهر الحكم أمر آخر.

(و) يكره أيضاً لها (الخضاب) بحنّاء و غيره؛ جمعاً بين الأخبار الدالّة على النهي عنه، و المصرّحة بنفي البأس.

و علّل في بعضها بأنّه‌

يخاف عليها من الشيطان «6»

عند ذلك.

و ليست العلّة منعه من وصول الماء إلى البشرة التي عليها الخضاب كما ذكره المفيد «7»؛ لأنّ ذلك لو تمّ، لاقتضى التحريم لا الكراهة.

و يمنع كون اللون يحجب ما تحته من البشرة عن وصول الماء إليه؛ لأنّه عَرَض.

______________________________
(1) نهاية الإحكام: 1: 121.

(2) مختلف الشيعة 1: 189، المسألة 134.

(3) منهم: المحقّق الحلّي في المعتبر 1: 236؛ و الشهيد في الذكرى 1: 272؛ و المحقّق الكركي في جامع المقاصد 1: 335.

(4) المعتبر 1: 236.

(5) الكافي 5: 539/ 1؛ التهذيب 7: 486/ 1952.

(6) علل الشرائع 1: 339/ 1، الباب 218.

(7) المقنعة: 58.

222
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

و يكره على الحائض أمور ؛ ج‌1، ص : 216

(و حمل المصحف) بغير علاقة، أمّا بها فقد نفى المصنّف الكراهة فيه عن الجنب، «1» و لا فرق، لكن ظاهر النصّ و الفتوى يتناولهما.

و ادّعى المحقّق في المعتبر إجماع الأصحاب على كراهة حمل المصحف بعلاقته لها. «2»

(و لمس هامشه) من غير أن تمسّ الخط، كلّ ذلك للتعظيم.

و حرّمه المرتضى لها كما حرّمه للجنب. «3» و قد روي عن أبي الحسن موسى عليه السّلام قال‌

المصحف لا تمسّه على غير طهر و لا جنباً و لا تمسّ خيطه «4» و لا تعلّقه، إنّ اللّه يقول لٰا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ. «5»

«6» قال في المعتبر‌

و نُزّل «7» على الكراهة؛ نظراً إلى عمل الأصحاب.

«8» و لا بأس بتقليبه بعود و نحوه؛ لعدم صدق المسّ.

(و الجواز) و هو المرور من غير لَبثٍ (في المساجد) غير المسجدين؛ للتعظيم، هذا مع أمن التلويث، و بدونه يحرم.

و مثلها السلس و المبطون و المجروح و الصبي المنجّس و الدابّة التي لا تؤكل.

و ألحق جماعة «9» من الأصحاب المشاهدَ بالمساجد. و هو حسن، بل الأمر في المشاهد أغلظ؛ لتأديتها فائدة المسجد و تزيد شرف المدفون بها.

(و قراءة) القرآن (غير العزائم) الأربع من غير تحريم بلا خلاف بين أصحابنا في ذلك.

و حرّمها الجمهور. «10»

لنا: قوله تعالى فَاقْرَؤُا مٰا تَيَسَّرَ مِنْهُ «11» و الأمر مطلق، فلا يتقيّد بالطهارة.

______________________________
(1) نهاية الإحكام 1: 104.

(2) المعتبر 1: 234.

(3) حكاه عنه المحقّق الحلّي في المعتبر 1: 234.

(4) في «م» و الاستبصار: «خطّه».

(5) الواقعة (56): 79.

(6) التهذيب 1: 127/ 343؛ الإستبصار 1: 114113/ 378.

(7) في «ق، م»: «نُزّلت».

(8) المعتبر 1: 234.

(9) منهم: الشيخ المفيد في العزّيّة، و ابن الجنيد، كما في الذكرى 1: 278.

(10) المجموع 2: 158 و 162؛ المغني 1: 166165؛ الشرح الكبير 1: 241240.

(11) المزّمّل (73): 20.

223
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

و يكره على الحائض أمور ؛ ج‌1، ص : 216

و ما روي عن أبي جعفر عليه السّلام، قلت: الجنب و الحائض يقرءان شيئاً؟ قال‌

نعم ما شاءا إلا السجدة، و يذكران اللّه على كلّ حال. «1»

(و الاستمتاع) منها (بما بين السرّة و الركبة) لأنّه حريم الفرج، و‌

مَنْ رتع حول الحمى يوشك أن يخالطه

كما ورد في الحديث، «2» و يستثنى من ذلك موضع الدم.

و القول بالكراهة هو المشهور، و قد ورد التصريح به في عدّة أخبار، «3» و يدلّ عليه أيضاً نفي اللوم عن استمتاع الأزواج في الآية «4» كيف كان، خرج منه موضع الدم بالإجماع، فيبقى الباقي، و نحوه فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّٰى شِئْتُمْ. «5»

و حرّم المرتضى الاستمتاع منها بما تحت المئزر، «6» و عنى به ما بين السرّة و الركبة؛ لقوله تعالى وَ لٰا تَقْرَبُوهُنَّ «7» خرج منه ما أُجمع على جوازه، فيبقى الباقي؛ لصدق القرب عليه.

و لقول الصادق عليه السّلام‌

تتّزر إلى الركبتين، و تخرج سرّتها ثمّ له ما فوق الإزار. «8»

و جوابه: أنّ حقيقة القرب ليست مرادةً من الآية إجماعاً، فيحمل على المجاز المتعارف، و هو الجماع، أو يراد به قُرب مخصوص، و هو القُرب الذي يكون معه إرادة الجماع؛ لأنّه وسيلة المحرّم فيكون محرّماً. لكن يشكل هنا تحريم القرب نفسه؛ لأنّ المحرّم إنّما هو الجماع.

و لقول النبي صلّى اللّه عليه و آله‌

افعلوا كلّ شي‌ء إلا الجماع. «9»

و لعلّ القرب كناية عنه عدولًا عن التصريح بما يستهجن التصريح به، كالعدول عن اسم الحدث إلى مكانه، و مثل ذلك كثير.

______________________________
(1) علل الشرائع 1: 335/ 1، الباب 210؛ التهذيب 1: 2726/ 67 و 129/ 352؛ الاستبصار 1: 115/ 384.

(2) صحيح البخاري 3: 724723/ 1946؛ سنن أبي داوُد 3: 243/ 3329؛ سنن الترمذي 3: 511/ 1205.

(3) الكافي 5: 539538/ 1 4؛ التهذيب 1: 154/ 438436 و 155/ 442 و 443؛ الاستبصار 1: 129128/ 441437.

(4) المؤمنون (23): 5 و 6.

(5) البقرة (2): 223.

(6) حكاه عنه المحقّق الحلّي في المعتبر 1: 234؛ و العِمة الحلّي في مختلف الشيعة 1: 185، المسألة 130.

(7) البقرة (2): 222.

(8) الفقيه 1: 54/ 204؛ التهذيب 1: 154/ 439؛ الاستبصار 1: 129/ 442.

(9) صحيح مسلم 1: 246/ 302؛ سنن ابن ماجة 1: 211/ 644؛ سنن أبي داوُد 1: 67/ 258؛ سنن البيهقي 1: 467، ذيل ح 1501؛ مسند أحمد 3: 590/ 11945.

224
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

و يستحب للحائض أمور ؛ ج‌1، ص : 225

و الأخبار معارضة بأقوى منها، فتُحمل على الكراهة؛ جمعاً بين الأخبار، مع أنّ في دلالتها على مطلوبه نظراً؛ فإنّ كون ما فوق الإزار له لا يدلّ على نفي ما عداه إلا بمفهوم اللقب، و نحوه غيره من الأحاديث التي استدلّ بها، فالعمل على المشهور، و هو الكراهة؛ لاتّفاق المجوّزين عليه كما نقله عنهم في المعتبر. «1»

بقي هنا شي‌ء، و هو أنّ الحدّ الفاصل بين المكروه و غيره و هو السرّة و الركبة هل هو داخل في المكروه أم في غيره؟ الذي يقتضيه قولهم: ما بين السرّة و الركبة: خروجهما منه.

و في كلام الصادق عليه السّلام المتقدّم «2» إشارة إليه؛ لأنّه أذن في إخراج سرّتها، و هي أقوى الحدّين.

و في المعتبر: لا بأس بالاستمتاع منها بما فوق السرّة و ما تحت الركبة. «3» و هو دالّ بمفهومه على دخولهما، لكنّ الحكم مدلول عباراتهم للخبر، و لموافقة صاحب المعتبر لهم في التعبير بالبينيّة فيه و في غيره.

[و يستحبّ للحائض أمور]

(و يستحبّ) لها (أن تتوضّأ عند) أي في وقت (كلّ صلاة) و لا تنوي بهذا الوضوء رفع الحدث و لا استباحة الصلاة؛ لعدم حصولهما لها؛ لاستمرار حدثها، بل تنوي به القربة، أو تضيف إليها غاية الكون «4» و الذكر.

(و تجلس في مصها) إن كان لها موضع معدّ لها تبعاً للشيخ «5» و الجماعة.

و قال المفيد: تجلس ناحيةً من مصلّاها. «6»

و الأخبار و كلام جماعة من الأصحاب خالية من تعيين المكان. قال في المعتبر: و هو المعتمد. «7»

و في خبر زرارة‌

جلست في موضع طاهر «8»

و في خبر زيد الشحّام‌

ثمّ تستقبل

______________________________
(1) المعتبر 1: 235.

(2) في ص 224.

(3) المعتبر 1: 234.

(4) أي: الكون في مصها.

(5) النهاية: 25؛ المبسوط 1: 45.

(6) المقنعة: 55.

(7) المعتبر 1: 233.

(8) الكافي 3: 101/ 4؛ التهذيب 1: 159/ 456.

225
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

و يستحب للحائض أمور ؛ ج‌1، ص : 225

القبلة. «1»

(ذاكرةً) في حال جلوسها لله تعالى بتسبيح أو تحميد أو تهليل و غيرها، رواه زرارة عن الباقر. «2» عليه السّلام و ليكن مقدارَ الصلاة؛ للخبر، «3» و للتمرين على العبادة بقدر الإمكان لئلا يشقّ تكليفها عند الوجوب بسبب اعتياد البدن الترك، فإنّ الخير عادة، و هذا من تفرّدات الإماميّة أيّدهم اللّه تعالى.

(و يجب عليها قضاء الصوم) الذي فات في أيّام حيضها من شهر رمضان إجماعاً.

و في قضاء المنذور أو شبهه الذي وافق الحيض وجهان أقربهما عند المصنّف: عدم الوجوب. «4»

و اختار الشهيد رحمه اللّه الوجوب. «5»

(دون) قضاء (الصلاة) اليوميّة بإجماع علماء الإسلام.

و في عدّة من الأخبار «6» تصريح بعدم تعليل ذلك و أنّه محض تعبّد، و في بعضها «7» أنّه دليل على بطلان القياس لأنّ الصلاة أفضل من الصوم.

و روى الحسين «8» بن راشد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام حيث سأله عن الوجه في ذلك، فقال‌

إنّ أوّل مَنْ قاس إبليس. «9»

و قد تمحّل للفرق بعضهم بأشياء مدفوعة بما أوردناه.

و هل يلحق باليوميّة غيرها من الصلوات الواجبة عند عروض أسبابها في وقت الحيض كالكسوف؟ وجهان، أقربهما: ذلك، و يستثنى من ذلك الزلزلة؛ فإنّ وقتها العمر.

و أمّا ركعتا الطواف فلاحقتان بالطواف.

______________________________
(1) الكافي 3: 101/ 3؛ التهذيب 1: 159/ 455.

(2) الكافي 3: 101/ 4؛ التهذيب 1: 159/ 456.

(3) الكافي 3: 101/ 4؛ التهذيب 1: 159/ 456.

(4) لم نعثر عليه فيما بين أيدينا من المصادر.

(5) الدروس 1: 101.

(6) منها ما في علل الشرائع 1: 111 113/ 5، الباب 81.

(7) علل الشرائع 1: 108/ 2، الباب 81.

(8) في المصادر: الحسن.

(9) الكافي 3: 104/ 1؛ التهذيب 1: 160/ 458 و 4: 267/ 807؛ الاستبصار 2: 93/ 301.

226
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

و يستحب للحائض أمور ؛ ج‌1، ص : 225

و لو عرض الحدث «1» بعد دخول الوقت الموسّع بمقدار ما يسع الصلاة و شرائطها، وجب قضاؤها؛ لتفريطها في أوّل الوقت.

و لو انقطع و قد بقي من الوقت قدر ركعة بعد تحصيل الشرائط المفقودة، وجب الأداء، و مع الإخلال القضاء. و هنا أقوال أُخر هذا أجودها.

______________________________
(1) في «ق، م»: «الحيض» بدل «الحدث».

227
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

المقصد الثالث في الاستحاضة و النفاس ؛ ج‌1، ص : 228

 

[المقصد الثالث في الاستحاضة و النفاس]

(المقصد الثالث: في الاستحاضة و النفاس)

[القول في الاستحاضة]

[القول في أوصاف دم الاستحاضة]

إمّا الاستحاضة: فهي في الأصل استفعال من الحيض، يقال: استحيضت المرأة، بالبناء للمجهول، فهي تستحاض لا تستحيض: إذا استمرّ بها الدم بعد أيّامها فهي مستحاضة، ذكره الجوهري. «1»

و كأنّ بناءه للمعلوم غير مسموع، و اشتقاقها من الحيض مبنيّ على الغالب، فلا يشترط فيها إمكان الحيض، فالصغيرة و اليائسة يمكن فيهما الاستحاضة دون الحيض.

و الأكثر إطلاق الاستحاضة على كلّ دم يخرج من الرحم و ليس بحيض و لا نفاس و لا قرح و لا جرح، سواء اتّصل بالحيض، كالمتجاوز لأكثره، أم لا، كالذي تراه الصغيرة، فإنّه و إن لم يوجب الأحكام في الحال لكن عند البلوغ يجب عليها الغسل أو الوضوء؛ لأنّ الأحداث من قبيل الأسباب التي هي من باب خطاب الوضع و لا يشترط فيها التكليف، و قد يتخلّف المسبّب عن السبب لفقد شرطٍ، و قد يتعلّق به في الحال أحكام الاستحاضة، كنزح الجميع «2» به و غسل الثوب من قليله و كثيره.

و ربما خصّ اسم الاستحاضة بالدم المتّصل بدم الحيض، و يسمّى ما عدا ذلك دم فساد، لكنّ الأحكام فيهما لا تختلف.

و المصنّف جرى هنا على المشهور، فقال (دم الاستحاضة في الأغلب أصفر بارد رقيق يخرج) من الرحم (بفتورٍ) و ضعفٍ لا بدفعٍ، فهو يقابل الحيض في أوصافه غالباً.

______________________________
(1) الصحاح 3: 1073؛ «ح ى ض».

(2) أي: نزح جميع ماء البئر.

 

228
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في أحكام الاستحاضة ؛ ج‌1، ص : 229

 

و قيّد بالأغلب؛ لأنّه قد يكون بهذه الصفة حيضاً، و قد يكون بصفة الحيض استحاضةً، كما تقدّم.

(و) الخارج (الناقص عن ثلاثة) أيّام متوالية (ممّا ليس بقرح و لا جرح، و الزائد عن) أيّام (العادة مع تجاوز العشرة، و) الزائد (عن أيّام النفاس) و سيأتي بيانها (و) الخارج (مع) سنّ (اليأس استحاضة) خبر الجميع.

و قيّد في العادة بتجاوز العشرة؛ لأنّ الدم لو انقطع على العاشر، كان الجميع حيضاً، و قد تقدّم وجه ذلك كلّه في الحيض.

ثمّ دم الاستحاضة ينقسم بحسب كثرته و توسّطه و قلّته إلى ثلاثة أقسام؛ لأنّه إمّا أن يكون بحيث إذا وضعت الكرسف يظهر عليه من داخل الفرج و لا يثقبه إلى خارجه، أو يثقبه و لا يسيل عنه، أو يسيل، فهذه ثلاثة أقسام تختلف الأحكام فيها، فيجب على المستحاضة وضع القطنة و اعتبار حالها.

[القول في أحكام الاستحاضة]

[الاستحاضة القليلة]

(فإن كان الدم لا يغمس القطنة) أي: لا يثقبها إلى خارج و إن دخل في باطنها كثيراً (وجب) عليها ثلاثة أشياء (الوضوء لكلّ صلاة) لأنّه في هذه الحالة حدث أصغر.

(و تغيير القطنة) لما سيأتي من عدم العفو عن هذا الدم في الصلاة قليله و كثيره، و للإجماع، كما نقله المصنّف في المنتهي، «1» و هذا بخلاف السلس و المبطون و المجروح؛ لعدم وجوب ذلك عليهم و إن كان أحوط؛ تقليلًا للنجاسة.

و الفرق: ورود النصّ على المستحاضة دونهم، كما ذكره المصنّف. «2»

و يمكن الفرق بالإجماع المذكور عليها دونهم.

و غَسل ما ظهر من الفرج، و هو ما يبدو منه عند الجلوس على القدمين إن أصابه الدم.

و هذا هو المشهور في هذا القسم، و مستنده أخبار كثيرة دلّت على الوضوء دون الغسل.

و فيه قولان آخران:

أحدهما: قول ابن أبي عقيل، «3» و هو أنّها لا يجب عليها وضوء في هذه الحالة‌

______________________________
(1) منتهى المطلب 2: 409.

(2) منتهى المطلب 2: 422.

(3) حكاه عنه المحقّق الحلّي في المعتبر 1: 244.

 

229
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

6الاستحاضة المتوسطة ؛ ج‌1، ص : 230

و لا غسل؛ استناداً إلى ظاهر رواية عبد اللّه بن سنان عن الصادق عليه السّلام «1» حيث لم يذكر فيها الوضوء. لكن ذِكره في غير هذه «2» من الأخبار كافٍ في الدلالة، و يجب حمل المطلق على المقيّد.

و الثاني: قول ابن الجنيد، «3» و هو وجوب غسل واحد هنا لليوم و الليلة؛ استناداً إلى رواية سماعة. «4» و هي لا تدلّ على مطلوبه صريحاً، بل هي أعمّ منه، فتُحمل على ثقب الدم الكرسف، و هي الحالة الوسطى؛ جمعاً بينها و بين غيرها.

[الاستحاضة المتوسطة]

(و إن غمسها) ظاهراً و باطناً (وجب) عليها (مع ذلك) المذكور في القسم الأوّل شيئان آخران:

أحدهما (تغيير الخرقة) أو غَسلها إن كانت و أصابها الدم، و إلا فلا.

(و) الثاني (الغسل لصلاة الغداة) فيجب عليها خمسة أشياء على المشهور.

و ابن أبي عقيل على أصله المتقدّم «5» من عدم إيجاب الوضوء و إن وجب الغسل.

و أوجب هو و ابن الجنيد هنا الأغسال الثلاثة، «6» و اختاره المحقّق في المعتبر، «7» و المصنّف في المنتهي. «8» و أكثر الأخبار الصحيحة تدلّ على ذلك.

كصحيحة معاوية بن عمّار عن الصادق عليه السّلام‌

إذا ثقب الكرسف اغتسلت للظهرين تؤخّر هذه و تعجّل هذه، و للعشاءين كذلك، و تغتسل للصبح. «9»

و صحيحة زرارة عن الباقر عليه السّلام‌

تصلّي كلّ صلاة بوضوء ما لم ينفذ الدم، فإذا نفذ اغتسلت و صلّت. «10»

و حملها على النفوذ المشتمل على السيلان إنّما يتمّ لو دلّ على الغسل الواحد للحالة‌

______________________________
(1) الكافي 3: 90/ 5؛ التهذيب 1: 171/ 487.

(2) في «ق» و الطبعة الحجريّة: «غيره» بدل «غير هذه».

(3) حكاه عنه المحقّق الحلّي في المعتبر 1: 244.

(4) الكافي 3: 89 90/ 4؛ التهذيب 1 170/ 485.

(5) آنفاً.

(6) حكاه عنهما المحقّق الحلّي في المعتبر 1: 244.

(7) المعتبر 1: 245.

(8) منتهى المطلب 2: 412.

(9) الكافي 3: 88 89/ 2؛ التهذيب 1: 106/ 277؛ و 170/ 484.

(10) التهذيب 1: 169/ 483.

230
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

6الاستحاضة الكثيرة ؛ ج‌1، ص : 231

المتوسّطة خبر صحيح، و لم يوجد من الأخبار المفيدة لذلك إلا موقوف سماعة، قال‌

المستحاضة إذا ثقب الكرسف اغتسلت الثلاثة، و إن لم يجز الدم الكرسف فالغسل لكلّ يوم مرّة «1»

و قريب منه موقوف زرارة، الآتي.

و في دلالتهما مع تسليمهما على ذلك نظر.

و بالجملة، فالأخبار الموجودة في هذا الباب مختلفة على وجه لا يكاد يمكن الجمع بينها.

ففي خبر الصحّاف عن الصادق عليه السّلام «2» تعليق وجوب الأغسال الثلاثة على السيلان، و عدم وجوب الغسل بل الوضوء لكلّ صلاة على عدمه. و خبر معاوية بن عمّار و زرارة، المتقدّمان «3» علّق فيهما الحكم بالثلاثة على النفوذ.

و روى حمّاد بن عيسى عن حريز عن زرارة قال في النفساء‌

تقعد بقدر حيضها و تستظهر بيومين، فإن انقطع الدم و إلا اغتسلت و احتشت و استثفرت و صلّت، فإن جاز الدم الكرسف تعصّبت و اغتسلت ثمّ صلّت الغداة بغسل، و الظهر و العصر بغسل، و المغرب و العشاء بغسل، و إن لم يجز الدم الكرسف صلّت بغسل واحد «4»

و قريب منه خبر «5» سماعة.

و حمل أكثر الأصحاب هذين الخبرين على الغمس و إن كان عدم جوا ز الكرسف أعمّ منه، فدلله على الحالة الوسطى؛ لعدم التصريح بها في خبرٍ على الخصوص، لكنّهما موقوفان، كما عرفت.

و قد استبعد أصحاب التفصيل رواية زرارة مع فضله و ثقته عن غير إمامٍ. و صحيحة عبد اللّه بن سنان «6» دلّت على الاغتسال ثلاثاً من غير تفصيل.

و أصحاب القول المشهور جمعوا هذه الأحاديث بما ذكروه من الحالات الثلاث. و فيه نظر.

[الاستحاضة الكثيرة]

(و إن سال) الدم عن الكرسف (وجب) عليها (مع ذلك) المذكور في الحالتين و هو خمسة أشياء شيئان آخران:

(غسل للظهر و العصر تجمع بينهما) بأن تؤخّر الاولى إلى آخر وقت فضيلتها و تُقدّم‌

______________________________
(1) الكافي 3: 89 90/ 4؛ التهذيب 1: 170/ 485.

(2) الكافي 3: 95 96/ 1؛ التهذيب 1: 168 169/ 482؛ الإستبصار 1: 140 141/ 482.

(3) في ص 230.

(4) الكافي 3: 99/ 4؛ التهذيب 1: 173 174/ 496.

(5) تقدّمت الإشارة إلى مصدره في الهامش (1).

(6) الكافي 3: 90/ 5؛ التهذيب 1: 171/ 487.

231
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

6الاستحاضة الكثيرة ؛ ج‌1، ص : 231

الثانية في أوّل وقتها كذلك على الأفضل.

(و غسل للمغرب و العشاء تجمع بينهما) في آخر وقت الاولى و أوّل وقت الثانية كذلك.

و هذه الحالة لا خلاف في وجوب الأغسال الثلاثة فيها، و إنّما الخلاف في الوضوء.

فذهب ابن أبي عقيل إلى عدم وجوب الوضوء هنا، «1» كما سلف، «2» و كذلك السيّد المرتضى بناءً على أصله من عدم إيجاب الوضوء مع غسلٍ من الأغسال. «3»

و ذهب المفيد إلى الاكتفاء بوضوء واحد للظهرين كالغسل، و مثله للعشاءين. «4»

و الأخبار الصحيحة دلّت على المشهور.

و اعلم أنّ وجوب الأغسال الثلاثة في هذه الحالة إنّما هو مع استمرار الدم سائلًا إلى وقت العشاءين، فلو طرأت القلّة بعد الصبح، فغسل واحد، أو بعد الظهرين، فغسلان خاصّة، و هو ظاهر، و أنّ اعتبار الجمع بين الصلاتين إنّما هو للاكتفاء بغسلٍ واحد لهما، فلو فرّقتهما و اغتسلت لكلّ واحدة غسلًا، صحّ أيضاً، بل ربما كان أفضل.

و كما تراعي معاقبة الصلاة للغسل، كذلك تراعي معاقبتها للوضوء على أحوط القولين؛ لأنّ العفو عن حدثها المستمرّ الواقع في الصلاة أو بينها و بين الطهارة إنّما وقع للضرورة، فتقتصر على ما تقتضيه و ما لا يمكن الانفكاك عنه، و اعتبار الجمع بين الفرضين بغسلٍ يدلّ عليه.

و لا يقدح في ذلك الاشتغالُ بعده بالستر و تحصيل القبلة و الأذان و الإقامة؛ لأنّها مقدّمات الصلاة، و لا انتظار الجماعة على ما اختاره المصنّف في النهاية، «5» و الشهيد في الدروس. «6»

و ربما منع ذلك؛ لعدم الضرورة.

و منع المصنّف في المختلف من اعتبار معاقبة الصلاة للوضوء، محتجّاً بعموم الأدلّة على تجويز فعل الطهارة في أوّل الوقت، و على توسعة الوقت، و عدم دلالة الأخبار على ذلك؛

______________________________
(1) حكاه عنه المحقّق الحلّي في المعتبر 1: 244.

(2) في ص 229.

(3) حكاه عنه المحقّق الحلّي في المعتبر 1: 247.

(4) المقنعة: 56 57.

(5) نهاية الإحكام 1: 127.

(6) الدروس 1: 99.

232
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

6الاستحاضة الكثيرة ؛ ج‌1، ص : 231

إذ في بعضها‌

تتوضّأ عند وقت كلّ صلاة «1»

و في بعضها‌

الوضوء لكلّ صلاة «2»

و في بعضها‌

صلّت كلّ صلاة بوضوء. «3» «4»

و أُجيب بما تقدّم، و بأنّ الصلاة بالحدث مخالف للأصل، فيجب تقليله ما أمكن.

و فيه منع؛ لخروج المستحاضة من البين بالنصّ الخاصّ الذي لا يدلّ على ذلك. و لا ريب أنّ الاحتياط طريق البراءة يقيناً.

بقي هنا أُمور لا بدّ من التنبيه عليها ليتمّ بها أحكام المستحاضة.

أحدها: أنّ الاعتبار في كمّيّة الدم بالنسبة إلى أحواله الثلاثة هل هو في جميع الأوقات بمعنى أنّ الكثرة مثلًا متى حصلت كفت في وجوب الغسل و إن كانت منقطعةً في وقت الصلاة، فلو حصلت بعد صلاة الفجر مثلًا و انقطعت قبل الظهر، وجب الغسل لها، و كذا يكفي طروؤها بعد الظهرين إلى وقت صلاة العشاءين، كما يشعر به خبر الصحّاف في قوله عليه السّلام‌

فلتغتسل و تصلّي الظهرين ثمّ لتنظر فإن كان الدم لا يسيل فيما بينها و بين المغرب فلتتوضّأ و لا غسل عليها، و إن كان إذا أمسكت يسيل من خلفه صبيباً فعليها الغسل ثلاثاً «5»

إلى آخره، و لأنّه حدث فيمنع، سواء كان حصوله في وقت الصلاة أم في غيره. أو اعتباره إنّما هو عند وجوده في أوقات الصلوات؛ لأنّها أوقات الخطاب بالطهارة، فلا أثر لما قبلها؟ ظاهر المصنّف و الشهيد في البيان: الأوّل. «6» و لا تخفى قوّته.

و ظاهر الدروس: الثاني، و في الذكرى حكاه بلفظ «قيل» بعد أن ادّعى فيهما أنّ ظاهر خبر الصحّاف يشعر به. «7»

و قد عرفت أنّه إنّما يشعر بخلافه.

و يتفرّع عليهما ما لو كثر قبل الوقت ثمّ طرأت القلّة، فعلى الأوّل يجب الغسل؛ للكثرة المتقدّمة و إن كانت قد اغتسلت في أثنائها؛ لأنّ المتأخّر منها عن الغسل كافٍ في السببيّة،

______________________________
(1) الكافي 3: 95 96/ 1؛ التهذيب 1: 168 169/ 482؛ الإستبصار 1: 140- 141/ 482.

(2) الكافي 3: 89 90/ 4؛ التهذيب 1: 170/ 485.

(3) الكافي 3: 88 89/ 2؛ التهذيب 1: 106- 107/ 277، و 170/ 484.

(4) مختلف الشيعة 1: 213، المسألة 154.

(5) الكافي 3: 95 96/ 1؛ التهذيب 1: 168 169/ 482؛ الإستبصار 1: 140- 141/ 482.

(6) نهاية الإحكام 1: 129؛ البيان: 67.

(7) الدروس 1: 99- 100؛ الذكرى 1: 242 و 243 و 253.

233
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

6الاستحاضة الكثيرة ؛ ج‌1، ص : 231

و على الثاني لا غسل عليها ما لم توجد في الوقت متّصلةً أو طارئة.

و لو طرأت الكثرة بعد صلاة الظهرين، فلا غسل لهما، بل للعشاءين على الأوّل دون الثاني، إلا مع استمرارها إلى وقتهما.

و هل يتوقّف صوم اليوم الحاضر على هذا الغسل، الطارئ سببه بعد الظهرين؟ الظاهر: لا، على القولين.

أمّا على الثاني: فظاهر؛ لأنّه لم يوجب الغسل إلا بعد وجوده في وقت العشاءين و قد انقضى الصوم.

و أمّا على الأوّل: فلأنّه و إن حكم بكونه حدثاً في الجملة لكنّهم حكموا بصحّة الصوم مع إتيانها بالأغسال، و الغسل لهذا الحدث إنّما هو في الليلة المستقبلة، و لا يتوقّف عليه صوم اليوم الحاضر.

و اختار في الذكرى وجوبه هنا للصوم في سياق التفريع على أنّ الاعتبار في كمّيّته بأوقات الصلوات. «1»

و توقّف المصنّف في التذكرة. «2»

الثاني: لو أرادت ذات الدم المتوسّط أو الكثير التهجّدَ بالنوافل ليلًا، قدّمت الغسل على الفجر و اكتفت به. و ينبغي الاقتصار على التقديم على ما يحصل به الغرض ليلًا، فلو زادت على ذلك هل تجب إعادته؟ يحتمل، لما مرّ في الجمع بين الصلاتين به. و عدمه؛ للإذن في التقديم من غير تقييدٍ. و كذا تُقدّمه الصائمةُ، كما سيأتي.

الثالث: لو نسيت ذات الأغسال أو الغسل غسلًا حتى خرج وقت الصلاة أو نامت كذلك، فهل يتوقّف الصوم الحاضر على الغسل بعد الوقت، أو يكفي الغسل للصلاة الأُخرى إن وجب؟ يبنى على ما سبق فيما لو طرأت الكثرة بعد الظهرين، و أولى بالوجوب هنا إن أوجبناه ثَمَّ. و عدم الوجوب فيهما أقوى اعتباراً بالأغسال المعهودة للصلاة، و هي منتفية في الحالتين، و لا بُعد في الحكم بكونه حدثاً مانعاً من العبادة على بعض الوجوه دون بعضٍ؛ لظاهر النصّ و الفتوى.

______________________________
(1) الذكرى 1: 253.

(2) تذكرة الفقهاء 1: 292، الفرع «ب».

234
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

6الاستحاضة الكثيرة ؛ ج‌1، ص : 231

(و هي مع) فعل (ذلك) المتقدّم من الغسل و الوضوء و تغيير القطنة و غَسل المحلّ بحسب حال الدم (بحكم الطاهر) فيصحّ منها جميع ما يصحّ من الطاهر من الأُمور المشروطة بالطهارة، كالصلاة و الطواف و الصوم و مسّ كتابة القرآن و دخول المساجد و قراءة العزائم و الوطي، كذا قاله المصنّف في النهاية. «1»

و الظاهر عدم توقّف دخول المساجد لها على ذلك مع أمن التلويث.

و أمّا الوطء: فاشترطه الشيخ «2» و جماعة «3» بالغسل؛ لما رواه عبد الملك «4» بن أعين عن الصادق عليه السّلام قال: سألته عن المستحاضة كيف يغشاها زوجها؟ قال‌

ينظر الأيّام التي كانت تحيض فيها فلا يقربها، و يغشاها فيما سوى ذلك، و لا يغشاها حتى يأمرها بالغسل. «5»

و لوجود الأذى فيه، كالحيض.

و يظهر من بعضهم «6» اشتراط الوضوء أيضاً؛ لقولهم: يحلّ وطؤها إذا فَعَلَت ما تفعله المستحاضة.

و لما رواه زرارة، قال‌

المستحاضة تكفّ عن الصلاة أيّام أقرائها، و تستظهر بيوم أو يومين، و إذا حلّت لها الصلاة حلّ لزوجها وطؤها «7»

و في «إذا» معنى الشرط، فينتفي حلّ الوطي عند انتفاء حلّ الصلاة، و هي مشروطة بالوضوء معه.

و بالغ المفيد رحمه اللّه، فحرّم الوطء قبل نزع الخرق و غسل الفرج بالماء «8» أيضاً؛ لأنّهما من محلّلات الصلاة.

و استقرب في المعتبر كون المنع على الكراهة المغلّظة؛ لأنّه دم مرض و أذى، فالامتناع فيه عن الزوجة أولى و ليس بمحرَّم. «9» و اختاره الشهيد؛ لعموم فَإِذٰا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ «10»

______________________________
(1) نهاية الإحكام 1: 127.

(2) النهاية: 29؛ المبسوط 1: 67.

(3) منهم: الشيخ المفيد في المقنعة: 57؛ و ابن الجنيد و السيّد المرتضى كما في المعتبر 1: 248 في ظاهر كلامهم.

(4) في المصدر: «مالك» بدل «عبد الملك». و في الذكرى 1: 250 كما في المتن.

(5) التهذيب 1: 402/ 1257، عن الإمام الباقرُ؛ و في الذكرى 1: 250 عن الإمام الصادقُ كما في المتن.

(6) كالشيخ المفيد في المقنعة: 57؛ و الشيخ الطوسي في المبسوط 1: 67.

(7) التهذيب 1: 401/ 1253.

(8) المقنعة: 57.

(9) المعتبر 1: 248.

(10) البقرة (2): 222.

235
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

6الاستحاضة الكثيرة ؛ ج‌1، ص : 231

يريد اغتسلن من الحيض و نِسٰاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّٰى شِئْتُمْ «1» و إِلّٰا عَلىٰ أَزْوٰاجِهِمْ أَوْ مٰا مَلَكَتْ أَيْمٰانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ.+ «2»

و لما رواه عبد اللّه بن سنان عن الصادق عليه السّلام، قال: سمعته يقول‌

المستحاضة لا بأس أن يأتيها بعلها إلا أيّام قرئها. «3»

و لما روي أنّ حمنة بنت جحش كانت مستحاضةً و كان زوجها يجامعها. «4» و كذا امّ حبيبة. «5»

و لأنّ الوطء لا يشترط فيه خلوّ الموطوءة من الحدث كالمرأة الجنب إلا ما خرج بنصّ خاصّ، كالحائض و المنقطعة على الخلاف. و لأصالة الحلّ، السالم عن المعارض الشرعي. «6»

فإن قيل: ما ذكرتموه من الأحاديث دالّ على جواز وطي المستحاضة و نحن نقول به لكن مع فعل ما يجب عليها، فما المانع من كون ما تضمّنه من الحلّ مشروطاً بذلك؟

قلنا: الألفاظ مطلقة، و الأصل عدم الاشتراط.

و الجواب عن الرواية الأُولى: بحمل الغسل فيها على غسل الحيض، بل هو الظاهر؛ لعدم دلالته على غسل الاستحاضة.

و عن الثانية: بأنّ المراد بحلّ الصلاة الخروج من الحيض أو الغسل منه؛ لأنّ الحيض لمّا كان مانعاً من الصلاة كان حلّ الصلاة بالخروج منه، كما يقال: لا تحلّ الصلاة في الدار المغصوبة فإذا خرج حلّت، فإنّ معناه زوال المانع الغصبي و إن كان بعد الخروج يفتقر إلى الطهارة و غيرها من الشروط، و هذا و إن لم يكن معلوماً لكنّه محتمل، و مع الاحتمال لا يكون دليلًا، أو يُحمل عليه و إن كان دليلًا؛ جمعاً بينه و بين غيره من الأدلّة.

و عن كونه أذى: بأنّه قياس لا يأتي عندنا.

و أمّا توقّفه على الوضوء و باقي الأفعال ففي غاية البُعد؛ إذ لا تعلّق لها بالوطي.

______________________________
(1) البقرة (2): 223.

(2) المؤمنون (23): 6.

(3) الكافي 3: 90/ 5؛ التهذيب 1: 171/ 487.

(4) سنن أبي داوُد 1: 83/ 310؛ سنن البيهقي 1: 487 488/ 1562.

(5) سنن أبي داوُد 1: 83/ 309؛ سنن البيهقي 1: 487/ 1561.

(6) الذكرى 1: 250.

236
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

6الاستحاضة الكثيرة ؛ ج‌1، ص : 231

قال في الذكرى: و ما أقرب الخلاف هنا من الخلاف في وطئ الحائض قبل الغسل. «1»

و قربه غير واضح و إن ناسبه بوجه ما.

و اعلم أنّه يستفاد من قوله: إنّها مع فعل ما يجب عليها بحكم الطاهر فتستبيح الصلاة و غيرها: عدم تأثير الحدث الواقع بعد الطهارة في الاستباحة، سواء وقع قبل الصلاة أم فيها مع مراعاة ما تقدّم من عدم التشاغل بما ليس من أسبابها، و يجب تقييده بأمرين:

أحدهما: كون الحدث الطارئ من جنس المبحوث عنه، فلو تعقّب الطهارة ريح و نحوه، لزمها الوضوء، و حينئذٍ فالأجود وجوب تجديد القطنة و الخرقة. و لو انتقض ببولٍ، وجب تجديدهما أيضاً؛ لأنّ نجاسته غير ما ابتُليت به.

و الثاني: أن لا يطرأ بعد ذلك انقطاعه للبرء قبل الصلاة؛ فإنّه يجب حينئذٍ تجديد الطهارة، و هي ما أوجبه الدم منها قبل الانقطاع، لا الوضوء خاصّة خلافاً للمصنّف «2» تبعاً للشيخ «3» رحمه اللّه لأنّ انقطاع الدم يظهر معه حكم الحدث، و إنّما أُبيحت الصلاة مع الدم للضرورة و قد زالت. و كذا لو انقطع له «4» في أثناء الصلاة.

و إنّما وجب من الطهارة ما كان قبله؛ لأنّ دم الاستحاضة في نفسه حدث يوجب الوضوء تارة و الغسل أُخرى، فإذا انقطع، وجب ما كان يوجبه، و الطهارة السابقة أباحت بالنسبة إلى ما سلف قبلها من الدم.

قال في الذكرى: و هذه المسألة لم نظفر فيها بنصّ من قِبَل أهل البيت عليهم السّلام و لكن ما أفتى به الشيخ هو قول العامّة بناءً منهم على أنّ حدث الاستحاضة يوجب الوضوء لا غير، فإذا انقطع بقي على ما كان عليه، و لمّا كان الأصحاب يوجبون به الغسل فليكن مستمرّاً. «5» انتهى، و هو في غاية الوضوح.

و نظيره ما سبق من حكم المصنّف بعدم اشتراط الغسل في صوم منقطعة الحيض، فإنّه لا يتمّ إلا على مذهب العامّة لأعلى أُصولنا.

______________________________
(1) الذكرى 1: 251.

(2) نهاية الإحكام 1: 128.

(3) المبسوط 1: 68.

(4) أي: للبرء.

(5) الذكرى 1: 252.

237
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

6الاستحاضة الكثيرة ؛ ج‌1، ص : 231

و لو كان انقطاعه بعد الطهارة و قبل الصلاة لغير البرء بل انقطاع فترة إمّا لاعتيادها ذلك أو بإخبار عارف، لم يؤثّر في الطهارة مطلقاً عند الشهيد؛ لأنّه بعوده بعد ذلك كالموجود دائماً. «1»

و اعتبر المصنّف في ذلك قصور الفترة عن الطهارة و الصلاة، فلو طالت بقدرهما، وجبت الإعادة؛ لتمكّنها من طهارة كاملة، فلو لم تُعدها و صلّت فاتّفق عوده قبل الفراغ على خلاف العادة، وجب عليها إعادة الصلاة؛ لدخولها فيها مع الشكّ في الطهارة. «2»

و مثله ما لو شكّت في الانقطاع هل هو للبرء أى لا؟+ أو هل يطول زمانه بمقدار الطهارة و الصلاة أم لا؟ فتجب إعادة الطهارة؛ لأصالة عدم العود، لكن لو عاد قبل إمكان فعل الطهارة و الصلاة، فالوضوء بحاله؛ لعدم وجود الانقطاع المانع من الصلاة مع الحدث.

و إنّما قال المصنّف: إنّها مع فعل ما يجب بحكم الطاهر، و لم يقل: إنّها طاهر؛ لاستمرار حدثها، فلا تكون طاهراً حقيقةً، لكنّها بحكم الطاهر في استباحة ما تستبيحه.

و ربما علّل ذلك بهذيانات لا يخفى فسادها على مَنْ له أدنى تمييز.

(و لو أخلّت) المستحاضة (بالأغسال) الواجبة عليها في حال التوسّط و الكثرة، (لم يصحّ) منها (الصوم؛) للنصّ. «3»

و يظهر من المبسوط التوقّف فيه حيث أسنده إلى رواية الأصحاب. «4»

لكن مع إخلالها بالغسل إنّما يجب عليها القضاء دون الكفّارة، و هو اختيار المصنّف في التذكرة، «5» و الشهيد «6» و جماعة «7»؛ لأصالة عدم وجوبها، و عدم الدليل.

و كذا القول في الحائض و النفساء بطريق أولى؛ لما تقدّم من الخلاف في اشتراط صومهما بالغسل دونها. و أوجب المصنّف في المختلف عليها الكفّارة. «8»

______________________________
(1) الذكرى 1: 251.

(2) نهاية الإحكام 1: 128.

(3) الكافي 4: 136/ 6؛ الفقيه 2: 94/ 419؛ التهذيب 4: 310/ 937.

(4) المبسوط 1: 68.

(5) تذكرة الفقهاء 1: 291.

(6) الذكرى 1: 249.

(7) منهم: الصيمري في كشف الالتباس 1: 244؛ و المحقّق الكركي في جامع المقاصد 1: 344.

(8) لم نعثر عليه في مظانّه.

238
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

6الاستحاضة الكثيرة ؛ ج‌1، ص : 231

و المراد بالأغسال المشترطة في صحّة الصوم الأغسالُ النهاريّة، و لا يشترط في صحّة صوم يومٍ غسلُ الليلة المستقبلة؛ لسبق تمامه، و قد تقدّم.

و هل يشترط في اليوم الحاضر غسل ليلته الماضية؟ وجهان.

و الحقّ أنّها إن قدّمت غسل الفجر ليلًا، أجزأ عن غسل العشاءين إلى الصوم، و إن أخّرته إلى الفجر، بطل الصوم هنا و إن لم نُبطله لو لم يكن غيره.

و اعلم أنّ إطلاقهم الحكم بتوقّف الصوم على الأغسال المعهودة يشعر بعدم وجوب تقديم غسل الفجر عليه للصوم؛ لأنّ المعتبر منه للصلاة ما كان بعد الفجر فليكن للصوم كذلك؛ لجَعلهم الإخلال به مبطلًا للصوم.

و لا يبعد ذلك و إن كان دم الاستحاضة حدثاً في الجملة؛ لمغايرته لغيره من الأحداث على بعض الوجوه.

و يحتمل وجوب تقديمه على الفجر هنا؛ لأنّه حدث مانع من الصوم، فيجب تقديم غسله عليه، كالجنابة و الحيض المنقطع. و لأنّ جَعلَ الصوم غايةً لوجوب غسل الاستحاضة مع الغمس يدلّ عليه؛ لأنّ ما كان غايته منه الفعل يقدّم عليه.

و لأنّ اغتفاره في بعض الأحيان بالنسبة إلى العبادات للمشقّة لا يوجب القياس عليه.

و قطع الشهيد رحمه اللّه بوجوب تقديمه. «1» و توقّف المصنّف في النهاية. «2»

و على القول بوجوب التقديم هل يراعى في فعله تضيّق الليل لفعله بحيث يجب الاقتصار من التقديم على ما يحصل به الغرض، أم يجوز فعله فيه مطلقاً؟ لا ريب أنّ مراعاة التضيّق أحوط؛ تقليلًا للحدث بينه و بين الصلاة بحسب الإمكان.

و لأنّ اغتفار الحدث الطارئ بينه و بينها رخصة، فيقتصر فيها على مواضع الضرورة.

و حكمهم بتقديمه من غير تقييد يشعر بعدم اعتباره.

و جَعَله في الذكرى مع الصوم كغسل منقطعة الحيض. «3» و هو يشعر أيضاً بعدم اعتبار التضيّق.

و يستفاد من توقّف الصوم على الأغسال دون الوضوءات كون الوضوء المصاحب‌

______________________________
(1) الدروس 1: 99.

(2) نهاية الإحكام 1: 129.

(3) الذكرى 1: 249.

239
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

6الاستحاضة الكثيرة ؛ ج‌1، ص : 231

للغسل المكمل به ليس جزءاً من المؤثّر في رفع الحدث الأكبر، و إلا لتوقّف الصوم عليه أيضاً؛ لتوقّفه على ارتفاع حكم الحدث الأكبر بتمامه.

و ربما قيل بتوقّف رفع الأكبر عليهما، فيحكم بفساد الصوم بالإخلال بالوضوء. «1» و هو ضعيف.

و يتفرّع على ذلك عدم وجوب إعادة الغسل المتخلّل بالحدث الأصغر؛ إذ لا دَخْل للوضوء في رفع الحدث الأكبر، و لا يوجب الأصغر سوى الوضوء، فتكفي إعادة الوضوء بعد الغسل إن كانت قدّمته عليه، و إنّما لم يثبت هذا الحكم في غسل الجنابة؛ لعدم مجامعته للوضوء، و امتناع خلوّ الحدث عن أثرٍ، و عدم صلاحية ما بقي من أفعال الغسل لكمال التأثير، و قد تقدّم تحقيق ذلك كلّه.

(و لو أخلّت بالوضوء) المصاحب للغسل أو المنفرد عنه (أو) أخلّت (بالغسل) أو بباقي ما يجب عليها من الأفعال، كتغيير القطنة و الخرقة و غَسل ما ظهر من المحلّ، (لم تصحّ صلاتها؛) لتوقّف الصلاة على رفع الحدث و الخبث معاً على هذا الوجه، فمع إخلالها ببعض ما ذكر إمّا محدثة أو ذات نجاسة لم يُعف عنها.

و بما ذكرنا يظهر قصور العبارة، و أنّ ترك ذكره للإخلال بالأفعال لا وجه له.

و الطواف حكمه حكم الصلاة، فيُبطله الإخلال بشي‌ء من الأفعال.

و الظاهر أنّ حكم اللبث في المساجد غير المسجدين مع أمن التلويث و قراءة العزائم حكم الصوم، فيعتبر فيهما الغسل خاصّة إن لم نجوّز لها دخول المساجد مطلقاً و إن كان ما تقدّم من العبارة يوهم توقّفهما على جميع الأفعال.

(و غسلها كالحائض) في جميع الأحكام حتى في الاحتياج معه إلى الوضوء على أصحّ القولين قبله على الأفضل أو بعده، و في جواز نيّة الرفع فيهما و الاستباحة إذا وقعا بعد الانقطاع، أمّا قبله فتتعيّن الاستباحة على المشهور. و فيه بحث لا يدخل هذا المقام.

و يستثنى من ذلك وجوب الموالاة، فإنّها معتبرة في هذا الغسل خاصّة إذا لم يكن للبرء؛ تقليلًا للحدث.

(و لا تجمع بين الصلاتين بوضوء) ردّ بذلك على المفيد حيث اكتفى بوضوءٍ واحد‌

______________________________
(1) الشيخ الطوسي في المبسوط 1: 288.

240
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

6الاستحاضة الكثيرة ؛ ج‌1، ص : 231

للظهرين، و وضوء للعشاءين كالغسل. «1»

و هذا كالتكرار لقوله قبل‌

و الوضوء لكلّ صلاة

و إن كان قد يعتذر عنه بأنّ وجوب الوضوء لكلّ صلاة أعمّ من جواز الصلاة بدون الوضوء، فإنّ مطلق الوجوب لا يقتضي الشرطيّة، فذكره هنا تنبيهاً على الاشتراط مع الوجوب.

و ما يقال من أنّ وجوب الطهارات بمعنى الشرط للصلاة أمر مشتهر غني عن الإيضاح لا يدفع أصل الاحتمال و توهّم كونه أعمّ من الشرط، فلا يدلّ عليه بالخصوص.

و على كلّ حال فليس للمستحاضة أن تجمع بين صلاتين بوضوءٍ واحد، سواء في ذلك الفرضُ و النفلُ، بل لا بدّ لكلّ صلاة من وضوء، أمّا غسلها فللوقت تصلّي به ما شاءت من الفرض و النفل أداءً و قضاءً مع الوضوء لكلّ صلاة و تغيير القطنة و الخرقة و غَسل المحلّ إن أصابه الدم.

و لو أرادت الصلاة في غير الوقت، اغتسلت لأوّل الورد، و عملت باقي الأفعال لكلّ صلاة.

و كذا القول لو أرادت صلاة الليل، لكن يكفيها الغسل عن إعادته للصبح على ما مرّ من التفصيل.

تنبيه: يجب على المستحاضة الاستظهار في منع الدم من التعدّي بحسب الإمكان، و قد ورد ذلك في خبر معاوية بن عمّار، قال‌

تحتشي و تستثفر. «2»

و الاستثفار مأخوذ من ثفر الدابّة، يقال: استثفر الرجل بثوبه: إذا ردّ طرفه بين رِجْليه إلى معقد إزاره.

و المراد به هنا التلجّم بأن تشدّ على وسطها خرقة، كالتكّة، و تأخذ خرقة أُخرى و تعقد أحد طرفيها بالأُولى من قُدّام، و تُدخلها بين فخذيها و تعقد الطرف الآخر من خلفها بالأُولى، كلّ ذلك بعد غَسل الفرج و حشوه قطناً قبل الوضوء.

و لو احتبس الدم بالحشو خاصّة، اقتصرت عليه، كلّ ذلك مع عدم الضرر باحتباس الدم، و إلا سقط الوجوب للحرج.

______________________________
(1) المقنعة: 57.

(2) الكافي 3: 88 89/ 2؛ التهذيب 1: 106 107/ 277، و 170/ 484.

241
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في النفاس ؛ ج‌1، ص : 242

و كذا يجب الاستظهار على السلس و المبطون؛ لرواية حريز عن أبي عبد اللّه عليه السّلام‌

إذا كان الرجل يقطر منه البول و الدم إذا كان في الصلاة اتّخذ كيساً و جعل فيه قطناً ثمّ علّقه عليه ثمّ صلّى يجمع بين صلاتي الظهر و العصر بأذانٍ و إقامتين، و يؤخّر المغرب و يعجّل العشاء بأذانٍ و إقامتين، و يفعل مثل ذلك في الصبح. «1»

و لاشتراك الجميع في النجاسة، فيجب الاحتراز منها بقدر الإمكان، فلو خرج الدم أو البول بعد الاستظهار و الطهارة، أُعيدت بعد الاستظهار إن كان لتقصيرٍ فيه، و إلا فلا؛ للحرج. و يمتدّ الاستظهار إلى فراغ الصلاة.

و لو كانت صائمةً، فالظاهر وجوبه جميع النهار؛ لأنّ تأثير الخارج في الغسل و توقّف الصوم عليه يشعر بوجوب التحفّظ كذلك، و به قطع المصنّف. «2»

أمّا الجرح الذي لا يرقأ و ما ماثله فلا يجب شدّه، بل تجوز الصلاة و إن كان سائلًا.

و يفارق السلس و المبطون و المجروح المستحاضةَ في عدم وجوب تغيير الشداد عند كلّ صلاة عليهم دونها؛ لاختصاصها بالنصّ، و التعدّي قياس لا يتمّ عندنا.

و جَعَل في الذكرى وجوب تغييره للسلل و المبطون أحوط. «3»

[القول في النِّفاس]

(و أمّا النِّفاس) بكسر النون (فدم الولادة) مأخوذ من تنفّس الرحم بالدم، أو من النفس التي هي الولد؛ لخروج الدم عقيبه، يقال: نفست المرأة و نفست بضمّ النون و فتحها مع كسر الفاء فيهما، و في الحيض بفتح النون لا غير، و الولد منفوس. و منه الحديث‌

لا يرث المنفوس حتى يستهلّ صائحاً «4»

و المرأة نفساء بضم النون و فتح الفاء، و الجمع نِفاس بكسر النون، مثل عشراء و عشار، و لا ثالث لهما.

و لا خلاف عندنا في كونه دم الولادة، فلو ولدت و لم تر دماً، فلا نفاس بل و لا حدث؛ لأصالة البراءة من ثبوت الأحكام المترتّبة عليه، و عدم الدليل.

و المراد بدم الولادة، الخارج (معها) و تصدق المعيّة بمقارنته خروج جزء ممّا يُعدّ آدمياً أو مبدأ نشوء آدميّ و إن كان مضغةً مع اليقين، إمّا العلقة و هي القطعة من الدم الغليظ فلا؛

______________________________
(1) الفقيه 1: 38/ 146؛ التهذيب 1: 348/ 1021.

(2) نهاية الإحكام 1: 126.

(3) الذكرى 1: 257.

(4) الكافي 7: 156/ 6 نحوه.

242
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في النفاس ؛ ج‌1، ص : 242

لعدم اليقين.

و ألحقها المصنّف في النهاية بالمضغة مع شهادة القوابل. «1»

و قال في الذكرى: و لو فرض العلم بأنّه مبدأ نشوء إنسان بقول أربع من القوابل، كان نفاساً. «2»

و توقّف فيه بعض المحقّقين؛ لانتفاء التسمية. «3»

و لا وجه له بعد فرض العلم. و لأنّا إن اعتبرنا مبدأ النشوء، فلا فرق بينها و بين المضغة مع العلم.

نعم، قد يناقش في إمكان العلم بذلك، و هو خارج عن الفرض.

و تصدق المعيّة بخروج الجزء و إن كان منفصلًا، و لو لحقه الباقي، كان كولادة التوأمين، فابتداء النفاس من الأوّل، و غايته من الأخير، و سيأتي تحقيقه.

و هذا الحكم و هو كون الخارج مع الولادة نفاساً هو المشهور؛ لتناول إطلاق النصوص له، و حصول المعنى المشتقّ منه فيه.

و خالف فيه السيّد المرتضى، و خصّه بالخارج بعدها. «4»

و لا فرق عند غيره بين الخارج معها (أو بعدها) لكنّه هنا إجماع.

و تتحقّق البعديّة بخروج الدم بعد تمام الولد أو ما هو مبدأ نشوية، كما تقدّم.

و (لا) يتحقّق النفاس بخروج الدم (قبلها) و إن كان في زمن الطلق، بل هو استحاضة تلحقه أحكامها إلا مع إمكان كونه حيضاً بناء على إمكان حيض الحامل، كما هو الأصحّ.

لكن هل يشترط فيه كونه بحيث يتخلّل بينه و بين النفاس أقلّ الطهر إمّا بنقاء أو بما يحكم بكونه استحاضةً، كالخارج بعد العادة متجاوزاً لأكثره؟ يحتمله؛ لحكمهم بأنّ النفاس كالحيض، و لأنّه حيض محتبس. و عدمه؛ لعدم كون النفاس حيضاً حقيقيّا، و عدم استلزام المشابهة اتّحاد الحقيقة و عموم الأحكام بل فيما حصلت به المشابهة، فالمتّصل بالولادة ممّا دون العشرة استحاضة و إن كان بصفة الحيض على الأوّل، و حيض مع بلوغه أقلَّه‌

______________________________
(1) نهاية الإحكام 1: 130.

(2) الذكرى 1: 259.

(3) المحقّق الكركي في جامع المقاصد 1: 346.

(4) جُمل العلم و العمل: 57؛ مسائل الناصريّات: 173، المسألة 64.

243
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في النفاس ؛ ج‌1، ص : 242

فصاعداً على الثاني.

و استقرب المصنّف في النهاية الأوّل. «1»

و الوجهان آتيان في الدم المتعقّب للنفاس متّصلًا به مع اتّصافه بصفة الحيض أو وقوعه في العادة أو منفصلًا من دون انقضاء أقلّ الطهر.

لكن في الأخبار الصحيحة دلالة على اشتراط تخلّل الطهر بين النفاس و الحيض المتعقّب له، فيحكم به. و يلزم مثله في الأوّل؛ إذ لا قائل بالفرق. و في حديث عمّار الساباطي «2» في الطلق ما يدلّ على الأوّل أيضاً.

(و لا حدّ لأقلّه) فجاز أن يكون لحظةً باتّفاقنا، بل يجوز عدمه أصلًا، كالمرأة التي ولدت في عهد رسول اللّهُ، فسُمّيت [ذات «3»] الجفوف. «4»

و تقدير القلّة باللحظة لا يفيد التقدير؛ لعدم انضباط زمانها، و إنّما يذكر مبالغةً في القلّة، كقوله عليه السّلام‌

تصدّقوا و لو بتمرة و لو بشقّ تمرة «5»

فإنّ ذلك ليس لتقدير الصدقة المندوبة؛ إذ لا تقدير لها شرعاً، و إنّما يذكر ذلك مبالغةً في قبول القليل.

و اختلف في أكثره.

و الذي دلّت عليه الأخبار الصحيحة ما اختاره المصنّف هنا (و) هو: أنّ (أكثره عشرة أيّام للمبتدئة) في الحيض (و المضطربة) العادة فيه إمّا بنسيانها وقتاً و عدداً، أو عدداً و إن ذكرت الوقت، (أمّا ذات العادة المستقرّة في الحيض فأيّامها) تجعلها نفاساً، و الباقي إن اتّفق استحاضة، كلّ ذلك مع تجاوز دمها العشرة، و إلا فالجميع نفاس مطلقاً.

و قد نبّه المصنّف «6» على ذلك في غير هذا الكتاب، و في قوله بَعدُ‌

و لو رأت العاشر فهو النفاس

من غير تفصيل إيماء إليه أيضاً، و سيأتي توضيحه.

و يجوز لذات العادة دون العشرة الاستظهار بيوم أو يومين، كما تقدّم في الحائض، و قد‌

______________________________
(1) نهاية الإحكام 1: 131.

(2) الكافي 3: 100/ 3؛ الفقيه 1: 56/ 211؛ التهذيب 1: 403/ 1261.

(3) أضفناها من المصدر.

(4) المغني لابن قدامة 1: 393.

(5) الكافي 4: 4/ 11.

(6) انظر: نهاية الإحكام 1: 132.

244
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في النفاس ؛ ج‌1، ص : 242

ورد ذلك في عدّة أحاديث. «1»

و يجوز لها الاستظهار إلى تمام العشرة، كالحائض، و قد ورد ذلك في بعض الأحاديث عن الصادق. عليه السّلام «2» و لا اعتبار بعادة النفاس اتّفاقاً، لقوله عليه السّلام‌

تكفّ عن الصلاة أيّام أقرائها التي كانت تمكث فيها «3»

و نحوه، و هو صريح في عادة الحيض.

و اعلم أنّ الأخبار الصحيحة لم يصرّح فيها برجوع المبتدئة و المضطربة إلى عشرة، بل إنّما صرّح فيها بأنّه لذات العادة في الحيض عادتها، و لكن فيها إشعار بذلك؛ لأنّه ورد في بعضها الاستظهار إلى العشرة، «4» كالحائض، فلو كان أكثره أقلّ منها، لم يستظهر إليها.

و قال الشيخ في التهذيب: جاءت أخبار معتمدة في أنّ أقصى مدّة النفاس عشرة، و عليها أعمل؛ لوضوحها عندي. «5» و ذَكَر الأخبار التي لم تصرّح إلا بالرجوع إلى العادة.

و جَعَل المصنّف في المختلف أكثره لذات العادة عادتها؛ للأخبار المؤمى إليها، و للمبتدئة ثمانية عشر «6»؛ لما روي أنّ أسماء بنت عميس أمرها رسول اللّهُ أن تغتسل لثمانية عشر، «7» و غيره «8» من الأخبار. و حُملت على التقيّة.

و في بعض الأخبار عن الصادق عليه السّلام‌

أن سؤال أسماء كان عقيب الثمانية عشر فأمرها بالغسل، و لو سألته قبلها لأمرها. «9»

قال الشيخ رحمه اللّه بعد اختياره العشرة بالأخبار المعتمدة: و ما فيه الزيادة عن العشرة فالكلام عليه من وجوه:

أحدها: أنّها أخبار آحاد مختلفة الألفاظ متضادّة المعاني لا يمكن العمل على جميعها؛

______________________________
(1) انظر: الكافي 3: 99/ 6؛ و التهذيب 1: 173/ 496، و 175/ 501؛ و الاستبصار 1: 151/ 521.

(2) التهذيب 1: 175 176/ 502؛ الإستبصار 1: 151/ 522.

(3) الكافي 3: 97 98/ 1؛ التهذيب 1: 173/ 495، و 175/ 499؛ الاستبصار 1: 150/ 519.

(4) انظر: الهامش (2).

(5) التهذيب 1: 174 ذيل الحديث 498؛ و لا يخفى أنّ قوله: «جاءت .. عندي» من كلام الشيخ المفيد في المقنعة: 57 أورده الشيخ الطوسي في التهذيب.

(6) مختلف الشيعة 1: 216، المسألة 157.

(7) التهذيب 1: 178/ 511، و 180/ 515؛ الاستبصار 1: 153/ 531.

(8) التهذيب 1: 177/ 508؛ الإستبصار 1: 152/ 525.

(9) الكافي 3: 98 99/ 3؛ التهذيب 1: 178 179/ 512؛ الاستبصار 1: 153 154/ 532.

245
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في النفاس ؛ ج‌1، ص : 242

لتضادّها، و لا على بعضها؛ لأنّه ليس بعضها بالعمل عليه أولى من بعض.

و الثاني: أنّه يحتمل أن يكون خرجت مخرج التقيّة؛ لأن كلّ مَنْ يخالفنا يذهب إلى أن أيّام النفاس أكثر ممّا نقوله، و لهذا اختلفت ألفاظ الأحاديث كاختلاف العامّة في مذاهبهم، فكأنّهم عليهم السّلام أفتوا كلّ قوم منهم على حسب ما عرفوا من رأيهم و مذاهبهم.

و الثالث: أنه لا يمتنع أن يكون السائل سألهم عن امرأة أتت عليها هذه الأيّام فلم تغتسل، فأمروها بعد ذلك بالاغتسال و أن تعمل كما تعمل المستحاضة، و لم يدلّ على أنّ ما فعلت المرأة في هذه الأيّام كان حقّا.

قال: و الذي يكشف عمّا قلناه ما رواه محمّد بن يعقوب عن عليّ بن إبراهيم عن أبيه رفعه، قال: سألت امرأة أبا عبد اللّه عليه السّلام، فقالت: إنّي كنت أقعد في نفاسي عشرين يوماً حتى أفتوني بثمانية عشر يوماً، فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام‌

و لِمَ أفتوك بثمانية عشر يوماً؟

فقال الرجل: للحديث الذي روي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال لأسماء بنت عميس حين نفست بمحمد بن أبي بكر، فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام‌

إنّ أسماء سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قد أتى لها ثمانية عشر يوماً، و لو سألته قبل ذلك لأمرها أن تغتسل و تفعل كما تفعل المستحاضة «1»

و «2» ثمّ ساق أحاديث كثيرة تدلّ على ذلك.

و أمّا حمل المصنّف لحديث أسماء على المبتدئة «3» فبعيد جدّاً؛ لأنّها تزوّجت بأبي بكر بعد موت جعفر بن أبي طالب، «4» و ولادتها من جعفر عدّة أولاد، و يبعد حينئذٍ عدم حيضها في جميع هذه المدّة مع ولادتها عدّة أولاد و إن كان ذلك داخلًا في حيّز الإمكان.

(و حكمها كالحائض في كلّ الأحكام) الواجبة و المندوبة و المحرّمة و المكروهة و الغسل و الوضوء؛ لأنّه في الحقيقة دم حيض احتبس (إلا) في أُمور:

الأوّل (الأقلّ) فإنّ الإجماع على أنّ أقلّ الحيض ثلاثة في الجملة، و لا حدّ لأقلّ النفاس.

الثاني: في الأكثر؛ للخلاف في أكثره، كما عرفت، و الاتّفاق على أكثر الحيض.

الثالث: أنّ الحيض دليل على سبق البلوغ، بخلاف النفاس؛ فإنّ الدلالة حصلت‌

______________________________
(1) الكافي 3: 98- 99/ 3.

 (2) التهذيب 1: 178 179.

(3) مختلف الشيعة 1: 217، المسألة 157.

(4) أُسد الغابة 7: 1514/ 6706.

246
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في النفاس ؛ ج‌1، ص : 242

بالحمل؛ لأنّه أسبق من النفاس، فدلّ على سبق البلوغ على الوضع بستّة أشهر فما زاد. و هذا الوجه ذكره المصنّف في النهاية، «1» و تبعه عليه في الذكرى. «2»

و فيه نظر؛ لأنّ دلالة الحمل عليه لا تمنع من دلالة النفاس أيضاً؛ لإمكان اجتماع دلالات كثيرة، فإنّ هذه الأُمور معرّفات شرعيّة لا علل عقليّة، فلا يمتنع اجتماعها، كما أنّ الحيض غالباً لا يوجد إلا بعد سبق البلوغ بغيره.

الرابع: أنّ العدّة تنقضي بالحيض دون النفاس غالباً، و خرج من الغالب ما لو طُلّقت الحامل من زنا، فإنّ النفاس حينئذٍ يُعدّ قُرءاً، فإن رأت قُرءين في زمان الحمل، انقضت العدّة بظهور النفاس أو انقطاعه على الخلاف، و لو لم يتقدّمه قُرءان، عدّ في الأقراء.

الخامس: أنّ الحائض ترجع إلى عادتها في الحيض عند التجاوز، بخلاف النفساء؛ فإنّها إنّما ترجع إلى عادة الحيض لا النفاس.

السادس: أنّ الحائض ترجع إلى نسائها في الحيض على بعض الوجوه، و لا ترجع النفساء إليهنّ في النفاس إلا على رواية «3» شاذّة.

السابع: أنّ النفساء لا ترجع إليهنّ أيضاً في الحيض إذا كانت مبتدئةً، و لا هي و المضطربة إلى الروايات، و لا هُما و ذات العادة إلى التمييز.

الثامن: قيل: لا يشترط أن يكون بين الحيض و النفاس أقلّ الطهر سابقاً و لاحقاً، بخلاف الحيضتين، و قد تقدّم الكلام فيه.

التاسع: أنه لا يشترط في النفاسين أقلّ الطهر، كما في التوأمين، بخلاف الحيضتين أيضاً.

العاشر: في نيّة الغسل إذا أرادت تخصيص الحدث الموجب للغسل، فإنّ هذه تنوي النفاس و تلك الحيض. فهذه اثنا عشر فرقاً؛ لأنّ السابع يشتمل على ثلاثة.

تنبيه: ممّا يترتّب على اتّفاقهما في الأحكام غير ما ذُكر أنّ النفساء لو استُحيضت بأن تجاوز دمها العشرة، فإن كانت مبتدئةً أو مضطربةً، جعلتا ما بعد العشرة استحاضةً حتى يدخل الشهر المتعقّب للذي ولدتا فيه، فترجعان في الدم الموجود في الشهر الثاني إلى‌

______________________________
(1) نهاية الإحكام 1: 133.

(2) الذكرى 1: 364.

(3) التهذيب 1: 403/ 1262.

247
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في النفاس ؛ ج‌1، ص : 242

التمييز، ثمّ ترجع المبتدئة إلى نسائها، ثمّ ترجعان إلى الروايات. و إن كانت ذات عادة، جعلت بقدر عادتها في الحيض من الدم نفاساً، و الباقي استحاضةً إلى تمام طهرها المعتاد، ثمّ ما بعده حيضاً.

اللّهمّ إلا أن يتغيّر لون الدم بحيث تستفيد منه تمييزاً لا ينافي أيّام النفاس، فتجعل أيّام التمييز حيضاً، كما لو رأت بعد عشرة أيّام فصاعداً من انقضاء أيّام النفاس دماً أسود بعد أن كانت تراه أحمر أو دونه و استمرّ السواد ثلاثة فما زاد و لم يعبر عشرة، إلى آخر ما ذُكر في التمييز، فتجعل السواد حيضاً؛ لأنّ أيّام النفاس قائمة مقام العادة في الحيض.

و قد أسلفنا في الحيض أنّ العادة تُقدّم على التمييز مع تنافيهما لا مع إمكان الجمع بينهما. و على ما فرضناه يمكن الجمع.

هذا كلّه مع استمرار الدم، أمّا لو انقطع ثمّ عاد بعد مضيّ أقلّ الطهر من انقضاء النفاس، فالعائد حيض مع إمكانه و إن كان في شهر الولادة، فتأمّل ذلك" فقلّما يستفاد بأجمعه من كلام مجتمع مع عموم البلوى به.

(و لو تراخت ولادة أحد التوأمين) و هما الولدان في بطنٍ واحد، يقال: هذا توأم هذا، و هذه توأمة هذه (فعدد أيّامها من) التوأم (الثاني) لصدق الولادة عنده، فما بعده دم الولادة قطعاً.

(و ابتداؤه) أي ابتداء نفاسها (من) ولادة (الأوّل) لصدق الاسم فيه، غايته تعدّد العلّة.

و ظاهر العبارة كونهما نفاساً واحداً، و هو مبنيّ على الغالب من تعاقب ولادتهما، فيتّحد النفاس بحسب الصورة. و في التحقيق لكلّ واحد نفاس مستقلّ؛ لانفصال كلّ من الولادتين عن الأُخرى، فإن وضعت الثاني لدون عشرة، أمكن اتّصال النفاسين.

و لو تراخت ولادة الثاني بحيث يمكن فرض استحاضة بين النفاسين، حكم به، بل يمكن فرض حيض أيضاً و إن بَعُدَ.

و يتفرّع على كونهما نفاسين ما لو ولدت الثاني لدون عشرة من ولادة الأوّل و لم تر بعد ولادة الأوّل إلا يوماً واحداً مثلًا و انقطع في باقي الأيّام المتخلّلة بينهما، فإنّه يحكم بكونها طهراً و إن رأت بعد ولادة الثاني في العشرة و انقطع عليها، بخلاف ما لو حكم بكونهما نفاساً واحداً كما يقتضيه ظاهر العبارة، فإنّه يلزم كون الدمين و النقاء المتخلّل بينهما‌

248
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في النفاس ؛ ج‌1، ص : 242

نفاساً، كما سيأتي.

و تردّد المحقّق في المعتبر في كون الدم الحاصل قبل ولادة الثاني نفاساً من حيث إنّها حامل، و لا نفاس مع الحمل. ثمّ اختار كونه نفاساً أيضاً؛ لحصول مسمّى النفاس فيه، و هو تنفّس الرحم به بعد الولادة، فيكون لها نفاسان. «1» (و لو رأت) الدم (يوم العاشر) خاصّة (فهو النفاس) لما تقدّم من أنّه متى انقطع على العشرة فما دون فالجميع نفاس كالحيض، و لمّا كان النفاس هو الدم و لم يوجد إلا في العاشر، كان هو النفاس خاصّة. و لو فرض رؤية العاشر و تجاوزه، لم يتمّ ما ذُكر إلا عند مَنْ يرى أكثره عشرة مطلقاً.

أمّا على مذهب المصنّف فإنّما يحكم بكونه نفاساً مع التجاوز للمبتدئة و المضطربة و لمن عادتها عشرة، أمّا لو كان عادتها أقلّ، لم يكن لها نفاس إلا مع رؤيته في جزء من العادة، فيكون هو النفاس خاصّة، و هذا كلّه واضح و إن كانت العبارة لا تفي به.

(و لو رأته) أي العاشر (و الأوّل) خاصّة (فالعشرة نفاس) كما أنّ الحائض لو رأته ثلاثة و انقطع ثمّ رأت العاشر و انقطع، فالدمان و ما بينهما حيض.

هذا مع انقطاعه على العاشر، كما تقدّم.

و لو فرض تجاوزه العشرة، فكذلك إن كانت مبتدئةً أو مضطربةً أو عادتها عشرة، و إلا فنفاسها الأوّل خاصّة، إلا أن يصادف الثاني جزءاً من العادة، فجميع العادة نفاس، لكن يجب عليها الاستبراء بالقطنة، و الاغتسال مع النقاء بعد الانقطاع الأوّل، و العبادة؛ لجواز عدم عوده، و أصالة عدمه، فإذا عاد في العشرة كما ذكر، تبيّن بطلان ما فعلَت، فتقضي صومه. و حكمها في هذا النقاء في اغتفار الوطئ و العبادة كما تقدّم في الحائض.

و يتفرّع على الحكم بكون الأوّل خاصّة نفاساً إمكان الحكم بالحيض من الثاني عشر فصاعداً إن استفادت منه تمييزاً، أو لم تر في العاشر و رأت الثاني عشر و ما بعده ثلاثة، فإنّه يحكم بكونه حيضاً؛ لإمكانه.

و لو فرض رؤيتها لحظةً بعد الولادة و انقطع ثمّ عاد بعد لحظة من الحادي عشر و استمرّ ثلاثة فصاعداً و لم يتجاوز العشرة، حكم بكونها حيضاً أيضاً.

______________________________
(1) المعتبر 1: 257.

249
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

المقصد الرابع: في غسل الأموات ؛ ج‌1، ص : 250

[المقصد الرابع: في غسل الأموات]

(المقصد الرابع: في غسل الأموات) و ما يتبعه من التكفين و التحنيط و الدفن، و ما يندرج فيه من غسل المسّ.

و إنّما عنون هذا المقصد بغسل الأموات، و ذكر في المقاصد السابقة ماهيّات الأسباب؛ لاشتراك الأغسال السابقة في الماهيّة، فاكتفى بذكرها في الجنابة، و بحث في الباقية عن الأسباب، بخلاف غسل الأموات؛ لمغايرته لها في الكيفيّة و الحكم، فعنون المقصود به.

(و هو) أي غسل الأموات (فرض) واجب على الأحياء المكلّفين إجماعاً، و فيه مع وجوبه أجر جزيل و فضل عظيم.

روى الشيخ أبو جعفر الكليني بإسناده إلى سعد الإسكاف عن الباقر قال‌

أيّما مؤمن غسّل مؤمناً فقال إذا قلّبه: اللّهمّ إنّ هذا بدن عبدك المؤمن قد أخرجتَ روحه منه و فرّقتَ بينهما، فعفوك عفوك، إلا غفر اللّه عزّ و جل له ذنوب سنة إلا الكبائر. «1»

و عنه عليه السّلام‌

مَنْ غسّل مؤمناً فأدّى فيه الأمانة غفر اللّه له، و هو أن لا يخبر بما يرى. «2»

و عنه عليه السّلام‌

فيما ناجى به موسى ربّه تبارك و تعالى: يا ربّ ما لمن غسّل الموتى؟ قال: أغسله من ذنوبه كما ولدته امّه. «3»

و وجوبه (على الكفاية) لأعلى الأعيان؛ لأنّ الغرض إدخاله في الوجود، و هو يحصل بالوجوب الكفائي، و لا غرض «4» يتعلّق فيه بالمباشر المعيّن.

______________________________
(1) الكافي 3: 164/ 1

(2) الكافي 3: 164/ 2.

(3) الكافي 3: 164/ 4.

(4) في «ق، م»: «إذ لا غرض» بدل «و لا غرض».

250
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

المقصد الرابع: في غسل الأموات ؛ ج‌1، ص : 250

(و كذا) القول في (باقي الأحكام) المتعلّقة بالميّت من توجيهه إلى القبلة و تكفينه و تحنيطه و حفر قبره و نقله إليه، لا بذل الكفن و الحنوط و ماء الغسل، فإنّه مستحبّ، كما سيأتي.

و المراد بالواجب الكفائي هنا: مخاطبة كلّ مَنْ علم بموته من المكلّفين ممّن يمكنه مباشرة ذلك الفعل به استقلالًا أو منضمّاً إلى غيره حتى يعلم تلبّس مَنْ فيه الكفاية به، فيسقط حينئذٍ عنه سقوطاً مراعىً باستمرار الفاعل عليه حتى يفرغ. و لو لا اعتبار المراعاة، لزم عدم وجوب الفعل عند عروض مانع للفاعل عن الإكمال، و هو باطل.

و اعتبر المصنّف «1» و جماعة «2» في [سقوط] التكليف به الظنّ الغالب؛ لأنّ العلم بأنّ الغير يفعل كذا في المستقبل ممتنع و لا تكليف به، و الممكن تحصيل الظنّ، و لاستبعاد وجوب حضور جميع أهل البلد الكبير عند الميّت حتى يدفن، و نحو ذلك.

و فرّعوا عليه: أنّه لو ظنّ قوم قيام غيرهم به، سقط عنهم، و لو ظنّوا عدمه، وجب عليهم حتى لو ظنّ كلّ فرقة قيام غيرهم، سقط عن الجميع، كما أنّهم لو ظنّوا عدم القيام، وجب عليهم عيناً.

و يشكل بأنّ الظنّ إنّما يقوم مقام العلم مع النصّ عليه بخصوصه أو دليل قاطع، و ما ذُكر لا تتمّ به الدلالة؛ لأنّ تحصيل العلم بفعل الغير في المستقبل ممكن بالمشاهدة و نحوها من الأُمور المثمرة له.

و الاستبعاد غير مسموع، و باستلزامه سقوط الواجب عند عدم العلم بقيام الغير به، و امتناع نيّة الفرض من الظانّ عند إرادته المباشرة، و بأنّ الوجوب معلوم و المسقط مظنون، و المعلوم لا يسقط بالمظنون.

و قال بعض «3» المحقّقين من تلامذة المصنّف: إن كان الظنّ ممّا نصبه الشارع حجّةً كشهادة العَدلَين، جاز الاستناد في إسقاط الوجوب إليه، و إن كان دون ذلك كشهادة الفاسق بل العدل الواحد فلا؛ لما مرّ.

و فيه: أنّ شهادة العَدلَين إن كانت بأنّ الفعل قد وقع، فمسلّم، و إن كانت أنّه يقع أو‌

______________________________
(1) مبادئ الوصول: 106؛ نهاية الوصول، المقصد الرابع: في الأمر و النهي، الفصل الرابع: في أقسام الأمر، البحث الثاني: في الواجب على الكفاية.

(2) منهم: المحقّق الحلّي في معارج الأُصول: 75.

(3) لم نتحقّقه.

251
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

المقصد الرابع: في غسل الأموات ؛ ج‌1، ص : 250

تلبّس به، فجميع ما مرّ «1» آتٍ فيه. و تنقيح هذه المسألة في الأُصول.

و فرض الغسل متحقّق (لكلّ ميّت مسلم و مَنْ هو بحكمه) كالطفل و السقط لأربعة أشهر، و البالغ مجنوناً إذا كان أحد أبويه مسلماً، و لقيط دار الإسلام أو دار الكفر و فيها مسلم صالح للاستيلاد بحيث يمكن إلحاقه به.

و في كون الطفل المسبيّ إذا كان السابي مسلماً، و الطفل المتخلّق من ماء الزاني المسلم بحكم المسلم فيجب تغسيله، نظر من الشكّ في تبعيّة المسبيّ في جميع الأحكام و إنّما المعلوم تبعيّته في الطهارة، و عدم لحوق الثاني بالزاني شرعاً. و من إطلاق الحكم بالتبعيّة و كون الثاني ولداً لغةً فيتبعه في الإسلام كما يحرم نكاحه.

أمّا البالغ المُظهر للإسلام فإنّه يغسّل قطعاً؛ لصحّته منه.

و يدخل في الكلّيّة جميع فِرَق المسلمين، فيجب تغسيل الميّت منهم و إن كان مخالفا للحقّ (عدا الخوارج) و هُم أهل النهروان و مَنْ دان بمقالتهم، و تطلق هذه الفرقة على مَنْ كفّر عليّاً عليه السّلام، و الموجود منهم مَنْ ذُكر (و الغلاة) جمع غالٍ، و هو من اعتقد إلهيّة أحدٍ من الناس، و المراد هنا: من اعتقد إلهيّة عليّ عليه السّلام، و استثناؤهم من المسلمين باعتبار تستّرهم بظاهر الإسلام، و إلا فليسوا منه على شي‌ء، و كان انقطاع الاستثناء بالنسبة إليهم أولى.

و كذا يجب استثناء كلّ مَنْ حُكم بكفره من المسلمين، كالنواصب و المجسّمة، بل كلّ مَنْ قال أو فَعَل ما يقتضي كفره منهم. و ترك ذلك خلل في العبارة.

و خرج بالمسلم أنواع الكفّار ممّن لا ينتحل الإسلام، و أولادهم يتبعونهم في ذلك، و لا فرق بين القريب منهم و البعيد و الزوجة و غيرها.

و لا ريب في عدم جواز تغسيل مَنْ ذُكر و إن كان الاستثناء في العبارة إنّما دلّ على نفي الوجوب.

و كما يحرم تغسيلهم يحرم باقي الأفعال من التكفين و الدفن و الصلاة؛ للآية «2»؛ و لقوله تعالى وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ. «3»

و لأنّ ذلك إكرام لا يصلح للكافر.

______________________________
(1) في «م»: «مضى» بدل «مرّ».

(2) التوبة (9): 84.

(3) المائدة (5): 51.

252
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في أحكام المحتضر ؛ ج‌1، ص : 253

 

و لرواية عمّار عن الصادق عليه السّلام عن النصراني يموت مع المسلمين‌

لا يغسّله و لا كرامة، و لا يدفنه، و لا يقوم على قبره و إن كان أباه. «1»

و جوّز المرتضى مواراته إذا لم يكن له مَن يواريه؛ لئلا يضيع. «2»

(و يُغسّل المخالف غُسلَه) إن أراد المؤمن تغسيله إمّا لتعيّنه عليه أو لا، على كراهة في الثاني.

و المراد بغسله الثابتُ في مذهبه. و لو لم يعرف كيفيّة الغسل عندهم، جاز تغسيله غسل أهل الحقّ.

و منع المفيد من تغسيله إلا لضرورة، كتقيّة، فيغسّله غسل أهل الخلاف، و لا يترك معه جريدة. «3»

و علّله الشيخ في التهذيب: بأنّ المخالف للحقّ كافر، فيجب أن يكون حكمه حكمهم إلا ما خرج بالدليل، و الكافر لا يجوز تغسيله. «4» و نحوه قال ابن البرّاج «5».

و لا يخفى أنّ المراد بالمخالف غير الناصبي و ما ماثله.

و المشهور: الجواز على كراهية.

[القول في أحكام المحتضر]

[يجب عند الاحتضار]

(و يجب) على مَنْ حضر عند المريض، بل على مَنْ سمع به (عند الاحتضار) و هو السَّوق سُمّي به؛ لحضور المريض الموت، أو لحضور إخوانه و أهله عنده، أو لحضور الملائكة عنده لقبض روحه (توجيهه إلى القبلة).

و كيفيّته أن يوضع (على ظهره) و يجعل باطن قدميه إلى القبلة (بحيث لو جلس كان مستقبلًا) لها.

و الحكم بوجوب الاستقبال هو المشهور خبراً و فتوى.

و مستنده من الأخبار السليمة دلالةً و سنداً ما رواه محمّد بن يعقوب عن عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن هشام بن سالم عن سليمان بن خالد قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام‌

______________________________
(1) الكافي 3: 159/ 12؛ الفقيه 1: 95/ 437؛ التهذيب 1: 336335/ 982.

(2) حكاه عنه المحقّق الحلّي في المعتبر 1: 328.

(3) المقنعة: 85.

(4) التهذيب 1: 335.

(5) المهذّب 1: 56.

 

253
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

يجب عند الاحتضار ؛ ج‌1، ص : 253

يقول‌

إذا مات لأحدكم ميّت فسجّوه تجاه القبلة، و كذلك إذا غسّل يحفر له موضع المغتسل تجاه القبلة فيكون مستقبلًا بباطن قدميه و وجهه إلى القبلة. «1»

و أمّا غيره من الأخبار التي استدلّ بها على الوجوب فلا تخلو من شي‌ء إمّا في السند أو في الدلالة إمّا لعدم التصريح بالأمر أو لوروده في واقعة معيّنة.

و علّل في بعضها: بأنه‌

إذا استقبل به أقبلت عليه الملائكة

روي ذلك عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قاله في هاشميّ كان في السَّوق. «2»

و اختار الشيخ في الخلاف الاستحباب، «3» و تبعه في المعتبر ناقلًا عن سائر الجمهور، خلا سعيد بن المسيّب، فإنّه أنكره مستضعفاً للروايات الدالّة على الوجوب. و لأنّ التعليل في الرواية عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كالقرينة الدالّة على الفضيلة، مع أنّه أمر في واقعةٍ. «4»

و نحن قد ذكرنا ما هو المستند.

و قد تقدّم أنّ فرض الاستقبال به كفاية، كباقي أحكامه.

و يسقط الاستقبال به مع اشتباه القبلة؛ لعدم إمكان توجيهه في حالة واحدة إلى الجهات المختلفة. و احتمله في الذكرى. «5»

و الأولى عود ضمير «توجيهه» إلى المسلم و مَنْ في حكمه المذكور سابقاً ليفيد اختصاص الحكم به، كما هو الواقع، لا إلى الميّت؛ لاحتياجه حينئذٍ إلى التقييد.

و لا فرق بين الصغير و الكبير في هذا الحكم؛ للعموم.

و لقد كان ينبغي اختصاص الحكم بوجوب الاستقبال بمن يعتقد وجوبه، فلا يجب توجيه المخالف إلزاماً له بمذهبه، كما يغسّل غسله. و يقتصر في الصلاة عليه على أربع تكبيرات.

و هل يسقط الاستقبال بالموت، أو يجب دوام الاستقبال به حيث يمكن؟ كلّ محتمل.

و وجه الثاني: عموم الأمر، و عدم ذكر الغاية، و ينبّه عليه ذكره حال الغسل في الخبر السابق، «6» و وجوبه حال الصلاة و الدفن و إن اختلفت الهيئة.

______________________________
(1) الكافي 3: 127/ 3؛ التهذيب 1: 286/ 835.

(2) الفقيه 1: 79/ 352.

(3) الخلاف 1: 691، المسألة 466.

(4) المعتبر 1: 258 و 259.

(5) الذكرى 1: 296.

(6) أي خبر سليمان بن خالد، المتقدّم آنفاً.

254
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

و يستحب ؛ ج‌1، ص : 255

و في الذكرى: أنّ ظاهر الأخبار سقوط الاستقبال بموته، و أنّ الواجب أن يموت إلى القبلة. قال: و في بعضها احتمال دوام الاستقبال. «1»

و في استفادة سقوط الاستقبال بموته منها نظر.

[و يستحبّ]

(و يستحبّ التلقين) للمحتضر (بالشهادتين و الإقرار بالأئمّة، و كلمات الفرج).

و المراد بالتلقين التفهيم، يقال: غلام لقن، أي: سريع الفهم.

فعن الصادق عليه السّلام‌

ما من أحدٍ يحضره الموت إلا وكّل به إبليس من شياطينه مَن يأمره بالكفر، و يشكّكه في دينه حتى تخرج نفسه، فمن كان مؤمناً لم يقدر عليه؛ فإذا حضرتم موتاكم فلقّنوهم شهادة أن لا إله إلا اللّه، و أنّ محمّداً رسول اللّه حتى يموت. «2»

و في رواية‌

يلقّنه كلمات الفرج و الشهادتين، و يسمّي له الإقرار بالأئمّة واحداً بعد واحد حتى ينقطع منه الكلام. «3»

و عن أبي بكر الحضرمي: أنّه لقّن رجلًا الشهادتين، و الإقرار بالأئمّة رجلًا رجلًا، فرئي الرجل بعد وفاته، فقال: نجوت بكلمات لقّنيهنّ أبو بكر، و لو لا ذلك كدت أهلك، في حديثٍ «4» طويل.

و قال الصادق عليه السّلام‌

[اعتقل لسان «5»] رجل من أهل المدينة على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في مرضه الذي مات فيه، فدخل عليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فقال له: قل: لا إله إلا اللّه، فلم يقدر عليه، فأعاد عليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فلم يقدر عليه و عند رأس الرجل امرأة، فقال لها: هل لهذا الرجل أُمّ؟ فقالت: نعم يا رسول اللّه أنا امّه، فقال لها: أ راضية أنتِ عنه أم لا؟ فقالت: بل ساخطة، فقال صلّى اللّه عليه و آله: إنّي أُحبّ أن ترضي عنه، فقالت: قد رضيتُ عنه لرضاك يا رسول اللّه، فقال له: قل: لا إله إلا اللّه، فقال: لا إله إلا الله، فقال: قل: يا مَن يقبل اليسير و يعفو عن الكثير اقبل منّي اليسير و اعف عنّي الكثير إنّك أنت العفوّ الغفور، فقالها، فقال له: ماذا ترى؟ قال: أسودين قد دخلا عليّ، قال: فأعدها، فأعادها، فقال:

______________________________
(1) الذكرى 1: 295.

(2) الكافي 3: 123/ 6؛ الفقيه 1: 79/ 353 بتفاوت يسير في بعض الألفاظ.

(3) الكافي 3: 124 ذيل الحديث 6.

(4) الكافي 3: 122- 123/ 4.

(5) بدل ما بين المعقوفين في الطبعة الحجريّة و «ق، م»: «اعتلّ». و ما أثبتناه من المصدر.

255
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

و يستحب ؛ ج‌1، ص : 255

ما ترى؟ قال: قد تباعدا عنّي و دخل الأبيضان و خرج الأسودان فما أراهما، و دنا الأبيضان منيّ فأخذا نفسي، فمات من ساعته. «1»

و لا بدّ من متابعة المريض بلسانه و قلبه إن أمكن، و إلا عقد بها قلبه؛ لقوله صلّى اللّه عليه و آله‌

مَنْ كان آخر كلامه لا إله إلا اللّه دخل الجنّة. «2»

و قوله صلّى اللّه عليه و آله‌

مَن كان آخر قوله عند الموت: أشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، إلا هدمت ما قبلها من الخطايا و الذنوب، فلقّنوها موتاكم

فقيل: يا رسول اللّه كيف هي للأحياء؟ قال‌

هي أهدم و أهدم. «3»

و روى أنه صلّى اللّه عليه و آله حين دخل على رجل من بني هاشم و هو في النزع فلقّنه كلمات الفرج إلى قوله وَ سَلٰامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، وَ الْحَمْدُ لِلّٰهِ رَبِّ الْعٰالَمِينَ، فقالها، فقال‌

الحمد للّه الذي استنقذه من النار. «4»

و ينبغي أن يكون ذلك من الملقّن بلطف و مداراة من غير تكرار يوجب الإضجار. و ليكن آخره لا إله إلا اللّه.

(و نقله إلى مصلاه) و هو الموضع الذي أعدّه في بيته للصلاة، أو الذي كان يكثر فيه الصلاة أو عليه إن تعسّر عليه الموت و اشتدّ به النزع لا مطلقاً و إن كانت العبارة تحتمله؛ لقول الصادق عليه السّلام‌

إذا عسر على الميّت موته قرّب إلى مصه الذي كان يصلّي فيه. «5»

و في حديث زرارة قال‌

إذا اشتدّ عليه النزع، فضعه في مصه الذي كان يصلّي فيه أو عليه. «6»

و عن أبي عبد اللّه عليه السّلام‌

أنّ أبا سعيد الخدريّ قد رزقه اللّه هذا الرأي و أنّه اشتدّ نزعه، فقال: احملوني إلى مصي، فحملوه فلم يلبث أن هلك. «7»

و في حديثٍ آخر عنه عليه السّلام‌

أنّ أبا سعيد الخدريّ كان من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و كان

______________________________
(1) الفقيه 1: 78/ 350.

(2) الفقيه 1: 78/ 348؛ أمالي الصدوق: 434/ 5.

(3) ورد نحوه في المحاسن: 1: 102 103/ 78؛ و ثواب الأعمال: 16/ 3.

(4) الكافي 3: 124/ 9؛ الفقيه 1: 77 78/ 346.

(5) الكافي 3: 125/ 2؛ التهذيب 1: 427/ 1356.

(6) الكافي 3: 126/ 3؛ التهذيب 1: 427/ 1357.

(7) الكافي 3: 126/ 4.

256
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

و يستحب ؛ ج‌1، ص : 255

مستقيماً فنزع ثلاثة أيّام فغسّله أهله ثمّ حمل إلى مصه فمات فيه. «1»

(و التغميض) لعينيه بعد موته معجّلًا؛ لقوله صلّى اللّه عليه و آله‌

إذا حضرتم موتاكم فأغمِضوا البصر، فإنّ البصر يتبع الروح. «2»

و لأنّ فتح عينيه يقبح منظره، و يجوزمعه دخول الهوامّ إليهما، و بعد الإغماض يشبه النائم.

(و إطباق فيه) بعده كذلك؛ للاتّفاق عليه، و لئلا يقبح منظره بدونه و تدخل الهوامّ إلى بطنه.

و كذا يستحبّ شدّ لحييه بعصابة؛ لأمر الصادق عليه السّلام به في ابنٍ له، «3» و فَعَله في ابنه إسماعيل. «4»

و لئلا تسترخي لحياه فينفتح فوه و يلزم ما تقدّم.

(و مدّ يديه) إلى جنبيه و ساقيه إن كانتا منقبضتين، ذكره الأصحاب.

قال المحقّق في المعتبر: و لم أعلم في ذلك نقلا عن أهل البيت عليهم السّلام، و لعلّ ذلك ليكون أطوع للغاسل و أسهل للدرج. «5»

(و تغطيته بثوب) لأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله سُجّي بحِبَرَة. «6» و غطّى الصادق عليه السّلام ابنه إسماعيل بملحفة «7»

و لأنّ فيه ستراً للميّت و صيانةً.

(و التعجيل) لتجهيزه؛ للإجماع.

و لقول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله‌

عجّلوا بهم إلى مضاجعهم. «8»

و قوله عليه السلام‌

إذا مات الميّت لأوّل النهار، فلا يقيل «9» إلا في قبره. «10»

______________________________
(1) الكافي 3: 125/ 1.

(2) سنن ابن ماجة 1: 468/ 1455؛ مسند أحمد 5: 107/ 16686؛ المعجم الكبير للطبراني 7: 291/ 7168.

(3) التهذيب 1: 289/ 841.

(4) التهذيب 1: 289/ 842.

(5) المعتبر 1: 261.

(6) صحيح مسلم 2: 651/ 924؛ سنن البيهقي 3: 541/ 6612.

(7) التهذيب 1: 289/ 842.

(8) الكافي 3: 137/ 1؛ الفقيه 1: 85/ 389؛ التهذيب 1: 427 428/ 1359.

(9) القائلة: الظهيرة. القيلولة: نومة نصف النهار. لسان العرب 11: 577، «ق ى ل».

(10) الكافي 3: 138/ 2؛ التهذيب 1: 428/ 1360.

257
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

و يستحب ؛ ج‌1، ص : 255

و قوله صلّى اللّه عليه و آله‌

كرامة الميّت تعجيله. «1»

و قد ورد استحباب إيذان إخوان الميّت بموته، لقول النبي صلّى اللّه عليه و آله‌

لا يموت منكم أحد إلا آذنتموني. «2»

و قول الصادق عليه السّلام‌

ينبغي لأولياء الميّت منكم أن يؤذنوا إخوان الميّت يشهدون جنازته و يصلّون عليه و يستغفرون له فيكتب لهم الأجر و للميّت الاستغفار، و يكتسب هو الأجر فيهم و فيما اكتسب له من الاستغفار. «3»

و لو كان حوله قرى، اوذنوا، كما فعل الصحابة من إيذان قرى المدينة لمّا مات رافع بن خديج. «4»

و ينبغي مراعاة الجمع بين السّنّتين، فيؤذن من المؤمنين و القرى مَن لا ينافي التعجيل عرفاً.

و لو نافى إعلام بعضهم تعجيله على وجهٍ لا يلزم منه فساد الميّت و لا تشويه خلقته، ففي تقديم أيّهما نظر. و لعلّ مراعاة التعجيل أولى؛ جمعاً بينه و بين أصل سنّة الإيذان، بخلاف ما لو انتظر الجميع، فإنّ سنّة التعجيل تفوت، أمّا لو استلزم الانتظار وقوع أحد الوصفين بالميّت، فلا ريب في تضيّق وجوب التعجيل.

(إلا مع الاشتباه) فلا يجوز التعجيل فضلًا عن رجحانه، بل يرجع إلى الأمارات، أو يصبر عليه ثلاثة أيّام إلا أن يتغيّر قبلها لئلا يعان على قتل امرئ مسلم؛ لقول الصادق عليه السّلام‌

خمسة ينتظر بهم إلا أن يتغيّروا: الغريق، و المصعوق، و المبطون، و المهدوم، و المدخّن. «5»

و عنه عليه السّلام و قد سئل كيف يستبرأ الغريق؟

يترك ثلاثة أيّام قبل أن يدفن إلا أن يتغيّر فيغسّل و يدفن. «6»

و روى عن الكاظم عليه السّلام‌

أنّ أُناساً دُفنوا أحياءً ما ماتوا إلا في قبورهم. «7»

قال المصنّف في النهاية: شاهدت واحداً في لسانه وقفة فسألته عن سببها، فقال:

______________________________
(1) الفقيه 1: 85/ 388.

(2) المستدرك للحاكم 3: 591.

(3) الكافي 3: 166/ 1؛ التهذيب 1: 452/ 1470.

(4) انظر: سنن البيهقي 4: 124/ 7180.

(5) الكافي 3: 210/ 5؛ التهذيب 1: 337- 338/ 988.

(6) التهذيب 1: 338/ 990.

(7) الكافي 3: 210/ 6؛ التهذيب 1: 338/ 991.

258
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

و يكره ؛ ج‌1، ص : 259

مرضت مرضاً شديداً و اشتبه الموت، فغُسّلتُ و دُفنتُ في أزج، «1» و لنا عادة إذا مات شخص فتح عنه باب الأزج بعد ليلة أو ليلتين إمّا زوجته أو امّه أو أُخته أو ابنته، فتنوح عنده ساعة ثمّ تطبق عليه هكذا يومين أو ثلاثة، ففتح عليّ فعطست، فجاءت أُمّي بأصحابي فأخذوني من الأزج، و ذلك منذ سبع عشرة سنة. «2»

و المراد بالأمارات نحو: انخساف صُدغيه، و ميل أنفه، و امتداد جلدة وجهه، و انخلاع كفّه من ذراعه، و استرخاء قدميه، و تقلّص أُنثييه إلى فوق مع تدلّي الجلدة.

قيل: و منه زوال النور من بياض العين و سوادها، و ذهاب النفس و زوال النبض. «3»

و نقل في الذكرى عن جالينوس: أنّ أسباب الاشتباه: الإغماء، و وجع القلب، و إفراط الرعب أو الغمّ أو الفرح أو الأدوية المخدّرة، فيستبرأ بنبض عروق بين الأُنثيين، أو عِرق يلي الحالب «4» و الذكر بعد الغمز الشديد، أو عِرق في باطن الألية أو تحت اللسان أو في بطن المنخر، و منع الدفن قبل يوم و ليلة إلى ثلاثة. «5»

و اعلم أنّ الاستحباب في هذه المواضع كفائيّ، فلا يختصّ بالوليّ و إن كان الأمر فيه آكد، و في بعض الأخبار و عبارات الأصحاب ما يدلّ على اختصاصه بذلك.

[و يكره]

(و يكره طرح الحديد على بطنه) ذكر ذلك الشيخان «6» و جماعة «7» من الأصحاب.

قال الشيخ في التهذيب: سمعناه مذاكرةً من الشيوخ رحمهم اللّه. «8»

و احتجّ في الخلاف على الكراهية بإجماعنا. «9»

و كما يكره طرح الحديد عليه يكره غيره أيضاً، ذكره المصنّف «10» و جماعة.

______________________________
(1) الأَزَجُ: بيت يُبنى طولًا. لسان العرب 2: 208، «أزج».

(2) نهاية الإحكام 2: 218.

(3) القائل هو ابن الجنيد كما في الذكرى 1: 299.

(4) الحالبان: عِرْقان يبتدّان الكُلْيتين من ظاهر البَطْن. و هُما أيضاً عِرْقان أخضران يكتنفان السّرّة إلى البطن. لسان العرب 1: 333، «ح ل ب».

(5) الذكرى 1: 299- 300.

(6) المقنعة: 74، المبسوط 1: 74؛ الخلاف 1: 691، المسألة 467.

(7) منهم: أبو الصلاح الحلبي في الكافي في الفقه: 236؛ و سلار في المراسم: 47؛ و القاضي ابن البرّاج في المهذّب 1: 54؛ و ابن حمزة في الوسيلة: 62؛ و المحقّق في شرائع الإسلام 1: 28؛ و العِمة الحلّي في نهاية الإحكام 2: 216.

(8) التهذيب 1: 290.

(9) الخلاف 1: 691، المسألة 467.

(10) نهاية الإحكام 2: 216؛ تذكرة الفقهاء 1: 342، المسألة 113.

259
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في غسل الميت ؛ ج‌1، ص : 260

و قال ابن الجنيد: يضع على بطنه شيئاً يمنع من رَبوها. «1»- «2» و الإجماع على خلافه.

(و حضور الجنب و الحائض عنده) لثبوت النهي «3» عنه في الأخبار، و في بعضها‌

أنّ الملائكة تتأذّى بذلك. «4»

و الظاهر اختصاص الكراهة بزمان الاحتضار إلى أن يتحقّق الموت؛ لأنّه وقت حضور الملائكة.

و لقول الصادق عليه السّلام‌

لا تحضر الحائض الميّت و لا الجنب عند التلقين، و لا بأس أن يليا غسله. «5»

و قال عليّ بن أبي حمزة للكاظم عليه السّلام: المرأة تقعد عند رأس المريض و هي حائض في حدّ الموت، فقال‌

لا بأس أن تُمرّضه، فإذا خافوا عليه و قرب ذلك فلتتنحّ عنه و عن قربه، فإنّ الملائكة تتأذّى بذلك. «6»

و يحتمل استمرار كراهة الحضور. و الكراهة في الحائض مستمرّة حتى تطهر و تغتسل.

و هل تزول في الجنب بالتيمّم عند تعذّر الغسل، و فيها بعد الانقطاع مع تعذّره؟ نظر: من إباحته ما هو أقوى من ذلك كالصلاة. و من أنّ التيمّم لا يرفع الحدث عنهما، و أنّه لا يشترط في صدق المشتقّ بقاء المعنى المشتقّ منه عندنا، فيطلق عليهما «حائض» و «جنب» معه «7» بل بعد الغسل، لكن خرج ما بعده بالإجماع، فيبقى الباقي.

[القول في غسل الميت]

(و أولى الناس بغسله) بل بجميع أحكامه (أولاهم بميراثه) لعموم وَ أُولُوا الْأَرْحٰامِ بَعْضُهُمْ أَوْلىٰ بِبَعْضٍ. «8»+

و لقول عليّ عليه السّلام‌

يغسّل الميّت أولى الناس به. «9»

______________________________
(1) الرّبْوُ: الارتفاع. الصحاح 6: 2349، «ر ب ا».

(2) حكاه عنه المحقّق في المعتبر 1: 264.

(3) انظر: الهامش (5).

(4) انظر: الهامش (6).

(5) التهذيب 1: 428/ 1362.

(6) الكافي 3: 138 (باب الحائض تمرّض المريض) الحديث 1؛ التهذيب 1: 428/ 1361.

(7) أي: مع التيمّم.

(8) الأنفال (8): 75.

(9) التهذيب 1: 431/ 1376.

260
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في غسل الميت ؛ ج‌1، ص : 260

و المراد بتقديم الأولى بالميراث: أنّ كلّ مرتبة من مراتب الإرث أولى ممّا بعدها إن كان، و أمّا تفضيل تلك المرتبة في نفسها فلا تعرّض إليه في هذه العبارة، و سيأتي التنبيه على بعضه هنا و الباقي في الصلاة عليه.

و قد ذكر المصنّف و غيره هنا و في الصلاة: أنّ الرجال أولى من النساء مطلقاً، فلو كان الميّت امرأةً لا يمكن الوليّ الذكر مباشرة تغسيلها، أذن للمماثل، فلا يصحّ فعله بدون إذنه.

و ربما قيل: إنّ ذلك مخصوص بالرجل، أمّا النساء فالنساء أولى بغسلهنّ. و لم يثبت.

و امتناع المباشرة لا يستلزم انتفاء الولاية، و مهما امتنع الوليّ من الإذن أو فُقد، سقط اعتبار إذنه، فيأذن الإمام ثمّ الحاكم، قيل: ثمّ المسلمون. «1»

(و الزوج أولى) بزوجته من جميع أقاربها (في كلّ أحكام الميّت) لقول الصادق عليه السّلام في خبر إسحاق بن عمّار‌

الزوج أحقّ بامرأته حتى يضعها في قبرها. «2»

و لا فرق بين الدائم و المنقطع؛ للإطلاق.

(و) تشترط المماثلة بين الغاسل و المغسول في الذكورة و الأُنوثة مع الاختيار، فيجب أن (يغسّل كلّ من المرأة و الرجل مثله) اتّفاقاً.

(و) استثني من ذلك مواضع:

أحدها: الزوجيّة، فلا منع فيها، بل (يجوز لكلّ من الزوجين تغسيل الآخر اختياراً) على أشهر القولين؛ لأنّ فاطمة عليها السّلام أوصت أن تُغسّلها أسماء بنت عميس و علي عليه السلام، «3» و غسّلت أسماء زوجها بوصيّته. «4»

و لقول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لبعض نسائه‌

لو متّ قبلي لغسّلتكِ. «5»

و روى محمّد بن مسلم قال: سألته عن الرجل يغسّل امرأته؟ قال‌

نعم، إنّما يمنعها أهلها تعصّباً. «6»

______________________________
(1) القائل هو الشهيد في الذكرى 1: 303.

(2) الكافي 3: 194/ 6؛ التهذيب 1: 325/ 949.

(3) دعائم الإسلام 1: 228؛ سنن الدارقطني 2: 79/ 12؛ سنن البيهقي 3: 556/ 6660؛ كشف الغمّة 1: 500 و 503.

(4) الموطّأ 1: 223/ 3؛ المصنّف لابن أبي شيبة 3: 136/ 1 و 2؛ سنن البيهقي 3: 557/ 6663؛ تاريخ الطبري 3: 421؛ الكامل في التاريخ 2: 419.

(5) سنن ابن ماجة 1: 470/ 1465؛ سنن البيهقي 3: 555/ 6659؛ مسند أحمد 7: 325/ 25380.

(6) الكافي 3: 158- 159/ 11؛ التهذيب 1: 439/ 1419؛ الاستبصار 1: 199/ 700.

261
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في غسل الميت ؛ ج‌1، ص : 260

و شرط الشيخ في كتابي الأخبار في جواز تغسيل كلّ منهما صاحبَه الضرورةَ، «1» و تبعه جماعة. «2»

و ما تقدّم من الأخبار و غيرها حجّة عليهم.

و المشهور في الأخبار «3» و الفتوى: أنّه من وراء الثياب، و يجب حمل ما أُطلق من الأخبار عليه؛ لوجوب حمل المطلق على المقيّد.

و المراد بالثياب: المعهودةُ، و في بعضها‌

يغسّلها من فوق الدرع «4»

و ذلك يقتضي استثناء الوجه و الكفّين و القدمين، فيجوز أن تكون مكشوفةً.

و هل يطهر الثوب بصبّ الماء عليه من غير عصر؟ مقتضى المذهب عدمه، و به صرّح المحقّق في المعتبر في تغسيل الميّت في قميصه من مماثله. «5»

و منع في الذكرى من عدم طهارته بالصبّ؛ لإطلاق الرواية، قال: و جاز أن يجري مجرى ما لا يمكن عصره. «6»

و اختار المصنّف رحمه اللّه جواز التجريد فيهما كما لو غسّله مماثله. «7»

و يختصّ اللمس بما جاز نظره من الأعضاء سواء جوّزنا التجريد أم لا.

و لا فرق في الزوجة بين الحرّة و الأمة، و المدخول بها و غيرها.

و المطلّقة رجعيّةً زوجة، بخلاف البائن.

و لا يقدح انقضاء العدّة في جواز التغسيل عندنا، بل لو تزوّجت، جاز لها تغسيله و إن بَعُدَ الفرض.

و اعلم أنّه لا استدراك في قوله‌

و يجوز لكلّ من الزوجين

إلى آخره، بعد قوله‌

و الزوج أولى

لما تقدّم من أنّ الولاية لا تستلزم جواز المباشرة؛ و لأنّ الزوجة‌

______________________________
(1) التهذيب 1: 440؛ الاستبصار 1: 199، ذيل الحديث 701.

(2) منهم السيّد ابن زهرة في الغنية: 102.

(3) منها: صحيح منصور كما في الكافي 3: 158/ 8؛ و التهذيب 1: 439/ 1418؛ و الاستبصار 1: 199/ 699. و منها: صحيح محمد بن مسلم كما في الكافي 3: 157/ 3؛ و التهذيب 1: 438/ 1411؛ و الاستبصار 1: 196- 197/ 690.

(4) التهذيب 1: 438/ 1414؛ الاستبصار 1: 197/ 693.

(5) المعتبر 1: 271.

(6) الذكرى 1: 342.

(7) نهاية الإحكام 2: 230.

262
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في غسل الميت ؛ ج‌1، ص : 260

لم يسبق لها ذكر.

و ثانيها: المملوكيّة على وجه، فيجوز للسيّد تغسيل أمته غير المزوّجة، و مدبّرته و أُمّ ولده؛ لأنّهنّ في معنى الزوجة، دون المكاتبة؛ لتحريمها عليه بعقد الكتابة سواء المطلقة و المشروطة.

و لو كانت الأمة مزوّجةً أو معتدّةً، لم يجز له تغسيلها.

و في المُولى منها و المظاهَر منها و من الزوجات نظر.

و جزم المصنّف و الشهيد في الذكرى بعدم المنع. «1»

و أمّا تغسيل المملوكة لسيّدها: فإن كانت أُمّ ولد، جاز؛ لبقاء علقة الملك من وجوب الكفن و المئونة و العدّة. و لإيصاء زين العابدين عليه السّلام أن تُغسّله أُمّ ولده. «2»

و أمّا غير أُمّ الولد من المملوكات: ففي جواز تغسيلها إيّاه نظر: من استصحاب حكم الملك، و لأنّها في معنى الزوجة في إباحة اللمس و النظر فيباح، و هو اختيار المصنّف. «3» و من انتقال ملكها إلى الوارث فيمتنع، و استقربه شيخه في المعتبر، «4» و هو قويّ.

و الخلاف في غير المزوّجة و المعتدّة و المكاتبة و المرتدّة و المعتق بعضها، فإنّها كالحُرّة.

(و) ثالثها: اشتباه الحال في الذكوريّة و الأُنوثيّة؛ لفقد موضع العلامات، فيغسّله محارمه من وراء الثياب، و كذا (يغسّل الخنثى المشكلَ) بالنصب (محارمُه) بالرفع (من وراء الثياب) لعدم إمكان الوقوف على المماثل في الموضعين.

هذا مع زيادة سنّه على ثلاث سنين، و إلا لم يتوقّف على المحرم، كما سيأتي.

و المراد بالمحرم هنا: هو المبحوث عنه في باب النكاح لجواز النظر إليه ما عدا العورة، و هو مَنْ حرم نكاحه مؤبّداً بنسبٍ أو رضاعٍ أو مصاهرةٍ، كالأُمّ و الأُخت و بنتها و زوجة الأب و الولد.

و احترز بالتأبيد عن أُخت الزوجة و بنت غير المدخول بها، فإنّهما ليستا من المحارم؛ لعدم التحريم المؤبّد، بل هما بحكم الأجانب. و توقّف حلّ نكاحهما على مفارقة الأُخت‌

______________________________
(1) نهاية الإحكام 2: 230؛ الذكرى 1: 306.

(2) التهذيب: 1: 444/ 1437؛ الاستبصار 1: 200/ 704.

(3) انظر: نهاية الإحكام 2: 230؛ و تذكرة الفقهاء 1: 363.

(4) المعتبر 1: 221.

263
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في غسل الميت ؛ ج‌1، ص : 260

و الأُمّ لا يقتضي حلّ النظر و دخولهما في اسم المحارم، و إلا لزم كون نساء العالم محارم للمتزوّج أربعاً؛ لتوقّف نكاح واحدة منهنّ على فراق واحدة.

و قد صرّح بهذا القيد جماعة «1» من الأصحاب، و مَنْ تركه منهم فإنّما هو لظهوره، بناءً على أنّ التحريم العارضي بغير تأبيد لا يفيد المحرميّة، كتحريم الأجانب.

و اعلم أنّ المصنّف في كثير من كتبه و المحقّق في المعتبر و غيرهما لم يذكروا المصاهرة هنا في تعريف المحرميّة. و وجهه غير واضح.

و لو لم يكن له محرم، ففي دفنه بغير غسل، أو شراء أمة من تركته تغسّله، فإن لم يكن له تركة، فمن بيت المال، أو استصحاب حاله في الصغر فيغسّله الرجل و المرأة أوجُه.

و يضعّف الثاني: بانتقال التركة عنه بموته، مع الشكّ في جواز تغسيل الأمة، كما مرّ، و الثالث: بانتفاء الصغر المزيل للشهوة.

و الإشكال آتٍ أيضاً في العضو الملقوط الذي لا يعلم ذكوريّته و لا أُنوثيّته حيث يجب تغسيله.

و لو كان الميّت منْ محارم الخنثى، جاز للخنثى تغسيله مع فقد المماثل من وراء الثياب، و هو أولى من باقي المحارم غير المماثلين؛ لإمكان مماثلته للميّت.

و رابعها: مَنْ لم يزد سنّه على ثلاث سنين من الذكور و الإناث (و) هذا أيضاً لا تجب فيه المماثلة، بل يجوز أن (يغسّل) الرجل (الأجنبيّ بنت ثلاث سنين) فما دون في حال كونها (مجرّدةً، و كذا المرأة) يجوز لها تغسيل ابن ثلاث سنين فما دون مجرّداً اختياراً.

و شرط في النهاية عدم المماثل. «2»

و منع في المعتبر من تغسيل الرجال الصبيّة، فارقاً بينها و بين الصبي: بأنّ الشرع أذن في اطّلاع النساء على الصبيّ؛ لافتقاره إليهنّ في التربية، و ليس كذلك الصبيّة، و الأصل حرمة النظر. «3»

و جوّز المفيد و سلار تغسيل ابن خمس سنين مجرّداً، «4» و الصدوق تغسيل بنت أقلّ من‌

______________________________
(1) منهم: المحقّق الكركي في جامع المقاصد 1: 361.

(2) النهاية: 41.

(3) المعتبر 1: 324.

(4) المقنعة: 87؛ المراسم: 50.

264
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في غسل الميت ؛ ج‌1، ص : 260

خمس سنين مجرّدةً. «1» و الكلّ ضعيف.

و بالجملة، فجواز تغسيل النساء لابن ثلاث سنين إجماعيّ، بل ادّعى المصنّف في التذكرة و النهاية إجماعنا أيضاً على تغسيل الرجل الصبيّة. «2» و كأنّه لم يعتبر خلاف المحقّق، أو أنّه لم يتحقّقه؛ فإنّه لم يصرّح به و إنّما تدلّ عليه حجّته، و لهذا قال في الذكرى: و ظاهر المعتبر أنّه لا يجوز للرجال تغسيل الصبيّة. «3»

و النصوص دالّة على جواز القسمين، مضافاً إلى الإجماع.

و لو قدّم المصنّف تغسيل المرأة على الرجل ثمّ عطفه عليها، كان أجود؛ لأنّ حكمها أقوى منه فكان أولى بالتقديم، و كونه متبوعاً لا تابعاً.

و كما يجوز التجريد فيهما لا يجب ستر العورة؛ لانتفاء الشهوة في مثل ذلك؛ و لأنّ بدن البنت عورة في أصله، فلو لا جواز كشف العورة الخاصّة، لم يجز تجريدها و قد جاز بالإجماع.

و اعلم أنّ المفهوم من تحديد السنّ هنا و في الصلاة عليه أنّ منتهاه الموت، فلا اعتبار بما بعده و إن طال، فيمكن على هذا حصول الموت على نهاية الثلاث و وقوع الغسل بعد ذلك، فلا يشترط في صحّة الحكم وقوع الغسل قبل تمام الثالثة، فلا يتوجّه حينئذٍ ما قاله المحقّق الشيخ علي من أنّ الثلاث إذا كانت نهاية الجواز، فلا بدّ من كون الغسل واقعاً قبل تمامها، فإطلاق ابن ثلاث يحتاج إلى التنقيح، قال: إلا أن يصدق على مَنْ شرع في الثالثة أنّه ابن ثلاث. «4» انتهى.

و هذا كما عرفت إنّما يتوجّه لو جعلنا غاية التحديد الغسلَ لا الموت، و هو غير واضح.

و خامسها: المحرميّة مع تعذّر المماثل، فيغسّل كلّ من الرجل و المرأة الآخر إذا كان محرماً له؛ لتسويغ النظر و اللمس.

و شرط الأصحاب كونه من وراء الثياب؛ محافظةً على ستر العورة، و لا تلازم بين‌

______________________________
(1) المقنع: 62.

(2) تذكرة الفقهاء 1: 368، المسألة 135؛ نهاية الإحكام 2: 231.

(3) الذكرى 1: 308.

(4) جامع المقاصد 1: 364.

265
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في غسل الميت ؛ ج‌1، ص : 260

جواز لمس ما عدا العورة و نظره في حال الحياة و جوازه هنا. و قد تقدّم مثله في الزوج، مع أنّ شأنها بالنسبة إلى الزوج أعظم.

و لو فُقد المحرم، لم يجز لغير المماثل الأجنبي تغسيل الميّت على المشهور روايةً و فتوى (و) لكن (تأمر) المرأة (الأجنبيّة مع فقد المسلم و ذات الرحم) الرجلَ (الكافر بالغسل) لنفسه (ثمّ يُغسّل) الميّت (المسلم غُسلَه، و كذا) يأمر المسلم (الأجنبي) المرأةَ الكافرة بأن تغتسل ثمّ تُغسّل الميّتةَ المسلمة غُسلَ المسلمات مع فقد المسلمة و ذي الرحم على المشهور بين الأصحاب، و رواه عمّار عن الصادق، «1» عليه السّلام و عمرو بن خالد بإسناده إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله. «2»

و مَنَعه المحقّق في المعتبر؛ محتجّاً بتعذّر النيّة من الكافر، مع ضعف السند. «3»

و أُجيب: بمنع لزوم النيّة؛ إذ الاكتفاء بنيّة الكافر كالعتق منه، و عمل الأصحاب يجبر ضعف السند «4»

و الحاصل: أنّ المراد من هذا الغسل الصوريّ لا الشرعيّ؛ لنجاسة الكافر، فلا يفيد غيره تطهيراً، فلا إشكال حينئذٍ لكونه تعبّداً كالتعبّد بتقديم غسله مع أنّه لا يطهر، أو لكونه مزيلًا للنجاسة الطارئة، فلا يسقط الغسل بمسّه حينئذٍ؛ لعدم التطهير الحقيقيّ.

و يعاد الغسل لو وُجد مَنْ يجوز له تغسيله من المسلمين على أصحّ القولين؛ لأنّ المأمور به و هو الغسل الحقيقي لم يوجد، و تعذّره للضرورة لا يقتضي سقوطه مطلقاً، و ما وقع بدله للضرورة لم يقتض سقوطه، بناءً على أنّ فعل البدل عند التعذّر مخرج عن العهدة؛ لعدم انحصار التكليف فيما وقع بدلًا، فإنّ الكافر عندنا مخاطب بفروع الإسلام، و هو قادر على إيقاعها على وجهها بالإسلام، فما وقع منه بدلًا لم ينحصر فيه إلا تكليف المسلم، لا مطلق التكليف الذي لا يتمّ المطلوب بدونه.

و لا يرد أنّ انحصار تكليف المسلم به كافٍ مع عدم إسلام الكافر، فلا يتوجّه إعادة الغسل بدون إسلامه؛ لما بيّنّاه من أنّ الخروج عن العهدة، المسقط للتدارك مع القدرة إنّما يتحقّق بفعل الغسل، و لو كان جانب الكافر غير مراعى في ذلك، لزم عدم إعادته لو امتنع‌

______________________________
(1) الكافي 3: 159/ 12؛ الفقيه 1: 95 96/ 439 و 440؛ التهذيب 1: 340 341/ 997.

(2) التهذيب 1: 443 444/ 1433؛ الاستبصار 1: 204203/ 718.

(3) المعتبر 1: 326.

(4) المجيب هو الشهيد في الذكرى 1: 310.

266
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

يجب في تغسيل الميت أمور ؛ ج‌1، ص : 267

الكافر من تغسيله و إن قدر المسلم عليه بعد ذلك؛ لانحصار الوجوب حينئذٍ في أمر المسلم خاصّة و قد حصل.

مع أنّ بدليّة غسل الضرورة من الغسل الحقيقيّ غير معلومة؛ إذ لا دليل يدلّ عليها، و كذا سقوط وجوب الأوّل؛ إذ لا يلزم من امتناع التكليف بفعل واجب في بعض الأزمنة لضرورةٍ سقوطُ وجوبه مطلقاً.

و حيث منعنا مباشرة الكافر أو تعذّر دُفِنَ الميّت بثيابه بغير غسل و لا تيمّم؛ لاستلزامه النظر و اللمس المحرّمين.

و ذهب الشيخان «1» و جماعة «2» إلى تغسيل الأجانب لها و الأجنبيّات له من فوق الثياب، و أوجب بعضُهم تغميضَ العينين، «3» استناداً إلى روايات «4» معارضة بما هو أصحّ إسناداً و أشهر روايةً.

و روى أنّهم يغسّلون المحاسن: الوجه و اليدين، «5» و اختاره الشيخ في النهاية. «6»

[يجب في تغسيل الميت أمور]

(و تجب إزالة النجاسة) العرضيّة عن بدنه (أوّلًا) لتوقّف تطهيره عليها، و أولويّة إزالتها على الحكميّة.

و لخبر يونس عنهم عليهم السّلام‌

فإن خرج منه شي‌ء فأنقه «7»

كذا علّلوه.

و الأولى الاستناد إلى النصّ و جَعله تعبّداً إن حكمنا بنجاسة بدن الميّت، كما هو المشهور، و إلا لزم طهارة المحلّ الواحد من نجاسةٍ دون نجاسة.

و أمّا على قول السيّد المرتضى فلا إشكال؛ لأنّه ذهب إلى كون بدن الميّت ليس بخبث، بل الموت عنده من قبيل الأحداث، كالجنابة، «8» فحينئذٍ تجب إزالة النجاسة الملاقية لبدن الميّت، كما إذا لاقت بدن الجنب.

______________________________
(1) المقنعة: 87؛ التهذيب 1: 343 ذيل الحديث 1003.

(2) منهم: أبو الصلاح الحلبي في الكافي في الفقه: 237236؛ و السيّد ابن زهرة في الغنية: 102.

(3) كأبي الصلاح الحلبي في الكافي في الفقه: 237؛ و السيّد ابن زهرة في الغنية: 102.

(4) التهذيب 1: 442441/ 1426 و 1427؛ الاستبصار 1: 202201/ 711 و 712.

(5) الكافي 3: 159/ 13؛ الفقيه 1: 59/ 438؛ التهذيب 1: 440/ 1422؛ و 443442/ 1429، الاستبصار 1: 200/ 705، 203202/ 714.

(6) النهاية: 43.

(7) الكافي 3: 142141/ 5؛ التهذيب 1: 301/ 877.

(8) انظر: المعتبر 1: 348؛ و إيضاح الفوائد 1: 66؛ و جامع المقاصد 1: 461.

267
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

يجب في تغسيل الميت أمور ؛ ج‌1، ص : 267

(ثمّ تغسيله بماءٍ) قد وضع فيه شي‌ء من (السدر) أقلّه مسمّاه، و أكثره ما لا يخرج الماء بمزجه به عن الإطلاق؛ لدلالة قول الصادق عليه السّلام في خبر سليمان بن خالد‌

يغسّل بماءٍ و سدرٍ، ثمّ بماءٍ و كافورٍ، ثمّ بماءٍ «1»

عليه.

و لأنّ المقصود التطهير، و المضاف غير مطهّر.

و يستحبّ كونه بقدر سبع ورقات، و ينبغي كونه مطحوناً، أو ممروساً في الماء بحيث تظهر به الفائدة المطلوبة منه، و هي التنظيف. و في وجوب ذلك نظر.

و هذا الغسل في كيفيّته و ترتيبه (كالجنابة).

و يستفاد منه جواز الارتماس فيه في ماءٍ لا ينفعل بالملاقاة، و أنّ الواجب الترتيب بين الأعضاء بأن يبدأ برأس الميّت و رقبته ثمّ بميامنه ثمّ بمياسره لا فيها، فلو غسل العضو من أسفله، أجزأ، كما تقدّم في الجنابة.

و مستند ذلك كلّه بعد الإجماع عليه، كما نقله في المعتبر «2» و الذكرى «3» و غيرهما الأخبار، كخبر محمّد بن مسلم عن الباقر عليه السّلام‌

غسل الميّت مثل غسل الجنب «4»

و هو كما يدلّ على وجوب الترتيب فيه و على سقوطه بالارتماس يدلّ على عدم وجوب الوضوء أيضاً.

(ثمّ بماء الكافور كذلك) أي مرتّباً كالجنابة.

و ما قلناه في السدر من الاكتفاء بالمسمّى قلّةً و عدم خروج الماء به عن الإطلاق كثرةً معتبر في الكافور أيضاً.

(ثمّ بالقَراح) بفتح القاف و هو الماء الخالي من السدر و الكافور، لأمن كلّ شي‌ء، كما توهّمه بعضهم «5» بناءً على ما ذكره أهل اللغة من أنّ القراح: الذي لا يشوبه شي‌ء، «6» حتى التجأ إلى أنّ الماء المشوب بالطين كماء السيل و نحوه لا يجوز تغسيل الميّت به؛ لعدم تسميته قراحاً لغةً و إن جاز التطهير به في غيره؛ لأنّهم اعتبروا في تطهير غير الميّت الماءَ‌

______________________________
(1) التهذيب 1: 446/ 1443.

(2) المعتبر 1: 266،.

(3) الذكرى 1: 345.

(4) الفقيه 1: 122/ 586؛ التهذيب 1: 447/ 1447؛ الاستبصار 1: 208 209/ 732.

(5) انظر: السرائر 1: 162؛ و الذكرى 1: 343.

(6) انظر: الصحاح 1: 396؛ و القاموس المحيط 1: 242، «ق ر ح».

268
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

يجب في تغسيل الميت أمور ؛ ج‌1، ص : 267

المطلق لا القَراح.

و هو فاسد؛ لأنّ اسم القَراح إنّما أُخذ في هذا الماء باعتبار قسيميه حيث اعتبر فيهما المزج لا مطلقاً.

و قد نبّه على ذلك في خبر سليمان بن خالد، المتقدّم «1» في قوله: «ثمّ بماءٍ» فإنّه راعى فيه إطلاق الاسم، و لا ريب أنّ الممتزج بالطين المذكور ماء؛ لأنّه المفروض، فلهذا جاز التطهير به في غيره.

و غسله بالقراح (كذلك) أي كغسل الجنابة في الأحكام المذكورة.

و يستفاد من تشبيه كلّ غسل من الأغسال الثلاثة بغسل الجنابة وجوب النيّة لكلّ غسل، و هو أصحّ القولين؛ لتعدّد الأغسال اسماً و صورةً و معنًى.

و اكتفى في الذكرى بنيّة واحدة؛ محتجّاً بأنّ الغسل واحد، و إنّما تعدّد باعتبار كيفيّته. «2»

و ربما قيل «3» بالتخيير بين النيّة الواحدة و الثلاث؛ لأنّه في المعنى عبادة واحدة و غسل واحد مركّب من غسلات ثلاث و في الصورة ثلاثة، فيجوز مراعاة الوجهين.

و تردّد في المعتبر في وجوب النيّة في هذا الغسل مطلقاً؛ لأنّه تطهير للميّت من نجاسة الموت، فهو إزالة نجاسة كغسل الثوب، ثمّ احتاط بوجوبها. «4»

و اعلم أنّ الغاسل إن اتّحد، وجب عليه النيّة، فلو نوى غيره، لم يجزئ.

و لو اشترك جماعة في غسله، فإن اجتمعوا في الصبّ، اعتبرت النيّة من الجميع؛ لاستناده إلى الجميع، فلا أولويّة.

و لو كان بعضهم يصبّ و الآخر يقلّب، وجبت على الصابّ؛ لأنّه الغاسل حقيقةً، و استحبّت من المقلّب.

و استقرب في الذكرى إجزاءها منه أيضاً؛ محتجّاً بأنّ الصابّ كالآلة. «5»

______________________________
(1) في ص 268.

(2) انظر: الذكرى 1: 344.

(3) القائل هو المحقّق الكركي في جامع المقاصد 1: 369.

(4) المعتبر 1: 265.

(5) الذكرى 1: 343.

269
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

يجب في تغسيل الميت أمور ؛ ج‌1، ص : 267

و فيه نظر؛ لأنّ حقيقة الغسل هو جريان الماء على المحلّ، و الغاسل حقيقةً مَنْ صدر عنه ذلك، و هو الصابّ، فغيره ليس بغاسل.

و لو ترتّبوا بأن غسّل كلّ واحد منهم بعضاً، اعتبرت النيّة من كلّ واحد عند ابتداء فعله؛ لامتناع ابتناء فعل مكلّف على نيّة مكلّفٍ آخر.

و يحتمل الاكتفاء بنيّة الأوّل؛ لأنّ النيّة إنّما تعتبر عند الشروع.

و يستفاد من عطف بعض الأغسال الثلاثة على بعض ب‍ «ثمّ» وجوب الترتيب بينها على الوجه المذكور، فلو غيّر الترتيب، لم يجزئ؛ لعدم الامتثال.

هذا إن وجد الخليط، أعني: السدر و الكافور (و إن فقد السدر و الكافور، غسّل ثلاثاً بالقراح) على أصحّ القولين؛ لأنّ الواجب تغسيله بماءٍ و سدر، و بماءٍ و كافورٍ، كما تقدّم في الخبر، فالمأمور به شيئان، فإذا تعذّر أحدهما، لم يسقط الآخر؛ لأنّ الميسور لا يسقط بالمعسور، كما ورد في الخبر «1» أيضاً.

و لقوله عليه السلام‌

إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم. «2»

و قيل: تجزئ غسلة واحدة «3» و هو أحد قولي الشهيد «4» للأصل، و الشكّ في وجوب الزائد فلا يجب. و لأنّ المراد بالسدر الاستعانةُ على النظافة، و بالكافور تطييبُ الميّت و حفظه من تسارع التغيّر و تعرّض الهوامّ، فكأنّهما شرط في الماء، فيسقط الماء عند تعذّرهما؛ لانتفاء الفائدة. و لأنّه كغسل الجنابة.

قلنا: الأصل قد عُدل عنه؛ للدليل، و زال «5» الشكّ، فكما أنّ للسدر و الكافور مدخلًا في النظافة و فيما ذُكر، كذلك لمائهما مدخل في زيادة النظافة، و لهذا كان القراح أخيراً. و فائدة التطهير في غسل الميّت أوضح ممّا ذُكر. و لو سلّم كونه مراداً، لم يلزم سقوط الماء؛ لأنّه مراد أيضاً.

و يمنع كونهما شرطاً في الماء مطلقاً، بل مع وجودهما. و كونه كغسل الجنابة إن أراد به‌

______________________________
(1) عوالي اللآلي 4: 58/ 205.

(2) صحيح مسلم 2: 975/ 412، و فيه: «بشي‌ء» بدل «بأمر».

(3) قال بالإجزاء الشيخ الطوسي في النهاية: 43؛ و المبسوط 1: 181؛ و المحقّق في المعتبر 1: 266.

(4) الذكرى 1: 344.

(5) في «م»: «زوال».

270
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

يجب في تغسيل الميت أمور ؛ ج‌1، ص : 267

أنّ كلّ واحد من الثلاثة كذلك، لم يتمّ مطلوبه، و إلا منعنا صحّته. و كما لا تسقط الغسلتان بفوات ما يطرح فيهما كذا لا تسقط إحداهما بفقد خليطها، فيغسل بالقراح خاصّة في الفائت، و لا تتغيّر غسلة الخليط عن محلّها.

و لو انعكس الفرض بأن كان المفقود ماء غسلتين مع وجود الخليط، قدّم السدر؛ لوجوب البدأة به.

و اختار في الذكرى القراح؛ لأنّه أقوى في التطهير. و لعدم احتياجه إلى شي‌ء آخر. «1»

و هو ضعيف؛ لوجوب امتثال الأمر بحسب الممكن، و الخليط مأمور به مع إمكان الجمع بينه و بين الماء. و لوجوب مراعاة الترتيب، فيستصحب.

و لو وجد الماء لغسلتين، قدّم الكافور على القراح على ما بيّنّاه، و على ما اختاره رحمه اللّه يقدّم السدر؛ لوجوب البدأة به، قال: و يمكن الكافور؛ لكثرة نفعه. «2»

و يغسّل الثانية بالقَراح.

و المائز بين الغسلات على تقدير عدم الخليط النيّةُ، فتجب مراعاتها بأن يقصد تغسيله بالقَراح في موضع ماء السدر، و كذا في ماء الكافور.

و مع فقد أحد الأغسال يجب أن يُيَمّم عنه؛ لاستقلاله بالاسم و الحكم. و لأنّ وجوب التعدّد في المبدل منه و عدم أجزاء أحد أقسامه أو القسمين عنه يوجب عدم إجزائهما أو أحدهما عن بدله. و هو اختيار الشهيد في البيان. «3» و في الذكرى «4» أسقط وجوب التيمّم.

و هو مبنيّ على عدم وجوب التعدّد في التيمّم عند تعذّر الأغسال، كما اختاره فيها. «5» و يلزم منه عدم التيمّم مع مسمّى الغسل؛ لأنّه بدل منه، فلا يجمع بين البدل و المبدل. و هو ضعيف، و ستأتي بقيّة الكلام فيه.

و اعلم أنّ هذه الأغسال الناقصة بوجه لا يحكم معها بتطهير الميّت على وجه يسقط الغسل بمسّه؛ لعدم وقوع الغسل على الوجه المعتبر. و لأنّه غسل ضرورة، و لهذا تجب إعادته أو إكماله إذا أمكن قبل الدفن، و كذا القول في كلّ غسل شُرّع للضرورة، و أولى منه التيمّم.

______________________________
(1) الذكرى 1: 345.

(2) الذكرى 1: 345.

(3) البيان: 71.

(4) الذكرى 1: 345.

(5) الذكرى 1: 327 و 328.

271
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

و يستحب أمور ؛ ج‌1، ص : 272

(و لو خِيف) من تغسيله (تناثُر جلده) كالمحترق، و المجدور، و هو مَنْ به الجدري بضمّ الجيم و فتحها و الملسوع (يُمّم) لكونه بدلًا من الغسل حيث يتعذّر. و به أخبار «1» تؤيّدها الشهرة حتى نقل الشيخ في تيمّم المحترق إجماعنا و إجماع المسلمين عليه. «2»

و يعتبر فيه الضرب على الأرض مرّتين: إحداهما لوجهه، و الأُخرى لظاهر كفّيه؛ لأنّه بدل من الغسل. و الأولى تطهير يد اللامس بعد كلّ لمس حيث يمكن.

و الضرب و المسح بيد المباشر.

و لو يُمّم الحيّ العاجز، فالضرب و المسح بيدي العاجز بإعانة القادر، و لو تعذّر المسح بيدي العاجز، فكالميّت.

فعُلم من هذا أنّ قولهم في الميّت: يُمّم كالحيّ العاجز، يحتاج إلى التقييد.

و هل التيمّم ثلاثاً؛ لأنّه بدل عن ثلاثة أغسال، أو مرّة؛ لأنّه غسل واحد تعدّد باعتبار كيفيّةٍ؟ الأجود: الأوّل و هو اختيار المصنّف في النهاية «3» لإطلاق الاسم على كلّ واحد. و كونُ الثلاثة بحيث يطلق عليها اسم واحد لا يُخرجها عن التعدّد في أنفسها، و إذا وجب التعدّد في المبدل منه مع قوّته ففي البدل الضعيف أولى و أجدر. و يتفرّع على ذلك تعدّد نيّة الغسل و التيمّم، و قد تقدّم.

[و يستحبّ أمور]

(و يستحبّ وضعه على ساجة) و هي لوح من خشب مخصوص، و المراد وضعه عليها أو على سرير؛ حفظاً لجسده من التلطّخ. و ليكن ذلك على مرتفع؛ لئلا يعود إليه ماء الغسل. و ليكن مكان الرِّجْلين منحدراً؛ لئلا يجتمع الماء تحته.

و ليكن في حال الغسل (مستقبل القبلة) استحباباً، وفاقاً للمرتضى في الناصريّة «4» و المحقّق «5»؛ لخبر يعقوب بن يقطين: سألت الرضا عليه السّلام عن الميّت كيف يوضع على المغتسل: موجّهاً وجهه نحو القبلة، أو يوضع على يمينه و وجهه نحو القبلة؟ قال‌

يوضع كيف تيسّر «6»

و للأصل.

______________________________
(1) منها ما في التهذيب 1: 333/ 977.

(2) الخلاف 1: 717، المسألة 529.

(3) نهاية الإحكام 2: 227.

(4) كذا، و وجدناه في جوابات الموصليّات الثالثة ضمن رسائل الشريف المرتضى 1: 218.

(5) المعتبر 1: 269.

(6) التهذيب 1: 298/ 871.

272
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

و يستحب أمور ؛ ج‌1، ص : 272

و اختار جماعة «1» وجوب الاستقبال هنا كالاحتضار؛ لقول الصادق عليه السّلام حين سئل عن غسل الميّت‌

استقبل بباطن قدميه القبلة حتى يكون وجهه مستقبل القبلة. «2»

قيل: و لا منافاة بينه و بين الخبر السابق؛ لأنّ ما لا يتيسّر لا يجب قطعاً. «3»

و يضعّف: بأنّ ذلك يتمّ مع تيسّر جهة واحدة، أمّا مع إمكان القبلة و غيرها ففي الخبر دلالة على التخيير، و هو ينافي الوجوب، فيمكن حينئذٍ الجمع بينهما بحمل الأمر على الاستحباب.

و ليكن (تحت الظلال) للخبر «4» و للإجماع.

قال في المعتبر و في التذكرة: و لعلّ الحكمة فيه كراهة مقابلة السماء بعورته. «5»

(و وقوف الغاسل على يمينه) لقول الصادق عليه السّلام‌

و لا يجعله بين رِجْليه، بل يقف من جانبه، «6»

كذا استدلّ في النهاية، «7» و هو أعمّ من المدّعى.

(و غمز بطنه) و هو مسحها (في) الغسلتين (الأُوليين) بضمّ الهمزة و الياءين المثنّاتين من تحت، تثنية «اولى» و ليكن قبلهما، و الغرض بذلك التحفّظ من خروج شي‌ء بعد الغسل؛ لعدم القوّة الماسكة.

و نقل الشيخ فيه الإجماع. «8»

و أنكره ابن إدريس؛ لمساواة الميّت للحيّ في الحرمة. «9»

و لا يستحبّ المسح في الثالثة إجماعاً، بل يكره.

و على كلّ حالٍ فلو خرج منه نجاسة بعد الغسل أو في أثنائه، غُسلت، و لا يعاد الغسل؛ للامتثال، و للأخبار. «10»

______________________________
(1) منهم: الشيخ الطوسي في المبسوط 1: 77.

(2) الكافي 3: 140/ 4؛ التهذيب 1: 298/ 873.

(3) القائل هو المحقّق الكركي في جامع المقاصد 1: 374.

(4) الكافي 3: 142/ 6؛ الفقيه 1: 86/ 400؛ التهذيب 1: 431/ 1379، و 432/ 1380.

(5) المعتبر 1: 275؛ تذكرة الفقهاء 1: 346، المسألة 118.

(6) أورده المحقّق الحلّي في المعتبر 1: 277.

(7) نهاية الإحكام 2: 227.

(8) الخلاف 1: 696695، المسألة 479.

(9) كما في الذكرى 1: 347؛ و جامع المقاصد 1: 376؛ و في السرائر 1: 166 لم يرد التعليل.

(10) انظر: الكافي 3: 156/ 1؛ و التهذيب 1: 450449/ 1455- 1457.

273
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

و يستحب أمور ؛ ج‌1، ص : 272

و هذا الحكم ثابت في كلّ ميّت (إلا) في (الحامل) التي مات ولدها في بطنها؛ حذراً من الإجهاض، و لو اتّفق الإجهاض بسببه، لزم الفاعل عُشْر دية أُمّه، نبّه عليه في البيان. «1»

(و الذكر) للّه تعالى حال الغسل، و يتأكّد الدعاء بالمأثور، و قد تقدّم.

(و صبّ الماء إلى حفيرة) و لتكن تجاه القبلة، كما تضمّنه خبر سليمان بن خالد. «2»

و يكره إرساله في الكنيف، و هو الموضع المُعدّ لقضاء الحاجة، و لا بأس بالبالوعة، و هي ما يُعدّ في المنزل لصبّ الماء و نحوه، و أمّا بالوعة البول فملحقة بالكنيف.

(و تليين أصابعه برفق) على المشهور.

و منع منه ابن أبي عقيل «3»؛ لقول الصادق عليه السّلام‌

و لا تغمز له مفصلًا. «4»

و نزّله الشيخ على ما بعد الغسل. «5»

(و غَسل فرجه) أراد به الجنس؛ إذ يستحبّ غسل فرجيه بماءٍ قد مُزج (بالحرض) بضمّ الحاء و الراء أو سكونها، و هو الأُشنان بضمّ الهمزة، سُمّي به؛ لأنّه يهلك الوسخ، قال تعالى حَتّٰى تَكُونَ حَرَضاً «6» أي مقارباً للهلاك (و السدر) بأن يمزجهما معاً بالماء (و) يغسل فرجيه، و يغسل (رأسه برغوة) السدر خاصّة، كلّ ذلك (أوّلًا) قبل الغسل بالسدر.

و كما يستحبّ غَسل الفرجين بماء الحرض و السدر قبل الاولى يستحبّ غَسلهما بماء الكافور و الحرض قبل الثانية ثمّ غَسلهما بماء القَراح وحده قبل غُسله، كلّ ذلك ثلاثاً ثلاثاً (و تكرار) غسل (كلّ عضو) من أعضائه (ثلاثاً).

(و أن يوضّأ) قبل الغسل بعد إزالة النجاسة العرضيّة و مقدّمات الغسل، و لا مضمضة قبله و لا استنشاق.

و أوجبه جماعة «7»؛ لقول الصادق عليه السّلام‌

في كلّ غسل وضوء إلا الجنابة. «8»

______________________________
(1) كما في جامع المقاصد 1: 376؛ و انظر: البيان: 71.

(2) الكافي 3: 127/ 3، التهذيب 1: 286/ 835.

(3) حكاه عنه العلامة الحليّ في مختلف الشيعة 1: 220، المسألة 160.

(4) التهذيب 1: 447/ 1445.

(5) كما في الذكرى 1: 346؛ و انظر: الخلاف 1: 696، المسألة 480.

(6) يوسف (12): 85.

(7) منهم: أبو الصلاح الحلبي في الكافي في الفقه: 134.

(8) التهذيب 1: 143/ 403، و 303/ 881؛ الاستبصار 1: 209/ 733.

274
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

و يكره أمور ؛ ج‌1، ص : 275

و هو معارض بعدّة أخبار «1» دلّت على عدم الوضوء فضلًا عن وجوبه. «2» و لا يلزم من كون الوضوء في الغسل أن يكون واجباً، بل يجوز كون غسل الجنابة لا يجوز فعل الوضوء فيه، و غيره يجوز، و لا يلزم منه الوجوب، بل يستفاد من خارج.

(و تنشيفه) بعد الفراغ من غسله (بثوبٍ) للخبر، «3» و لئلا يسرع الفساد إلى الكفن مع البلل.

[و يكره أمور]

(و يكره إقعاده) للخبر، «4» و لأنّ فيه أذى من غير حاجة (و قصّ أظفاره) بفتح الهمزة جمع «ظُفر» بضم أوّله (و ترجيل شَعره) و هو تسريحه. و لو فعل ذلك، دُفن ما ينفصل من الأظفار و الشعر معه وجوباً. و نقل الشيخ الإجماع على تحريمهما، و كذا قال في تنظيف أظفاره من الوسخ بالخلال. «5»

و المشهور: الكراهة في الأوّلين، أمّا الوسخ تحت أظفاره فلا بدّ من إظهاره.

و لنورد هنا حديثين يأتيان على جميع ما تقدّم مع زيادةٍ يحتاج إليها، و يوضّح بهما كيفيّة التغسيل، ذكرهما في الكافي و التهذيب:

أحدهما: خبر عبد اللّه الكاهلي، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن غسل الميّت، فقال‌

استقبل بباطن قدميه القبلة حتى يكون وجهه مستقبل القبلة، ثمّ تليّن مفاصله، فإن امتنعت عليك فدعها، ثمّ ابدأ بفرجه بماء السدر و الحرض فاغسله ثلاث غسلات، و أكثر من الماء، و امسح بطنه مسحاً رفيقاً، ثمّ تحوّل إلى رأسه فابدأ بشقّه الأيمن من لحيته و رأسه، ثمّ تثنّي بشقّه الأيسر من رأسه و لحيته و وجهه فاغسله برفق، و إيّاك و العنف، و اغسله غسلًا ناعماً، ثمّ أضجعه على شقّه الأيسر ليبدو لك الأيمن، ثمّ اغسله من قرنه إلى قدمه، و امسح يدك على ظهره و بطنه ثلاث غسلات، ثمّ ردّه على جنبه الأيمن حتى يبدو لك الأيسر، فاغسله بماءٍ من قرنه إلى قدمه، و امسح يدك على ظهره و بطنه ثلاث غسلات، ثمّ ردّه على قفاه، فابدأ بفرجه بماء الكافور، فاصنع كما صنعت أوّل مرّة، اغسله ثلاث

______________________________
(1) منها ما في التهذيب 1: 446/ 1444؛ و الاستبصار 1: 208/ 731.

(2) في «ق، م» زيادة: «و استحبابه».

(3) الكافي 3: 142141/ 5؛ التهذيب 1: 301/ 877.

(4) الكافي 3: 141140/ 4؛ التهذيب 1: 299298/ 873.

(5) الخلاف 1: 694 و 695، المسألتان 475 و 478.

275
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

و يكره أمور ؛ ج‌1، ص : 275

غسلات بماء الكافور و الحرض، و امسح يدك على بطنه مسحاً رفيقاً، ثمّ تحوّل إلى رأسه فاصنع كما صنعت أوّلًا بلحيته من جانبيه كليهما «1» و رأسه و وجهه بماء الكافور ثلاث غسلات، ثمّ ردّه إلى الجانب الأيسر حتى يبدو لك الأيمن، فاغسله من قرنه إلى قدمه ثلاث غسلات، و أدخل يدك تحت منكبيه و ذراعيه، و يكون الذراع و الكف مع جنبه ظاهرة، كلّما غسلت شيئاً منه أدخلت يدك تحت منكبه و في باطن ذراعيه، ثمّ ردّه على ظهره، ثمّ اغسله بماء القراح كما صنعت أوّلًا، تبدأ بالفرج ثمّ تحوّل إلى الرأس و اللحية و الوجه حتى تصنع كما صنعت أوّلًا، بماء قراح، ثمّ أذفره بالخرقة، و يكون تحتها القطن تذفره به إذفاراً قطناً كثيراً، ثمّ شدّ فخذيه على القطن بالخرقة شدّاً شديداً حتى لا يخاف أنه يظهر شي‌ء، و إيّاك أن تقعده أو تغمز بطنه، و إيّاك أن تحشو في مسامعه شيئاً، فإن خفت أن يظهر من المنخر شي‌ء فلا عليك أن تصيّر ثَمَّ قطناً، و إن لم تخف فلا تجعل فيه شيئاً، و لا تخلّل أظفاره، و كذلك غسل المرأة. «2»

و الثاني: رواه يونس بن عبد الرحمن رحمه اللّه عنهم عليهم السّلام، قال‌

إذا أردت غسل الميّت فضَعه على المغتسل مستقبل القبلة، فإن كان عليه قميص فأخرج يده من القميص و اجمع قميصه على عورته و ارفعه «3» من رِجْليه إلى فوق الركبة، و إن لم يكن عليه قميص فألق على عورته خرقةً، و اعمد إلى السدر فصيّره في طست و صبّ عليه الماء و اضربه بيدك حتى ترتفع رغوته، و اعزل الرغوة في شي‌ء، و صبّ الآخر في الإجّانة التي فيها الماء، ثمّ اغسل يده ثلاث مرّات كما يغتسل الإنسان من الجنابة إلى نصف الذراع، و اغسل فرجه و أنقه، ثمّ اغسل رأسه بالرغوة، و بالغ في ذلك و اجتهد أن لا يدخل الماء منخريه و مسامعه، ثمّ أضجعه على جانبه الأيسر، و صبّ الماء من نصف رأسه إلى قدمه ثلاث مرّات، و أدلك بدنه دلكاً رفيقاً. و كذلك ظهره و بطنه، ثمّ أضجعه على جانبه الأيمن فافعل به مثل ذلك، ثمّ صبّ ذلك الماء من الإجّانة و اغسل الإجّانة بماء قَراح، و اغسل يديك إلى المرفقين، ثمّ صبّ الماء في الآنية و ألق فيه حبّات كافور، و افعل به كما فعلت في المرّة الأُولى، ابدأ بيديه

______________________________
(1) في «ق، م» و الكافي: «كلاهما».

(2) الكافي 3: 141140/ 4؛ التهذيب 1: 299298/ 873.

(3) في «ق، م» و التهذيب: «و ارفعهما».

276
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في تكفين الميت ؛ ج‌1، ص : 277

 

ثمّ بفرجه، و امسح بطنه مسحاً رفيقاً، فإن خرج شي‌ء فأنقه، ثمّ اغسل رأسه، ثمّ أضجعه على جنبه الأيسر كما فعلتَ أوّل مرّة، ثمّ اغسل يديك إلى المرفقين، و الآنية، ثمّ صبّ فيه ماء القراح، و اغسله بماء القراح كما غسلت في المرّتين الأوّلتين، ثمّ نشّفه بثوب طاهر، و اعمد إلى قطن فذرّ عليه شيئاً من حنوط وضَعه على فرجه قُبُل و دُبُر، و احش القطن في دُبُره؛ لئلا يخرج منه شي‌ء، و خُذ خرقةً طويلة عرضها شبر فشدّها من حقويه، و ضمّ فخذيه ضمّاً شديداً و لفّها في فخذيه، ثمّ أخرج رأسها من تحت رِجْليه إلى الجانب الأيمن و أغمزها في الموضع الذي لففت فيه الخرقة، و تكون الخرقة طويلةً تلفّ فخذيه من حقوه إلى ركبته لفّاً شديداً. «1»

[القول في تكفين الميت]

[يجب في التكفين أمور]

(فإذا فرغت من غسله، وجب تكفينه في ثلاثة أثواب) مع الاختيار؛ لقول الباقر عليه السّلام في خبر زرارة‌

إنّما الكفن المفروض ثلاثة أثواب و ثوب تامّ لا أقلّ منه يواري به جسده كلّه، فما زاد فهو سنّة حتى يبلغ خمسة. «2»

و استدلّ بأنّ النبي صلى الله عليه و آله صلّى اللّه عليه و آله كُفّن في ثلاثة أثوابٍ بيضٍ سحوليّة، «3» بالسين المفتوحة ثمّ الحاء المهملة، قيل: منسوب إلى سحول قرية باليمن. «4»

و في دلالته على الوجوب نظر.

و يجزئ عند الضرورة ثوبان، بل لو لم يوجد إلا ثوب واحد، كفى؛ لأنّ الضرورة تبيح دفنه بغير كفن فببعضه أولى.

و اكتفى سلّار «5» بالواحدة اختياراً؛ للأصل.

و لقول الباقر عليه السّلام في خبر زرارة، المتقدّم «6»

إنّما الكفن المفروض ثلاثة أثواب و ثوب تامّ لا أقلّ منه يواري به جسده كلّه.

و جوابه: أنّ الأصل عُدل عنه؛ لدليلٍ، و يمكن أن يكون هو الإجماع. و لفظ «ثوب»‌

______________________________
(1) الكافي 3: 142141/ 5؛ التهذيب 1: 301/ 877.

(2) الكافي 3: 144/ 5؛ التهذيب 1: 292/ 854، و فيه: «أو ثوب».

(3) صحيح مسلم 1: 649/ 941، سنن البيهقي 3: 559/ 6671.

(4) انظر: معجم البلدان 3: 195؛ و المصباح المنير 21: 268، «س ح ل».

(5) المراسم: 47.

(6) آنفاً.

 

277
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

يجب في التكفين أمور ؛ ج‌1، ص : 277

في الرواية محذوف من كثير من النسخ، و لو تمّ فظاهره وجوب الأربعة، و لم يقل به أحد، فالأولى تنزيله على كونه بياناً لأحد الثلاثة، و هو الإزار؛ لأنّه يجب ستره لجميع البدن، فيكون كعطف الخاصّ على العامّ.

أحد الثلاثة (مئزر) بكسر الميم ثمّ الهمزة الساكنة و ربما عبّر عنه بالإزار، و هو ثابت لغةً، و المفهوم في تقديره عرفاً أن يستر ما بين السرّة و الركبة. و يجوز كونه إلى القَدَم بإذن الوارث، أو وصيّة الميّت، النافذة.

و يحتمل الاكتفاء فيه بما يستر العورة؛ لأنّه موضوع ابتداءً لسترها. و يستحبّ أن يكون بحيث يستر ما بين صدره و قدمه.

(و) الثاني (قميص) و هو ثوب يصل إلى نصف الساق؛ لأنّه المتعارف، و يجوز إلى القَدَم مع مراعاة ما تقدّم، و يمكن جوازه مطلقاً.

و هل يتعيّن القميص، أو يقوم مقامه ثوب شامل لجميع البدن؟ الأكثر على الأوّل؛ لما روي أنّ النبي صلى الله عليه و آله صلّى اللّه عليه و آله كُفّن في قميص. «1»

و لخبر معاوية بن وهب عن الصادق عليه السّلام‌

يكفّن الميّت في خمسة أثواب: قميص لا يزرّ عليه. «2»

و اختار المحقّق في المعتبر «3» تبعاً لابن الجنيد «4» الثاني، لخلوّ أكثر الروايات من تعيينه، فيثبت التخيير. و قد تقدّم منها حديث زرارة. «5»

و عن محمّد بن سهل، عن أبيه، قال: سألت أبا الحسن عليه السّلام عن الثياب التي يصلّي الرجل فيها يكفّن بها؟ قال‌

أُحبّ ذلك الكفن

يعني قميصاً، قلت: يدرج في ثلاثة أثواب؟ قال‌

لا بأس، و القميص أحبّ إليّ. «6»

(و) الثالث (إزار) بكسر الهمزة و هو ثوب شامل لجميع البدن، و لا بدّ من زيادته‌

______________________________
(1) سنن ابن ماجة 1: 472/ 1471؛ سنن أبي داوُد 3: 199/ 3153؛ كنز العمّال 7: 258/ 18806- 18808، مجمع الزوائد 3: 24 نقلًا عن الطبراني في المعجم الكبير.

(2) الكافي 3: 145/ 11؛ التهذيب 1: 293/ 858، و 310/ 900.

(3) المعتبر 1: 279.

(4) حكاه عنه المحقّق في المعتبر 1: 279.

(5) تقدّم في ص 277.

(6) التهذيب 1: 292/ 855.

278
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

يجب في التكفين أمور ؛ ج‌1، ص : 277

على ذلك بحيث يمكن شدّها «1» من قِبَل رأسه و رِجْليه. و الواجب فيه عرضاً أن يشمل البدن كذلك و لو بالخياطة، و ينبغي زيادته بحيث يمكن جَعل أحد جانبيه على الآخر، كما تشهد به الأخبار، و أمّا كونها «2» لفّافةً فلا يدلّ على ذلك خصوصاً، بل على الأعمّ منه و ممّا تقدّم؛ لأنّ المعتبر فيها لفّ البدن، و هو يحصل بهما.

قال المحقّق الشيخ علي رحمه اللّه: و يراعى في جنس هذه الأثواب التوسّط باعتبار اللائق بحال الميّت عرفاً، فلا يجب الاقتصار على أدون المراتب و إن ماكس الورثة أو كانوا صغاراً؛ حملًا لإطلاق اللفظ على المتعارف. «3»

و هو حسن؛ لأنّ العرف هو المحكّم في أمثال ذلك ممّا لم يرد له تقدير شرعيّ.

و المفهوم من خبر زرارة المتقدّم «4» الاكتفاء بمواراة البدن بالثلاثة، فلو كان بعضها رقيقاً بحيث لا يستر العورة و يحكي البدن، لم يضرّ مع حصول الستر بالمجموع.

و الأجود اعتبار الستر في كلّ ثوب؛ لأنّه المتبادر، و ليس في كلامهم ما يدلّ عليه نفياً و لا إثباتاً.

و يعتبر في الأثواب كونها (بغير الحرير) المحض، سواء في ذلك الرجلُ و المرأة باتّفاقنا، كما حكاه في الذكرى. «5»

و احترز بالمحض عن الممتزج به بحيث لا يستهلكه الحرير، فإنّه يجوز التكفين فيه كما تجوز الصلاة.

و يعتبر فيها أيضاً كونها ممّا تصحّ فيها الصلاة، فلا يجوز التكفين بالمتّخذ من شعر و وبر ما لا يؤكل لحمه و إن كانت العبارة تشمله.

أمّا شعر و وبر و صوف ما يؤكل لحمه فلا بأس. و لا عبرة بمنع ابن الجنيد «6» منه؛ إذ لا يعلم سنده.

و أمّا الجلد فلا يصحّ التكفين فيه مطلقاً؛ لعدم إطلاق اسم الثوب عليه، و لوجوب نزعه‌

______________________________
(1) تأنيث الضمير باعتبار اللفّافة.

(2) تأنيث الضمير باعتبار اللفّافة.

(3) جامع المقاصد 1: 382.

(4) في ص 277.

(5) الذكرى 1: 355.

(6) حكاه عنه المحقّق الحلّي في المعتبر 1: 280؛ و كذا العلامة الحلّي في تذكرة الفقهاء 2: 7 ذيل المسألة 156.

279
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

يجب في التكفين أمور ؛ ج‌1، ص : 277

عن الشهيد فهنا أولى.

و كذا لا يصحّ في المغصوب و النجس؛ لعدم جواز الصلاة فيهما.

هذا مع الاختيار، أمّا مع الضرورة فلا يجوز في المغصوب قطعاً، و في غيره ثلاثة أوجُهٍ: المنع؛ لإطلاق النهي. و الجواز؛ لئلا يدفن عارياً مع وجوب ستره و لو بالحجر. و وجوب ستر العورة لا غير حالة الصلاة ثمّ ينزع بَعدُ.

قال في الذكرى تفريعاً على الاحتمالين الأخيرين: فالجلد مقدّم؛ لعدم صريح النهي فيه، ثمّ النجس؛ لعروض المانع، ثمّ الحرير؛ لجواز صلاة النساء فيه، ثمّ وبر غير المأكول.

قال: و في هذا الترتيب للنظر مجال؛ إذ يمكن أولويّة الحرير على النجس؛ لجواز صلاتهنّ فيه اختياراً «1». انتهى.

و نُوقش في باقي المراتب أيضاً:

أمّا في الجلد: فلأنّ الأمر بنزعه عن الشهيد يدلّ على المنع في غيره بمفهوم الموافقة، و هي أقوى من الصريح، و لم يدلّ دليل على الجواز فيه، و التكفين بالممنوع منه بمنزلة العدم شرعاً، و القبر كافٍ في الستر، و الأمر التعبّدي متعذّر على كلّ تقدير.

و مثله القول في الحرير. و جواز صلاة النساء [فيه «2»] لا يقتضي جواز التكفين به؛ لعدم الملازمة. على أنّه لو تمّ لزم اختصاص الحكم بالنساء، و ظاهر كلامه الإطلاق. و وبر غير المأكول أبعد من الجميع.

أمّا النجس فيدلّ على جوازه مع الضرورة عدم وجوب نزعه عن الميّت لو استوعبته النجاسة و تعذّر غسلها و قرضه، و أنّه آئل إلى النجاسة عن قريب، فأمره أخفّ، فظهر المنع مطلقاً في غير النجس. «3»

و في البيان قَطَع بالتكفين فيما لا تمتنع الصلاة فيه من الجلود عند الضرورة، و توقّف في الباقي. «4»

______________________________
(1) الذكرى 1: 355.

(2) ما بين المعقوفين من المصدر.

(3) المناقش هو المحقّق الكركي في جامع المقاصد 1: 380.

(4) البيان: 72.

280
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

يجب في التكفين أمور ؛ ج‌1، ص : 277

و يجب تحنيطه (و) هو (أن يمسح مساجده) السبعة (بالكافور).

و وجهه مع النصّ و الإجماع أنّ فيه تطييباً لموضع العبادة، و تخصيصاً لها بمزيد العناية.

و يُجتزأ في المسح (بأقلّه) و هو ما يحصل به مسمّاه؛ لصدق الامتثال.

و قيل: أقلّه مثقال. «1» و قيل: مثقال و ثلث. «2» و به روايات «3» محمولة على الفضيلة.

و اختصاص التحنيط بالسبعة هو المشهور.

و زاد المفيد «4» و ابن أبي عقيل «5» الأنفَ، و الصدوقُ الصدرَ و السمع و البصر و الفم، و المغابن، «6» و هي الآباط و أُصول الأفخاذ.

و الأخبار مختلفة، و العمل على المشهور.

و لا يجب استيعاب المساجد بالمسح، بل يكفي منها مسمّاها أيضاً، و سيأتي إضافة الصدر إليها استحباباً.

و هذا الحكم ثابت لكلّ ميّت (إلا المُحْرم) فلا يجوز تحنيطه بالكافور (و) لا وضعه في ماء غسله، بل (يدفن بغير كافور) و لا غيره من أنواع الطيب؛ لقوله صلّى اللّه عليه و آله‌

لا تقربوه طيباً فإنّه يحشر يوم القيامة مُلبّياً. «7»

و لا يمنع من المخيط، و لا يكشف رأسه و ظاهر قدميه و إن اعتبر ذلك في المُحرم؛ لقول أحدهما و قد سأله محمّد بن مسلم عن المُحْرم كيف يصنع به إذا مات؟ قال‌

يغطّى وجهه، و يصنع به كما يصنع بالحلال غير أنّه لا يقرب طيباً. «8»

و منع المرتضى من تغطية رأسه. «9»

______________________________
(1) الفقيه 1: 91؛ المقنع: 59؛ المقنعة: 75؛ الخلاف 1: 704، المسألة 498.

(2) القائل هو الجعفي كما في الذكرى 1: 356.

(3) انظر: الكافي 3: 151/ 5؛ و التهذيب 1: 291/ 846 849.

(4) المقنعة: 78.

(5) حكاه عنه العلامة الحلّي في مختلف الشيعة 1: 228، المسألة 169؛ و الشهيد في الذكرى 1: 357.

(6) الفقيه 1: 91، المقنع: 59.

(7) صحيح البخاري 1: 427425/ 12091206؛ سنن النسائي 5: 195 و 196؛ سنن البيهقي 3: 551/ 6647؛ مسند أحمد 1: 547/ 3066 بتفاوت يسير.

(8) التهذيب 1: 330/ 965.

(9) حكاه عنه المحقّق الحلّي في المعتبر 1: 326؛ و العِمة الحلّي في نهاية الإحكام 2: 551/ 6647؛ و الشهيد في الذكرى 1: 318؛ و المحقّق الكركي في جامع المقاصد 1: 398.

281
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

و يستحب في تغسيل الميت أمور ؛ ج‌1، ص : 282

و لا فرق بين الإحرامين؛ للعموم.

و لو أفسد حجّه بالجماع، فكالمُحْرم الصحيح؛ لوجوب الإتمام، و مساواته له في الأحكام.

و لا فرق بين موته قبل الحلق أو التقصير أو بعده قبل طواف الزيارة؛ لأنّ تحريم الطيب إنّما يزول به.

أمّا لو مات بعد الطواف، ففي تحريمه حينئذٍ نظر: من إطلاق اسم المُحْرم عليه، و إباحة الطيب له حيّاً فهنا أولى.

و اختار المصنّف في النهاية الثاني. «1»

و لا تلحق به المعتدّة و المعتكف و إن حرم عليهما الطيب حيّين؛ لعدم النصّ، و بطلان القياس، و لأنّ الحداد للتفجّع على الزوج و قد زال بالموت.

[و يستحبّ في تغسيل الميت أمور]

(و يستحبّ أن يكون) قدر كافور الحنوط (ثلاثة عشر درهماً و ثلثاً).

و مستنده: أنّ جبرئيل عليه السّلام نزل على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بأربعين درهماً من كافور الجنّة، فقسّمه النبي صلى الله عليه و آله بينه و بين عليّ و فاطمة عليهم السّلام أثلاثاً. «2»

و ظاهر العبارة أنّ هذا القدر مختصّ بالحنوط و أنّ كافور الغسل غيره، و هو قول الأكثر، «3» و هو مصرّح في مرفوعة عليّ بن إبراهيم، قال‌

في الحنوط ثلاثة عشر درهماً و ثلث. «4»

و لا فرق في ذلك بين الرجل و المرأة.

و اعلم أنّ ظاهر العبارة أنّ التكفين مقدّم على التحنيط؛ لتقديمه عليه في الذكر و إن كانت الواو لا تدلّ على الترتيب.

و في النهاية قدّم نقله إلى أكفانه المبسوطة المعدّة له، قال: ثمّ يحنّطه واجباً. «5» و هو صريح في الترتيب.

______________________________
(1) نهاية الإحكام 2: 239.

(2) الكافي 3: 151/ 4؛ الفقيه 1: 91؛ علل الشرائع 1: 351/ 1، الباب 242؛ التهذيب 1: 290/ 845.

(3) كما في الذكرى 1: 356.

(4) الكافي 3: 151/ 4؛ التهذيب 1: 290/ 845.

(5) نهاية الإحكام 2: 241.

282
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

و يستحب في تغسيل الميت أمور ؛ ج‌1، ص : 282

و في خبر يونس عنهم عليهم السّلام، قال في تحنيط الميّت و تكفينه‌

ابسط الحبرة بسطاً، ثمّ ابسط عليها الإزار، ثمّ ابسط القميص عليه، ثمّ اعمد إلى كافور مسحوق فضَعه على جبهته إلى أن قال ثمّ يحمل فيوضع على قميصه و يردّ مقدّم القميص عليه «1»

الحديث. و هو دالّ صريحاً على تقديم الحنوط على التكفين و إن تأخّر عن البسط. و بمثله عبّر في الذكرى و البيان. «2»

و الظاهر عدم الترتيب بينه و بين التكفين.

و النيّة معتبرة فيهما؛ لأنّهما فعلان واجبان، لكن لو أخلّ بها، لم يبطل الفعل.

و هل يأثم بتركها؟ يحتمله، لوجوب العمل، و لا يتمّ إلا بالنيّة «3» لقوله عليه السّلام‌

لأعمل إلا بنيّة.؛

و عدمه أقوى؛ لأنّ القصد بروزهما للوجود، كالجهاد و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و قضاء الدّيْن و شكر النعمة و ردّ الوديعة؛ فإنّ هذه الأفعال كلّها يكفي مجرّد فعلها عن الخلاص من تبعة الذمّ و العقاب، و لكن لا يستتبع الثواب إلا إذا أُريد بها التقرّب إلى اللّه تعالى، كما نبّه عليه الشهيد رحمه اللّه في القواعد. «4»

و من هذا الباب توجيهه إلى القبلة، و حمله إلى القبر و دفنه فيه، و ردّ السلام، و إجابة المسمّت، و القضاء و الشهادة و أداؤها.

أمّا غسل الميّت فلا ريب في اشتراط النيّة فيه إذا لم نجعله إزالةَ نجاسةٍ، فلا يقع معتبراً في نظر الشرع إلا بها، كنظائره من الأغسال.

(و اغتسال الغاسل قبل التكفين) إن أراد هو التكفين، و المراد به غسل المسّ (أو الوضوء) الذي يجامع غسل المسّ للصلاة.

و علّل ذلك في التذكرة بأنّ الغسل من المسّ واجب، فاستحبّ الفوريّة. «5»

فإن لم يتّفق ذلك أو خِيف على الميّت، غسل الغاسل يديه من المنكبين ثلاثاً ثمّ‌

______________________________
(1) الكافي 3: 143/ 1؛ التهذيب 1: 306- 307/ 888.

(2) الذكرى 1: 374؛ البيان: 72.

(3) التهذيب 4: 186/ 520 عن الإمام الرضا.

(4) القواعد و الفوائد 1: 89 (الفائدة التاسعة).

(5) تذكرة الفقهاء 2: 18، المسألة 168.

283
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

و يستحب في تغسيل الميت أمور ؛ ج‌1، ص : 282

يكفّنه؛ للخبر. «1»

و حيث كان هذا الوضوء هو الوضوء المجامع للغسل فلا بدّ فيه من نيّة الاستباحة أو الرفع على القول به، و الوجوب إن كان في وقت واجبٍ مشروط به، و إلا الندب.

و قد تقدّم أنّ ما يتوقّف كمال فعله على الوضوء كقراءة القرآن لو نوى ذلك في الوضوء، رفع الحدث أيضاً على الخلاف، فليكن هنا كذلك.

(و زيادة حِبرَة) بكسر الحاء المهملة و فتح الباء الموحّدة ثوب يمنيّ (غير مطرّزة بالذهب) لامتناع الصلاة فيه حينئذٍ للرجال.

و زاد في الذكرى المنع من المطرزة بالحرير أيضاً؛ لأنّه إتلاف غير مأذون فيه. «2»

و زاد المصنّف «3» في غير هذا الكتاب و غيرُه «4» في وصف الحِبَرة أن تكون عبريّةً، و هي بكسر العين منسوبة إلى بلدٍ باليمن، أو جانب وادٍ. و قد ورد في حديث زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام‌

كُفّن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في ثوب يمنة عبريّ. «5»

و في بعض الأخبار أفضليّة الحمراء، قال الباقر عليه السّلام‌

كُفّن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في ثلاثة أثواب: برد حبرة أحمر، و ثوبين أبيضين صحاريّين «6»

و قال‌

إنّ الحسن بن علي عليه السّلام كفّن أُسامة بن زيد في برد أحمر حبرة، و إنّ عليّاً عليه السّلام كفّن سهل بن حنيف ببرد أحمر حبرة. «7»

و لو تعذّرت الأوصاف أو بعضها، كفت الحبرة المجرّدة. و عبارة المصنّف تقتضي الاكتفاء بها مطلقاً، فإن لم توجد، فلفّافة أُخرى.

و زيادة الحِبَرة (للرجل) لظاهر الأخبار المتقدّمة. و المشهور استحبابها للمرأة أيضاً؛ لعدم ما يدلّ على التخصيص، و الأخبار المذكورة لا تنفيها.

(و) يزاد الرجل أيضاً، بل تزاد المرأة أيضاً؛ لإطلاق الميّت في خبر معاوية بن وهب عن الصادق عليه السّلام «8»؛ (خرقة لفخذيه) تسمّى الخامسة، طولها ثلاثة أذرع و نصف في عرض شبر‌

______________________________
(1) التهذيب 1: 446/ 1444؛ الاستبصار 1: 208/ 731.

(2) الذكرى 1: 361.

(3) قواعد الأحكام 1: 18؛ تحرير الأحكام 1: 18.

(4) كالشهيد في الذكرى 1: 360.

(5) التهذيب 1: 292/ 853.

(6) التهذيب 1: 296/ 869.

(7) الكافي 3: 149/ 9؛ التهذيب 1: 296/ 868 و 869.

(8) الكافي 3: 145/ 11؛ التهذيب 1: 293/ 858، و 310/ 900.

284
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

و يستحب في تغسيل الميت أمور ؛ ج‌1، ص : 282

إلى شبر و نصف، يلفّ بها فخذاه لفّاً شديداً.

و إنّما اعتبرنا في العرض التقريب؛ لتحديده بشبر في خبر يونس، «1» و بشبر و نصف في خبر عمّار عن الصادق، عليه السّلام «2» و اختلاف الخبرين في القدر يدلّ على إرادة التقريب، و أنّ الأقلّ مجزئ و الأكثر أكمل.

و اعلم أنّا لم نظفر بخبرٍ شافٍ و لا فتوى يعتمد عليها في كيفيّة شدّها على التفصيل.

أمّا الأخبار: فقد تقدّم «3» في حديث عبد اللّه الكاهلي أنّه‌

يذفر بها إذفاراً

قال في الذكرى: هكذا وجد في الرواية، و المعروف: يثفر به إثفاراً من أثفرت الدابّة إثفاراً «4» ثمّ تشدّ فخذيه بالخرقة شدّاً شديداً.

و في خبر يونس‌

خُذ خرقةً طويلة عرضها شبر فشدّها من حقويه، و ضمّ فخذيه ضمّاً شديداً و لفّها في فخذيه، ثمّ أخرج رأسها من تحت رِجْليه إلى الجانب الأيمن، و اغمزها في الموضع الذي لففت فيه الخرقة. «5»

و عبارات الأصحاب أكثرها مشتملة على أنّه يلفّ بها فخذاه من غير تفصيل.

و الذي يمكن استفادته من الرواية الاولى إن كان المراد من الإذفار هو الإثفار كما ذكره الشهيد أن يربط أحد طرفي الخرقة على وسطه إمّا بشقّ رأسها، أو بأن يجعل فيها خيط و نحوه يشدّها، ثمّ يدخل الخرقة بين فخذيه و يضمّ بها عورته ضمّاً شديداً، و يخرجها من الجانب الآخر و يدخلها تحت الشداد الذي على وسطه، و هذا هو المراد من الإثفار، كما تقدّم بيانه في المستحاضة، ثمّ تلفّ حقويه و فخذيه بما بقي منها لفّاً شديداً، فإذا انتهت أدخل طرفها تحت الجزء الذي انتهى عنده منها.

و هذا هو الذي ينبغي العمل عليه و إن كان ظاهر خبر يونس ينافي بعضه، و هو قوله بعد لفّ فخذيه‌

ثمّ أخرج رأسها من تحت رِجْليه إلى الجانب الأيمن «6»

إلى آخره.

و يمكن الجمع بينهما بنوع تكلّف.

______________________________
(1) الكافي 3: 141- 142/ 5؛ التهذيب 1: 301/ 877.

(2) التهذيب 1: 305 306/ 887.

(3) في ص 275- 276.

(4) الذكرى 1: 334- 335.

(5) الكافي 3: 141- 142/ 5؛ التهذيب 1: 301/ 877.

(6) الكافي 3: 141- 142/ 5؛ التهذيب 1: 301/ 877.

285
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

و يستحب في تغسيل الميت أمور ؛ ج‌1، ص : 282

و لو شدّ بها فخذيه على غير هذا الوجه بأيّ وجه اتّفق، أمكن الإجزاء، كما في خبر معاوية بن وهب‌

يعصّب بها وسطه «1»

و لظاهر الفتوى.

(و يعمّم) الرجل (بعمامة محنّكاً) بها، و يجعل لها طرفان يخرجان من الجانبين و يلقيان على صدره مع مراعاة كون الخارج من الأيمن على الأيسر و بالعكس، كما في خبر يونس‌

يؤخذ وسط العمامة فيثني على رأسه بالتدوير، ثمّ يلقى فضل الشقّ الأيمن على الأيسر و الأيسر على الأيمن، ثمّ يمدّ على صدره. «2»

و لا تقدير لطول العمامة شرعاً، فيعتبر فيه ما يؤدّي هذه الهيئة، و في العرض ما يطلق معه عليها اسم العمامة.

(و تزاد المرأة لفّافة أُخرى لثدييها) لتضمّهما إلى صدرها، و تشدّ على الظهر، كما ورد في خبر سهل. «3»

و لا تقدير لهذه اللفّافة طولًا و لا عرضاً، بل ما يتأدّى به الغرض المطلوب منها.

(و) تزاد المرأة أيضاً (نمطاً) و هو لغةً: ضرب من البُسُط، و الجمع أنماط، قاله الجوهري، «4» و زاد ابن الأثير: له خمل رقيق. «5»

و هو ثوب من صوف فيه خُطَط مأخوذ من الأنماط، و هي الطرائق، و هو غير الحِبَرة و الإزار، خلافاً لابن إدريس؛ حيث جَعَله الحِبَرة، «6» تبعاً للشيخ في الاقتصاد. «7»

و محلّه فوق الجميع، و مع عدمه يجعل بدله لفّافة أُخرى، كما يجعل بدل الحِبَرة عند جماعة، «8» فيكون للمرأة ثلاث لفائف.

و في كلام جماعة «9»؛ من الأصحاب استحباب النمط للرجل أيضاً.

(و قناعاً عوض العمامة) لقول الصادق عليه السّلام‌

تكفّن المرأة في خمسة أثواب، أحدها:

______________________________
(1) الكافي 3: 145/ 11؛ التهذيب 1: 293/ 858، و 310/ 900.

(2) الكافي 3: 143/ 1؛ التهذيب 1: 307306/ 888.

(3) الكافي 3: 147 (باب تكفين المرأة) الحديث 2؛ التهذيب 1: 324/ 944.

(4) الصحاح 3: 1165، «ن م ط».

(5) النهاية لابن الأثير 5: 119، «ن م ط».

(6) السرائر 1: 160.

(7) الاقتصاد: 248.

(8) منهم: القاضي ابن البرّاج في المهذّب 1: 60.

(9) منهم: أبو الصلاح الحلبي في الكافي في الفقه: 237.

286
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

و يستحب في تغسيل الميت أمور ؛ ج‌1، ص : 282

الخمار «1»

و هو القناع؛ لأنّه يخمر به الرأس، أي: يستر.

(و) تستحبّ (الذريرة) للميّت بأن يطيّب بها كفنه.

و كيفيّته على ما ورد في الأخبار «2» و ذكره المصنّف في النهاية «3» أن يبسط أحسن اللفائف و أوسعها أوّلًا ليكون الظاهر للناس أحسنها كالحيّ يظهر أفخر ثيابه، و يجعل عليها الذريرة و الكافور، ثمّ يبسط الثانية التي تليها في الحسن و السعة، و يجعل فوقها ذريرة و كافور أيضاً، ثمّ يبسط القميص كذلك.

و روى سماعة عن الصادق عليه السّلام قال‌

إذا كفّنت الميّت فذرّ على كلّ ثوب شيئاً من ذريرة و كافور. «4»

و كذا يستحبّ جعلها على القطن الذي يوضع على الفرجين.

و في المنتهي: لا يستحبّ نثرها على اللفّافة الظاهرة. «5» و ما نقلناه ينافيه.

و قد اختلفت عبارة الأصحاب في الذريرة اختلافاً كثيراً أضبطه ما ذكره المصنّف في التذكرة تبعاً للمحقّق في المعتبر «6» أنّها الطيب المسحوق. «7»

و قال الشيخ في التبيان: هي فتات قصب الطيب، و هو قصب يجاء به من الهند كأنّه قصب النشاب. «8»

و في المبسوط و النهاية: يعرف بالقمحة «9» بضمّ القاف و تشديد الميم المفتوحة و الحاء المهملة، أو بفتح القاف و تخفيف الميم، واحدة القمح.

و ابن إدريس: هي نبات طيب غير الطيب المعهود يُسمّى القمحان «10» بالضمّ و التشديد.

قال في المعتبر: هذا التفسير خلاف المعروف بين العلماء. «11»

______________________________
(1) الكافي 3: 146/ 1؛ التهذيب 1: 324/ 946.

(2) منها ما في الكافي 3: 143/ 1؛ و التهذيب 1: 305/ 887، و 306/ 888.

(3) نهاية الإحكام 2: 245.

(4) الكافي 3: 143/ 3؛ التهذيب 1: 307/ 889.

(5) منتهى المطلب 1: 440.

(6) المعتبر 1: 284.

(7) تذكرة الفقهاء 2: 19، المسألة 169.

(8) التبيان 1: 448.

(9) المبسوط 1: 177؛ النهاية: 32.

(10) السرائر 1: 161.

(11) المعتبر 1: 284.

287
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

و يستحب في تغسيل الميت أمور ؛ ج‌1، ص : 282

و قال الصنعاني اللغوي: هي فعيلة بمعنى مفعولة: ما يذرّ على الشي‌ء، و قصب الذريرة دواء يجلب من الهند و اليمن، يجعلون أخلاطاً من الطيب يسمّونها الذريرة. «1»

و وجدت بخطّ شيخنا الشهيد رحمه اللّه نقلًا عن بعض الفضلاء: أنّ قصب الذريرة هي القمحة التي يؤتى بها من ناحية نهاوند، و أصلها قصب نابت في أجمة في بعض الرساتيق يحيط بها حيّات، و الطريق إليها على عدّة عقبات، فإذا طال ذلك القصب ترك حتى يجفّ، ثمّ يقطع عقداً و كعاباً، ثمّ يعبَأ في الجوالقات، فإذا أُخذ على عقبة من تلك العقبات المعروفة عفن و صار ذريرةً، و تسمّى قمحة، و إن سلك به على غير تلك العقبات، بقي قصباً لا يصلح إلا للوقود.

قال المحقّق الشيخ علي في توجيه القول الأوّل: اللفظ إنّما يحمل على المتعارف الشائع الكثير؛ إذ يبعد استحباب ما لا يُعرف و لا يعرفه إلا الأفراد من الناس. «2»

و في كلام المعتبر في الردّ على ابن إدريس إيماء إلى ذلك.

(و) كذا تستحبّ (الجريدتان من النخل) للميّت المؤمن، واحدها جريدة، و هي العود الذي يجرد عنه الخوص، و لا يسمّى جريداً ما دام عليه الخوص، و إنّما يسمّى سعفاً.

و على استحباب الجريدتين إجماع الإماميّة، و قد ورد بهما الأخبار من طُرُق العامّة: أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال‌

خضّروا موتاكم فما أقلّ المخضّرين. «3»

و أسند سفيان الثوري من العامّة إلى الباقر عليه السّلام حين سأله عن التخضير، فقال‌

جريدة خضراء توضع من أصل الثدي «4» إلى أصل الترقوة. «5»

و الأصل في شرعيّتهما مع ذلك أنّ آدم عليه السّلام لمّا هبط من الجنّة خلق اللّه تعالى من فضل طينته النخلة، فكان يأنس بها في حياته فأوصى بنية أن يشقّوا منها جريداً بنصفين و يضعوه معه في أكفافه، و فَعَله الأنبياء عليهم السّلام بعده إلى أن درس في الجاهليّة، فأحياه نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله. «6»

و في صحاح العامّة عن ابن عباس أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله مرّ بقبرين فقال‌

إنّهما ليعذّبان

______________________________
(1) حكاه عنه الشهيد في الذكرى 1: 359.

(2) جامع المقاصد 1: 394 و فيه: ما لا يُعرف أولا تعرفه الأفراد من الناس.

(3) لم نعثر عليه في مصادر الحديث لأبناء العامّة، المتوفّرة لدينا، و نحوه في الكافي 3: 152/ 2؛ و الفقيه 1: 88/ 408.

(4) في الكافي و الفقيه: «اليدين» بدل «الثدي» و في الوسائل: «الثديين».

(5) الكافي 3: 152/ 2؛ الفقيه 1: 88- 89/ 408؛ الوسائل 3: 26، الباب 10 من أبواب التكفين، الحديث 1.

(6) المقنعة: 82- 83؛ التهذيب 1: 326/ 952 و 953.

288
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

و يستحب في تغسيل الميت أمور ؛ ج‌1، ص : 282

و ما يعذّبان بكبير، أمّا أحدهما فكان لا يستنزه من البول، و أمّا الآخر فكان يمشي بالنميمة

و أخذ جريدةً رطبة فشقّها بنصفين و غرز في كلّ قبرٍ واحدة، و قال‌

لعلّه يخفّف عنهما ما لم تيبسا. «1»

و في أخبارنا أنّه صلّى اللّه عليه و آله مرّ على قبر يعذّب صاحبه، فشقّ جريدةً بنصفين، فجعل واحدة عند رأسه و الأُخرى عند رِجْليه و قال‌

يخفّف عنه العذاب ما كانتا خضراوين. «2»

و عن الباقر عليه السّلام‌

إنّما الحساب و العذاب كلّه في يومٍ واحد في ساعة واحدة، قدر ما يدخل القبر و يرجع القوم، و إنّما جعلت السعفتان لذلك، فلا يصيبه عذاب و لا حساب بعد جفافهما، إن شاء اللّه تعالى. «3»

قال المرتضى رضي اللّه عنه في الردّ على منكرهما من العامّة: التعجّب من ذلك كتعجّب الملاحدة من الطواف و الرمي و تقبيل الحجر بل من غسل الميّت و تكفينه مع سقوط التكليف عنه، و كثير من الشرائع مجهولة العلل. «4»

إذا تقرّر ذلك، فقد علم ممّا سلف من الأخبار كونهما من النخل (و إلا) أي: و إن لم يوجد النخل (فمن السدر، و إلا فمن الخلاف) بكسر الخاء و تخفيف اللام، و هذا الترتيب ورد في خبر سهل بن زياد عن عدّة ( «5» و إلا فمن شجر رطب) ذكره الأصحاب.

و روى عليّ بن إبراهيم أنّها إذا فُقدت من النخل تُبدّل بغيرها «6» من غير ترتيب. و في رواية أُخرى عنه: تُبدّل بالرمّان. «7»

و الجمع بينهما و بين خبر سهل بتأخير الرمّان عن الخلاف، كما صنع الشهيد رحمه اللّه في الدروس. «8»

فإن فُقد الرمّان، فعود أخضر، و عليه يحمل إطلاق البدل في الرواية السالفة؛ لما روي‌

______________________________
(1) صحيح البخاري 1: 464/ 1312؛ صحيح مسلم 1: 240 241/ 292؛ سنن أبي داوُد 1: 6/ 20؛ سنن النسائي 4: 106.

(2) الفقيه 1: 88/ 405.

(3) الكافي 3: 152/ 4؛ الفقيه 1: 89/ 410.

(4) الانتصار: 132.

(5) الكافي 3: 153/ 10؛ التهذيب 1: 294/ 859.

(6) الكافي 3: 154153/ 11؛ التهذيب 1: 294/ 860.

(7) الكافي 3: 154/ 12؛ التهذيب 1: 294/ 861.

(8) الدروس 1: 109.

289
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

و يستحب في تغسيل الميت أمور ؛ ج‌1، ص : 282

عن الكاظم عليه السّلام‌

لا يجوز اليابس «1»

و التعليل المتقدّم يدلّ عليه.

و أمّا قدرهما طولًا: فالمشهور كونه قدر عظم الذراع. و روى‌

قدر ذراع «2»

و في آخر‌

قدر شبر «3»

و قيل: أربع أصابع فما فوقها. «4»

قال في الذكرى: و الكلّ جائز؛ لثبوت الشرعيّة مع عدم القاطع على قدر معيّن. قال: و هل تشقّ أو تكون صحيحةً؟ الخبر دلّ على الأوّل، و العلّة تدلّ على الثاني، و الظاهر جواز الكلّ. «5»

و في دلالة العلّة على الثاني نظر؛ لما تقدّم من أنّ العذاب و الحساب كلّه في يومٍ واحد أو أقلّ، و الخضرة لا تزول في هذه المدّة و إن شقّتا قطعاً، و لكن استحبّ الأصحاب جَعلهما في قطنٍ محافظةً على الرطوبة، و هو يدلّ على استمرار النفع بهما زيادةً على ما ذكر، و هو موافق لطول وحشة البرزخ و أهواله.

و أمّا محلّهما: فالمشهور أنّ إحداهما من جانبه الأيمن لاصقةً بجلده من ترقوته، و الأُخرى من ترقوة جانبه الأيسر بين القميص و الإزار.

و قيل: إنّ اليسرى عند وركه ما بين القميص و الإزار. «6»

و في خبر يونس‌

يجعل له واحدة بين ركبتيه، نصف فيما يلي الساق و نصف فيما يلي الفخذ، و يجعل الأُخرى تحت إبطه الأيمن «7»

و اختاره بعض الأصحاب. «8»

و روى عن الصادق عليه السّلام حين سأله بعض أصحابه عن الجريدة توضع في القبر، قال: «لا بأس. «9»»‌

قال المحقّق في المعتبر: مع اختلاف الروايات و الأقوال يجب الجزم بالقدر المشترك بينها،

______________________________
(1) التهذيب 1: 432/ 1381.

(2) الكافي 3: 143/ 1؛ التهذيب 1: 307306/ 888، و 308 309/ 896.

(3) الكافي 3: 153152/ 5؛ التهذيب 1: 309/ 897.

(4) القائل هو ابن أبي عقيل كما حكاه عنه العلامة الحلّي في مختلف الشيعة 1: 232، المسألة 173.

(5) الذكرى 1: 370.

(6) القائل هو عليّ بن بابويه كما حكاه عنه المحقّق الحلّي في المعتبر: 288؛ و العِمة الحلّي في مختلف الشيعة 1: 233، المسألة 174 و ولده الصدوق في الفقيه 1: 91 92.

(7) الكافي 3: 143/ 1؛ التهذيب 1: 307306/ 888.

(8) و هو الجعفي كما حكاه عنه الشهيد في الذكرى 1: 371.

(9) الكافي 3: 153/ 9؛ الفقيه 1: 88/ 406؛ التهذيب 1: 328/ 958.

290
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

و يستحب في تغسيل الميت أمور ؛ ج‌1، ص : 282

و هو استحباب وضعها مع الميّت في كفنه أو في قبره بأيّ هذه الصور شئت. «1» انتهى.

هذا مع إمكان ذلك، و مع تعذّره للتقيّة توضع حيث يمكن؛ لخبر سهل. «2»

و إطلاق العبارة بل كلام الأصحاب و الأخبار يقتضي عدم الفرق في ذلك بين الصغير و الكبير و العاقل و المجنون؛ إقامةً للشعار و إن كان التعليل قد يوهم خلاف ذلك. و ممّن صرّح بوضعها مع الصغير و المجنون الشهيدُ في البيان. «3»

(و كتبة اسمه و أنّه يشهد الشهادتين و الإقرار بالنبيّ و الأئمّة عليهم السّلام على اللّفافة) و الأولى أن يراد بها الجنس، فيشمل الحِبَرة و الإزار (و) على (القميص و الإزار) و هو المئزر؛ لإطلاقه عليه لغةً.

هذا إن جعلنا اللفّافة للأعمّ من الإزار بحيث تشمله، و يمكن أن يريد بها الحِبَرة و يريد بالإزار المعروف منه، و هو اللفّافة الواجبة.

و في الدروس جمع في الكتابة بين الحبرة و اللفافة و الإزار، «4» و هو دالّ على ما قلناه من إرادة المئزر.

و على كلّ حال فاستحباب الكتابة ثابت عند الأصحاب على هذه المذكورات (و) على (الجريدتين).

و أمّا النمط فيمكن دخوله في اللفّافة، كما فسّرناها به.

و أضاف جماعة منهم الشهيد و الشيخ في المبسوط و ابن البرّاج «5» العمامة؛ معلّلًا بعدم تخصيص الخبر، و هو يقتضي استحباب الكتابة على جميع الكفن. و لا بأس به؛ لثبوت أصل الشرعيّة، و ليس في زيادتها إلا زيادة الخير.

و الأصل في الاستحباب ما رُوي أنّ الصادق عليه السّلام كتب على حاشية كفن ولده إسماعيل: إسماعيل يشهد أن لا إله إلا اللّه. «6» و زاد الأصحاب: و أنّ محمّداً رسول اللّه، و أسماء‌

______________________________
(1) المعتبر 1: 288.

(2) الكافي 3: 153/ 8؛ التهذيب 1: 327- 328/ 956.

(3) البيان: 75.

(4) الدروس 1: 110.

(5) البيان: 72؛ الدروس 1: 110؛ الذكرى 1: 372، المبسوط 1: 177؛ المهذّب 1: 61.

(6) التهذيب 1: 289/ 842، و 309/ 898.

291
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

و يستحب في تغسيل الميت أمور ؛ ج‌1، ص : 282

الأئمّة عليهم السّلام. و ظاهر الشيخ في الخلاف «1» دعوى الإجماع عليه، و لم يذكر الأصحاب استحباب كتبه شي‌ء غير ما ذُكر.

قال في الذكرى: فيمكن أن يقال بجوازه؛ قضيّةً للأصل. و بالمنع؛ لأنّه تصرّف لم يعلم إباحة الشرع له. «2»

قلت: ذلك لو تمّ لم تجز الزيادة على كتبه الشهادة بالوحدانيّة؛ لاعترافهم بعدم النصّ على الزيادة، و عدم تكريرها على قِطَع الكفن، فتفصيل الأصحاب بمحالّ الكتابة و تعديتها إلى ما ذكروه إنّما هو لاستئناسهم بسهولة الخطب في ذلك، و أنّه خير محض.

و لتكن الكتابة (بالتربة) الحسينيّة؛ لبركتها و شرفها، و مع عدمها بطين أبيض و ماءٍ.

و لم يعيّن ابن بابويه ما يكتب به؛ لعدم النصّ على الخصوص.

و ينبغي بلّ التربة؛ لتؤثّر الكتابة، حملًا على المعهود منها.

و لو عدم ما يكتب به فبالإصبع، ذكره الأصحاب.

(و سحق الكافور باليد) خوفاً من الضياع، ذكره جماعة «3» من الأصحاب.

قال في المعتبر بعد أن أسنده إلى الشيخين: و لم أتحقّق مستنده. «4»

(و جعل فاضله على صدره) كما ورد في خبر الحلبي عن الصادق. «5» عليه السّلام و علّل أيضاً: بأنّه مسجد في سجدة الشكر.

(و خياطة الكفن بخيوطه) قاله الشيخ «6» و جماعة «7» من الأصحاب، و لم يوجد به الآن خبر.

(و التكفين بالقطن) لقول الصادق عليه السّلام‌

الكتّان كان لبني إسرائيل يكفّنون به، و القطن

______________________________
(1) الخلاف 1: 706، المسألة 504.

(2) الذكرى 1: 372.

(3) منهم: الشيخ المفيد في المقنعة: 78؛ و الشيخ الطوسي في النهاية: 36؛ و المبسوط 1: 179؛ و ابن حمزة في الوسيلة: 66؛ و العِمة الحلّي في منتهى المطلب 1: 439؛ و يحيى بن سعيد في الجامع للشرائع: 53؛ و الشهيد في البيان: 73؛ و الذكرى 1: 358.

(4) المعتبر 1: 286.

(5) الكافي 3: 143 144/ 4؛ التهذيب 1: 307/ 890؛ الاستبصار 1: 212/ 746.

(6) المبسوط 1: 177.

(7) منهم: ابن حمزة في الوسيلة: 66؛ و المحقّق الحلّي في شرائع الإسلام 1: 32؛ و يحيى بن سعيد في الجامع للشرائع: 54؛ و الشهيد في البيان: 72.

292
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

و يكره أمور ؛ ج‌1، ص : 293

لُامّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله. «1»

و أفضله الأبيض في غير الحِبَرة؛ لقول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله‌

ليس من لباسكم أحسن من البياض فالبسوه و كفّنوا به موتاكم. «2»

و عنه صلّى اللّه عليه و آله‌

ألبسوا البياض، فإنّه أطهر و أطيب، و كفّنوا فيه موتاكم. «3»

[و يكره أمور]

(و يكره الكتّان) بفتح الكاف؛ لما تقدّم.

و لقول الصادق عليه السّلام في رواية يعقوب بن يزيد‌

لا يكفّن الميّت في كتّان. «4»

(و الأكمام المبتدأة) للقميص، قاله الجماعة، و به خبر «5» مرسل.

و احترز بالمبتدئة عمّا لو كفّن في قميصه؛ فإنّه لا يقطع كمّه، بل يقطع منه الأزرار خاصّة، و هو في الرواية «6» المرسلة أيضاً.

(و الكتابة بالسواد) قاله الأصحاب. و كما يكره به فكذا بغيره من الأصباغ غير الأبيض.

(و جعل الكافور في سمعه و بصره) خلافاً للصدوق «7» حيث استحبّه؛ استناداً إلى رواية «8» معارضة بأصحّ منها و أشهر.

(و تجمير الأكفان) بالمجمرة، و هو ما تدخّن به الثياب. و على كراهته إجماع علمائنا نقله في المعتبر. «9»

و يؤيّده أنّه فعل لم يأمر به الشرع، فيكون تضييعاً، و لقول عليّ عليه السّلام‌

لا تجمّروا الأكفان و لا تمسّوا موتاكم بالطيب إلا بالكافور، فإنّ الميّت بمنزلة المُحْرم. «10»

[مسائل]

(و كفن المرأة الواجب على زوجها) و الأصل فيه بعد الإجماع ما رواه السكوني عن الصادق عليه السّلام عن أبيه أن عليّاً عليه السّلام‌

______________________________
(1) الكافي 3: 149/ 7؛ الفقيه 1: 89/ 414؛ التهذيب 1: 434/ 1392؛ الإستبصار 1: 210/ 741.

(2) الكافي 3: 148/ 3؛ التهذيب 1: 434/ 1390.

(3) الكافي 6: 445/ 1 و 2.

(4) التهذيب 1: 451/ 1465؛ الاستبصار 1: 211/ 745.

(5) التهذيب 1: 305/ 886.

(6) التهذيب 1: 305/ 886.

(7) الفقيه 1: 91.

(8) التهذيب 1: 307/ 891؛ الاستبصار 1: 212/ 749.

(9) المعتبر 1: 290.

(10) الكافي 3: 147/ 3؛ التهذيب 1: 295/ 863؛ الاستبصار 1: 209/ 735.

293
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

مسائل ؛ ج‌1، ص : 293

قال‌

على الزوج كفن امرأته إذا ماتت. «1»

و علّله المصنّف في التذكرة: بثبوت الزوجيّة إلى حين الوفاة، و بأنّ مَنْ وجبت نفقته و كسوته حال الحياة وجب تكفينه كالمملوك فكذا الزوجة. «2»

و يضعّف الأوّل: بعدم دلالة ما قبل الوفاة على ما بعدها.

أمّا المطابقة و التضمّن: فظاهر.

و أمّا الالتزام: فلعدم الملازمة فيما ذُكر؛ لاستلزام الموت عدم كثير من أحكام الزوجيّة، و لهذا جاز له تزويج أُختها و الخامسة.

و الثاني: بانتقاضه بواجب النفقة من الأقارب، فإنّه لا يجب تكفينهم على القريب و إن وجبت عليه نفقتهم.

و علّل في الذكرى: بأنّها زوجة؛ لآية الإرث، «3» فتجب مئونتها؛ لأنّها من أحكام الزوجيّة. «4» و قريب منه تعليل المعتبر. «5»

و فيه: أنّه لو تمّ، لاقتضى اختصاص الحكم بالزوجة الدائمة الممكّنة، و لا يجب للمستمتع بها و لا الناشزة، مع أنّه في الذكرى توقّف في حكمهما و قال: التعليل بالإنفاق ينفي وجوب الكفن للناشز، و إطلاق الخبر يشمله، و كذا المستمتع بها. «6»

و الخبر ضعيف بالسكوني، لكن ربما انجبر بالشهرة.

و الأولى الاستناد إلى الإجماع، فقد نقله الشيخ، «7» و ناهيك به، و هو مطلق في الزوجة، و كذا الخبر، فيدخل فيهما الناشز و المستمتع بها. و التعليلات ليست معلومة الاطّراد و إن وُجدت في أكثر الأفراد. و حلّ الأُخت و الخامسة لا يقتضي خروج الزوجيّة، بل ضعفها، و هو غير كافٍ في الحكم، بل الواقع بقاء أصل الحقيقة، و لهذا جاز تغسيلها.

و لا فرق فيها بين الحُرّة و الأمة، و المطلّقة رجعيّةً زوجة، بخلاف البائن.

______________________________
(1) التهذيب 1: 445/ 1439.

(2) تذكرة الفقهاء 2: 1514، المسألة 164.

(3) النساء (4): 12.

(4) الذكرى 1: 381.

(5) المعتبر 1: 308.

(6) الذكرى 1: 382.

(7) الخلاف 1: 709 ذيل المسألة 510.

294
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

مسائل ؛ ج‌1، ص : 293

و كما يجب الكفن تجب أيضاً مئونة التجهيز، كالحنوط و غيره من الواجبات، صرّح بذلك جماعة «1» من الأصحاب.

و لا فرق أيضاً بين أن يكون لها مال أو لا، فيجب عليه (و إن كانت موسرةً) مع يساره.

أمّا لو أُعسر عن الكفن بأن لا يفضل! له شي‌ء غير قوت يوم و ليلة له و لعياله و ما يستثنى في الدين، سقط عنه، و كُفّنت من تركتها إن كان. و لو أُعسر عن البعض، أكمل من تركتها، كلّ ذلك مع عدم وصيّتها به.

أمّا لو أوصت بالكفن الواجب، كانت الوصيّة من ثلث مالها، و سقط عنه إن نفذت.

و لو ماتا معاً، لم يجب عليه كفنها؛ لخروجه عن التكليف حينئذٍ، كما اختاره في الذكرى، «2» بخلاف ما لو مات بعدها.

و لو لم يكن إلا كفن واحد، اختصّ به؛ لعدم تعلّقه بالعين قبل وفاته، و الوجوب المطلق سقط بطروء عجزه بموته، المقتضي لتقدّم تكفينه على جميع الديون، و كفنها ليس أقوى منها.

نعم، لو كان موته بعد وضعه عليها و قبل الدفن، أمكن اختصاصها به، أمّا لو كان بعد الدفن، فلا إشكال في الاختصاص.

و قد تقدّم أنّ واجب النفقة لا يلحق بالزوجة. و يستثنى منه المملوك؛ للإجماع عليه و إن كان مدبّراً أو مكاتباً مشروطاً أو مطلقاً لم يتحرّر منه شي‌ء أو أُمّ ولد. و لو تحرّر منه شي‌ء فبالنسبة.

و لو لم يتحصّل من جزء الرقّيّة ما يستر العورة و لم يحصل بجزء الحرّيّة شي‌ء يتمّ به ذلك، أمكن سقوطه عن المولى؛ لعدم الفائدة.

و لو كان مال الزوج أو المولى مرهوناً، سقط؛ لامتناع تصرّفه في الرهن، إلا أن تبقى بعد الدّيْن بقيّة يمكن التوصّل إلى صرفها في الكفن، فيجب ذلك بحسب المكنة من باب المقدّمة، كما في النفقة.

______________________________
(1) منهم: الشيخ الطوسي في المبسوط 1: 188؛ و ابن إدريس في السرائر 1: 171؛ و الشهيد في الدروس 1: 110، و الذكرى 1: 381؛ و المحقّق الكركي في جامع المقاصد 1: 399.

(2) الذكرى 1: 382.

295
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

مسائل ؛ ج‌1، ص : 293

فرع: لو وُجد الكفن و يئس منها، ففي كونه ميراثاً لورثتها أو عوده إلى الزوج وجهان: من ثبوت استحقاقها له، و عدم القطع بخروجه عن ملكه.

و لو كان من مالها، رجع ميراثاً. و لو كان من الزكاة أو بيت المال أو من متبرّعٍ، عاد إلى ما كان؛ لأنّه مشروط ببقائه كفناً و قد زال الشرط.

(و يقدّم الكفن) على الديون و الوصايا و الإرث (من الأصل) للإجماع.

و لقول النبيّ في الذي وقصت به راحلته‌

كفّنوه في ثوبيه «1»

و لم يسأل عن ثلثه.

و لقول الصادق عليه السّلام‌

ثمن الكفن من جميع المال. «2»

و المراد بالكفن الواجبُ دون ما زاد، فإنّ الدّيْن يقدّم عليه و إن كانت ثياب التجمّل مقدّمةً على الدّيْن؛ لحاجة الحيّ إلى التجمّل، و الميّت إلى براءة ذمّته أحوج.

و لو أوصى بالمندوب، فهو من الثلث، و بدونها «3» موقوف على تبرّع الوارث حتى لو أوصى بإسقاطه، فالأمر إلى الوارث.

و قيل: تنفذ وصيّته. «4» و ليس بشي‌ء.

و العبارة تقتضي بعمومها تقديمه على حقّ المرتهن و المجنيّ عليه و غرماء المفلّس. و إطلاق الأخبار «5» و كلام الأصحاب يؤيّده، و لعدم خروج المال عن الملك بذلك، و هو خيرة البيان. «6»

و يحتمل تقديم حقّ المرتهن و المجنيّ عليه؛ لاقتضائهما الاختصاص، و المنع من المئونة في حال الحياة، و هي متقدّمة على الدّيْن، و تقديم المجنيّ عليه دون المرتهن؛ لأخذه العين، و استقلاله بالأخذ، بخلاف المرتهن.

هذا كلّه مع عدم تأخّر الجناية و الرهن عن الموت، أمّا لو تأخّرا، قدّم الكفن قطعاً؛ لسبق‌

______________________________
(1) صحيح البخاري 1: 426/ 1207 1209؛ صحيح مسلم 2: 865/ 1206؛ سنن ابن ماجة 2: 103/ 3084؛ سنن أبي داوُد 3: 219/ 3238؛ سنن النسائي 5: 195.

(2) الكافي 7: 23 (باب أنّه يبدأ بالكفن ..) الحديث 1؛ الفقيه 4: 143/ 490؛ التهذيب 1: 437/ 1407، و 9: 171/ 696.

(3) أي بدون الوصيّة.

(4) كما في جامع المقاصد 1: 401؛ و انظر: تذكرة الفقهاء 2: 14.

(5) راجع المصادر في الهامش (2).

(6) البيان: 73.

296
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

مسائل ؛ ج‌1، ص : 293

سببه. و أمّا غرماء المفلّس فالكفن مقدّم عليهم قطعاً.

(ثمّ) يقدّم بعد الكفن و مئونة التجهيز (الدّيْن) و منه الحقوق الماليّة، كالزكاة و الخُمس و الكفّارة، و المشوبة به و بالبدن، كالحجّ الواجب، سواء أوصى بها أم لم يوص.

و لو أوصى بالخصلة العُليا من الكفّارة المخيّرة، ففي نفوذ الزائد منها عن قيمة الدنيا من الأصل أو الثلث وجهان ذكرهما المصنّف في التذكرة «1» و لم يرجّح شيئاً.

(ثمّ) بعد الدّيْن (الوصيّة) المتبرّع بها تخرج (من الثلث) و في حكمها العبادة البدنيّة المحضة، كالصلاة و الصوم، فإنّها مع الوصيّة بها تخرج من الثلث و إن كانت واجبةً؛ لعدم تعلّقها بالمال لولا الوصيّة، بل الأصل فيها وجوبها على الوليّ، و هو أكبر أولاده على ما يأتي، فتكون الوصيّة بالأُجرة تبرّعاً عن الوارث، فأُخرجت من الثلث.

أمّا لو أوصى بصلاة مندوبة أو باليوميّة احتياطاً مع فعله لها، فخروج أُجرتها من الثلث واضح، و على هذا فحكمها حكم غيرها من الوصايا في مزاحمة الثلث، و القرعة عند الجمع و التعارض و التوزيع و تقديم الأوّل فالأوّل مع ترتّبها بالفاء أو «ثمّ» و الواو على الأصحّ، و سيأتي تحقيق ذلك كلّه في الوصايا إن شاء اللّه تعالى.

(و الباقي) من التركة عن جميع ذلك كلّه (ميراث) يقسّم على الورثة حسب ما قرّر لهم.

(و يستحبّ للمسلمين بذل الكفن) للميّت (لو فُقد) الكفن إمّا لعدم ترك الميّت مالًا أو لمانعٍ من تكفينه به كالمرهون إن قدّمنا حقّ المرتهن.

و لو فُقد البعض، استحبّ لهم بذله، و فيه فضل جزيل.

روى سعد بن طريف عن أبي جعفر عليه السّلام‌

مَنْ كفّن مؤمناً كان كمن ضمن كسوته إلى يوم القيامة. «2»

و كذا القول في باقي مُؤن تجهيزه من السدر و الكافور و الماء.

و لا يجب ذلك عليهم؛ لأصالة البراءة، بل مع فقده يُدفن عارياً بعد أن تُستر عورته، و يُصلّى عليه قبل الدفن. فإن تعذّر الستر قبله، وُضع في القبر و سُترت بترابٍ و نحوه و صُلّي عليه.

______________________________
(1) تذكرة الفقهاء 2: 495 (الطبعة الحجريّة).

(2) الكافي 3: 164 (باب ثواب من كفّن مؤمناً) الحديث 1؛ التهذيب 1: 450/ 1461.

297
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

مسائل ؛ ج‌1، ص : 293

و لو كان للمسلمين بيت مال موجود، أُخذ الكفن وجوباً، و كذا باقي المُؤن؛ لأنّه مُعدّ للمصالح. و يجوز أخذه من سهم الفقراء و المساكين من الزكاة «1» لأنّ الميّت أشدّ فقراً من غيره، و كذا من سهم سبيل اللّه إن لم نخصّه بالجهاد.

و هل يجب ذلك؟ الظاهر نعم؛ للأمر به في خبر الفضل بن يونس عن الكاظم عليه السّلام حين سأله عن رجل مات من أصحابنا و لم يترك ما يكفّن به أشتري له كفنه من الزكاة؟ فقال‌

أعط عياله من الزكاة قدر ما يجهّزونه، فيكونون هم الذين يجهّزونه

قلت: فإن لم يكن له ولد و لا أحد يقوم بأمره فأُجهّزه أنا من الزكاة؟ قال‌

كان أبي يقول: إنّ حرمة بدن المؤمن ميّتاً كحرمته حيّاً، فوار بدنه و عورته و جهّزه و كفّنه و حنّطه و احتسب ذلك من الزكاة.؛

و هذا الحديث كما دلّ على الأمر بذلك دلّ أيضاً على تقديم الدفع إلى الوارث إن أمكن. و الظاهر أنّه على سبيل الأفضليّة لا الوجوب؛ لعدم القائل به.

(و لو خرج منه نجاسة بعد التكفين) و أصابت الكفن قبل وضعه في القبر (غُسلت من جسده و كفنه) لوجوب إزالة النجاسة، و لا يجوز قرضها حينئذٍ استبقاءً للكفن مع إمكان غَسله، و للنهي عن إتلاف المال حيث يمكن حفظه. و لو لم تُصب الكفنَ، اقتصر على تطهير محلّها.

(و لو أصابت الكفنَ بعد وضعه في القبر، قُرضت) للمشقّة في غَسلها حينئذٍ، فيسقط؛ للحرج.

و إذا قُرضت فإن أمكن جمع جوانبه بالخياطة، وجب، و إلا مدّ أحد الثوبين على الآخر ليستر المقطوع إن كان هناك غيره.

و أطلق الشيخ «2» قرضها؛ لصحيح الكاهلي عن الصادق. عليه السّلام «3» و المشهور ما فصّله المصنّف، لكنّ التعليل المتقدّم للمنع من القرض قبل وضعه في القبر يقتضي اشتراط تعذّر غسلها في جواز القرض بعده. و الجماعة أطلقوا الجواز.

هذا كلّه مع عدم تفاحش النجاسة بحيث يؤدّي القرض إلى إفساد الكفن و هتك الميّت،

______________________________
(1) التهذيب 1: 445/ 1440.

(2) النهاية: 43؛ المبسوط 1: 181.

(3) الكافي 3: 156/ 1؛ التهذيب 1: 436/ 1405، و 450449/ 1457.

298
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

مسائل ؛ ج‌1، ص : 293

و معه قال في الذكرى: فالظاهر وجوب الغَسل مطلقاً؛ استبقاءً للكفن؛ لامتناع إتلافه على هذا الوجه، و مع التعذّر يسقط؛ للحرج. «1»

(و يجب أن يطرح معه في الكفن) كلّ (ما يسقط من شعره و جسمه) للإجماع عليه، كما نقله المصنّف في التذكرة «2»؛ و ليكن ذلك بعد غسله. و يقبل التطهير كأصله.

(و الشهيد) و هو المسلم و مَنْ بحكمه الذي يموت في معركة قتالٍ أمر به النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أو الإمام أو نائبهما الخاصّ و هو من حزبهما، بسببه.

فخرج بقيد المسلم الكافرُ المساعد لأهل الحقّ إذا قُتل كذلك، فإنّه ليس بشهيد. و بقيد الموت في المعركة مَنْ جُرح فيها ثمّ نُقل منها و به رمق ثمّ مات، فإنّه لا تثبت له هذه الأحكام. و ظاهر الروايات أنّ إدراك المسلمين له و به رمق كافٍ في عدم لحوق الأحكام.

و التقييد بالقتال الذي أمر به النبيّ أو نائبه يُخرج مَنْ قُتل في غير ذلك و إن كان الجهاد سائغاً، كما لو دهم على المسلمين مَنْ يُخاف منه على بيضة الإسلام فاضطرّوا إلى جهادهم بدون الإمام أو نائبه، فإنّه لا يعدّ شهيداً بالنسبة إلى الأحكام و إن شارك الشهداء في الفضيلة على ما اختاره المصنّف «3» و جماعة. «4»

و لكن إطلاق الأخبار و عموم بعضها مثل: قول الصادق عليه السّلام‌

الذي يُقتل في سبيل اللّه يُدفن بثيابه و لا يُغسّل «5»

يقتضي كونه شهيداً و ثبوت الأحكام له، و اختاره الشهيد «6» و المحقّق في المعتبر، «7» و هو حسن.

قال في المعتبر: ما ذكره الشيخان من اعتبار القتل بين يدي النبيّ أو الإمام زيادة لم تُعلم من النصّ. «8»

و أمّا المقتول دون ماله و أهله في حرب قُطّاع الطريق فليس بشهيد بالنسبة إلى الأحكام‌

______________________________
(1) الذكرى 1: 377.

(2) تذكرة الفقهاء 2: 22، المسألة 175.

(3) انظر: نهاية الإحكام 2: 237236.

(4) منهم: المحقّق الكركي في جامع المقاصد 1: 365.

(5) الكافي 3: 212/ 5؛ التهذيب 1: 332/ 973.

(6) الذكرى 1: 321.

(7) المعتبر 1: 311.

(8) المعتبر 1: 311؛ و انظر: المقنعة: 84؛ و النهاية: 40؛ و المبسوط 1: 181.

299
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

مسائل ؛ ج‌1، ص : 293

إجماعاً و إن ساوى في الفضيلة؛ إذ لا يُعدّ ذلك جهاداً و محاماةً عن الدين. و إطلاق الشهادة في الأخبار «1» عليه و على المطعون و المبطون و الغريق و المهدوم عليه و النفساء لا للمشاركة للشهيد في الأحكام، بل للمساواة أو المقاربة له في الفضيلة.

و قوله في التعريف‌

و هو من حزبهما

يخرج به المسلم الباغي المقتول في المعركة كذلك، فلو لا القيد، لدخل في التعريف.

و قوله: «بسببه» أي بسبب القتال، يخرج به ما لو مات حتف أنفه.

و شمل التعريفُ الصغيرَ و الكبير و الرجل و المرأة و الحُرّ و العبد، و المقتول بالحديد و الخشب و الصدم و اللطم، و المقتول بسلاح نفسه و غيره حتى الموجود في المعركة ميّتاً و عليه أثر القتل.

أمّا لو خلا عنه، فحَكَم المصنّف «2» و جماعة «3» بكونه شهيداً أيضاً، عملًا بالظاهر، و لأنّ القتل لا يستلزم ظهور الأثر.

و قيل «4» ليس بشهيد؛ للشكّ في الشرط، و أصالة وجوب الغسل.

و حُكمُ الشهيد المذكور أن (يصلّى عليه من غير غسل و لا كفن، بل يُدفن بثيابه) للإجماع نَقَله المصنّف في النهاية «5»

و لفعل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ذلك بشهداء أُحد و قال‌

زمّلوهم بدمائهم فإنّهم يُحشرون يوم القيامة و أوداجهم تشخب دماً، اللون لون الدم و الريح ريح المسك. «6»

و لا فرق في سقوط تغسيله بين الجنب و ذات الدم و غيرهما على الأقوى؛ للعموم، خلافاً للمرتضى حيث أوجب تغسيل الجنب «7»؛ لإخبار النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بغسل الملائكة حنظلة بن الراهب «8»؛ لمكان خروجه جنباً.

______________________________
(1) دعائم الإسلام 1: 225- 226.

(2) تحرير الأحكام 1: 17؛ تذكرة الفقهاء 1: 375- 376.

(3) منهم: الشيخ الطوسي في المبسوط 1: 182؛ و المحقّق الحلّي في المعتبر 1: 312.

(4) القائل هو ابن الجنيد كما في المعتبر 1: 312.

(5) نهاية الإحكام 2: 235.

(6) كما في نهاية الإحكام 2: 235؛ و في سنن النسائي 4: 78؛ و سنن البيهقي 4: 17 و 18/ 6800 و 6802؛ و مسند أحمد 6: 601600/ 23145- 23147 بتفاوت.

(7) حكاه عنه المحقّق الحلّي في المعتبر 1: 310.

(8) الفقيه 1: 97/ 448؛ سنن البيهقي 4: 22- 23/ 6814 و 6815؛ المستدرك للحاكم 3: 204.

300
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في الدفن ؛ ج‌1، ص : 301

و أُجيب «1» بعدم استلزامه تكليفنا بذلك، فلعلّه تكليف الملائكة.

و يعارَض بخبر زرارة عن الباقر عليه السّلام في الميّت جنباً‌

يغسّل غسلًا واحداً يجزي للجنابة و لغسل الميّت. «2»

و عدم تكفينه مشروط ببقاء ثيابه أو شي‌ء منها، فلو جُرّد منها، كُفّن، كما فَعَل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بحمزة لمّا جُرّد، فإنّه كفّنه و صلّى عليه بسبعين تكبيرة. «3»

و لا فرق في دفنه بثيابه بين إصابة الدم لها و عدمها حتى السراويل؛ لأنّها من الثياب.

و ينزع عنه الفرو و الجلود كالخفّين؛ لعدم صدق اسم الثياب عليها، فلا تدخل في النصّ المتقدّم، فيكون دفنها معه تضييعاً، و قد روي أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أمر في قَتلى أُحد أن تنزع عنهم الجلود و الحديد. «4»

و دعوى إطلاق اسم الثوب على الجلد مندفعة: بأنّ المعهود عرفاً هو المنسوج، فينصرف الإطلاق إليه.

و لا فرق في نزعها عنه بين إصابة الدم لها و عدمها إلا على رواية «5» ضعيفة برجال الزيديّة تضمّنت دفنها معه إن أصابها الدم.

و دفن الثياب معه واجب، فلا تخيير بينها و بين تكفينه بغيرها عندنا.

[القول في الدفن]

(و صدر الميّت كالميّت في جميع أحكامه) فيجب تغسيله و تغسيل الجزء الذي فيه الصدر و تكفينه و الصلاة عليه.

و في وجوب تحنيطه نظر: من الحكم بكونه كالميّت، و من فَقْد مواضع الحنوط، الواجبة. و إطلاق المصنّف هنا جريان الأحكام يقتضي الجزم بالحنوط، فإن قلنا به، أجزأ وضع مسمّى الكافور عليه.

و يمكن جريان الإشكال في تكفينه بالقِطَع الثلاثة؛ لعدم وجوب ستر المئزر للصدر.

لكن يزول بجوازه أو استحبابه، و بأنّ بعض الأصحاب يرى جواز كون الثلاثة لفائف‌

______________________________
(1) المجيب هو الشهيد في الذكرى 1: 322.

(2) التهذيب 1: 432/ 1384؛ الإستبصار 1: 194/ 680؛ و في الكافي 3: 154/ 1 مضمراً.

(3) الكافي 3: 210 211/ 1 و 2؛ التهذيب 1: 331/ 969 و 970.

(4) سنن ابن ماجة 1: 485/ 1515؛ سنن أبي داوُد 3: 195/ 3134؛ سنن البيهقي 4: 22/ 6812؛ مسند أحمد 1: 409/ 2218.

(5) الكافي 3: 211- 212/ 4؛ التهذيب 1: 332/ 972.

301
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في الدفن ؛ ج‌1، ص : 301

تستر جميع البدن.

و لا يقال: لو كان جواز ستر الصدر بالمئزر كافٍ في وجوب تكفين الصدر بالثلاثة، لزم مثله في الحنوط؛ لاستحباب تحنيط الصدر فضلًا عن جوازه خاصّة.

لأنّا نجيب بالفرق بين الفردين؛ فإنّه في المئزر محكوم عليه بالوجوب، سواء زاد أم نقص، غايته أنّه فرد كامل للواجب، بخلاف تحنيط الصدر؛ فإنّ وجوبه منتفٍ قطعاً.

و يمكن أن يقال في عدم وجوب التحنيط: إنّ الحكم بكون الصدر أو ما فيه الصدر بحكم الميّت من كلام الأصحاب، و الموجود في النصوص إنّما هو وجوب الصلاة و الأغسال و التكفين، بل في مرفوعة البزنطي في الميّت إذا قطع أعضاءً‌

يصلّى على العضو الذي فيه القلب «1»

و أُلحق بها الغسل لزوماً، فيبقى وجوب التحنيط يحتاج إلى دليل، مع خلوّ الجزء الموجود من موضعه.

و من ثَمَّ قال الشهيد رحمه اللّه في بعض تحقيقاته على استشكال المصنّف في التحنيط: إن كانت محالّ الحنوط موجودةً، فلا إشكال في الوجوب، و إن لم تكن موجودةً، فلا إشكال في العدم. «2» و هو متّجه.

و القلب كالصدر؛ لظاهر الرواية المتقدّمة. «3»

و مثلها رواية علي بن جعفر عن أخيه موسى عليه السّلام في الرجل يأكله السبع فتبقى عظامه بغير لحم، قال‌

يغسّل و يكفّن و يصلّى عليه و يدفن، فإذا كان الميّت نصفين صلّي على النصف الذي فيه القلب. «4»

و لأنّ الصلاة بُنيت لحرمة النفس، و القلب محلّ العلم و موضع الاعتقاد الموصل إلى النجاة، فله مزيّة على غيره من الأعضاء.

و في حكمهما عظام الميّت جميعها؛ لرواية علي بن جعفر، المتقدّمة. «5»

و أمّا أبعاضهما فألحقها في الذكرى بهما أخذاً بأنّها من جملةٍ يجب غسلها منفردة. «6»

______________________________
(1) المعتبر 1: 317 نقلًا عن البزنطي في جامعه.

(2) كما في جامع المقاصد 1: 358؛ و حكاه العاملي أيضاً في مفتاح الكرامة 1: 413 عن حواشي الشهيد.

(3) و هي مرفوعة البزنطي.

(4) الكافي 3: 212/ 1؛ التهذيب 1: 336/ 983.

(5) آنفاً.

(6) الذكرى 1: 319.

302
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في الدفن ؛ ج‌1، ص : 301

و في الحكم و السند منع ظاهر.

و لا يلحق بهما الرأس؛ لعدم النصّ.

(و) القطعة من الإنسان (ذات العظم) غير ما ذُكر (و السقط لأربعة أشهر كذلك) يجب تغسيلهما بالغسل المعهود، و تكفينهما بالقِطَع الثلاث على الظاهر.

و يمكن اعتبار القطعة حال الاتّصال، فإن كانت القِطَع الثلاث تنالها حينئذٍ، وجبت، و لو نالها منها اثنتان، كفتا، و لو لم ينلها إلا واحدة، كفت.

و الأوّل أولى؛ للإطلاق، و لإمكان إجزاء الثلاثة ساترة للميّت حال الاتّصال.

و ينسحب في تحنيطها الإشكال المتقدّم.

(إلا في الصلاة) فإنّها لا تشرع إلا على المولود حيّاً، كما سيأتي.

أمّا القطعة ذات العظم من الميّت فذكرها الشيخان، «1» و احتجّ عليها في الخلاف بإجماعنا. «2»

و لم نقف لها على نصّ بالخصوص، و لكن نَقل الإجماع من الشيخ كافٍ في ثبوت الحكم، بل ربما كان أقوى من النصّ.

قال في الذكرى: و يلوح ذلك من حديث علي بن جعفر، المتقدّم؛ لصدق العظام على التامّة و الناقصة. «3»

و يشكل ذلك بأنّ الخبر تضمّن وجوب الصلاة عليها، و لا صلاة عندنا على الأبعاض غير ما ذكر؛ و بأنّ المذكور في الرواية في الرجل يأكله السبع و تبقى عظامه بغير لحم، و قد تقرّر في الأُصول أنّ الجمع المضاف يفيد العموم، فلذلك قلنا: إنّ حكم عظام الميّت جميعها حكمه؛ للرواية.

و إطلاق المصنّف‌

القطعة ذات العظم

يشمل المبانة من الحيّ و الميّت، و قد صرّح باتّحاد حكمهما فيما بعدُ، و استقربه في الذكرى. «4»

و قطع في المعتبر بدفن المبانة من الحيّ بغير غسل و إن كان فيها عظم؛ محتجّاً بأنّها من‌

______________________________
(1) المقنعة: 85، النهاية: 40؛ المبسوط 1: 182.

(2) الخلاف 1: 716715، المسألة 527.

(3) الذكرى 1: 317.

(4) الذكرى 1: 317.

303
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في الدفن ؛ ج‌1، ص : 301

جملةٍ لا يغسّل و لا يصلّى عليها. «1»

و أجاب في الذكرى: بأنّ الجملة لم يحصل فيها الموت، بخلاف المبانة من الميّت. «2»

و مختار المعتبر أوجَه؛ لعدم النصّ المقتضي للإلحاق، فيبقى التمسّك بأصالة البراءة. و خروج المبانة من الميّت إنّما ثبت بالإجماع المذكور، و إلا لكان الأصل عدم ثبوت أحكام الجملة للإجزاء.

نعم، به رواية «3» مرسلة سيأتي ذكرها لو تمّ الاحتجاج بها، لم يثبت الحكم للمبانة من الحيّ كالميّت.

و أمّا السقط إذا استكمل أربعة أشهر: فمستنده ما رواه الأصحاب عن أحمد بن محمّد عمّن ذكره، قال‌

إذا تمّ للسقط أربعة أشهر غسّل. «4»

و ما رواه زرعة عن سماعة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سألته عن السقط إذا استوت خلقته يجب عليه الغسل و اللحد و الكفن؟ قال‌

نعم، كلّ ذلك يجب عليه إذا استوى. «5»

و قَطعُ الاولى و ضعف سماعة في سند الثانية مغتفر بقبول الأصحاب مع عدم المعارض.

و يجب بمسّه الغسل. و أمّا الصلاة فمنتفية بالإجماع نَقَله في المعتبر. «6»

(و) القطعة (الخالية) من عظم (تُلفّ في خرقة و تدفن) من غير غسل (و كذا السقط لأقلّ من أربعة) أشهر لا يجب تغسيله بل يُلفّ في خرقة و يدفن وجوباً؛ لأنّ المعنى الموجب للغسل هو الموت، و هو مفقود هنا.

و لرواية محمّد بن الفضيل، «7» قال: كتبت إلى أبي جعفر عليه السّلام أسأله عن السقط كيف يصنع به؟ قال‌

السقط يدفن بدمه في موضعه. «8»

و ليس في الخبر ذكر الخرقة، بل ظاهره أنه يدفن مجرّداً، لكن ما اختاره المتأخّرون‌

______________________________
(1) المعتبر 1: 319.

(2) الذكرى 1: 317.

(3) و هي رواية أيّوب بن نوح، التي تأتي في ص 310.

(4) التهذيب 1: 328/ 960.

(5) التهذيب 1: 329/ 962.

(6) المعتبر 1: 319.

(7) في «ق، م» و الطبعة الحجريّة: «الفضل». و ما أثبتناه من المصدر.

(8) الكافي 3: 208/ 6؛ التهذيب 1: 329/ 961.

304
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في الدفن ؛ ج‌1، ص : 301

أولى، بل يظهر من المصنّف «1» دعوى الإجماع عليه.

(و يؤمر مَنْ وجب قتله بالاغتسال أوّلًا) غسل الأموات بالخليطين، و كذا بالتحنيط و التكفين (ثمّ لا يغسّل) بعد موته بذلك السبب الذي اغتسل له.

و وجوب القتل في العبارة أعمّ من أن يكون في حدّ أو قصاص، و النصّ عن الصادق عليه السّلام في خبر مسمع ورد في المرجوم و المرجومة أنّهما‌

يغتسلان و يتحنّطان و يلبسان الكفن قبل ذلك، و المقتصّ منه بمنزلة ذلك «2»

فألحقه الأصحاب به.

و الآمر له هو الإمام أو نائبه.

قال في الذكرى: و لا نعلم في ذلك مخالفاً من الأصحاب. «3»

فلا يضرّ حينئذٍ ضعف طريق الرواية إلى مسمع.

و إنّما وجب عليه تكرار الاغتسال مع أنّه حيّ؛ لأنّ المأمور به غسل الأموات، غايته أنّه مقدّم بدليل التحنيط و التكفين بعده، مع احتمال الاكتفاء بغسلٍ واحد؛ لما ذكر، و لأنّ الأمر لا يقتضي التكرار. و إنّما لم يغسّل بعد ذلك؛ للامتثال.

و لا يقدح في الاجتزاء به الحدث، تخلّل أو تأخّر؛ للامتثال.

و احتمل في الذكرى «4» إلحاقه بغسل الجنابة في الحدث المتخلّل.

و لا يدخل تحته شي‌ء من الأغسال الواجبة، بل يتعيّن فعل ما وجب منها.

أمّا عدم دخولها تحته: فلعدم نيّة الرفع أو الاستباحة فيه.

و أمّا عدم دخوله تحتها: فللمغايرة كيفيّةً و حكماً.

و تردّد في الذكرى «5»؛ لظاهر الأخبار الدالّة على الاجتزاء بغسلٍ واحد، كخبر زرارة عن الباقر عليه السّلام في الميّت جنباً‌

يغسّل غسلًا واحداً يجزي للجنابة و لغسل الميّت، لأنّهما «6» حرمتان اجتمعتا في حرمة واحدة. «7»

______________________________
(1) نهاية الإحكام 2: 234.

(2) الكافي 3: 214/ 1؛ التهذيب 1: 334/ 978.

(3) الذكرى 1: 329.

(4) الذكرى 1: 329.

(5) الذكرى 1: 329.

(6) ورد في «ق، م» و الطبعة الحجريّة: «و لأنّهما». و ما أثبتناه من المصدر، فإذن يلاحظ ما في جواب المؤلّف قدّس سرّه عن الشهيد قدّس سرّه.

(7) الكافي 3: 154/ 1 و فيه مضمراً؛ التهذيب 1: 432/ 1384؛ الاستبصار 1: 194/ 680.

305
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

الخامس في غسل مس الميت ؛ ج‌1، ص : 306

و الخبر ليس ممّا نحن فيه في شي‌ء، و يمنع اجتماع الحرمتين؛ لأصالة عدم تداخل المسبّبات مع اختلاف الأسباب، و تداخلها في بعض الموارد لنصّ خاصّ.

و في تحتّمه عليه أو التخيير بينه و بين غسله بعد الموت؛ لقيامه مقامه نظر.

هذا بالنسبة إلى الآمر، أمّا المأمور فيجب عليه امتثال الأمر إن وجد.

و لو سبق موته قتله أو قُتل بسبب آخر، لم يسقط الغسل، سواء بقي الأوّل كالقصاص مع ثبوت الرجم، أم لا كما لو عفي عن القود؛ لوجوب تجديده حينئذٍ، و أصالة عدم إجزاء الغسل للسبب الآخر. و لا يجب الغسل بعد موته؛ لقيام الغسل المتقدّم مقام الغسل المتأخّر عن الموت؛ لاعتبار ما يعتبر فيه.

و لا يرد لزوم سبق التطهير على النجاسة؛ لأنّ المعتبر أمر الشرع بالغسل و حكمه بالطهر «1» بعده و قد وجد الأمران، و ليست نجاسة الميّت بسبب الموت عينيّةً محضة، و إلا لم يطهر، فعُلم من ذلك أنّ تقديم الغسل يمنع من الحكم بنجاسته بعد الموت؛ لسقوط غسله بعده، و ما ذلك إلا لعدم النجاسة.

[الخامس في غسل مس الميت]

و لمّا فرغ من أحكام الأسباب الخمسة للغسل شرع في حكم السبب السادس، و هو المسّ، و أدرجه في غسل الأموات؛ لقلّة أحكامه، و لأنّ غسل المسّ من لوازم تغسيل الميّت غالباً، فبيان أحكامه كالمتمّم لأحكام غسل الأموات، فقال:

(و مَنْ مسّ ميّتاً من الناس بعد برده بالموت و قبل تطهيره بالغسل، أو مسّ قطعة ذات عظم أُبينت منه) أي من الميّت (أو) أُبينت (من) إنسان (حيّ وجب عليه) أي على اللامس لواحدٍ ممّا ذُكر (الغسل) على أشهر القولين.

و احترز بالبرد عمّا لو مسّه في حال حرارته الباقية عقيب خروج روحه، فإنّه لا غسل إجماعاً.

و هل يجب عليه غَسل ما مسّه به؟ قيل «2» لا؛ لعدم القطع بنجاسته حينئذٍ، و أصالة البراءة، و لأنّ نجاسته و وجوب الغسل متلازمان؛ إذ الغسل لمسّ النجس. و هو اختيار الشهيد «3» رحمه اللّه.

______________________________
(1) في «م»: «بالتطهير».

(2) القائل هو ابن أبي عقيل كما في الذكرى 2: 99.

(3) الدروس 1: 117؛ الذكرى 2: 99.

306
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

الخامس في غسل مس الميت ؛ ج‌1، ص : 306

و اختار المصنّف الوجوب؛ للحكم بأنّ الميّت نجس. «1»

و أجاب في الذكرى: بأنّا إنّما نقطع بالموت بعد البرد. «2»

و فيه نظر؛ لمنع عدم القطع قبله، و إلا لما جاز دفنه قبل البرد، و لم يقل به أحد خصوصاً صاحب الطاعون، و قد أطلقوا القول باستحباب التعجيل مع ظهور علامات الموت، و هي لا تتوقّف على البرد؛ مع أنّ الموت لو توقّف القطع به على البرد، لما كان لقيد البرد فائدة بعد ذكر الموت.

و نمنع التلازم بين نجاسته و وجوب الغسل «3» لأنّ النجاسة علّقها الشارع على الموت و الغسل على البرد، و كلّ حديث دلّ على التفصيل بالبرد و عدمه دلّ على صدق الموت قبل البرد، كخبر معاوية بن عمّار عن الصادق عليه السّلام‌

إذا مسّه و هو سخن فلا غسل عليه، فإذا برد فعليه الغسل «4»

فإنّ ضمير «مسّه» يعود على الميّت.

و عن عبد اللّه بن سنان عنه عليه السّلام‌

يغتسل الذي غسّل الميّت، و إن غسّل؛ الميّت إنسان بعد موته و هو حارّ فليس عليه غسل، و لكن إذا مسّه و قبّله و قد برد فعليه الغسل، و لا بأس أن يمسّه بعد «5» الغسل و يقبّله. «6»

و هذا الحديث كما يدلّ على صدق الموت قبل البرد، كذلك يدلّ على جواز تغسيله قبله أيضاً، و كذلك يدلّ على وجوب غسل المسّ، و هو مع ما قبله حجّة على المرتضى القائل بعدم وجوب غسل المسّ، «7» و كذا غيرهما من الأحاديث الصحيحة.

و ممّا يدلّ على وجوب الغسل بمسّه قبل البرد: ما رواه الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سألته عن الرجل يصيب ثوبه جسد الميّت، قال‌

يغسل ما أصاب الثوب. «8»

و ما رواه إبراهيم بن ميمون قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يقع ثوبه على جسد‌

______________________________
(1) تذكرة الفقهاء 2: 135 ذيل الفرع «ب».

(2) الذكرى 2: 100.

(3) التهذيب 1: 429/ 1367.

(4) كذا، و في المصادر: «قبّل» بدل «غسّل».

(5) في «ق، م» و الطبعة الحجريّة: «قبل» بدل «بعد» و ما أثبتناه من المصادر.

(6) الكافي 3: 160- 161/ 3؛ التهذيب 1: 108/ 284؛ الاستبصار 1: 99/ 322.

(7) حكاه عنه الشيخ الطوسي في الخلاف 1: 222، المسألة 193؛ و المحقّق في المعتبر 1: 351 و 352.

(8) الكافي 3: 161/ 4؛ التهذيب 1: 276/ 812؛ الاستبصار 1: 192/ 671.

307
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

الخامس في غسل مس الميت ؛ ج‌1، ص : 306

الميّت. قال‌

إن كان غُسّل فلا تغسل ما أصاب ثوبك منه، و إن كان لم يغسّل الميّت فاغسل ما أصاب ثوبك. «1»

و هذان الخبران دلله على نجاسة الميّت مطلقاً من غير تقييد بالبرد، فمدّعي التقييد يحتاج إلى دليل عليه. و دلا أيضاً على أنّ نجاسة الميّت تتعدّى مع رطوبته و يبوسته؛ للحكم بها من غير استفصال، و قد تقرّر في الأُصول أنّ ترك الاستفصال في حكاية الحال مع قيام الاحتمال يدلّ على العموم في المقال، و إلا لزم الإغراء بالجهل.

و يندرج في قبليّة التطهير بالغسل المُيمّمُ و لو عن بعض الغسلات، و مَنْ فُقد في غسله الخليطان أو أحدهما؛ فإنّ الأصحّ وجوب الغسل بمسّ كلّ واحد منهم و مُغَسّل الكافر و مَنْ تعذّر تغسيله، لكن يندرج في العبارة الشهيدُ، فإنّه لم يطهر بالغسل، بل هو طاهر في نفسه، و لا يجب بمسّه غسل، فكان عليه أن ينبّه على حكمه.

و ظاهر العبارة أنّ وجوب الغسل بالمسّ مغيّا بكمال الغسل؛ لعدم صدق اسمه عليه قبل إكماله، فيجب الغسل بمسّ عضو كمل غسله قبل كمال غسل الجميع، و لصدق اسم الميّت الذي لم يغسّل عليه قبل كماله.

و رجّح المصنّف «2» في غير هذا الكتاب و الشهيد «3» و جماعة «4» عدم وجوب الغسل بمسّ عضو كمل غسله؛ لأنّ الظاهر أنّ وجوب الغسل تابع لمسّه نجساً؛ للدوران، و قد حكم بطهارة العضو المفروض، و نجاسة الميّت و إن لم تكن عينيّةً محضة إلا أنّها عينيّة ببعض الوجوه، فإنّها تتعدّى مع الرطوبة. و أيضاً فقد صدق كمال الغسل بالإضافة إلى ذلك العضو. و لأصالة البراءة من وجوب الغسل.

و فيه نظر؛ لأنّ الحكم لا يتمّ إلا مع جَعل نجاسته عينيّةً محضة، أمّا الحكميّة فلا دليل على تبعّضها، بل الأصل كون هذا الغسل كغسل الأحداث، فيكون مجموع الغسل هو السبب التامّ في رفع النجاسة الحكميّة، و لهذا وجبت النيّة في غسله.

نعم، لو جعلناها عينيّةً محضة كما هب إليه المحقّق «5» فلا إشكال في عدم الوجوب.

______________________________
(1) الكافي 3: 61/ 5؛ التهذيب 1: 276/ 811.

(2) قواعد الأحكام 1: 22.

(3) البيان: 82؛ الذكرى 2: 100.

(4) انظر جامع المقاصد 1: 463.

(5) المعتبر 1: 349.

308
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

الخامس في غسل مس الميت ؛ ج‌1، ص : 306

و نمنع كون الغسل تابعاً لمسّه نجساً، بل لمسّه بعد البرد، بل ذلك عين المتنازع.

و علّيّة الدوران ممنوعة، و ينتقض على مذهب الشهيد بمسّ العظم المجرّد، فإنّه يوجب به الغسل، «1» مع أنّه قد يكون طاهراً، بل قد تطهّر قبل مسّه، فإنّه قابل للطهارة من الخبث، و لا يتعلّق به الحدث منفصلًا؛ لأنّه جزء لا تحلّه الحياة، و قد أجمع الأصحاب على طهارة ما لا تحلّه الحياة من غير نجس العين، و منه العظم، فإيجابه الغسل بمسّه ينقض دوران وجوب الغسل مع نجاسة الممسوس.

و أمّا قوله‌

و قد حكم بطهارة الجزء المفروض

إلى آخره، فجوابه: أنّ الغسل المجعول غاية لنجاسة الميّت هو غسل الميّت لا عضو من أعضائه قطعاً. و أصالة البراءة قد انتفت بالأدلّة.

نعم، يبقى هنا إشكال، و هو: أنّ مقتضى القواعد الفقهيّة أنّ طهارة المحلّ من الخبث تحصل بانفصال الغسالة عن المغسول، و لا تتوقّف بعدها على تطهير جزء آخر، فعلى هذا إذا كمل غسل عضو، وجب الحكم بطهارته من الخبث بحيث لا يجب غسل اللامس له بعد ذلك الغسل الخبثي؛ إذ لو توقّف طهارة ذلك العضو من الخبث على طهارة المجموع، لزم مخالفة القاعدة السالفة، و حينئذٍ يبعد الحكم بوجوب الغسل بمسّه دون غسل العضو اللامس؛ إذ لم يعهد انفكاك الغُسل عن الغَسل إلا على مذهب الشهيد من وجوب الغُسل بمسّ العظم المجرّد، «2» مع أنّه قد يكون طاهراً من الخبث؛ لأنّه ممّا لا تحلّه الحياة.

و يندفع: بأنّ الاستبعاد مع قيام الدليل غير مسموع، كيف! و قد وقع مثله على مذهب الشهيد رحمه اللّه، و لزم من ذلك أنّ بين نجاسة المحلّ اللامس و وجوب الغسل بالمسّ عموماً و خصوصاً من وجه، يجتمعان في مسّ الميّت بعد البرد و قبل التطهير، و تنفرد نجاسة العضو اللامس [عن الغسل] بالمسّ قبل البرد على ما مرّ، و ينفرد الغسل عن نجاسة اللامس بمسّ العظم المجرّد مع عدم الرطوبة أو مع إزالة الخبث عنه، و في العضو الممسوس بعد كمال غسله و قبل كمال غسل الميّت.

و بالجملة، فالمسألة من المشكلات، و للتوقّف في حكمها وجه، و ما ذكره الجماعة متّجه، غير أنّ الأدلّة النقليّة الخاصّة لا تساعد عليه. و اللّه أعلم.

______________________________
(1) الدروس 1: 117؛ الذكرى 2: 100.

(2) الدروس 1: 117؛ الذكرى 2: 100.

309
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

الخامس في غسل مس الميت ؛ ج‌1، ص : 306

و أمّا مسّ القطعة ذات العظم: فقد تقدّم الكلام فيها، و أنّ الشيخ ادّعى الإجماع على وجوب الغسل بمسّها إذا أُبينت من ميّت، «1» و به مع ذلك رواية مرسلة رواها أيّوب بن نوح عن بعض أصحابنا عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال‌

إذا قطع من الرجل قطعة فهي ميتة، فإذا مسّه إنسان فكلّ ما كان فيه عظم فقد وجب على مَنْ مسّه الغُسلُ، و إن لم يكن فيه عظم فلا غسل عليه. «2»

و هذه الرواية قد تدلّ بإطلاقها على حكم المبانة من الحيّ و الميّت و إن كان الأصحاب قد ذكروها في الميّت خاصّة. و ردّها المحقّق «3» بالإرسال.

و يمكن أن يقال: إنّ هذه القطعة من شأنها الحياة، فإذا قُطعت، صدق اسم الميّت عليها؛ لأنّ الموت عدم الحياة عمّا من شأنه أن يكون حيّاً، فكلّ ما دلّ على حكم الميّت دلّ عليها، فإن تمّ ذلك، ثبت الحكم في القطعتين من غير فرق، و لا ريب أنّ وجوب الغسل بمسّهما أولى و أحرى، خصوصاً مع حكم أجِلة الأصحاب بالتسوية بينهما في الوجوب، كالمصنّف «4» في سائر كتبه، و الشهيد «5» و غيرهما، «6» و دعوى الشيخ «7» الإجماع، مع أنّ المنقول بخبر الواحد حجّة عند المحقّقين، فلا عبرة بقدح المحقّق «8» فيه، و ضعف الخبر قد ينجبر بالشهرة و قبول الأصحاب.

و هل العظم المجرّد من اللّحم بحكم ذات العظم سواء اتّصل أم انفصل؟ قيل «9» نعم؛ لدوران الغسل معه وجوداً و عدماً، و هو اختيار الشهيد «10» رحمه اللّه.

و يضعّف: بمنع علّيّة الدوران، و بجواز كون العلّة هي المجموع المركّب منه و من اللحم، و لأنّ العظم طاهر في نفسه؛ إذ لا تحلّه الحياة، فلا يفيد غيره نجاسةً، و لو فرضت نجاسته،

______________________________
(1) الخلاف 1: 701، المسألة 490.

(2) التهذيب 1: 429- 430/ 1369؛ الاستبصار 1: 100/ 325.

(3) المعتبر 1: 325.

(4) تحرير الأحكام 1: 21؛ مختلف الشيعة 1: 151، المسألة 101؛ منتهى المطلب 2: 458؛ نهاية الإحكام 1: 173.

(5) البيان: 82؛ الذكرى 2: 96.

(6) كالمحقّق الكركي في جامع المقاصد 1: 459.

(7) الخلاف 1: 701، المسألة 490.

(8) المعتبر 1: 352.

(9) انظر: جامع المقاصد 1: 464.

(10) الذكرى 2: 100؛ الدروس 1: 117.

310
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

الخامس في غسل مس الميت ؛ ج‌1، ص : 306

فهي عرضيّة خبثيّة تزول بتطهيره، كباقي المنجّسات بالخبث.

نعم، هو على تقدير اتّصاله تابع للميّت، كما يتبعه شعره و ظفره، أمّا حال الانفصال فلا، فإلحاقه حينئذٍ بباقي الأجزاء التي لا تحلّها الحياة أوجَه و إن كان القول بوجوب الغسل بمسّه أحوط.

و هذا في غير السنّ و الضرس، أمّا فيهما فالقول بالوجوب (أشدّ ضعفاً «1»؛) لأنّهما في حكم الشعر و الظفر.

هذا مع الانفصال، أمّا مع الاتّصال فيمكن المساواة و الوجوب؛ لأنّه جزء من جملة يجب الغسل بمسّها. «2»

كلّ ذلك مع عدم طهارته بالغسل، أمّا معه و لو بالقرينة كالموجود في مقبرة المسلمين فلا غسل بمسّه، بخلاف الموجود في مقبرة الكفّار. و لو تناوب عليها الفريقان، تعارض أصالة عدم الغسل و الشكّ في الحدث.

و رجّح الشهيد سقوط الغسل، «3» و فيه نظر.

و لو جهلت، تبعت الدار.

و اعلم أنّ كلّ ما حكم في مسّه بوجوب الغسل مشروط بمسّ ما تحلّه الحياة من اللامس لما تحلّه الحياة من الملموس، فلو انتفى أحد الأمرين، لم يجب الغسل، فإن كان تخلّف الحكم لانتفاء الأوّل خاصّة، وجب غسل اللامس خاصّة، و إن كان لانتفاء الثاني خاصّة، فلا غسل، و لا غسل مع اليبوسة، و كذا إن كان لانتفاء الأمرين معاً.

هذا كلّه في غير العظم المجرّد كالشعر و الظفر و نحوهما، أمّا العظم فقد تقدّم الإشكال فيه، و هو في السنّ أقوى.

و يمكن جريان الإشكال في الظفر أيضاً؛ لمساواته العظمَ في ذلك.

و لا فرق في الإشكال بين كون العظم و الظفر من اللامس أو الملموس.

(و لو خلت) القطعة المبانة من حيّ أو ميّت (من عظم، أو كان الميّت) الممسوس (من غير

______________________________
(1) بدل ما بين القوسين في «ق، م»: «أضعف».

(2) في الطبعة الحجريّة: «يجب بمسّها الغسل».

(3) الدروس 1: 117.

311
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

الخامس في غسل مس الميت ؛ ج‌1، ص : 306

الناس) ممّا له نفس سائلة (غسل) اللامس (يده) بل العضو اللامس (خاصّة).

أمّا عدم الغُسل: ففي الأخبار السابقة ما يدلّ عليه.

و أمّا وجوب غَسل اليد في القطعة الخالية من العظم: فظاهر مع الرطوبة؛ لنجاسة ميّت الآدميّ، و تنجّس الملاقي لها برطوبة.

و أمّا مع عدمها: فلأنّ نجاسة الميّت عند المصنّف «1» حكميّة بالنسبة إلى تنجيس الملاقي لها مطلقاً.

و يدلّ عليه أيضاً ما تقدّم «2» من خبر الحلبي و إبراهيم بن ميمون عن الصادق؛ عليه السّلام حيث دلله على نجاسة الثوب الملاقي لبدن الميّت من غير تقييد بالرطوبة و عدمها.

و أمّا حكم الميّت من غير الناس ممّا له نفس فإنّ نجاسته تتعدّى مع الرطوبة قطعاً؛ لما مرّ. أمّا مع عدمها: فكذلك عند المصنّف، «3» و من ثَمَّ أطلق الحكم هنا؛ لإطلاق قول الصادق عليه السّلام‌

و لكن يغسل يده. «4»

و يحتمل العدم كباقي النجاسات، و هو اختيار الشهيد «5» رحمه اللّه.

و في حكم هذين الأمرين مسّ الميّت قبل البرد، فإنّه يوجب غَسل ما مسّه به خاصّة عند المصنّف «6» مطلقاً، و قد تقدّم تحقيقه.

و اعلم أنّ الذي استفيد من الأخبار و اختاره جماعة «7» من الأصحاب: أنّ نجاسة الميّت عينيّة من وجه و حكميّة من آخر.

أمّا الأوّل: فلحكمهم بتعدّيها إلى غيرها، كما دلّ عليه إطلاق الأخبار، كخبر الحلبي و إبراهيم بن ميمون، «8» و الحكميّة الحدثيّة ليست كذلك.

و أمّا كونها حكميّةً من وجه: فلزوالها بالغسل، و افتقاره إلى النيّة كالجنابة و غيرها.

______________________________
(1) قواعد الأحكام 1: 22؛ نهاية الإحكام 2: 223؛ تذكرة الفقهاء 1: 350، المسألة 122.

(2) في ص 307 و 308.

(3) نهاية الإحكام 1: 173.

(4) الكافي 3: 6160/ 4؛ التهذيب 1: 262/ 763؛ و 277/ 816.

(5) البيان: 82؛ الذكرى 1: 133.

(6) قواعد الأحكام 1: 22.

(7) منهم المحقّق الكركي في جامع المقاصد 1: 462.

(8) تقدّمت الإشارة إلى مصادرهما في ص 307، الهامش (8) و 308، الهامش (1).

312
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

الخامس في غسل مس الميت ؛ ج‌1، ص : 306

و أمّا حكم المنتقلة منها إلى اللامس فإن كان مع الرطوبة، فهي عينيّة محضة، فلو لمس اللامس له برطوبة آخر برطوبة، نجس أيضاً، و هلمّ جرّاً.

و خلاف ابن إدريس «1» في ذلك ضعيف.

و إن كان مع اليبوسة فقيل: هي حكميّة محضة، أي محكوم بوجوب تطهير اللامس، و لا تتعدّى النجاسة إلى غيره، فلو مسّه بغير رطوبة ثمّ مسّ رطباً، لم ينجس الثاني. و هو اختيار المصنّف في القواعد. «2»

و فيه نظر؛ لإطلاق النصوص المتقدّمة بوجوب غَسل الملاقي لبدن الميّت، و ما ذاك إلا لنجاسته، و من حكم النجس تنجيسه لغيره مع ملاقاته له برطوبة، فالظاهر حينئذٍ كون نجاسة اللامس له مطلقاً عينيّةً محضة، فينجس الملاقي لها مع الرطوبة، و يعتبر في إزالتها ما يعتبر في إزالة العينيّة.

______________________________
(1) السرائر 1: 163.

(2) قواعد الأحكام 1: 22.

313
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

النظر الرابع في أسباب التيمم و كيفيته ؛ ج‌1، ص : 315

 

[النظر الرابع في أسباب التيمّم و كيفيّته]

[القول في موارد التيمم]

(النظر الرابع: في أسباب التيمّم) المسوّغة له (و كيفيّته) و هي بيان أفعاله على وجه التفصيل.

و قوله (يجب التيمّم لما تجب له الطهارتان) ليس من الأسباب و لا الكيفيّة، و إنّما ذكره استطراداً، و قد تقدّم الكلام عليه في أوّل الكتاب في بيان أقسام الطهارة.

و هذه العبارة أجود ممّا تقدّم هناك في قوله‌

و التيمّم يجب للصلاة و الطواف إلى آخره و المندوب ما عداه

لاستلزام ما تقدّم كون التيمّم للّبث في المساجد مع الاحتياج إليه و للصوم مع تعذّر الغسل و لمسّ خطّ المصحف كذلك مندوباً، بخلاف قوله هنا، بل هو كالمنافي لما تقدّم، لكن لا مشاحّة في اللفظ مع الاتّفاق على المعنى.

(و إنّما يجب) التيمّم (عند) العجز عن الماء، فمسوّغه في الأصل شي‌ء واحد؛ للآية. «1»

لكن للعجز أسباب (فقد الماء) بأن لا يوجد مع طلبه على الوجه المعتبر، و سيأتي بيانه، أو الخوف على النفس أو المال من استعماله مع وجوده، المعبّر عنه بقوله (أو تعذّر استعماله للمرض) أي لحصول مرضٍ مانع من استعمال الماء بأن يخاف زيادته أو بُطء بُرئه أو عسر علاجه، أو لخوف حصول المرض بسبب الاستعمال و إن لم يكن موجوداً حالَ الاستعمال.

و لا فرق في ذلك بين المرض العامّ لجميع البدن و المختصّ بعضو.

و لو كان المرض يسيراً بحيث يتحمّل مثله عادةً، كالصداع و وجع الضرس، فظاهر العبارة عدم جواز التيمّم؛ لعدم التعذّر عادةً، و صرّح به في غير هذا الكتاب. «2»

______________________________
(1) النساء (4): 43؛ المائدة (5): 6.

(2) تذكرة الفقهاء 2: 160، الفرع «ج».

 

315
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في موارد التيمم ؛ ج‌1، ص : 315

و في النهاية «1» علّق الجواز على مطلق المرض، و هو ظاهر اختيار الذكرى «2»؛ محتجّاً بالعسر و الحرج، و بنفي الضرر في الخبر، «3» مع أنّه لا وثوق في المرض بالوقوف على الحدّ اليسير، و لأنّ ضرر ما ذُكر أشدّ من ضرر الشّين و قد أطبقوا على جواز التيمّم لخوفه.

و في حكم المرض و خوفه العجزُ عن الحركة التي يحتاج إليها في تحصيل الماء لكِبَرٍ أو مرضٍ أو ضعف قوّة، فيباح له التيمّم إلا أن يجد معاوناً و لو بأُجرة مقدورة.

و كذا العجز بسبب ضيق الوقت بحيث لا يدرك منه بعد الطهارة قدر ركعة، فإنّه يتيمّم و إن قدر على الماء بعد الوقت، خلافاً للمحقّق «4» رحمه اللّه.

و لو أمكن زوال الضرر بالإسخان و تمكّن منه و لو بعوض مقدور و إن كثر، لم يجز التيمّم.

و لا فرق في ذلك بين متعمّد الجنابة و غيره على الأشبه؛ لإطلاق النصوص، و نفي الضرر، خلافاً للمفيد «5» و جماعة «6» حيث ذهبوا إلى عدم جواز التيمّم حينئذٍ و إن خاف على نفسه، و للشيخ في النهاية حيث جوّزه عند خوف التلف و أوجب الإعادة «7»؛ استناداً إلى أخبار لو سُلّم دلالتها كانت معارضةً بأقوى منها و أظهر دلالةً.

(أو) تعذّر استعماله (للبرد) المؤلم في الحال ألماً شديداً لا يتحمّل مثله عادةً مع أمن العاقبة، فإنّه يسوغ له التيمّم حينئذٍ، كما صرّح به المصنّف في المنتهي و النهاية «8»؛ لعموم قوله عليه السلام: «لا ضرر. «9»»‌

أمّا لو تألّم بالبرد ألماً يمكن تحمّله عادةً، لم يجز التيمّم قطعاً؛ لانتفاء الضرر، و عليه‌

______________________________
(1) نهاية الإحكام 1: 195.

(2) الذكرى 1: 186.

(3) الكافي 5: 280/ 4؛ الفقيه 3: 45/ 154؛ التهذيب 7: 147146/ 651؛ سنن ابن ماجة 2: 784/ 2341؛ سنن الدارقطني 4: 228/ 84 و 85؛ مسند أحمد 1: 515/ 2862.

(4) المعتبر 1: 366.

(5) المقنعة: 60.

(6) منهم: ابن الجنيد كما هو ظاهره. انظر: مختلف الشيعة 1: 277، المسألة 206.

(7) النهاية: 46.

(8) منتهى المطلب 3: 28؛ نهاية الإحكام 1: 195.

(9) الكافي 5: 280/ 4؛ الفقيه 3: 45/ 154؛ التهذيب 7: 146 147/ 651؛ سنن ابن ماجة 2: 784/ 2341؛ سنن الدارقطني 4: 228/ 84 و 85؛ مسند أحمد 1: 515/ 2862.

316
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في موارد التيمم ؛ ج‌1، ص : 315

يُحمل الخبر باغتسال الصادق عليه السّلام في ليلة باردة و هو شديد الوجع. «1»

و يمكن المنع من التيمّم مع البرد الذي لا تخشى عاقبته مطلقاً؛ لظاهر الخبر، و هو الظاهر من اختيار الشهيد «2» رحمه اللّه.

و حكم الحَرّ في ذلك حكم البرد، و إنّما خصّه بالذكر؛ لأنّه الأغلب في المنع.

(و) كذا لو كان تعذّر استعماله لسبب (الشين) و هو ما يعلو البشرة من الخشونة المشوّهة للخلقة، و ربما بلغت تشقّق الجلد و خروج الدم.

و إنّما كان مانعاً؛ لأنّه نوع من الأمراض خصوصاً مع تشقّق الجلد.

و لا فرق في الشين بين شدّته و ضعفه؛ للإطلاق، و صرّح به المصنّف في النهاية، «3» و قيّده في المنتهي بكونه فاحشاً «4»؛ لقلّة ضرر ما سواه. و هو أولى.

و المرجع في ذلك كلّه إلى ما يجده من نفسه ظنّاً أو تجربةً، أو إلى إخبار عارف ثقة أو مَنْ يظنّ صدقه و إن كان فاسقاً أو صبيّاً أو امرأةً أو عبداً أو كافراً لا يتّهمه على دينه. و لا يشترط التعدّد. و لا فرق في ذلك بين الطهارتين.

و متى خشي شيئاً من ذلك، لم يجز استعمال الماء؛ لوجوب حفظ النفس، فلو خالف و استعمله، ففي الإجزاء نظر: من امتثال أمر الوضوء أو الغسل، و من عدم الإتيان بالمأمور به الآن، فيبقى في العهدة، و النهي عن استعماله في الطهارة، المقتضي للفساد في العبادة. و هو أقرب.

(أو خوف العطش) الحاصل أو المتوقّع في زمان لا يحصل فيه الماء عادةً أو بقرائن الأحوال له أو لغيره من النفوس المحترمة التي لا يهدر إتلافها إنسانيّة أم حيوانيّة، و لا اعتبار بغيرها كالمرتدّ عن فطرة و الحربيّ و الكلب العقور و الخنزير و كلّ ما يجوز قتله، سواء وجب كالزاني المحصن، أم لا كالحيّة و الهرّة الضارية.

و لا فرق في خوف العطش بين الخوف على النفس أو شي‌ء من الأطراف، أو خوف مرض يحدث بسببه أو يزيد، أو خوف ضعف يعجز معه عن المشي حيث يحتاج إليه،

______________________________
(1) التهذيب 1: 198/ 575؛ الاستبصار 1: 162- 163/ 563.

(2) البيان: 85.

(3) نهاية الإحكام 1: 195.

(4) منتهى المطلب 3: 28.

317
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في موارد التيمم ؛ ج‌1، ص : 315

أو مزاولة أُمور السفر التي لا يتمّ بدونها؛ لأنّ ذلك كلّه ضرر.

و لا فرق في تقديم دفع العطش على الطهارة بين أن يكون عنده ماء نجس يمكنه دفع العطش به و الطهارة بالطاهر أولا؛ لأنّ رخصة التيمّم أولى من رخصة استعمال النجس.

نعم، لو أمكن أن يتطهّر به و يجمع المتساقط من الأعضاء للشرب على وجه يكتفي به، وجب؛ جمعاً بين الحقّين.

و لو تطهّر به في موضع العطش، فالظاهر البطلان، كما لو تطهّر به مع خوف الضرر بالمرض؛ للنهي المقتضي للفساد.

و استقرب المصنّف في النهاية الإجزاء؛ لامتثال أمر الوضوء. «1»

و فيه نظر؛ لأنّ مطلقه مقيّد بالقدرة على استعمال الماء، و هو منتفٍ هنا.

(أو) خوف (اللصّ أو السبع) في طريق الماء على النفس المحترمة، أو شي‌ء من الأطراف كذلك، أو المال المحترم له أو لغيره، فيسقط عنه السعي إليه و إن كان قريباً منه؛ لنفي الحرج، و النهي عن الإلقاء في التهلكة. و لقول الصادق عليه السّلام‌

لا آمره أن يغرّر بنفسه فيعرض له لصّ أو سبع. «2»

و الخوف من وقوع الفاحشة كذلك، سواء الذكر و الأُنثى، و كذا الخوف على العِرض و إن لم يَخَف على البُضع.

و في إلحاق الخوف على الدابّة بذلك نظر، و الظاهر الإلحاق؛ لدخوله في الفاحشة.

و الخوف مع عدم سببٍ موجب له بل بمجرّد الجبن كالخوف للسبب عند المصنّف «3» و جماعة «4»؛ لاشتراكهما في الضرر، بل ربّما أدّى الجبن إلى ذهاب العقل، الذي هو أقوى من كثير ممّا يسوغ التيمّم لأجله، أمّا الوهم الذي لا ينشأ عنه ضرر فلا.

(أو) الخوف من (ضياع المال) بسبب السعي و إن لم يكن من اللصّ أو السبع.

و يمكن أن يريد بخوف اللصّ أو السبع على النفس، و بقوله‌

أو ضياع المال

ذهابه بسببهما، و الأوّل أشمل.

______________________________
(1) نهاية الإحكام 1: 188- 189.

(2) الكافي 3: 65/ 8؛ التهذيب 1: 184/ 528.

(3) نهاية الإحكام 1: 188.

(4) منهم: الشهيد في الذكرى 1: 185.

318
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في موارد التيمم ؛ ج‌1، ص : 315

و لا فرق بين المال القليل و الكثير؛ لإطلاق الأمر بإصلاحه.

(أو عدم الآلة) المحتاج إليها في تحصيل الماء، كالدلو و الرشاء حيث يحتاج إليهما.

و القادر على شدّ الثياب بعضها ببعض و التوصّل إلى الماء بها و لو بشقّ بعضها و إن نقصت أثمانها متمكّن مع عدم التضرّر بذلك.

و يتحقّق عدم الآلة و الماء بعدم وجودهما معه أو مع باذل و لو بعوض أو إعارة لها أو هبة له؛ لعدم المنّة الكثيرة في ذلك (أو) بوجودهما مع مَنْ لا يبذلهما إلا بثمن مع (عدم الثمن) في الحال أو في المآل حيث يمكن تأجيله إليه، و كذا لو وجدت الآلة بأُجرة مع عدمها كذلك.

و لا يتحقّق بوجودها هبة أو وجود ثمنها أو ثمن الماء كذلك؛ لأنّ ذلك كلّه ممّا يمتنّ به عادة، و يحصل به ضرر و غضاضة و امتهان على نفوس الأحرار.

و لا فرق في ذلك بين القليل و الكثير؛ لعدم انضباط أحوال الخلق في ذلك فاعلًا و قابلًا، فربما عدّ بعضهم القليل كثيراً و شقّ على بعضهم تحمّل القليل كالكثير، فالمرجع في ذلك إلى جنس ما يمتنّ به عادةً، كما لم يفرّق بين كثير الماء و قليله في وجوب قبوله اعتباراً بالجنس. هذا إذا كان البذل على وجه التبرّع، كالهبة و نحوها.

أمّا المنذور على وجه يدخل فيه المحتاج و يفتقر إلى القبول: فإنّ قبوله واجب، كما يجب التكسّب له؛ لوجوب تحصيل الشرط الواجب المطلق و انتفاء المنّة.

و لو كان النذر لا يحتاج إلى قبول، فوجوب أخذه أولى؛ لأنّ الملك فيه حينئذٍ قهريّ و المنّة منتفية.

و كما لا يجب قبول الهبة كذا لا يجوز مكابرة مالك الماء و الآلة عليهما؛ لانتفاء الضرورة، بخلاف الماء للعطش و الطعام في المجاعة.

(و لو وجده) أي الثمن (و خاف الضرر) على نفسه أو غيره من الأموال المحترمة كما تقدّم (بدفعه) عوضاً عن الماء أو الآلة، لم يجب دفعه في ذلك بل لم يجز؛ لأنّا سوّغنا ترك استعمال الماء لحاجته و هو غير المطهّر، فترك بدله مع الحاجة أولى، و (جاز) حينئذٍ (التيمّم) لصدق العجز عن تحصيل الماء.

فرع للمصنّف رحمه اللّه: لو وجد ماءً موضوعاً في الفلاة في حبّ أو كوز و نحوه للسابلة، جاز له الوضوء، و لم يسغ له التيمّم؛ لأنّه واجد، إلا أن يعلم أو يظنّ وضعه‌

319
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في موارد التيمم ؛ ج‌1، ص : 315

للشرب. و لو كان كثيراً، دلّت الكثرة على تسويغ الوضوء منه. ذكر ذلك كلّه في النهاية. «1» و للنظر في بعض قيوده مجال.

(و لو وجده) أي الماء (بثمن لا يضرّه في الحال) يمكن أن يريد به الزمان الحاضر، فلا عبرة بخوف ضرره في المآل؛ لإمكان تجدّد ما تندفع به الضرورة، و لعدم الضرر بذلك حينئذٍ.

و الأولى أن يراد به حاله، أي حال نفسه، فيجعل اللام عوضاً عن المضاف إليه؛ ليعمّ الضرر الحاضر و المتوقّع حيث يحتاج إلى المال المبذول في مستقبل الزمان الذي لا يتجدّد له فيه مال عادةً.

فمتى لم يضرّه بذل الثمن في الحال أو المآل على ذلك الوجه (وجب الشراء) لانتفاء الضرر الذي باعتباره ساغ التيمّم (و إن زاد) الثمن المقدور عليه المفروض عدم التضرّر به مطلقاً (عن ثمن المثل) أضعافاً مضاعفة على المشهور؛ لأنّه متمكّن، و الفرض انتفاء الضرر، و لوجوب تحصيل شرط الواجب المطلق بحسب الإمكان.

و لقول الكاظم عليه السّلام و قد سُئل عمّن وجد قدر ما يتوضّأ به بمائة درهم أو بألف درهم و هو واجد لها‌

يشتري، قد أصابني مثل هذا فاشتريت و توضّأت. «2»

(على إشكال) في ذلك ناشٍ ممّا ذكرناه و من أنّ خوف فوات المال اليسير بالسعي إلى الماء مجوّز للتيمّم، فكيف يجب بذل الكثير على هذا الوجه فيه!؟ و لتساوي الحكم في تضييع المال القليل و الكثير، و كفر مستحلّه، و فسق غاصبه، و جواز الدفع عنه. و هو اختيار ابن الجنيد. «3»

و جوابه: الفرق بين جميع ما ذُكر و موضع النزاع بالنصّ، و بالمنع من مساواة ما يبذله المكلّف باختياره و بين ما ينهب منه قهراً؛ لما في الثاني من لزوم الغضاضة و الإهانة الموجبة للضرر، خلاف الأوّل؛ لأنّ الفرض انتفاء الضرر فيه.

و فرّق المصنّف «4» بينهما: بأنّ اللازم في الفرع إنّما هو الثواب؛ لأنّه عبادة اختياريّة مطلوبة للشارع، و هو أضعاف ما دفع، و ألزم في الأصل إنّما هو العوض، و هو مساوٍ لما أُخذ منه، فلم يتمّ القياس.

______________________________
(1) نهاية الإحكام 1: 195.

(2) الكافي 3: 74/ 17؛ الفقيه 1: 23/ 71؛ التهذيب 1: 406/ 1276.

(3) حكاه عنه المحقّق الحلّي في المعتبر 1: 369.

(4) نهاية الإحكام 1: 194.

320
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في موارد التيمم ؛ ج‌1، ص : 315

و استضعفه الشهيد رحمه اللّه استناداً إلى أنّه إذا ترك المال لابتغاء الماء، دخل في حيّز الثواب. «1» و هو حسن، بل يجمع له حينئذٍ بين العوض و الثواب، و هو أعظم من الثواب وحده، فالأولى الاستناد في الفرق إلى النصّ و الغضاضة المذكورة.

و الاعتبار في ثمن المثل بالنسبة إلى الماء بحسب الزمان و المكان؛ لأنّه متقوّم في نفسه.

و ربما احتمل اعتبار اجرة تحصيل الماء خاصّة بناءً على أنّ الماء لا قيمة له. و قد عرفت ضعفه.

و إطلاق العبارة يقتضي عدم الفرق بين المجحف و غيره، و ما تقدّم من الأدلّة يشمله.

و قيّد المصنّف في التذكرة «2» و الشهيد في الذكرى «3» وجوب الزائد عن ثمن المثل بعدم الإجحاف بالمال و إن كان مقدوراً؛ للحرج.

و لو بُذل بثمن إلى أجل يقدر عليه عند الحلول، فقد صرّح المصنّف «4» و جماعة «5» بالوجوب؛ لأنّ له سبيلًا إلى تحصيل الماء.

و ربما استشكل «6» بأنّ شغل الذمّة بالدّيْن الموجب للذلّة مع عدم الوثوق بالوفاء وقت الحلول و تعريض نفسه لضرر المطالبة و إمكان عروض الموت له مشغولَ الذمّة ضرر عظيم.

و في حكمه الاقتراض للشراء.

و تُقدّم النفقة على شراء ماء الطهارة، أمّا الدّيْن مع عدم المطالبة فيبنى على ما ذُكر.

(و كذا) القول في (الآلة) يجب شراؤها و إن زاد ثمنها، كما تقدّم.

و لو تعذّر الشراء و أمكن الاستئجار، تعيّن. و لو أمكنا تخيّر، كلّ ذلك من باب المقدّمة.

(و لو فقده) أي الماء (وجب) عليه الطلب من أصحابه و مجاوريه في رَكبٍ أو رحله، فإن لم يجده، وجب عليه (الطلب غَلوة سهم) بفتح الغين، و هي مقدار الرمية من الرامي المعتدل بالآلة المعتدلة (في) الأرض (الحزنة) بسكون الزاي المعجمة، خلاف السهلة، و هي المشتملة على نحو الأشجار و العلوّ و الهبوط. و تجب مراعاة هذا القدر (من كلّ جانب)

______________________________
(1) الذكرى 1: 184.

(2) تذكرة الفقهاء 2: 163، الفرع «أ».

(3) الذكرى 1: 184.

(4) تذكرة الفقهاء 2: 164، الفرع «ج».

(5) كما في جامع المقاصد 1: 475؛ و منهم: المحقّق الحلّي في المعتبر 1: 370؛ و الشهيد في الذكرى 1: 184.

(6) المستشكل هو المحقّق الكركي في جامع المقاصد 1: 475.

321
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في موارد التيمم ؛ ج‌1، ص : 315

بحيث يستوعبها (و) قدر غلوة (سهمين) من كلّ جانب (في) الأرض (السهلة) بسكون الهاء و كسرها، و هي خلاف الحزنة.

و لو اختلفت الأرض في السهولة و الحزونة، توزّع الحكم بحسبها.

و لو علم عدم الماء في بعض الجهات، سقط الطلب فيه، أو مطلقاً، فلا طلب؛ لانتفاء الفائدة، و تحقّق شرط جواز التيمّم، كما أنّه لو علم الماء قَبلُ أو ظنّه في أزيد من النصاب كقرية و نحوها، وجب قصده مطلقاً ما لم يخرج الوقت.

و تجوز الاستنابة في الطلب بل قد تجب و لو بأُجرة؛ لوجوب تحصيل شرط الواجب المطلق.

و تشترط عدالة النائب إن كانت الاستنابة اختياريّةً، و إلا اشترطت مع إمكانها، و يحتسب لهما على التقديرين.

و يجب طلب التراب لو فقده حيث يجب التيمّم؛ لأنّه شرط الواجب المطلق كالماء.

و لو فات بالطلب غرض المطلوب كما في الحطّاب و الصائد، ففي وجوبه؛ لقدرته على الماء، أو سقوطه؛ دفعاً للضرر وجهان.

و لو حضر الفرض الثاني، جدّد الطلب له إن لم يعلم عدم الماء بالطلب الأوّل، أو بالانتقال إلى محلّ يعلم عدمه فيه.

و ليكن الطلب بعد دخول الوقت، و لو سبق و أفاد العدم يقيناً، كفى، و إلا فلا.

(و لو وجد ماءً) بالتنوين، و يجوز كونه نكرةً موصوفة، أي وجد من الماء شيئاً (لا يكفيه للطهارة، تيمّم) و لا تتبعّض الطهارة بأن يغسل بما يجده ثمّ يتيمّم عن العضو الباقي، عندنا؛ لانحصار الطهارة في أقسامها الثلاثة، و الملفّقة ليست أحدها.

و ربما حكي عن الشيخ في بعض أقواله التبعيض، «1» و هو مذهب العامّة. «2»

و هذا بخلاف ما لو كان عليه طهارتان كما في الأغسال المجامعة للوضوء فوجد من الماء ما يكفي أحدهما فإنّه يستعمله و يتيمّم عن الأُخرى، فإن وسع لكلّ منهما على البدل، قدّم الغسل.

______________________________
(1) الحاكي عنه هو الشهيد في الذكرى 1: 185؛ و انظر: المبسوط 1: 35؛ و الخلاف 1: 154، المسألة 105.

(2) المجموع 2: 268؛ حلية العلماء 2: 202 و 203؛ المغني 1: 270 و 271؛ الشرح الكبير 1: 280 و 281.

322
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في موارد التيمم ؛ ج‌1، ص : 315

(و لو) كان على بدن المحدث أو ثوبه أو ما تتوقّف صحّة الصلاة على طهارته نجاسة و (وجد ما يكفيه لإزالة النجاسة خاصّة، أزالها و تيمّم).

و المراد أنّه وجد من الماء ما لا يكفيه لإزالة الحدث و الخبث معاً، بل ما يكفي أحدهما، فإنّه يزيل النجاسة و يتيمّم. و لا يخفى قصور العبارة عن تأدية هذا المعنى.

و إنّما قدّمت إزالة النجاسة؛ لأنّ للطهارة المائيّة بدلًا و إزالة النجاسة لا بدل لها، فيجمع بين الحقّين.

و يستفاد من ذلك أنّ الحكم مشروط بوجود ما يتيمّم به، فلو فقده، قدّم الطهارة المائيّة؛ لانتفاء البدل حينئذٍ، و اشتراط الصلاة بالطهارة مطلقاً، بخلاف إزالة النجاسة. و قد صرّح بذلك جماعة. «1»

و لا بدّ في تقييد الحكم بتقديم إزالة النجاسة بكونها غير معفوّ عنها و كون الثوب مع ذلك ممّا يحتاج إلى لُبسه في الصلاة إن كانت فيه إمّا لعدم الساتر أو للاضطرار إلى لُبسه لبردٍ و نحوه. و هذا على سبيل الاستحقاق لا الأفضليّة، و لا تجوز المخالفة.

و لو خالف و تطهّر، أساء.

و في صحّتها نظر: من الطهارة بماءٍ مملوك مباح فيصحّ، و من النهي عن الطهارة، اللازم (من الأمر «2») باستعمال الماء في إزالة النجاسة؛ إذ الأمر بالشي‌ء يستلزم النهي عن ضدّه، و النهي في العبادة يدلّ على الفساد.

و في توجيه النظر من الجانبين نظر.

أمّا الأوّل: فلمنع كلّيّة الكبرى المطويّة؛ لأنّها محلّ النزاع، و لانتقاضها بمن تطهّر بما ذُكر مع يقين الضرر لمرضٍ و نحوه.

و أمّا الثاني: فلما تحقّق في الأُصول من أنّ الأمر بالشي‌ء يقتضي النهي عن ضدّه العامّ، و هو مطلق الترك، لا الأضداد الخاصّة، فلا يتمّ الدليل.

و على كلّ حال فالوجه: عدم الإجزاء؛ لعدم الإتيان بالمأمور به على وجهه، فلم يتحقّق الإجزاء، كما تحقّق في الأُصول.

______________________________
(1) منهم: المحقّق الكركي في جامع المقاصد 1: 478.

(2) بدل ما بين القوسين في «ق، م»: «للأمر».

323
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في ما يصح التيمم عليه ؛ ج‌1، ص : 324

و استقرب المصنّف في التذكرة الإجزاء إن جوّز وجود المزيل في الوقت، و إلا فلا. «1»

[القول في ما يصح التيمم عليه]

(و لا يصحّ) التيمّم (إلا بالأرض) لقوله تعالى فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً. «2»+

و قول الصادق عليه السّلام‌

إنّما هو الماء و الصعيد «3»

و «إنّما» للحصر. و الصعيد عندنا هو وجه الأرض، و هو أحد التفسيرين و نُقل عن جماعة من أهل اللغة، ذكر ذلك الخليل و ثعلب عن ابن الأعرابي. «4»

و يدلّ عليه قوله تعالى فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً «5» أي: أرضاً ملساء مزلقة. فيتناول جميع أصنافها (كالتراب) و إن كان نديّاً، و الحجر بأنواعه، و المدر (و أرض النورة و) أرض (الجصّ) قبل إحراقهما؛ لوقوع اسم الأرض عليهما حينئذٍ و إن كانا قد يؤولان إلى المعدن؛ لعدم تناول المعدن لهما قبله.

و مَنعَ ابن إدريس منهما؛ لكونهما معدناً. «6» و شرط في النهاية في جواز التيمّم بهما فقد التراب. «7» و هُما ضعيفان.

أمّا بعد الإحراق فلا يجوز؛ للاستحالة، خلافاً للمرتضى. «8»

(و تراب القبر) الملاصق للميّت و إن تكرّر النبش؛ لأنّه أرض، و الأصل عدم مخالطتها شيئاً من النجاسات.

نعم، لو علم ذلك كما لو كان الميّت نجس العين لم يجز.

و لا يضرّ اختلاطه باللحم و العظم الطاهرين بالغسل مع استهلاكه لهما.

و أمّا تراب القبر الذي لا يلاصق الميّت فإنّه و إن جاز التيمّم عليه لكن لا وجه لتخصيصه بالذكر في سياق أنواع الأرض.

(و المستعمل) لبقاء الاسم، و عدم رفع التيمّم الحدث.

______________________________
(1) تذكرة الفقهاء 2: 171، الفرع «ي».

(2) النساء (4): 43، المائدة (5): 6.

(3) التهذيب 1: 188/ 540، الاستبصار 1: 14/ 26.

(4) كما في المعتبر 1: 373، و انظر: العين 1: 290، «ص ع د».

(5) الكهف (18): 40.

(6) كما في جامع المقاصد 1: 482؛ و انظر: السرائر 1: 137.

(7) النهاية: 49.

(8) حكاه عنه المحقّق الحلّي في المعتبر 1: 375.

324
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في ما يصح التيمم عليه ؛ ج‌1، ص : 324

و المراد به الممسوح به أو المتساقط عن محلّ الضرب بنفسه أو بالنفض، لا المضروب عليه إجماعاً، بل هو كالماء المغترف منه.

(و لا يصحّ) التيمّم (بالمعادن) كالكحل و الزرنيخ و تراب الحديد و نحوها؛ لعدم وقوع اسم الأرض عليها.

(و الرماد) سواء كان رماد الخشب أم التراب؛ لعدم تسميته أرضاً.

و استقرب المصنّف في النهاية جوازه برماد الأرض. «1»

(و الأُشنان) بضمّ الهمزة (و الدقيق) لعدم التسمية كذلك.

(و المغصوب) للنهي عن استعماله، المقتضي للفساد في العبادة.

و المراد به ما ليس بمباح و لا مملوك و لا مأذون فيه صريحاً أو ضمناً، كالمأذون في التصرّف فيه، أو فحوًى، كالمأذون في دخوله و جلوسه و نحوهما عموماً أو خصوصاً، أو شاهد الحال، كالصحاري المملوكة حيث لا ضرر على المالك. و مثله جدار الغير من خارج حيث لا يتوجّه عليه ضرر كذلك.

نعم، لو ظنّ الكراهة أو صرّح بها المالك، امتنع.

و يتحقّق النهي عن المغصوب مع الاختيار قطعاً، أمّا لو حُبس المكلّف في مكان مغصوب و لم يجد ماءً مباحاً أو وجد و لزم من استعماله إضرار بالمكان، فهل يجوز التيمّم بترابه الطاهر مع عدم وجود غيره كما تجوز الصلاة فيه؛ لخروجه بالإكراه عن النهي، فصارت الأكوان مباحةً؛ لامتناع التكليف بما لا يطاق، أم لا يجوز؛ لافتقاره إلى تصرّفٍ في المغصوب زائد على أصل الكون؟ وجهان. و هذا بخلاف الطهارة بالماء المغصوب؛ لأنّه يتضمّن إتلافاً غير مأذون فيه، و لا تدعو إليه ضرورة.

نعم، لو رُبط في ماء مغصوب و تعذّر عليه الخروج و لم يلزم من الاغتسال به زيادة إتلاف، أمكن تمشّي الوجهين.

(و النجس) لقوله تعالى فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً «2»+ قال المفسّرون «3» معناه الطاهر.

______________________________
(1) نهاية الإحكام 1: 199.

(2) النساء (4): 43؛ المائدة (5): 6.

(3) منهم: الطبرسي في مجمع البيان 43: 52.

325
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في ما يصح التيمم عليه ؛ ج‌1، ص : 324

و لقوله عليه السلام‌

و ترابها طهوراً «1»

و النجس لا يعقل كونه مطهّراً لغيره.

(و يجوز) التيمّم (بالوحل مع عدم التراب) و المراد عدم «2» إمكان تجفيفه و جمعه في مكان ثمّ الضرب عليه؛ إذ لو قدر على ذلك، لم يفرض عدم التراب؛ لأنّه تراب حقيقةً، لكن على تقدير عدم إمكان تجفيفه إنّما يجوز التيمّم به مع فقد الغبار على الثوب و نظائره، فكان ينبغي تأخيره عنها، كما ورد في الأخبار عن الصادقين عليهما السّلام «3».

و يشترط في الوحل كون أصله ممّا يصحّ التيمّم عليه، و إلا لم يجز التيمّم به مطلقاً، صرّح به المصنّف في النهاية. «4»

(و) كذا يجوز التيمّم (بالحجر معه) أي مع وجود التراب؛ لما تقدّم من أنّ الصعيد وجه الأرض، و الحجر أرض إجماعاً، كما نقله في المعتبر، «5» و لأنّه تراب اكتسب رطوبةً لزجة و عملت فيه الحرارة، فأفادتاه استمساكاً.

و يتناول الحجر جميع أنواعه من رخام و برام و غيرهما.

و ردّ بذلك على الشيخ «6» و جماعة «7» حيث شرطوا في جواز استعماله فقد التراب؛ استناداً إلى أنّ المراد بالصعيد في الآية «8» التراب، كما هو أحد التفسيرين عند أهل اللغة، و الحجر ليس بتراب.

و جوابه: أنّا قد بيّنّا أنّ المراد بالصعيد الأرض، و هو من جملة أصنافها، و لأنّه لو لم تكن الحقيقة باقيةً فيه، لم يكن التيمّم به مجزئاً عند فقد التراب كالمعدن، و التالي باطل إجماعاً.

و لا يعارَض بالتيمّم بالوحل و نحوه؛ لدخوله بنصٍ خاصّ، بخلاف الحجر.

و في حكمه الخزف؛ لعدم خروجه بالطبخ عن اسم الأرض كالحجر و إن خرج عن اسم‌

______________________________
(1) الخصال 2: 426425/ 1؛ علل الشرائع 1: 156/ 3، الباب 106.

(2) في «ق، م»: «مع عدم».

(3) الكافي 3: 67 (باب التيمّم بالطين) الحديث 1؛ التهذيب 1: 189/ 543؛ الإستبصار 1: 156/ 537.

(4) نهاية الإحكام 1: 200.

(5) المعتبر 1: 376.

(6) النهاية: 49.

(7) منهم: الشيخ المفيد في المقنعة: 60؛ و سلار في المراسم: 53؛ و ابن حمزة في الوسيلة: 71؛ و ابن إدريس في السرائر 1: 137.

(8) النساء (4): 43؛ المائدة (5): 6.

326
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في ما يصح التيمم عليه ؛ ج‌1، ص : 324

التراب، خلافاً لابن الجنيد «1» و المحقّق في المعتبر، «2» مع تجويزهما التيمّم بالحجر، «3» و هو أقوى خروجاً عن اسم التراب.

و هذا الخلاف غير جارٍ في السجود عليه؛ لأنّ باب السجود أوسع من باب التيمّم، و لإجماعهم على أنّ محلّه الأرض لا التراب، و قد تقرّر أنّ الحجر من أصنافها، و قد أجمعوا على جواز السجود عليه، و هو أقوى بُعداً عن التراب من الخزف. و صرّح المحقّق في المعتبر بجواز السجود عليه مع منعه من التيمّم به، «4» بناءً على خروجه بالطبخ عن اسم الأرض.

قال المصنّف في التذكرة: و هو ممنوع، و لهذا جاز السجود عليه. «5» و هو ممنوع.

(و يكره) التيمّم (بالسبخة) بالتحريك و التسكين، و هي الأرض المالحة النشّاشة على أشهر القولين؛ لأنّها أرض.

و منع ابن الجنيد «6» من التيمّم بها؛ لأنّها استحالت، فأشبهت المعادن. و هو ممنوع.

نعم، لو علاها الملح، لم يجز حتى يزيله.

و عرّفها المصنّف في النهاية بأنّها التي لا تنبت. «7» و هو بعيد.

(و الرمل) لشبهه بأرض المعدن. و وجه الجواز: إطلاق اسم الأرض عليه.

(و لو فقده) أي جميع ما تقدّم، و لا يجوز عود الضمير إلى التراب؛ لأنّه أخصّ ممّا يجوز عليه التيمّم، و الأرض مؤّنثة سماعيّة لا يحسن عود الضمير إليها (تيمّم بغبار ثوبه و لبد سرجه و عرف دابّته) مخيّراً في ذلك، إلا أن يختصّ أحدها بكثرة الغبار، فيتعيّن.

و ذكر الثلاثة؛ لكونها مظنّةً للغبار، لا للحصر، فلو كان معه بساط و ما شاكله ممّا يجمع الغبار، تيمّم به؛ لقول الصادق عليه السّلام‌

فإن كان في ثلج فلينظر لبد سرجه فليتيمّم من غباره أو شي‌ء مغبر. «8»

______________________________
(1) حكاه عنه المحقّق الحلّي في المعتبر 1: 375.

(2) المعتبر 1: 375.

(3) المعتبر 1: 372، و فيه حكاية قول ابن الجنيد.

(4) المعتبر 1: 375.

(5) تذكرة الفقهاء 2: 177، الفرع «ج».

(6) حكاه عنه المحقّق الحلّي في المعتبر 1: 374.

(7) نهاية الإحكام 1: 199.

(8) التهذيب 1: 189 190/ 546؛ الاستبصار 1: 156/ 539.

327
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في ما يصح التيمم عليه ؛ ج‌1، ص : 324

و يجب نفض محلّ الغبار حتى يعلو ظاهره و يضرب عليه، إلا أن يتلاشى به، فيقتصر على الضرب عليه. و لو فرض عدم الغبار فيها أصلًا، لم يجز الضرب عليها؛ لأنّ الاعتبار بالغبار لا بها. و من هنا ضعف قول الشيخ بتقديم غبار عرف الدابّة و السرج على الثوب. «1» و ابن إدريس بالعكس. «2»

و يشترط كون الغبار من جنس ما يصحّ التيمّم به، كغبار التراب، لا غبار الدقيق و شبهه.

و لو فقد الغبار، تيمّم بالوحل، كما تقدّم، فلو قدّمه على الغبار لم يصحّ؛ لعدم الإتيان بالمأمور به على وجهه، فيبقى في العهدة.

و اعلم أنّ التيمّم لا يجوز قبل وقت المؤقّتة إجماعاً؛ و لأنّه طهارة ضروريّة و لا ضرورة قبل دخول الوقت؛ لعدم التكليف حينئذٍ، و يجوز بل يجب فعله مع الضيق إجماعاً، و لأنّه لولاه، لزم الإخلال بالصلاة.

و المراد بالضيق أن لا يبقى من الوقت سوى مقدار فعل الصلاة و ما لا بدّ منه فيها.

و هل يجوز فعله في حال السعة؟ أقوال ثلاثة، أحدها و هو المشهور خصوصاً بين القدماء حتى ادّعى الشيخ و السيّد المرتضى عليه الإجماع: المنع منه مطلقاً. «3»

و مستنده مع الإجماع المقبول ما نقل منه بخبر الواحد فضلًا عن نقل هذين الإمامين صحيحة محمد بن مسلم قال: سمعته يقول‌

إذا لم تجد الماء و أردت التيمّم فأخّر التيمّم إلى آخر الوقت، فإن فاتك الماء لم تفتك الأرض «4»

و الأمر للوجوب.

و حسنة زرارة عن أحدهما عليهما السّلام‌

إذا لم يجد المسافر ماءً فليطلب ما دام في الوقت، فإذا خاف أن يفوته الوقت فليتيمّم، و ليصلّ في آخر الوقت؛

«5» و الأمر للوجوب أيضاً.

______________________________
(1) النهاية: 49.

(2) السرائر 1: 138.

(3) مسائل الناصريّات: 156 157، المسألة 51؛ الانتصار: 122- 123، و لم نعثر في كتب الشيخ الطوسي على ادّعائه للإجماع في المقام، و إنّما نسبه إليه العلامة الحلّي في مختلف الشيعة 1: 255، المسألة 191؛ و انظر بشأن ذلك إلى مقالة الشهيد في الذكرى 2: 253؛ و العاملي في مفتاح الكرامة 1: 550.

(4) الكافي 3: 63/ 1؛ التهذيب 1: 203/ 588؛ الإستبصار 1: 165/ 573.

(5) الكافي 3: 63/ 2؛ التهذيب 1: 192/ 555، و 203/ 589؛ الاستبصار 1: 159/ 548، و 165- 166/ 574.

328
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في ما يصح التيمم عليه ؛ ج‌1، ص : 324

و ثانيها: جوازه مع السعة مطلقاً، و هو اختيار الصدوق «1»؛ لعموم فَلَمْ تَجِدُوا مٰاءً. «2»+

و قوله صلّى اللّه عليه و آله‌

أينما أدركتني الصلاة تيمّمت و صلّيت. «3»

و دلالة أخبارٍ صحيحة على عدم إعادة واجد الماء في الوقت، و هو مستلزم للتيمّم مع السعة.

كصحيح زرارة عن الباقر عليه السّلام قلت: إن أصاب الماء و قد صلّى بتيمّم و هو في وقت؟ قال‌

تمّت صلاته و لا إعادة عليه. «4»

و مثله عن معاوية بن ميسرة، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل في السفر لا يجد الماء ثمّ صلّى ثمّ اتي بالماء و عليه شي‌ء من الوقت أ يمضي على صلاته أم يتوضّأ و يعيد الصلاة؟ قال‌

يمضي على صلاته فإنّ ربّ الماء ربّ التراب. «5»

و ثالثها: التفصيل بالعلم باستمرار العجز و عدمه، فيجوز مع السعة في الأوّل دون الثاني، و هو اختيار المصنّف «6» و المحقّق «7» و ابن الجنيد، إلا أنّ ابن الجنيد اكتفى بظنّ الاستمرار، «8» و المصنّف صرّح بالعلم، و لعلّه أراد به «9» ما يعمّ غلبة الظنّ، كما هو بعض إطلاقاته. و صرّح به في المختلف «10»؛ جمعاً بين الأدلّة.

و قول المصنّف (و الأولى تأخيره إلى آخر وقت الصلاة) يشعر باختيار السعة مطلقاً؛ لأنّ الأكثر استعمال «الأولى» في موضع الاستحباب، لكنّه غير معهود من مذهبه. و إن حمل على الوجوب، كان اختياراً لمراعاة الضيق مطلقاً، و هو غير‌

______________________________
(1) الهداية: 87. و اعلم أنّ المحقّق الحلّي في المعتبر 1: 382 قال: و هو أي جواز التيمّم بعد دخول الوقت اختيار أبي جعفر ابن بابويه في المقنع. انتهى، و فيه عكس ذلك حيث قال: اعلم أنّه لا تيمّم للرجل حتى يكون في آخر الوقت: انظر: المقنع: 25.

(2) النساء (4): 43؛ المائدة (5): 6.

(3) سنن البيهقي: 1: 340/ 1060؛ مسند أحمد 2: 444/ 7028، و فيهما: «تمسّحت» بدل «تيمّمت»؛ و نصّه في المعتبر 1: 382.

(4) التهذيب 1: 194/ 562؛ الاستبصار 1: 160/ 552.

(5) الفقيه 1: 59/ 220؛ التهذيب 1: 195/ 564؛ الاستبصار 1: 160/ 554.

(6) مختلف الشيعة 1: 253، المسألة 191.

(7) المعتبر 1: 383 384.

(8) حكاه عنه المحقّق الحلّي في المعتبر 1: 383.

(9) في الطبعة الحجريّة بدل «به»: «بالعلم».

(10) انظر: مختلف الشيعة 1: 356، المسألة 191.

329
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في ما يصح التيمم عليه ؛ ج‌1، ص : 324

المعهود من مذهبه أيضاً.

و يمكن حمله على التفصيل باستعمال الأولويّة في القدر المشترك بين الراجح المانع من النقيض و غير المانع، «1» و أقلّ أحوال استعمال المشترك في معنييه أنّه مجاز. أو كون التأخير أولى بالنظر إلى جميع أفراده، و ذلك لا ينافي وجوب بعضها، كما في استحباب الإقامة بمنى أيّام التشريق مع «2» وجوب إقامة بعضها.

و على كلّ حال فالقول باعتبار التضيّق مطلقاً أقوى؛ للنصّ «3» و الإجماع و الشهرة و الاحتياط.

و ما ورد من الأخبار «4» التي استدلّ بها مُجوّز التقديم لم يدلّ نصّاً على جواز التقديم، بل على إمكان وقوعه، و نحن نقول به، فإنّ المعتبر في الضيق الظنّ، فلو انكشف خلافه، أجزأ؛ للامتثال، و لمفهوم الأخبار المذكورة. و حملها على ما إذا علم أو ظنّ عدم الماء إنّما يتمّ لو دلّت على جواز التقديم نصّاً، و التقدير عدمه، بخلاف أخبار التضيّق، و قد تقرّر في الأُصول أنّ ما دلّ نصّاً مرجّح على غيره مع التعارض، و على ما حقّقناه لا تعارض.

و منه يظهر ضعف حمل أخبار التضيّق على الاستحباب ترجيحاً لجانب التوسعة.

و القول بالتفصيل بالعلم و عدمه متوجّه؛ لعدم الفائدة في التأخير على تقديره، لكن قوّة الدليل النقلي لا تساعد عليه.

فإن قيل: ما ذكرتم من النصوص إنّما دلّت على وجوب التأخير لفاقد الماء، و لا دلالة لها على وجوب تأخير غيره من ذوي الأعذار، فيرجع إلى الأدلّة الأُخرى خصوصاً مع عدم رجاء زوال العذر، فلِمَ قلتم بوجوب التأخير مطلقاً؟

قلنا: الإجماع منعقد على عدم التفصيل بالتأخير للفاقد دون المريض خائف الضرر، بل إمّا الجواز مطلقاً، أو وجوب التأخير مطلقاً مع الرجاء أو بدونه، فالقول بالتفصيل على هذا الوجه إحداث قولٍ مبطلٍ لما حصل عليه الإجماع. و تحقيق المسألة في الأُصول.

و هل التضيّق شرط في دوام الإباحة كما هو في ابتدائها؟ إشكال. فلو دخل الوقت على‌

______________________________
(1) في «ق، م» زيادة: «أو فيهما».

(2) في «م» بدل «مع»: «و».

(3) انظر: الهامش (4 و 5) من ص 328.

(4) انظر: الهامش (4 و 5) من ص 329.

 

330
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في كيفية التيمم ؛ ج‌1، ص : 331

المكلّف و هو متيمّم لسابقه، هل يجوز أن يصلّي الحاضرة في أوّل الوقت، و لا يعتبر الضيق هنا بناءً على أنّه متطهّر و الوقت سبب، فلا معنى للتأخير، كما اختاره الشيخ في المبسوط «1»؛ مع اختياره مراعاة التضيّق في فعله، «2» أم تتمشّى الأقوال فيه أيضاً كما هو ظاهر المصنّف و المحقّق، «3» لقيام علّة التأخير؟ فيه نظر.

و مختار المبسوط لا يخلو من قوّة؛ لأنّ النصوص المتقدّمة إنّما دلّت على غير المتطهّر، مضافاً إلى ما ذُكر، «4» فالوسيلة إلى التيمّم حينئذٍ في حال سعة وقت الحاضرة أن يتيمّم لمضيّق، ثمّ يبقى عليه إلى أن يدخل وقت الموسّع.

و لو أراد إحداث التيمّم في حال سعة وقت الحاضرة، فلينذر صلاة ركعتين في تلك الحال و يتيمّم لها، ثمّ يصلّي الحاضرة مع السعة.

و لو دخل مسجداً، فالظاهر جواز التيمّم لصلاة التحيّة؛ لأنّ وقتها بعد الدخول مضيّق.

و كذا لو ضاق وقت نافلة الحاضرة مع سعة وقت الحاضرة فتيمّم للنافلة و صلاها، جاز أن يصلّي الفريضة بعدها. و لو لم يكن في عزمه فعل النافلة، لم يصحّ التيمّم، أمّا لو تيمّم مع العزم على فعلها، ثمّ طرأ له العزم على تركها، توجّه جواز فعل الفريضة حينئذٍ.

[القول في كيفية التيمم]

(و تجب فيه النيّة للفعل) إجماعاً منّا و من علماء الإسلام إلا مَنْ شذّ؛ لدلالة «تيمّموا» على القصد إن لم يكن عينه.

و يعتبر فيها قصد الفعل (لوجوبه) إن كان واجباً، كما لو توقّفت عليه عبادة واجبة (أو ندبه) إن كان مندوباً.

و الكلام في اعتبار نيّة الوجوب أو الندب فيه قريب من الكلام في نيّة الوضوء، و كذا غيرهما من المميّزات، فليلحظ هناك.

(متقرّباً) حال من الفاعل القاصد المدلول عليه بالقصد التزاماً، و لا ريب في اعتبار القربة في هذه النيّة كغيرها، و قد سلف معناها و وجه وجوبها.

و يجب مع ذلك نيّة البدليّة عن الأكبر أو الأصغر؛ لاختلافهما حقيقةً، فلا بدّ من تمييز‌

______________________________
(1) المبسوط 1: 3433.

(2) النهاية: 47 48، المبسوط 1: 31.

(3) انظر: نهاية الإحكام 1: 216- 217؛ و مختلف الشيعة 1: 288، المسألة 215؛ و المعتبر 1: 383.

(4) في «ق، م»: «ذكرناه».

331
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في كيفية التيمم ؛ ج‌1، ص : 331

أحدهما عن الآخر بالنيّة.

و هذا يتمّ مع اجتماعهما عليه، كمن عليه غسل و وضوء و تعذّر عليه فعلهما، أمّا مَنْ عليه أحدهما خاصّة فيشكل وجوب التمييز؛ لعدم إمكان وقوع الآخر منه ليميّزه عنه. و قد مرّ التنبيه عليه في مميّزات الوضوء.

(و لا يجوز) للمتيمّم نيّة (رفع الحدث) لامتناعه منه؛ إذ التيمّم إنّما يزيل المنع من الصلاة، الذي هو أثر المحدث، لا المانع الذي هو المؤثّر، و لهذا ينتقض بالتمكّن من استعمال الماء مع أنّه ليس من قبيل الأحداث، و إنّما يظهر به تأثير الحدث السابق الذي كان قد تخلّف عنه أثره بواسطة التيمّم، و قد ادّعى جماعة منهم المحقّق في المعتبر «1» إجماع العلماء كافّة على عدم رفعه الحدث، و متى لم يرفعه امتنعت نيّته؛ لعدم اعتبار نيّة الممتنع شرعاً.

و كذلك ادّعى في المعتبر «2» الإجماع على أنّ وجود الماء ليس حدثاً، و لأنّه لو كان حدثاً، لوجب استواء المتيمّمين في موجبه، ضرورة استوائهم فيه.

لكن هذا باطل؛ لأنّ المحدث لا يغتسل و المجنب لا يتوضّأ.

و لأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال لعمرو و قد تيمّم عن الجنابة من شدّة البرد‌

صلّيت بأصحابك و أنت جنب «3»

فلو ارتفع بالتيمّم، لما سمّاه جنباً، كما لا يسمّى بذلك بعد الغسل.

و لو لوحظ هنا عدم اشتراط بقاء المعنى المشتقّ منه في صدق المشتقّ، لساوى ما بعد التيمّم ما بعد الغسل، و قد تقرّر انتفاؤه بعد الغسل، فيدلّ على عدم اعتبار ذلك المعنى شرعاً، كما امتنع تسمية المسلم عن كفرٍ كافراً.

و رجّح الشهيد في قواعده جواز نيّة رفع الحدث، بناءً على أنّ التمكّن من استعمال الماء جاز أن يكون غايةً للرفع، كما يكون طريان الحدث غايةً له في التيمّم و غيره. «4»

و في الذكرى: جواز نيّة رفع المانع من الصلاة؛ لأنّه في معنى الاستباحة. «5»

و في الدروس أنّه إن نوى رفع الماضي، صحّ، كما يصحّ ذلك من دائم الحدث. «6»

______________________________
(1) المعتبر 1: 394.

(2) المعتبر 1: 394.

(3) سنن أبي داوُد 1: 92/ 334؛ سنن الدارقطني 1: 178/ 12؛ سنن البيهقي 1: 345/ 1070؛ مسند أحمد 5: 231/ 17356؛ المستدرك للحاكم 1: 177.

(4) القواعد و الفوائد 2: 8886، القاعدة 176.

(5) الذكرى 2: 256.

(6) الدروس 1: 90 و 132.

332
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في كيفية التيمم ؛ ج‌1، ص : 331

و في الجميع منع.

أمّا الأوّل: فلأنّ رفع الحدث في الطهارة المائيّة ليس مغيّاً بغاية أصلًا، و إنّما المانع أعني الحدث الموجب للطهارة مرتفع بها و زائل بالكلّيّة حتى كأنّه لم يكن، ثمّ لا يعود ذلك المانع بعينه إلى الوجود مرّة أُخرى، بل الحاصل بالحدث الطارئ مانع آخر غير الأوّل، غايته أنّه مبطل لفائدة الطهارة؛ لأنّه من نواقضها، و لا كذلك التيمّم، فإنّ إزالته المانعَ ليست إزالةً كلّيّة، بل إنّما رفع أثره إلى أمدٍ معيّن مضروب، و هو إمّا طروء حدثٍ أو التمكّن من استعمال الماء، فإذا وجد أحدهما، عاد الأوّل بعينه حتّى كأنّه لم يزل، و لهذا يجب الغسل على المتيمّم بدلًا منه عند التمكّن. و لو كان رافعاً، لما وجب إلا بحدثٍ آخر موجب للغسل.

نعم، ربما تمشّى ذلك على مذهب المرتضى القائل بأنّ مَنْ تيمّم بدلًا من غسل الجنابة ثمّ أحدث أصغر و وجد من الماء ما يكفيه للوضوء توضّأ به «1»؛ لأنّ حدثه الأوّل قد ارتفع و جاء ما يوجب الصغرى، فإنّ ذلك يشعر بكون التيمّم رافعاً. و سيأتي بيان ضعف هذا القول.

و أمّا الثاني: فلأنّ رفع المانع هو بعينه رفع الحدث؛ إذ ليس المراد به نفس الخارج الناقض و إن كان قد يطلق عليه اسم الحدث؛ لأنّ الحدث بهذا المعنى يستحيل رفعه؛ لأنّه قد صار واقعاً، و يمتنع رفع الواقع، و إنّما المراد بالحدث أثر الخارج، و هو المانع الحاصل بسببه.

و الفرق بينه و بين الاستباحة أنّ المراد بالرفع إزالة أثر الواقع بالكلّيّة حتى كأنّه لم يكن، و الاستباحة رفع المنع منه، أعني استعادة «2» جواز فعل المشروط بالطهارة، سواء زال المانع بالكلّيّة و لم يقارنه مانع آخر، كطهارة المختار، فإنّ الرفع و الاستباحة بالنسبة إليه متلازمان، أم لم يزل بالكلّيّة، بل إلى أمد مضروب، كما في التيمّم، فإنّه لا يزيل أثر الواقع أصلًا، و لهذا ينتقض بوجود الماء و التمكّن من استعماله، مع الإجماع على كونه ليس بحدثٍ، أم زال بعضه بالكلّيّة دون البعض، كما في طهارة دائم الحدث، فإنّ المانع الحاصل في الحال يزول بعضه، و هو أثر الحدث السابق.

و أمّا الثالث: فهو مبنيّ على اتّحاد حكم المتيمّم و دائم الحدث، و قد عرفت ما بينهما من الفرق، فإنّ لدائم الحدث حدثاً سابقاً و مقارناً، و طهارته مائيّة صالحة لرفع الحدث حيث‌

______________________________
(1) حكاه عنه المحقّق الحلّي في المعتبر 1: 395 نقلًا عن شرح الرسالة له.

(2) كذا، و الظاهر من نسختي «ق، م»: «استفادة».

333
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في كيفية التيمم ؛ ج‌1، ص : 331

يمكن، و إمكانه في السابق خاصّة؛ لأنّ المقارن و المتأخّر يمتنع تأثير النيّة فيه، بخلاف التيمّم، فإنّه لا يصلح للرفع مطلقاً، كما حقّقناه.

(و تجوز) له نيّة (الاستباحة) لمشروطٍ بالطهارة، كالصلاة؛ لإمكانها، و قد عرفت الوجه ممّا سلف.

و المتبادر من الجواز عدم وجوب نيّة الاستباحة عنده، و قد تقدّم في الوضوء ما يدلّ عليه، مع أنّه توقّف في وجوب أحد الأمرين فيه. «1»

و يمكن حمل الجواز هنا على المعنى الأعمّ، و هو القدر المشترك بين ما عدا الحرام، كما هو أحد معنييه، فلا ينافي الحكم بالوجوب ليوافق مختاره في كثير من كتبه. «2»

و يجب إحضار النيّة فعلًا حتى يقارن بها الضرب على الأرض، و بعده يجب كونها (مستدامة الحكم) إلى آخر التيمّم بمعنى أن لا ينوي في أثنائه نيّةً تُنافي النيّة الأُولى أو بعض مميّزاتها. و قد تقدّم تحقيق الاستدامة الحكميّة محرّراً.

و أوجب المصنّف في النهاية «3» استدامتها فعلًا إلى مسح الجبهة، فلو عزبت قبله، بطل. و هو ضعيف.

(ثمّ يضرب بيديه) معاً بعد إحضار النيّة بقلبه (على التراب).

و في التعبير ب‍ «ثمّ» الموجبة للتعقيب المتراخي تساهل؛ فإنّ الواجب مقارنة النيّة للضرب على الأرض؛ لأنّه أوّل أفعاله، فلو تقدّمت عليه، لم تجزئ قطعاً؛ لأنّه حينئذٍ عزم لا نيّة.

و كذا لا يجوز تأخيرها إلى مسح الجبهة على أصحّ القولين؛ لخلوّ بعض الأفعال و هو الضرب عن النيّة.

و جزم المصنّف في النهاية بالإجزاء «4»؛ تنزيلًا للضرب منزلة أخذ الماء للطهارة المائيّة، فكما تجزي النيّة ثَمَّ تجزئ هنا.

و الفرق بين الموضعين واضح؛ فإنّ أخذ الماء غير معتبر لنفسه، و لهذا لو غمس الأعضاء فيه، أجزأ، بخلاف الضرب، و من ثَمَّ لو تعرّض لمهبّ الريح أو وضع جبهته على الأرض‌

______________________________
(1) انظر: إرشاد الأذهان 1: 222.

(2) منها: تذكرة الفقهاء 2: 187، المسألة 304؛ و نهاية الإحكام 1: 203.

(3) انظر: نهاية الإحكام 1: 204.

 (4) نهاية الإحكام 1: 204.

334
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في كيفية التيمم ؛ ج‌1، ص : 331

ناوياً، لم يجزئ اتّفاقاً.

و فرّق في الذكرى بينهما أيضاً في تعليل الردّ على المصنّف: بأنّه لو أحدث بعد أخذ الماء، لم يضرّ، بخلاف الحدث بعد الضرب. «1»

و هو غير وارد عليه؛ لأنّه جزم بتساويهما في ذلك أيضاً.

قال في النهاية: و لو أحدث بعد أخذ التراب، لم يبطل ما فَعَله، كما لو أحدث بعد أخذ الماء في كفّه. «2»

و على كلّ حال فمختار المصنّف ليس بجيّد بعد موافقته للجماعة على وجوب الضرب على الأرض، المعبّر عنه في كتبه «3» بنقل التراب، و أنّه لو تعرّض لمهبّ الريح أو معك وجهه في التراب، لم يجزئ. و لو كان كما ذكر، لم تجزئ مقارنة النيّة للضرب، بل كان الواجب مقارنتها لمسح الجبهة؛ لأنّه حينئذٍ أوّل الأفعال، و ليس ذلك كغَسل اليدين، و المضمضة و الاستنشاق في الطهارة المائيّة؛ لأنّ تلك سنن خاصّة دخلت بوجه خاصّ، و من ثَمَّ تجزي النيّة عند غيرها من السنن، كالتسمية و السواك، بل الضرب عند المصنّف كنقل الماء في الطهارة المائيّة، فكما لا تجزئ النيّة عنده فكذا يلزم عدم الإجزاء عند الضرب.

و هنا مباحث:

الأوّل: معظم الأصحاب و الأخبار عبّروا بلفظ «الضرب» و هو يقتضي وجوب اعتمادٍ يحصل به مسمّاه عرفاً، و ما فيه لفظ «الوضع» مبهماً كعبارة الشيخ في النهاية، «4» و حديث عمّار حيث أصابته جنابة فتمعّك، فقال له رسول الله صلّى اللّه عليه و آله‌

تمعّكت كما تتمعّك الدابّة، أ فلا صنعت كذا

ثمّ أهوى بيديه على الأرض فوضعهما على الصعيد «5» لا ينافي الضرب؛ لأنّه أعمّ منه، و العامّ يُحمل على الخاصّ؛ لأنّه طريق الجمع.

و في الذكرى: الظاهر أنّ الضرب باعتمادٍ غير شرط؛ لأنّ الغرض قصد الصعيد، و هو‌

______________________________
(1) الذكرى 2: 258.

(2) نهاية الإحكام 1: 203.

(3) منها: نهاية الإحكام 1: 202 و 203.

(4) النهاية: 49.

(5) الفقيه 1: 57/ 212؛ التهذيب 1: 207/ 598؛ الاستبصار 1: 170/ 591 بتفاوت يسير في بعض الألفاظ.

335
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في كيفية التيمم ؛ ج‌1، ص : 331

حاصل بالوضع. «1»

و المحقّق الشيخ علي جزم في الشرح بالاكتفاء بالوضع، مستدلةً بأنّ اختلاف الأخبار و عبارات الأصحاب في التعبير بالضرب و الوضع يدلّ على أنّ المراد بهما واحد. «2»

و في التعليلين نظر.

أمّا الأوّل: فلمنع انحصار الغرض في قصد الصعيد؛ فإنّه عين المتنازع، كيف! و قد اعترف بأنّ أكثر الأخبار و الأصحاب على التعبير بالضرب، «3» و قد بيّنّا إمكان الجمع بين الكلّ بالحمل على الضرب؛ لأنّه وَضع و زيادة.

و أمّا الثاني: فيُعلم ممّا قلناه؛ فإنّ مجرّد الاختلاف لا يدلّ على كونهما واحداً، و إنّما يدلّ على الوحدة وجوب تقرير النصّين ما أمكن، و حمل العامّ على الخاصّ. و لا شكّ أنّ حمل الضرب على الوضع ليس بتامّ؛ لما بيّنّاه من المغايرة، و إنّما يصحّ بضربٍ من التجوّز، بل حمل الوضع على الضرب صحيح؛ لاستلزام الضرب الوضعَ و زيادةً.

و بالجملة، فالدليل النقلي لا يساعد على الاكتفاء بالوضع، بل على اشتراط الضرب.

الثاني: قد بيّنّا اشتراط مقارنة النيّة للضرب أو الوضع؛ لأنّه أوّل أفعاله، فتأخير النيّة عنه تأخير لها عن أوّل العبادة، كما في تقديمها. لكن لو وضع اليدين ثمّ نوى في حال استدامة الوضع، هل يكفي؟ يحتمله؛ لأنّ الاستدامة أقوى من الابتداء، و لأنّ ما مضى من زمان الوضع غير منصرف إلى الأفعال؛ لخلوّه عن النيّة، بل ما بعدها، كما لو نوى الوضوء أو الغسل و هو تحت الماء.

و يحتمل عدم الإجزاء، و اختاره المحقّق الشيخ علي؛ لعدم المقارنة للوضع حينئذٍ. «4»

و مثله يأتي في نيّة السجود للسهو أو قضاء السجدة المنسيّة.

و الحقّ أنّا إن أوجبنا الضرب، تعيّن الاحتمال الثاني؛ لعدم تحقّق مسمّاه بالاستدامة له، فإنّه ينقضي بعد وصول اليد إلى الأرض. و إن اكتفينا بالوضع، جاء الاحتمالان. و ربما قوى الأوّل؛ لصدق الوضع بعد وصول اليد.

______________________________
(1) الذكرى 2: 259 260.

(2) جامع المقاصد 1: 489.

(3) الذكرى 2: 259.

(4) جامع المقاصد 1: 490.

336
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في كيفية التيمم ؛ ج‌1، ص : 331

و لو ضرب بإحدى يديه و أتبعها الأُخرى مقارناً للنيّة بالثانية، ففيه الوجهان؛ لأنّ المفهوم من الأخبار كقوله في حديث عمّار: ثمّ أهوى بيديه. «1» و رواية زرارة: فضرب بيديه الأرض. «2» و غيرهما كونهما دفعةً، فيأتي فيه اعتبار ابتداء الوضع أو الاكتفاء باستدامته.

الثالث: اعتبار الضرب باليدين معاً مقيّد بعدم المانع منه، فلو قُطعت إحداهما بحيث لم يبق من محلّ الفرض شي‌ء، سقط الضرب بها، و اقتصر على الضرب بالأُخرى، و مسح الوجه بها و يسقط مسح اليدين معاً؛ لتعذّره.

و لو قُطعت من مفصل الزند، فهل يجب الضرب بما بقي من المفصل و مسحه أم لا؟ يبنى على ما لو قُطعت اليد من المرفق في الوضوء، و قد تقدّم ما يدلّ على الوجوب.

و لو قُطعتا معاً، مسح وجهه بالتراب؛ إذ لا يسقط الميسور بالمعسور، مقارناً بالنيّة مسح جبهته بمحلّ الضرب. و هو اختيار المصنّف «3» في غير هذا الكتاب.

و نقل في المختلف عن المبسوط سقوط فرض التيمّم عنه، محتجّاً: بأنّ الدخول في الصلاة إنّما يسوغ مع الطهارة المائيّة، فإن تعذّرت، فمع مسح الوجه و الكفّين، و لا يزول المنع إلا بالمجموع.

و ردّه: بأنّ التكليف بالصلاة غير ساقط، و إلا سقطت الطهارة المائيّة لو انقطع أحد العضوين، و ليس كذلك إجماعاً. و إذا كان التكليف ثابتاً، وجب فعل الطهارة، و ليس بعض أعضائها شرطاً في الآخر، فيجب الإتيان بالممكن منها. «4»

و حَمَل كلام الشيخ على أنّ المراد سقوط فرض التيمّم عن اليدين أو سقوط جملة التيمّم من حيث هو. «5»

و ما حكاه عنه من الدليل ينافي التأويل.

و في حكم القطع ما لو كان بيديه جراحة تمنع من الضرب بهما و نحوها.

______________________________
(1) الفقيه 1: 57/ 212.

(2) التهذيب 1: 207 208/ 601؛ الاستبصار 1: 171/ 593.

(3) انظر: قواعد الأحكام 1: 23؛ و نهاية الإحكام 1: 207.

(4) مختلف الشيعة 1: 286- 287، المسألة 213؛ و انظر: المبسوط 1: 33.

(5) انظر: مختلف الشيعة 1: 287، ذيل المسألة 213.

337
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في كيفية التيمم ؛ ج‌1، ص : 331

و ألحق به في الذكرى ربط اليدين. «1»

و ليست نجاسة اليدين و إن تعذّرت إزالتها عذراً في الضرب بالجبهة، بل و لا في الضرب و المسح بظهر الكفّين بل يتعيّن الضرب و المسح بهما ما لم تكن النجاسة متعدّيةً؛ لئلا يتنجّس التراب، فلا يفيد غيره طهارةً، فيضرب بالظهر حينئذٍ إن خلا منها كذلك، و إلا فبالجبهة.

و في حكم المتعدّية الحائلةُ على ما اختاره في الذكرى. «2»

و رُدّ بجواز المسح على الجبيرة، و خصوصيّة النجاسة لا أثر لها في المنع إلا إذا تعدّت. نعم، لو أمكن إزالة الجرم و لو بنجاسة اخرى كالبول، تعيّن. «3»

و لو كانت نجاسة محلّ الضرب يابسةً لا تتعدّى إلى التراب و نجاسة محلّ المسح متعدّية، ففي صحّة التيمّم تردّد: من عدم نجاسة التراب و عدم تأثير غيره في المنع، و من عدم النصّ على مثله.

الرابع: هل تشترط مقارنة النيّة لوضع جميع اليدين على الأرض، أم يكفي وضعهما عليها و إن لم تقارن النيّة وضع مجموع أجزائهما؟ كلّ محتمل، و إطلاق الأدلّة يرجّح الثاني.

و تظهر الفائدة فيما لو كان في التراب يسير من أجزاء ما لا يجوز التيمّم عليه، كالتبن، أو كان في الحجر شقوق و تضاريس «4» تمنع من إمساس الكفّ له دفعةً، فعلى الثاني يصحّ التيمّم عليه مع مقارنة النيّة لوضع اليدين معاً، دون الأوّل.

الخامس: تعبير المصنّف بالضرب على التراب على وجه المثال لا الانحصار؛ إذ ليس مذهباً له، كما سلف. و لو عبّر بالأرض، لكان أولى، لكنّه رحمه اللّه لا يتحاشى من ذلك في عباراته، كما عبّر في المسألة ب‍ «ثمّ» في الضرب باليدين.

(ثمّ يمسح بهما) أي باليدين جميعاً، فلا يجزئ المسح بواحدة، خلافاً لابن الجنيد حيث اكتفى بالمسح باليمنى. «5»

______________________________
(1) لم نعثر عليه في مظانّه، و حكاه عنه المحقّق الكركي في جامع المقاصد 1: 498.

(2) الذكرى 2: 267.

(3) الرادّ هو المحقّق الكركي في جامع المقاصد 1: 498.

(4) التضريس: تحزيز و نَبر يكون في ياقوتة أو لؤلؤة أو خشبة يكون كالضرس. لسان العرب 6: 118، «ض ر س».

(5) حكاه عنه العلامة الحلّي في مختلف الشيعة 1: 270، المسألة 200.

338
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في كيفية التيمم ؛ ج‌1، ص : 331

(جبهته) و حدّها (من القصاص) و هو منتهى منبت الشعر من مقدّم الرأس (إلى طرف الأنف الأعلى) و هو الذي يلي آخر الجبهة، و هذا القدر متّفق عليه.

و زاد الصدوق مسح الحاجبين «1» أيضاً. و في الذكرى: لا بأس به. «2»

و زاد بعضهم «3» مسح الجبينين و هما المحيطان بالجبهة يتّصلان بالصدغين لوجوده في بعض الأخبار، «4» و الزيادة غير المنافية مقبولة، فلا بأس به.

و لا يجب استيعاب الوجه على المشهور، لدلالة أكثر «5» الأخبار على مسح الجبهة. و نَقَل المرتضى في الناصريّة «6» إجماع الأصحاب عليه.

و يدلّ عليه «الباء» في قوله تعالى وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ «7» لما تقرر من أنّها إذا دخلت على المتعدّي تبعيضيّة، كما اختاره جماعة من الأُصوليّين و أهل العربيّة.

و قد نصّ على ذلك الإمام أبو جعفر محمد بن عليّ الباقر عليهما السّلام في حديث زرارة، المتقدّم «8» في الوضوء، و قد سبق تحقيق المسألة.

و قال عليّ بن بابويه: يجب مسح الوجه جميعه «9»؛ استناداً إلى روايات «10» بعضها ضعيف السند. و يمكن حملها على الاستحباب.

و اختار المحقّق في المعتبر التخيير بين مسح جميع الوجه و بعضه، لكن لا يقتصر على أقلّ من الجبهة؛ عملًا بالأخبار من الجانبين، و نَقَله عن ابن أبي عقيل. «11»

و لا بدّ من إدخال جزء من غير محلّ الفرض من باب المقدّمة من جميع الجهات في جميع الأعضاء.

______________________________
(1) الفقيه 1: 57.

(2) الذكرى 2: 263.

(3) هو المحقّق الكركي في جامع المقاصد 1: 491490.

(4) التهذيب 1: 211- 212/ 613 و 614؛ الاستبصار 1: 171/ 593 و 594.

(5) منها ما في التهذيب 1: 208207/ 601؛ و الاستبصار 1: 170/ 590.

(6) مسائل الناصريّات: 151، المسألة 47.

(7) المائدة (5): 6.

(8) في ص 103.

(9) حكاه عنه المحقّق الحلّي في المعتبر 1: 384.

(10) منها ما في التهذيب 1: 210209/ 608؛ و الاستبصار 1: 171/ 596.

(11) المعتبر 1: 386.

339
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في كيفية التيمم ؛ ج‌1، ص : 331

و تجب البدأة في مسح الجبهة بالأعلى، فلو نكس بطل إمّا لمساواة الوضوء، أو تبعاً للتيمّم البياني.

(ثمّ يمسح ظهر كفّه اليمنى) و حدّه (من الزند) بفتح الزاي و هو مَوصِلُ طرف الذراع في الكفّ (إلى أطراف الأصابع) عند الأكثر؛ للآية «1» و الأخبار. «2»

و لأنّ اليد حقيقة في ذلك و إن كانت تُقال على غيره، فيقتصر على المتيقّن؛ لأصالة عدم وجوب الزائد، خلافاً لابن بابويه. «3» و الاستدلال و الجواب كما سبق.

و الأولى حمل الأخبار الدالّة على استيعاب الوجه و اليدين إلى المرفقين على التقيّة لأنّه مذهب العامّة.

و ليكن المسح (ببطن اليسرى) مع الإمكان. و لو تعذّر المسح بالبطن لعارضٍ من نجاسةٍ أو غيرها، اجتزأ بالظهر لصدق المسح.

(ثمّ) يمسح (ظهر) اليد (اليسرى ببطن اليمنى) كذلك.

و تجب البدأة بالزند إلى رؤوس الأصابع فيهما. و لو كان له يد زائدة، فكما سلف في الوضوء.

و ما ذكر في العبارة من الاكتفاء بضربة واحدة و هي المقارنة للنيّة إنّما يكفي إذا كان التيمّم بدلًا من الوضوء (و إن كان التيمّم بدلًا من الغسل، ضرب للوجه ضربة) و هي المقارنة للنيّة (و لليدين اخرى) على المشهور.

و اجتزأ جماعة منهم المفيد «4» و المرتضى «5» بضربة واحدة لهما فيهما، استناداً إلى أحاديث «6» صحيحة.

و أوجب المفيد ضربتين فيهما «7» استناداً إلى روايات «8» أُخرى.

______________________________
(1) المائدة (5): 6.

(2) منها ما في التهذيب 1: 207 208/ 601598؛ و الاستبصار 1: 170/ 591588.

(3) حكاه عنه المحقّق الحلّي في المعتبر 1: 386.

(4) حكاه عنه الشهيد في الذكرى 2: 260 نقلًا عن العزّيّة.

(5) جُمل العلم و العمل: 5554؛ و حكاه عنه المحقّق الحلّي في المعتبر 1: 388.

(6) منها ما في التهذيب 1: 207 208/ 601، و 212/ 614 و 615؛ و الاستبصار 1: 171/ 593- 595.

(7) حكاه عنه الشهيد في الذكرى 2: 261 نقلًا عن كتاب الأركان.

(8) منها ما في التهذيب 1: 209 210/ 610608؛ و الاستبصار 1:/ 171 172/ 596 598.

340
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في كيفية التيمم ؛ ج‌1، ص : 331

و جمع الأكثر بين الأخبار بالتفصيل لأنّ اختلاف الأحاديث يقتضي اختلاف الحكم، صوناً لها عن التناقض، و الوضوء مخفّف الحكم، و الغسل مثقّلة، فتكون الضربة للوضوء لأنّه أخفّ.

قال في الذكرى: و ليس التخيير بذلك البعيد إن لم يكن إحداث قول، أو تحمل المرّتان على الندب، كما قاله المرتضى، و استحسنه في المعتبر. «1»

و اعلم أنّه على القول المشهور لا تجزئ ضربة في بدل الغسل قطعاً، و هل تجزئ في بدل الوضوء ضربتان؟ ظاهر كلامهم: عدم مشروعيّة الثانية، فيأثم بها، لكن لا يبطل التيمّم، إلا أن يخرج بها عن الموالاة.

(و يجب الترتيب) فيه بين الأعضاء كما وقع في الذكر: يبدأ بالضرب ثمّ يمسح الجبهة ثمّ اليد اليمنى ثمّ اليسرى للإجماع نَقَله المصنّف في التذكرة، «2» و غيرُه، «3» و للأخبار، «4» فلو أخلّ به، استدرك ما يحصل معه الترتيب إن لم يطل الزمان كثيراً بحيث يفوّت الموالاة، و إلا وجب الاستئناف من رأس.

و لم يذكر المصنّف وجوب الموالاة، و لا بدّ منه، و قد صرّح به في التذكرة، «5» و أسنده في الذكرى إلى الأصحاب. «6»

و يدلّ عليه العطف ب‍ «الفاء» في قوله تعالى فَتَيَمَّمُوا+ .. فَامْسَحُوا «7»+ لدلالتها على التعقيب بغير مهلة في مسح الوجه بعد تيمّم الصعيد الذي هو قصده و الضرب عليه، فيلزم فيما عدا ذلك من الأعضاء لعدم القائل بالفصل. و للمتابعة في التيمّم البياني عن النبيّ و أهل بيته عليهم السّلام، فيجب التأسّي. و الأولى الاستناد إلى الإجماع.

و المراد بالموالاة هنا هي المتابعة عرفاً، و لا يضرّ التراخي اليسير الذي لا يخلّ بصدق التوالي عرفاً لعسر الانفكاك منه.

______________________________
(1) الذكرى 2: 262، و انظر: المعتبر 1: 388 389، و فيهما حكاية قول السيّد المرتضى عن شرح الرسالة له.

(2) تذكرة الفقهاء 2: 196، المسألة 308.

(3) كالمحقّق الكركي في جامع المقاصد 1: 492.

(4) منها ما في الكافي 3: 62/ 4؛ و التهذيب 1: 207/ 598؛ و الاستبصار 1: 170/ 591.

(5) تذكرة الفقهاء 2: 197، المسألة 309.

(6) الذكرى 2: 267.

(7) المائدة (5): 6.

341
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في كيفية التيمم ؛ ج‌1، ص : 331

و لو أخلّ بها، فالظاهر البطلان وفاءً لحقّ الواجب.

و يحتمل الصحّة و إن أثم لصدق التيمّم مع عدمها. و هو ضعيف.

(و) كذا يجب (الاستيعاب) للأعضاء الممسوحة بالمسح، و قد عُلم ذلك من التحديد المتقدّم، و لا خلاف في وجوب استيعاب ما ذُكر، إنّما الخلاف في الزائد عليه.

و أمّا الأعضاء الماسحة فلا يجب استيعابها بحيث يمسح بجميع بطن الكفّ للأصل.

و لقول الباقر عليه السّلام في قصّة عمّار‌

ثمّ مسح جبينه بأصابعه. «1»

(و لا يشترط فيه) أي في التيمّم (و لا في الوضوء طهارة) بدن المتطهّر (غير) أعضاء الطهارة، التي هي (محلّ الفرض من) النجاسة (العينيّة) الخبثيّة.

أمّا الوضوء: فظاهر لجوازه مع السعة، فيمكن إزالة النجاسة بعد الوضوء في الوقت.

و كذا القول في التيمّم مع القول بجوازه مع السعة مطلقاً أو بالتفصيل كما هو مذهب المصنّف في أكثر كتبه «2» إذا كان التيمّم لعذرٍ غير مرجوّ الزوال في الوقت.

و أمّا على القول بمراعاة التضيّق أو كان العذر مرجوّ الزوال فيحتمل وجوب تقديم إزالة النجاسة على التيمّم ليتحقّق الضيق إذ لا بدّ على تقدير تقديم التيمّم من زيادة الوقت على وقت التيمّم و الصلاة لاستلزام إزالة النجاسة وقتاً، فيلزم وقوع التيمّم في السعة. و اختاره الشيخ في النهاية «3» و المحقّق في المعتبر. «4»

و يحتمل جواز تقديم التيمّم بناءً على أنّ المراد بالضيق غلبة ظنّ المكلّف بمساواة ما بقي من الوقت للصلاة و شروطها، و إزالة النجاسة عن الثوب و البدن من جملة الشروط، فيجب أن يستثني وقته مع وقت الصلاة، و لا ينافي «5» التضيّق على القول به، كستر العورة و استقبال القبلة، و هذا هو الظاهر من إطلاق عبارة الكتاب.

و يظهر من الذكرى أنّه لا خلاف في عدم وجوب تحصيل القبلة و الساتر قبل التيمّم. «6»

______________________________
(1) الفقيه 1: 57/ 212.

(2) منها: قواعد الأحكام 1: 4؛ و نهاية الإحكام 1: 217.

(3) النهاية: 50.

(4) المعتبر 1: 394.

(5) في «ق، ك»: «فلا ينافي».

(6) الذكرى 2: 268.

342
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في أحكام التيمم ؛ ج‌1، ص : 343

فإن تمّ ذلك، لم يكن بدّ من جواز تقديم التيمّم على إزالة النجاسة؛ لعدم الفرق بين مقدّمات الصلاة.

و اعلم أنّ إطلاق الطهارة في العبارة على إزالة النجاسة مجاز مشهور لأنّها حقيقة في أحد الثلاثة، كما تقدّم.

[القول في أحكام التيمم]

(و لو أخلّ بالطلب) حتى ضاق الوقت و تيمّم و صلّى (ثمّ وجد الماء مع أصحابه) الباذلين (أو في رحله، أعاد) الصلاة.

و لو استمرّ الحال مشتبهاً، لم يُعد لسقوط السعي بالضيق.

و إطلاق الإعادة على القضاء مع ظهور خلل في الأداء غير مشهور خصوصاً عند المصنّف فإنّه يخصّ الإعادة في كتبه الأُصوليّة «1» بفعل الشي‌ء ثانياً في وقته. نعم، هو مصطلح لبعض الأُصوليّين.

و لو كانت الصلاة مع ظنّ الضيق ثمّ تبيّن السعة و وجد الماء، فكذلك.

و إطلاق الإعادة تامّ عند الجميع، و إنّما يقع التكلّف في استعمال لفظ «الإعادة» في القضاء على ما قيّدنا به العبارة، و لو لا التقييد، كانت مستعملةً في بابها.

و مستند الحكم خبر مرويّ عن الصادق. «2» عليه السّلام و ضعفه منجبر بالشهرة، كما نبّه عليه في الذكرى. «3»

و في حكم الرحل و الأصحاب ما لو وجد في الغلوات لأنّ مناط الإعادة وجدانه في محلّ الطلب.

و إنّما قيّدنا المسألة بالضيق تبعاً للرواية و فتوى الأصحاب. و لأنّه لو تيمّم كذلك مع السعة، بطل تيمّمه و صلاته و إن لم يجد الماء بعد ذلك لمخالفة الأمر و إن جوّزنا التيمّم مع سعة الوقت بعد الطلب.

و إنّما أطلق المصنّف الحكم و لم يقيّد بالضيق كما قيّده في غير هذا الكتاب «4»؛ لما أسلفه‌

______________________________
(1) منها: مبادئ الوصول إلى علم الأُصول: 86، و نهاية الوصول إلى علم الأُصول، المقصد الأوّل: في المقدّمات، الفصل السابع: في تقسيم الحكم، البحث الخامس: في القضاء و الأداء و الإعادة.

(2) الكافي 3: 65/ 10؛ التهذيب 1: 212/ 616، و فيهما مضمراً؛ و في جامع المقاصد 1: 467 عن الإمام الصادقُ.

(3) الذكرى 1: 183.

(4) قواعد الأحكام 1: 22؛ نهاية الإحكام 1: 186.

343
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في أحكام التيمم ؛ ج‌1، ص : 343

فيه من اعتبار التضيّق «1» في فعل التيمّم مطلقاً.

و لو جعلنا الأولويّة للاستحباب، فلا بدّ من تقييد العبارة هنا بالضيق لئلا تتناول الصحّة مع السعة حيث لا يتحقّق وجود الماء على ذلك الوجه.

و اعلم أنّ الأصل يقتضي عدم وجوب إعادة الصلاة مع مراعاة التضيّق و إن أساء بترك الطلب لإيجابه الانتقال إلى طهارة الضرورة. لكن لا سبيل إلى ردّ الحديث «2» المشهور و مخالفة الأصحاب، فإنّهم بين موجب للإعادة مطلقاً، كالشيخ «3» رحمه اللّه حيث حكم بأنّه مَنْ أخلّ بالطلب و تيمّم و صلّى فتيمّمه و صلاته باطلان للمخالفة، و لم يقيّد بالسعة، و بين موجب للإعادة على تقدير ظهور الماء على الوجه المذكور، و هُم المصنّف و الجماعة العاملين بمقتضى الخبر.

و يتفرّع على ذلك ما لو كان الماء موجوداً عنده فأخلّ باستعماله حتى ضاق الوقت عن الطهارة به و الصلاة، فهل يتيمّم و يؤدّي، أم يتطهّر به و يقضي؟ ظاهر إطلاق الشيخ «4» بطلان التيمّم و الصلاة قبل الطلب للفاقد يقتضي الثاني بطريق أولى. و به صرّح المحقّق بل بما هو أبلغ منه حيث قال: مَنْ كان الماء قريباً منه و تحصيله ممكن لكن مع فوات الوقت، لم يجز التيمّم، و يسعى إليه لأنّه واجده. «5»

و اختار المصنّف في المنتهي «6» و التذكرة الأوّل، قال فيها بعد حكاية هذا الفرع: الوجه عندي وجوب التيمّم لتعذّر استعماله. نعم، لو تمكّن من استعماله و [أداء «7»] و ركعة، لم يجز التيمّم. «8»

و فرّق المحقّق الشيخ علي بين ما لو كان الماء موجوداً عنده بحيث يخرج الوقت لو استعمله و بين مَنْ كان الماء بعيداً عنه بحيث لو سعى إليه لخرج الوقت، فأوجب الطهارة‌

______________________________
(1) في «م»: «الضيق».

(2) الكافي 3: 65/ 10؛ التهذيب 1: 212/ 616.

(3) النهاية: 48.

(4) النهاية: 48.

(5) المعتبر 1: 366.

(6) منتهى المطلب 3: 38.

(7) ما بين المعقوفين من المصدر.

(8) تذكرة الفقهاء 2: 161- 162، المسألة 291.

344
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في أحكام التيمم ؛ ج‌1، ص : 343

المائيّة على الأوّل دون الثاني، مستنداً إلى انتفاء شرط التيمّم و هو عدم الوجدان في الأوّل، و عدم صدق الوجدان في الثاني. «1»

و أنت خبير بأنّ المراد بوجدان الماء في باب التيمّم و في الآية «2» فعلًا أو قوّةً، و لهذا يجب على الفاقد الطلبُ و الشراء لصدق الوجدان. و لو كان المراد بالوجدان بالفعل، لم يجب عليه ذلك لأنّه تعالى شرط في جواز التيمّم عدم الوجدان، فلا يتمّ حينئذٍ ما ذكره من الفرق لصدق الوجدان في الصورتين بالمعنى المعتبر شرعاً، فلا بدّ من الحكم باتّفاقهما إمّا بالتيمّم كما ذكره المصنّف، أو بالطهارة المائيّة كما ذكره المحقّق.

و قريب من ذلك ما لو ضاق الوقت عن إزالة النجاسة و ستر العورة.

(و لو عدم الماء و التراب) الطاهرين و ما في حكم التراب من غبار و وحل (سقطت) الصلاة (أداءً و قضاءً).

أمّا سقوطها أداءً: فهو ظاهر الأصحاب بحيث لا نعلم فيه مخالفاً لأنّ الطهارة شرط للصلاة مطلقاً لقوله صلّى اللّه عليه و آله‌

لا صلاة إلا بطهور «3»

و قد تعذّر فيسقط التكليف به لامتناع التكليف بما ليس بمقدور، و يلزم من سقوط التكليف بالشرط سقوط التكليف بالمشروط، و إلا فإن بقي الاشتراط، لزم تكليف ما لا يطاق، و إن انتفى، خرج المشروط المطلق عن كونه مشروطاً مطلقاً، و هو باطل.

و أمّا القضاء: ففيه قولان:

أحدهما و هو الذي اختاره المصنّف: سقوطه لانتفاء المقتضي لوجوبه، فإنّ القضاء إنّما يجب بأمرٍ جديد على أصحّ القولين للأُصوليّين، و لم يثبت الأمر في المتنازع. و لأنّ الأداء لم يتحقّق وجوبه فلا يجب القضاء.

و في الدليلين ضعف.

أمّا الأوّل: فلثبوت الأمر الجديد في قوله صلّى اللّه عليه و آله‌

مَنْ فاته فريضة «4»

و سيأتي تحقيقه.

و أمّا الثاني: فلعدم الملازمة بين وجوب الأداء و القضاء وجوداً و عدماً.

______________________________
(1) جامع المقاصد 1: 467.

(2) النساء (4): 43؛ المائدة (5): 6.

(3) التمهيد لابن عبد البر 8: 215.

(4) أورده المحقّق الحلّي في المعتبر 2: 406.

345
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في أحكام التيمم ؛ ج‌1، ص : 343

و الثاني و اختاره الشهيد «1» رحمه اللّه: وجوب القضاء لقوله صلّى اللّه عليه و آله‌

مَنْ فاتته صلاة فريضة فليقضها كما فاتته «2»

و هو شامل لصورة النزاع لأن «مَنْ» من أدوات العموم.

و أُجيب: بأنّ المراد: مَنْ فاتته فريضة يجب عليه أداؤها فليقضها إذ مَنْ لا يجب عليه الأداء لا يجب عليه القضاء، كالصبي و المجنون. «3»

و يؤيّده أنّ الفريضة فعيلة بمعنى مفعولة، أي مفروضة، و هي الواجبة.

و يبعد أن يراد وجوبها على غيره بأن يكون التقدير: مَنْ فاتته صلاة مفروضة على غيره لأنّ ذلك خلاف الظاهر من حيث إنّ المتبادر غيره، و أنّه يحتاج إلى زيادة التقدير.

و فيه نظر لأنّ القضاء قد يجب على مَنْ لا يجب عليه الأداء، كما في النائم و شارب المُرقد، فإنّ القضاء يتبع سبب الوجوب كالوقت مثلًا، لا الوجوب، كما حقّق في الأُصول.

و أمّا استفادته من الفريضة فبعيد لأنّ هذا اللفظ قد صار علماً على الصلوات المخصوصة التي من شأنها أن تكون مفروضةً مع قطع النظر عمّن فُرضت عليه. أ لا ترى كيف يطلقون عليها هذا الاسم من غير نظر إلى الفاعل، فيقولون‌

الصلوات المفروضة حكمها كذا، و عددها كذا

و‌

صلاة فريضة خير من كذا

و يتبادر المعنى إلى ذهن السامع من غير ملاحظة مَنْ فُرضت عليه، و هما آية الحقيقة. و لفظ «الفريضة» و إن كان وصفاً في الأصل فقد صار علماً بالغلبة.

و ليس الاستدلال بإمكان إرادة هذا المعنى حتى يرد أنّ ذلك غير كافٍ في وجوب القضاء لإمكان العدم، و أصالة براءة الذمّة، بل تتحتّم إرادته لأنّه المتبادر إلى الأفهام، الشائع في الاستعمال، و من هنا قال المصنّف في المختلف بعد جوابه بأنّ المراد: مَن فاتته صلاة يجب أداؤها: و لقائلٍ أن يقول: وجوب القضاء معلّق على الوجوب مطلقاً، و التخصيص بوجوب الأداء لم يدلّ اللفظ عليه، و إخراج الصبيّ و المجنون بدليلٍ خاصّ-

______________________________
(1) الذكرى 1: 190.

(2) أورده المحقّق الحلّي في المعتبر 2: 406.

(3) المجيب هو العلامة في مختلف الشيعة 1: 284 ذيل المسألة 210.

346
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في أحكام التيمم ؛ ج‌1، ص : 343

و هو قوله صلّى اللّه عليه و آله‌

رفع القلم عن ثلاثة «1»

لا يوجب إخراج غيرهما. «2» و هو موافق لما ذكرناه مع زيادة تحقيق للمقام فيما قرّرناه، و سيأتي في قضاء الصلوات إن شاء اللّه زيادة تحقيق لهذا المحلّ، و شواهد من الأخبار على وجوب القضاء غير هذه الرواية.

(و ينقضه) أي التيمّم (كلّ نواقض الطهارة) الكبرى و الصغرى (و يزيد) نواقض التيمّم على نواقضها (وجود الماء مع تمكّنه من استعماله) في الطهارة التي تيمّم عنها بحيث لا يكون له مانع حسّي، كما لو وجد الماء و له مانع من استعماله، كمتغلّب نزل على نهر فمنع من وروده، أو كان في بئر و لا وصلة له إليه، أو كان الماء بيد مَنْ لا يبذله أصلًا أو بعوضٍ غير مقدور، أو شرعيّ، كما لو كان به مرض يخشى عليه من الماء، أو يخشى حدوث مرض.

و خرج بقيد استعماله في الطهارة التي تيمّم عنها ما لو تمكّن من استعماله في الوضوء و هو متيمّم عن الجنابة، فإنّ تيمّمه لا ينتقض كما لا ينتقض في الصور المتقدّمة، لعدم التمكّن، و عدم صدق الوجدان.

و لو كان متيمّماً عن الطهارتين فتمكّن من إحداهما خاصّة، انتقض تيمّمها دون الأُخرى.

و هل يشترط في انتقاضه مضيّ مقدار زمان الطهارة متمكّناً من فعلها، أم ينتقض بمجرّد وجود الماء مع التمكّن من استعماله و إن لم يمض الزمان المذكور؟ ظاهر عبارة الكتاب و غيره و إطلاق الأخبار مثل: قول الباقر عليه السّلام‌

ما لم يحدث أو يصب ماءً «3»

الثاني. و لأنّ توجّه الخطاب إلى الطهارة المائيّة ينافي بقاء التيمّم. و لعدم الجزم بالنيّة على هذا التقدير.

و يشهد للأوّل استحالة التكليف بعبادة في وقت لا يسعها، و يدلّ عليه حقيقة التمكّن من فعلها للقطع بأنّه لو علم من أوّل الأمر أنّه لا يتمكّن من الإكمال، لم ينتقض تيمّمه، و توجّه الخطاب إنّما هو بحسب الظاهر، فإذا تبيّن فوات شرطه، انتفى ظاهراً و باطناً،

______________________________
(1) سنن ابن ماجة 1: 658/ 2041؛ سنن أبي داوُد 4: 140/ 4401؛ و 141/ 4403؛ سنن النسائي 6: 156؛ مسند أحمد 1: 190/ 959، و 7: 163- 164/ 24173.

(2) مختلف الشيعة 1: 284، ذيل المسألة 210.

(3) الكافي 3: 63/ 4؛ التهذيب 1: 200/ 580؛ الاستبصار 1: 163/ 565، و 164/ 570.

347
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في أحكام التيمم ؛ ج‌1، ص : 343

فيراعى الخطاب بفعل الطهارة المائيّة بمضيّ زمان يسعها. فإذا مضى، تبيّن استقرار الوجوب ظاهراً و باطناً، و إلا تبيّن العدم.

و مثله ما لو شرع المكلّف في الصلاة أوّل الوقت فإنّه لا يعلم بقاءه مكلّفاً إلى آخر الصلاة. و كذا الشارع في الحجّ عام الاستطاعة، فإنّه يجوّز تلف المال و عروض الحصر و الصدّ قبل الإكمال، مع أنّ نيّة الوجوب مبنيّة على أصالة البقاء، فإذا استمرّت الشرائط، كشف عن مطابقة الفعل للواقع، و إلا تبيّن عدم الوجوب.

و تظهر الفائدة فيما لو تلف الماء قبل إتمام الطهارة، فالتيمّم بحاله على الأوّل دون الثاني.

و حيث كان وجود الماء مع التمكّن من استعماله ناقضاً للتيمّم (فإن وجده قبل دخوله) في الصلاة، انتقض تيمّمه إجماعاً، و (تطهّر) فلو أهمل، ثمّ فقده بعد ذلك بحيث لو ابتدأ الطهارة لأكملها، أعاد التيمّم كما أسلفناه.

(و إن وجده و قد تلبّس) بالصلاة و لو (بالتكبيرة، أتمّ) صلاته، سواء ركع أم لأعلى المشهور لعموم قوله تعالى وَ لٰا تُبْطِلُوا أَعْمٰالَكُمْ. «1»

و لما رواه محمد بن حمران عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في المتيمّم يؤتى بالماء حين يدخل في الصلاة، قال‌

يمضي في الصلاة. «2»

و قال الشيخ في النهاية: يرجع ما لم يركع «3» لقول أبي عبد اللّه عليه السّلام‌

إن كان لم يركع انصرف و ليتوضّأ، و إن كان قد ركع فليمض في صلاته. «4»

و قيل: ما لم يركع للثانية. «5»

و قيل: ما لم يقرأ. «6»

و شهرة الأوّل ترجّح العمل به. و رجّح في المعتبر روايته مع الشهرة: بأنّ ابن حمران أشهر في العلم و العدالة. «7»

______________________________
(1) سورة محمد (47): 33.

(2) التهذيب 1: 203/ 509؛ الإستبصار 1: 166/ 575.

(3) النهاية: 48.

(4) الكافي 3: 64/ 5؛ التهذيب 1: 204/ 591؛ الإستبصار 1: 166- 167/ 576.

(5) القائل هو ابن الجنيد كما حكاه عنه العلامة الحلّي في مختلف الشيعة 1: 275، المسألة 205.

(6) القائل هو سلار في المراسم: 54.

(7) المعتبر 1: 400.

348
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في أحكام التيمم ؛ ج‌1، ص : 343

و حيث قلنا: لا يرجع، فهو للتحريم: للنهي عن إبطال العمل.

و تفرّد المصنّف بجواز العدول إلى النفل «1» جمعاً بين صيانة الفريضة عن الإبطال و أدائها بأكمل الطهارتين.

و رُدّ: بأنّه في معنى الإبطال لأنّ النافلة يجوز قطعها و جواز النقل «2» في موضعٍ لدليلٍ كناسي الأذان و الجمعة «3» لا يقتضي الجواز مطلقاً، و القياس باطل. «4»

و لو ضاق الوقت، حرم قطعاً.

فرع: على القول بإكمال الصلاة بالتيمّم إمّا مطلقاً أو لتجاوزه محلّ القطع فهل يعيد التيمّم لو فقد الماء بعد الصلاة؟ قيل «5» نعم لأنّه متمكّن عقلًا من الماء. و مَنعُ الشرع من الإبطال لا يُخرجه عن التمكّن، فإنّه صفة حقيقيّة لا تتغيّر بالأمر الشرعي أو النهي. و عدم فساده بالنسبة إلى الصلاة التي كان فيها للإذن في إتمامها حذراً من إبطال العمل، أمّا غيرها فلا مانع من بطلانه بالنسبة إليه.

و هو ضعيف لأنّ الإذن في إتمامها يقتضي بقاء الإباحة، فلا تجتمع الصحّة و الفساد في طهارةٍ «6» واحدة. و المنع الشرعي كافٍ في عدم النقض كالمرض، فهو بمنزلة المنع الحسّي بل أقوى. و لأنّ التيمّم لم ينتقض بوجود الماء فبعد فقده أولى. و لأنّ صحّة أداء الصلاة تقتضي عدم ثبوت المنع من فعلها، و هو أمر مشترك بين جميع الصلوات، فعدم النقض أصحّ.

و لا فرق في الصلاة بين الفرض و النفل.

(و يستباح به كلّ ما يستباح ب‍) الطهارة (المائيّة) من صلاةٍ و طوافٍ واجبين أو ندبين، و دخول مسجدٍ و لو كان الكعبة، و قراءة عزيمة، و غير ذلك من واجب و مستحب؛ لقوله تعالى وَ لٰكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ «7» و قوله صلّى اللّه عليه و آله: «و طهوراً» «8» و‌

يكفيك

______________________________
(1) تذكرة الفقهاء 2: 211، الفرع «أ»؛ قواعد الأحكام 1: 23.

(2) كذا، و في جامع المقاصد: «القطع» بدل «النقل».

(3) أي: سورة الجمعة.

(4) الرادّ هو المحقّق الكركي في جامع المقاصد 1: 509.

(5) القائل هو الشيخ الطوسي في المبسوط 1: 33.

(6) في «م»: «عبادة» بدل «طهارة».

(7) المائدة (5): 6.

(8) الفقيه 1: 155/ 724؛ الخصال 1: 201/ 14، و 292/ 56؛ سنن ابن ماجة 1: 188/ 567؛ سنن النسائي 1: 210، و 2: 56؛ مسند أحمد 2: 475/ 7225؛ المعجم الكبير للطبراني 11: 61/ 11085.

349
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في أحكام التيمم ؛ ج‌1، ص : 343

الصعيد عشر سنين. «1»

و مَنَع فخر المحقّقين ولد المصنّف من استباحة المساجد به للجنب لقوله تعالى وَ لٰا جُنُباً إِلّٰا عٰابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىٰ تَغْتَسِلُوا «2» حيث جعل غاية التحريم الغسل، فلا يزول بالتيمّم. و كذا مسّ كتابة القرآن به معلّلًا بعدم فرق الأُمّة بينهما هنا. «3» و يلزمه تحريم الطواف للجنب أيضاً بالتيمّم لاستلزامه دخول المسجد و إن لم يصرّح به.

و هو ضعيف لمعارضته بقوله صلّى اللّه عليه و آله لأبي ذر‌

يكفيك الصعيد عشر سنين «4»

فإنّ إطلاقه يقتضي الاكتفاء به في العبادات إذ لو أراد الاكتفاء في الصلاة في البيت، لوجب البيان، حذراً من الإجمال في وقت الخطاب، الموجب للإغراء.

و بقول الصادق عليه السّلام‌

إنّ اللّه جعل التراب طهوراً كما جعل الماء طهوراً «5»

و قوله عليه السّلام‌

التراب أحد الطهورين. «6»

و لأنّ إباحة الصلاة المشترطة «7» بالطهارة الصغرى و الكبرى أعظم من دخول المساجد، فإباحتها تستلزم إباحته بطريق أولى. و ذكر الغسل في الآية «8» لكونه أصلًا اختياريّاً، و هو لا ينفي الاضطراري إذا دخل بدليلٍ آخر.

و اعلم أنّ هذه العبارة أيضاً أوفى ممّا في صدر الكتاب من قوله‌

و التيمّم يجب للصلاة و الطواف

إلى آخره، و قد بيّنّاه هناك.

(و لا يعيد) المتيمّم تيمّماً مشروعاً (ما صلّى به) لأنّ امتثال المأمور به على وجهه يقتضي الإجزاء.

و لا فرق في ذلك بين متعمّد الجنابة حال عجزه عن الغسل و غيره، و لا بين مَنْ منعه زحام الجمعة عن الخروج للطهارة المائيّة فتيمّم، و غيره لتحقّق الامتثال في الجميع،

______________________________
(1) الفقيه 1: 59/ 221؛ التهذيب 1: 194/ 561، و 200199/ 578.

(2) النساء (4): 43.

(3) إيضاح الفوائد 1: 6766.

(4) راجع المصادر في الهامش (1).

(5) الفقيه 1: 60/ 223.

(6) الكافي 3: 6463/ 4؛ التهذيب 1: 200/ 580، و فيهما: «التيمّم أحد الطهورين». و الحديث عن الإمام الباقرُ.

(7) في «م»: «المشروطة».

(8) النساء (4): 43.

350
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في أحكام التيمم ؛ ج‌1، ص : 343

و ما ورد خلاف ذلك ضعيف أو معارض بما هو أشهر منه.

و يدخل في إطلاقه مَنْ صبّ الماء في الوقت ثمّ تيمّم و صلّى. و في حكمه نقله عن ملكه حيث يتمّ الملك، و مروره على نهر و نحوه، و تمكّنه من الشراء و قبول الهبة فلم يفعل، و جنابته فيه عمداً إذا كان عنده ما يكفيه للوضوء خاصّة، أو كان متطهّراً و حدثه كذلك، فلا يجب القضاء في جميع ذلك.

و قد صرّح بعدم القضاء في الأصل و هو إراقة الماء في الوقت في التذكرة، «1» و اختاره الشهيد «2» رحمه اللّه لكونه مأموراً بالتيمّم في آخر الوقت، لعدم وجدانه الماء، فيقتضي الإجزاء و إن أساء قبل ذلك.

و اختار في القواعد «3» وجوب القضاء لمخاطبته بعد الوقت بفعل الصلاة بالطهارة المائيّة لأنّه متمكّن منها، فإذا تيمّم و صلّى بعد الإراقة، لم يخرج من العهدة إذ لم يأت بالمأمور به على وجهه، فتجب الإعادة.

و هذا إنّما يتمّ إذا لم يكن مأموراً بالتيمّم و الصلاة آخر الوقت، أمّا مع الأمر به فيتعيّن الإجزاء كما قلناه، و حيث كان المأمور به الثاني بدلًا من المأمور به الأوّل سقط اعتبار الأوّل و إن أساء لاستحالة الأمر بالبدل و المبدل معاً مع ثبوت البدليّة.

و متى قلنا بالإعادة فإنّما يعيد ما أراق الماء في وقتها. و لو كان في وقت مشترك، أعاد صلاتية معاً.

و الظاهر أنّ الصوم كالصلاة في ذلك، و لكن لم يصرّحوا به، و اشتراطه بالطهارة يلحقه بها.

(و) لو اجتمع جنب و محدث حدثاً أصغر و ميّت و عندهم من الماء ما يكفي أحدهم خاصّة، فإن كان الماء ملكاً لأحدهم، اختصّ به، و لا يجوز له بذله لغيره مع تضيّق وقت مشروط بها عليه، أو اتّساعه و عدم رجاء غير هذا الماء لأنّ الطهارة قد تعيّنت عليه و هو متمكّن من الماء فلا يعدل إلى التيمّم. و المخاطب بذلك في الميّت وليّه.

______________________________
(1) تذكرة الفقهاء 2: 166، المسألة 294.

(2) الذكرى 1: 183.

(3) قواعد الأحكام 1: 22.

351
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في أحكام التيمم ؛ ج‌1، ص : 343

و لو كان الماء مباحاً استوى الحيّان و وليّ الميّت في إثبات اليد عليه و لم يكف إلا لواحد منهم، أو مع مالك يسمح ببذله لأحدهم، أو منذوراً أو موصى به للأحوج، فالمشهور أنّه (يخصّ الجنب بالماء المباح و المبذول) للأحوج (و يتيمّم المحدث و يُيمّم الميّت) لصحيحة الحسن «1» الأرمني عن الرضا عليه السلام في القوم يكونون في السفر فيموت منهم ميّت، و معهم جنب و معهم ماء قليل قدر ما يكفي أحدهم أيّهم يبدأ به؟ قال‌

يغتسل الجنب و يترك الميّت. «2»

و يؤيّدها أنّه متعبّد بالغسل، و الميّت قد خرج عن التكليف بالموت، و قوّة حدثه بالنسبة إلى المحدث.

قال في الذكرى: و فيه إشارة إلى عدم طهوريّة المستعمل، و إلا لأمر بجمعه. «3»

و فيه نظر لأنّ جمعه لا يلزم منه أن يجتمع منه ما يكفي واحداً، فإنّه أعمّ من ذلك، و لا دلالة للعامّ على الخاصّ، و جاز أن يعلم عليه السلام منه عدم اجتماع ما يرفع حدثاً آخر. اللّهمّ إلا أن يستدلّ بترك الاستفصال.

و في رواية محمد بن علي عن بعض أصحابنا عن الصادق عليه السلام أنّ الميّت أولى منه. «4» و عمل بمضمونها بعض «5» الأصحاب.

و يؤيّدها أنّ غسل الميّت خاتمة طهارته، فينبغي إكمالها، و الجنب قد يستدرك مع وجود الماء. و أيضاً فالقصد في غسل الميّت التنظيف و لا يحصل بالتيمّم، و في الحيّ الدخول في الصلاة و هو يحصل به.

و الرواية الأُولى أرجح لعمل الأكثر، و اتّصالها، و إرسال الثانية.

و هذا الاختصاص المذكور في العبارة بالنسبة إلى المباح بالمعنى المذكور و المبذول على سبيل الاستحباب لاشتراك الواردين في تملّكه باستوائهم في حيازته، و الفرض أنّ حصّة كلّ واحد لا تفي بحاجته، فيستحبّ له بذلها للأحوج و هو الجنب مع عدم رجاء ما به يحصل الإكمال، و لو خصّ غيره، جاز. و كذا القول في المالك الباذل.

______________________________
(1) في التهذيب: الحسين.

(2) التهذيب 1: 110/ 287؛ الاستبصار 1: 102/ 331.

(3) الذكرى 1: 188.

(4) التهذيب 1: 110/ 288؛ الاستبصار 1: 102/ 332.

(5) كالشيخ الطوسي في الخلاف 1: 166- 167، المسألة 118؛ و الاستبصار 1: 102 ذيل الحديث 332.

352
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في أحكام التيمم ؛ ج‌1، ص : 343

و لو تغلّب أحدهم على حيازته بعد استوائهم في الوصول إليه، أثم و ملك و به جزم المصنّف في التذكرة، «1» و المحقّق في المعتبر «2» لأنّ الوصول لا يفيد الملك لافتقار تملّك المباحات إلى الحيازة مع النيّة و لم يحصل الشرطان إلا للمتغلّب.

و استشكله في الذكرى بإزالة أولويّة غيره، و هي في معنى الملك، قال: و هذا مطّرد في كلّ أولويّة، كالتحجير و التعشيش و دخول الماء. «3» و قد عرفت ما فيه.

و لو سبق أحدهم، اختصّ، و لا يجوز له بذله لغيره، كالمالك له ابتداءً.

و أمّا المنذور و الموصى به للأحوج فإنّ الجنب يختصّ به على المشهور على وجه الاستحقاق لا الاستحباب.

و لو دفع لغيره، لم يجز إن كان للحيّ قطعاً، و إن كان للميّت، بني على أنّ غسله هل هو طهارة حقيقيّة و إن اشتملت على تنظيف، أو هو تنظيف كما اختاره في المعتبر «4» أو إزالة نجاسة؟ فعلى الأوّل يبطل الغسل، و يتيمّم الحيّان و يُيمّم الميّت، و على الآخَرَين يأثم المتولّي مع علمه و يجزئ.

و لو أمكن الجمع بأن يتوضّأ المحدث و يجمع ماء الوضوء، ثمّ يغسل الجنب الخالي بدنه عن نجاسة ثمّ يُجمع ماؤه و يُغسّل به الميّت، جاز لأنّ المستعمل باقٍ على حاله عندنا، و قد يجب الجمع.

و لو لم يكف الماء إلا للمحدث بالأصغر خاصّة، فهو أولى لعدم المشاحّة، و عدم تبعّض الطهارة خصوصاً مع إمكان تمام الإباحة بالنسبة إلى بعضهم. و لو لم يكن جنب، فالميّت أولى لشدّة حاجته، و لحديثه «5» المرسل.

و لو جامعهم ماسّ ميّتٍ، لم يتغيّر الحكم لأنّ حدثه ضعيف بالنسبة إلى حدث الجنب.

و لو جامعهم حائض أو نفساء، فلا نصّ فيه، لكن قيل: يقدّم الجنب لضعف حدثهما حيث إنّ انقطاع دمهما يبيح ما لا يستبيحه الجنب بدون الغسل، و للاكتفاء بغسله في‌

______________________________
(1) تذكرة الفقهاء 2: 223، الفرع «و».

(2) المعتبر 1: 407.

(3) الذكرى 1: 189.

(4) المعتبر 1: 407.

(5) التهذيب 1: 110/ 288؛ الإستبصار 1: 102/ 332.

353
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في أحكام التيمم ؛ ج‌1، ص : 343

استباحة الصلاة. «1» و به قطع الشهيد في الذكرى، قال: و لو قلنا بتوقّف وطئ الزوج على الغسل، أمكن أولويّتهما على الجنب لقضائهما حقّ اللّه تعالى و حقّ الزوج. «2»

و هذا التعليل إنّما يتمّ في ذات الزوج الحاضر أو في حكمه، فلو كانت خاليةً أو كان غائباً عنها بحيث لا يحضر حتى تتمكّن من الغسل غالباً، قدّم.

و كما يرجّح الجنب عليهما يرجّح على المستحاضة بطريق أولى لضعف حدثها بالنسبة إليهما.

و في ترجيحهما على المستحاضة وجه يظهر من المصنّف في النهاية «3» اختياره.

و في ترجيح الميّت عليهنّ أو بالعكس وجهان، و كذا في ترجيحهنّ على الماسّ و المحدث بالأصغر، و إن كان الترجيح أوجَه لقوّة حدثهنّ بالنسبة إليهما. و الظاهر تقديم الماسّ على المحدث.

و مزيل الخبث عن الحيّ مقدّم على الجميع لما تقدّم من أنّ للماء في رفع الحدث بدلًا، دون الخبث. و يجب تقييده بإمكان التراب و حكمه، و إلا قدّم رفع الحدث لقوّة شرطيّته في العبادة.

و مزيل الخبث عن الميّت أولى، قاله المصنّف في النهاية. «4»

قيل «5» و مزيل الطيب عن المُحرم أولى منهما.

و العطشان أولى من الجميع قطعاً. و المعصوم أولى مطلقاً.

(و لو أحدث المجنب المتيمّم، أعاد بدلًا من الغسل و إن كان) الحدث (أصغر) لأنّ التيمّم لا يرفع الحدث إجماعاً، و إنّما يفيد الإباحة، فإذا بطل بالحدث، أعاده بدلًا من الغسل لبطلان التيمّم بالحدث الطارئ، و حدث الجنابة باقٍ، فلا حكم للحدث الأصغر.

و قال المرتضى: لو وجد هذا المحدث ما يكفيه للوضوء، توضّأ به لأنّ حدثه الأوّل قد‌

______________________________
(1) قال به المحقّق الكركي في جامع المقاصد 1: 513.

(2) الذكرى 1: 189.

(3) انظر: نهاية الإحكام: 192.

(4) نهاية الإحكام 1: 192.

(5) لم نعثر على القائل فيما بين أيدينا من المصادر.

354
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في أحكام التيمم ؛ ج‌1، ص : 343

ارتفع بالتيمّم، و إلا لما جاز الدخول في الصلاة به، و جاء ما يوجب الصغرى و قد وجد من الماء ما يكفيه لها، فيجب عليه استعماله، و لا يجزئه تيمّمه، فعلى هذا لو لم يجد ماءً للوضوء، تيمّم بدلًا منه. «1»

و هو ضعيف للإجماع على عدم ارتفاع حدثه الأوّل.

قال في الذكرى: و يمكن أن يريد بارتفاع حدثه استباحة الصلاة، و أنّ الجنابة لم تبق مانعةً، فلا ينسب إلى مخالفة الإجماع. «2»

و هذه الإرادة لا تدفع الضعف لأنّ الاستباحة إذا لم تستلزم الرفع، فبطلانها بالحدث يوجب تعلّق حكم الحدث الأوّل، و قد روى محمد بن مسلم في الصحيح عن أحدهما عليهما السّلام في رجل أجنب في سفر و معه قدر ما يتوضّأ به، قال‌

يتيمّم و لا يتوضّأ. «3»

(و يجوز التيمّم مع وجود الماء للجنازة) لصحّتها من دون الطهارة، و للرواية، «4» و ضعفها منجبر بالشهرة، و ادّعى الشيخ عليه إجماع الفرقة، «5» و شهادة الواحد به مقبولة فلا، يقدح حينئذٍ استشكال المحقّق في المعتبر بعدم علمه بالإجماع و ضعف الرواية. «6»

قال في المعتبر: و لو قيل: إذا فاجأته الجنازة و خشي فوتها مع الطهارة، تيمّم لها، كان حسناً لأنّ الطهارة لمّا لم تكن شرطاً و كان التيمّم أحد الطهورين، فمع خوف الفوت لا بأس بالتيمّم لأنّ حال المتيمّم أقرب إلى شبه المتطهّرين من المتخلّي منه. «7»

و فيه نظر لأنّ مثل ذلك لا يسمّى تعذّراً لاستعمال الماء، فإن كان حمل الرواية على ذلك كما هو ظاهر سياقه فالقول بها يوجب العمل بإطلاقها، و إلا فمجرّد المشابهة غير كافية في هذه الأحكام.

و هذا التيمّم مغاير لغيره بوجهين: أحدهما: جوازه مع وجود الماء. و الثاني: عدم اشتراط نيّة البدليّة على القول باشتراطها في غيره لجوازه مع القدرة على البدل، مع‌

______________________________
(1) حكاه عنه المحقّق الحلّي في المعتبر 1: 395؛ و الشهيد في الذكرى 2: 283 نقلًا عن شرح الرسالة له.

(2) الذكرى 2: 283.

(3) التهذيب 1: 405/ 1272.

(4) الكافي 3: 178 179/ 5؛ التهذيب 3: 203/ 477.

(5) الخلاف 1: 161160، المسألة 112.

(6) المعتبر 1: 405.

(7) المعتبر 1: 405.

355
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في أحكام التيمم ؛ ج‌1، ص : 343

احتمال اشتراطها لجواز كونه بدلًا اختياريّاً.

قيل: و مثله تيمّم المحدث للنوم. «1»

(و لا يدخل) المتيمّم (به في غيرها) من الصلوات و ما يشترط فيه الطهارة لأنّ شرعيّة التيمّم مع وجود الماء مقصورة على مواضع مخصوصة على خلاف الأصل، فيقتصر به على موارده.

______________________________
(1) القائل هو يحيى بن سعيد الحلّي في الجامع للشرائع: 46.

356
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

النظر الخامس فيما به تحصل الطهارة ؛ ج‌1، ص : 357

[النظر الخامس فيما به تحصل الطهارة]

(النظر الخامس: فيما به تحصل الطهارة) بقسميها.

(أمّا) الطهارة (الترابيّة: فقد بيّنّاها) و إنّما قدّم الكلام في المطهّر فيها مع أنّه متأخّر عن الكلام على الماء؛ لأنّه مطهّر اختياريّ لا اضطراريّ؛ لقلّة مباحثه، فأدرجه مع الكلام عليها.

(و أمّا) الطهارة (المائيّة فبالماء المطلق لا غير) لتعليق التيمّم في الآية «1» على عدم وجدان الماء المطلق، فسقطت الواسطة.

و لقول الصادق عليه السّلام و قد سُئل عن الوضوء باللبن؟ فقال‌

إنّما هو الماء و الصعيد

«2» و «إنّما» للحصر.

و اختصاصه بذلك من بين المائعات إمّا تعبّداً، أو لاختصاصه بمزيد رقّة و سرعة اتّصال بالمحلّ و انفصال عنه.

و قول الصدوق بجواز الوضوء و غسل الجنابة بماء الورد «3» استناداً إلى رواية «4» ضعيفة السند شديدة الشذوذ مردود بسبق الإجماع له و تأخّره عنه. و مثله حَملُ ابن أبي عقيل لها على الضرورة، مطّرداً للحكم في المضاف «5».

______________________________
(1) النساء (4): 43؛ المائدة (5): 6.

(2) التهذيب 1: 188/ 540؛ الاستبصار 1: 14/ 26.

(3) الفقيه 1: 6؛ الهداية: 65.

(4) الكافي 3: 73/ 12؛ التهذيب 1: 218/ 627؛ الاستبصار 1: 14/ 27.

(5) حكاه عنه العلامة الحلّي في مختلف الشيعة 1: 57، المسألة 30.

357
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

النظر الخامس فيما به تحصل الطهارة ؛ ج‌1، ص : 357

(و كذا إزالة النجاسة) تكون بالماء المطلق دون المضاف، فالانحصار المستفاد من مساواة المعطوف للمعطوف عليه بالنسبة إلى مطلق الماء، لا بالنسبة إلى مطلق المزيل لها؛ لعدم انحصارها «1» في الماء المطلق؛ فإنّ باقي المطهّرات العشر يشاركه في ذلك.

و أشار بذلك إلى خلاف المرتضى حيث جوّز رفع الخبث بالمضاف «2»، استناداً إلى إطلاق قوله تعالى وَ ثِيٰابَكَ فَطَهِّرْ «3» و قول النبي صلّى اللّه عليه و آله في الخبر المستفيض‌

لا يغمس يده في الإناء حتّى يغسلها

«4» و نحوه. و المضاف يصدق عليه التطهير و الغسل.

و يدفعه الإجماعُ المتقدّم و المتأخّر، كما تقدّم، و المعارضةُ بتخصيص الغسل بالماء في قول النبي صلّى اللّه عليه و آله‌

حتّيه ثمّ اغسليه بالماء

«5» و قول الصادق عليه السّلام‌

إذا وجد الماء غسله

«6» و المطلق يُحمل على المقيّد.

و لمّا انحصر رفع الحدث و إزالة الخبث في الماء المطلق فلا بدّ من تعريفه ليتميّز من غيره من أقسام المياه، و تمام معرفته يحصل بمعرفة قسيمه أعني المضاف أيضاً، فلذلك عرّفه بقوله:

(و) الماء (المطلق: ما يصدق عليه إطلاق الاسم) أي يصدق عليه اسم الماء عند إطلاقه (من غير قيد).

و هذا التعريف رسم ناقص؛ لتعريفه بالخاصّة من دون ذكر الأعمّ، و هذه الخاصّة من علامات الحقيقة.

و لا يرد عليه ماء البئر و البحر و نحوهما ممّا يغلب عليه التقييد؛ لأنّ ذلك غير مستحقّ له، و لهذا لو أُطلق عليه اسم الماء بدون القيد، صحّ.

و يمكن كون التعريف لفظيّاً، و هو إبدال لفظٍ بلفظٍ أشهر منه في الاستعمال أو أوضح، مثل‌

«الحنطة بُرّ.

______________________________
(1) في «ق، م» زيادة: حينئذٍ.

(2) مسائل الناصريّات: 105 106، المسألة 22؛ و حكاه عنه المحقّق الحلّي في المعتبر 1: 82 نقلًا عن شرح الرسالة له.

(3) المدّثّر (74): 4.

(4) صحيح مسلم 1: 233/ 278؛ سنن أبي داوُد 1: 25/ 103؛ سنن البيهقي 1: 75/ 202 و ما بعدها.

(5) سنن أبي داوُد 1: 99- 100/ 362؛ سنن الترمذي 1: 254- 255/ 138؛ سنن النسائي 1: 155؛ سنن البيهقي 1: 20/ 36، و 218/ 659 بتفاوت يسير.

(6) الفقيه 1: 40/ 155؛ التهذيب 1: 271/ 799؛ الاستبصار 1: 187/ 655.

358
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

الأقسام الأربعة للماء الملاقي بالنجاسة ؛ ج‌1، ص : 359

و يؤيّده الإتيان فيه ب‍ «ما» و هي من الأدوات العامّة التي لا تدخل التعريفات الصناعيّة؛ إذ المقصود منها كشف الحقيقة من غير نظر إلى الأفراد.

(و المضاف بخلافه) لا يصدق عليه إطلاق الاسم إلا بقيدٍ زائد على اسم الماء، كماء الورد و نحوه، و يلزم من ذلك أنّه لا يصدق عليه الماء حقيقةً بل مجازاً؛ إذ من علامة المجاز عدم تناول الاسم عند الإطلاق.

(و هما) أي المطلق و المضاف (في الأصل) أي في أصل خلقتهما قبل عروض نجاسة طارئة لهما (طاهران) لأنّ الأصل في الأشياء كلّها الطهارة إلا ما نصّ الشرع «1» على نجاسته؛ لأنّها مخلوقة لمنافع العباد، و لا يحصل الانتفاع أو لا يكمل إلا بطهارتها.

[الأقسام الأربعة للماء الملاقي بالنجاسة]

(فإذا) خرجا عن الأصل «2» بأن (لاقتهما نجاسة، فأقسامهما أربعة) و نسبة الأقسام إليهما مع أنّ المنقسم إنّما هو أحدهما جائز باعتبار كون غير المنقسم أحد الأقسام، أو لكون المنقسم هو المجموع من حيث هو مجموع، و ذلك لا ينافي عدم انقسام بعض الأفراد.

و انقسامهما إلى الأربعة باعتبار اختلاف الأحكام باختلافها، و الأمر فيها ظاهر في غير البئر، أمّا فيه فلا يتمّ على مذهب المصنّف من عدم نجاسته بالملاقاة «3»، فيلحق بالجاري، فتتداخل الأقسام.

و مجرّد وقوع الخلاف فيه إن كفى في جَعله قسماً آخر برأسه، لزم زيادة الأقسام على الأربعة؛ لوقوع الخلاف في مياه الحياض و الأواني في انفعالها بالملاقاة و إن كثرت، فينبغي جَعلها قسماً آخر.

و يمكن ترجيح جَعل البئر قسماً و إن ساواه غيره، جرياً على ما ألفوه من أفراده بناءً على ما اختاره الأكثر «4» حتى كاد يكون إجماعاً من انفعاله بمجرّد الملاقاة. و لكثرة أحكامه و تشعّب مسائله، فناسب ذلك إفراده بالذكر.

______________________________
(1) في الطبعة الحجريّة: «الشارع».

(2) في الطبعة الحجريّة: «عن ذلك» بدل «عن الأصل».

(3) إرشاد الأذهان 1: 236؛ تذكرة الفقهاء 1: 25، المسألة 6؛ تحرير الأحكام 1: 4؛ مختلف الشيعة 1: 25، المسألة 7؛ منتهى المطلب 1: 56 و 68؛ نهاية الإحكام 1: 235.

(4) منهم: السيّد المرتضى في الانتصار: 89 90؛ و الشيخ المفيد في المقنعة: 64؛ و الشيخ الطوسي في النهاية: 6؛ و المبسوط 1: 11؛ و سلار في المراسم: 34؛ و القاضي ابن البرّاج في المهذّب 1: 21؛ و ابن إدريس في السرائر 1: 69؛ و المحقّق الحلّي في المعتبر 1: 54.

359
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

الأول المضاف ؛ ج‌1، ص : 360

[الأوّل المضاف]

القسم (الأوّل: المضاف) و هو ما لا يصدق إطلاق اسم الماء عليه إلا بقيدٍ و إن كان في أصله مطلقاً، كالمتغيّر منه بطول مكثه بحيث لا يصدق إطلاق اسم الماء عليه، و (كالمعتصر من الأجسام، كماء الورد و) الماء المطلق في أصله (الممتزج بها) أي بالأجسام (مزجاً يسلبه الإطلاق، كالمرق) التي ماؤها مطلق خرج عنه بمزجه بالأجسام.

و مثله المطلق الممتزج بما عصر من الأجسام بل بأيّ صنف كان من أصناف المضاف بحيث خرج المطلق عن الإطلاق.

أمّا لو بقي المطلق الممتزج بالأجسام بعد المزج على إطلاقه، أو صار الجميع مطلقاً في الممتزج بالمضاف، لم يؤثّر المزج، بل يجوز استعمال الجميع فيما يتوقّف على المطلق، خلافاً لبعض العامّة «1» حيث أوجب إبقاء قدر المضاف.

و ضعفه ظاهر؛ لأنّ الحكم تابع للإطلاق، و هو موجود في الجميع.

و على هذا لو توقّفت الطهارة على المزج، وجب عيناً من باب مقدّمة الواجب المطلق الذي لا يتمّ إلا بالمزج، خلافاً للشيخ «2» رحمه اللّه حيث لم يوجبه و إن جوّزه. و هو مع ضعفه متناقض «3».

(و هو) أي المضاف (ينجس) بفتح العين و ضمّها، ك‍ «يعلم» و «يكرم» فعين ماضيه مضمومة و مكسورة (بكلّ ما يقع فيه من النجاسة، قليلًا كان) المضاف (أو كثيراً) و سواء غيّرت النجاسة أحدَ أوصافه أم لا؛ لقصوره عن دفع النجاسة عن غيره فكذا عن نفسه، كالقليل.

و لقوله صلّى اللّه عليه و آله حين سُئل عن فأرة وقعت في سمن‌

إن كان مائعاً فلا تقربوه

«4» و ترك الاستفصال دليل العموم.

و للإجماع.

[الثاني الجاري من المطلق]

القسم (الثاني: الجاري من) الماء (المطلق) و المراد به النابع غير البئر، سواء جرى أم‌

______________________________
(1) العزيز شرح الوجيز 1: 26؛ المجموع 1: 99- 100.

(2) المبسوط 1: 109.

(3) في «م»: «مناقض».

(4) سنن أبي داود 3: 364/ 3842؛ سنن البيهقي 9: 593/ 19621؛ المصنّف لعبد الرزّاق 1: 84/ 278؛ مسند أحمد 2: 521/ 7547.

360
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

الثاني الجاري من المطلق ؛ ج‌1، ص : 360

لا، و إطلاق اسم الجاري عليه إمّا حقيقة عرفيّة، أو تغليب لبعض أفراده على الجميع.

و أمّا الجاري غير النابع فهو من أقسام الواقف، و سيأتي.

(و لا ينجس) الجاري (إلا بتغيّر) أحد أوصافه الثلاثة (لونه أو طعمه أو ريحه) لا مطلق الصفات، كالحرارة و نحوها (بالنجاسة) متعلّق بالمصدر، و هو «تغيّر».

و يستفاد من الاستثناء من المنفي، المقتضي لحصر الحكم في المثبت: أنّه لو تغيّر في أحد أوصافه بالمتنجّس لا بالنجاسة، لم ينجس، كما لو وضع فيه دبس نجس فغيّر طعمه بحيث لو انفردت النجاسة المنجّسة للدبس عنه و وضعت في الجاري، لم تُغيّره.

و المراد برائحة الماء: سلامته من رائحة مكتسبة، سواء كان له رائحة في أصله أم لا. و كذا القول في قسيميها.

و المعتبر في التغيّر بالنجاسة ما كان بواسطة ملاقاتها، فلا ينجس بالتغيّر الحاصل من المجاورة و مرور الرائحة على الماء، كالجيفة الملقاة على جانب الشط فيتغيّر «1» بها.

و هل المعتبر في التغيّر الحسّيّ أو التقديريّ؟ ظاهر المذهب: الأوّل، و هو اختيار الشهيد «2» رحمه اللّه. و اختار المصنّف «3» الثاني. فلو وقعت نجاسة مسلوبة الصفات في الجاري و الكثير، فهو باقٍ على طهارته على الأوّل؛ لدوران النجاسة مع تغيّر أحد الأوصاف الثلاثة، و التغيّر حقيقةً هو الحسّيّ و لم يحصل. و المصنّف يُقدّرها على أوصاف مخالفة كالحكومة في الحُرّ، فإن كان الماء يتغيّر بها على ذلك التقدير، حكم بنجاسته، و إلا فهو باقٍ على طهارته.

و احتجّ على ذلك: بأنّ التغيّر الذي هو مناط النجاسة دائر مع الأوصاف، فإذا فقدت، وجب تقديرها، و هو عين المتنازع. و احتجّ له: بأنّ عدم وجوب التقدير يفضي إلى جواز الاستعمال و إن زادت النجاسة على الماء أضعافاً، و هو كالمعلوم البطلان.

و ضعفه ظاهر؛ فإنّه مجرّد استبعاد.

و لا ريب أنّ مختار المصنّف أحوط إن لم يتوقّف عليه عبادة مشروطة بالطهارة أو بإزالة النجاسة، و إلا لم يتمّ الاحتياط، و عليه يمكن تقدير المخالفة على وجه أشدّ، كحدّة الخَلّ،

______________________________
(1) في «ق، م»: «فتغيّر».

(2) البيان: 98.

(3) قواعد الأحكام 1: 4؛ منتهى المطلب 1: 42؛ نهاية الإحكام 1: 229.

361
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

الثاني الجاري من المطلق ؛ ج‌1، ص : 360

و ذكاء المسك، و سواد الحِبْر؛ لمناسبة النجاسة تغليظ الحكم، و هو الظاهر من كلامه في النهاية «1». و اعتبار الوسط بناءً على الأغلب.

و هل تعتبر أوصاف الماء وسطاً؛ لاختلافها في قبول التغيّر و عدمه، كالعذوبة و الملوحة، و الرقّة و الغلظة، و الصفاء و الكدورة؟ فيه احتمال.

و ما اختاره الشهيد «2» رحمه اللّه أوضح فتوًى و أسلم من تقدير ما ليس بموجود و ترتّب الحكم عليه.

و اعلم أنّه يستفاد من الحصر المذكور عدم اشتراط الكُرّيّة في الجاري، كما هو المشهور بين الأصحاب، بل قال في الذكرى: لم أقف فيه على مخالف ممّن سلف «3».

و حجّتهم الأخبار عن أهل البيت عليهم السّلام برفع البأس عن ملاقاته للنجاسة من غير تقييد بالكُرّيّة، كقول الصادق عليه السلام‌

لا بأس أن يبول الرجل في الماء الجاري

«4». و لأنّه قاهر للنجاسة غالب عليها؛ لعدم استقرارها. و لأنّ تعليق الحكم على الوصف يُشعر بالعلّيّة. و لأنّ الأصل الطهارة، فنستصحب حتى تظهر دلالة تنافيه.

و ذهب المصنّف رحمه اللّه في سائر كتبه «5» إلى اشتراطها فيه، فلو كان دون الكُرّ، نجس كالواقف بمجرّد ملاقاة النجاسة له مع تساوي سطوحه، و مع اختلافها ما تحت النجاسة أيضاً دون ما فوقها، محتجّاً بعموم الأدلّة الدالّة على اعتبار الكُرّيّة، و لا معارض له، فيجب التمسّك به.

و أُجيب «6»: بتعارض العمومين، و الترجيح في جانب الشهرة؛ لما ذُكر، فيخصّ اعتبار الكُرّيّة بغير النابع.

أقول: في حجّة المشهور نظر؛ إذ لا دلالة في نفي البأس عن البول في الجاري على عدم انفعال القليل منه بالنجاسة بإحدى الدلالات. و الاستدلال بعمومه لو سُلّم فإنّما يدلّ على جواز تنجيسه مع قلّته، و هو غير المتنازع. و لمعارضته بقول عليّ عليه السّلام‌

نهي أن يبول الرجل

______________________________
(1) انظر: نهاية الإحكام 1: 229.

(2) الذكرى 1: 74.

(3) الذكرى 1: 79.

(4) التهذيب 1: 31/ 81، و 43/ 121؛ الاستبصار 1: 13/ 23.

(5) تذكرة الفقهاء 1: 17، الفرع الثاني؛ قواعد الأحكام 1: 4؛ نهاية الإحكام 1: 228 و 229.

(6) المجيب هو المحقّق الكركي في جامع المقاصد 1: 111.

362
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

الثاني الجاري من المطلق ؛ ج‌1، ص : 360

في الماء الجاري إلا من ضرورة

«1» فقد تساوى الماءان في النهي، و من ثَمَّ حكموا بكراهة البول فيهما.

و لا يرد: أنّ النجاسة بأس فنفيه يقتضي نفيها؛ لأنّ المراد بالبأس في هذا و نظائره الحرامُ؛ فإنّ البأس لغة هو: العذاب، و هو مسبّب عن التحريم، فأُطلق اسمه على السبب؛ إذ لا يصلح هنا غير ذلك من معانيه لغةً.

و قهره للنجاسة و غلبته عليها لا يصلح دليلًا شرعيّاً، مع معارضته بماء البئر عندهم. و خروجه بنصٍ خاصّ عين المدّعى هنا؛ إذ لا معارض لدليل اشتراط الكُرّيّة في عدم الانفعال بالملاقاة.

و تعليق الحكم بالوصف الذي هو الجريان ليس هو الحكم المتنازع؛ لعدم دلالة الحديث عليه، و ما دلّ عليه لا تنازع فيه. هذا مع تسليم العمل بالعلّيّة المدّعاة.

و الأصل المذكور قد عُدل عنه؛ للدليل الدالّ على انفعال ما دون الكُرّ بالخبث.

و قد بالغ الشيخ عليّ «2» رحمه اللّه، فادّعى الإجماع على عدم اشتراط الكُرّيّة بناءً على أنّ المخالف معلوم النسب، و لم يذكر ذلك غيره، و إنّما قال الشهيد رحمه اللّه: لا أعلم مخالفاً «3». و عدم العلم لا يدلّ على العدم، مع أنّ عدم علمه به غريب، و قد أسلفنا في باب الحيض ما يدلّ على عدم صحّة هذه الدعوى.

مع أنّه يمكن معارضة هذا الإجماع؛ لأنّ المخالف المعلوم النسب و إن كان مائةً لا حجّة في قوله. و نحن لو حاولنا معرفة مَنْ قال بعدم الاشتراط، لم نقدر على عشرة، مع أنّ جماعة من المتأخّرين عن «4» المصنّف رحمه اللّه وافقوه على مقالته، و لا شكّ أنّ للشهرة ترجيحاً، إلا أنّ الدليل على مدّعاها غير قائم، و لعلّه أرجح منها.

و على القولين لا فرق في الجاري بين دائم النبع صيفاً و شتاءً و بين المنقطع أحياناً؛ لاشتراكهما في اسم النابع و الجاري حقيقةً، فكلّ ما دلّ على أحدهما دلّ عليهما؛ إذ الدليل محصور فيما ذُكر.

______________________________
(1) التهذيب 1: 34/ 90؛ الاستبصار 1: 13/ 25.

(2) جامع المقاصد 1: 111.

(3) الذكرى 1: 79.

(4) في الطبعة الحجريّة: «غير» بدل «عن».

363
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

الثاني الجاري من المطلق ؛ ج‌1، ص : 360

و فرّق الشهيد في الدروس بين دائم النبع و غيره، فلم يشترط الكُرّيّة في الأوّل و شرطها في الثاني «1»، فعنده الشرط في الجاري أحد الأمرين: إمّا الكُرّيّة، أو دوام النبع، و تبعه الشيخ جمال الدين ابن فهد في الموجز «2». و نحن نطالبهما بدليلٍ شرعيّ على ذلك.

(فإن تغيّر) بعض الجاري (نجس المتغيّر خاصّةً) دون ما فوقه و ما تحته و ما حاذاه، إلا أن ينقص ما تحته عن الكُرّ و يستوعب التغيّر عمود الماء، و هو خط ممّا بين حافّتيه عرضاً و عمقاً، فينجس ما تحت المتغيّر أيضاً؛ لتحقّق الانفصال.

و على القول باشتراط الكُرّيّة أو كان الجاري لاعن مادّة و لاقته نجاسة، لم ينجس ما فوقها مطلقاً و لا ما تحتها إن كان جميعه كُرّاً إلا مع تغيّر بعض الكُرّ، فينجس الأسفل، أو استيعاب التغيّر ما بين الحافّتين، فيشترط في طهارة الأسفل كُرّيّته، كذا فصّله جماعة «3» من المتأخّرين.

و اعلم أنّ في هذا المقام بحثاً و في كلام القوم في هذا التفصيل اضطراباً. و تحرير المقام: أنّ النصوص الدالّة على اعتبار الكثرة مثل: قوله عليه السلام‌

إذا بلغ الماء قدر كُرّ لم ينجّسه شي‌ء

«4» و كلام أكثر الأصحاب ليس فيه تقييد الكُرّ المجتمع بكون سطوحه مستويةً، بل هو أعمّ منه و من المختلف كيف اتّفق.

و قد ذكره المصنّف في كُتبه و غيرُه في عدّة مسائل، كهذه المسألة، و مسألة الغديرين الموصول بينهما بساقية، و مسألة القليل الواقف إذا اتّصل بالجاري، فإنّه حكم باتّحاد حكم الغديرين مع الساقية «5»، فمتى كان المجموع كُرّاً، لم ينفعل بالملاقاة، و مثله في القليل المتّصل بالجاري.

و مقتضى هذا الإطلاق الموجود في النصّ و الفتوى: أنّ كِ من العالي و السافل يتقوّى بالآخر.

و تفصيلهم هذا الذي حكيناه في أوّل المسألة صريح فيه؛ فإنّهم حكموا فيه بأنّه متى‌

______________________________
(1) الدروس 1: 119.

(2) الموجز (ضمن الرسائل العشر): 36.

(3) منهم: الشهيد في الدروس 1: 119؛ و البيان: 98؛ و المحقّق الكركي في جامع المقاصد 1: 111- 112.

(4) الكافي 3: 2/ 1 و 2؛ التهذيب 1: 4039/ 107 109؛ الإستبصار 1: 6/ 31.

(5) نهاية الإحكام 1: 232.

364
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

الثاني الجاري من المطلق ؛ ج‌1، ص : 360

كان المجموع كُرّاً و لم يتغيّر بعضه، لم ينجس، و كذا لو قطعت النجاسة عمود الماء مع كون الأسفل كُرّاً، فلو لا تقوّي الأعلى بالأسفل، لزم نجاسة الأعلى من الأسفل متى نقص عن كُرّ مطلقاً.

و قد قيّد هذا الإطلاقَ جماعة من المتأخّرين كالشهيد «1» و الشيخ علي «2» رحمهم اللّه، فذكروا في مسألة الغديرين و القليل المتّصل بالجاري أنّ الاتّحاد لا يحصل بينهما إلا مع تساوي السطوح أو عُلوّ الغدير الكثير و الجاري على القليل، فلو انعكس الفرض بأن كان الغدير القليل أعلى نجس بالملاقاة، و كذا الواقف المتّصل بالجاري بناءً منهم على أنّ الأعلى لا يتقوّى بالأسفل، مع أنّهم وافقوا في مسألة الكتاب على التفصيل المتقدّم، المستلزم لتقوية كلّ منهما للآخر، و إطلاق النصّ يدلّ عليه.

و يلزمهم من عدم تقوية الأسفل أن ينجس كلّ ما كان تحت النجاسة من الماء المنحدر و إن كثر جدّاً، و هو غير موافق للحكمة، و لا يدلّ عليه دليل، بل يلزم على هذا نجاسة الجاري على القول باشتراط كُرّيّته مع عدم تساوي سطوحه في كلّ ما سفل منه عن النجاسة و إن كان نهراً عظيماً ما لم يكن فوقه منه كُرّ، و هذا كلّه مستبعد جدّاً بل باطل.

و بالجملة، فكلام المتأخّرين في المسألة متناقض إلى أن يبدو لنا الفرق بين المقامين، و أنّى لهم به مع اتّحاد موضوع المسألتين؟

و الذي يظهر في المسألة و دلّ عليه إطلاق النصّ: أنّ الماء متى كان قدر كُرّ متّصلًا ثمّ عرضت له النجاسة، لم تؤثّر فيه إلا مع التغيّر، سواء كان متساوي السطوح أم مختلفها، و إن كان أقلّ من كُرّ، نجس بالملاقاة مع تساوي سطوحه، و إلا الأسفل خاصّة.

ثمّ إن اتّصل بالكثير بعد الحكم بنجاسته، اعتبر في الحكم بطهره مساواة سطوحه لسطوح الكثير أو عُلوّ الكثير عليه، فلو كان النجس أعلى، لم يطهر.

و الفرق بين الموضعين: أنّ المتنجّس يشترط ورود المطهّر عليه، و لا يكفي وروده على المطهّر، خلافاً للمرتضى «3»، كما سيأتي، فإذا كان سطحه أعلى من سطح الكثير، لم يكن الكثير وارداً عليه.

______________________________
(1) البيان: 99؛ الدروس 1: 119؛ الذكرى 1: 85.

(2) جامع المقاصد 1: 112 و 115.

(3) مسائل الناصريّات: 7372، المسألة 3.

365
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

الثاني الجاري من المطلق ؛ ج‌1، ص : 360

و لكن يشكل على هذا الحكم مع تساوي السطوح؛ إذ لا يتحقّق ورود الطاهر حينئذٍ، مع اتّفاق كلامهم على طهر المتنجّس حينئذٍ.

و يمكن حلّه بأنّ جماعة من الأصحاب منهم المصنّف في التذكرة «1»، و الشهيد في الذكرى «2» شرطوا في طُهر النجس في هذه الحالة امتزاج الطاهر به، و لم يكتفوا بمجرّد المماسّة. و هذا الشرط في الحقيقة يرجع إلى عُلوّ الجاري؛ إذ لا يتحقّق الامتزاج بدونه، و حينئذٍ يتحقّق الشرط، و هو ورود الطاهر على النجس، و يزول الإشكال.

و هذا الشرط حسن في موضعه، مع احتمال عدم اشتراط شي‌ء من ذلك، بل الاكتفاء بمجرّد اجتماع الكُرّ؛ لصدق الوحدة الموجبة للكثرة الدافعة للنجاسة، خصوصاً لو ثبت قوله صلّى اللّه عليه و آله‌

إذا بلغ الماء كُرّاً لم يحمل خبثاً

«3» و إطلاق جماعة من الأصحاب يدلّ عليه.

لكنّ العمل على ما ذكرناه أقوى؛ لعدم ثبوت الخبر، و إنّما الخبر الذي ورد صحيحاً ما أسلفناه «4» من قوله عليه السلام‌

إذا بلغ الماء قدر كُرّ لم ينجّسه شي‌ء

كما سيأتي تحقيقه إن شاء اللّه، و حينئذٍ لا يدلّ اجتماع الماء قدر كُرّ إلا على عدم قبوله للنجاسة الطارئة لأعلى رفعه للسابقة.

نعم، يلزم ذلك لمثل الشيخ علي «5» رحمه اللّه حيث عمل بمضمون الخبر، و حكم بطهر النجس إذا بلغ كُرّاً و إن كان في هذه المسألة قد أنكر الطهارة و تقوية الأسفل للأعلى.

و أقوى ما يحتجّ به على ذلك: أنّ الأسفل و الأعلى لو اتّحدا في الحكم، لزم تنجّسهما بالملاقاة مع القلّة، فيلزم تنجّس كلّ ماءٍ أعلى متّصل بماء أسفل مع القلّة، و هو معلوم البطلان، و حيث لم ينجس بنجاسته لم يطهر بطهره، و هو الجزء الممتزج من أسفله بالكثير مثلًا.

و هذه حجّة متينة، لكن يجاب عنها من حيث المعارضة و الحلّ.

______________________________
(1) تذكرة الفقهاء 1: 23، الفرع الثاني.

(2) الذكرى 1: 85.

(3) أورده السيّد المرتضى في الانتصار: 85، المسألة 1؛ و الشيخ الطوسي في الخلاف 1: 174، المسألة 127؛ و العلامة الحلّي في تذكرة الفقهاء 1: 23- 24 الفرع السادس؛ و الشهيد في الذكرى 1: 80.

(4) في ص 364.

(5) انظر جامع المقاصد 1: 133- 134.

366
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

الثاني الجاري من المطلق ؛ ج‌1، ص : 360

أمّا الأوّل: فلموافقتهم في مسألة الجاري لاعن مادّة على عدم نجاسة المجموع إذا كان كُرّاً و أصابته نجاسة غير مغيّرة، أو كانت مغيّرةً و لم تقطع عمود الماء و كان الباقي من الأعلى و الأسفل كُرّاً، أو قطع عمود الماء مع كون الأسفل كُرّاً، و في كلّ هذه الصور يتقوّى الأعلى بالأسفل، و إلا لزم الحكم بنجاسته.

و بيان ذلك: أنّ الجزء من الماء المتّصل بالنجاسة أو المساوي لها في السطح ينجس بها؛ لمماسّته لها مع عدم الكثرة المتّصلة به من أعلى، كما هو المفروض، ثمّ ذلك الجزء يماسّ جزءاً آخر و هلمّ جرّاً إلى آخر الأسفل، فلو لم يتقوّ الأعلى بالأسفل، لزم نجاسة جميع ما جاوز النجاسة إلى المنتهي السفلي و إن كان كثيراً، مع حكمهم بعدم نجاسته.

و أما الثاني: فلأنّا نمنع من استلزام ذلك نجاسة الأعلى؛ فإنّا لم نحكم عليه بالطهارة لمجرّد التقوية أو الاتّصال، بل لدخوله في عموم الخبر أو إطلاقه، فإنّه يصدق عليه أنّه كُرّ فلا ينجّسه شي‌ء، بخلاف ما نقص عنه. و أمّا عدم نجاسة الأعلى على تقدير القلّة فالإجماع منعقد على أنّ النجاسة لا تسري إلى الأعلى مطلقاً، و لا خصوصية لذلك بالماء و لا بغيره، بل يأتي في المائعات التي لا يقوّي بعضها بعضاً مطلقاً؛ لعدم تعقّل سريان النجاسة إلى الأعلى مع كون حركته إلى جهة النجاسة، و لو كان كذلك، لما أمكن الحكم بطُهر شي‌ء بالقليل؛ لأنّه عند صبّ الماء و اتّصاله بالنجس ينجس الماء في الآنية المصبوب منها و تنجس الآنية، و ذلك كلّه خلاف الإجماع.

و جملة الجواب ترجع إلى أنّ تقوّي الأعلى بالأسفل على تقدير الكثرة إنّما هو بالنصّ لا بالاستنباط، و لا يرد النقض باستلزامه نجاسة الأعلى حينئذٍ.

و يتفرّع على ما ذكرناه من التفصيل مسائل:

منها: الجاري غير النابع عند الجماعة.

و منها: الجاري و إن كان نابعاً عند المصنّف و مَنْ تبعه على اشتراط كُرّيّته. و قد علم حكمهما.

و منها: الغديران إذا لم يكن كلّ منهما كُرّاً و وصل بينهما قبل ملاقاة النجاسة لهما، فإنّهما لا يقبلان النجاسة حينئذٍ إلا بالتغيير، و لو لاقتهما أو أحدهما النجاسة قبل الاتّصال، لم ينفعهما.

367
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

الثاني الجاري من المطلق ؛ ج‌1، ص : 360

و منها: مادّة الحمّام. و سيأتي الكلام فيها إن شاء اللّه.

و منها: القليل الواقف المتّصل بالجاري عندهم، أو بالكثير عند المصنّف، فإنّه لا ينجس. و لو نجس قبل الاتّصال، لم يطهر به ما لم يَعْلُ عليه الكثير.

و من هذا الباب ماء المطر الجاري في الطرق ثمّ يتّصل بالكثير أو يصير كثيراً قبل ملاقاة النجاسة له. فلو أصابته النجاسة بعد انقطاع المطر، فإن كان بعد كثرته أو وصوله إلى الكثير، لم ينجس بدون التغيّر. و إن كان قبله، نجس و إن اتّصل بعد ذلك. و على ما اختاره المتأخّرون ينجس على التقديرين.

و منه ما لو صبّ الماء من آنية إلى الكثير، فإنّه إن كان نجساً، لا يطهر منه ما فوق الكثير و لا الآنية. و إن كان طاهراً و أصابته نجاسة غير مغيّرة بعد وصول أوّله إلى الكثير و اتّصاله، لم ينجس. و عندهم ينجس على الحالين.

و على ما يظهر من إطلاق النصّ و فتوى المصنّف و غيره يلزم طهارة الماء النجس عند صبّ بعضه في الكثير بحيث يطهر الإناء المماسّ للماء النجس و ما فيه من الماء عند وصول أوّله إلى الكثير. و هو بعيد، بل هو على طرف النقيض لتفصيل المتأخّرين.

و المسألة من المشكلات، و لم نقف فيها على ما يزيل عنها الالتباس السابق. و اللّه أعلم بحقائق أحكامه.

(و يطهر) المتغيّر من الجاري (بتدافع الماء الطاهر عليه حتى يزول التغيّر) و إن كان التدافع بقصد ذلك، بل لو زال تغيّره من نفسه بغير تدافع، طهر؛ لأنّ زوال التغيّر كافٍ في طهارته؛ لقوّته بالنبع بناءً على عدم اشتراط كُرّيّته.

(و ماء الحمّام) و هو ما في حياضه الصغار ممّا لا يبلغ الكُرّ (إذا كانت له مادّة) حاصلة (من كُرّ فصاعداً) مع عدم تساوي سطوح الماء، أمّا معه فيكفي بلوغ المجموع كُرّاً (و ماء الغيث حال تقاطره كالجاري) خبر المسألتين «1»؛.

أمّا الأوّل: فمستنده النصّ عن الصادق عليه السلام‌

أنّه بمنزلة النهر

«2»؛ و عن الباقر عليه السلام‌

لا بأس به إذا كان له مادّة

«3»؛.

______________________________
(1) أي قوله: «كالجاري» خبر المسألتين.

(2) الكافي 3: 14/ 1.

(3) الكافي 3: 14/ 2؛ التهذيب 1: 378/ 1168.

368
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

تنبيهات: ؛ ج‌1، ص : 369

و اشتراط كونها كُرّاً فصاعداً هو أشهر القولين و أحوطهما، حملًا للمطلق على المقيّد. و لانفعال ما دون الكُرّ بالملاقاة، و لا يدفع النجاسة عن غيره.

و قال المحقّق في المعتبر «1»: لا يشترط؛ لإطلاق الرواية بالمادّة، و الإتيان بها منكرةً، مع عموم البلوى بالحمّام.

و أُجيب: بأنّها مقيّدة بالكُرّ، جمعاً بين النصّين، و ترجيحاً للشهرة «2».

هذا مع عدم كون ماء الحمّام صادراً عن الجاري، و إلا فله حكمه.

تنبيهات:

الأوّل: إنّما تتحقّق كُرّيّة المادّة قبل اتّصالها بالحوض؛ لأنّ ذلك هو المتعارف، و حينئذٍ فالمعتبر كُرّيّتها بعد ملاقاة النجاسة للحوض مثلًا، و ذلك يقتضي زيادتها عن كُرّ قبل ذلك ليتحقّق عدم انفعال الماء حال ملاقاة النجاسة؛ إذ المعتبر كُرّيّة المادّة بعد الملاقاة.

و يشكل الفرق حينئذٍ بين هذه المسألة و بين مسألة الغديرين المتّصلين فإنّ المصنّف و غيره قد حكموا باتّحادهما على الوجه المتقدّم «3»، فلو اعتبر هنا كُرّيّة المادّة من دون الحوض، لزم كون حكم الحمّام أغلظ من غيره و الحال يقتضي العكس، كما اختاره المحقّق.

و أُجيب عن ذلك: بحمل اتّصال الغديرين بالساقية على كونها في أرض منحدرة لا نازلة من ميزاب و نحوه كمادّة الحمّام، و إلا لم يحكم باتّحادهما لئلا يلزم مثله في الحمّام بطريق أولى.

و هذا الجمع لا يخلو من وجه، إلا أنّ فيه تقييداً لمطلق النصّ من غير دليلٍ بيّن.

و لو قيل بالاكتفاء في الموضعين بمطلق الاتّصال، أمكن خصوصاً الحمّام. و حينئذٍ فيعتبر كون المجموع من المادّة و الحوض كُرّاً، فلا ينفعل بالنجاسة بعد ذلك إلا بالتغيّر.

الثاني: حيث اشترطنا كُرّيّة المادّة فقال المصنّف «4» و جماعة «5»: لا فرق بين الحمّام‌

______________________________
(1) المعتبر 1: 42؛ و انظر جامع المقاصد 1: 113.

(2) المجيب هو المحقّق الكركي في جامع المقاصد 1: 113.

(3) في ص 364.

(4) نهاية الإحكام 1: 230.

(5) منهم: الشهيد في الذكرى 1: 80؛ و السيوري في التنقيح الرائع 1: 38.

369
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

تنبيهات: ؛ ج‌1، ص : 369

و غيره لحصول الكُرّيّة الدافعة للنجاسة.

و توقّف المصنّف في المنتهي «1». و جزم ولده فخر الدين بالفرق «2».

و الحقّ أنّا إن اعتبرنا كُرّيّة المادّة منفصلةً عن الحوض كما يقتضيه إطلاقهم، أو اكتفينا بمطلق الاتّصال و إن كان من ميزاب، أو كانت المادّة متّصلةً بالحوض بالجريان على أرض منحدرة كما مرّ، فلا فرق بينه و بين غيره، و إلا فالفرق واضح، و اختصاصه بالرخصة بيّن.

و لكنّ جَزْمَ الجماعة بعدم الفرق و منهم المصنّف و الشهيد رحمهما اللّه يقتضي عدم اعتبار تلك الشروط في الاتّصال لأنّ الغالب على ماء الحمّام النزول من ميزابٍ و نحوه.

الثالث: هذا البحث كلّه إنّما هو في عدم انفعال ماء الحوض بمجرّد الملاقاة، أمّا لو فرضت نجاسته، فهل يطهر بمجرّد وصول المادّة إليه، أو لا بدّ من استيلائها عليه؟ صرّح المصنّف في النهاية بالثاني «3»، و هو اختيار الشهيد رحمه اللّه في مطلق تطهير الماء النجس بالكثير أو بالكُرّ «4».

و الظاهر من كلام المصنّف في مواضع الأوّل فإنّه يكتفي بمجرّد الاتّصال في مسألة الوصل بين الغديرين «5» و نحوهما.

و هو أجود للأصل، و عدم تحقّق الامتزاج لأنّه إن أُريد به امتزاج مجموع الأجزاء «6»، لم يتحقّق الحكم بالطهارة لعدم العلم بذلك، بل ربما عُلم عدمه. و إن أُريد به البعض، لم يكن المطهّر للبعض الآخر الامتزاجُ، بل مجرّد الاتّصال، فيلزم إمّا القول بعدم طهارته، أو القول بالاكتفاء بمجرّد الاتّصال.

و لأنّ الأجزاء الملاقية للطاهر تطهر بمجرّد الاتّصال قطعاً، فتطهر الأجزاء التي تليها لاتّصالها بالكثير الطاهر. و كذا القول في بقيّة الأجزاء.

و لأنّ اتّصال القليل بالبالغ قبل النجاسة كافٍ في دفع النجاسة و عدم قبولها و إن لم يمتزج به فكذا بعدها لأنّ عدم قبول النجاسة إنّما هو بصيرورة الماءين ماءً واحداً‌

______________________________
(1) منتهى المطلب 1: 32، الفرع الثالث.

(2) لم نعثر عليه في مظانّه.

(3) نهاية الإحكام 1: 230.

(4) الذكرى 1: 85، البيان: 99.

(5) منتهى المطلب 1: 53- 54، الفرع الثالث؛ نهاية الإحكام 1: 232.

(6) في «ق، م» زيادة: «بمجموع الأجزاء».

370
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

تنبيهات: ؛ ج‌1، ص : 369

بالاتّصال، و هو بعينه قائم في المتنازع لأنّ الوحدة و التقوّي لو توقّفا على الامتزاج، لتوقّفا في الأوّل، لكن لا بدّ هنا من كون المادّة كُرّاً بدون ما في الحوض.

و كذا القول في نظائر هذه المسألة. و منه ما لو غمس الكوز بمائه النجس في الكثير الطاهر، فإنّه يطهر بمجرّد المماسّة. و لا فرق بين واسع الرأس و ضيّقه.

الرابع: اعتبار كُرّيّة المادّة المذكورة تحقيقيّ لا تقريبيّ، كما في نظائرها من المياه الكثيرة، فلو شكّ في بلوغها الكُرّ، بنى على الأصل، و هو عدم البلوغ. و يقوم مقام الاعتبار شهادة عدلين بذلك.

و هل يكفي الواحد؟ يحتمله، فيجعل من باب الإخبار لا الشهادة، و به قطع المحقّق الشيخ عليّ «1»، و يقرب لو كان له يد على الحمّام، كالمالك و المستأجر و الوكيل. و عدمه لعدم إفادة قوله العلم و لا الظنّ الشرعي.

و يمكن قبول قول ذي اليد على الحمّام مطلقاً، كما هو المنقول عن ولد «2» المصنّف، لكن ذلك يتطرّق إلى قبول قول ذي اليد على الماء مطلقاً في كثرته، كما يقبل قوله في طهارته و نجاسته.

اللّهمّ إلا أن يفرّق بين الحمّام و غيره بعموم البلوى به، كما ذكره المحقّق في المادّة «3»، لكن ذلك لا يتمّ إلا مع النصّ لا الاستنباط، فإنّ عموم البلوى ليس دليلًا شرعيّاً برأسه، بل يصلح معلّلًا للنصّ الخارج عن الأصل.

و أمّا الثاني و هو إلحاق ماء المطر حال تقاطره بالجاري: فمستنده ما رواه هشام بن الحكم في الصحيح عن أبي عبد اللّه عليه السلام‌

في ميزابين سالا، أحدهما بول و الآخر ماء المطر فاخلتطا فأصاب ثوب الرجل لم يضرّه ذلك

«4». و في حديثٍ آخر عنه عليه السلام‌

لو أنّ ميزابين سالا، أحدهما ميزاب بول و الآخر ميزاب ماءٍ فاختلطا ثمّ أصابك ما كان به بأس

«5». و في صحيحة عليّ بن جعفر عن أخيه موسى عليه السلام في البيت يبال على ظهره و يغتسل من‌

______________________________
(1) لم نعثر على قوليهما في مظانهما.

(2) لم نعثر على قوليهما في مظانهما.

(3) انظر: المعتبر 1: 42؛ و جامع المقاصد 1: 113.

(4) الكافي 3: 12/ 1؛ التهذيب 1: 411/ 1295.

(5) الكافي 3: 1312/ 2؛ التهذيب 1: 411/ 1296.

371
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

تنبيهات: ؛ ج‌1، ص : 369

الجنابة ثمّ يصيبه المطر، أ يؤخذ من مائه و يتوضّأ للصلاة؟ فقال‌

إذا جرى فلا بأس

«1». و في حديثٍ مرسل عنه عليه السلام‌

كلّ شي‌ء يراه ماء المطر فقد طهر

«2». فالنصّ المعتبر على ما رأيت ورد في النازل منه من ميزابٍ، فلذلك خصّه به الشيخ «3»، و عمّم باقي الأصحاب «4»، و استند بعضهم «5» فيه إلى الحديث «6» المرسل. و هو ليس بحجّة.

و حمل المصنّف في المنتهي الجريان في حديث عليّ بن جعفر على النزول من السماء «7».

و هو بعيد فإنّ أصابه المطر في السؤال صريح في النزول، فيعرى الاشتراط عن الفائدة.

و على كلّ حال فلا بدّ في الحكم بإلحاقه بالجاري من كونه متقاطراً، أمّا لو استقرّ على وجه الأرض و انقطع التقاطر ثمّ لاقته نجاسة، لحق بالواقف في اعتبار الكُرّيّة.

و يمكن حمل الجريان في الخبر على ذلك، فيتمّ حمل المصنّف على معنى أنّ إصابة المطر للبول الكائن على ظهر البيت إن كانت في حال جريانه من السماء، طهّرته. و إن كانت بعد وصوله إلى مكانٍ آخر ثمّ انتقاله إليه بعد انقطاع التقاطر، لم يطهّر البول.

و اعلم أنّا متى لم نعتبر الميزاب كما هو مذهب أكثر «8» الأصحاب فلا بدّ من فضل قوّة للمطر بحيث يصدق عليه اسمه، فلا يعتدّ بنحو القطرات اليسيرة.

و كان بعض «9» مَنْ عاصرناه من السادة الفضلاء يكتفي في تطهير الماء النجس بوقوع قطرة واحدة عليه. و ليس ببعيد و إن كان العمل على خلافه.

______________________________
(1) الفقيه 1: 7/ 6؛ التهذيب 1: 412411/ 1297.

(2) الكافي 3: 13/ 3.

(3) المبسوط 1: 6؛ التهذيب 1: 411 ذيل الحديث 1296.

(4) منهم: المحقّق الحلّي في المعتبر 1: 4342؛ و العلامة الحلّي في منتهى المطلب 1: 29، الفرع الخامس؛ و نهاية الإحكام 1: 229؛ و المحقّق الكركي في جامع المقاصد 1: 112.

(5) كالعلامة الحلّي في منتهى المطلب 1: 30، الفرع الخامس.

(6) الكافي 3: 13/ 3.

(7) منتهى المطلب 1: 29، الفرع الخامس.

(8) انظر: المصادر في الهامش (4).

(9) هو السيّد حسن بن السيد جعفر، المعاصر لشيخنا الشهيد الثاني.

372
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

الثالث الواقف ؛ ج‌1، ص : 373

و أمّا الأرض المتنجّسة «1» و شبهها فلا بدّ من استيعاب المطر لما نجس منها، كما يطهّرها الجاري.

و اعلم أيضاً أنّ المصنّف رحمه اللّه حكم هنا بأنّ ماء المطر كالجاري، مع أنّ ظاهره عدم اعتبار كُرّيّة الجاري، فلا يتوجّه على ظاهر كلامه مؤاخذة، لكنّه عبّر بذلك في باقي كتبه «2» التي اختار فيها اشتراط كُرّيّة الجاري، فألزمه شيخنا الشهيد رحمه اللّه بالقول باشتراط كُرّيّة ماء المطر «3» لجَعله كالجاري مع اشتراطها فيه.

قال: إلا أن يحمل على الجاري حال كُرّيّته، فيرد عليه سؤال الفرق بين اشتراط الكُرّيّة في الجاري دون ماء المطر.

و يمكن الفرق بينهما بعدم وجود نصّ صالح على عدم انفعال القليل الجاري بمجرّد الملاقاة، إلا نفي البأس عن البول في مطلق الجاري «4»، و قد بيّنّا أنّه لا يدلّ على عدم الانفعال، بخلاف ماء المطر فإنّ حكمه عليه السلام بجواز الغسل به و تعليقه على الجريان يدلّ على طهارته بذلك للإجماع على عدم جواز الاغتسال بالماء النجس. و نحوه القول في الميزابين، فيكون ذلك مقيّداً لما أُطلق من عدم انفعال الماء المطلق إذا بلغ كُرّاً، فيتمّ الفرق.

[الثالث الواقف]

القسم (الثالث): الماء (الواقف) و هو ما ليس بنابع (كمياه الحياض و الأواني).

و في تصديرهما بالمثال مبالغة في الردّ على المفيد و سلار حيث لم يفرّقا فيهما بين القليل و الكثير، بل حكما بانفعالهما بالنجاسة مطلقاً «5» استناداً إلى إطلاق النهي عن استعمالهما مع ملاقاة النجاسة.

و حَمله على الغالب من عدم بلوغهما حدّ الكثرة طريق الجمع بينه و بين غيره ممّا دلّ على عدم انفعال الكثير بالملاقاة.

______________________________
(1) ظاهر الطبعة الحجريّة: «النجسة».

(2) منها: تحرير الأحكام 1: 4؛ و تذكرة الفقهاء 1: 17، الفرع الثالث؛ و منتهى المطلب 1: 28، الفرع الثالث؛ و نهاية الإحكام 1: 228 و 229.

(3) انظر: الحاشية النجّاريّة، الورقة 4، (مخطوطة).

(4) التهذيب 1: 31/ 81، و 43/ 121؛ الاستبصار 1: 13/ 23.

(5) المقنعة: 64، المراسم: 36.

373
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

الثالث الواقف ؛ ج‌1، ص : 373

(و) مياه (الغدران) جمع غدير، و هو القطعة من الماء يغادرها السيل، أي يتركها، و هو فعيل بمعنى مفاعَل «1» من غادره. أو بمعنى فاعل لأنّه يغدر بأهله، أي ينقطع عند شدّة الحاجة إليه.

و حكم هذه المياه بجميع أقسامها أنّه (إن كان قدرها كُرّاً) و له تقديران:

أحدهما: الوزن. و أشهر الأقوال فيه (هو) أنه (ألف و مائتا رطل) لمرسلة ابن أبي عمير عن الصادق «2».

و فسّرها المصنّف تبعاً للشيخين «3» (بالعراقي) إمّا لأنّ المُرسِل عراقي فأفتاه عليه السلام بلغته و عادة بلده لوجوب كون الخطاب من الحكيم متواضعاً «4» عليه، جارياً على الحقيقة إلى أن يدلّ دليل على إرادة المعنى المجازي منه حذراً من الإغراء بالجهل، و ذلك يقتضي وجوب رعاية ما يفهمه السائل و يتعارفه. أو لتأيّده بصحيحة محمّد بن مسلم عنه عليه السلام‌

الكُرّ ستمائة رطل

«5» بالحمل على رطل مكّة، و هو رطلان بالعراقي، أو لمناسبة الحمل عليها لرواية الأشبار «6» إذ من المستبعد تحديد مقدار الشي‌ء الواحد بأمرين متفاوتين. أو لأصالة طهارة الماء خرج منه ما نقص من الأرطال العراقيّة بالإجماع، فيبقى الباقي على الأصل.

و فسّرها المرتضى تبعاً لابن بابويه «7» بالمدني «8» و هو مائة و خمسة و تسعون درهماً قدر رطل عراقي و نصف للاحتياط، أو لأنّ الغالب كونهم عليهم السّلام ببلدهم فيجيبون «9» بأرطاله.

أقول: و إن كان القول الأوّل هو المشهور بين لأصحاب فإنّ لنا في استدلاله كلاماً من وجوه:

الأوّل: حمل الأرطال على بلد المُرسِل و هو ابن أبي عمير بناءً على أنّ الإمام لا يخاطبه إلا بما يفهمه و يتعارفه، ففيه: أنّه رحمه اللّه ليس هو الراوي عن الإمام، و إنّما روى عن‌

______________________________
(1) في الطبعة الحجريّة: «مفعول» بدل «مفاعَل».

(2) الكافي 3: 3/ 6؛ التهذيب 1: 41/ 113؛ الإستبصار 1: 10/ 15.

(3) المقنعة: 64؛ النهاية: 3؛ المبسوط 1: 6.

(4) كذا، و في هامش الطبعة الحجريّة بعنوان نسخة بدل: «ممّا يتعارف» بدل «متواضعاً».

(5) التهذيب 1: 415414/ 1308؛ الإستبصار 1: 11/ 17.

(6) الكافي 3: 3/ 5؛ التهذيب 1: 42/ 116؛ الاستبصار 1: 10/ 14.

(7) الفقيه 1: 6 ذيل الحديث 2.

(8) جُمل العلم و العمل: 51؛ الانتصار: 85، المسألة 1.

(9) في «م»: «فيفتون».

374
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

الثالث الواقف ؛ ج‌1، ص : 373

بعض أصحابنا، كما حكاه في الكافي و التهذيب «1»، و أصحابنا غير منحصرين في أهل العراق و إن أمكن أن يكون هذا القول من ابن أبي عمير، و لا دلالة فيه «2» أيضاً لأنّ الصاحب أعمّ من أن يكون من أهل البلد و غيره، بل الظاهر أنّ المراد به في هذا المقام: الموافق في المذهب مطلقاً، و لا دلالة للعامّ على بعض أفراده على الخصوص.

الثاني: الاستدلال برواية محمد بن مسلم على المراد بحملها على أرطال مكة.

و فيه: عدم القرينة الدالّة من جهة الراوي و لا المرويّ عنه. و حملها على المكّيّة ليوافق العراقيّة ليس أولى من حملها على المدني ليوافق رواية الأشبار الثلاثة «3» بناءً على أنّ الألف و المائتين العراقيّة توافق رواية الأشبار بإضافة النصف، كما ذكره جماعة منهم الشهيد رحمه اللّه في الذكرى «4»، مضافاً إلى ما تقدّم من أنّهم عليهم السّلام يفتون بمتعارف بلدهم.

الثالث: دعوى مناسبتها لرواية الأشبار استبعاداً لتحديد الشي‌ء الواحد بأمرين مختلفين.

و فيه: أنّ أكثر الأصحاب «5» أفتوا في الأشبار بثلاثة و نصف في الأبعاد الثلاثة، و صرّحوا بأنّ حمل الأرطال على العراقي يناسب ذلك، و ممّن صرّح بذلك الشهيد في الذكرى حيث أَفتى بزيادة النصف في الأشبار، و استند في التقدير بالعراقي إلى مقاربته للأشبار «6».

و المصنّف في المختلف اختار مذهب ابن بابويه في إسقاط النصف في الأشبار، و استشهد للرطل العراقي بمناسبته للأشبار «7».

و أنت خبير بأنّ التفاوت بين قولي الأشبار نحو الثلث، فالتحديد بالمختلفين للشي‌ء الواحد الذي فرّ منه المصنّف هو واقع على أحد القولين فإنّ ما بين قوليه في الأشبار من البُعد قريب ممّا بين المدني و العراقي منه، فأيّ قدر من الأشبار قارب العراقي بَعُدَ عن الآخر.

______________________________
(1) الكافي 3: 3/ 6؛ التهذيب 1: 41/ 113.

(2) في «ق، م» و الطبعة الحجريّة: «فيها». و الظاهر ما أثبتناه.

(3) الكافي 3: 3/ 7؛ التهذيب 1: 37 38/ 101؛ الاستبصار 1: 10/ 13.

(4) الذكرى 1: 81.

(5) منهم: الشيخ الطوسي في النهاية: 3؛ و المبسوط 1: 6؛ و القاضي ابن البرّاج في المهذّب 1: 21؛ و ابن حمزة في الوسيلة: 73؛ و ابن إدريس في السرائر 1: 60؛ و المحقّق الحلّي في شرائع الإسلام 1: 5.

(6) الذكرى 1: 80 و 81.

(7) مختلف الشيعة 1: 2321، المسألتان 4 و 5؛ و انظر: الفقيه 1: 6 ذيل الحديث 2؛ و المقنع: 31.

375
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

الثالث الواقف ؛ ج‌1، ص : 373

و يمكن الجواب بأنّ حملها على العراقي يقارب روايتي الأشبار معاً و إن اختلفتا أكثر من مقاربة المدني لهما لزيادته، فيبعد عن رواية الثلاثة أكثر من العراقي قطعاً و حيث انحصر تقدير المساحة في الثلاثة أو الثلاثة و نصف كان ما بعد عنهما أبعد عن الصواب المحتمل تعلّقه بكلّ واحدة منهما.

التقدير الثاني: المساحة.

و للأصحاب في كمّيّتها أقوال، اختار المصنّف منها أشهرها بقوله (أو ما حواه ثلاثة أشبار و نصف طولًا في عرض في عمق) بأن يضرب أحدها في الآخر ثمّ المجتمع في الثالث يبلغ الجميع مكسّراً اثنين و أربعين شبراً و سبعة أثمان شبر معتبرة (بشبر مستوى الخلقة) ترجيحاً للغالب المتعارف، فما حواه هذا القدر من الماء هو الكُرّ. و لا اعتبار بالمحلّ، بل يقدّر ماؤه، فما اختلفت أبعاده يعتبر مكسّرة «1»، فإن بلغ ذلك، كان كُرّاً، و إلا فلا.

و مستنده رواية أبي بصير عن الصادق عليه السلام‌

إذا كان الماء ثلاثة أشبار و نصفاً في مثله ثلاثة أشبار و نصف في عمقه من الأرض فذلك الكُرّ من الماء

«2». و في طريق هذه الرواية عثمان بن عيسى، و هو واقفي.

و لعلّ ضعفها به منجبر بالشهرة، مع أنّ المصنّف لم يجزم بردّ روايته، بل توقّف فيها في كتب الرجال «3».

و المراد بالتقدير ضرب الحساب لدلالة «في» عليه. و لأنّه يلزمه ذلك، فيبلغ تكسيره «4» ما تقدّم.

و قال الشيخ قطب الدين الراوندي: ليس ذلك على سبيل الضرب، بل ما بلغت أبعاده الثلاثة عشرةَ أشبار و نصفاً فهو كُرّ «5».

و هو شاذّ لا وجه له، و هو يقرب تارة من المشهور و يبعد عنه اخرى. و أبعد فروضه عنه ما لو كان كلّ واحد من عرضه و عمقه شبراً و طوله عشرة و نصفاً.

______________________________
(1) في «ق، م» و الطبعة الحجريّة: «مكسّرها». و الظاهر ما أثبتناه.

(2) الكافي 3: 3/ 5؛ التهذيب 1: 42/ 116؛ الاستبصار 1: 10/ 14.

(3) منها: خلاصة الأقوال: 244/ 8 (القسم الثاني).

(4) في «ق، م» و الطبعة الحجريّة: «تكسيرها». و الظاهر ما أثبتناه.

(5) حكاه عنه العلامة الحلّي في مختلف الشيعة 1: 22 ذيل المسألة 4؛ و المحقّق الكركي في جامع المقاصد 1: 116- 117.

376
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

الثالث الواقف ؛ ج‌1، ص : 373

و أسقط القمّيّون تبعاً لشيخهم الصدوق «1» النصفَ في الأبعاد الثلاثة «2»، و تبعهم المصنّف في المختلف «3» استناداً إلى صحيحة إسماعيل بن جابر عن الصادق عليه السلام قال‌

الكُرّ من الماء ثلاثة أشبار في ثلاثة أشبار

«4». و هذه الرواية أصحّ إسناداً من الاولى «5»، غير أنّ فيها إخلالًا بذكر البُعد الثالث، و كأنّ «6» تركه إحالة له على البُعدَين المذكورين إذ الإخلال بذكره من غير نصب دلالة عليه مُخلّ بمعرفة الكُرّ عقيب السؤال عنه، و هو غير لائق بحكمته.

و يمكن تطرّق هذه الشبهة إلى الرواية الأُولى أيضاً إذ لم يصرّح فيها باعتبار الثلاثة و النصف في العمق، فتبقى مع هذه صحّةُ السند، و مع تلك شهرةُ العمل بمضمونها، و لعلّ وصف الصحّة أرجح.

و ذهب العلامة جمال الدين ابن طاوُس إلى دفع النجاسة بكلّ ما روي «7». و كأنّه يحمل الزائد على الندبيّة.

و بأيّ قدر اعتبرنا الكُرّ فمتى بلغه الماء الواقف (لم ينجس إلا بتغيّر أحد أوصافه الثلاثة) التي هي اللون و الطعم و الريح، لا مطلق الأوصاف، كالحرارة و البرودة (بالنجاسة) أي بواسطة ملاقاتها له، لا بالمجاورة و لا بالمتنجّس بحيث لو انفردت النجاسة عنه لم تُغيّر الماءَ.

(فإن تغيّر) الكُرّ بها على الوجه المذكور (نجس أجمع) لا المتغيّر خاصّة (إن كان) الماء (كُرّاً) خاصّة لنجاسة المتغيّر به، و نقصان الباقي عن الكُرّ إن كان، فيتنجّس بملاقاة النجس المتغيّرُ.

و لا يخفى ما في العبارة من القصور عن البلاغة فإنّ المفروض كون الماء المبحوث عنه أوّلًا قدر كُرّ، و ذلك يقتضي عدم الزيادة و إن لم يصرّح بها، فتقسيمه هنا إلى ما يكون منه‌

______________________________
(1) الفقيه 1: 6 ذيل الحديث 2؛ المقنع: 31.

(2) حكاه عنهم ابن إدريس في السرائر 1: 6160؛ و العِمة الحلّي في مختلف الشيعة 1: 21، المسألة 4؛ و الشهيد في الذكرى 1: 80.

(3) مختلف الشيعة 1: 2221، المسألة 4.

(4) الكافي 3: 3/ 7؛ التهذيب 1: 4241/ 115؛ الإستبصار 1: 10/ 13.

(5) أي رواية أبي بصير، المتقدّمة آنفاً.

(6) في «ق، م»: «كأنّه».

(7) حكاه عنه الشهيد في الذكرى 1: 81.

377
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

تنبيهان: ؛ ج‌1، ص : 378

قدر كُرّ و إلى ما يزيد تقسيم للشي‌ء إلى نفسه و غيره، و إنّما يتمّ ذلك أن لو قال أوّلًا: إن كان قدرها كُرّاً فصاعداً، حتى يتمّ تقسيمه إلى ما يصعد و إلى ما هو كُرّ خاصّة، لكن سوّغ ذلك ظهور المراد و الاستئناس بأنّهم متى ذكروا الكُرّ يريدون به ما هو كُرّ فصاعداً. و في الأكثر يعبّرون بلفظة «فصاعداً».

(و يطهر) هذا الماء المفروض كونه قدر كُرّ خاصّةً إذا تغيّر كلّه أو بعضه بالنجاسة (بإلقاء كُرّ عليه دفعةً) واحدة عرفيّة، فإن لم يزل التغيّر بالكُرّ المفروض (فكُرّ) آخر و هكذا (حتى يزول التغيّر).

و اعتبار الدفعة في الكُرّ الملقى هو أحوط القولين، و ليس عليه دليل واضح، و قد تقدّم في كلامنا ما يدلّ على عدم فائدته، و كلام جماعة من الأصحاب خالٍ عنه.

و في الذكرى عبّر بالكُرّ المتّصل «1»، بدل الدفعة.

و يمكن أن يريد المصنّف بالدفعة الاتّصالَ فإنّ إلقاء الكُرّ مفرّقاً بحيث يقطع بين أجزائه يوجب تعدّد دفعات الإلقاء، و مع اتّصال بعضه ببعضٍ تصدق الدفعة.

و هذا الحمل أقرب من حمل كلام الشهيد رحمه اللّه في تعبيره بالمتّصل على إرادة الدفعة العرفيّة السريعة.

و ما مرّ في مادّة الحمّام يؤيّد ما قلناه، و حاصله: أنّه قد تقدّم في بحث الحمّام أنّه لو نجس حوضه و كانت المادّة كُرّاً فصاعداً، طهر باتّصالها به إمّا مع مطلق المماسّة، أو مع الاستيلاء، كما اختاره المصنّف في النهاية، و حَكَم بتعدية الحكم إلى غير الحمّام «2». و تعديته إلى ما نحن فيه يقتضي الطهارة مع زوال التغيّر و بقاء كُرّ في الماء الملقى و إن لم يكن نزوله على النجس دفعةً واحدة، أو يكون ذلك نوعاً آخر من المطهّر لهذا الماء مع زوال التغيّر قبل نقصان الماء الخارج المطهّر عن الكُرّ أو مع زيادته عنه على ما مرّ تفصيله.

تنبيهان:

الأوّل: ما ذكره من الاحتياج إلى كُرّ آخر إن لم يُزل الأوّل التغيّرَ و هكذا ليس على وجه‌

______________________________
(1) الذكرى 1: 78.

(2) نهاية الإحكام 1: 230.

378
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

تنبيهان: ؛ ج‌1، ص : 378

الحصر فيه أيضاً، بل لو زال التغيّر و لو ببعض كُرّ ثمّ القي عليه كُرّ دفعةً، طهر أيضاً لوجود المقتضي، و هو نوع تخفيف في التطهير.

و الثاني: أنّ الحكم بوجوب كُرّ آخر إن لم يطهّر الأوّل إنّما يحتاج إليه مع تغيّر الكُرّ السابق أو ما لا يبقى معه كُرّ متميّز بغير تغيّر، و إلا فلو اتّفق اجتماع كُرّ متميّز غير متغيّر، لم يتحتّم كُرّ آخر، بل ما يزيل تغيّر المتغيّر و لو بالتموّج، كما سيأتي فيما لو تغيّر بعض الزائد عن الكُرّ لدخول الفرض فيه.

(و إن كان) الماء الواقف (أكثر) من كُرّ، فإن تغيّر جميعه، فحكمه ما تقدّم. و إن تغيّر بعضه (فالمتغيّر خاصّة) نجس (إن كان الباقي كُرّاً).

(و يطهر) حينئذٍ بزوال التغيّر عن المتغيّر و لو بالعلاج لأنّ الباقي كُرّاً متميّزاً غير متغيّر كالملقي، و (بإلقاء كُرّ طاهر عليه دفعةً) فإن لم يزل التغيّر بالكُرّ (فكُرّ) آخر و هكذا (حتى يزول التغيّر).

و ذكر الدفعة هنا و إن كان غير مفسد لكنّه مستغنى عنه لأنّ المقصود زوال التغيّر، و لهذا كفى تمويجه، كما أشار إليه بقوله (أو بتموّجه حتى يستهلكه) أي المتغيّرَ الماءُ (الطاهر) و لو كان الباقي غير المتغيّر أقلّ من كُرّ، نجس أجمع، و طهره بما تقدّم في القسم الأوّل.

(و إن كان) الماء الواقف (أقلّ من كُرّ، نجس بجميع ما يلاقيه من النجاسة و إن لم يتغيّر وصفه) بها على أشهر القولين لمفهوم الشرط في قوله صلّى اللّه عليه و آله‌

إذا بلغ الماء كُرّاً لم يحمل خبثاً

«1» و قول الصادق عليه السلام‌

إذا بلغ الماء قدر كُرّ لم ينجّسه شي‌ء

«2» و قوله عليه السلام في سؤر الكلب‌

رجس نجس لا تتوضّأ بفضله، و اصبب ذلك الماء

«3» و لقول الكاظم عليه السلام فيما رواه عنه أخوه عليّ في الدجاجة تطأ العذرة ثمّ تدخل في الماء أ يتوضّأ منه؟ فقال‌

لا، إلا أن يكون الماء كثيراً قدر كُرّ

«4» و قول الرضا عليه السلام و قد سُئل عن الرجل يدخل يده في الإناء و هي قذرة: «يكفئ الإناء» «5».

______________________________
(1) أورده السيّد المرتضى في الانتصار: 85، المسألة 1؛ و الشيخ الطوسي في الخلاف 1: 174، المسألة 127؛ و العلامة الحلّي في تذكرة الفقهاء 1: 24، الفرع السادس؛ و الشهيد في الذكرى 1: 80.

(2) الكافي 3: 2/ 1 و 2؛ التهذيب 1: 4039/ 107- 109؛ الاستبصار 1: 6/ 1- 3.

(3) التهذيب 1: 225/ 646؛ الاستبصار 1: 19/ 40.

(4) التهذيب 1: 419/ 1326؛ الاستبصار 1: 21/ 49.

(5) التهذيب 1: 39/ 105.

379
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

تنبيهان: ؛ ج‌1، ص : 378

و خالف في ذلك ابنُ أبي عقيل حيث ذهب إلى أنّ الماء لا ينجس إلا بالتغيّر «1»، محتجّاً بقوله صلّى اللّه عليه و آله‌

الماء طهور لا ينجّسه شي‌ء إلا ما غيّر لونه أو طعمه أو ريحه

«2». و وجه تقدّمه على ما دلّ عليه قوله صلّى اللّه عليه و آله‌

إذا بلغ الماء كُرّاً

إلى آخره: دلالته بمنطوقه على مدلوله العامّ و دلالة ذاك بمفهومه على أنّه يحمل الخبث عند عدم البلوغ، و دلالة المنطوق أقوى.

و بقول الباقر عليه السلام في القربة و الجرّة من الماء تسقط فيها فأرة فتموت‌

إذا غلبت رائحته على طعم الماء أو لونه فأرِقه، و إن لم يغلب فاشرب منه و توضّأ

«3». و جوابه: أنّ مفهوم الشرط حجّة عند المحقّقين، فهو حينئذٍ خاصّ بالنسبة إلى حديثه، فيجب حمل العامّ على الخاصّ تقريراً للنصّين. و لا فرق عندنا بين تقدّم العامّ و تأخّره و جهل التأريخ.

و ليس المخصّص لعامّ حديثه وروده في بئر بضاعة «4» و كان ماؤها كثيراً لأنّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، بل المخصّص ما قلناه.

هذا إن قلنا: إنّ المفرد المعرّف بلام الجنس يفيد العموم، و إلا فالحديث مطلق؛ لدلالته على الماهيّة من حيث هي هي، و حينئذٍ فيحمل المطلق على المقيّد.

و أمّا حديث القربة: ففي سنده ضعف، مع معارضته بما سلف من الأحاديث التي هي أكثر و أصحّ إسناداً. و أوّله الشيخُ بالكُرّ «5».

و اعلم أنّ في صحّة الحديث الأوّل بل في ثبوته إشكالًا إذ لم يوجد في كتب الحديث المعهودة مسنداً، و لا ادّعى أحد من الأصحاب أنّه وجده مسنداً، و إنّما ذكره المرتضى‌

______________________________
(1) حكاه عنه المحقّق الحلّي في المعتبر 1: 48؛ و العِمة الحلّي في تذكرة الفقهاء 1: 22 ذيل المسألة 5؛ و مختلف الشيعة 1: 13، المسألة 1.

(2) أورده كما في المتن المحقّق الحلّي في المعتبر 1: 48؛ و العِمة الحلّي في تذكرة الفقهاء 1: 22 ذيل المسألة 5؛ و في سنن أبي داوُد 1: 17/ 66؛ و سنن الترمذي 1: 95- 96/ 66؛ و سنن النسائي 1: 174، و مسند أحمد 3: 415- 416/ 10864؛ و مسند أبي يعلى 2: 476/ 1304؛ و شرح معاني الآثار 1: 12 صدر الخبر.

(3) التهذيب 1: 412/ 1298؛ الاستبصار 1: 7 8/ 7، و المؤلّف قدّس سرّه نقله بالمعنى.

(4) سنن أبي داوُد 1: 17/ 66؛ سنن الترمذي 1: 95/ 66؛ سنن النسائي 1: 174؛ مسند أحمد 3: 415/ 10864؛ مسند أبي يعلى 2: 476/ 1304؛ شرح معاني الآثار 1: 12.

(5) التهذيب 1: 412 ذيل الحديث 1298؛ الاستبصار 1: 8 ذيل الحديث 7.

380
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

تنبيهان: ؛ ج‌1، ص : 378

و الشيخ «1» مرسلًا، و ما هذا شأنه لا يحتج به.

لكنّ ابن إدريس رحمه اللّه ادّعى اتّفاق المخالف و المؤالف على هذه الرواية «2».

و هذه دعوى عريّة عن برهان، بل البرهان قائم على خلافها.

أمّا عند المخالف: فلأنّ الحديث الذي ادّعوا أنّ حُفّاظهم و أئمّتهم صحّحوه هو قوله صلّى اللّه عليه و آله‌

إذا بلغ الماء قُلّتين لم يحمل الخبث

«3». و أمّا المؤالف فقد بيّنّا أنّه لم يوجد في كتبهم مسنداً، و لا ادّعى أحد فيه ذلك، فكيف يقع الإجماع على ما هذا شأنه!؟

و البحث عن حال هذا الحديث مهمّ إذ تترتّب عليه مسألة إتمام الماء النجس كُرّاً، فإن صحّ هذا الحديث، لزم القول بطهره، و إلا فلا لأنّ ما صحّ عندنا من الحديث عن الصادق عليه السلام و هو‌

إذا بلغ الماء قدر كُرّ لم ينجّسه شي‌ء

«4» لا يدلّ عليه لأنّ مقتضاه أنّ المانع من التنجيس بلوغ الكُرّيّة، فلا يدفع النجاسة السابقة، بخلاف عدم حمله الخبثَ عند بلوغه كُرّاً، فإنّه يدلّ على زوال النجاسة السابقة و اللاحقة، خصوصاً على ما ذكره جماعة من أهل اللغة من أنّ المراد بعدم حَمل الخبث في الحديث عدم ظهوره فيه «5»، فدلالته على طهره بالإتمام صريحة أو ظاهرة.

و قد بالغ المحقّق في المعتبر في ردّ الحديث، فقال: إنّا لم نروه مسنداً، و الذي رواه مرسلًا المرتضى و الشيخ أبو جعفر و آحاد ممّن جاء بعده، و الخبر المرسل لا يعمل به، و كتب الحديث عن الأئمّة عليهم السّلام خالية عنه أصلًا.

و أمّا المخالفون فلم أعرف به عاملًا سوى ما يحكى عن ابن حيّ، و هو زيديّ منقطع المذهب.

قال: و ما رأيت أعجب ممّن يدّعي إجماع المخالف و المؤالف فيما لا يوجد إلا نادراً، فإذَن الرواية ساقطة.

______________________________
(1) الانتصار: 85، المسألة 1؛ الخلاف 1: 174، المسألة 127.

(2) السرائر 1: 63.

(3) سنن الدارقطني 1: 21/ 15، و في 1716/ 8؛ و سنن أبي داوُد 1: 17/ 63؛ و سنن الترمذي 1: 97/ 67؛ و سنن النسائي 1: 46 و 175: «إذا كان الماء ..».

(4) الكافي 3: 2/ 1 و 2؛ التهذيب 1: 4039/ 107 109؛ الاستبصار 1: 6/ 31، و فيها: «إذا كان الماء ..».

(5) حكاه الفيروزآبادي في القاموس المحيط 3: 373 بعنوان «قيل».

381
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

تنبيهان: ؛ ج‌1، ص : 378

و أمّا أصحابنا فرووا عن الأئمّة عليهم السّلام‌

إذا كان الماء قدر كُرّ لم ينجّسه شي‌ء

و هذا صريح في أنّ بلوغه كُرّاً هو المانع لتأثّره بالنجاسة، و لا يلزم من كونه لا ينجّسه شي‌ء بعد البلوغ رفع ما كان ثابتاً فيه و منجّساً قبله، و الشيخ رحمه اللّه قال: لقولهم عليهم السّلام. و نحن فقد طالعنا كتب الأخبار المنسوبة إليهم فلم نر هذا اللفظ، و إنّما رأينا ما ذكرناه. و لعلّ غلط مَنْ غلط في هذه المسألة لتوهّمه أنّ معنى اللفظين واحد «1». انتهى. و هو كلام جيّد في موضعه.

و ما يقال من أنّ الإجماع المنقول بخبر الواحد المحكوم بكونه حجّةً عند جماعة من المحقّقين كافٍ في ثبوت الخبر و إن لم يسند، إنّما يتمّ من ضابطٍ ناقدٍ للأحاديث، لأمن مثل هذا الفاضل و إن كان غير منكور التحقيق، فإنّه لا يتحاشى في دعاويه ممّا يتطرّق إليه القدح، و قد بيّنّاه هنا و قد طعن فيه بذلك جماعة من فضلائنا من أهل عصره و غيره، و اللّه يتولّى أسرار عباده.

(و يطهر) الماء القليل المتنجّس (بإلقاء كُرّ عليه دفعة) واحدة بمعنى وقوع جميع أجزاء الكُرّ في زمانٍ قصير بحيث يصدق اسم الدفعة عليه عرفاً لامتناع ملاقاة جميع الأجزاء في آن واحد، فكان المرجع في ذلك إلى الاستعمال العرفي، كما يقال: جاء القوم دفعة، و نحوه. و قد تقدّم «2» الكلام في ذلك.

و ما ذكر من التطهير بإلقاء الكُرّ ليس على وجه الانحصار فإنّه يطهر أيضاً بوصول الماء الجاري إليه عند مَنْ لا يعتبر فيه الكثرة، و بنزول ماء المطر عليه، و بما ذكرناه من اتّصاله بالكثير الباقي على كثرته بعد الوصول؛ إذ لا يختصّ الحكم بالحمّام بعد اشتراط كثرة المادّة. و كذا يطهر بالنبع من تحته إذا اشتمل على قوّة و فوران، لا ما يرشح رشحاً لعدم الكثرة الفعليّة.

و هذا كلّه إذا لم يتغيّر، و إلا لم يطهر بذلك إلا مع زوال التغيّر.

نعم، لو بقي المتغيّر متميّزاً عن الكُرّ أو الجاري، كفى في طهره التموّجُ حتى يزول التغيّر، كما سلف «3».

______________________________
(1) المعتبر 1: 52- 53.

(2) في ص 378.

(3) في ص 379.

382
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

الرابع ماء البئر ؛ ج‌1، ص : 383

[الرابع ماء البئر]

القسم (الرابع: ماء البئر) و هو نبع مخصوص له أحكام خاصّة، فلذلك خصّه بالذكر.

و قد عرّف الشهيد رحمه اللّه البئر في الشرح: بأنّها مجمع ماء نابع من الأرض لا يتعدّاها غالباً و لا يخرج عن مسمّاها عرفاً «1».

و احترز بالقيد الأخير عن كثير من الماء النابع الذي لا يتعدّى محلّه غالباً لكن لا يسمّى بئراً عرفاً، فالحكم حينئذٍ تابع للاسم. و يمكن تغيّره بتغيّره «2». و لا بُعد في ذلك بعد ورود الشرع.

و المراد بالعرف هنا العامّ، لا الموجود في زمانه صلّى اللّه عليه و آله خاصّةً؛ لأنّ الحكم معلّق على اسم ليس له حقيقة شرعيّة، فيرجع فيه إلى العرف؛ لتقدّمه على اللغة.

و ربّما خصّه بعضهم بعرفه صلّى اللّه عليه و آله، أو عرف أحد الأئمّة، فما ثبت له الاسم في زمانهم كالموجود في العراق و الحجاز لحقه الحكم، و إلا فالأصل عدم تعلّق أحكام البئر به «3».

و ليس بجيّد لما بيّنّاه.

و حكم ماء البئر أنّه (إن تغيّر بالنجاسة، نجس) إجماعاً.

و فيما يطهر به حينئذٍ أقوال:

أحدها: ما اختاره المصنّف (و) هو: أنّه (يطهر بالنزح حتى يزول التغيّر) و هو اختيار المفيد «4» و جماعة «5».

و بناؤه على ما اختاره المصنّف «6» من عدم انفعال البئر بمجرّد الملاقاة كالجاري ظاهر لأنّ زوال التغيّر عن الجاري كافٍ في طهارته.

قال في المختلف: و لأنّ سبب التنجيس التغيّرُ، فيزول الحكم بزواله «7».

______________________________
(1) غاية المراد 1: 65.

(2) أي: تغيّر الحكم بتغيّر الاسم.

(3) المحقّق الكركي في جامع المقاصد 1: 120.

(4) المقنعة: 66.

(5) منهم: القاضي ابن البرّاج في المهذّب 1: 22؛ و أبو الصلاح الحلبي في الكافي في الفقه: 130؛ و الشهيد في البيان: 99؛ و ابن أبي عقيل كما حكاه عنه العلامة الحلّي في مختلف الشيعة 1: 28، المسألة 8.

(6) مختلف الشيعة 1: 25، المسألة 7.

(7) مختلف الشيعة 1: 28، المسألة 8.

383
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

الرابع ماء البئر ؛ ج‌1، ص : 383

لكن هذا الدليل لو تمّ، لزم طهارة البئر بزوال التغيّر من نفسه، فلا ينحصر التطهير في النزح، و كأنّ ظاهر العبارة يأباه، لكنّ العبارة ليست خارجةً مخرج الحصر لأنّ البئر تطهر بمطهّر غيره و بالنزح عند الأكثر «1»، مع أنّه لم يصرّح به هنا، فيكون زوال التغيّر من نفسه كذلك.

و أمّا على ما اختاره المفيد «2» و الجماعة «3» من نجاسته بمجرّد الملاقاة فمستنده ما رواه الشيخ في الحسن عن الصادق عليه السلام‌

فإن تغيّر الماء فخُذه حتى يذهب الريح

«4». و قول الرضا عليه السلام في رواية محمّد بن إسماعيل، الآتية‌

إلا أن يتغيّر ريحه أو طعمه فينزح منه حتى يذهب الريح و يطيب طعمه

«5». و يشكل ذلك فيما له مقدّر نصّاً إذا زال التغيّر قبل استيفاء المقدّر، فإنّ وجوب بلوغه لو لم يتغيّر يقتضي وجوبه معه بطريق أولى.

و حَملُ مثل ذلك على الغالب من أنّ إزالة التغيّر تستوفي المقدّر و زيادة لو تمّ غير كافٍ في هذا المقام الموجب للإجمال و الإخلال.

فالمناسب حينئذٍ وجوب أكثر الأمرين من المقدّر و ما به يزول التغيّر جمعاً بين النصوص الدالّة على الاكتفاء بزوال التغيّر، و الموجبةِ لاستيفاء المقدّر. و هو ثاني الأقوال، و مختار الشهيد في الذكرى «6».

و ثالثها: التفصيل بكون النجاسة منصوصةَ المقدّر، فيجب نزح أكثر الأمرين من المقدّر و ما به يزول التغيّر، أو غير منصوصة، فيجب نزح الجميع، و مع التعذّر التراوح، و هو اختيار ابن إدريس «7»، و استحسنه المصنّف في المختلف، لكن ادّعى أنّه ليس عليه دليل قويّ «8».

و الظاهر أنّه أقوى الأقوال و أمتنها دليلًا.

______________________________
(1) منهم: الشهيد في البيان: 99.

(2) المقنعة: 64.

(3) منهم: القاضي ابن البرّاج في المهذّب 1: 21؛ و أبو الصلاح الحلبي في الكافي في الفقه: 130؛ و الشهيد في البيان: 99.

(4) التهذيب 1: 233 234/ 675، و 237/ 684؛ الاستبصار 1: 37/ 102.

(5) التهذيب 1: 234/ 676؛ الاستبصار 1: 33/ 87، و تأتي الرواية في ص 387.

(6) الذكرى 1: 88.

(7) السرائر 1: 70- 72.

(8) مختلف الشيعة 1: 29 ذيل المسألة 8.

384
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

الرابع ماء البئر ؛ ج‌1، ص : 383

أمّا وجوب أكثر الأمرين مع النصّ على المقدّر: فلأنّ بلوغ المنصوص لا بدّ منه؛ للنصّ، و مع بقاء التغيّر بعده لا يعقل الحكم بالطهارة، فلا بدّ من اعتبار زوال التغيّر لما تقدّم من الأخبار. و إن تقدّم زوال التغيّر على استيفاء المقدّر، فوجوب استيفائه ظاهر لوجوبه على تقدير عدم التغيّر فمعه أولى.

و إن لم يكن للنجاسة مقدّر، فسيأتي أنّه يجب نزح الجميع مع عدم التغيّر فمعه أولى. و مع تعذّر نزح الجميع يجب التراوح للنصوص الدالّة عليه، و سيأتي إن شاء اللّه.

فإن قيل: على تقدير تأخير زوال التغيّر عن استيفاء المقدّر يبقى الماء بعد الاستيفاء نجساً لا مقدّر له، فيجب نزح الجميع، كما في غير المنصوص.

قلنا: إنّما اكتفينا بزوال التغيّر بعد ذلك لما تقدّم من الحديث.

فإن قيل: هو مطلق فتقييده بما ذكرتم لا وجه له.

قلنا: تقييده في غير المتنازع لعارضٍ لا يمنع من إعماله فيه، و هو ظاهر.

و رابعها: التفصيل كذلك مع زيادة وجوب إزالة التغيّر في المنصوص ثمّ استيفاء المقدّر. و هو اختيار المحقّق «1». و وجهه كالأوّل إلا أنّه أعطى كلا من السببين مقتضاه لأصالة عدم التداخل. و ما مرّ من الإشكال آتٍ هنا.

و خامسها: وجوب نزح الجميع، فإن تعذّر فالتراوح، اختاره الصدوق «2» و المرتضى «3» و سلّار «4» لقول أبي عبد اللّهُ في رواية عمّار‌

فإن غلبه الماء فلتنزف يوماً إلى الليل يقام عليها قوم يتراوحون اثنين اثنين ينزفون يوماً إلى الليل و قد طهرت

بعد حكمهُ في أوّل الخبر بوجوب نزح الجميع «5».

و لأنّه ماء نجس فيجب إخراج جميعه، و مع التعذّر التراوح، كما في غيره من النجاسات الموجبة لنزح الجميع.

و فيه: ضعف سند الحديث مع اضطرابٍ في متنه.

______________________________
(1) المعتبر 1: 76- 77.

(2) الفقيه 1: 13 ذيل الحديث 24.

(3) حكاه عنه المحقّق الحلّي في المعتبر 1: 76.

(4) المراسم: 35.

(5) التهذيب 1: 284/ 832.

385
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

الرابع ماء البئر ؛ ج‌1، ص : 383

و وجوب إخراج جميع الماء النجس من البئر و توقّف الطهر عليه في حيّز المنع؛ لطهارة البئر في كثير من النجاسات بإخراج بعضه بعد الحكم بنجاسة الجميع.

و سادسها: نزحها أجمع، فإن تعذّر، نزح حتى يزول التغيّر، نُقل ذلك عن المبسوط و النهاية «1» لقول الصادق عليه السلام في رواية [معاوية بن] «2» عمّار‌

فإن أنتن غسل الثوب و أعاد الصلاة و نزحت البئر

«3». و لأنّه ماء نجس، فيجب إخراجه أجمع، و مع التعذّر ينزح إلى أن يزول التغيّر؛ لأنّه المقتضي لنزح الجميع.

و هذه الحجّة ضعيفة جدّاً.

أمّا الرواية: فلعدم دلالتها على ما زاد عن نزح الجميع، بل عليه خاصّة من غير تفصيل بالتعذّر و عدمه.

و أمّا الاستدلال بنجاسة الماء: فلا يقتضي انحصار التطهير في مزيل التغيّر، كما لا يقتضي التغيّر وحده نزح الجميع مطلقاً، و هل هو إلا عين المتنازع؟ بل الظاهر أنّ الموجب لنزح الجميع وقوع غير المنصوص، أمّا هو ففيه ما مرّ.

و أُجيب عن الخبر: باحتياجه إلى إضمار لأنّ المنزوح ليس هو نفس البئر، و ليس إضمار جميع الماء أولى من إضمار بعضه «4».

و فيه نظر لأنّ المضمر هو الماء المنسوب إلى البئر. و دلالته على الجميع لأنّه ملزومه، لا أنّ المجموع هو نفس المضمر.

و سابعها: نزحها أجمع، و مع التعذّر بغلبة الماء يعتبر أكثر الأمرين من زوال التغيّر و المقدّر، اختاره الشهيد في الدروس «5». و وجهه مركّب من الوجوه المتقدّمة.

و يظهر من اعتبار الأقوال و وجوهها أنّ أمتنها الثالث.

و إنّما أطنبنا القول في تحرير الأقوال لعدم وجودها مجموعةً في كتابٍ على هذا المنوال.

______________________________
(1) المبسوط 1: 11؛ النهاية: 7.

(2) ما بين المعقوفين من الإستبصار. و في التهذيب: عن معاوية.

(3) التهذيب 1: 232/ 670؛ الاستبصار 1: 3130/ 80.

(4) المجيب هو العلامة الحلّي في مختلف الشيعة 1: 29 ذيل المسألة 8.

(5) الدروس 1: 120.

386
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

الرابع ماء البئر ؛ ج‌1، ص : 383

(و إن لم يتغيّر) ماء البئر بالنجاسة (لم ينجس) على المختار عند المصنّف في أكثر كتبه «1»، تبعاً لشيخه مفيد الدين بن جُهيم «2» و لابن أبي عقيل «3» من المتقدّمين، و تبعه على ذلك ولده فخر المحقّقين «4» و المحقّق الشيخ عليّ «5». و مستندهم الأخبارُ و الاعتبار.

أمّا الأوّل: فمنها: صحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع بالباء الموحّدة المفتوحة فالزاي المعجمة المكسورة فالياء المثنّاة من تحت فالعين المهملة قال: كتبت إلى رجل أسأله أن يسأل أبا الحسن الرضا عليه السلام، فقال‌

ماء البئر واسع لا يفسده شي‌ء إلا أن يتغيّر ريحه أو طعمه فينزح منه حتى يذهب الريح و يطيب الطعم لأنّ له مادّة

«6». و هذه الرواية أقوى حجج القائلين بالتطهير «7» لحكمهُ على الماء بالسعة. و يفهم منها عدم الانفعال بالملاقاة، و نفي إفساد شي‌ء له، و هو عامّ؛ لأنّه نكرة في سياق النفي، و اشتمالها على الحصر المستفاد من الاستثناء في سياق النفي، و وجود التعليل بالمادّة، و المعلّل مقدّم على غيره.

قيل: و لدلالتها على المراد نصّاً «8».

و منها: حسنة عليّ بن جعفر عن أخيه موسى قال: سألته عن بئر ماء وقع فيها زبيل بتخفيف الباء مع فتح الزاي، و تشديدها مع كسرها من عذرة رطبة أو يابسة أو زبيل من سرقين أ يصلح الوضوء منها؟ قال: «لا بأس» «9».

و المراد من العذرة و السرقين النجس لأنّ الفقيه لا يُسأل عن ملاقاة الطاهر. و إن سُلّم، فترك الاستفصال في العذرة دليل استواء الطاهرة و النجسة في الحكم باعتبار الوقوع.

و منها: رواية حمّاد عن معاوية بن عمّار عن أبي عبد اللّهُ قال‌

لا يغسل الثوب و لا تعاد الصلاة ممّا وقع في البئر إلا أن ينتن، فإن أنتن غسل الثوب و أعاد الصلاة

______________________________
(1) منها: تحرير الأحكام 1: 4؛ و مختلف الشيعة 1: 25، المسألة 7؛ و منتهى المطلب 1: 56؛ و نهاية الإحكام 1: 235.

(2) حكاه عنه الشهيد في غاية المراد 1: 71- 72.

(3) حكاه عنه العلامة الحلّي في مختلف الشيعة 1: 25، المسألة 7.

(4) إيضاح الفوائد 1: 17.

(5) جامع المقاصد 1: 121- 122.

(6) التهذيب 1: 234/ 676؛ الاستبصار 1: 33/ 87.

(7) كذا، و الظاهر: الطهارة.

(8) القائل هو فخر المحقّقين في إيضاح الفوائد 1: 17- 18.

(9) التهذيب 1: 246/ 709؛ الاستبصار 1: 42/ 118، و فيهما: «زنبيل» بدل «زبيل».

387
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

الرابع ماء البئر ؛ ج‌1، ص : 383

و نزحت البئر

«1». و أمّا الاعتبار: فلأنّه لو نجست البئر بالملاقاة، لما طهرت، و التالي باطل، فالمقدّم مثله.

بيان الملازمة: أنّ الدلو و الرشا و جوانب البئر تنجس بملاقاة الماء النجس، و نجاستها مانعة من حصول الطهارة في الماء بالنزح لدوام ملاقاتها، و كذا المتساقط من الدلو حال النزح خصوصاً الدلو الأخير.

و لأنّها لو نجست كذلك، لكان وقوع الكُرّ من الماء المصاحب للنجاسة فيها موجباً لنجاسة جميع الماء، و التالي ظاهر البطلان لأنّ الملاقي للنجاسة إذا لم يتغيّر بها قبل وقوعه محكوم بطهارته، فتمتنع نجاسته بغير منجّس.

و بيان الملازمة: أنّ نجاسة ماء البئر بملاقاة النجاسة تقتضي نجاسة الماء الواقع لاستحالة أن يكون بعض الماء الواحد طاهراً و بعضه نجساً مع عدم التغيّر.

و لأنّه بجريانه من منابعه أشبه الماء الجاري فيتساويان.

و لأنّ القول بنجاسة البئر بالملاقاة دون المصنع إذا كان كثيراً ممّا لا يجتمعان، و الثاني ثابت إجماعاً فينتفي الأوّل.

بيان التنافي: أنّه لا فرق بينه و بين البئر سوى المادّة، و هي ممّا تؤكّد عدم نجاستها.

و أُجيب عن الأُولى: بأنّها مكاتبة تضعف عن الدلالة. و بعدم التصريح بأنّ المُجيب الإمام. و بأنّ المراد بالفساد المنفي فساد الكلّ بكلّ وجه، و لا يلزم منه عدم استناد الفساد الكلّي إلى الملاقاة، أو لا يفسده فساداً يوجب التعطيل، كما قال النبي صلى الله عليه و آله‌

المؤمن لا يخبث

«2» أي لا يصير في نفسه خبثاً، و كقول الرضا عليه السلام‌

ماء الحمّام لا يخبث

«3» مع أنّه يجوز أن تعرض له النجاسة.

و هذا الحمل و إن كان خلاف الظاهر إلا أنّ فيه جمعاً بين الأخبار.

و عن الأخيرتين: بأنّ لفظ «البئر» يقع على النابعة و الغدير، فلعلّ السؤال عن بئر ماؤها محقون، فتكون الأحاديث الدالّة على وجوب نزح البئر عن أعيان المنزوحات مختصّةً‌

______________________________
(1) التهذيب 1: 232/ 670؛ الإستبصار 1: 30- 31/ 80.

(2) في صحيح البخاري 1: 109/ 281؛ و سنن ابن ماجة 1: 178/ 534؛ و سنن النسائي 1: 146؛ و مسند أحمد 3: 83/ 8745: «.. لا ينجس».

(3) أورده المحقّق في المعتبر 1: 56.

388
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

الرابع ماء البئر ؛ ج‌1، ص : 383

بالنابعة، و يكون هذا متناولًا لغيرها ممّا هو محقون.

و عن الثالثة بالخصوص: بأنّ حمّاداً الراوي عن معاوية مقول بالاشتراك على جماعة منهم الثقة و غيره، فلعلّه غير الثقة. و بأنّه يدلّ بصيغة «ما» العامّة فيما لا يعقل، فيكون الترجيح لجانب الأحاديث الدالّة على أعيان المنزوحات؛ تقديماً للخاصّ على العامّ. و لمعارضة الأخبار الكثيرة لها.

و أكثر هذه الأجوبة للمعتبر «1».

و عن الاعتبار: بالنقض بطهرها بالنزح عندهم إذا نجست بالتغيّر، فإنّ السؤال قائم، و لو اعتبر زوال التغيّر خاصّة، لزم طهرها بزواله بنفسه و هُم لا يقولون به. و بأنّ الطهارة حكم شرعيّ، و هو حاصل مع المتساقط فيه. و لأنّ المطهّر هو الماء المنفصل عن البئر، فالساقط كجزء من ماء البئر لم ينزح، و لاطّراده في عدم نجاسة الثوب إذ لو نجس لما طهر إذ من طرق تطهيره بالإجماع الغسل بالقليل، و هو ينجس بالورود، فلا يقع مطهّراً، و هو خلاف الاتّفاق. و بأنّ الكُرّ المصاحب للنجاسة أزال حكمها و حقيقتها قبل وصوله إلى البئر، فلم يؤثّر فيه شيئاً.

و الباقي مجرّد استبعاد بعد ورود النصّ بالفرق، فإنّهم يوافقون على استحباب النزح أو وجوبه تعبّداً، و هو كافٍ في نفي التساوي.

(و أكثر «2» أصحابنا) بل كاد يكون إجماعاً منهم (حكموا بالنجاسة).

قال الشهيد في الشرح: و لعلّه الحجّة «3». أي: الإجماع.

و مستند ذلك النقلُ الشائع بوجوب النزح من الخاصّ و العامّ، و قد روي عن جماعة من الصحابة و التابعين «4»، و عليه عمل الإماميّة في سائر الأعصار و الأمصار.

و يدلّ عليه أيضاً الأخبار عن أهل البيت عليهم السّلام و الاعتبار:

أمّا الأوّل فمنها: صحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع، السالفة أنّه كتب إلى رجل‌

______________________________
(1) المعتبر 1: 56- 57.

(2) منهم: الشيخ المفيد في المقنعة: 64؛ و الشيخ الطوسي في النهاية: 6؛ و المبسوط 1: 11؛ و سلار في المراسم: 34؛ و القاضي ابن البرّاج في المهذّب 1: 21؛ و أبو الصلاح الحلبي في الكافي في الفقه: 130؛ و ابن حمزة في الوسيلة: 74، و ابن إدريس في السرائر 1: 69، و المحقّق الحلّي في المعتبر 1: 54.

(3) غاية المراد 1: 66.

(4) كما في سنن البيهقي 1: 401/ 1262؛ و المغني 1: 66؛ و الشرح الكبير 1: 55؛ و المعتبر 1: 55؛ و غاية المراد 1: 66.

389
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

الرابع ماء البئر ؛ ج‌1، ص : 383

يسأله أن يسأل أبا الحسن الرضا عليه السلام عن البئر يقطر فيها قطرات من بول أو دم ما الذي يطهّرها؟ فوقّع عليه السلام في كتابي بخطّه «ينزح منها دلاء» «1». و هو في قوّة قوله عليه السلام‌

طهرها بأن ينزح منها دلاء

ليطابق السؤال، و طهرها بالنزح يدلّ على نجاستها بدونه، و إلا لزم إيجاد الموجود أو اجتماع الأمثال.

و هذه الرواية مساوية لنظيرتها من حجج القائلين بالتطهير في السند، و تختصّ عنها بمرجّحات:

التصريح بأنّ المجيب هو الإمامُ لإخبار الثقة الضابط أنّه بخطّه، فهي في قوّة المشافهة بخلاف الاولى لعدم ذكر ذلك فيها، بل كما يحتمل أن يكون المجيب الإمامَ يحتمل أن يكون هو الرجلَ المسئول أن يسأل، أو غيره، لكنّ عود الضمير فيها في قوله: «فقال» باعتبار رجحان عوده إلى الأقرب يرجّح كون المجيب الإمام، إلا أنّ ذلك ظاهر و هذا نصّ.

و اشتمالها على الأمر بالنزح، المستلزم للنهي و الحظر عن استعمال الماء قبل ذلك لنجاسته، و اشتمال الاولى على إباحة الاستعمال، و ما اشتمل على الأوّل أرجح ممّا اشتمل على الثاني، كما حقّق في الأُصول.

و اعتضادها بعمل الأكثر إن لم يتمّ الإجماع، و هو مرجّح أيضاً كما حُقّق في محلّه.

و أمّا دعوى النصّ في الأُولى فغير ظاهر إذ الإفساد ليس مرادفاً للنجاسة و لا ملزوماً لها، بل غايته أن يكون ظاهراً عند تجرّده عن الموانع الموجبة لحملة على غير ظاهره، و كما يمكن حمل هذه على الطهارة اللغويّة يمكن حمل الفساد المنفيّ في الأُولى على فسادٍ يوجب التعطيل أو فساد الكلّ كما مرّ، و لا يلزم منه عدم استناد الفساد الكلّي إلى الملاقاة.

قيل: هذا خلاف مدلول الحديث، و أيّ فائدة للتعليل بالمادّة حينئذٍ؟

قلنا: ثبوت الحقائق الشرعيّة يوجب كون الحمل على الطهارة اللغويّة غير مراد و لا مدلول أيضاً، و تأويل حديثكم بما ذكرناه أقرب لأنّه بعض أفراد الحقيقة، بخلاف حمل الحديث الثاني على الطهارة اللغويّة فإنّه حمل على المجاز البحت، و فائدة المادّة عدم انفعال جميعه على وجه يفسد بأسره، كالقليل.

______________________________
(1) الكافي 3: 5/ 1؛ التهذيب 1: 244- 245/ 705؛ الإستبصار 1: 44/ 124.

390
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

الرابع ماء البئر ؛ ج‌1، ص : 383

فإن قيل: وجود الكثرة كافية في ذلك، فلا فائدة للمادّة حينئذٍ.

قلنا: جاز كونهما سببين و إن اختلفا حكماً لأنّ مبنى شرعنا غالباً على اختلاف المتّفقات.

و منها: صحيحة عبد اللّه بن أبي يعفور عن الصادق عليه السلام قال‌

إذا أتيت البئر و أنت جنب و لم تجد دلواً و لا شيئاً تغترف به فتيمّم بالصعيد الطيّب؛ فإنّ ربّ الماء ربّ الصعيد، و لا تقع في البئر و لا تفسد على القوم ماءهم

«1» أوجب التيمّم بصيغة الأمر المشروط بعدم الماء الطاهر، فلا يكون الماء طاهراً على تقدير الوقوع و الاغتسال، و نهى عن الوقوع في البئر و عن إفساد الماء، و المفهوم من الإفساد النجاسة. و حمله على نجاسته بغيره بعيد لأنّ ظاهره استناد الإفساد إلى الوقوع و هو غير مغيّر لحالها. و للزوم تأخير البيان عن وقت الحاجة.

قيل: لا يتمّ الاحتجاج بهذا الحديث على النجاسة لأنّ بدن الجنب إذا كان طاهراً كما هو المفروض و المفهوم من الحديث و المعلوم من غيره، كحديث الحلبي، المتضمّن نزح سبع دلاء «2» إذ نجاسة المنيّ توجب عند القائل بالتنجيس نزح الجميع، و به صرّحوا كلّهم كيف يحكم بنجاسة البئر بملاقاته مع أنّ نجاسة بدن الجنب حكميّة وهميّة و مثلها لا تتعدّى!؟ فإنّ الجنب لو غسل في ماء قليل، لم ينجس إجماعاً، فالبئر أولى لمكان المادّة.

قلنا: هذا مجرد استبعاد، كيف لا! و قد اشتمل البئر على أحكام مختلفة و اتفاق حكم نجاسات متباينة، و من أين علم تأثير النجاسات الخاصة في الماء و غيره إلا من قِبَل الشارع؟ فلا يبعد القول بانفعال ماء البئر بذلك و إن لم نقل بانفعال المستعمل لجواز اختصاصه بالتأثّر ممّا لا يتأثّر به غيره، و الذي نجّسه بتلك الأشياء هو الذي نجّس هذا الماء بهذه الأشياء، و يؤيّده أنّ الحكم مختصّ باغتسال الجنب دون غيره ممّن يجب عليه الغسل، كالحائض.

قيل: الإفساد أعمّ من النجاسة لجواز إرادة الإفساد بثوران الحمأة «3» و الطين.

قلنا: قد ورد الإفساد في أحاديث الفريقين، فمهما اعترض أحدهما فهو جواب الآخر،

______________________________
(1) الكافي 3: 65/ 9؛ التهذيب 1: 149- 150/ 426، و 185/ 535؛ الاستبصار 1: 127- 128/ 435 باختلاف يسير.

(2) الكافي 3: 6/ 7؛ التهذيب 1: 240/ 694؛ الإستبصار 1: 34/ 92.

(3) الحمأة: الطين الأسود المنتن. لسان العرب 1: 61، «ح م أ».

391
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

الرابع ماء البئر ؛ ج‌1، ص : 383

و قد عرفت من قريب منع هذا الفريق لإرادة هذا المعنى من قوله عليه السلام: «لا يفسده شي‌ء» «1» إلى آخره، فكيف يثبته الآن على خصمه!؟

و منها: صحيحة عليّ بن يقطين، قال: سألت أبا الحسن موسى عن البئر تقع فيها الحمامة أو الدجاجة أو الفأرة أو الكلب أو الهرّة، فقال: «يجزئك أن تنزح منها دلاء، فإنّ ذلك يطهّرها إن شاء اللّه تعالى» «2» و الإجزاء ظاهر في الخروج عن عهدة الواجب، و تطهيرها بذلك يدلّ على نجاستها بدونه كما تقدّم.

قيل: يرد عليها عدم الدلالة نصّاً، فلا يعارض ما تقدّم.

قلنا: النصّ منتفٍ في الجانبين، و الظاهر موجود فيهما، فلم يبق إلا الترجيح بأمرٍ آخر، مع أنّ دعوى عدم النصّ في هذه موضع نظر.

قيل: التمسّك بظاهرها لا يستقيم لعدم استواء الكلب و الفأرة في الحكم، و ليس حملها على تفسّخ الفأرة و خروج الكلب حيّاً بأولى من حملها على التغيّر أو إرادة التنظيف.

قلنا: قد دلّت على النجاسة في الجملة، و إنّما تختلف في قدر المطهّر بسبب اختلاف أعيان النجاسة، و ذلك لا يؤثّر في أصل الدلالة.

و أمّا الاعتبار فهو أنّ البئر لو لم تنجس لم يكن للنزح فائدة، فيكون عبثاً، و التالي ظاهر البطلان لصدوره عمّن لا ينطق عن الهوى، فالمقدّم مثله، و الملازمة ظاهرة.

و أُجيب: بمنع الملازمة إذ لا يلزم من انتفاء فائدة مخصوصة انتفاؤها مطلقاً، و لا يلزم من عدم العلم بها عدمها، و من ثَمَّ قال المصنّف بالاستحباب «3»، و هو فائدة، و الشيخُ في التهذيب بأنّه تعبّد «4».

و بالجملة، فالأخبار متعارضة، و الاعتبار قائم، و باب التأويل متّسع إلا أنّه خارج عن الحقيقة غالباً، و المسألة من أشكل أبواب الفقه، غير أنّ المعتبر في المصير إلى مثل هذه الأحكام رجحان ما لأحدهما على ضدّه، و كأنّه موجود هنا في جانب النجاسة، و اللّه أعلم بحقائق أحكامه.

______________________________
(1) التهذيب 1: 234/ 676؛ الاستبصار 1: 33/ 87.

(2) التهذيب 1: 237/ 686؛ الاستبصار 1: 37/ 101.

(3) تذكرة الفقهاء 1: 27 ذيل القسم الحادي عشر من أقسام النجاسة الواقعة في البئر؛ نهاية الإحكام 1: 260.

(4) التهذيب 1: 232.

392
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

حكم النزح ؛ ج‌1، ص : 393

و اعلم أنّ ماء البئر مباين لسائر المياه في طهره أو طيبه بالنزح إجماعاً، و تساويها فيما عدا ذلك من المطهّرات، كوصول الجاري إليه، و وقوع ماء الغيث عليه، و إلقاء كُرّ فصاعداً على ما مرّ من التفصيل.

ثمّ النزح تارة يكون للجميع، و تارة يكون للبعض، بحسب اختلاف قوّة النجاسة و ضعفها، فتارة يقتصر الأئمّة عليهم السّلام على أقلّ ما يحصل به، و تارة يستظهر عن ذلك، و تارة يأمر بالأفضل، فلا ينكر الاختلاف في الأحاديث.

قال المحقّق: فانظر ما اشتهر بين الأصحاب غير مختلف فأفت به، و ما اختلف فالأقلّ مجزئ، و الأوسط مستحبّ، و الأكثر أفضل، و أسقط ما شذّ «1».

قلت: سيأتي أنّ عمل الأصحاب على الأكثر لأنّه طريق اليقين و إن كان ما ذكره المحقّق متوجّهاً.

[حكم النزح]

(و) القائلون بالنجاسة (أوجبوا نزح الجميع في) سبعة أشياء على اختلاف في بعضها:

(موت البعير) فيها، و هو من الإبل بمنزلة الإنسان، يشمل الذكر و الأُنثى، و الكبير و الصغير.

و مستنده رواية الحلبي عن الصادق عليه السّلام «2» و غيرها.

و مثله الثور و هو ذَكَر البقر لصحيحة عبد اللّه بن سنان عنهُ «و إن مات فيها ثور أو صبّ فيها خمر نزح الماء كلّه» «3».

و اكتفى ابن إدريس في الثور بكُرّ «4»، و لعلّه إلحاقاً له بالبقرة، فيجب الكرّ فيه.

و لو عكس الحكم بأن يلحقها به في نزح الجميع، كان أولى لما سيأتي من عدم النصّ فيها، و أنّ غير المنصوص ينزح له الجميع.

(و وقوع المنيّ) على المشهور، لكن لا نصّ فيه على ما ذكره جماعة، منهم: الشيخ أبو علي ابن الشيخ أبي جعفر في شرح نهاية والده «5».

______________________________
(1) المعتبر 1: 57.

(2) الكافي 3: 6/ 7؛ التهذيب 1: 240/ 694؛ الاستبصار 1: 34/ 92.

(3) التهذيب 1: 241/ 695؛ الإستبصار 1: 34- 35/ 93.

(4) السرائر 1: 72.

(5) حكاه عنه الشهيد في الذكرى 1: 93؛ و المحقّق الكركي في جامع المقاصد 1: 138.

393
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

حكم النزح ؛ ج‌1، ص : 393

و يمكن أن يكون عدم النصّ هو العلّة في نزح الجميع، لكن ذكره بين هذه المعدودات للشهرة لا لعدم النصّ لأنّ غير المنصوص سيأتي الكلام و الخلاف فيه.

و لا فرق بين منيّ الإنسان و غيره ممّا له نفس للعموم، و عدم النصّ المقتضي للتخصيص.

و قيل: المراد به منيّ الإنسان، و غيره ملحق بما لا نصّ فيه «1».

و قد عرفت أنّ النوعين من هذا الباب لولا الشهرة.

(و) وقوع (دم الحيض و الاستحاضة و النفاس) ذكر ذلك الشيخ «2»، و تبعه الأصحاب معترفين بعدم النصّ نظراً إلى أنّها كالمنيّ، و لغلظ نجاستها بوجوب إزالة قليلها و كثيرها عن الثوب و البدن، فغلظ حكمها في البئر.

و أطلق المفيد القول بأنّ الدم الكثير ينزح له عشر و القليل خمس «3»، و لم يفرّق، و كذا المرتضى «4» و ابنا بابويه «5» و إن خالفوه في المقدّر، و مال إليه المحقّق في المعتبر «6» عملًا بالأحاديث المطلقة في الدماء.

و العمل بالمشهور أحوط إن لم يناف عبادة مضيّقة بحيث يمكن الطهارة به مع نزح بعضه خاصّة، و بالإطلاق أفقه.

و لا يلحق بها دم نجس العين، كالميتة و الكلب و أخويه لبطلان القياس و إن كانت العلّة تقتضيه لكنّه شكّ في شكّ، فالأولى الاقتصار على المشهور إن لم يلحظ عموم الروايات أو إطلاقها.

(و) وقوع (المسكر) المائع بالأصالة لعدم نجاسة الجامد منه، كالحشيشة.

و لا فرق بين الخمر و غيره، و لا بين قليله و كثيره حتّى القطرة عملًا بالإطلاق، و النصّ ورد على الخمر خاصّة كما تقدّم «7» في صحيحة عبد اللّه بن سنان، و غيرها، و أُلحق به باقي‌

______________________________
(1) قال المحقّق الكركي في حاشية الإرشاد (الورقة 15): نقل الأصحاب عن أبي علي ابن الشيخ أبي جعفر أنّ المراد به منيّ الإنسان، فمنيّ غيره ممّا لا نصّ فيه.

(2) المبسوط 1: 11؛ الجُمل و العقود (ضمن الرسائل العشر): 170؛ الاقتصاد: 253.

(3) المقنعة: 67.

(4) حكاه عنه المحقّق الحلّي في المعتبر 1: 59 نقلًا عن مصباحه.

(5) الفقيه 1: 13، المقنع: 34؛ و حكاه عنهما العلامة الحلّي في مختلف الشيعة 1: 35، المسألة 15.

(6) انظر: المعتبر 1: 59.

(7) في ص 393.

394
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

حكم النزح ؛ ج‌1، ص : 393

المسكرات لعموم قول النبيّ: «كلّ مسكر خمر» «1» و قول الكاظم عليه السلام: «كلّ ما كان عاقبته عاقبة الخمر فهو خمر» «2».

و فرّق الصدوق بين القطرة من الخمر و الكثير منه، فأوجب في الأوّل عشرين دلواً «3» استناداً إلى رواية زرارة عن الباقر عليه السّلام «4».

و يعقل الفرق كما عقل في الدم إذ ليس أثر القطرة فيه كأثر ما يصبّ صبّاً؛ لشيوعه في الماء. و يؤيّده إمكان حمل المطلق على المقيّد و إن كان العمل على المشهور.

(و الفقّاع) لقول الصادق عليه السلام: «إنّه خمر مجهول» «5» فما دلّ على الخمر من الحكم كافٍ في الدلالة عليه، و سيأتي بيانه إن شاء اللّه.

و هل يلحق به العصير العنبي بعد اشتداده بالغليان؟ رجّحه الشهيد في الذكرى؛ محتجّاً بشبهه به «6».

و يشكل بأنّ مجرّد المشابهة غير كافٍ في الحكم، و إنّما الحق الفقّاع للنصّ على مساواته له بل على أنّه منه، فإلحاق غيره قياس، بل الأولى إلحاقه بما لا نصّ فيه.

(فإن تعذّر) نزح جميع الماء (لكثرته، تراوح عليه أربعة رجال) كلّ اثنين دفعة يريحان الآخَرَين، و منه أُخذ التراوح لاشتقاقه من الراحة.

و ليكن أحدهما فوق البئر يمتح «7» بالدلو و الآخر فيها يملؤه.

و لا يجزئ ما دون الأربعة لقول الصادق عليه السلام: «يقام عليها قوم يتراوحون اثنين اثنين» «8» و يجزئ ما فوقها.

و لا غير الرجال من نساء أو صبيان أو خناثى للفظ «القوم» لنصّ بعض «9» أهل اللغة على اختصاصه بهم.

______________________________
(1) الكافي 6: 408/ 3؛ التهذيب 9: 111/ 482.

(2) الكافي 6: 412/ 2؛ التهذيب 9: 112/ 486.

(3) المقنع: 29 و 31.

(4) التهذيب 1: 241/ 697؛ الاستبصار 1: 35/ 96، و فيهما عن الإمام الصادقُ.

(5) الكافي 3: 407/ 15؛ التهذيب 1: 282/ 828؛ الاستبصار 4: 96/ 373.

(6) الذكرى 1: 99.

(7) الماتح: المستقي. الصحاح 1: 403، «م ت ح».

(8) التهذيب 1: 284/ 832.

(9) كالجوهري في الصحاح 5: 2016؛ و الفيّومي في المصباح المنير: 520، «ق و م».

395
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

حكم النزح ؛ ج‌1، ص : 393

و يؤيّده قوله تعالى لٰا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ .. وَ لٰا نِسٰاءٌ «1» فإنّ العطف يقتضي المغايرة.

و اجتزأ به «2» بعض الأصحاب «3» لشمول الاسم في بعض اللغات «4».

و ليكن التراوح (يوماً) من طلوع الفجر إلى الغروب، و يجب إدخال جزءين «5» من الليل أوّلًا و آخراً من باب مقدّمة الواجب.

و لا فرق في اليوم بين الطويل و القصير للإطلاق الشامل لذلك، لكن يستحبّ تحرّي الأطول حيث لا ضرر للمبالغة في التطهير.

و لا يجزئ الليل و لا الملفّق منه و من النهار و إن زاد عن مقدار يومٍ طويل اقتصاراً على مورد النصّ «6». و لما يعتري في الليل من الفتور عن العمل. و لأنّ الغالب على حكم البئر جانب التعبّد.

و يستثنى لهم الصلاة جماعةً، و يقتصرون على الواجب و الندب المعتاد.

قيل: و الأكل كذلك لأنّه مستثنى عرفاً «7».

و الأولى تركه لإمكان حصوله حال الراحة لأنّه من تتمّتها، بخلاف الصلاة التي لا تتمّ فضيلتها الخاصّة إلا به.

و يجب تقديم التأهّب للنزح بتحصيل الآلة و السعي إليه قبل الجزء المجعول مقدّمةً للواجب لظاهر قوله عليه السلام: «ينزفون يوماً إلى الليل» «8» مع احتمال إلحاق مقدّماته به.

(و) أوجبوا (نزح كُرّ في موت الحمار) و كذا البغل لرواية عمرو بن سعيد عن الباقر «9» عليه السّلام. و ضعفها منجبر بالشهرة و عمل الأصحاب.

(و) كذا (البقرة و شبهها) من الدوابّ كالفرس.

______________________________
(1) الحجرات (49): 11.

(2) أي: بغير الرجال.

(3) كما في جامع المقاصد 1: 139؛ و انظر: تذكرة الفقهاء 1: 128، الفرع الرابع.

(4) لسان العرب 12: 505؛ القاموس المحيط 4: 169- 170، «ق و م».

(5) في هامش الطبعة الحجريّة نسخة بدل: «جزء».

(6) التهذيب 1: 284/ 832.

(7) قال به الشهيد في الذكرى 1: 90؛ و كذا المحقّق الكركي في جامع المقاصد 1: 139.

(8) التهذيب 1: 284/ 832.

(9) التهذيب 1: 235/ 679؛ الاستبصار 1: 34/ 91.

396
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

حكم النزح ؛ ج‌1، ص : 393

و المستند هنا الشهرة إذ البقرة و شبهها ممّا لا نصّ فيه، كما اختاره في المعتبر مطالباً لموجب الكُرّ بالدليل.

قال: فإن قالوا: هي مثل الحمار و البغل في العظم، طالبناهم بدليل التخطي إلى المماثل من أين عرفوه؟ و لو ساغ البناء على المماثلة في العظم، لكانت البقرة كالثور، و الجاموس كالجمل، فالأوجَه حينئذٍ أن يجعل الفرس و البقرة في قسم ما لا يتناوله نصّ على الخصوص «1».

(و نزح سبعين دلواً من دلاء العادة) على تلك البئر لعدم انضباط العادة مطلقاً.

و لو اعتاد قوم على بئر آنية فخار و نحوها، ففي الاكتفاء بها نظر: من قيامها مقام الدلو و به قطع بعض «2» المعاصرين و من عدم تسميتها «3» دلواً.

و لو اختلف المعتاد، فالأغلب. فإن تساوت، فالأصغر مجزئ و الأكبر أفضل.

و لو لم يكن لها دلو معتاد أصلًا، قيل: أجزأ أقلّ ما يعتاده الإنسان «4».

و قيل: المراد بها ابتداءً الدلو الهجريّة «5» وزنها ثلاثون رطلًا «6». و قيل: أربعون «7».

و ذلك كلّه (في موت الإنسان) في ماء البئر.

و لا فرق بين الذكر و الأُنثى و الصغير و الكبير لشمول الإنسان للجميع.

و لو وقع ميّتاً، فكذلك، فلو قال: لمباشرة ميّت الإنسان أو لوقوعه، كان أشمل.

و يشترط كون الميّت نجساً، فلو طهر بالغسل أو لم يجب غسله، لم يجب النزح، بخلاف المُيَمّم و لو عن بعض الغسلات، و مَنْ غُسّل فاسداً و نحوهما.

و هل يفرق بين المسلم و الكافر؟ المشهور: العدم لأنّ الإنسان جنس معرّف باللام، و ليس هناك معهود، فيكون اللام معرّفاً للجنس، فيوجد الحكم بوجود الجنس أين كان، و جنس الإنسان ثابت للكافر، فيكون الحكم متناولًا له عملًا بالإطلاق.

______________________________
(1) المعتبر 1: 61 و 62.

(2) لم نتحقّقه.

(3) في «ق، م» و الطبعة الحجريّة: «تسميته». و ما أثبتناه لأجل السياق.

(4) لم نعثر على القائل بذلك في المصادر المتوفّرة لدينا.

(5) الهجريّة نسبة إلى هجر، و هي قرية قرب المدينة. معجم البلدان 5: 393.

(6) كما في الدروس 1: 121؛ و الذكرى 1: 94، و جامع المقاصد 1: 146.

(7) القائل بذلك: هو الجعفي، كما في الذكرى 1: 94.

397
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

حكم النزح ؛ ج‌1، ص : 393

و شرط أبو عليّ و ابن إدريس الإسلام، و أوجبا «1» لموت الكافر الجميع «2»، بناءً على وجوبه بملاقاته حيّاً إذ لا نصّ فيه، و حال الموت أشدّ نجاسةً لأنّه ينجّس الطاهر و يزيد النجس نجاسةً.

و أُجيب: بأنّه استدلال في مقابلة النصّ لأنّ مورد وجوب السبعين موت الإنسان مطلقاً أعمّ من المسلم و الكافر، و وجوب الجميع فيما لا نصّ فيه بخصوصه غير منصوص عليه، فلا يجوز معارضته المنصوص عليه.

و نمنع زيادة نجاسته بعد الموت؛ فإنّ نجاسته حيّاً إنّما كانت بسبب اعتقاده، و هو منفيّ بعد الموت «3».

و فيهما منع لعدم المعارضة بين المنصوص و مدّعى ابن إدريس إذ النصّ إنّما أوجب نزح السبعين بعد الموت «4»، و مجرّد وقوع الكافر في الماء إذا كانت نجاسته ممّا لا نصّ فيه أوجب نزح الجميع، فهذا الحكم ثابت له قبل الموت، فما الذي طهّر الماء بعده و اكتفى بنزح سبعين؟

و التحقيق مع ذلك أنّا إن حكمنا بنزح الجميع لما لا نصّ فيه، فلا بدّ من القول بنزحه هنا لثبوته قبل الموت الذي هو مورد النصّ عندهم. و إن اكتفينا فيه بنزح ثلاثين أو أربعين، فإن حكمنا بالتداخل مع تعدّد النجاسة و لو مختلفة، كفت السبعون، و إلا وجب لكلّ مقدّرة.

و أمّا منع زيادة نجاسته بعد الموت بزوال الاعتقاد الذي هو سبب النجاسة ففيه منع لأنّ أحكام الكفر باقية بعد الموت، و من ثَمَّ لا يغسّل و لا يدفن في مقابر المسلمين، فكلام ابن إدريس أوجَه.

نعم، لو وقع في الماء ميّتاً، اتّجه ما قالوه و دخل في العموم.

و اعلم أنّ الحديث الدالّ على حكم الإنسان في رجاله جماعة من الفطحيّة، لكنّهم ثقات مع سلامته من المعارض و انجباره بعمل الأصحاب عملًا ظاهراً، و ذلك يخرجه إلى كونه حجّة، كما ذكره الأصحاب، فلا يمكن العدول عنه.

______________________________
(1) في «ق، م» و الطبعة الحجريّة: «أوجبوا». و ما أثبتناه يقتضيه السياق.

(2) السرائر 1: 72- 73؛ و حكاه عن أبي علي الشهيدُ في الذكرى 1: 94.

(3) المجيب للقسم الأوّل من الجواب هو المحقّق الكركي في جامع المقاصد 1: 146؛ و للقسم الأخير منه العلامةُ الحلّي في مختلف الشيعة 1: 32، المسألة 12.

(4) التهذيب 1: 234 235/ 678.

398
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

حكم النزح ؛ ج‌1، ص : 393

قال المحقّق في المعتبر بعد ذكر نحو ذلك: و لو عدل إلى غيره، لكان عدولًا عن المجمع على الطهارة به إلى الشاذّ، و هو باطل لخبر عمر بن حنظلة، المتضمّن لقوله عليه السلام: «خُذ ما اجتمع عليه أصحابك، و اترك الشاذّ الذي ليس بمشهور» «1»- «2».

(و خمسين) دلواً (للعذرة الذائبة) و هي فضلة الإنسان.

قال الشهيد: سُمّيت بذلك لأنّهم كانوا يلقونها في العذرات، أي الأفنية «3».

و الموجود في اللغة ضدّ ذلك.

قال في الصحاح: العذرة: فناء الدار، سُميّت بذلك لأنّ العذرة كانت تلقى في الأفنية «4».

و على كلّ حال فلا فرق بين فضلة المسلم و الكافر هنا، مع احتماله لزيادة النجاسة بمجاورته. و في فضلة غيرهما ممّا لا يؤكل لحمه احتمال.

و المستند ما رواه أبو بصير عن أبي عبد اللّهُ في العذرة تقع في البئر «ينزح منها عشر دلاء، فإن ذابت فأربعون أو خمسون» «5».

و إنّما حكم الأصحاب بالأكثر لأنّه طريق إلى اليقين و الخروج من العهدة كذلك.

و ما ذكره المحقّق من التخيير بين الأقلّ و الأكثر «6» مع أفضليّة الأكثر متوجّه.

و المراد بالذوبان تفرّق الأجزاء و شيوعها في الماء بحيث يستهلكها.

و هل يشترط ذوبان جميعها أو يكفي بعضها؟ يحتمل الأوّل لأنّه المفهوم من إسناده إليها. و الثاني لعدم الفرق بين قليلها و كثيرها، فيكفي ذوبان البعض، كما لو لم يسقط غيره و ذاب، فإنّه كافٍ قطعاً.

و ألحق المصنّف بالذائبة الرطبةَ «7»، و في بعض كتبه «8» أبدلها بها، تبعاً للشيخ‌

______________________________
(1) الكافي 1: 67 68 (كتاب فضل العلم، باب اختلاف الحديث) الحديث 10.

(2) المعتبر 1: 62.

(3) الذكرى 1: 100.

(4) الصحاح 2: 738، «ع ذ ر».

(5) التهذيب 1: 244/ 702؛ الاستبصار 1: 41 42/ 116.

(6) المعتبر 1: 6564.

(7) تحرير الأحكام 1: 4.

(8) منها: قواعد الأحكام 1: 6؛ و منتهى المطلب 1: 79؛ و نهاية الإحكام 1: 259.

399
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

حكم النزح ؛ ج‌1، ص : 393

في المبسوط «1».

و لا نصّ على الرطبة على الخصوص، و أنكرها المحقّق في المعتبر لعدم وقوفه على شاهد «2».

و لعلّ المعنى المعتبر في الذوبان يحصل في الرطبة غالباً، و هو يؤيّد الاكتفاء بذوبان البعض لحصوله في الرطبة بمجرّد الوصول.

(و الدم الكثير غير الدماء الثلاثة كدم الشاة المذبوحة) على المشهور.

قال المصنّف في المختلف: لم أقف في هذا التقدير على حديثٍ مرويّ «3».

و الموجود في حسنة عليّ بن جعفر عن أخيه موسى في رجل ذبح شاة فوقعت في بئر ماء و أوداجها تشخب دماً، قال: «ينزح منها ما بين الثلاثين إلى الأربعين دلواً» «4».

و أفتى و حَكَم بموجبها الصدوق «5»، و مال إليه في المعتبر «6»، و حسّنه في الذكرى «7»، و هو الوجه، لكنّ العمل بالمشهور طريق اليقين.

و إطلاق الدم مع استثناء الثلاثة يشمل دم نجس العين، و لا بُعد فيه بعد النصّ و اشتمال البئر على جمع المختلفات، مع احتمال الفرق و إلحاقه بالدماء الثلاثة أو بما لا نصّ فيه لغلظ نجاسته، و من ثَمَّ لم يُعفَ عن قليله في الصلاة، كالدماء الثلاثة، لكنّ العمل بالإطلاق أنسب بأحكام البئر لعدم قدح هذه الاحتمالات فيها.

و الاعتبار في كثرة الدم و قلّته بالنسبة إلى نفسه عرفاً.

و قال القطب الراوندي و هو الذي نقله القطب الرازي «8» عن المصنّف أيضاً: إنّ الاعتبار فيهما بالنسبة إلى ماء البئر لاختلافه في الغزارة و النزارة «9»، فربما كان دم الطير‌

______________________________
(1) المبسوط 1: 12.

(2) المعتبر 1: 65.

(3) مختلف الشيعة 1: 35، المسألة 15.

(4) الكافي 3: 6/ 8؛ الفقيه 1: 15/ 29؛ التهذيب 1: 409/ 1288؛ الاستبصار 1: 44/ 123.

(5) الفقيه 1: 15/ 29.

(6) المعتبر 1: 65.

(7) الذكرى 1: 94.

(8) كما في مفتاح الكرامة أيضاً 1: 111.

(9) حكاه عنه السيوري في التنقيح الرائع 1: 51.

400
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

حكم النزح ؛ ج‌1، ص : 393

كثيراً في بئرٍ يسيراً في أُخرى.

و ليس ببعيد لظهور التأثير باختلافهما. و لأنّهما إضافيّان، فجاز اعتبارهما بالإضافة إلى المحلّ المنفعل عنهما.

(و) نزح (أربعين) دلواً (في موت السنّور) في البئر (و الكلب و الخنزير و الثعلب و الأرنب) على المشهور.

و رواه علي بن أبي حمزة عن الصادق عليه السلام، قال: سألته عن السنّور، فقال: «أربعون دلواً و للكلب و شبهه» «1» و المراد بشبه الكلب الخنزيرُ و الغزال و ما ذُكر.

و يشمل السنّور أهليّة و وحشيّه للمشابهة، و الكلب و الخنزير البرّيّ و البحريّ؛ للمماثلة أيضاً.

و رجّح المحقّق الشيخ عليّ في أكثر فتاويه وجوب أكثر الأمرين من الأربعين و مقدّر ما لا نصّ فيه للخنزير إذا وقع حيّاً ثمَّ مات، و احتمالَ التضاعف بناءً على عدم النصّ على نجاسته لو وقع حيّاً، و احتمالَ التضاعف في الكلب إذا وقع حيّاً فمات لوجود النصّ على نجاسته حيّاً «2».

و هذا إنّما يتمّ لو كان التقدير بالأربعين في وقوعهما ميّتين، أمّا مع الإطلاق أو إرادة موتهما في الماء فلا للحكم بتداخل النجاستين.

(و) في (بول الرجل) في المشهور، رواه عليّ بن أبي حمزة أيضاً عن الصادق عليه السّلام «3» و فيه روايات أُخرى شاذّة.

و ضَعف عليّ بن أبي حمزة بالوقف منجبر بالشهرة و عمل الأصحاب.

و في المعتبر أنّ تغيّره إنّما كان في زمن «4» موسى، فلا يقدح فيما قبله «5».

و فيه نظر إذ لا يتمّ ذلك إلا مع تحقّق الرواية عنه فيما قبله، لا إذا أسندها إلى ما قبله لجواز إسناده إلى الصادق عليه السلام في زمن الوقف، و أين التأريخ الذي دلّ على تقدّم الرواية؟

______________________________
(1) التهذيب 1: 235 236/ 680؛ الاستبصار 1: 36/ 97.

(2) انظر: جامع المقاصد 1: 141.

(3) التهذيب 1: 343/ 700؛ الإستبصار 1: 34/ 90.

(4) في المصدر: «موت» بدل «زمن».

(5) المعتبر 1: 68.

401
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

حكم النزح ؛ ج‌1، ص : 393

و مجرّد الاشتباه كافٍ في الطعن، فالأولى التعليل بالشهرة، و العمل بمضمونها، كما قد أكثر مَنْ ذكره في كتابه هذا.

و لا فرق بين بول المسلم و الكافر لشمول الرجل لهما.

و أمّا بول المرأة فالمشهور عدم لحوقه به اقتصاراً على موضع النصّ، خلافاً لابن إدريس، محتجّاً بدخولها في لفظ الإنسان «1».

و نحن نسلّم ذلك، لكن نطالبه أين وجد الأربعين معلّقة على بول الإنسان؟ فكأنّه و هم.

و ما الذي يجب له؟ قيل: موجب ما لا نصّ فيه «2». و اختاره الشهيد «3» و جماعة.

و قيل: ثلاثون «4» لرواية كردويه، قال: سألت أبا الحسن عليه السلام عن البئر يقع فيها قطرة دم أو نبيذ مسكر أو بول أو خمر، قال: «ينزح منها ثلاثون دلواً» «5» فإنّ لفظ البول مطلق يشمل المرأة و غيرها، لكن خرج منها بول الرجل و الرضيع و الصبي بنصٍ خاصّ، فيبقى الباقي، و هو خيرة المعتبر «6».

و لا فرق بين الكبيرة و الصغيرة على الأقوال الثلاثة، و كذا لا فرق بين المسلمة و الكافرة.

و أمّا بول الخنثى فأطلق جماعة «7» إلحاقه بما لا نصّ فيه للشكّ في الذكورة.

و لم يذكره المحقّق و ابن إدريس حيث ذكرا المرأة، و دليلهما يشملهما، فالأقوال يشملها لزوماً.

و لو قيل بوجوب أكثر الأمرين من الأربعين و موجب ما لا نصّ فيه كما اختاره بعض «8» الأصحاب كان حسناً أخذاً بالمتيقّن.

(و) في (وقوع نجاسة لم يرد فيها نصّ) نقليّ و لو بعمومه أو إطلاقه، كالإنسان في شموله للمسلم و الكافر.

______________________________
(1) السرائر 1: 78.

(2) قال به المحقّق الكركي في جامع المقاصد 1: 142.

(3) الذكرى 1: 100.

(4) لم نعثر على القائل بذلك في حدود المصادر المتوفّرة لدينا.

(5) التهذيب 1: 241- 242/ 698؛ الاستبصار 1: 35/ 95، و 45/ 125.

(6) المعتبر 1: 68.

(7) منهم: الشهيد في الذكرى 1: 100.

(8) لم نتحقّقه.

402
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

حكم النزح ؛ ج‌1، ص : 393

و ما ذكره الشهيد رحمه اللّه في الشرح من تعريف النصّ ب‍ «أنّه القول أو الفعل الصادر عن المعصوم، الراجح المانع من النقيض، و غير المنصوص بخلافه» «1» لا يطابق ما ذكره الأصحاب في بعض موارده، فإنّهم جعلوا من المنصوص الإنسانَ، و أدخلوا الكافرَ فيه، كما بيّنّاه في محلّه، مع أنّ تناول الإنسان له إنّما هو لكونه من جملة أفراد الكلّيّ، و دلالة الكلّيّ على أفراده ليس نصّاً بهذا التفسير، بل ظاهراً. و على هذا التعريف يكون الإنسان ممّا لا نصّ فيه.

و مثله القول في وقوع الكلب بالنسبة إلى أصنافه، كالسلوقي و غيره، حتى أنّ المصنّف ذكر في جملة المنصوص بول و روث ما لا يؤكل لحمه محتجّاً عليه بحديث كردويه، المشتمل على نزول أرواث الدوابّ و أبوالها «2»- «3»، و أين دلالة لفظ الدوابّ على ما لا يؤكل لحمه بالنصّ المذكور في التعريف؟ و إدخال «4» الفعل و المعصوم في التعريف اصطلاح خاصّ لمناسبته هذه المسألة، و إلا فالتعريف المشهور للنصّ: «إنّه اللفظ الدالّ على المعنى دلالة راجحة مانعة من احتمال غيره».

و بالجملة، فإدخال العامّ و أفراده و أفراد المطلق في المنصوص بهذا المعنى أيضاً لا يخلو من إشكال لأنّ دلالة العامّ على مجموع أفراده من حيث مجموعها ظاهر لا نصّ لاحتماله التخصيص احتمالًا راجحاً إذ من المشهور قولهم: «ما من عامّ إلا و قد خُصّ» و كذا دلالته بالنسبة إلى كلّ فردٍ على التعيين لإمكان عدم إرادته. و المطلق يدلّ على الماهيّة من حيث هي هي، فلا يدلّ على شي‌ء من أفراد الماهيّة إلا ظاهراً، فإن اعتبر هذا المعنى، لم يتمّ كثير ممّا ادّعي كونه منصوصاً.

و الأولى أن يراد به هنا ما كانت دلالته ظاهرةً و إن لم تكن قطعيّةً. و هذا المعنى للنصّ يوجد في بعض الموارد، و كلامهم هذا يدلّ عليه.

إذا تقرّر ذلك، فما اختاره المصنّف من وجوب أربعين دلواً لما لا نصّ فيه ليس له دليل مدّعى إلا ما نُقل عن الشيخ في المبسوط، حيث احتمل الأربعين بقوله: إنّهم عليهم السّلام قالوا:

______________________________
(1) غاية المراد 1: 73.

(2) الفقيه 1: 16/ 35؛ التهذيب 1: 413/ 1300؛ الاستبصار 1: 43/ 120.

(3) مختلف الشيعة 1: 3029، المسألة 9.

(4) في «ق، م»: «إدخاله».

403
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

حكم النزح ؛ ج‌1، ص : 393

«ينزح منها أربعون و إن كانت مبخرة» «1».

و هذه الحجّة منظور فيها من حيث عدم العلم بإسناد الحديث، و عدم وجوده في شي‌ء من أُصوله فضلًا عن سنده حتى نشأ منه عدم العلم بصدره المتضمّن لبيان متعلّق الأربعين.

و ربما قال بعض «2» الأصحاب: إنّ الشيخ رحمه اللّه حجّة ثَبت، فإرساله غير ضائر لأنّ مثل الشيخ لا يُرسل إلا عمّن علمه ثقة خصوصاً و ليس هناك نصّ آخر يدفعه، و الظاهر من احتجاجه به دلالة صدره المحذوف على محلّ النزاع.

و فيه نظر:

أمّا أوّلًا: فلأنّ الشيخ لم يُفت بمضمونه و إنّما أوجب في المبسوط نزح الجميع و جَعَل نزح أربعين احتمالًا «3»، و الخبر المرسل و إن لم يكن حجّةً لكن لا أقلّ من إفادته الاحتمال، و هو دليل على عدم تحقّقه له، و إلا لما عدل عن مدلوله.

و أمّا ثانياً: فلأنّ مراسيله لو وثق بها و عمل عليها لمكان قدره و عظم شأنه و ثَبته، لزم العمل بجميع المراسل لأنّ كتبه في الحديث قد صارت أُصول حديث الأصحاب، و اشتملت على ما في غيرها من حديث الفقه غالباً و زيادة مع ذكر بعض أسانيد بعضها و ذكر متونها، و لم يجوّز أحد من الأصحاب العمل بها لمكان شرف مرسلها، فكيف يسوغ العمل بحديثٍ لم يتحقّق متنه و لا إسناده، و يجعل مؤسّساً لحكمٍ شرعيّ!؟

و أمّا ثالثاً: فلأنّ صدره المحذوف و إن كان احتجاجه به يثير الظنّ بكونه دالا على محلّ النزاع، لكن ذلك غير كافٍ لنا في العمل بمقتضاه، لعدم اطّلاعنا عليه و إن كان للشيخ رحمه اللّه في ذلك فرض آخر.

و استدلّ المصنّف في النهاية للأربعين برواية كردويه «4». و هو عجيب، و ستقف عليها عن قريب.

(و قيل): يجب نزح (الجميع) «5» لكونه ماءً حُكم بنجاسته يقيناً، فالقطع بطهارته‌

______________________________
(1) المبسوط 1: 12.

(2) في هامش «ق»: هو الشيخ عليّ رحمه اللّه في حاشية التحرير.

(3) المبسوط 1: 12.

(4) نهاية الإحكام 1: 260.

(5) قال به القاضي ابن البرّاج في المهذّب 1: 21؛ و السيّد ابن زهرة في الغنية: 48؛ و ابن إدريس في السرائر 1: 72 و 81.

404
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

حكم النزح ؛ ج‌1، ص : 393

يتوقّف على نزح الجميع لأنّ نزح البعض دون البعض الآخر ترجيح من غير مرجّح.

و الحكم به في مواضع مخصوصة لنصّ خاصّ على خلاف الأصل لا يقتضي مثله في غير المنصوص لعدم وجود دليلٍ نقليّ عليه على الخصوص حتّى لو ورد ذلك لم تكن المسألة لصيرورتها حينئذٍ منصوصةً، غايتها الإتيان بلفظٍ عامّ يشمل «1» الجميع، أومأ شاكله.

و ذهب بعض «2» الأصحاب إلى نزح ثلاثين، و نفى عنه الشهيد في الشرح البأسَ «3».

و في المختلف: النقل الذي ادّعاه الشيخ لم يصل إلينا، و إنّما الذي بلغنا في الباب حديث واحد، و عنى به حديث كردويه: أنّه سأل أبا الحسن عليه السلام عن بئر يدخلها ماء المطر فيه البول و العذرة و خُرء الكلاب، قال «ينزح منها ثلاثون دلواً و إن كانت مبخرةً» «4» و معناها المنتنة، و روى بفتح الميم و الخاء، و معناها موضع النتن.

قال: و مع ذلك فكردويه لا أعرف حاله، فإن كان ثقةً، فالحديث صحيح «5».

و في الاستدلال بهذا الحديث على المطلوب نظر إذ لا دلالة له على تقدير صحّته على ما نحن فيه، فإنّ مورده نجاسة مخصوصة، و إذا ثبت صارت منصوصةً، و الكلام في نجاسةٍ غير منصوصة مطلقاً.

و فيه إشكال من وجه آخر، و هو: أنّ جملة «إن» الوصليّة فيه تدلّ على مساواة حكم التغيّر بتلك النجاسات لغيره. و سيأتي فيه إشكال آخر إن شاء اللّه تعالى.

قال في المعتبر: و يمكن أن يقال فيه وجه آخر، و هو: أنّ كلّ ما لم يقدّر له منزوح لا يجب فيه نزح عملًا برواية معاوية، المتضمّنة قول أبي عبد اللّهُ: «لا يغسل الثوب و لا تعاد الصلاة ممّا يقع في البئر إلا أن ينتن» «6» و رواية ابن بزيع «إنّ ماء البئر واسع لا يفسده شي‌ء إلا أن يتغيّر» «7» و هذا يدلّ بالعموم، فيخرج منه ما دلّت عليه النصوص بمنطوقها‌

______________________________
(1) في «ق، م»: «ليشمل».

(2) هو السيّد الفقيه جمال الدين أبو الفضائل أحمد بن طاوُس في كتاب البُشرى كما في غاية المراد 1: 78.

(3) غاية المراد 1: 78.

(4) التهذيب 1: 413/ 1300؛ الاستبصار 1: 43/ 120.

(5) مختلف الشيعة 1: 51، المسألة 26.

(6) التهذيب 1: 232/ 670؛ الاستبصار 1: 3130/ 80.

(7) التهذيب 1: 234/ 676.

405
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

حكم النزح ؛ ج‌1، ص : 393

أو فحواها، و يبقى الباقي داخلًا تحت هذا العموم.

قال: و هذا يتمّ لو قلنا: إنّ النزح للتعبّد لا للتطهير، أمّا إذا لم نقل ذلك، فالأولى نزح مائها أجمع «1». انتهى.

و قد تلخّص من جميع ذلك أنّ المصير إلى القول بنزح الجميع لازم عند القائل بالنجاسة لأنّ كلّ حديث يحتجّ به على المطلوب فإنّ نجاسته منصوصة، و ينعكس إلى قولنا: كلّ نجاسة ليست منصوصةً لم تدلّ عليها الأخبار، فيستصحب حكم النجاسة إلى أن يثبت المزيل، و لا ثبوت إلا بنزح الجميع.

(و ثلاثين في وقوع ماء المطر مخالطاً للبول و العذرة و خُرء الكلاب) لرواية كردويه، المتقدّمة «2».

و لو خالط ماء المطر أحدها، كفت الثلاثون لمفهوم الموافقة.

هذا إن لم يكن له مقدّر أو كان و هو أكثر، أمّا لو كان أقلّ كبول الرضيع، الداخل في إطلاق البول أو عمومه فالظاهر الاكتفاء به لأنّ مصاحبته لماء المطر إن لم تضعف حكمه كما هو الظاهر فلا تزيده.

و الشهيد رحمه اللّه أطلق القول بأنّ حكم بعضها كالكلّ «3». و بعض «4» الأصحاب خصّ الثلاثين بالجميع. و ما ذكرناه من التفصيل أجود.

و أُورد على أصل الحكم إشكال هو «5»: أنّ العذرة وحدها يجب لها خمسون، فإذا انضمّ إليها غيرها، زادها نجاسةً، فكيف يجتزأ بالثلاثين!؟ فاللازم إمّا عدم إجزاء الثلاثين، أو عدم وجود الخمسين.

و أيضاً فإنّ ترك الاستفصال عن النجاسات المذكورة يقتضي المساواة في الحكم بين جميع محتملاتها، فيستوي حال العذرة رطبةً و يابسةً و حال البول إذا كان بول رجل أو رضيع أو امرأة أو خنثى، و قد قال بعضهم: إنّ خُرء الكلاب ممّا لا نصّ فيه، و ذهب‌

______________________________
(1) المعتبر 1: 78.

(2) في ص 405.

(3) البيان: 100.

(4) كالمحقّق الحليّ في شرائع الإسلام 1: 6؛ و العِمة الحليّ في تذكرة الفقهاء 1: 26.

(5) في «م»: «و هو».

406
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

حكم النزح ؛ ج‌1، ص : 393

المصنّف في المختلف إلى أنّ بول و روث ما لا يؤكل لحمه ممّا لا نصّ فيه.

و لو حمل الإطلاق على نجاسات مخصوصة، أشكل الحال من وجه آخر عند القائل بتضاعف النزح مع اختلاف النجاسات «1».

و أجاب المحقّق الشيخ عليّ عن ذلك بأنّ موضوع الرواية ماء المطر المخالط لهذه النجاسات، و ليس فيها أنّ أعيانها موجودة، فيمكن تنزيلها على ماء المطر المخالط لهذه النجاسات مع استهلاك أعيانها إذ لا بُعد في أن يكون ماء النجاسة أخفّ منها، خلافاً للقطب الراوندي.

قال: و هذا الحمل و إن كان خلاف الظاهر إلا أنّا صِرنا إليه جمعاً بين الأخبار «2».

أقول: إنّك إذا تأمّلت ما ينفعل عنه البئر و ما تطهر به تجدها قد جمعت بين المتباينات، كتساوي الهرّ و الخنزير، و فرّقت بين المتماثلات، كاختلاف منزوح موت الكلب و الكافر و غير ذلك، فلا تستبعد حينئذٍ أن ينزح لهذه الأشياء المخالطة لماء المطر مع انفرادها عنه أكثر ممّا يُنزح لها مع سقوطها في البئر مصاحبةً له، فتصير مصاحبتها لماء المطر مضعّفاً لنجاستها و مخفّفاً لها، و هو أولى من تقييد المطلق، و الحال في البئر ما ذكرناه، بل مقتضى لفظ الحديث في كون هذه الأشياء في الماء كون أعيانها فيه.

ثمّ لو كان الحكم في ماء المطر المتنجّس بهذه الأشياء من غير أن تكون أعيانها موجودةً، لم يبق فرق بين ماء المطر و غيره، فالأولى الانقياد لما تناولته الرواية بإطلاقها من كون الماء ماءَ مطر و مصاحباً لهذه الأشياء، سواء كانت أعيانها موجودةً أم لا.

(و) نزح (عشر) دلاء (في) وقوع (العذرة اليابسة) و المراد بها غير الذائبة؛ لقول الصادق عليه السلام في خبر أبي بصير في العذرة تقع في البئر: «ينزح منها عشر دلاء، فإن ذابت فأربعون أو خمسون» «3» و قد تقدّم «4» ما المراد من العذرة.

(و) كذا في (الدم القليل غير) الدماء (الثلاثة، كذبح الطير و الرعاف اليسير) لرواية عليّ بن جعفر عن أخيه موسى عليه السّلام حيث سأله عن رجل ذبح دجاجة أو حمامة فوقع في بئر‌

______________________________
(1) تعرّض للإشكال من قوله: و أيضاً فإنّ ترك الاستفصال، إلى آخره المحقّق الكركي في جامع المقاصد 1: 142.

(2) جامع المقاصد 1: 142 و فيه إلى قوله: أخفّ منها.

(3) التهذيب 1: 244/ 702؛ الإستبصار 1: 41- 42/ 116.

(4) في ص 399.

407
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

حكم النزح ؛ ج‌1، ص : 393

هل يصلح أن يتوضّأ منها؟ قال: «ينزح منها دلاء يسيرة» «1».

و قول الرضا عليه السلام في قطرات الدم: «دلاء» «2».

قال الشيخ في التهذيب: و أكثر عدد يضاف إلى هذا الجمع عشرة، فيجب أن يؤخذ به إذ لا دليل على ما دونه «3».

و اعترضه في المعتبر بأنّ ذلك إنّما يكون مع الإضافة، أمّا مع تجريده عنها فلا؛ إذ لا يعلم من قوله: عندي دراهم، أنّه لم يخبر عن زيادة عن عشرة، و لا إذا قال: أعطه دراهم «4».

و أجاب المصنّف في المنتهي بأنّ الإضافة هنا و إن لم تجر لفظاً لكنّها مقدّرة و إلا لزم تأخير البيان عن وقت الحاجة، و لا بدّ من إضمار عدد يضاف إليه تقديراً، فيحمل على العشرة التي هي أقلّ ما يصلح إضافته لهذا الجمع أخذاً بالمتيقّن، و حوالة على الأصل من براءة الذمّة «5».

و فيه نظر إذ لا يلزم من عدم تقدير الإضافة هنا تأخير البيان عن وقت الحاجة، و إنّما يلزم ذلك لو لم يكن له معنى بدون هذا التقدير و الحال أنّ له معنىً كسائر أمثاله من صيغ الجموع، و لو سُلّم وجوب التقدير، لم تتعيّن العشرة.

و في قوله: «إنّ أقلّ ما يصلح إضافته لهذا الجمع عشرة» منع، و إنّما أقلّه ثلاثة، فيحمل عليها لأصالة البراءة من الزائد، و هو خلاف المدّعى، و سيأتي «6» في كلام المحقّق اختيار دلالته على ثلاثة.

قال المصنّف في المختلف: و يمكن أن يحتجّ به من وجه آخر، و هو أنّ هذا جمع كثرة، و أقلّه ما زاد على العشرة بواحد [فيحمل] «7» عليه عملًا بالبراءة الأصليّة «8».

و أنت خبير بأنّ هذا الدليل لا ينطبق على الدعوى لاستلزامه وجوب أحد عشر، و المدّعى الاكتفاء بعشرة.

______________________________
(1) الكافي 3: 6/ 8؛ التهذيب 1: 409/ 1288؛ الإستبصار 1: 44/ 123.

(2) الكافي 3: 5/ 1؛ التهذيب 1: 244- 245/ 705؛ الاستبصار 1: 44/ 124.

(3) التهذيب 1: 245 ذيل الحديث 705.

(4) المعتبر 1: 66.

(5) منتهى المطلب 1: 81.

(6) في ص 414.

(7) بدل ما بين المعقوفين في «ق، م» و الطبعة الحجريّة: «حُمل». و ما أثبتناه من المصدر.

(8) مختلف الشيعة 1: 36، المسألة 15.

408
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

حكم النزح ؛ ج‌1، ص : 393

و في المنتهي ذكر أنّه جمع كثرة، و قال: فيحمل على أقلّها و هو العشرة «1».

و فيه أيضاً نظر لأنّ أقلّ مراتب جمع الكثرة ما زاد على مراتب جمع القلّة بواحد، كما نصّ عليه أهل العربيّة و اعترف به المصنّف في المختلف «2»، فلا تتمّ العشرة، فتأمّل هذه الاختلافات الغريبة الواقعة بينهم، بل بين الواحد و نفسه.

(و سبع في موت الطير، كالحمامة) في طرف الصغر (و النعامة) في طرف الكبر (و ما بينهما).

و مستنده مع الشهرة رواية عليّ بن أبي حمزة عن الصادق عليه السّلام «3».

و فُسّر الطير بالحمامة و النعامة و ما بينهما، و أُورد على العبارة أنّ التشبيه يقتضي صدق الطير على غير ما ذُكر «4» لوجوب المغايرة بين المشبّه و المشبّه به و لو بالجزئيّة و الكلّيّة و الحال أنّه محصور فيما ذُكر.

و يمكن الجواب بمنع حصره فيما ذُكر لأنّ الطير المساوي للحمامة و النعامة في الحجم تقريباً خارج عنهما و عمّا بينهما مع دخوله في الطير، فباعتباره يصحّ التشبيه.

(و) كذا في (الفأرة إذا تفسّخت) أي تقطّعت أجزاؤها و تفرّقت لقول الصادق عليه السلام في رواية أبي سعيد المكاري: «إذا وقعت الفأرة في البئر فتفسّخت فانزح منها سبع دلاء» «5».

و في رواية عنهُ إطلاق السبع في الفأرة «6»، و في أُخرى إطلاق ثلاث «7».

و طريق الجمع: حملُ الاولى على التفسّخ، و الثانية على عدمه بقرينة خبر أبي سعيد.

و ضعفه لا يمنع من العمل على هذا الوجه لأنّه كالأمارة الدالّة على الفرق و إن لم يكن حجّةً في نفسه.

(أو انتفخت) إلحاقاً بالتفسّخ، و لا نصّ عليه بالخصوص، لكن ذكره المفيد «8»،

______________________________
(1) منتهى المطلب 1: 81.

(2) مختلف الشيعة 1: 36؛ المسألة 15.

(3) التهذيب 1: 235/ 680؛ الاستبصار 1: 36/ 97.

(4) المفسّر و المورد هو المحقّق الكركي في جامع المقاصد 1: 142- 143.

(5) التهذيب 1: 239/ 691؛ الاستبصار 1: 39/ 110.

(6) التهذيب 1: 235/ 680؛ الاستبصار 1: 36/ 97.

(7) التهذيب 1: 238/ 688؛ الإستبصار 1: 39/ 106.

(8) المقنعة: 66.

409
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

حكم النزح ؛ ج‌1، ص : 393

و تبعه الباقون.

(و بول الصبي) و هو الذكر الذي زاد سنّه على الحولين و لم يبلغ على المشهور، و به رواية عن الصادق «1» لا تخرج عن حدّ الإرسال.

و في حكمه الرضيع الذي يغلب أكله على رضاعه أو يساويه، كما سيأتي.

و لا تلحق به الصبيّة لعدم النصّ.

(و اغتسال الجنب الخالي) بدنه (من نجاسة عينيّة).

و عبّر بالاغتسال الشامل للارتماس و غيره ردّاً على ظاهر الشيخ «2» و صريح ابن إدريس، حيث شرط في النزح المذكور ارتماسه «3».

و لا وجه له لخُلُوّ النصوص من اشتراطه لأنّها واردة بنزول الجنب، كرواية عبد اللّه بن سنان «4»، و دخوله مع الاغتسال، كرواية أبي بصير «5»، و وقوعه، كرواية الحلبي «6»، و دخوله، كرواية محمد بن مسلم «7».

و إنّما قيّد بالاغتسال دون الملاقاة المشترك مدلول الأخبار فيها للتصريح به في بعضها، و يجب حمل المطلق على المقيّد.

و إنّما شرط خُلُوّ بدنه من نجاسة عينيّة ليتمّ الاكتفاء بالسبع، إذ لو كان عليه نجاسة، لوجب لها مقدّرها إن كان، و إلا فعلى ما مرّ.

و العلّة فيه نجاسة البئر بذلك و إن كان بدنه خالياً من نجاسة، و لا بُعد فيه بعد ورود النصّ.

و ليس الأمر في الماء الذي يغتسل به الجنب على حدّ الماء مطلقاً، و لهذا قال جمع بعدم طهوريّة قليله، فلا بُعد حينئذٍ في أن ينفعل عنه البئر الذي قد عُلم تأثّره بما لا يتأثّر به غيره و تأثير غيره في التطهير و التنجيس.

______________________________
(1) التهذيب 1: 243/ 701؛ الاستبصار 1: 33- 34/ 89.

(2) المبسوط 1: 12.

(3) السرائر 1: 79.

(4) التهذيب 1: 241/ 695؛ الاستبصار 1: 34- 35/ 93.

(5) التهذيب 1: 244/ 702.

(6) الكافي 3: 6/ 7؛ التهذيب 1: 240/ 694؛ الاستبصار 1: 34/ 92.

(7) التهذيب 1: 244/ 704.

410
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

حكم النزح ؛ ج‌1، ص : 393

فقول بعضهم: «إنّ نجاسة البئر بغير منجّسٍ معلومُ البطلان إذ الفرض إسلام الجنب و خُلُوّ بدنه من العينيّة» «1» قد ظهر منعه، بل هو بمنجّسٍ، فإنّ الذي نجّس غيره بتلك الأشياء هو الذي نجّسه بهذا الشي‌ء على الوجه المخصوص.

و لو غلّبنا في النزح جانب التعبّد كما هو ظاهر الشيخ في التهذيب «2» و اختيار بعض «3» المتأخّرين فالإشكال مرتفع من أصله.

و الذي اختاره المصنّف في المختلف تبعاً لشيخه المحقّق «4» أنّ الحكم بالنزح؛ لكونه مستعملًا، فيكون النزح لسلب الطهوريّة «5».

و يشكل بإطلاق النصوص، و بحكم سلار و ابن إدريس و جماعة من المتأخّرين بوجوب النزح مع طهوريّة المستعمل عندهم «6»، و باستلزامه القول بعدم وجوب النزح؛ لأنّه فرّعه على القول بسقوط طهوريّة المستعمل و هو لا يقول به، فيلزم عدم القول بالنزح.

و يتفرّع عليه اشتراط النيّة و الحكم بصحّة الطهارة لكون الانفعال مسبباً عنها و متأخّراً. و رواية أبي بصير عن أبي عبد اللّهُ دالّة عليه، حيث سأله عن الجنب يدخل البئر فيغتسل منها، قال: «ينزح منها سبع دلاء» «7» و الروايات الباقية كما لا تدلّ على اشتراط الاغتسال الشرعي، كذلك لا تنافيه، فيحمل مطلقها عليه جمعاً بين الأخبار.

فيندفع بذلك ما أورده المحقّق الشيخ عليّ من خُلُوّ الأخبار عنه أو كونها أعمّ حتى التزم بعدم الحكم بطهره لقول الصادق عليه السلام في خبر عبد اللّه بن أبي يعفور: «لا تقع في البئر و لا تفسد على القوم ماءهم» «8» فإنّ النهي المستفاد من الرواية يقتضي فساد الغسل لأنّه عبادة، فلا يطهر الجنب «9».

و يجاب: بمنع أنّ النهي عن العبادة، بل عن الوقوع في الماء و إفساده، و هو إنّما يتحقّق‌

______________________________
(1) القائل هو المحقّق الكركي في جامع المقاصد 1: 143.

(2) التهذيب 1: 232.

(3) كالعِمة الحلّي في منتهى المطلب 1: 68.

(4) انظر المعتبر 1: 7170.

(5) مختلف الشيعة 1: 55، المسألة 29.

(6) المراسم: 34 و 3635؛ السرائر 1: 61 و 79؛ الجامع للشرائع: 19 و 20.

(7) التهذيب 1: 244/ 702.

(8) الكافي 3: 65/ 9؛ التهذيب 1: 150149/ 426؛ الاستبصار 1: 127 128/ 435.

(9) جامع المقاصد 1: 143.

411
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

حكم النزح ؛ ج‌1، ص : 393

بعد الحكم بطهر الجنب لا بمجرّد دخوله في البئر، فلا يضرّ هذا النهي لتأخّره، و عدم كونه عن نفس العبادة، إلا أن يقال: الوسيلة إلى المحرّم محرّمة و إن كانت قبل زمانه.

و يمكن على هذا فرض صحّة الغسل و وجوب النزح في بئر مملوكة للمغتسل، فإنّ تنجيسها «1» غير محرّم عليه.

و يرجّح الأوّل أنّه لو لم يطهر لم يتحقّق الإفساد الذي هو متعلّق النهي، و متى لم يتحقّق فلا حرج عليه، فيجوز الاغتسال.

و دفع ذلك كلّه بما تقدّم من أنّ الإفساد متأخّر عن الحكم بصحّة الغسل، فلا يؤثّر فيه، فعلى هذا إن اغتسل مرتمساً، طهر بدنه من الحدث و نجس بالخبث، و إن اغتسل مرتّباً، أجزأه غسل ما غسله قبل وصول الماء إلى البئر إن كان خارجاً عن الماء، و إلا فما قارن به النيّة خاصّة. كذا قرّره بعض «2» المتأخّرين.

و للنظر في بعضه مجال لتعليق الحكم كما تحقّق على الاغتسال، و لا يتحقّق إلا بالإكمال.

و بالجملة، فالمسألة من المشكلات، و اللّه أعلم بحقيقة الحال.

(و لخروج الكلب) من الماء (حيّاً) على المشهور، و روى ذلك عن الباقر عليه السّلام «3».

و أوجب ابن إدريس نزح أربعين إذ لا نصّ فيه «4»، و كأنّه اطّراحاً لخبر الآحاد، و إنّما اكتفى هنا بالأربعين مع حكمه بالجميع لما لا نصّ فيه «5» لأنّها تجزي لموته كما مرّ «6» فلوقوعه حيّاً أولى، و لولاه لوجب نزح الجميع. و قد عرفت وجود النصّ.

و لا يلحق به خروج الخنزير حيّاً لعدم النصّ.

(و خمس في ذرق الدجاج) على المشهور، و لم يوجد به نصّ على الخصوص.

و لم يقيّده المصنّف بالجِل تبعاً للشيخ «7»، لكن وجه الإطلاق عند الشيخ ظاهر؛

______________________________
(1) في «ق، م» و الطبعة الحجريّة: «مملوك .. تنجيسه». و الصحيح ما أثبتناه.

(2) لم نتحقّقه.

(3) التهذيب 1: 237 238/ 687؛ الاستبصار 1: 38/ 103، و فيهما عن جعفر.

(4) السرائر 1: 7776.

(5) السرائر 1: 72.

(6) في ص 401.

(7) النهاية: 7؛ المبسوط 1: 12.

412
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

حكم النزح ؛ ج‌1، ص : 393

لنجاسة ذرقه عنده مطلقاً «1».

و خصّه جماعة كالمفيد «2» و سلّار «3» بالجلّال.

قال المصنّف في المختلف: و على القولين لم يصل إلينا حديث يتعلّق بالنزح لهما.

و يمكن الاحتجاج بأنّه ماء محكوم بنجاسته، فلا يطهر بدون النزح.

و التقدير مستفاد من رواية محمّد بن إسماعيل بن بزيع الصحيحة عن الرضا عليه السلام في البئر يقطر فيها قطرات من بول أو دم أو يسقط فيها شي‌ء من العذرة كالبعرة أو نحوها، ما الذي يطهّرها؟ فوقّع «ينزح منها دلاء» «4».

قال: و الاحتجاج به بعيد لعدم دلالته على التقدير، و إنّما يستدلّ به على أنّه لا يجزئ أقلّ من خمس من حيث إنّه جمع كثرة «5». انتهى.

و هذا كلّه يقتضي تخصيصه بالجِل إن لم نقل بنجاسة الجميع.

و يمكن أن يستدلّ على نفي الزيادة عن الخمس بالإجماع على نفي وجوب الزائد.

قال المحقّق في المعتبر: و يقرب عندي أن يكون داخلًا في قسم العذرة ينزح له عشر، و إن ذاب فأربعون أو خمسون. و يحتمل أن ينزح له ثلاثون لحديث كردويه «6»- «7».

و يرد على الوجهين عدم القائل بما زاد على الخمس، و العذرة مخصوصة بفضلة الإنسان كما تقدّم «8»، فلا حجّة في الحديثين.

(و ثلاث في موت الفأرة) مع عدم الوصفين: التفسّخ و الانتفاخ، و قد تقدّم «9» المستند.

(و) كذا (الحيّة) على المشهور إحالة على الفأرة. و هو مأخذ ضعيف.

قال المحقّق: و يمكن أن يستدلّ على الحيّة بما رواه الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «إذا‌

______________________________
(1) النهاية: 51؛ المبسوط 1: 36.

(2) المقنعة: 68 بناءً على نسختي «و، ز» منها.

(3) المراسم: 36.

(4) الكافي 3: 5/ 1؛ التهذيب 1: 245244/ 705؛ الاستبصار 1: 44/ 124.

(5) مختلف الشيعة 1: 50، المسألة 25.

(6) الفقيه 1: 16/ 35؛ التهذيب 1: 413/ 1300؛ الاستبصار 1: 43/ 120.

(7) المعتبر 1: 76.

(8) في ص 399.

(9) في ص 409.

413
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

حكم النزح ؛ ج‌1، ص : 393

سقط في البئر حيوان صغير فمات فيها فانزح منها دلاء» «1» فينزّل على الثلاث لأنّه أقلّ محتملاته. و علّله مع ذلك بأنّ لها نفساً سائلة، فتكون ميتتها نجسةً «2».

و ألحق الشيخان بها العقرب و الوزغة «3» بالتحريك للرواية «4».

و حملها المصنّف على الاستحباب «5» تبعاً لشيخه المحقّق لعدم النفس السائلة لهما، فلا ينجسان بالموت و لا يتنجّس بهما شي‌ء، بل روي أنّ لهما سُمّاً، فيكره لذلك «6».

و كذا القول في سام أبرص.

(و دلو) واحد (في) موت (العصفور و شبهه) ممّا هو دون الحمامة لقول الصادق عليه السلام في رواية عمّار: «أقلّه العصفور ينزح منها دلو واحدة» «7».

و قد تقدّم «8» الكلام على الرواية في موت الإنسان.

و لا فرق بين كونه مأكول اللحم أولا، كالخفّاش للإطلاق، خلافاً للراوندي «9».

و لا يلحق به الطائر في حال صغره و إن شابهه في الحجم خلافاً للصهرشتي «10» لتعليق الحكم على الاسم. و لا بدّ لمدّعي إلحاق المشابه من دليلٍ على التخطّي.

(و بول) الصبي (الرضيع الذي لم يغتذ بالطعام) في الحولين اغتذاء غالباً على اللبن أو مساوياً له، فلا يضرّ القليل.

و المراد بالطعام نحو الخبز و الفاكهة، أمّا السكّر و نحوه فلا يسمّى طعاماً على الظاهر.

و لا تلحق به الرضيعة لعدم النصّ.

(و كلّ ذلك عندي مستحبّ) لما تقدّم «11» من اختياره عدم انفعال البئر بمجرّد الملاقاة،

______________________________
(1) الكافي 3: 6/ 7؛ التهذيب 1: 240/ 694؛ الاستبصار 1: 34/ 92.

(2) المعتبر 1: 75.

(3) المقنعة: 67، و فيها الوزغة فقط؛ النهاية: 7؛ المبسوط 1: 12.

(4) التهذيب 1: 238/ 688، و 245/ 706؛ الاستبصار 1: 39/ 106. و لم نعثر على نصّ في العقرب.

(5) نهاية الإحكام 1: 259.

(6) المعتبر 1: 75.

(7) التهذيب 1: 235234/ 678.

(8) في ص 398.

(9) حكاه عنه المحقّق الحلّي في المعتبر 1: 74؛ و الشهيد في الذكرى 1: 101.

(10) حكاه عنه المحقّق الحلّي في المعتبر 1: 7473؛ و الشهيد في الذكرى 1: 101.

(11) في ص 387.

414
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

تتمة ؛ ج‌1، ص : 415

فتُحمل الأخبار الواردة بالنزح على الاستحباب جمعاً بينها و بين ما دلّ على عدم النجاسة بدون التغيّر.

[تتمّة]

(تتمّة: لا يجوز استعمال الماء النجس) و ما هو في حكمه كالمشتبه به (في الطهارة مطلقاً) اختياراً و اضطراراً بقرينة قوله فيما بعدُ: «و لا في الأكل و الشرب اختياراً».

و يمكن على بُعدٍ أن يريد به ما يشمل الرافعة للحدث و المزيلة للخبث لتسمية الثاني طهارةً مجازاً، و جواز إطلاق اللفظ على حقيقته و مجازه، كما يقسّمون الماء في هذا الباب إلى مطلق و مضاف و غير ذلك.

و المراد بعدم الجواز ما هو المتعارف، و هو التحريم الذي يترتّب على فعل متعلّقه الذمُ و العقابُ بناءً على أنّ استعمال المكلّف الماءَ النجس فيما يُسمّى طهارةً في نظر الشرع أو إزالةِ نجاسة مع اعتقاد شرعيّته يتضمّن إدخال ما ليس من الشرع فيه فيكون حراماً، أو على تقدير استعماله و الاعتداد بالصلاة به فيكون كالمصلّي بغير طهارة، و الاعتداد بذلك محرّم فتكون الوسيلة إليه محرّمةً، أو بمعنى عدم الاعتداد به في رفع الحدث مجازاً، كما أنّهم يُطلقون الوجوب في مواضع و يريدون به الوجوب بمعنى الشرط، و لمّا كان التحريم مقابلًا للوجوب أُطلق على مقابله كذلك التحريمُ بمعنى عدم الاعتداد به لمقابلته الوجوب الشرطي.

و قد أشار المصنّف إلى إرادة هذا المعنى في النهاية حيث قال بعد التعبير بالتحريم: إنّا لا نعني بالتحريم حصول الإثم بذلك، بل بمعنى عدم الاعتداد به في رفع الحدث «1».

ثمّ ينقسم الماء النجس بحسب حكمه ثلاثة أقسام أشار المصنّف إلى قسمين منها: ما لا يجوز اختياراً و اضطراراً، و هو استعماله في الطهارة كما تقدّم، و عكسه، كبلّ الطين به و سقيه الدابّة و نحوهما. و ما يجوز مع الاضطرار خاصّة. و قد أشار إليه بقوله (و لا في الأكل و الشرب اختياراً) أمّا مع الضرورة كإساغة اللقمة و حفظ الرمق و هو بقيّة الحياة و أشباه ذلك فيجوز.

و يجب الاقتصار على ما تندفع به الضرورة، و لفظ الضرورة يشعر بذلك.

(و لو اشتبه النجس من الإناءين) بالطاهر منهما (اجتُنبا) وجوباً.

______________________________
(1) نهاية الإحكام 1: 246.

415
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

تتمة ؛ ج‌1، ص : 415

و لا يجوز التحرّي و هو الاجتهاد في طلب الأحرى بالاستعمال و هو الطاهر؛ لقرينةٍ لثبوت النهي عن استعمالهما، و القرينة التي لا تثمر اليقين غير كافية في الخروج عن النهي. و ليس هذا كالاجتهاد في القبلة.

و جوّزه الشافعي «1» هنا.

(و تيمّم) عند عدم التمكّن من غيرهما.

و لا يشترط في صحّته إهراقهما قبله ليتحقّق عدم الماء الطاهر؛ لأنّه بالاشتباه في حكم المعدوم، خلافاً للشيخ «2»، استناداً إلى خبرٍ «3» ضعيف.

و ربما كانت الإراقة حراماً؛ لخوف العطش و نحوه.

أمّا لو اشتبه المطلق بالمضاف، وجبت الطهارة بكلّ واحد منهما؛ لأنّه محصّل للطهارة بالمطلق المأمور به يقيناً، فيكون الجمع بينهما مقدّمةً للواجب المطلق فيكون واجباً.

و لا يضرّ عدم الجزم بالنيّة عند كلّ طهارة؛ لأنّ الجزم إنّما يعتبر بحسب الممكن، لكن يشترط لوجوبه بل لصحّته فَقدُ ما ليس بمشتبه، و إلا تعيّن استعماله؛ لقدرته حينئذٍ على الجزم التامّ في النيّة.

و لو فرض انقلاب أحدهما قبل الطهارة به، وجبت الطهارة بالآخر ثمّ التيمّم؛ لما تقدّم من أنّ الجمع مقدّمة الواجب المطلق. و لأنّ الحكم بوجوب الاستعمال تابع لوجود المطلق و قد كان وجوده مقطوعاً به، فيستصحب إلى أن يثبت العدم.

و يحتمل ضعيفاً عدم الوجوب، فيتيمّم خاصّة؛ لأنّ التكليف بالطهارة مع تحقّق وجود المطلق، و هو منتفٍ. و لأصالة البراءة من وجوب طهارتين.

و جوابهما يُعلم ممّا ذكرناه؛ فإنّ الاستصحاب كافٍ في الحكم بوجود المطلق.

و أصالة البراءة هنا منتفية بوجوب تحصيل مقدّمة الواجب المطلق، و هي لا تتمّ إلا بفعلهما معاً.

فإن قيل: ما ذكرتم من الدليل يقتضي عدم وجوب التيمّم، فإنّ استصحاب وجود‌

______________________________
(1) الوجيز 1: 9- 10؛ العزيز شرح الوجيز 1: 73؛ الوسيط 1: 214؛ حلية العلماء 1: 103؛ روضة الطالبين 1: 145؛ المجموع 1: 180.

(2) النهاية: 6.

(3) التهذيب 1: 229/ 662، و 248/ 712؛ الاستبصار 1: 21/ 48.

416
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

تتمة ؛ ج‌1، ص : 415

المطلق إن تمّ لا يتمّ معه وجوب التيمّم؛ إذ هو مع الاشتباه لا مع تحقّق الوجود.

قلنا: الاستصحاب المدّعى إنّما هو استصحاب وجوب الطهارة به بناءً على أصالة عدم فقد المطلق، و ذلك لا يرفع أصل الاشتباه؛ لأنّ الاستصحاب لا يفيد ما في نفس الأمر، فالجمع بين الطهارتين يحصّل اليقين.

(و يستحبّ تباعد البئر عن البالوعة) التي يرمى فيها ماء النزح أو غيره من النجاسات (سبع أذرع إذا كانت الأرض سهلةً) أي رخوة (و كانت البالوعة فوقها) فوقيّة محسوسة بأن يكون قرارها أعلى من قرار البئر. و لا اعتبار بوجه الأرض.

(و إلا) أي و إن لم يجتمع الأمران: فوقيّة البالوعة و رخاوة الأرض، و يصدق ذلك بعدمهما و عدم أحدهما (فخمس) أذرع.

و في حكم الفوقيّة المحسوسة الفوقيّةُ بالجهة بأن تكون البالوعة في جهة الشمال و إن استوى القراران؛ لما ورد من أنّ‌

مجاري العيون مع مهبّ الشمال» «1».

و يدلّ على اعتبار الصلابة و ضدّها مع الشهرة مرسلة قدامة «2» عن أبي عبد اللّهُ، قال: سألته كم أدنى ما يكون بين البئر و البالوعة؟ قال: «إن كان سهلًا فسبعة أذرع، و إن كان جبلًا فخمسة أذرع» «3».

و على اعتبار الفوقيّة و التحتيّة رواية الحسن بن رباط، قال: سألته عن البالوعة، فقال: «إن كانت أسفل من البئر فخمسة أذرع، و إذا كانت فوق البئر فسبعة أذرع» «4».

و ما ذكره المصنّف طريق الجمع بين الروايتين.

و يدلّ على اعتبار الجهة ما رواه محمد بن سليمان الديلمي عن أبيه، قال: سألت أبا عبد اللّه عن البئر يكون إلى جنبها الكنيف، فقال لي: «إنّ مجرى العيون كلّها مع مهبّ الشمال، فإذا كانت البئر النظيفة فوقَ الشمال و الكنيف أسفل منها لم يضرّها إذا كان بينهما أذرع، و إن كان الكنيف فوقَ النظيفة فلا أقلّ من اثني عشر ذراعاً» «5».

______________________________
(1) التهذيب 1: 410/ 1292.

(2) في «ق، م» و الطبعة الحجريّة: «ابن قدامة». و الصحيح ما أثبتناه من المصادر.

(3) الكافي 3: 8/ 3؛ التهذيب 1: 410/ 1291؛ الإستبصار 1: 45- 46/ 127.

(4) الكافي 3: 7/ 1؛ التهذيب 1: 410/ 1290؛ الاستبصار 1: 45/ 126.

(5) التهذيب 1: 410/ 1292.

417
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

تتمة ؛ ج‌1، ص : 415

و حمل الزائد عن السبع منها على المبالغة في الاستحباب. و استفيد منها اعتبار المجرى، فتكون جهة الشمال فوقاً بالنسبة إلى ما يقابلها مع تساوي القرارين، فيضمّ إلى الفوقيّة و التحتيّة باعتبار القرار و إلى صلابة الأرض و رخاوتها، و يتحصّل من جميع ذلك أربع و عشرون مسألة؛ لأنّ الأرض إمّا رخوة أو صلبة، و على التقديرين إمّا أن يكون قرار البئر فوق قرار البالوعة أو أسفل أو يتساوى القراران، فالصور ستّ، ثمّ إمّا أن تكون البئر في جهة الشمال و البالوعة في جهة الجنوب أو بالعكس، أو تكون البئر في جهة المشرق و البالوعة في المغرب أو بالعكس، و مضروب الأربعة في الستّة يبلغ أربعة و عشرين، لكن لا فرق بين كون البئر في جهة المشرق و البالوعة في المغرب و بين العكس، و إنّما اقتضاه التقسيم، فترجع المسائل إلى ثمانية عشر، فالتباعد بخمس في كلّ صورة يوجد فيها أحد الأُمور: صلابة الأرض أو فوقيّة البئر بأحد المعنيين. و السبع في الباقي، و هو كلّ صورة ينتفي فيها الأمران، فيصير التباعد بخمس في سبع صورة صورة، و بسبع في سبع.

و إن أردت توضيح ذلك على وجه التفصيل، فنقول: إذا كانت البئر إلى جهة الشمال، فصوره ستّ:

أ قرارها أعلى و الأرض صلبة.

ب الصورة بحالها و الأرض رخوة.

ج استوى القراران و الأرض صلبة.

د الصورة بحالها و الأرض رخوة.

ه‍ قرار البالوعة أعلى و الأرض صلبة. ففي هذه الصور الخمس يكفي التباعد بخمس.

و الصورة بحالها و الأرض رخوة، فالتباعد بسبع.

و إن كانت البئر إلى جهة الجنوب، فالصور ستّ أيضاً:

أ قرارها أعلى و الأرض صلبة.

ب الصورة بحالها و الأرض رخوة.

ج استوى القراران و الأرض صلبة.

د قرار البالوعة أعلى و الأرض صلبة. و في هذه الصور الأربع التباعد بخمس.

ه‍ قرارها أعلى و الأرض رخوة.

418
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

تتمة ؛ ج‌1، ص : 415

و استوى القراران، و الأرض رخوة. و في هاتين الصورتين التباعد بسبع.

و إن كانت البئر في جهة المشرق و البالوعة في المغرب، فصُوره ستّ:

أ قرارها أعلى و الأرض صلبة.

ب الصورة بحالها و الأرض رخوة.

ج تساوى القراران و الأرض صلبة.

د البالوعة أعلى و الأرض صلبة. ففي هذه الأربع التباعد بخمس.

ه‍ و و رخاوة الأرض مع تساوي القرارين أو فوقيّة البالوعة. و في هاتين الصورتين التباعد بسبع.

و الستّ بعينها آتية في العكس، و هو ما لو كانت البئر في جهة المغرب و البالوعة في المشرق.

و اعلم أنّ في عبارة المصنّف هنا مخالفةً لطيفة لعبارة الأصحاب في المسألة بل لعبارته في غير هذا الكتاب، و ذلك لأنّه اعتبر في التباعد بسبع رخاوة الأرض و فوقيّة البالوعة، و الخمس فيما عدا ذلك، فتساوي قرارهما مع رخاوة الأرض من صور التباعد بخمس؛ لعدم اجتماع شرطي السبع، فإنّ أحدهما: فوقيّة البالوعة و لم تحصل، و عبارته في القواعد «1» و غيرها «2» و باقي ما وجدناه من عبارة الأصحاب صريحة في دخول هذه الصورة في صور السبع؛ لأنّهم شرطوا في التباعد بخمس أحد الأمرين: صلابة الأرض أو فوقيّة البئر، فتساوي القرارين ليس منه، و الرواية التي هي مستند الحكم ليس فيها ما يدلّ على حكم التساوي؛ لأنّه جعل السبع مع فوقيّة البالوعة، و الخمس مع فوقيّة البئر، فالتساوي مسكوت عنه.

و مثله عبارة المصنّف في المختلف «3».

و اعتبار السبع في المسألة المفروضة مع موافقته للمشهور أبلغ في الاستظهار.

(و أسآر الحيوان) جمع سؤر بالهمزة، و هو لغةً: ما يبقى بعد الشرب. و شرعاً: ماء قليل‌

______________________________
(1) قواعد الأحكام 1: 7.

(2) تحرير الأحكام 1: 5؛ تذكرة الفقهاء 1: 29 الفرع الحادي عشر؛ منتهى المطلب 1: 110؛ نهاية الإحكام 1: 235.

(3) مختلف الشيعة 1: 80، المسألة 42.

419
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

تتمة ؛ ج‌1، ص : 415

باشره جسم حيوان و إن لم يشرب منه.

و هو تابع له في الطهارة و النجاسة و الكراهة، فأسآر الحيوان (كلّها طاهرة عدا) سؤر (الكلب و الخنزير و الكافر و) من أنواعه (الناصب).

و عطفه عليه إمّا من باب عطف الخاصّ على العامّ، أو يريد بالكافر مَنْ خرج عن الإسلام، و بالناصب الإشارة إلى كفّار المسلمين.

و المراد به مَنْ نصب العداوة لأهل البيت عليهم السّلام أو لأحدهم، و أظهر البغضاء لهم صريحاً أو لزوماً، ككراهة ذكرهم و نشر فضائلهم و الإعراض عن مناقبهم من حيث إنّها مناقبهم، و العداوة لمحبّيهم بسبب محبّتهم.

و روى الصدوق ابن بابويه عن عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «ليس الناصب مَنْ نصب لنا أهل البيت، لأنّك لا تجد رجلًا يقول: أنا أبغض محمداً و آل محمد، و لكنّ الناصب مَنْ نصب لكم و هو يعلم أنّكم توالوننا و أنّكم من شيعتنا» «1».

و الخوارج من جملة النواصب؛ لإعلانهم ببغض عليّ عليه السّلام، بل إنّما هو أبلغ من البغض.

و أمّا الغُلاة فخارجون من الإسلام اسماً و معنًى. و ذكرهم في فِرَق المسلمين تجوّز.

و هل ينجس سؤر غير هذه الثلاثة من فِرَق المسلمين؟ قيل: لا؛ لعدم نقل اجتناب النبيّ و عليّ عليهما السّلام ذلك مع ما كان بين عليّ عليه السّلام و بين أهل عصره من المباينة و المخالفة في العقائد. و سُئل عليّ عليه السّلام عن الوضوء من ركو أبيض مخمّر أي مغطّى أو من فضل وضوء المسلمين، فقال: «بل من فضل وضوء جماعة المسلمين، فإنّ أحبّ دينكم إلى اللّه الحنيفيّة السمحة» «2» و هو اختيار المحقّق و الشهيد رحمه اللّه في الذكرى «3».

و ألحق جماعة منهم: المصنّف في بعض «4» كتبه، و الشهيد في غيرها «5» المجسّمة بالحقيقة، و بعضهم «6» المجسّمة و لو بالتسمية، و الشيخ رحمه اللّه المجبّرة «7» أيضاً،

______________________________
(1) علل الشرائع 2: 327/ 60، الباب 385؛ ثواب الأعمال و عقابها: 247/ 4.

(2) الفقيه 1: 9- 10/ 16.

(3) المعتبر 1: 97؛ الذكرى 1: 109.

(4) تحرير الأحكام 1: 24.

(5) البيان: 91.

(6) المحقّق الكركي في جامع المقاصد 1: 164.

(7) المبسوط 1: 14.

420
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

تتمة ؛ ج‌1، ص : 415

و ابن إدريس كلّ مَنْ خالف الحقّ «1».

و في بعض الأخبار: أنّ كلّ مَنْ قدّم الجبت و الطاغوت فهو ناصب «2».

و اختاره بعض «3» الأصحاب؛ إذ لا عداوة أعظم ممّن قدّم المنحطّ عن مراتب الكمال، و فضّل المنخرط في سلك الأغبياء الجُهّال على مَنْ تسنّم أوج الجلال حتى شكّ في أنّه اللّه المتعال، و اللّه أعلم بحقيقة الحال.

(و) الماء القليل (المستعمل في رفع الحدث طاهر) إجماعاً، سواء في ذلك الحدثُ الأصغر و الأكبر (و مطهّر) إن كان الحدث أصغر إجماعاً.

و كذا إن كان أكبر على المشهور؛ للعموم. و لأنّ الطّهور ما يتكرّر منه الطهارة كالضّروب، فلا ينافيه.

و ذهب الشيخان «4» و جماعة «5» إلى كونه غير مطهّر؛ استناداً إلى أخبار لو لم تكن ضعيفةً أمكن حملها على التنزيه أو على نجاسة المحلّ؛ جمعاً بينها و بين غيرها من صحاح الأخبار.

و ربّما علّلوه بتأثّر الماء لتأثيره في المحلّ رفع الحدث، أو رفع منعه من الصلاة حيث لا يرتفع، كما تأثّر رافع الخبث حيث جعل المحلّ بعد الغسل مخالفاً لما قبله، فكأنّ المنع الذي في البدن انتقل إليه.

و هذه العلّة لو تمّت، لزم المنع من المستعمل في الصغرى؛ لاشتراكهما في العلّة، لكنّ الثاني جائز الاستعمال إجماعاً، فثبت الأوّل.

و يصير الماء مستعملًا بانفصاله عن أعضاء الطهارة مع قلّته، فالكثير لا يتصوّر فيه الانفعال، كما أنّ المتردّد على الأعضاء لا يمكن الحكم باستعماله، و إلا لامتنع فعل الطهارة بالقليل.

و لو ارتمس في القليل، ارتفع حدثه بعد تمام الارتماس؛ لأنّه في حكم الانفصال، و صار مستعملًا بالنسبة إلى غيره و إن لم يخرج.

و لو نوى جنبان، فكذلك.

______________________________
(1) السرائر 1: 84.

(2) مستطرفات السرائر ضمن السرائر 3: 583.

(3) لم نتحقّقه.

(4) المقنعة: 64؛ المبسوط 1: 11.

(5) منهم: الشيخ الصدوق في الفقيه 1: 10 ذيل الحديث 17، و ابن حمزة في الوسيلة: 74.

421
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

تتمة ؛ ج‌1، ص : 415

و لا يشترط إيقاعه النيّة في الماء بعد تمام الارتماس، كما يظهر من الذكرى «1»، لأنّ الارتماس لا يتبعّض، فلا يرتفع الحدث إلا بعد تمامه على التقديرين.

و يجوز إزالة النجاسة به و لو منعنا من الطهارة به حتى نقل الفاضل ولد المصنّف الإجماع عليه «2».

و نقل في الذكرى قولًا بالمنع، محتجّاً بأنّ قوّته استُوفيت، فالتحق بالمضاف «3»، و لم يذكر قائله.

(و) المستعمل (في رفع الخبث نجس، سواء تغيّر بالنجاسة أولا) على أشهر الأقوال خصوصاً بين المتأخّرين.

و حجّتهم أنّه ماء قليل لاقى نجاسة فينجس.

و قول أبي عبد اللّهُ: «الماء الذي يغسل به الثوب و يغتسل به من الجنابة لا يتوضّأ منه» «4».

و قول الكاظم عليه السلام في غسالة الحمّام: «لا تغتسل منها» «5» فيثبت الحكم في غسالة غيره؛ إذ لا قائل بالفصل.

و في هذه الأدلّة نظر.

أمّا الأوّل: فلمنع كلّيّة كبراه؛ فإنّها عين المتنازع، فأخذها في الدليل مصادرة. و لانتقاضها بماء الاستنجاء.

فإن قيل: خرج ذلك بالدليل، فصار الباقي كالعامّ المخصوص في حجّيّته على ما بقي.

قلنا: ذلك إنّما يتمّ لو ثبت صورة الدليل كذا، و إلا فلنا أن نخرج ماء النجاسة أيضاً؛ لما سيأتي، مع أنّ كلّيّتها على ما عدا ذلك ممنوعة، و أين الدليل عليه؟

و أمّا الخبر فهو أعمّ من الدعوى؛ فإنّ المنع من الوضوء به أعمّ من النجاسة، فلا يستلزمها؛ لعدم دلالة العامّ على الخاصّ المعيّن.

______________________________
(1) الذكرى 1: 104.

(2) إيضاح الفوائد 1: 19.

(3) الذكرى 1: 105.

(4) التهذيب 1: 221/ 630؛ الإستبصار 1: 27 28/ 71.

(5) الكافي 6: 498/ 10.

422
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

تتمة ؛ ج‌1، ص : 415

و عطف الجنابة عليه على تقدير تمامه يؤذن برفع الطهوريّة لا الطهارة.

و أمّا خبر غسالة الحمّام فسيأتي الكلام فيه، مع أنّه معارض بقول الكاظم عليه السلام في غسالة الحمّام تصيب الثوب: «لا بأس» «1».

و اعلم أنّ في هذه المسألة أقوالًا أربعة:

أحدها: أنّ الماء المزيل للخبث كالمحلّ قبل الغسل مطلقاً، فمتى لم يطهر المحلّ فالغسالة نجسة، كنجاسة المحلّ قبله، فيجب غَسل ما أصابه هذا الماء، كما يجب غَسل المحلّ بالنسبة إلى عدد الغسلات. و جميع ما تقدّم من الأدلّة صالح لهذا القول، و كلام المصنّف محتمل له بل ظاهر فيه؛ لإطلاقه القول بنجاسة الماء. و هذا القول نسبه الشهيد «2» رحمه اللّه إلى المصنّف.

و ثانيها: أنّ الماء المستعمل في ذلك كالمحلّ قبلها، أي قبل الغسلة، فيجب غَسل ما أصابه ماء الغسلة الأُولى مرّتين، و الثانية مرّة فيما يجب غَسله مرّتين، و هكذا. و هو اختيار الشهيد «3» رحمه اللّه و مَنْ تأخّر عنه.

و يحتمل أن يكون مذهباً للمصنّف أيضاً؛ لأنّ إطلاق القول بنجاسة الماء لا ينافيه.

لكن ليس في عباراته تصريح به، و ما تقدّم من الأدلّة صالح له.

و يزيد عن الأوّل اختصاصاً: أنّ المحلّ المغسول تضعف نجاسته بعد كلّ غسلة و إن لم يطهر، و لهذا يكفيه من العدد ما لا يكفي قبلُ، فيكون حكم ماء الغسلة كذلك؛ لأنّ نجاسته مسبّبة عنه، و لا يزيد حكمه عليه؛ لأنّ الفرع لا يزيد على الأصل، و هذا هو المقيّد لتلك الأدلّة الدالّة على النجاسة على الإطلاق.

و ثالثها: أنّه كالمحلّ بعدها، أي بعد الغسلة، فإن كان طاهراً، فهي طاهرة، كماء الغسلة الثانية فيما يجب غسله مرّتين. و إن كان المحلّ نجساً، فهي نجسة على ذلك الوجه، كماء الغسلة الاولى، فيجب غسل ما لاقته مرّة واحدة؛ لأنّ محلّها يطهر بعدها بغسلة واحدة، و هو اختيار الشيخ في الخلاف «4».

______________________________
(1) الكافي 3: 15/ 4؛ الفقيه 1: 10/ 17؛ التهذيب 1: 379/ 1176.

(2) الذكرى 1: 84.

(3) الدروس 1: 122.

(4) الخلاف 1: 179، المسألة 135.

423
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

تتمة ؛ ج‌1، ص : 415

و حجّته: أنّ المحلّ بعد الأخيرة طاهر مع بقاء بعض مائها فيه، و الماء الواحد لا تختلف أجزاؤه في الطهارة و النجاسة.

و جوابه: اختصاص المتّصل بالعفو و الحرج و الضرورة، بخلاف المنفصل. و يعارَض بماء الاولى؛ للقطع ببقاء شي‌ء منه.

و رابعها: كالمحلّ بعده، أي بعد الغسل كلّه، و هو على طرف النقيض بالنسبة إلى القول الأوّل، فماء الغسالة طاهر مطلقاً، سواء في ذلك الاولى و الأخيرة، ذهب إليه الشيخ في المبسوط «1» و المرتضى «2» رحمهما اللّه، لكن قيّده بورود الماء على النجاسة «3»، و تبعهما ابن إدريس «4» و جماعة.

و يظهر من الشهيد في الذكرى الميل إليه؛ لاستضعافه أدلّة النجاسة، و اعترافه بأنّه لا دليل عليها سوى الاحتياط «5».

و الحجّة على هذا القول أنّه لو حكم بنجاسة القليل الوارد، لم يكن لوروده أثر، و متى لم يكن له أثر لم يشترط الورود، فيطهر النجس و إن ورد على القليل. و لأنّه لو حكم بنجاسته، لم يطهر المحلّ بالغسل العددي، و التالي باطل بالإجماع، و الملازمة واضحة. و هذه حجّة المرتضى.

قال في الذكرى: و يلزمه أن لا ينجس بخروجه بطريق أولى «6».

و أجاب المصنّف في المختلف: بمنع الملازمة؛ فإنّا نحكم بطهر الثوب و النجاسة في الماء بعد انفصاله عن المحلّ «7».

و هو تعسّف زائد؛ فإنّ الماء إذا لم ينجس بملاقاة النجاسة له، لم ينجس بعد انفصاله‌

______________________________
(1) المبسوط 1: 15 و 36 و 92.

(2) حكاه عنه المحقّق الكركي في جامع المقاصد 1: 128.

(3) مسائل الناصريّات: 7372، المسألة 3.

(4) حكاه عنه المحقّق الكركي في جامع المقاصد 1: 128؛ و في السرائر 1: 180: «.. فإن كان من الغسلة الأوّلة، يجب غسله. و إن كان من الغسلة الثانية أو الثالثة، لا يجب غسله». و قال العلامة الحلّي في مختلف الشيعة 1: 72، المسألة 37؛ و الشهيد في الذكرى 1: 84- 85 بعد حكاية القول بالفرق بين ورود الماء على النجاسة و ورودها عليه عن السيّد المرتضى: «و اختاره تبعه ابن إدريس». انظر: السرائر 1: 180- 181.

(5) الذكرى 1: 85.

(6) الذكرى 1: 85.

(7) مختلف الشيعة 1: 72، المسألة 37.

424
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

تتمة ؛ ج‌1، ص : 415

عنها و مفارقته لها بطريق أولى؛ لأنّ المقتضي للتنجيس هو الملاقاة لها لا مفارقتها، فكيف يرتكب فكّ المعلول عن علّته التامّة ثمّ وجوده بدونها!؟

إن قيل: الدليل لمّا دلّ على نجاسته بعد الاتّصال و الانفصال و توقّف طهارة المحلّ على عدم نجاسة الماء اقتصر فيه على محلّ الضرورة، و هو ما قبل الانفصال لا ما بعده.

قلنا: الانفصال لا يصلح سبباً للنجاسة و لا جزءاً للسبب؛ لعدم صلاحيته لذلك، فإنّه مقتضٍ لبُعد الماء عن النجاسة، و ذلك ينافي قبوله أثرها، و لِمَ لا يرتكب طهارته مطلقاً كما في ماء الاستنجاء، فإنّ وجود النظير يمنع «1» الاستبعاد أو يحكم بنجاسته مطلقاً للدليل؟

و الحكم بطهر المحلّ خرج بحكم الشارع، و بالإجماع، و بأنّه لولاه لما أمكن التطهير بالقليل.

و هنا قول خامس حكاه الشهيد رحمه اللّه في حاشية الألفيّة «2» عن بعض الأصحاب و لم يسمّه و هو: أنّ ماء كلّ غسلة كمغسولها قبل الغسل و إن حكم بطهارة المحلّ بل و إن ترامت لا إلى نهاية؛ محتجّاً بأنّه ماء قليل لاقى نجاسة.

و بيانه أنّ طهارة المحلّ بالقليل على خلاف الأصل المقرّر من نجاسة القليل بالملاقاة، فيقتصر فيه على موضع الحاجة، و هو المحلّ دون الماء.

و يدفعه: حكم الشارع بالطهارة عند تمام الغسلات، فلا اعتبار بما حصل بعد ذلك، و للزوم الحرج المنفيّ.

و ربما نسب هذا القول إلى المصنّف «3». و كلامه بالقول الأوّل أليق، و تحقيقه به أنسب، و وجه مناسبة عباراته له أنّه يسوقها في الماء المستعمل في إزالة النجاسة، و بعد الحكم بالطهارة شرعاً لا تصدق النجاسة.

و ما نبّهنا عليه من الأقوال و حرّرناه لا يكاد يوجد مجموع الأطراف فيما علمناه و إن كان بعض «4» الفضلاء قد نفى ما زاد على ثلاثة أقوال.

______________________________
(1) في «ق، م»: «يدفع».

(2) راجع رسائل المحقّق الكركي 3: 231 و 232.

(3) كما في رسائل المحقّق الكركي 3: 231.

(4) لم نتحقّقه.

425
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

تتمة ؛ ج‌1، ص : 415

بقي هنا شي‌ء ينبغي التنبّه له، و هو: أنّ المصنّف عطف بعد «سواء» ب‍ «أو» في قوله: «سواء تغيّر بالنجاسة أو لا» و قد أكثر من استعمال ذلك في كتبه كغيره من الفقهاء، و قد منع منه جماعة من محقّقي العربيّة من المتقدّمين و المتأخّرين.

و حجّتهم في ذلك أنّ «أو» تقتضي أحد الشيئين أو الأشياء، و التسوية تقتضي نفس الشيئين أو الأشياء، و الأجود العطف ب‍ «أم» المتّصلة التي ما قبلها و مابعدها لا يستغنى بأحدهما عن الآخر.

قال تعالى سَوٰاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ «1» سَوٰاءٌ عَلَيْنٰا أَ جَزِعْنٰا أَمْ صَبَرْنٰا «2» سَوٰاءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ+ «3» سَوٰاءٌ عَلَيْكُمْ أَ دَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صٰامِتُونَ «4».

و قال أبو علي الفارسي: لا يجوز «أو» بعد «سواء» فلا يقال: سواء عليَ قمت أو قعدت؛ لأنّه يكون المعنى: سواء عليّ أحدهما، و ذا لا يجوز؛ لأنّ التسوية تقتضي شيئين فصاعداً «5».

و قال ابن هشام في المغني: قد أُولع الفقهاء و غيرهم بأن يقولوا: سواء كان كذا أو كذا، و هو نظير قولهم: يجب أقلّ الأمرين من كذا أو كذا. و الصواب العطف في الأوّل ب‍ «أم» و في الثاني بالواو. ثمّ نقل عن الصحاح: سواء عليّ قمت أو قعدت «6». قال: و هو سهو.

و نقل عن الهذلي أنّ ابن محيصن قرأ من طريق الزعفراني «أو لم تنذرهم» و حَكَم عليه بأنّه من الشذوذ بمكان «7».

و الظاهر من المصنّف أنّه يختار ما نقله صاحب الصحاح من جواز ذلك، و قد وافقه عليه بعض أهل العربيّة.

و ظاهر الشيخ الرضي رحمه اللّه اختيار ذلك حيث قال بعد نقل كلام الفارسي و حجّته بانّ «أو» تقتضي أحد الشيئين: و يرد عليه: أنّ معنى «أم» أيضاً أحد الشيئين أو‌

______________________________
(1) المنافقون (63): 6.

(2) إبراهيم (14): 21.

(3) البقرة (2): 6.

(4) الأعراف (7): 193.

(5) حكاه عنه الرضي في شرح الكافية 2: 376.

(6) الصحاح 6: 2386، «س و أ».

(7) مغني اللبيب 1: 63- 64.

426
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

تتمة ؛ ج‌1، ص : 415

الأشياء، فيكون معنى «سواء عليّ قمت أم قعدت» سواء عليّ أيّهما فعلت، أي الذي فعلت من الأمرين، و هذا أيضاً ظاهر الفساد.

قال: و إنّما لزمه ذلك في «أو» و «أم» لأنّه جعل «سواء» خبراً مقدّماً و ما بعده مبتدأ.

و الوجه: أنّ «سواء» خبر مبتدأ محذوف، أي الأمران سواء، ثمّ بيّن الأمرين بقوله: قمت أو قعدت، و الجملة سادّة مسدّ جواب الشرط الذي لا شكّ في تضمّن الفعل بعد «سواء» و «ما أُبالي» معناه «1»، أ لا ترى إلى إفادة الماضي في مثله معنى المستقبل، و ما ذاك إلا لتضمّن معنى الشرط «2». انتهى كلام الرضي.

و فرّق السيرافي في شرح «3» كتاب سيبويه بين ما لو دخلت همزة التسوية بعد «سواء» أو لم تدخل، فجوّز «أو» على الثاني دون الأوّل، فقال: «سواء» إذا دخلت بعدها ألف الاستفهام لزمت «أم» بعدها، كقولك: سواء عليّ أ قمت أم قعدت، و إن كان بعد «سواء» فعل بغير استفهام، جاز عطف أحدهما على الآخر ب‍ «أو» كقولك: سواء عليّ قمت أو قعدت. انتهى.

و كلام المصنّف جارٍ على القسم الثاني، و الآيات الشريفة على الأوّل.

فقد تلخّص في المسألة ثلاثة أقوال: المنع مطلقاً، و الجواز مطلقاً، و التفصيل. و إنّما أطنبنا القول في ذلك؛ لكثرة جريانه و شدّة الحاجة إليه و عدم اشتهار ما حرّرناه من الخلاف. ثمّ عُد إلى عبارة الكتاب.

و اعلم أنّ المستعمل في إزالة الخبث نجس (إلا ماء الاستنجاء) من الحدثين (فإنّه طاهر) إجماعاً، كما نقله المصنّف في المنتهي «4». و في المعتبر: هو العفو «5». و قرّبه في الذكرى «6».

و تظهر الفائدة في استعماله ثانياً، فيجوز على الأوّل دون الثاني.

______________________________
(1) أي: معنى الشرط.

(2) شرح الكافية 2: 375- 377.

(3) لا يوجد كتابه لدينا.

(4) كما في جامع المقاصد 1: 130؛ و في منتهى المطلب 1: 143 هكذا: عفي عن ماء الاستنجاء إذا سقط منه شي‌ء على ثوبه أو بدنه. انتهى، و لم يتعرّض لذكر الإجماع.

(5) كما في الذكرى 1: 83؛ و جامع المقاصد 1: 130؛ و قال المحقّق الحلّي في المعتبر 1: 91: و أمّا طهارة ماء الاستنجاء فهو مذهب الشيخين، و قال علم الهدى رحمه اللّه في المصباح: لا بأس بما ينضح من ماء الاستنجاء على الثوب و البدن. و كلامه صريح في العفو و ليس بصريح في الطهارة. انتهى.

(6) الذكرى 1: 83.

427
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

تتمة ؛ ج‌1، ص : 415

و الأصل فيه حكم الصادق عليه السلام بعدم نجاسة الثوب الملاقي له «1». و هو يستلزم الطهارة.

و لأنّ في الحكم بنجاسته حرجاً أو مشقّةً؛ لعموم البلوى به، و كثرة تكرّره و دورانه، بخلاف باقي النجاسات. و الإجماع الذي ادّعاه المصنّف كافٍ أيضاً.

و لا فرق بين المخرجين، و لا بين المتعدّي و غيره إلا أن يتفاحش بحيث يخرج عن مسمّى الاستنجاء، و لا بين الطبيعي و غيره إذا صار معتاداً؛ لإطلاق الحكم.

لكن يشترط لطهارته أُمور دلّ على اشتراطها أدلّة أُخرى أشار إلى بعضها بقوله (ما لم يتغيّر بالنجاسة أو يقع على نجاسة خارجة) عن حقيقته، كالدم المستصحب للخارج، أو عن محلّه و إن لم يخرج عن الحقيقة، كالحدث الملقى على الأرض، و غيره من النجاسات، فلا يحتاج إلى تنقيح المحلّ بجَعل عدم استصحابه لنجاسة أُخرى شرطاً ثالثاً.

و يشترط زيادةً على ما ذُكر: أن لا تنفصل مع الماء أجزاء من النجاسة متميّزة؛ لأنّها كالنجاسة الخارجة يتنجّس الماء بها بعد مفارقة المحلّ.

و هل يشترط عدم زيادة الوزن؟ ظاهر الشهيد في الذكرى «2» ذلك.

و الظاهر عدم الاشتراط؛ لانحصار التنجيس في تغيّر أحد الأوصاف الثلاثة، لا مطلق الوصف، كالثقل و الخفّة و غيرهما.

و أمّا سبق الماءِ اليدَ إلى المحلّ أو مقارنتها له فلا أثر له؛ لتنجّس اليد على كلّ حال، فلا فرق بين تقدّمها عليه و تأخّرها عنه.

نعم، يجب تقييد ذلك بما إذا كانت نجاستها لكونها آلةً للغسل، فلو تنجّست لا لذلك ثمّ حصل الاستنجاء، فلا عفو.

(و غسالة الحمّام) و هي الماء المستنقع فيه و المنفصل عن المغتسلين (نجسة ما لم يعلم خلوّها من نجاسة) لنهي الكاظم عليه السلام عن الاغتسال من البئر التي تجمع فيها غسالة الحمّام، معلّلًا بأنّ فيها غسالة ولد الزنا و الناصب و هو شرّهما «3».

و هذا هو المشهور حتّى ادّعى عليه ابن إدريس الإجماع «4».

______________________________
(1) التهذيب 1: 86- 87/ 288.

(2) الذكرى 1: 83.

(3) الكافي 6: 498- 499/ 10، التهذيب 1: 373/ 1143.

(4) السرائر 1: 90- 91.

428
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

تتمة ؛ ج‌1، ص : 415

و الرواية ضعيفة السند، مرسلة، و معارضة بقوله عليه السلام في حديثٍ آخر و قد سُئل عن مجتمع الماء في الحمّام من غسالة الناس يصيب الثوب، قال: «لا بأس» «1».

و هذه الرواية و إن كانت مرسلةً أيضاً إلا أنّها لا تقصر عن مقاومة الرواية الأُخرى، و تبقى معنا أصالة طهارة الماء.

و اختار المصنّف في المنتهي «2» طهارتها؛ للخبر «3»، و الأصل، و هو الظاهر إن لم يثبت الإجماع على خلافه.

(و تكره الطهارة ب‍) الماء (المسخّن في الشمس في الأواني) لما ورد من نهي النبي صلى الله عليه و آله عنه، معلّلًا بأنّه يورث البرص «4».

و حُمل النهي على الكراهة، جمعاً بينه و بين قول الصادق عليه السلام‌

لا بأس بأن يتوضّأ بالماء الذي يوضع في الشمس

«5». و يمكن الجمع بين خبري الغسالة بذلك؛ و لأنّ العلّة راجعة إلى المصلحة الدنيويّة، فالنهي من قبيل الإرشاد على حدّ قوله تعالى وَ أَشْهِدُوا إِذٰا تَبٰايَعْتُمْ «6».

و إنّما لم يكن محرّماً مع الاتّفاق على وجوب دفع الضرر؛ لأنّه ليس بمعلوم الوقوع و لا مظنونه، و إنّما هو ممكن نظراً إلى صلاحيته له.

و كما تكره الطهارة به يكره استعماله في غيرها من إزالة نجاسةٍ و أكلٍ و شربٍ على الظاهر؛ لاقتضاء التعليل ذلك. و لا يشترط القصد إلى التسخين، فيعمّ الحكم المتسخّن بنفسه، فلو قال: «المتسخّن» كان أولى.

و كذا لا يشترط بقاء السخونة، استصحاباً لما ثبت، و لصدق الاسم مع زوالها؛ إذ المشتقّ لا يشترط في صدقه بقاء أصله. و ربما قيل باشتراطهما.

و لا فرق بين الأواني المنطبعة كالنحاس و الحديد و غيرها، و لا بين البلاد الحارّة و غيرها و إن كان المحذور يقوّي تولّده في الأوّلين، لتأثير الشمس فيهما زهومة يتولّد منها المحذور،

______________________________
(1) الكافي 3: 15/ 4، الفقيه 1: 10/ 17، التذهيب 1: 379/ 1176.

(2) منتهى المطلب 1: 146- 147.

(3) المصادر في الهامش (1).

(4) الكافي 3: 15/ 5، علل الشرائع 1: 327/ 2، الباب 194، التهذيب 1: 379- 380/ 177.

(5) التهذيب 1: 366/ 367/ 1114، الإستبصار 1: 30/ 78.

(6) البقرة (2): 282.

429
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

تتمة ؛ ج‌1، ص : 415

فإنّ الحكم إذا علّق بمنظنّة شي‌ء، عمّ جميع أفراده و إن قصر بعضها عن ذلك، كالقصر المعلّق بمظنّة المشقّة، و هو السفر إلى مسافة مع عدم عموم المشقّة لجميع أفراده، بل ربما حصلت المشقّة في بعض الأفراد في بعض المسافة أضعاف ما يحصل في الزائد عنها لفردٍ آخر.

و التقييد بالأواني يشعر باختصاص الحكم بها، فلو تسخّن الماء في حوض أو في ساقية «1»، لم يكره استعماله.

و إطلاق النصّ و الفتوى و التعليل يقتضي عدم الفرق بين القليل من الماء و الكثير.

و لا منافاة بين الوجوب عيناً و الكراهة، كما في الصلاة و غيرها من العبادات على بعض الوجوه، فلو لم يجد ماء آخر غيره، لم تزل الكراهة و إن وجب استعماله عيناً؛ لبقاء العلّة، مع احتمال الزوال كما يأتي.

(و) كذا يكره استعمال الماء (المسخّن بالنار في غسل الأموات) لما ورد من نهي أبي جعفر عنه «2»، و علّل مع ذلك بأنّ فيه أجزاءً ناريّة فلا تعجّل له، و تفؤلًا بالحميم، و بأنّه يرخي بدن الميّت و يعدّه لخروج شي‌ء من النجاسات.

و محلّ الكراهة عند عدم الضرورة، أمّا معها كخوف الغاسل على نفسه من البرد فلا، مع احتمال بقائها، كما مرّ.

و كذا لا يكره استعماله في غير غسل الأموات؛ للأصل، و عدم النصّ، و فقد العلّة.

(و) كذا يكره (سؤر) الحيوان (الجِل) و هو الذي يغتذي بعذرة الإنسان محضاً إلى أن ينبت لحمه عليه، و يشتدّ عظمه، أو يسمّى في العرف جِلا. و سيأتي تفصيله و تحقيقه إن شاء اللّه تعالى.

(و آكل الجيف) مع خلوّ موضع الملاقاة من عين النجاسة.

(و) سؤر (الحائض المتّهمة) بعدم التحفّظ من النجاسة و المبالاة بها.

و إنّما كره، جمعاً بين رواية النهي عن الوضوء بفضلها عن الصادق عليه السّلام «3» و بين نفي البأس إذا كانت مأمونةً عن الكاظم عليه السّلام «4»؛ إذ لا قائل بالتحريم.

______________________________
(1) في ق، م»: «أو ساقية.

(2) الفقيه 1: 86/ 397، التهذيب 1: 322/ 938.

(3) الكافي 3: 10- 11/ و 3 و 4، التهذيب 1: 222/ 634- 636، الاستبصار 1: 17/ 32- 34.

(4) التهذيب 1: 21- 632، الاستبصار 1: 16- 17/ 30.

430
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

تتمة ؛ ج‌1، ص : 415

و أطلق الشيخ في المبسوط «1» الكراهةَ؛ لإطلاق بعض الأخبار. و حمل المطلق على المقيّد طريق الجمع.

و طرّد الشهيد رحمه اللّه الحكمَ في كلّ متّهم «2».

و نُوقش «3» فيه حيث إنّه تصرّف في النصّ.

(و) سؤر (البغال و الحمير) الأهليّة دون الوحشيّة، و كذا الدوابّ؛ لكراهة لحم الجميع.

(و) سؤر (الفأرة و الحيّة) و كذا كلّ ما لا يؤكل لحمه.

(و ما مات فيه الوزغ) بالتحريك جمع وزغة دابّة معروفة، و كذا ما خرج منه حيّاً، و سام أبرص من أصنافه.

و في الصحاح: سام أبرص من كبار الوزغ «4».

(و) ما مات فيه (العقرب) و قد روي عن الباقر عليه السلام الأمر بإراقة ما يقع فيه العقرب «5». و هو للتنزيه أو للسمّ.

و في كثير من هذه قول بالمنع «6» مستند إلى روايات معارضة بأشهر منها. و حملها على الكراهة طريق الجمع.

______________________________
(1) المبسوط 1: 10.

(2) البيان: 101.

(3) المناقش هو المحقّق الكركي في جامع المقاصد 1: 124.

(4) الصحاح 3: 1029، «ب ر ص».

(5) التهذيب 1: 230/ 664، الاستبصار 1: 27/ 69.

(6) أنظر النهاية- للطوسي-: 6.

431
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

النظر السادس فيما يتبع الطهارة ؛ ج‌1، ص : 433

 

[النظر السادس فيما يتبع الطهارة]

(النظر السادس: فيما يتبع الطهارة) و هو إزالة النجاسة الذي يطلق عليه الطهارة مجازاً.

[القول في أقسام النجاسات]

و لمّا كان الحكم بوجوب إزالتها و كيفيّته موقوفاً على العلم بها لتوقّف التصديق بالشي‌ء على تصوّره أشار إلى تعدادها أوّلًا، فقال (النجاسات عشرة) أنواع:

(البول و الغائط من) الحيوان (ذي النفس السائلة) أي: ذي الدم الذي يجتمع في العروق، و يخرج إذا قطع شي‌ء منها بسيلان و قوّة، بخلاف دم ما لا نفس له، كالسمك، فإنّه يخرج ترشيحاً.

و إنّما يكونان نجسين إذا كانا من الحيوان (غير المأكول) اللحم، سواء كان تحريمه (بالأصالة) أي: بأصل الشرع، لا بسببٍ عارض له أوجب تحريمه بعد أن كان محلّلًا (كالأسد، أو) كان تحريمه (بالعرض، كالجلال) و مثله موطوء الإنسان.

و مستند الجميع قول الصادق عليه السلام‌

اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه

«1». و الغائط كالبول إجماعاً؛ لعدم القائل بالفرق.

و أخرج جماعة «2» من الأصحاب الطيرَ، و ابنُ الجنيد بولَ الرضيع قبل أكله اللحم «3»؛ استناداً إلى روايات معارضة بأشهر منها، أو قابلة للجمع.

و دخل في غير المأكول الإنسانُ بجميع أصنافه حتّى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و لم يثبت أنّه صلّى اللّه عليه و آله أقرّ‌

______________________________
(1) الكافي 3: 57/ 3، التهذيب 1: 264/ 770.

(2) منهم: الشيخ الصدوق في الفقيه 1: 41 ذيل الحديث 164، و ابن أبي عقيل و الجعفي كما في مختلف الشيعة 1: 298، المسألة 220، و الذكرى 1: 110.

(3) حكاه عنه العلّامة الحلّي في مختلف الشيعة 1: 301، المسألة 222، و الشهيد في الذكرى 1: 111.

 

433
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في أقسام النجاسات ؛ ج‌1، ص : 433

امّ أيمن على شرب بوله و إن قال لها‌

إذَن لا تلج النار بطنك

«1» كما لم يثبت أنّه أقرّ حجّامه على شرب دمه، بل روي أنّه أنكر في الموضعين حتى قال لأبي طيبة‌

لا تَعُد، الدم كلّه حرام

«2» و المثبت مقدّم على النافي.

و المعتبر في الغائط صدق اسمه، فالحَبّ الخارج من المحلّ غير المستحيل طاهر.

و اعتبر المصنّف في طهارته إمكان نباته لو زُرع «3».

و ليس بجيّد، بل المعتبر صدق الاسم.

(و المنيّ من كلّ حيوان ذي نفس سائلة و إن كان مأكولًا) و لا فرق بين الآدمي و غيره، و لا بين الحيوان البرّي و المائي، كالتمساح؛ لعموم قول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله‌

إنّما يغسل الثوب من المنيّ و الدم و البول

«4». (و الميتة من ذي النفس السائلة مطلقاً) سواء كان مأكول اللحم أم لا إجماعاً، و منه الآدمي.

لكن يجب أن يستثني منه ما إذا حكم بطهره شرعاً إمّا لتطهيره بالغسل و إن كان متقدّماً على موته، كالمأمور به ليقتل، أو لكونه لم ينجس بالموت؛ لكونه شهيداً أو معصوماً.

و الاحتجاج بأنّ الآدمي لو كان نجساً لما طهر بالغسل معارَض بأنّه لو كان طاهراً لما أمر بغسله، و قبوله الطهارة يوجب اختلاف النجاسات في ذلك بوضع الشرع. و لا بُعد فيه عند مَنْ نظر إلى مختلفات الأحكام.

(و أجزاؤها) نجسة كجملتها (سواء أُبينت) أي فصلت الأجزاء (من حيّ أو ميّت إلا ما لا تحلّه الحياة) من تلك الأجزاء (كالصوف و الشعر و الوبر و العظم و الظفر) و الظلف و القرن و الحافر. و السنّ من جملة العظم. و في حكمها البيض إذا اكتسى القشر الأعلى، و الإنفحة بكسر الهمزة و فتح الفاء مخفّفةً، قاله الجوهري «5». و يجوز تشديد الحاء و هي كرش السخلة قبل أن تأكل و إن حلّتها الحياة، فإنّ هذه الأشياء كلّها طاهرة بالأصل و إن‌

______________________________
(1) أورده الرافعي في العزيز شرح الوجيز 1: 37.

(2) أورده الرافعي في العزيز شرح الوجيز 1: 38.

(3) منتهى المطلب 2: 179، نهاية الإحكام 1: 266، تذكرة الفقهاء 1: 51.

(4) سنن الدارقطني 1: 127/ 1، سنن البيهقي، 1: 21- 32، ذيل ح 40، مسند أبي يعلى 3: 185- 186/ 1611.

(5) الصحاح 1: 413، «ن ف ح».

434
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في أقسام النجاسات ؛ ج‌1، ص : 433

كانت من الميتة (إلا) أن تكون (من نجس العين، كالكلب و الخنزير و الكافر) فإنّها نجسة؛ لنجاسة أعيانها، فيدخل فيه جميع أجزائها.

و خالف المرتضى رحمه اللّه في ذلك، فحَكَم بطهارة ما لا تحلّه الحياة منها؛ استناداً إلى عدم تنجّس ما لا تحلّه الحياة منها بالموت كغيرها من الميتات «1».

و أُجيب «2»: بأنّ المقتضي للتنجيس في الميتة صفة الموت، و هي غير حاصلة فيما لا تحلّه الحياة، و فيهما نفس الذات «3»؛ لقول الصادق عليه السلام في الكلب: رجس نجس» «4» و قوله عليه السلام في الخنزير‌

اغسل يدك إذا مسسته كما تمسّ الكلب

«5» و هو يقتضي أن تكون عينها نجاسةً، فتدخل فيه جميع الأجزاء.

(و الدم من ذي النفس السائلة) مطلقاً؛ لعموم الخبر المتقدّم «6»، أو إطلاقه، و منه العلقة و إن كانت في البيضة حتّى ادّعى الشيخ في الخلاف الإجماع على نجاستها «7».

و احتجّ عليها في المعتبر: بأنّها دم حيوان له نفس «8».

و في الدليل منع، و تكوّنها في الحيوان لا يدلّ على أنّها منه.

و قول ابن الجنيد بعدم نجاسة الثوب بدم كعقد الإبهام العليا «9» مخالف للإجماع.

و احترز بذي النفس عن غيره، كالسمك و الجراد و البراغيث و نحوها، فإنّ دمها طاهر عندنا إجماعاً، نقله الشيخُ في الخلاف «10»، و غيرُه «11» من المتأخّرين، فخلافه في المبسوط و الجُمل «12» مدفوع باعترافه بالإجماع.

______________________________
(1) مسائل الناصريّات: 100- 101، المسألة 19.

(2) المجيب هو العلّامة الحلّي في مختلف الشيعة 1: 314 ذيل المسألة 231، و المحقّق الكركي في جامع المقاصد 1: 161.

(3) أي: مقتضي التنجيس في الكلب و الخنزير نفس ذاتهما.

(4) التهذيب 1: 225/ 646، الاستبصار 1: 19/ 40.

(5) التهذيب 6: 382- 383/ 1130.

(6) في ص 434.

(7) الخلاف 1: 490- 491، المسألة 232.

(8) المعتبر 1: 422.

(9) حكاه عنه المحقّق الحلّي في المعتبر 1: 420، 427، و العلّامة الحلّي في مختلف الشيعة 1: 317، المسألة 233، و الشهيد في الذكرى 1: 112.

(10) الخلاف 1: 476، المسألة 219.

(11) كالمحقّق الحلّي في المعتبر 1: 421، و الشهيد في الذكرى 1: 112.

(12) المبسوط 1: 35، الجمل و العقود (ضمن الرسائل العشر): 170- 171 حيث أفتى بنجاسة دم غير ذي النفس.

435
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في أقسام النجاسات ؛ ج‌1، ص : 433

و لقول الصادق عليه السلام: «ليس به بأس» «1» و عن علي عليه السّلام أنّه كان لا يرى بأساً بدم ما لم يذكّ «2».

و يستثنى من دم ذي النفس ما يستخلف في اللحم ممّا لا يقذفه المذبوح، فإنّه طاهر حلال إذا لم يكن جزءاً من محرّم، كدم الطحال.

و لا فرق بين تخلّفه في العروق أو في اللحم أو البطن ما لم يُعلم دخول شي‌ء من الدم المسفوح، أو تخلّفه لعارضٍ، كجذب الحيوان له بنفسه، أو لذبحه في أرض منحدرة و رأسه أعلى، فإنّ ما في البطن حينئذٍ نجس.

(و الكلب و الخنزير و أجزاؤهما) و إن لم تحلّها الحياة حتّى المتولّد منهما و إن باينهما في الاسم.

أمّا المتولّد من أحدهما و حيوانٍ طاهر فإنّه يتبع في الحكم الاسمَ، سواء كان لأحدهما أم لغيرهما، فإن لم يصدق عليه اسم أحدهما و لا غيرهما ممّا هو معلوم الحكم، فالأقوى فيه الطهارة و التحريم.

(و الكافر) بجميع أصنافه (و إن أظهر الإسلام إذا جحد ما يعلم ثبوته من الدين ضرورة، كالخوارج) و هُم أهل النهروان و مَنْ دان بمقالتهم.

و سمّوا بذلك؛ لخروجهم على الإمامُ بعد أن كانوا من حزبه، أو لخروجهم من الإسلام كما وصفهم النبيّ‌

بأنّهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمِيّة «3»

«4» و يسمّون أيضاً الشراة؛ لقولهم: نحن شرينا أنفسنا ابتغاء وجه اللّه. و خرجوا على إمامهم بشبهة التحكيم.

و قد روي عن الباقر عليه السلام أنّه قال عن خارجيّ بعد مفارقته إيّاه‌

مشرك و اللّه، إي و اللّه مشرك

«5». (و الغُلاة) جمع غال، و هو لغةً: مجاوزة الحدّ في شي‌ء. و المراد هنا الدين، زادوا في‌

______________________________
(1) التهذيب 1: 255/ 740، الإستبصار 1: 176/ 611.

(2) الكافي 3: 59/ 4، التهذيب 1: 260/ 755.

(3) في «ق، م» و الطبعة الحجريّة: «الرامي» بدل «الرميّة» و ما أثبتناه هو الصحيح كما في المصادر.

(4) سنن الترمذي 4: 481/ 2188، سنن البيهقي 8: 295/ 16700، المستدرك- للحاكم- 2: 146 و 147.

(5) أورده الشهيد في الذكرى 1: 116، و انظر الكافي 2: 387 (باب الكفر) الحديث 14.

436
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في أقسام النجاسات ؛ ج‌1، ص : 433

الأئمّة عليهم السّلام و اعتقدوا فيهم أو في أحدهم أنّه إله، و نحو ذلك.

و يطلق الغلوّ أيضاً على مَنْ قال بإلهيّة أحدٍ من الناس.

و الأنسب أن يكون هو المراد هنا.

و في حكمهم النواصبُ، و هم الذين ينصبون العداوة لأهل البيت عليهم السّلام كما تقدّم، و المجسّمةُ، كما اختاره المصنّف «1» في غير هذا الكتاب، و هُم قسمان: مجسّمة بالحقيقة، و هم الذين يقولون: إنّ اللّه جسم كالأجسام. و لا ريب في كفر هذا القسم و إن تردّد فيه بعض «2» الأصحاب. و مجسّمة بالتسمية المجرّدة، و هُم القائلون بأنّه جسم لا كالأجسام. و في نجاسة هذا القسم تردّد، و كأنّ الدليل الدالّ على نجاسة الأوّل دالّ على الثاني؛ فإنّ مطلق الجسميّة يوجب الحدوث و إن غاير بعضها بعضاً.

و ألحق الشيخُ بهم: المجبّرةَ «3»، و المرتضى «4» و جماعة: مَنْ خالف الحقّ مطلقاً.

و ما ذكره المصنّف من الفِرَق على جهة المثال، و ضابطه: مَنْ جحد ما يعلم ثبوته من الدين ضرورة و إن انتحل الإيمان فضلًا عن الإسلام.

و الأصل في نجاسة الكافر بأقسامه بعد إجماع الإماميّة قوله تعالى إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ «5» و إضمار «ذو نجس» و نحوه على خلاف الأصل لا يصار إليه إلا مع تعذّر الحمل على الحقيقة و قد قال اللّه تعالى عن اليهود و النصارى تَعٰالىٰ عَمّٰا يُشْرِكُونَ+ «6» و عمّن خالف الإيمان كَذٰلِكَ يَجْعَلُ اللّٰهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لٰا يُؤْمِنُونَ «7» و خروج بعض الأفراد لدليلٍ لا ينفي دلالته على الباقي.

و أيضاً فالنصارى قائلون بالتثليث و هو شرك، و كلّ مَنْ قال بنجاستهم قال بنجاسة جميع الفِرَق، فالفرق إحداث قول ثالث خارج عن الإجماع.

(و المسكرات) المائعة بالأصالة، فالخمر المجمّد نجس، و الحشيشة ليست نجسةً و إن عرض‌

______________________________
(1) تحرير الأحكام 1: 24، منتهى المطلب 3: 224.

(2) لم نتحقّقه.

(3) المبسوط 1: 14.

(4) نسبه إليه المحقّق الكركي في جامع المقاصد 1: 164.

(5) التوبة (9): 28.

(6) المؤمنون (23): 92.

(7) الأنعام (6): 125.

437
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في أقسام النجاسات ؛ ج‌1، ص : 433

لها الذوبان.

و توقّف المصنّف في المنتهي في تحريم الحشيشة؛ لعدم وقوفه على قولٍ لعلمائنا فيها، قال: و الوجه أنّها إن أسكرت، فحكمها حكم الخمر في التحريم لا النجاسة «1».

و القول بنجاسة المسكر هو المشهور بين الأصحاب.

و نقل المرتضى فيه «2» الإجماع، و مستنده مع الإجماع وصفه في الآية «3» بالرجس المرادف للنجاسة «4»، و لذلك يؤكّد بها، كقولهم: رجس نجس.

و يدلّ عليها أيضاً أخبار، منها: قول الصادق عليه السلام‌

لاتصلّ في ثوب أصابه خمر أو مسكر حتى تغسل

«5». و لا تخلو تلك الأخبار من ضعف إمّا في السند أو الدلالة، و من ثَمَّ قال الصدوق «6» و جماعة «7» بطهارتها تمسّكاً بأحاديث، مع مساواتها لتلك في الضعف. و قصور بعضها في الدلالة لا تقاوم الإجماعَ و إن كان منقولًا بخبر الواحد و ظاهر القرآن.

(و) في حكمها (العصير) العنبي على المشهور خصوصاً بين المتأخّرين.

و يظهر من الذكرى أنّ القائل به قليل، و لا نصّ عليه ظاهراً «8».

و في البيان: لم أقف على نصّ يقتضي تنجيسه «9».

و إنّما ينجس عند القائل به (إذا غلى) و هو أن يصير أعلاه أسفله بنفسه أو بالشمس أو بالنار (و اشتدّ) و هو أن يحصل له ثخانة، و هي مسبّبة عن مجرّد الغليان عند الشهيد «10»، و تبعه الشيخ عليّ «11» رحمه اللّه.

______________________________
(1) منتهى المطلب 3: 222.

(2) في الطبعة الحجريّة: «فيها».

(3) المائدة (5): 90.

(4) مسائل الناصريّات: 95- 96، المسألة 16.

(5) التهذيب 1: 278/ 817، الاستبصار 1: 189/ 660.

(6) الفقيه 1: 43.

(7) منهم: الجعفي كما في الذكرى 1: 144، و ابن أبي عقيل كما في مختلف الشيعة 1: 310، المسألة 230.

(8) الذكرى 1: 115.

(9) البيان: 91.

(10) الذكرى 1: 115.

(11) جامع المقاصد 1: 162.

438
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في أقسام النجاسات ؛ ج‌1، ص : 433

و وجهه: أنّ الغليان لمّا كان هو الموجب لها فكلّ جزء منه يوجب جزءاً منها، و لمّا كان المعتبر أوّل أخذه في الثخانة كفى فيه أوّل أخذه في الغليان و إن لم تظهر للحسّ.

و في المعتبر: يحرم مع الغليان، و لا ينجس إلا مع الاشتداد «1».

و هذا هو الظاهر، فإنّ التلازم غير ظاهر خصوصاً فيما غلى بنفسه.

و الحكم مخصوص بعصير العنب كما ذكرناه، فلا يلحق به عصير التمر و غيره حتّى الزبيب على الأصحّ ما لم يحصل فيه خاصّة الفقّاع؛ للأصل، و خروجه عن مسمّى العنب، و ذهاب ثلثيه بالشمس، فكما تعتبر في نجاسته فكذا في طهارته، فيحلّ طبيخه، خلافاً لجماعة من الأصحاب محتجّين بمفهوم رواية عليّ بن جعفر عن أخيه حيث سأله عن الزبيب يؤخذ ماؤه فيطبخ حتى يذهب ثلثاه، فقال: «لا بأس» «2».

و دلالة المفهوم الوصفي ضعيفة عندنا لو صحّ سند الحديث، كيف! و في طريقه سهل بن زياد.

و غاية نجاسة العصير ذهاب ثلثيه بالنار و غيرها، أو انقلابه خلًا قبل صيرورته دبساً.

و لو أصاب شيئاً قبل ذهاب الثلثين فنجّسه، كفى في طُهره جفاف ثلثي ما أصاب من البلل؛ لوجود علّة الطهر، فلا يتخلّف عنها المعلول.

و متى حكم بطهره حكم بطهر آلات طبخه، و أيدي مزاوليه و ثيابهم، كما يحكم بطُهر آنية الخمر و ما فيها من الأجسام الموضوعة للعلاج و غيره بانقلابه خلا، و طُهرِ يد نازح البئر و الدلو و الرشاء و حافّات البئر و جوانبها.

و السرّ في جميع ذلك أنّه لولا الحكم بطهره، لكانت طهارة هذه الأشياء أمّا متعذّرةً أو متعسّرةً جدّاً بحيث يلزم منه مشقّة عظيمة و حرج واضح مدفوع بالآي و الخبر.

و لو وضع فيه أجسام طاهرة، تبعته في الطهارة و النجاسة، قطع به المصنّف في النهاية «3»، و يؤيّده طُهر الأجسام المطروحة في الخمر المنقلب خلًا. و ليس قياساً ممنوعاً، بل جليّا من باب مفهوم الموافقة.

(و) العاشر من أنواع النجاسات العشر (الفُقّاع) و هو من تفرّدات علمائنا، و قد ورد‌

______________________________
(1) المعتبر 1: 424.

(2) الكافي 6: 421/ 10، التهذيب 9: 121/ 522.

(3) نهاية الأحكام 1: 273.

439
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في أحكام النجاسات ؛ ج‌1، ص : 440

في الأخبار من الطريقين كونه بمنزلة الخمر.

نقل المرتضى عن أحمد بإسناده أنّ الغبيراء التي نهى النبيّ عنها هي الفقّاع.

و عن زيد بن أسلم: الغبيراء التي نهى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عنها هي الأسكركة، و هي خمر الحبشة «1».

و من طريق الأصحاب: ما رواه سليمان بن جعفر «2»، قال: قلت للرضا: ما تقول في شرب الفقّاع؟ فقال: «هو خمر مجهول» «3».

و عنهُ‌

هي خمرة استصغرها الناس

«4». و الأصل في الفقّاع ما يُتّخذ من ماء الشعير، كما ذكره المرتضى في الانتصار «5»، لكن لمّا ورد النهي عنه معلّقاً على التسمية ثبت له ذلك سواء أعمل منه أم من غيره إذا حصل فيه خاصّته، و هي «6» النشيش.

و ما يوجد في الأسواق ممّا يُسمّى فُقّاعاً يحكم بتحريمه تبعاً للاسم، إلا أن يعلم انتفاؤه قطعاً، كما لو شُوهد الناس يضعون ماء الزبيب و غيره الخالي من خاصّيّته في إناءٍ طاهر و لم يغيبوا به عن العين ثمّ أطلقوا عليه اسم الفُقّاع، فإنّه لا يحرم بمجرّد هذا الإطلاق؛ للقطع بفساده.

و اعلم أنّ ما ذكرناه من كون الفُقّاع هو أحد الأنواع العشرة للنجاسة هو المشهور في التقسيمات، و إلا فيمكن جَعْل العصير العنبي أحدَ العشرة، أو هو مع الفُقّاع بناءً على اشتراكهما في معنى واحد، و هو كونهما بحكم المسكر.

[القول في أحكام النجاسات]

و لمّا فرغ من بيان النجاسات بذكر أنواعها شرع في بيان حكمها و هو المقصود بالذات، فقال:

(و تجب إزالة النجاسات) المذكورة (عن الثوب و البدن للصلاة و الطواف) وجوباً مشروطاً بوجوبهما، لا مستقرّاً بمعنى تحريمهما بدون الإزالة و لو كانا مندوبين، فوجوب‌

______________________________
(1) الانتصار: 421، المسألة 239.

(2) في التهذيب: سليمان بن حفص.

(3) الكافي 6: 423- 424/ 10، التهذيب 9: 124/ 539، الإستبصار 4: 95/ 368.

(4) الكافي 6: 423/ 9، التهذيب 9: 125/ 540، الاستبصار 4: 95/ 369.

(5) كما في جامع المقاصد 1: 162، و انظر: الانتصار: 420، المسألة 239.

(6) في «ق، م»: «هو».

440
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في أحكام النجاسات ؛ ج‌1، ص : 440

الإزالة بمعنى الشرط على سبيل المجاز.

(و دخول المساجد) و إن لم يخف التلويث على ما اختاره المصنّف؛ فلذا أطلقه هنا؛ لقول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله‌

جنّبوا مساجدكم النجاسة

«1». و للاتّفاق على منع الكافر من دخولها، و ما ذاك إلا لنجاسته.

و اعتبر جماعة «2» من الأصحاب في وجوب إزالتها لدخول المساجد كونها متعدّيةً إلى المسجد أو شي‌ء من آلاته، أمّا مع عدمه فلا؛ لجواز دخول المستحاضة و الحائض المسجد و الأطفال و هُم لا ينفكّون عن النجاسة غالباً.

قال في الخلاف: يجوز للمجنب و الحائض دخول المساجد بالإجماع «3». و لم يعتبر التلويث.

و منع الكافر؛ لغلظ نجاسته، أو لأنّه معرّض للتلويث غالباً، أو لاختصاصه بذلك.

و يستفاد من الحديث وجوب إزالتها عن المساجد كفايةً؛ لعموم الخطاب و إن تأكّد الوجوب على مُدخلها.

و هل ينافي إزالتها الصلاة مع سعة الوقت و إمكان الإزالة؟ وجه أُخذ من أنّ الأمر بالشي‌ء يستلزم النهي عن ضدّه، و أنّ النهي في العبادة يقتضي الفساد.

و في المقدّمة الأُولى منع ظاهر؛ فإنّ الذي يقتضي الأمر بالإزالة النهي عنه هو الضدّ العامّ الذي هو النقيض، لا الخاصّ كالصلاة، فإنّ المطلوب في النهي هو الكفّ عن الشي‌ء، و الكفّ عن الأمر العامّ غير متوقّف على الأُمور الخاصّة حتى يكون شي‌ء منها متعلّق النهي و إن كان الضدّ العامّ لا يتقوّم إلا بالأضداد الخاصّة؛ لإمكان الكفّ عن الأمر الكلّي من حيث هو هو، حتى أنّ المحقّقين من الأُصوليّين على أنّ الأمر بالكلّي ليس أمراً بشي‌ء من جزئيّاته و إن توقّف عليها من باب المقدّمة، و وجوبه من هذا الباب ليس من نفس الأمر.

لا يقال: وجوب الإزالة على الفور ينافي وجوب الصلاة مع سعة الوقت؛ لأنّ الوجوبين إن اجتمعا في وقتٍ واحد مع بقاء الفوريّة في وجوب الإزالة، لزم تكليف‌

______________________________
(1) أورده العلّامة الحلّي في تذكرة الفقهاء 2: 433، و نهاية الإحكام 1: 280.

(2) منهم: الشهيد في الذكرى 1: 122، و المحقّق الكركي في جامع المقاصد 1: 169.

(3) الخلاف 1: 513- 514، المسألة 258، و 517- 518، المسألة 259.

441
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في أحكام النجاسات ؛ ج‌1، ص : 440

ما لا يطاق، و إلا خرج الواجب الفوري عن كونه واجباً فوريّاً.

لأنّا نقول: لا منافاة بين وجوب تقديم بعض الواجبات على بعض و كونه غير شرط في الصحّة، كما في مناسك منى يوم النحر؛ فإنّ الترتيب فيها واجب بالأصالة، و لو خالف أجزأ، و لا امتناع في أن يقول الشارع: أوجبت عليك كلا من الأمرين مع تضيّق أحدهما و توسعة الآخر، و إنّك إن قدّمت المضيّق، امتثلت و سلمت من الإثم، و إن قدّمت الموسّع، امتثلت و أثمت في المخالفة في التقديم، فلزوم تكليف ما لا يطاق على هذا التقدير ممنوع.

و مثله القول في المعارضة بين الصلاة في الوقت الموسّع و وفاء الدّيْن، و نحو ذلك.

(و) كذا تجب إزالة النجاسة (عن الآنية للاستعمال) حيث يكون الاستعمال (موجباً لتعدّي النجاسة) «1» مشروطاً بالطهارة، كالأكل و الشرب اختياراً، لا مطلق الاستعمال.

و كذا تجب إزالتها عمّا أمر الشارع بتعظيمه كالمصاحف المطهّرة و الضرائح المقدّسة و آلاتهما، و عن مسجد الجبهة؛ للنصّ «2»، و عن المساجد السبعة عند أبي الصلاح «3»، و عن المصلّى بأسره عند المرتضى «4»، كلّ ذلك عند تحقّق الحاجة إليه، كدخول الوقت إن أُريد الواجب الموسّع، و ضيقه إن أُريد المضيّق.

(و عُفي في الثوب و البدن عن دم القروح و الجروح اللازمة) أي المستمرّة الخروج بحيث لا تنقطع أصلًا، أو تنقطع فترة لاتسع لأداء الفريضة مع إزالتها، أمّا لو انقطعت كذلك، وجب على ما اختاره المصنّف «5» و شيخه المحقّق «6»، و تبعهما الشهيد «7» رحمه اللّه.

و بالغ المصنّف في النهاية، فاقتصر من نجاسة الثوب و البدن على محلّ الضرورة، و أوجب إبدال الثوب مع الإمكان مطلقاً؛ محتجّاً بزوال المشقّة «8».

و قريب منه حكمه في القواعد؛ فإنّه قيّد الرخصة من أصلها بمشقّة الإزالة «9».

______________________________
(1) ما بين القوسين لم يرد في «م».

(2) أنظر: التذهيب 1: 272- 273/ 802، و 2: 372/ 1548، و الاستبصار 1: 193/ 675.

(3) الكافي في الفقه: 140- 141.

(4) حكاه عنه المحقّق الحلّي في المعتبر 1: 431، و الشهيد في البيان: 130، و الذكرى 1: 122.

(5) تذكرة الفقهاء 1: 73.

(6) المعتبر 1: 429.

(7) الذكرى 1: 137.

(8) نهاية الإحكام 1: 286 و 287.

(9) قواعد الأحكام 1: 8.

442
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في أحكام النجاسات ؛ ج‌1، ص : 440

و رواية أبي بصير عن أبي جعفر عليه السّلام قال: قلت: إنّ قائدي أخبرني أنّك تصلّي و في ثوبك دم، فقال‌

بي دماميل و لست أغسل ثوبي حتى تبرأ

«1» تدلّ على خلاف ذلك، بل على أنّ غاية الرخصة برؤها، فلا يجب إبدال الثوب، و لا تخفيف النجاسة و لا عصبها بحيث يمنع الدم من الخروج زمن الصلاة. و اختاره المحقّق الشيخ عليّ «2»، و فسّر اللازمة في عبارة الكتاب بأنّها التي لم تبرأ «3».

و مختاره حسن دون تفسيره؛ لأنّ ذلك ليس مذهباً للمصنّف حتى يفسّر كلامه به، و إنّما يصلح تفسيره بذلك على مذهب المفسّر.

(و عمّا دون سعة الدرهم البغلي) بإسكان الغين و تخفيف اللام منسوب إلى رأس البغل ضربه للثاني في ولايته بسكّة كسرويّة فاشتهر به.

و قيل: بفتحها و تشديد اللام منسوب إلى بغل قرية بالجامعين كان يوجد بها دراهم تقرب سعتها من أخمص الراحة، و هو ما انخفض من باطن الكفّ، ذكر ابن إدريس أنّه شاهده كذلك «4». و شهادته في قدره مسموعة.

و قُدّر أيضاً بعقد الإبهام العليا، و هو قريب من أخمص الكفّ. و قُدّر بعقدة الوسطى.

و الظاهر أنّه لا تناقض بين هذه التقديرات؛ لجواز اختلاف الدراهم «5» من الضارب الواحد كما هو الواقع، و إخبار كلّ واحد عن فردٍ رآه.

و مستند العفو صحيحة عبد اللّه بن أبي يعفور عن الصادق عليه السلام، قال: قلت لأبي عبد اللّه: الرجل يصلّي و في ثوبه نقط الدم ينسى أن يغسله فيصلّي ثمّ يذكره، قال‌

يغسله و لا يعيد صلاته إلا أن يكون مقدار الدرهم مجتمعاً فيغسله و يعيد

«6». و إنّما يُعفى عن هذا المقدار (من الدم المسفوح) و هو الخارج من البدن عدا ما استثني في حال كونه (مجتمعاً) هذا المقدار، و هو ما دون الدرهم.

______________________________
(1) الكافي 3: 58/ 1، التذهيب 1: 258/ 747، الاستبصار 1: 177/ 616.

(2) جامع المقاصد 1: 171، حاشية المحقّق الكركي على إرشاد الأذهان: ورقة 14- 15.

(3) حاشية المحقّق الكركي على إرشاد الأذهان: ورقة 14.

(4) السرائر 1: 177.

(5) في «ق، م» «أفراد الدراهم».

(6) التذهيب 1: 255/ 740، الاستبصار 176/ 611.

443
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في أحكام النجاسات ؛ ج‌1، ص : 440

(و في) الدم (المتفرّق خلاف) و اختار المصنّفُ في غير «1» هذا الكتاب، و أكثرُ «2» المتأخّرين إلحاقَه بالمجتمع، فتجب إزالته إن بلغه لو جُمع؛ لإطلاق التقدير في بعض «3» الأخبار، و صحيحة ابن أبي يعفور، المتقدّمة «4» تدلّ عليه أيضاً؛ لأنّها مفروضة في المتفرّق كما عُلم من قوله‌

في ثوبه نقط الدم.

و قيل بعدم وجوب الإزالة مطلقاً «5»؛ استناداً إلى هذا الخبر، بجَعل «مجتمعاً» خبراً ل‍ «كان».

و أجاب المصنّف بإمكان كونه حالًا مقدّرة «6».

و رُدّ «7» بأنّ الحال المقدّرة هي التي زمانها غير زمان عاملها، ك‍‌

مررت برجل معه صقر صائداً به غداً

أي مقدّراً فيه الصيد، و هنا لا بدّ من اتّحاد زمان الحال و عاملها.

و الأولى كونه حالًا محقّقة، و تقدير الاجتماع يدلّ عليه صدر الحديث كما بيّنّاه، و تبقى دلالته على ما تحقّق فيه الاجتماع من باب مفهوم الموافقة؛ لأنّ المجتمع بالفعل لا يعقل تقدير الاجتماع فيه.

و هذا الحكم في الدم المتفرّق في الثوب الواحد، أمّا المتفرّق في الثياب المتعدّدة، أو فيها و في البدن: فهل الحكم فيها كذلك بمعنى تقدير جميع ما فيها، أو لكلّ واحد من الثوب و البدن حكم بانفراده و لا يضمّ أحدهما إلى الآخر، أو لكلّ ثوب حكم كذلك فلا يضمّ بعضها إلى بعض و لا إلى البدن؟ أوجُه، و اعتبار الأوّل أوجَه و أحوط.

و لو أصاب الدم وجهَي الثوب، فإن تفشّي من جانب إلى آخر، فدم واحد، و إلا فدمان.

و اعتبر الشهيد في الوحدة مع التفشّي رقّة الثوب، و إلا تعدّد «8».

______________________________
(1) كتحرير الاحكام 1: 24، و قواعد الأحكام 1: 8، و مختلف الشيعة 1: 320- 321، و المسألة 236، و منتهى المطلب 3:

253، و نهاية الإحكام 1: 287.

(2) منهم: السيوري في التنقيح الرائع 1: 149، و الشهيد في الذكرى 1: 137، و المحقّق الكركي في جامع المقاصد 1:

172.

(3) الكافي 3: 59/ 3، الفقيه 1: 161/ 758، التهذيب 1: 254/ 763، الإستبصار 1: 175/ 609.

(4) في ص 443.

(5) كما في جامع المقاصد 1: 172، و انظر: السرائر 1: 178.

(6) مختلف الشيعة 1: 322، المسألة 236.

(7) الرادّ هو المحقّق الكركي في جامع المقاصد 1: 172.

(8) الذكرى 1: 138، البيان: 95.

444
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في أحكام النجاسات ؛ ج‌1، ص : 440

و لو أصاب الدم المعفوّ عنه مائع طاهر و لم يبلغ المجموع الدرهم، قيل «1»: زال العفو؛ لأنّه قد صار حاملًا لنجس «2»، و هو الرطوبة الملاقية للدم، و ليست دماً مسفوحاً، و اختاره الشهيد في البيان «3».

و الأصحّ أنّ العفو بحاله؛ لأنّ المنجّس «4» بشي‌ء لا يزيد عليه؛ لعدم زيادة الفرع على أصله، و هو اختيار الذكرى «5».

و قوله (غير) الدماء (الثلاثة) استثناء من الدم المذكور أو صفة له اعترض بينهما بجملة‌

و في المتفرّق خلاف.

أمّا الحيض: فقد ورد في موقوف أبي بصير أنّه لا يعفى عن كثيره و لا قليله «6»، و عمل بمضمونه الأصحاب. و ألحقوا به دم الاستحاضة و النفاس؛ لاشتراكهما في إيجاب الغسل، و هو مشعر بغلظ حكمها؛ و لأنّ النفاس حيض محتبس و الاستحاضة مشتقّة منه.

(و) غير (دم نجس العين) و هو الكلب و أخواه و الميتة؛ لتضاعف النجاسة.

(و) عُفي أيضاً (عن) مطلق (نجاسة ما لا تتمّ الصلاة فيه) حالة كونه (منفرداً، كالتكّة و الجورب) و هو نعل مخصوص معرّب (و القلنسوة) بضم السين (و ما أشبه ذلك) ممّا لا يستر العورتين.

و الأصل فيه قول الصادق عليه السلام‌

كلّ ما كان على الإنسان أو معه ممّا لا تجوز الصلاة فيه فلا بأس أن يصلّي فيه و إن كان فيه قذر، مثل القلنسوة و التكّة و النعل و الخفّين و ما أشبه ذلك

«7». و اقتصر بعضهم «8» على ما في الرواية. و لفظ «مثل» و «ما أشبه ذلك» يأباه.

و ألحق الصدوقان العمامةَ «9»، بناءً على عدم صحّة الصلاة فيها على الهيئة المخصوصة.

______________________________
(1) أنظر: منتهى المطلب 3: 256.

(2) في «ق، م»: «لمنجس».

(3) أنظر: البيان: 95.

(4) في الطبعة الحجريّة «المتنجّس».

(5) الذكرى 1: 138.

(6) الكافي 3: 405/ 3، التذهيب 1: 257/ 745.

(7) التهذيب 1: 275/ 810.

(8) هو القطب الراوندي كما في مختلف الشيعة 1: 325- 326، المسألة 242، و الذكرى 1: 138.

(9) الفقيه 1: 42 ذيل الحديث 167، المقنع: 14، و حكاه عنهما العلّامة الحلّي في مختلف الشيعة 1: 327، المسألة 243، و الشهيد في الذكرى 1: 139.

445
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في أحكام النجاسات ؛ ج‌1، ص : 440

و ليس بجيّد؛ لأنّها ثوب تتمّ فيه الصلاة منفرداً إلا أن تكون صغيرةً بحيث لا تستر العورة، فتكون كغيرها.

و إنّما يعفى عن هذه الأشياء حالة كونها (في محالّها) فلو كانت التكّة على عاتقه أو الجورب في يده، لم تصحّ الصلاة فيه مع نجاسته؛ قصراً للرخصة على موضع الحاجة و محلّ الوفاق.

و اشترط المصنّف أيضاً كونها ملابس «1»، كما في الأمثلة، فلا تتعلّق الرخصة بغيرها؛ لانتفاء الحاجة، و عدم النصّ المخرج عن عموم المنع، فلو كان معه دراهم نجسة أو غيرها كالسكّين و السيف، لم تصحّ صلاته و إن كانت في محالّها.

و في كلا الحكمين إشكال؛ لعموم الحديث الدالّ على الجواز مطلقاً في قوله‌

كلّ ما على الإنسان أو معه

«2» و لا ريب أنّ ما ذكره المصنّف أحوط «3».

و العفو عن هذه الأشياء ثابت (و إن نجست بغير الدم) حتى لو كانت نجاستها مغلّظةً، كأحد الدماء الثلاثة، و المنيّ، أمّا لو كانت نفسها نجاسةً، كجلد الميتة، لم يعف عنها؛ لقول الصادق عليه السلام في الميتة‌

لاتصلّ في شي‌ء منه و لا شسع

«4». (و لا بدّ من العصر) في غَسل ما يمكن عصره بغير عسر كالثياب إذا كان الغَسل في غير الكثير؛ لأنّ النجاسة تزول به، و لأنّ الماء القليل يتنجّس بها، فلو بقي في المحلّ، لم يحكم بطهره خصوصاً على ما حكيناه من مذهب المصنّف من أنّ أثر النجاسة لا يطهر إلا بعد الانفصال، فعلى هذا لو جفّ الماء على المحلّ و لم ينفصل، لم يطهر.

و ما يعسر عصره كالثخين من الحشايا و الجلود يكفي فيه الدقّ و التغميز؛ للرواية «5».

و ما لا يقبل العصر، فإن أمكن نزع الماء المغسول به عنه كالبدن و الخشب و الحجر غير ذي المسام التي يثبت فيها الماء كفى صبّ الماء عليه مع انفصاله عن محلّ النجاسة.

______________________________
(1) قواعد الأحكام 1: 8، منتهى المطلب 3: 260، الفرع الأوّل، نهاية الإحكام 1: 283.

(2) التذهيب 1: 275/ 810.

(3) في «ق، م» زيادة: «و اعلم أنّ الرواية الدالّة على الحكم مرسلة لكنّ الأصحاب تلقّوها بالقبول، و لم أقف لها على رادّ، و يمكن حينئذ أن يقتصر فيها على مورد النصّ، و هو الذي اختاره المصنّف، و لكن لا دليل عليه من جهة النصّ».

(4) التذهيب 2: 203/ 793.

(5) الكافي 3: 255/ 2، الفقيه 1: 41/ 159، التهذيب 1: 251/ 724.

446
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في أحكام النجاسات ؛ ج‌1، ص : 440

و إن لم يمكن نزع الماء عنه كالمائعات و القرطاس و الطين و الحبوب و الجبن ذي المسامّ المانعة من فصل الماء، و الفاكهة المكسورة لم يطهر بالقليل، بل بتخلّل الكثير لها في غير المائعات، أمّا فيها فإن امتزجت به بحيث يطلق على الجميع اسم الماء، طهرت، و إلا فلا، كالدهن الذائب؛ لبقائه في الماء غير مختلط به و إنّما يصيب سطحه، و لو كان جامداً، طهر ظاهره بالغسل كسائر الجامدات، و لا تمنع لزوجته من تطهيره على هذا الوجه، كما لا تمنع من طهارة البدن و غيره الموجود عليه شي‌ء منها إذا لم يكن لها «1» جرم.

و اشتراط العصر معتبر في سائر النجاسات (إلا في بول) الصبيّ (الرضيع) الذي لم يغتذ بغير اللبن كثيراً بحيث يزيد على اللبن أو يساويه، و لم يتجاوز الحولين، فإنّه يكفي صبّ الماء على محلّه من غير عصر و لا جريان.

و لا يلحق به بول الصبيّة؛ للأمر بغَسله «2».

(و تكتفي المربيّة للصبيّ) و الصبيّة؛ لأنّ مورد الرواية «3» المولود، و هو شامل لها (بغَسل ثوبها الواحد في اليوم) و الليلة. و اكتفاؤه بلفظ «اليوم» إمّا لشموله لها لغةً، أو لكونها تابعةً له (مرّة) واحدة.

و الأفضل كونه آخر النهار؛ لتصلّي أربع صلوات متقاربة عقيبه.

و ألحق المصنّف «4» المربّي بالمربية؛ للاشتراك في العلّة، و هي المشقّة الحاصلة من تكثّر النجاسة على تقدير غسله للصلوات.

و أُلحق بالمولود الواحد المتعدّدُ «5»؛ للاشتراك فيها أيضاً و زيادة بسبب الحاجة إلى تعاهد التربية، مع احتمال زوال الرخصة؛ لقوّة النجاسة و كثرتها.

و احترز بالثوب الواحد عن ذات الثوبين فصاعداً، فلا تلحقها الرخصة؛ لزوال المشقّة بإبدال الثياب، و وقوفاً مع ظاهر النصّ. و هذا إذا لم تحتج إلى لُبسهما دفعةً لبردٍ و نحوه، و إلا فكالثوب الواحد.

______________________________
(1) في «ق، م»: «له».

(2) الفقيه 1: 40/ 57، التهذيب 1: 250/ 718، الاستبصار 173/ 601.

(3) الفقيه 1: 41/ 161، التذهيب 1: 250/ 719.

(4) تذكرة الفقهاء 2: 494، الفرع «ج»، قواعد الأحكام 1: 8، نهاية الإحكام 1: 288.

(5) ألحقه الشهيد في الذكرى 1: 139.

447
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في أحكام النجاسات ؛ ج‌1، ص : 440

و لو أمكن ذات الواحد تحصيل غيره بشراء أو استئجار أو إعارة، ففي وجوبه عليها و زوال الرخصة بذلك نظر.

و مورد الرواية تنجّس الثوب بالبول «1»، فتقصر الرخصة عليه، اقتصاراً فيما خالف الأصل على موضع اليقين، فلا يتعدّى إلى غيره من غائطه و دمه و غيرهما، و لا إلى نجاسة غيره بطريق أولى.

و ربما احتمل شمول البول للغائط بناءً على ما هو المعروف من قاعدة العرب في ارتكاب الكناية فيما يستهجن التصريح به، و عموم البلوى به كالبول، بل شمول الرخصة لنجاسة الصبيّ مطلقاً، كما يقتضيه إطلاق عبارة الكتاب و جماعة من الأصحاب، إلا أنّ الوقوف مع النصّ أولى.

و هذا الحكم مختصّ بالثوب، أمّا البدن فيجب غَسله بحسب المكنة؛ لعدم النصّ، و المشقّة الحاصلة في الثوب الواحد بسبب توقّف لُبسه على يبسه.

(و إذا علم موضع النجاسة، غسل) ذلك الموضع خاصّة (و إن اشتبه، غسل جميع ما يحصل فيه الاشتباه) لتوقّف اليقين بالطهارة عليه. هذا إذا كان محصوراً، و إلا سقط؛ للحرج و العسر، و سيأتي إن شاء اللّه تحقيق حال المحصور و غيره.

(و لو نجس أحد الثوبين و اشتبه، غسلا) و هذا كالمستغنى عنه؛ لدخوله في العبارة الأُولى، و كأنّه أعاده ليرتّب عليه حكم الصلاة فيهما.

(و مع التعذّر يصلّي) الصلاة (الواحدة فيهما مرّتين) ليحصل اليقين بوقوعها «2» في ثوبٍ طاهر، هذا مع فقد ثوبٍ طاهر غيرهما يقيناً، و إلا لم تجز الصلاة فيهما؛ لاشتراط الجزم في النيّة بحسب الإمكان، و مع الصلاة في الثوبين لا جزم؛ إذ لا يعلم أيّ الصلاتين فرضه؛ لعدم علمه بالثوب الطاهر، و هذا بخلاف ما لو فقد غيرهما؛ لما بيّنّاه من أنّ الجزم إنّما هو بحسب الإمكان.

و منع ابن إدريس من الصلاة فيهما، و حتم الصلاة عارياً؛ محتجّاً بعدم الجزم «3».

______________________________
(1) الفقيه 1: 41/ 161، التذهيب 1: 250/ 719.

(2) في الطبعة الحجريّة: «بهاد» بدل «بوقوعها».

(3) السرائر 1: 184- 185.

448
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في أحكام النجاسات ؛ ج‌1، ص : 440

و قد عرفت جوابه، و أيضاً فإنّ الجزم على هذا التقدير حاصل بهما؛ لأنّ يقين البراءة لمّا توقّف على الصلاتين، فكلّ منهما واجبة عليه و إن كان من باب المقدّمة، و هذا القدر كافٍ في حصول الجزم حيث لا يمكن أتمّ منه.

و لو تعدّدت الصلاة فيهما، وجب مراعاة الترتيب، فيصلّي الظهر في أحد الثوبين ثمّ ينزعه و يصلّيها في الآخر ثمّ يصلّي العصر و لو في الثاني ثمّ يصلّيها في الآخر.

و لو ضاق الوقت عن الصلاة فيهما على هذا الوجه، فالمختار عند المصنّف الصلاة عارياً «1»؛ لتعذّر العلم بالصلاة في الطاهر بيقين.

و الأصحّ تعيّن الصلاة في أحدهما؛ لإمكان كونه الطاهر. و لاغتفار النجاسة عند تعذّر إزالتها. و لأنّ فقد وصف الساتر أسهل من فقده نفسه، و لما سيأتي «2» من النصّ على جواز الصلاة في الثوب النجس يقيناً إذا لم يجد غيره.

(و كلّ ما لاقى النجاسة برطوبة) حاصلة في المتلاقيين أو في أحدهما (نجس، و لا ينجس لو كانا) معاً (يابسين) كما ورد به النصّ «3» في ملاقاة الكلب و الخنزير و الكافر.

و ما ورد من الأمر بالنضح يابساً «4» محمول على الندب.

و في حكم اليابس ما فيه بقايا رطوبة قليلة جدّاً بحيث لا يتعدّى منها شي‌ء إلى الملاقي لها.

و يستثنى من ذلك ملاقاة ميّت الآدمي قبل تطهيره؛ فإنّ نجاسته تتعدّى مع اليبس كما تقدّم، و كذا ميتة غيره على الخلاف.

(و لو صلّى) المكلّف (مع نجاسة ثوبه أو بدنه) أو القدر المعتبر من مسجد الجبهة «5» نجاسة لم يعف عنها مع تمكّنه من إزالتها (عامداً، أعاد في الوقت و خارجه) إجماعاً؛ للنهي المفسد للعبادة، و جاهل الحكم عامد.

(و) في (الناسي) أقوال ثلاثة مستندة إلى اختلاف الأخبار ظاهراً.

أحدها: الإعادة مطلقاً؛ لتفريطه بالنسيان، لقدرته على التكرار الموجب للتذكار.

و لصحيحة أبي بصير عن الصادق عليه السلام قال‌

إن أصاب ثوب الرجل الدم و صلّى فيه

______________________________
(1) قواعد الأحكام 1: 8، نهاية الإحكام 1: 282.

(2) في ص 452.

(3) الكافي 3: 60/ 1، التهذيب 1: 260/ 756، و 424/ 1347.

(4) الكافي 3: 60/ 1، التهذيب 1: 260/ 756، و 424/ 1347.

(5) في «ق، م»: «جبهته».

449
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في أحكام النجاسات ؛ ج‌1، ص : 440

و هو لا يعلم فلا إعادة عليه، و إن علم قبل أن يصلّي و صلّى فيه فعليه الإعادة

«1». و في مقطوعة زرارة قال: قلت: أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره أو شي‌ء من منيّ فعلّمت أثره إلى أن أُصيب الماء، فأصبت و حضرت الصلاة و نسيت أنّ بثوبي شيئاً و صلّيت ثمّ إنّي ذكرت بعد ذلك، قال: «تعيد الصلاة و تغسله» «2».

و في معناها روايات أُخر متناولة بإطلاقها الناسي و العامد، فيشتركان في غير الإثم. و هو اختيار الأكثر «3».

و ثانيها: عدم الإعادة مطلقاً؛ لرفع الخطأ و النسيان عن الأُمّة.

و لحسنة العلاء عن أبي عبد اللّهُ، قال: سألته عن الرجل يصيب ثوبه الشي‌ء فينجّسه فينسى أن يغسله فيصلّي فيه ثمّ يذكر أنّه لم يكن غسله، أ يعيد الصلاة؟ قال‌

لا يعيد، قد مضت الصلاة و كُتِبت له

«4». و يؤيّد هذه الرواية أنّ العمل بها لا ينافي العمل بالأُولى؛ لأنّ مطلقها يحمل على العامد، فيجمع بين النصّين، بخلاف العمل بالأُولى؛ فإنّ فيه اطراح هذه بالكلّيّة.

و حملها الشيخ في التهذيب على نجاسة قليلة لا تجب إزالتها، كالدم اليسير «5».

و ثالثها: أنّه (يعيد في الوقت خاصّةً) كما اختاره المصنّف هنا، جمعاً بين الأخبار بحمل الثانية على خروج الوقت، و الأولى على بقائه.

و يؤيّد هذا الحمل ما رواه عليّ بن مهزيار، قال: كتب إليه سليمان بن رشيد يُخبره أنّه بال في ظلمة الليل و أنّه أصاب كفّه برد نقطة من البول لم يشكّ أنّه أصابه و لم يره و أنّه مسحه بخرقة ثمّ نسي أن يغسله و تمسّح بدهن فمسح به كفّيه و وجهه و رأسه ثمّ توضّأ وضوء الصلاة فصلّى، فأجابه بجوابٍ قرأته بخطّه‌

أمّا ما توهّمت ممّا أصاب يدك فليس بشي‌ء إلا ما تحقّق، فإن حقّقت ذلك كنت حقيقاً أن تعيد الصلوات التي كنت صلّيتهنّ بذلك الوضوء

______________________________
(1) التهذيب 1: 254/ 737، الاستبصار 1: 182/ 637.

(2) التهذيب 1: 421/ 1335، الاستبصار 1: 183/ 641.

(3) منهم: السيّد المرتضى كما في المعتبر: 441، و الشيخ الطوسي في النهاية: 52، و المبسوط 1: 38، و ابن إدريس في السرائر 1: 183.

(4) التذهيب 1: 423- 424/ 1345، الاستبصار 1: 183- 184/ 642.

(5) التهذيب 1: 424.

450
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في أحكام النجاسات ؛ ج‌1، ص : 440

بعينه ما كان منهنّ في وقتها، و ما فات وقتها فلا إعادة عليك

«1». و هذه الرواية مردودة بجهالة المسئول، و كونها مكاتبةً، و الرواية الحسنة «2» لا تقاوم ما تقدّم من الروايات؛ فإنّها أكثر و أشهر، فتعيّن العمل بها، مع أنّ القول بالتفصيل متّجه؛ لأنّ فيه جمعاً بين الأخبار.

(و الجاهل) بالنجاسة حتى صلّى (لا يعيد) الصلاة (مطلقاً) لا في الوقت و لا في خارجه على أشهر القولين؛ لأمره بالصلاة على تلك الحال، و الأمر يقتضي الإجزاء.

و لرواية أبي بصير، المتقدّمة «3».

و مثلها رواية محمّد بن مسلم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام‌

إن رأيت المني قبل أو بعد ما تدخل في الصلاة فعليك الإعادة، و إن أنت نظرت في ثوبك فلم تصبه ثمّ صلّيت فيه ثمّ رأيته بعد فلا إعادة عليك

«4». و في رواية أُخرى عنهُ إطلاق الإعادة «5».

و جمع بعض الأصحاب بينهما بالحمل على الوقت و خارجه «6». و هو أولى.

(و لو علم) بالنجاسة (في الأثناء، استبدل) بالثوب الذي وجدها فيه، سواء علم تقدّمها على الصلاة أم لا، بناءً على ما اختاره من عدم إعادة الجاهل في الوقت، و إلا استأنف الصلاة مطلقاً إن علم سبق النجاسة عليها مع سعة الوقت، لا مع ضيقه بحيث لا يدرك ركعة بعد القطع، فيبني على صلاته مع طرح ما هي فيه؛ لئلا يلزم وجوب القضاء على الجاهل بالنجاسة.

(و لو تعذّر) الاستبدال (إلا بالمبطل) للصلاة، كالفعل الكثير و الاستدبار (أبطل) الصلاة إن كان في الوقت سعة، أمّا مع الضيق فإشكال من أنّ النجاسة مانع الصحّة، و من وجوب أداء الفريضة في الوقت.

______________________________
(1) التهذيب 1: 426- 427/ 1355، الإستبصار 1: 184/ 643.

(2) أي: رواية العلاء، المتقدّمة في ص 450.

(3) في ص 449- 450.

(4) التذهيب 1: 252- 253/ 730، و 2: 223/ 880.

(5) التهذيب 2: 202/ 792، الاستبصار 1: 182/ 639.

(6) كما في الذكرى 1: 141، و جامع المقاصد 1: 150.

451
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في أحكام النجاسات ؛ ج‌1، ص : 440

و اختار في البيان الاستمرار مع الضيق «1».

و على الأوّل يبطلها ثمّ يقضي بعد الاستبدال.

(و لو نجس الثوب و ليس له غيره، صلّى عرياناً) كما اختاره الأكثر «2»؛ للأمر بالصلاة عارياً في عدّة أخبار «3».

و ذهب المصنّف في بعض كتبه إلى التخيير بين الصلاة فيه و عارياً «4»؛ لرواية عليّ بن جعفر عن أخيه موسى عليهما السّلام قال: سألته عن رجل عريان و حضرت الصلاة فأصاب ثوباً نصفه دم أو كلّه أ يصلّي فيه أو يصلّي عرياناً؟ قال‌

إن وجد ماءً غَسَله، و إن لم يجد ماء صلّى فيه و لم يصلّ عرياناً

«5». و هذا هو الوجه، بل الصلاة فيه أفضل؛ لأنّ فوات الشرط أقوى من فوات وصفه، مع ما فيه من فضيلة الستر و كمال أفعال الصلاة، فإنّ الصلاة عارياً توجب الإيماء على وجه. و لأنّ شرطيّة الستر أقوى من شرطيّة الطهارة من الخبث، و لو لا دعوى المصنّف في المنتهي جواز الصلاة عارياً و لا إعادة قولًا واحداً «6»، لأمكن القول بتحتّم الصلاة فيه.

(فإن تعذّر) فعله الصلاة عارياً (للبرد و غيره، صلّى فيه) و على ما ذكرناه تتحتّم الصلاة فيه هنا دفعاً للضرر.

(و لا يعيد) الصلاة على التقديرين؛ لامتثاله المأمور به على وجهه بالنسبة إلى هذه الحال، فيخرج عن العهدة. و للأمر بفعله على هذه الحالة، كما ورد في الخبر «7»، فلا يتعقّب القضاء.

و المراد بالإعادة المنفيّة فعل الصلاة ثانياً، سواء كان في الوقت أم خارجه، و هو أحد‌

______________________________
(1) البيان: 96.

(2) منهم: الشيخ الطوسي في النهاية: 55، و المبسوط 1: 91، و الخلاف 1: 398، المسألة 150، و ابن إدريس في السرائر 1: 186، و المحقّق الحلّي في شرائع الإسلام 1: 46.

(3) الكافي 3: 396/ 15، التهذيب 1: 406- 407/ 1278، و 2: 223- 224/ 881 و 882، الاستبصار 1: 168/ 582 و 583.

(4) منتهى المطلب 3: 303.

(5) الفقيه 1: 160 161/ 756، التهذيب 2: 224/ 884، الاستبصار 1: 169/ 585.

(6) منتهى المطلب 3: 303 و 304.

(7) التهذيب 2: 224/ 883، الاستبصار 1: 169/ 584.

452
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في أحكام النجاسات ؛ ج‌1، ص : 440

التفسيرين للإعادة، و أكثر «1» الأُصوليّين خصّها بالفعل ثانياً في الوقت لوقوع خلل في الأوّل، فهي قسم من الأداء، و ليس المراد هنا، بل ما هو أعمّ منه، كما ذكرناه و إن كان القائل به قليلًا.

(و تطهّر الشمس ما تجفّفه من البول و شبهه) من النجاسات التي لا جرم لها الكائنة (في الأرض و البواري و الحصر و) ما لا ينقل عادةً ك‍ (الأبنية و النبات) المتّصل و الأخشاب و الأبواب المثبتة في البناء، و الأوتاد المستدخلة فيه، و الأشجار و الفواكه الباقية عليها، و نحو ذلك.

و لا بدّ في التجفيف من كونه بإشراق الشمس، فلا يكفي التجفيف بالحرارة؛ لقول الصادق عليه السّلام «2»

ما أشرقت عليه الشمس فقد طهر

«3» و لا بالريح المنفرد عنها، خلافاً للخلاف «4».

نعم، لا يضرّ مشاركته لها؛ لعدم انفكاكها عنه غالباً.

و حُمل «5» على إرادة ذهاب الأجزاء المنجّسة؛ لحكمه فيه في موضعٍ آخر بأنّ الأرض لا تطهر بجفاف غير الشمس «6».

و لا يطهر ما تبقى فيه عين النجاسة، كحمرة الدم في المجزرة و نحوها ممّا تبقى فيه العين.

و متى أشرقت الشمس مع رطوبة المحلّ طهر الظاهر و الباطن إذا جفّ الجميع بها مع اتّصال النجاسة و اتّحاد الاسم، كالأرض التي دخلت فيها النجاسة، دون وجهي الحائط إذا كانت النجاسة فيهما غير خارقة له و أشرقت على أحدهما، فإنّه لا يطهر الآخر، و دون الأرض و الحائط إذا أشرقت على أحدهما و إن كانا متّصلين.

(و) تطهّر (النار ما أحالته) رماداً أو دخاناً أو فحماً على أحد الوجهين، لا خزفاً على أظهرهما.

و طهّره الشيخ «7» و المصنّف في بعض «8» كتبه إجراءً له مجرى الرماد.

______________________________
(1) منهم: العلّامة الحلّي في نهاية الوصول، المقصد الأوّل، الفصل السابع، المبحث الخامس: في القضاء و الأداء و الإعادة.

(2) في المصادر: عن الإمام الباقر عليه السّلام، و في الذكرى 1: 128 كما في المتن.

(3) التهذيب 1: 273/ 804، و 2: 377/ 1572، و الاستبصار 1: 193/ 677.

(4) الخلاف 1: 218، المسألة 186.

(5) أي: حمل كلام الشيخ الطوسي في الخلاف، كما في الذكرى 1: 128- 129.

(6) الخلاف 1: 495، المسألة 236.

(7) الخلاف 1: 499، المسألة 239.

(8) نهاية الحكام 1: 291.

453
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في أحكام النجاسات ؛ ج‌1، ص : 440

و فيه منع؛ لعدم خروج الخزف عن مسمّى الأرض، كما لم يخرج الحجر عن مسمّاها مع أنّه أقوى تصلّباً منه مع تساويهما في العلّة، و هي عمل الحرارة في أرضٍ أصابها رطوبة، و من ثَمَّ جاز السجود عليهما مع اختصاصه بالأرض و نباتها بشرطية، فإنّ المصنّف و إن حكم بطهره جوّز السجود عليه «1».

و ليست الاستحالة مختصّةً بالنار، بل هي مطهّرة برأسها، و من ثَمَّ طهرت النطفة و العلقة بصيرورتهما حيواناً، و العذرة و الميتة إذا صارتا تراباً.

لكن لو كانت العذرة و نحوها رطبةً و نجّست التراب ثمّ استحالت، لم يطهر التراب المنجّس بطهرها، فلو امتزجت، بقيت الأجزاء الترابيّة على النجاسة و المستحيلة أيضاً؛ لاشتباهها بها.

(و) تُطهّر (الأرض باطنَ النعل و القدم) سواء زالت النجاسة عنهما بالمشي أم الدلك؛ لما روي عنه صلّى اللّه عليه و آله في النعلين‌

فليمسحهما و ليصلّ فيهما

«2» و قوله صلّى اللّه عليه و آله‌

إذا وطئ أحدكم الأذى بخُفّيه فإنّ التراب له طهور

«3» و قول الباقر عليه السلام في العذرة يطؤها برِجله‌

يمسحها حتى يذهب أثرها

«4». و المراد بالباطن ما تستره الأرض حالة الاعتماد عليها، فلا يلحق به حافّاتهما.

و لا فرق بين التراب و الحجر و الرمل؛ لأنّها من أصناف الأرض.

و اشترط بعض الأصحاب طهارتها؛ لأنّ النجس لا يطهّر غيره، و جفافَها «5».

و لم يشترطه المصنّف، بل اكتفى بالرطبة ما لم يصدق عليها اسم الوحل «6». و هو حسن.

نعم، لا تقدح الرطوبة اليسيرة بحيث لا يحصل منها تعدّ على القولين و تزول عين النجاسة.

و لا فرق في النجاسة بين ذات الجرم و غيرها، و لا بين الجافّة و الرطبة، و لا فرق بين النعل و الخُفّ و غيرهما ممّا ينتعل و لو من خشب كالقبقاب.

______________________________
(1) تذكرة الفقهاء 2: 177، الفرع «ج».

(2) سنن أبي داود 1: 175/ 650، سنن البيهقي 2: 563/ 4087.

(3) سنن أبي داود 1: 105/ 385/ 386، المستدرك- للحاكم- 1: 166.

(4) التهذيب 1: 275/ 809.

(5) المحقّق الكركي في جامع المقاصد 1: 179.

(6) نهاية الإحكام 1: 291.

454
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

القول في أحكام النجاسات ؛ ج‌1، ص : 440

و في إلحاق خشبة الزمن و الأقطع بالنعل نظر من الشكّ في تسميتها نعلًا بالنسبة إليه.

و لا يلحق بهما أسفل العكّاز و كعب الرمح و ما شاكل ذلك؛ لعدم إطلاق اسم النعل عليها حقيقةً و لا مجازاً.

و أمّا إلحاق سكّة الحرث «1» و نحوها بها كما يوجد في بعض القيود فمن الخرافات الباردة.

______________________________
(1) في «ق، م»: «الحرّاث».

455
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

خاتمة في أحكام الأواني ؛ ج‌1، ص : 457

[خاتمة في أحكام الأواني]

(خاتمة) لمباحث إزالة النجاسات في أحكام الأواني و القصد الذاتي من ذكرها هنا بيان حكم تطهيرها و كيفيّته، و قد جرت العادة بانجرار البحث فيها إلى ما هو أعمّ من تطهيرها، فيذكر الجنس الذي يجوز اتّخاذها منه و ما لا يجوز كما قال:

(يحرم استعمال أواني الذهب و الفضّة في الأكل و غيره) لقول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله‌

لا تشربوا في آنية الذهب و الفضّة و لا تأكلوا في صحافها؛ فإنّها لهم في الدنيا و لكم في الآخرة

«1» و قوله صلّى اللّه عليه و آله‌

الذي يشرب في آنية الفضّة إنّما يُجَرجِرُ في جوفه نار جهنّم

«2» يقال: جرجر الشراب، أي: صوّت.

و المراد أنّه بفعله مستحقّ للعذاب على أبلغ وجوهه، فالمُجرجر في جوفه ليس إلا نار جهنّم، و الوعيد بالنار إنّما يكون على فعل المحرّم، و إذا حرم الشرب حرم غيره؛ لأنّه أبلغ. و لعدم القائل بالفرق، و يلزم من تحريمه في الفضّة تحريمه في الذهب بطريق أولى.

و هل يحرم اقتناؤها لغير الاستعمال، بل للادّخار أو تزيين المجالس؟ الأكثر على التحريم؛ لما رواه محمّد بن مسلم عن الباقر عليه السلام أنّه نهى عن آنية الذهب و الفضّة «3»، و النهي للتحريم، و لمّا امتنع تعلّقه بالأعيان؛ لأنّه من أحكام فعل المكلّف، وجب المصير إلى أقرب المجازات إلى الحقيقة، و الاتّخاذ أقرب من الاستعمال؛ لأنّه يشمله، بخلاف العكس.

______________________________
(1) صحيح البخاري: 5: 2133/ 5310، صحيح مسلم 3: 1637 و 1638/ 2607، سنن البيهقي 1: 44/ 103.

(2) صحيح البخاري 5: 2133/ 5311، صحيح مسلم 3: 1643/ 2065، سنن البيهقي 1: 42/ 99.

(3) الكافي 6: 267/ 4، التهذيب 9: 90/ 385.

457
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

خاتمة في أحكام الأواني ؛ ج‌1، ص : 457

و لإيماء قول النبيّ المتقدّم «1»

إنّها لهم في الدنيا و لكم في الآخرة

إليه.

و كذا قول الكاظم عليه السلام‌

آنية الذهب و الفضّة متاع الذين لا يوقنون

«2». و لما فيه من السرف و الخيلاء و كسر قلوب الفقراء و تعطيل الإنفاق، فإنّها خُلقت للانتفاع بها في المعاملات و المعاوضات.

و هل يحرم تزيين المشاهد و المساجد بها كما يحرم تزيين غيرها من المجالس؟ نظر: من إطلاق النهي، و حصول التعظيم.

و يستوي في النهي الرجالُ و النساء و إن جاز للنساء التحلّي بهما.

و لا يحرم الطعام و الشراب الموضوع فيهما و إن كان الاستعمال محرّماً.

و لا يقدح في التحريم تمويههما بغيرهما من الجواهر؛ للعموم.

و لو انعكس بأن موّه إناء النحاس مثلًا بهما أو بأحدهما، فإن أمكن تحصيل شي‌ء منهما بالعَرض على النار، منع من استعماله، و إلا فإشكال من المشابهة و عدم الحقيقة.

و لا يحرم اتّخاذها من غير الجوهرين و إن غلت أثمانها، كالفيروزج و الياقوت و الزبرجد؛ للأصل، و خفاء نفاسة ذلك على أكثر الناس، فلا يلزم منه ما لزم في النقدين.

(و يكره المفضّض) و هو ما وُضع فيه قطعة من فضّة أو ضبّة؛ لقول الصادق عليه السلام‌

لا بأس بالشرب في المفضّض، و اعزل فاك عن موضع الفضّة

«3». و قيل: يحرم «4»؛ لما روي عنهُ أنّه كره الشرب في الفضّة و القداح المفضّضة «5»، و العطف على الشرب في الفضّة مشعر بإرادة التحريم.

و طريق الجمع بين الخبرين بحمل الثاني على الكراهة أو على تحريم الأكل و الشرب من موضع الفضّة.

(و) على تقدير الجواز يجب أن (يجتنب موضع الفضّة) فيعزل الفم عنه؛ للأمر به في قوله عليه السلام‌

و اعزل فاك عن موضع الفضّة

«6» و هو للوجوب.

______________________________
(1) في ص 457.

(2) الكافي 6: 268/ 7، التهذيب 9/ 389.

(3) التهذيب 9: 91- 92/ 392.

(4) كما في جامع المقاصد 1: 188، و انظر: الخلاف 1: 69، المسألة 15.

(5) الكافي 6: 267/ 5، التهذيب 9: 90- 91/ 387.

(6) التهذيب 9: 91- 92/ 392.

458
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

خاتمة في أحكام الأواني ؛ ج‌1، ص : 457

و اختار في المعتبر الاستحباب؛ محتجّاً بالاستصحاب، و بقول الصادق عليه السلام حين سُئل عن الشرب في القدح فيه ضبّة من فضّة، فقال‌

لا بأس إلا أن يكره الفضّة فينزعها منه

«1»- «2».

و لا دلالة له على مطلوبه؛ فإنّه إنّما دلّ على جواز (استعمال المفضّض) «3» لأعلى جواز استعمال موضع الفضّة، و ما تقدّم صريح في وجوب العزل عن موضعها.

(و أواني المشركين طاهرة) كسائر ما بأيديهم ممّا لا يشترط فيه و لا في أصله التذكية؛ للأصل، و قول الصادق عليه السلام‌

كلّ شي‌ء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر

«4» و غيره من الأخبار (ما لم يعلم مباشرتهم لها برطوبة) على وجه يلزم منه نجاستها.

و ليس العلم بذلك مقصوراً على الإدراك بالحواسّ، بل ما حصل به العلم من طرقه الموجبة له، كالخبر المحفوف بالقرائن و غيره، كما حقّق في محلّه.

و على تقدير الحكم بالطهارة يستحبّ اجتنابها؛ حملًا للأخبار المقتضية لغَسلها من غير تقييد على الاستحباب، أو لكونهم لا يتوقّون النجاسة، أو لحصول الظنّ بنجاستها، فليخرج باجتنابها أو غَسلها من خلاف أبي الصلاح حيث حكم بثبوت النجاسة بكلّ سبب يثير الظنّ «5».

(و جلد الذكي) أي المذكّى ممّا هو قابل للذكاة من ذي النفس (طاهر) سواء كان مأكول اللحم أم لا، و لا يشترط في طهارته مع الذكاة الدبغُ، كما يقتضيه إطلاق العبارة، و هو أشهر الأقوال؛ للأصل، و لقوله عليه السلام‌

دباغ الأديم ذكاته

«6» و لوقوع الذكاة عليه فيستغنى عن الدباغ؛ إذ لو لم يقع عليه، لكان ميتةً، و هي لا تطهر بالدباغ، لكن يكره استعماله قبله؛ تفصّياً من الخلاف.

و احترز بذي النفس عمّا لأنفس له، كالسمك؛ فإنّ جلده طاهر؛ لأنّه لا ينجس بالموت.

(و غيره) أي غير الذكي، و هو جلد الميتة و ما لا يقبل الذكاة (نجس) و إن دُبغ؛ لإطلاق‌

______________________________
(1) التهذيب 9: 91/ 391.

(2) المعتبر 1: 455- 456.

(3) بدل ما بين القوسين في الطبعة الحجريّة: «الاستعمال».

(4) التهذيب 1: 284- 285/ 832، و فيه «كلّ شي‌ء نظيف ..».

(5) لم نعثر عليه في مظانّه.

(6) سنن الدارقطني 1: 45/ 13، سنن البيهقي 1: 33/ 70، المعجم الكبير- للطبراني- 7: 46/ 6341، و فيه «ذكاة الأيم دباغه».

459
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

خاتمة في أحكام الأواني ؛ ج‌1، ص : 457

تحريم الميتة في الآية «1»، فينصرف إلى الانتفاع مطلقاً، و للأخبار المتواترة به.

مثل: قول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله‌

لا تنتفعوا من الميتة بإهاب و لا عصب

«2» و هو من الصحيح عندهم.

و قول الباقر عليه السلام حين سُئل عنه‌

لا و لو دُبغ سبعين مرّة

«3». و قول الصادق عليه السلام‌

لاتصلّ في شي‌ء منه و لا شسع

«4». و ما احتجّوا به من قوله صلّى اللّه عليه و آله‌

أيّما إهاب دبغ فقد طهر

«5» معارض بخبرنا، و معها يكون المقتضي لبقاء النجاسة سليماً عن المعارض، و بأنّ خبرنا متأخّر؛ لأنّهم رووا أنّ كتابه صلّى اللّه عليه و آله إلى جهينة بذلك كان قبل موته بشهر أو شهرين «6»، مع أنّ في جملة الحديث ما يصرّح بتأخّره.

و من خبر «7» شاة ميمونة أو سودة بنت زمعة «8»، فقد روي عن الصادق عليه السلام‌

أنّها كانت مهزولةً فتركوها حتى ماتت، فقال صلّى اللّه عليه و آله: ما كان على أهلها إذ لم ينتفعوا بلحمها أن ينتفعوا بإهابها [أن تذكّى] «9»

«10» و هو أعرف بالنقل.

و مثله قوله عليه السلام في حديث عبد الرحمن بن الحجّاج‌

زعموا أنّ دباغ الميتة ذكاته ثمّ لم يرضوا أن يكذبوا في ذلك إلا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله

«11». و كما لا تطهر الميتة بالدباغ و لا تستعمل في الرطب، فكذا لا يجوز استعمالها و الانتفاع‌

______________________________
(1) المائدة (5): 3.

(2) سنن أبي داود 4: 67/ 14128، سنن ابن ماجة 2: 1194/ 3613، سنن الترمذي 4: 222/ 1279، سنن النسائي 7:

175، مسند احمد 5: 403/ 18303.

(3) الفقيه 1: 160/ 750، التهذيب 2: 203/ 794، و فيه مضمرا.

(4) التهذيب 2: 203/ 793.

(5) سنن ابن ماجة 2: 1193/ 3609، سنن الترمذي 4: 221/ 1728، سنن النسائي 7: 173، سنن الدارقطني 1: 48/ 24، سنن البيهقي 1: 25/ 49، مسند احمد 1: 362/ 1898، 446/ 2431.

(6) سنن أبي داود 4: 67/ 41128، سنن الترمذي 4: 222 ذيل الحديث 1729، مسند أحمد 5: 403/ 18306.

(7) قوله: و من خبر .. عطف على قوله: و ما احتجّوا به من قوله.

و قوله: فقد روي، إلى آخره، جواب عن الاحتجاج بخبر الشاة.

(8) صحيح مسلم 1: 276/ 363، سنن أبي داود 4: 65/ 4120، سنن النسائي 7: 171- 175، سنن البيهقي، 24- 25/ 47.

(9) أضفاها من الموضع الأوّل من المصدر، و في الموضع الثاني: «أي تذكّى».

(10) الكافي 3: 398/ 6، و 6: 259/ 7.

(11) الكافي 3: 398/ 5، التهذيب 2: 204/ 798.

460
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

خاتمة في أحكام الأواني ؛ ج‌1، ص : 457

بها في اليابس؛ لعموم حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ «1» و «لا تنتفعوا» «2».

(و يغسل الإناء من الخمر و غيره من النجاسات حتى تزول العين) و الأثر، و لا يعتبر التعدّد على أصحّ القولين، بل ما يحصل به الإنقاء و إن كان بالأُولى، كما تقتضيه العبارة.

و يحتمل اعتبار المرّة بعد زوال العين إن كانت موجودةً، و هو خيرة المعتبر «3»؛ إذ لا أثر للماء الوارد مع وجود سبب التنجيس.

و يضعّف: بأنّ الباقي من البلل و غيره في المحلّ عين نجاسة، فيأتي الكلام فيه.

و يدلّ على الاجتزاء بالمرّة مطلقاً إطلاق الأمر بالغَسل في عدّة أخبار «4». و ما ورد منها بعددٍ مخصوص «5» مع ضعف سنده يمكن حمله على الاستحباب.

و للمصنّف قول بوجوب غَسل إناء الخمر ثلاث مرّات «6»، و المشهور فيه السبع؛ استناداً إلى روايتي عمّار الساباطي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام «7».

و اختلافها يدلّ على الاستحباب، مع اشتهار عمّار بفساد العقيدة.

و شمل قوله: «و غيره» نجاسة موت الجرذ و الفأرة، مع أنّ فيهما قولًا بالثلاث للمصنّف «8»، و السبع لغيره «9»، كما تقدّم؛ استناداً إلى خبر عمّار «10» أيضاً، و لا ريب أنّ العمل بالمشهور أحوط.

(و) يغسل الإناء (من ولوغ الكلب) و هو شربه ممّا في الإناء بطرف لسانه، كما نصّ عليه أهل «11» اللغة، و يلحق به لطعه الإناء بطريق أولى، دون مباشرته له بسائر أعضائه، و وقوع لعابه في الإناء، بل هي كسائر النجاسات على المشهور، خلافاً للمصنّف في النهاية «12»،

______________________________
(1) المائدة (5): 3.

(2) تقدّمت الإشارة إلى مصادرة في ص 460، الهامش (2).

(3) المعتبر 1: 461.

(4) الكافي 6: 427/ 1، و التهذيب 1: 283/ 830، و 9: 115- 116/ 501.

(5) الكافي 6: 427/ 1، و التهذيب 1: 283/ 830، و 9: 115- 116/ 501.

(6) قواعد الأحكام 1: 9.

(7) التهذيب 9: 115- 116/ 501 و 502.

(8) قواعد الأحكام 1: 9.

(9) كالشيخ الطوسي في النهاية: 5- 6، و ابن حمزة في الوسيلة: 80، و الشهيد في الدروس 1: 125 و غيرهم.

(10) التهذيب 1: 284/ 832.

(11) منهم: الجوهري في الصحاح 4: 1329، «و ل غ».

(12) نهاية الإحكام 1: 294.

461
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

خاتمة في أحكام الأواني ؛ ج‌1، ص : 457

و جماعة «1» (ثلاثاً أُولاهنّ بالتراب) و إطلاق الغَسل عليها مجاز من باب إطلاق اسم الجزء على الكلّ.

و الأصل في ذلك النصّ، الوارد عن النبيّ و الأئمّة صلوات اللّه عليهم.

كصحيحة الفضل عن الصادق عليه السلام حين سأله عن الكلب، فقال‌

رجس نجس لا يتوضّأ بفضله، و اصبب ذلك الماء و اغسله بالتراب أوّل مرّة ثمّ بالماء مرّتين

«2». و هذا الحديث حجّة على ابن الجنيد الموجب للغَسل منه سبعاً «3»، و على المفيد حيث جعل غَسله بالتراب وسطاً «4»، و على ابن إدريس حيث أوجب مزج التراب بالماء؛ بناءً على أنّ حقيقة الغَسل جريان الماء على المحلّ «5»، فإذا تعذّرت صيّر إلى أقرب المجازات إليها.

و يردّه إطلاق الخبر، و دلالته على اعتبار مسمّى التراب.

و يشترط طهارة التراب؛ لأنّ النجس لا يفيد طهارة غيره، و لإطلاق الطهور عليه في بعض الأخبار «6».

و لو فُقد، قيل «7»: أجزأ مشابهة من الأُشنان و الدقيق؛ لأنّه ربما كان أبلغ في الإزالة من التراب.

و الأولى بقاؤه على النجاسة؛ لعدم النصّ، و بطلان القياس، و عدم ثبوت التعليل بإزالته الأجزاء اللعابيّة، فجاز كونه تعبّداً.

و لو خِيف فساد المحلّ باستعمال التراب، فكالمفقود.

و لو تكرّر الولوغ قبل التطهير، تداخل، و في الأثناء يستأنف.

و يكفي في تطهير الإناء في القليل أن يصبّ فيه الماء ثمّ يحرّك حتى يستوعب ما نجس منه ثمّ يفرغ حتى يستوفي العدد إن كان.

______________________________
(1) منهم: الشيخ المفيد في المقنعة: 68.

(2) التهذيب 1: 225/ 646، الاستبصار 1: 19/ 40، و ليس فيهما كلمة «مرّتين».

(3) حكاه عنه المحقّق الحلّي في المعتبر 1: 458.

(4) المقنعة: 65 و 68.

(5) السرائر 1: 91.

(6) صحيح مسلم 1: 234/ 91، سنن ابي داود 1: 19/ 71، سنن الدارقطني 1: 64/ 4 و 5، سنن البيهقي 1: 366/ 1143، و 374/ 1168 و 1169، المستدرك:- للحاكم- 1: 160، مسند أحمد 3: 161/ 9227.

(7) القائل هو الشيخ الطوسي في المبسوط 1: 14.

462
روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان1 (ط - الحديثة)

خاتمة في أحكام الأواني ؛ ج‌1، ص : 457

و لو غسله في الكثير، كفت المرّة بالماء بعد التعفير.

(و) يغسل الإناء أيضاً (من ولوغ الخنزير سبعاً) لصحيحة عليّ بن جعفر عن أخيه موسى، قال: سألته عن خنزير شرب في إناء كيف يصنع به؟ قال‌

يغسل سبع مرّات

«1». و هي حجّة على الشيخ حيث ألحقه بالكلب «2»، و على المحقّق حيث اكتفى بالمرّة كما اكتفى بها في غير ولوغ الكلب، و حملها على الاستحباب «3».

و لا وجه له؛ إذ لا معارض لها مع صحّتها.

هذا كلّه في غير الكثير، و إلا كفت المرّة. و اللّه الموفّق.

[بحمد الله و توفيقه تمّ الجزء الأوّل من كتاب روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان حسب تجزئتنا و يتلوه إن شاء الله الجزء الثاني و قد ألحقنا فهارس الكتاب إلى الجزء الثاني فليطلب].

______________________________
(1) التهذيب 1: 261/ 760.

(2) الخلاف 1: 186، المسألة 143.

(3) المعتبر 1: 460 و 461.

 

463