×
☰ فهرست و مشخصات
مجمع البیان في تفسير القرآن4

(6) سورة الأنعام مكية و آياتها خمس و ستون و مائة(165) ص : 421

الجزء الرابع‏

 (6) سورة الأنعام مكية و آياتها خمس و ستون و مائة (165)

 [توضيح‏]

هي مكية عن ابن عباس غير ست آيات‏ «وَ ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ» إلى آخر ثلاث آيات‏ «قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ» إلى آخر ثلاث آيات فإنهن نزلن بالمدينة و في رواية أخرى عنه غير ثلاث آيات‏ «قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ» إلى آخر الثلاث و باقي السورة كلها نزلت بمكة و

روي عن أبي بن كعب و عكرمة و قتادة أنها كلها نزلت بمكة جملة واحدة ليلا و معها سبعون ألف ملك قد ملأوا ما بين الخافقين لهم زجل بالتسبيح و التحميد فقال النبي ص سبحان الله العظيم و خر ساجدا ثم دعا الكتاب فكتبوها من ليلتهم و أكثرها حجاج على المشركين و على من كذب بالبعث و النشور.

عدد آيها

هي مائة و خمس و ستون آية كوفي ست بصري شامي سبع حجازي (خلافها) أربع آيات‏ «وَ جَعَلَ الظُّلُماتِ وَ النُّورَ» حجازي‏ «لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ» كوفي‏ «كُنْ فَيَكُونُ» و «إِلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» غير الكوفي.

فضلها

أبي بن كعب عن النبي ص قال‏ أنزلت علي الأنعام جملة واحدة يشيعها سبعون ألف ملك لهم زجل بالتسبيح و التحميد فمن قرأها صلى عليه أولئك السبعون ألف ملك بعدد كل آية من الأنعام يوما و ليلة

، جابر بن عبد الله الأنصاري عن النبي ص قال‏ من قرأ ثلاث آيات من أول سورة الأنعام إلى قوله‏ «وَ يَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ» وكل الله به أربعين ألف ملك يكتبون له مثل عبادتهم إلى يوم القيامة و ينزل ملك من السماء السابعة و معه مرزبة من حديد فإذا أراد الشيطان أن يوسوس أو يرمي في قلبه شيئا ضربه بها إلى آخر الخبر

و

روى‏

421
مجمع البیان في تفسير القرآن4

تفسيرها ص : 422

العياشي بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله (ع) قال‏ إن سورة الأنعام نزلت جملة واحدة و شيعها سبعون ألف ملك فعظموها و بجلوها فإن اسم الله فيها في سبعين موضعا و لو يعلم الناس ما في قراءتها من الفضل ما تركوها ثم قال ع من كانت له إلى الله حاجة يريد قضاءها فليصل أربع ركعات بفاتحة الكتاب و الأنعام و ليقل في صلاته إذا فرغ من القراءة يا كريم يا كريم يا كريم يا عظيم يا عظيم يا عظيم يا أعظم من كل عظيم يا سميع الدعاء يا من لا تغيره الليالي و الأيام صل على محمد و آل محمد و ارحم ضعفي و فقري و فاقتي و مسكنتي يا من رحم الشيخ يعقوب حين رد عليه يوسف قرة عينه يا من رحم أيوب بعد طول بلائه يا من رحم محمدا و من اليتم آواه و نصره على جبابرة قريش و طواغيتها و أمكنه منهم يا مغيث يا مغيث يا مغيث تقول ذلك مرارا فو الذي نفسي بيده لو دعوت الله بها ثم سألت الله جميع حوائجك لأعطاك‏

و

روى علي بن إبراهيم بن هاشم عن أبيه عن الحسين بن خالد عن أبي الحسن علي بن موسى الرضا (ع) قال‏ نزلت الأنعام جملة واحدة شيعها سبعون ألف ملك لهم زجل بالتسبيح و التهليل و التكبير فمن قرأها سبحوا له إلى يوم القيامة

و روى أبو صالح عن ابن عباس قال من قرأ سورة الأنعام في كل ليلة كان من الآمنين يوم القيامة و لم ير النار بعينه أبدا.

تفسيرها

لما ختم الله سورة المائدة بآية عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ افتتح سورة الأنعام بما يدل على كمال قدرته من خلق السماوات و الأرض و غيره فقال.

 [سورة الأنعام (6): الآيات 1 الى 3]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ جَعَلَ الظُّلُماتِ وَ النُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى‏ أَجَلاً وَ أَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2) وَ هُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَ فِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَ جَهْرَكُمْ وَ يَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ (3)

422
مجمع البیان في تفسير القرآن4

اللغة ص : 423

اللغة

العدل خلاف الجور و عدلت به غيره أي سويته به و عدلت عنه أي أعرضت و عدلت الشي‏ء فاعتدل أي قومته فاستقام و الأجل الوقت المضروب لانقضاء الأمد فأجل الإنسان وقت انقضاء عمره و أجل الدين محله و هو وقت انقضاء التأخير و أصله التأخير يقال أجله تأجيلا و عجله تعجيلا و الآجل نقيض العاجل و الامتراء الشك و أصله من مرأت الناقة إذا مسحت ضرعها لاستخراج اللبن و منه ماراه يماريه مراء و مماراة إذا استخرج ما عنده بالمناظرة فالامتراء استخراج الشبهة المشكلة من غير حل.

المعنى‏

بدأ الله تعالى هذه السورة بالحمد لنفسه إعلاما بأنه المستحق لجميع المحامد لأن أصول النعم و فروعها منه تعالى و لأن له الصفات العلى فقال‏ «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ» يعني اخترعهما بما اشتملا عليه من عجائب الصنعة و بدائع الحكمة و قيل إنه في لفظ الخبر و معناه الأمر أي احمدوا الله و إنما جاء على صيغة الخبر و إن كان فيه معنى الأمر لأنه أبلغ في البيان من حيث أنه يجمع الأمرين و قد ذكرنا من معنى الحمد لله و تفسيره في الفاتحة ما فيه كفاية «وَ جَعَلَ الظُّلُماتِ وَ النُّورَ» يعني الليل و النهار عن السدي و جماعة من المفسرين و قيل الجنة و النار عن قتادة و إنما قدم ذكر الظلمات لأنه خلق الظلمة قبل النور و كذلك خلق السماوات قبل الأرض ثم عجب سبحانه ممن جعل له شريكا مع ما يرى من الآيات الدالة على وحدانيته فقال‏ «ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا» أي جحدوا الحق‏ «بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ» أي يسوون به غيره بأن جعلوا له أندادا مأخوذ من قولهم ما أعدل بفلان أحدا أي لا نظير له عندي و قيل معنى يعدلون يشركون به غيره عن الحسن و مجاهد و دخول ثم في قوله‏ «ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا» دليل على معنى لطيف و هو أنه سبحانه أنكر على الكفار العدل به و عجب المؤمنين من ذلك و مثله في المعنى قوله فيما بعد «ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ» و الوجه في التعجيب أن هؤلاء الكفار مع اعترافهم بأن أصول النعم منه و أنه هو الخالق و الرازق عبدوا غيره و نقضوا ما اعترفوا به و أيضا فإنهم عبدوا ما لا ينفع و لا يضر من الحجارة و الموات‏ «هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ» يعني به آدم و المعنى أنشأ أباكم و اخترعه من طين و أنتم من ذريته فلما كان آدم أصلنا و نحن من نسله جاز أن يقول لنا خلقكم من طين‏ «ثُمَّ قَضى‏ أَجَلًا» أي كتب و قدر أجلا و القضاء يكون بمعنى الحكم و بمعنى الأمر و بمعنى الخلق و بمعنى الإتمام و الإكمال‏ «وَ أَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ» قيل فيه أقوال (أحدها) أنه يعني بالأجلين أجل الحياة إلى الموت و أجل الموت إلى البعث و قيام الساعة عن الحسن و سعيد بن المسيب و قتادة

423
مجمع البیان في تفسير القرآن4

الإعراب ص : 424

و الضحاك و اختاره الزجاج و روى أيضا عطاء عن ابن عباس قال قضى أجلا من مولده إلى مماته و أجل مسمى عنده من الممات إلى البعث لا يعلم ميقاته أحد سواه فإذا كان الرجل صالحا واصلا لرحمه زاد الله له في أجل الحياة و نقص من أجل الممات إلى البعث و إذا كان غير صالح و لا واصل نقصه الله من أجل الحياة و زاد في أجل المبعث قال و ذلك قوله‏ وَ ما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَ لا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ‏ (و ثانيها) أنه الأجل الذي يحيا به أهل الدنيا إلى أن يموتوا و أجل مسمى عنده يعني الآخرة لأنه أجل دائم ممدود لا آخر له و إنما قال مسمى عنده لأنه مكتوب في اللوح المحفوظ في السماء و هو الموضع الذي لا يملك فيه الحكم على الخلق سواه عن الجبائي و هو قول سعيد بن جبير و مجاهد (و ثالثها) أن أجلا يعني به أجل من مضى من الخلق و أجل مسمى عنده يعني به آجال الباقين عن أبي مسلم (و رابعها) أن قوله قضى أجلا عنى به النوم يقبض الروح فيه ثم يرجع إلى صاحبه عند اليقظة و أجل مسمى عنده هو أجل موت الإنسان و هو المروي عن ابن عباس و يؤيده قوله‏ وَ يُرْسِلُ الْأُخْرى‏ إِلى‏ أَجَلٍ مُسَمًّى‏ و الأصل في الأجل هو الوقت فأجل الحياة هو الوقت الذي يكون فيه الحياة و أجل الموت أو القتل هو الوقت الذي يحدث فيه الموت أو القتل و ما يعلم الله تعالى أن المكلف يعيش إليه لو لم يقتل لا يسمى أجلا حقيقة و يجوز أن يسمى ذلك مجازا و ما

جاء في الأخبار من أن صلة الرحم تزيد في العمر و الصدقة تزيد في الأجل و أن الله تعالى زاد في أجل قوم يونس‏

و ما أشبه ذلك فلا مانع من ذلك و قوله‏ «ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ» خطاب للكفار الذين شكوا في البعث و النشور و احتجاج عليهم بأنه سبحانه خلقهم و نقلهم من حال إلى حال و قضى عليهم الموت و هم يشاهدون ذلك و يقرون بأنه لا محيص منه ثم بعد هذا يشكون و يكذبون بالبعث و من قدر على ابتداء الخلق فلا ينبغي أن يشك في أنه يصح منه إعادتهم و بعثهم.

الإعراب‏

" هو" الأشبه أن يكون ضمير القصة و الحديث و تقديره الأمر الله يعلم في السماوات و في الأرض سركم و جهركم فالله مبتدأ و يعلم خبره و في السماوات و في الأرض في موضع النصب بيعلم و سركم مفعوله أيضا و لا يكون الظرف الذي هو الجار و المجرور منصوب الموضع بالمصدر و إن جعلنا الظرف متعلقا باسم الله جاز في قياس قول من قال إن أصل الله الإلاه فيكون المعنى هو المعبود في السماوات و في الأرض يعلم و تقديره الأمر المعبود في السماوات و في الأرض يعلم سركم و جهركم و من جعل اسم الله بمنزلة أسماء

424
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 425

الأعلام فلا يجوز أن يتعلق الظرف به إلا أن يقدر فيه ضربا من معنى الفعل و يجوز أن يكون هو مبتدأ و الله خبره و العامل في قوله‏ «فِي السَّماواتِ وَ فِي الْأَرْضِ» اسم الله على ما قلناه و يجوز أن يكون خبرا بعد خبر.

المعنى‏

ثم عطف سبحانه على ما تقدم فقال‏ «وَ هُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَ فِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَ جَهْرَكُمْ» فيه وجوه على ما ذكرناه في الإعراب فعلى التقدير الأول يكون معناه الله يعلم في السماوات و في الأرض سركم و جهركم و يكون الخطاب لجميع الخلق لأن الخلق إما أن يكونوا ملائكة فهم في السماء أو بشرا أو جنا فهم في الأرض فهو سبحانه عالم بجميع أسرارهم و أحوالهم و متصرفاتهم لا يخفى عليه منها شي‏ء و يقويه قوله‏ «وَ يَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ» أي يعلم جميع ما تعلمونه من الخير و الشر فيجازيكم على حسب أعمالكم و على التقدير الثاني يكون معناه أن المعبود في السماوات و في الأرض أو المنفرد بالتدبير في السماوات و في الأرض يعلم سركم و جهركم فلا تخفى عليه منكم خافية و يكون الخطاب لبني آدم و إن جعلت اسم الله علما على هذا التقدير ثم علقت به قوله‏ «فِي السَّماواتِ وَ فِي الْأَرْضِ» لم يجز و إن علقته بمحذوف يكون خبر الله أو حالا عنه أوهم بأن يكون البارئ سبحانه في محل تعالى عن ذلك علوا كبيرا و قال أبو بكر السراج أن الله و إن كان اسما علما ففيه معنى الثناء و التعظيم الذي يقرب بهما من الفعل فيجوز أن يوصل لذلك بالمحل و تأويله و هو المعظم أو نحو ذا في السماوات و في الأرض ثم قال يعلم سركم و جهركم و مثل ذلك قوله سبحانه‏ وَ هُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَ فِي الْأَرْضِ إِلهٌ‏ قال الزجاج فلو قلت هو زيد في البيت و الدار لم يجز إلا أن يكون في الكلام دليل على أن زيدا يدبر أمر البيت و الدار فيكون المعنى هو المدبر في البيت و الدار و لو قلت هو المعتضد و الخليفة في الشرق و الغرب أو قلت هو المعتضد في الشرق و الغرب جاز و على مقتضى ما قاله أبو بكر و الزجاج يكون في متعلقة بما دل عليه اسم الله و يكون هو الله مبتدأ و خبرا و المعنى و هو المنفرد بالإلهية في السماوات و في الأرض لا إله فيهما غيره و لا مدبر لهما سواه و إن جعلت في السماوات خبرا بعد خبر فيكون التقدير و هو الله و هو في السماوات و في الأرض يعني أنه في كل مكان فلا يكون إلى مكان أقرب منه إلى مكان ثم أخبر سبحانه عن هذا المعنى مبينا لذلك مؤكدا له بقوله‏ «يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَ جَهْرَكُمْ» أي الخفي المكتوم و الظاهر المكشوف منكم‏ «وَ يَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ» و المعنى يعلم نياتكم و أحوالكم و أعمالكم و هذا الترتيب الذي ذكرته في معاني هذه الآية التي استنبطتها من‏

425
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأنعام(6): الآيات 4 الى 5] ص : 426

وجوه الإعراب مما لم أسبق إليه و هو في استقامة فصوله و مطابقة أصول الدين كما تراه لا غبار عليه و فيه دلالة على فساد قول من يقول بأن الله تعالى في مكان دون مكان تعالى عن ذلك و تقدس و في قوله‏ «يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَ جَهْرَكُمْ» دلالة على أنه عالم لنفسه لأن من كان عالما بعلم لا يصح ذلك منه.

 [سورة الأنعام (6): الآيات 4 الى 5]

وَ ما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (4) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (5)

الإعراب‏

من الأولى مزيدة و هي التي تقع في النفي لاستغراق الجنس و موضعه رفع و الثانية للتبعيض.

المعنى‏

ثم أخبر سبحانه عن الكفار المذكورين في أول الآية فقال‏ «وَ ما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ» أي لا تأتيهم حجة «مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ» أي من حججه و بيناته كانشقاق القمر و آيات القرآن و غير ذلك من المعجزات‏ «إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ» لا يقبلونها و لا يستدلون بها على ما دلهم الله عليه من توحيده و صدق رسوله‏ «فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ» أي بالحق الذي أتاهم به محمد ص من القرآن و سائر أمور الدين‏ «فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ» أي أخبار «ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» و المعنى أخبار استهزائهم و جزاؤه و هو عقاب الآخرة و قيل معناه سيعلمون ما يؤول إليه استهزاؤهم عن ابن عباس و الحسن و به قال الزجاج و معنى الاستهزاء إيهام التفخيم في معنى التحقير.

 [سورة الأنعام (6): آية 6]

أَ لَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَ أَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَ جَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (6)

426
مجمع البیان في تفسير القرآن4

اللغة ص : 427

اللغة

القرن أهل كل عصر مأخوذ من أقرانهم في العصر قال الزجاج و القرن ثمانون سنة و قيل سبعون سنة قال و الذي يقع عندي أن القرن أهل كل مدة كان فيها نبي أو كان فيها طبقة من أهل العلم قلت السنون أو كثرت و الدليل عليه‏

قول النبي ص‏ خيركم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم‏

و التمكين إعطاء ما به يصح الفعل كائنا ما كان من آلة و غيرها و الإقدار إعطاء القدرة خاصة و مفعال من أسماء المبالغة يقال ديمة مدرار إذا كان مطرها غزيرا دارا و هذا كقولهم امرأة مذكار إذا كانت كثيرة الولادة للذكور و كذلك مئناث في الإناث و أصل المدرار من در اللبن إذا أقبل على الحالب منه شي‏ء كثير و درت السماء إذا أمطرت و الدر اللبن و يقال لله دره أي عمله و في الذم لا در دره أي لا كثر خيره.

الإعراب‏

كم نصب بأهلكنا لا بقوله‏ «يَرَوْا» لأن الاستفهام له صدر الكلام فلا يعمل فيه ما قبله و هو تعليق و معنى التعليق أن الاستفهام أبطل عمل يرى في اللفظ و قد عمل في معناه و انتقل من الخبر إلى الخطاب في قوله‏ «ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ» اتساعا في الكلام و قد قال‏ «مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ» و إنما لم يقل ما لم نمكنكم لأن العرب تقول مكنته و مكنت له كما تقول نصحته و نصحت له.

المعنى‏

ثم حذرهم سبحانه ما نزل بالأمم قبلهم فقال‏ «أَ لَمْ يَرَوْا» أي أ لم يعلم هؤلاء الكفار «كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ» أي من أمة و كل طبقة مقترنين في وقت قرن‏ «مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ» معناه جعلناهم ملوكا و أغنياء كأنه سبحانه أخبر النبي عنهم في صدر الكلام ثم خاطبه معهم و قال ابن عباس يريد أعطيناهم ما لم نعطكم و المعنى وسعنا عليهم في كثرة العبيد و الأموال و الولاية و البسطة و طول العمر و نفاذ الأمر و أنتم تسمعون أخبارهم و ترون ديارهم و آثارهم‏ «وَ أَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً» قال ابن عباس يريد به الغيث و البركة و السماء معناه المطر هنا «وَ جَعَلْنَا الْأَنْهارَ» أي ماء الأنهار «تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ» و لم يغن ذلك عنهم شيئا لما طغوا و اجترءوا علينا «وَ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ» أي خلقنا من بعد هلاكهم جماعة أخرى و في هذه الآية دلالة على وجوب التفكر و التدبر و احتجاج على منكري البعث بأن من أهلك من قبلهم و أنشأ قوما آخرين قادر على أن يفني العالم و ينشئ عالما آخر و يعيد الخلق بعد الإفناء.

427
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأنعام(6): آية 7] ص : 428

 

428

 [سورة الأنعام (6): آية 7]

وَ لَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (7)

النزول‏

نزلت في نضر بن الحرث و عبد الله بن أبي أمية و نوفل بن خويلد قالوا يا محمد لن نؤمن لك حتى تأتينا بكتاب من عند الله و معه أربعة من الملائكة يشهدون عليه أنه من عند الله و أنك رسوله عن الكلبي.

المعنى‏

ثم أخبر سبحانه عن عنادهم فقال‏ «وَ لَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ» يا محمد «كِتاباً فِي قِرْطاسٍ» أي كتابة في صحيفة و أراد بالكتاب المصدر و بالقرطاس الصحيفة و قيل كتابا معلقا من السماء إلى الأرض عن ابن عباس‏ «فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ» أي فعاينوا ذلك معاينة و مسوه بأيديهم عن قتادة و غيره قالوا اللمس باليد أبلغ في الإحساس من المعاينة و لذلك قال‏ «فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ» دون أن يقول فعاينوه‏ «لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ» أخبر سبحانه أنهم يدفعون الدليل حتى لو أتاهم الدليل مدركا بالحس لنسبوا ذلك إلى السحر لعظم عنادهم و قساوة قلوبهم و في هذه الآية دلالة على ما يقوله أهل العدل في اللطف لأنه تعالى بين أنه إنما لم يفعل ما سألوه حيث علم أنهم لا يؤمنون عنده.

 [سورة الأنعام (6): الآيات 8 الى 10]

وَ قالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَ لَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (8) وَ لَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَ لَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (9) وَ لَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (10)

اللغة

قال الزجاج قضي في اللغة على ضروب كلها يرجع إلى معنى انقطاع الشي‏ء و تمامه و قد ذكرنا معاني القضاء في سورة البقرة عند قوله‏ إِذا قَضى‏ أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ‏ يقال لبست الأمر على القوم ألبسه لبسا إذا شبهته عليهم و جعلته مشكلا قال ابن السكيت يقال لبست عليه الأمر إذا خلطته عليه حتى لا يعرف جهته و معنى اللبس منع النفس‏

 

428
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 429

من إدراك الشي‏ء بما هو كالستر له و أصله من الستر بالثوب و هو لبس الثوب لأنه يستر النفس يقال لبست الثوب ألبسه لباسا و لبسا و الحيق ما يشتمل على الإنسان من مكروه فعله يقال حاق بهم يحيق حيقا و حيوقا و حيقانا بفتح الياء.

المعنى‏

ثم أخبر سبحانه عن هؤلاء الكفار أنهم‏ «قالُوا لَوْ لا» أي هلا «أُنْزِلَ عَلَيْهِ» أي على محمد «مَلَكٌ» نشاهده فنصدقه ثم أخبر تعالى عن عظم عنادهم فقال‏ «وَ لَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً» على ما اقترحوه لما آمنوا به و اقتضت الحكمة استئصالهم و أن لا ينظرهم و لا يمهلهم و ذلك معنى قوله‏ «لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ» أي لأهلكوا بعذاب الاستئصال عن الحسن و قتادة و السدي و قيل معناه لو أنزلنا ملكا في صورته لقامت الساعة أو وجب استئصالهم عن مجاهد ثم قال تعالى‏ «وَ لَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً» أي لو جعلنا الرسول ملكا أو الذي ينزل عليه ليشهد بالرسالة كما يطلبون ذلك‏ «لَجَعَلْناهُ رَجُلًا» لأنهم لا يستطيعون أن يروا الملك في صورته لأن أعين الخلق تحار عن رؤية الملائكة إلا بعد التجسم بالأجسام الكثيفة و لذلك كانت الملائكة تأتي الأنبياء في صورة الإنس و كان جبرائيل يأتي النبي ص في صورة دحية الكلبي و كذلك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب و إتيانهم إبراهيم و لوطا في صورة الضيفان من الآدميين‏ «وَ لَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ» قال الزجاج كانوا هم يلبسون على ضعفتهم في أمر النبي فيقولون إنما هذا بشر مثلكم فقال لو أنزلنا ملكا فرأوا هم الملك رجلا لكان يلحقهم فيه من اللبس مثل ما لحق ضعفتهم منهم أي فإنما طلبوا حال لبس لا حال بيان و هذا احتجاج عليهم بأن الذي طلبوه لا يزيدهم بيانا بل يكون الأمر في ذلك على ما هم عليه من الحيرة و قيل معناه و لو أنزلنا ملكا لما عرفوه إلا بالتفكر و هم لا يتفكرون فيبقون في اللبس الذي كانوا فيه فأضاف اللبس إلى نفسه لأنه يقع عند إنزاله الملائكة ثم قال سبحانه على سبيل التسلية لنبيه من تكذيب المشركين إياه و استهزائهم به‏ «وَ لَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ» يقول لقد استهزأت الأمم الماضية برسلها كما استهزأ بك قومك فلست بأول رسول استهزئ به و لا هم أول أمة استهزأت برسولها «فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ» أي فحل بالساخرين منهم‏ «ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» من وعيد أنبيائهم بعاجل العقاب في الدنيا و قيل معنى حاق بهم أحاط بهم عن الضحاك و هو اختيار الزجاج أي أحاط بهم العذاب الذي هو جزاء استهزائهم فهو من باب حذف المضاف إذا جعلت ما في قوله‏ «ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» عبارة عن القرآن و الشريعة و إن جعلت ما عبارة عن العذاب الذي كان يوعدهم به النبي إن لم يؤمنوا استغنيت عن تقدير

429
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأنعام(6): الآيات 11 الى 13] ص : 430

 

حذف المضاف و يكون المعنى فحاق بهم العذاب الذي كانوا يسخرون من وقوعه.

 [سورة الأنعام (6): الآيات 11 الى 13]

قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11) قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى‏ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى‏ يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (12) وَ لَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13)

الإعراب‏

قال الأخفش‏ «الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ» بدل من الكاف و الميم في ليجمعنكم و قال الزجاج هو في موضع رفع على الابتداء و خبره‏ «فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ» لأن ليجمعنكم مشتمل على سائر الخلق الذين خسروا أنفسهم و غيرهم قال و اللام في ليجمعنكم لام قسم فجائز أن يكون تمام الكلام كتب ربكم على نفسه الرحمة ثم استأنف فقال ليجمعنكم و المعنى و الله ليجمعنكم و جائز أن يكون ليجمعنكم بدلا من الرحمة مفسرا لها لأنه لما قال كتب ربكم على نفسه الرحمة فسر رحمته بأنه يمهلهم إلى يوم القيامة ليتوبوا.

المعنى‏

ثم خاطب سبحانه نبيه ص فقال‏ «قُلْ» يا محمد لهؤلاء الكفار «سِيرُوا فِي الْأَرْضِ» أي سافروا فيها «ثُمَّ انْظُرُوا» و النظر طلب الإدراك بالبصر و بالفكر و بالاستدلال و معناه هنا فانظروا بأبصاركم و تفكروا بقلوبكم‏ «كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ» المستهزءين و إنما أمرهم بذلك لأن ديار المكذبين من الأمم السالفة كانت باقية و أخبارهم في الخسف و الهلاك كانت شائعة فإذا سار هؤلاء في الأرض و سمعوا أخبارهم و عاينوا آثارهم دعاهم ذلك إلى الإيمان و زجرهم عن الكفر و الطغيان ثم قال‏ «قُلْ» يا محمد لهؤلاء الكفار «لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ» الله الذي خلقهما أم الأصنام فإن أجابوك فقالوا الله و إلا ف «قُلْ» أنت‏ «لِلَّهِ» أي ملكهما و خلقهما و التصرف فيهما كيف يشاء له‏ «كَتَبَ عَلى‏ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ» أي أوجب على نفسه الإنعام على خلقه و قيل معناه أوجب على نفسه الثواب لمن أطاعه و قيل‏

 

430
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 430

أوجب على نفسه الرحمة بإنظاره عباده و إمهاله إياهم ليتداركوا ما فرطوا فيه و يتوبوا عن معاصيهم و قيل أوجب على نفسه الرحمة لأمة محمد بأن لا يعذبهم عند التكذيب كما عذب من قبلهم من الأمم الماضية و القرون الخالية عند التكذيب بل يؤخرهم إلى يوم القيامة عن الكلبي‏ «لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى‏ يَوْمِ الْقِيامَةِ» أي ليؤخرن جمعكم إلى يوم القيامة فيكون تفسيرا للرحمة على ما ذكرناه أن المراد به إمهال العاصي ليتوب و قيل إن هذا احتجاج على من أنكر البعث و النشور و يقول ليجمعنكم إلى اليوم الذي أنكرتموه كما تقول جمعت هؤلاء إلى هؤلاء أي ضممت بينهم في الجمع يريد بجمع آخركم إلى أولكم قرنا بعد قرن إلى يوم القيامة و هو الذي‏ «لا رَيْبَ فِيهِ» و قيل معناه ليجمعن هؤلاء المشركين الذين خسروا أنفسهم إلى هذا اليوم الذي يجحدونه و يكفرون به عن الأخفش و يسأل عن هذا فيقال كيف يحذر المشركين بالبعث و هم لا يصدقون به و الجواب أنه جار مجرى الإلزام و أيضا فإنه تعالى إنما ذكر ذلك عقيب الدليل و يقال كيف نفى الريب مطلقا فقال لا ريب فيه و الكافر مرتاب فيه و الجواب أن الحق حق و إن ارتاب فيه المبطل و أيضا فإن الدلائل تزيل الشك و الريب فإن نعم الدنيا تعم المحسن و المسي‏ء فلا بد من دار يتميز فيه المحسن من المسي‏ء و أيضا فقد صح أن التكليف تعريف للثواب و إذا لم يمكن إيصال الثواب في الدنيا لأن من شأنه أن يكون صافيا من الشوائب فلا يكون مقترنا بالتكليف لأن التكليف لا يعري من المشقة فلا بد من دار أخرى و أيضا فإن التمكين من الظلم من غير انتصاف في العاجل و إنزال الأمراض من غير استحقاق و لا إيفاء عوض في العاجل توجب قضية العقل في ذلك أن يكون دار أخرى توفى فيها الأعواض و ينتصف من المظلوم للظالم‏ «الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ» أي أهلكوها بارتكاب الكفر و العناد «فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ» أي لا يصدقون بالحق و لما ذكر تعالى ملك السماوات و الأرض عقبه بذكر ما فيهما فقال‏ «وَ لَهُ ما سَكَنَ» أي و له كل متمكن ساكن‏ «فِي اللَّيْلِ وَ النَّهارِ» خلقا و ملكا و ملكا و إنما ذكر الليل و النهار هنا و ذكر السماوات و الأرض فيما قبل لأن الأول يجمع المكان و الثاني يجمع الزمان و هما ظرفان لكل موجود فكأنه أراد الأجسام و الأعراض و على هذا فلا يكون السكون في الآية ما هو خلاف الحركة بل المراد به الحلول كما قال ابن الأعرابي إنه من قولهم فلان يسكن بلد كذا أي يحله و هذا موافق لقول ابن عباس و له ما استقر في الليل و النهار من خلق و قيل معناه ما سكن في الليل للاستراحة و تحرك في النهار للمعيشة و إنما ذكر الساكن دون المتحرك لأنه أعم و أكثر و لأن عاقبة التحرك السكون و لأن النعمة في السكون أكثر و الراحة فيه أعم و قيل أراد الساكن و المتحرك و تقديره‏

431
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأنعام(6): الآيات 14 الى 15] ص : 432

 

و له ما سكن و تحرك إلا أن العرب قد تذكر أحد وجهي الشي‏ء و تحذف الآخر لأن المذكور ينبه على المحذوف كقوله تعالى‏ «سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ» و المراد الحر و البرد و متى قيل لما ذا ذكر السكون و الحركة من بين سائر المخلوقات فالجواب لما في ذلك من التنبيه على حدوث العالم و إثبات الصانع لأن كل جسم لا ينفك من الحوادث التي هي الحركة و السكون فإذا لا بد من محرك و مسكن لاستواء الوجهين في الجواز و لما نبه على إثبات الصانع عقبه بذكر صفته فقال‏ «وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» و السميع هو الذي على صفة يصح لأجلها أن يسمع المسموعات إذا وجدت و هو كونه حيا لا آفة به و لذلك يوصف به فيما لم يزل و العليم هو العالم بوجوده التدابير في خلقه و بكل ما يصح أن يعلم و إنما جعل الليل و النهار في هذه الآية كالمسكن لما اشتملا عليه لأنه ليس يخرج منهما شي‏ء فجمع كل الأشياء بهذا اللفظ القليل الحروف و هذا من أفصح ما يمكن كما قال النابغة:

فإنك كالليل الذي هو مدركي‏

 

 و إن خلت إن المنتأى عنك واسع‏

 

فجعل الليل مدركا له إذ كان مشتملا عليه.

 [سورة الأنعام (6): الآيات 14 الى 15]

قُلْ أَ غَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ هُوَ يُطْعِمُ وَ لا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَ لا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15)

القراءة

روي في الشواذ قراءة عكرمة و الأعمش و لا يطعم بفتح الياء و معناه و لا يأكل.

اللغة

الفطرة ابتداء الخلقة قال ابن عباس ما كنت أدري معنى الفاطر حتى احتكم‏

 

432
مجمع البیان في تفسير القرآن4

الإعراب ص : 433

 

إلي أعرابيان في بئر فقال أحدهما أنا فطرتها أي ابتدأت حفرها و أصل الفطر الشق و منه‏ إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ‏ أي انشقت قال الزجاج فإن قال قائل كيف يكون الفطر في معنى الخلق و الانفطار في معنى الانشقاق قيل إنهما يرجعان إلى شي‏ء واحد لأن معنى فطرهما خلقهما خلقا قاطعا.

الإعراب‏

غير نصب لأنه مفعول‏ «أَتَّخِذُ وَلِيًّا» مفعول ثان و قوله‏ «إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي» فيه وجهان أحدهما أنه اعتراض بين الكلام كما يكون الاعتراض بالأقسام فعلى هذا لا موضع له من الإعراب و الآخر أنه في موضع نصب على الحال فكأنه قيل إني أخاف عاصيا ربي عذاب يوم عظيم و يكون جواب الشرط محذوفا على الوجهين جميعا.

النزول‏

قيل إن أهل مكة قالوا لرسول الله يا محمد تركت ملة قومك و قد علمنا أنه لا يحملك على ذلك إلا الفقر فإنا نجمع لك من أموالنا حتى تكون من أغنانا فنزلت الآية.

المعنى‏

 «قُلْ» يا محمد لهؤلاء المشركين الذين سبق ذكرهم‏ «أَ غَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا» أي مالكا و مولى و ولي الشي‏ء مالكه الذي هو أولى من غيره و المعنى لا أتخذ غير الله وليا إلا أن إخراجه على لفظ الاستفهام أبلغ من سائر ألفاظ النفي‏ «فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ» أي خالقهما و منشئهما من غير احتذاء على مثال‏ «وَ هُوَ يُطْعِمُ وَ لا يُطْعَمُ» أي يرزق و لا يرزق و المراد يرزق الخلق و لا يرزقه أحد و قيل إنما ذكر الإطعام لأن حاجة العباد إليه أشد و لأن نفيه عن الله أدل على نفي شبهه بالمخلوقين لأن الحاجة إلى الطعام لا تجوز إلا على الأجسام و احتج سبحانه بهذا على الكفار لأن من خلق السماوات و الأرض و أنشأ ما فيهما و أحكم تدبيرها و أطعم من فيهما و هم فقراء إليه معلوم أنه الذي ليس كمثله شي‏ء و هو القادر القاهر الغني الحي فلا يجوز لمن عرف ذلك أن يعبد غيره‏ «قُلْ» يا محمد «إِنِّي أُمِرْتُ» أي أمرني ربي‏ «أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ» أي استسلم لأمر الله و رضي بحكمه و قيل معناه أمرت أن كون أول من أخلص العبادة من أهل هذا الزمان عن الكلبي و قيل أول من أسلم من أمتي و آمن بعد الفترة عن الحسن و إنما كان أول لأنه خص بالوحي و قيل معناه أن أكون أول من خضع و آمن و عرف الحق من قومي و أن أترك ما هم عليه من الشرك و نظيره قول موسى‏ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَ أَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ‏ أي بأنك لا ترى ممن سألك أن تريه نفسك و قول السحرة إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ‏ بأن هذا ليس بسحر و أنه‏

 

433
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأنعام(6): آية 16] ص : 434

 

الحق أي أول المؤمنين من السحرة «وَ لا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» المعنى أمرت بالأمرين جميعا أي أمرت بالإيمان و نهيت عن الشرك و تقديره و قيل لي لا تكونن من المشركين و صار أمرت بدلا من ذلك لأنه حين قال أمرت أخبر أنه قيل له ذلك فقوله‏ «وَ لا تَكُونَنَّ» معطوف على ما قبله في المعنى‏ «قُلْ» يا محمد «إِنِّي أَخافُ» قيل معناه أوقن و أعلم و قيل هو من الخوف‏ «إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي» بترك أمره و ترك نهيه و قيل بعبادة غيره و قيل باتخاذ غيره وليا «عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ» يعني يوم القيامة و معنى العظيم هنا أنه شديد على العباد و عظيم في قلوبهم.

 [سورة الأنعام (6): آية 16]

مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَ ذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16)

القراءة

قرأ حمزة و الكسائي و خلف و يعقوب و أبو بكر عن عاصم من يصرف بفتح الياء و كسر الراء و الباقون‏ «يُصْرَفْ» بضم الياء و فتح الراء.

الحجة

قال أبو علي فاعل يصرف الضمير العائد إلى ربي و ينبغي أن يكون حذف الضمير العائد إلى العذاب و المعنى من يصرفه عنه و كذلك في قراءة أبي فيما زعموا و ليس حذف هذا الضمير بالسهل و ليس بمنزلة الضمير الذي يحذف من الصلة لأن من جزاء و لا يكون صلة على أن الضمير إنما يحذف من الصلة إذا عاد إلى الموصول نحو أَ هذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا و سَلامٌ عَلى‏ عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى‏ أي بعثهم و اصطفاهم و لا يعود الضمير المحذوف هنا إلى موصول و لا إلى من التي للجزاء و إنما يرجع إلى العذاب في قوله‏ «عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ» و ليس هذا بمنزلة قوله‏ وَ الْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَ الْحافِظاتِ‏ لأن هذا فعل واحد قد تكرر و عدي الأول منهما إلى المفعول فعلم بتعدية الأول أن الثاني بمنزلته و أما قراءة من قرأ «يُصْرَفْ» فالمسند إليه الفعل المبني للمفعول ضمير العذاب المتقدم ذكره و الذكر العائد إلى المبتدأ الذي هو من في القراءتين جميعا الضمير الذي في عنه و مما يقوي قراءة من قرأ يصرف بفتح الياء أن ما بعده من قوله‏ «فَقَدْ رَحِمَهُ» مسند إلى ضمير اسم الله تعالى فقد اتفق الفعلان في الإسناد إلى هذا الضمير و مما يقوي ذلك أيضا أن الهاء المحذوفة من يصرفه لما كانت في حيز الجزاء و كان ما في حيزه في أنه لا يتسلط على ما تقدمه بمنزلة ما في الصلة في أنه لا يجوز أن يتسلط على الموصول حسن حذف الهاء منه كما حسن حذفها من الصلة.

المعنى‏

 «مَنْ يُصْرَفْ» العذاب‏ «عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ» الله يريد من غفر له فإنه‏

 

434
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأنعام(6): الآيات 17 الى 18] ص : 435

 

يثيبه الله لا محالة و ذكر سبحانه الرحمة مع صرف العذاب لئلا يتوهم أنه ليس له إلا صرف العذاب عنه فقط «وَ ذلِكَ الْفَوْزُ» أي الظفر بالبغية «الْمُبِينُ» الظاهر البين و يحتمل أن يكون معنى الآية أنه لا يصرف العذاب عن أحد إلا برحمة الله كما

روي أن النبي ص قال‏ و الذي نفسي بيده ما من الناس أحد يدخل الجنة بعمله قالوا و لا أنت يا رسول الله قال و لا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه و فضل و وضع يده على فوق رأسه و طول بها صوته‏ رواه الحسن في تفسيره‏.

 [سورة الأنعام (6): الآيات 17 الى 18]

وَ إِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَ إِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ (17) وَ هُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَ هُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18)

المعنى‏

ثم بين سبحانه أنه لا يملك النفع و الضر إلا هو فقال‏ «وَ إِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ» أي إن يمسك بفقر أو مرض أو مكروه‏ «فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ» أي لا مزيل و لا مفرج له عنك إلا هو و لا يملك كشفه سواه مما يعبده المشركون‏ «وَ إِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ» أي و إن يصبك بغنى أو سعة في الرزق أو صحة في البدن أو شي‏ء من محاب الدنيا «فَهُوَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ» من الخير و الضر «قَدِيرٌ» و لا يقدر أحد على دفع ما يريده لعباده من مكروه أو محبوب فإن قيل إن المس من صفات الأجسام فكيف قال‏ «إِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ» قلنا الباء للتعدية و المراد أن أمسك الله ضرا أي جعل الضر يمسك فالفعل للضر و إن كان في الظاهر قد أسند إلى اسم الله تعالى و الضر اسم جامع لكل ما يتضرر به من المكاره كما أن الخير اسم جامع لكل ما ينتفع به‏ «وَ هُوَ الْقاهِرُ» و معناه القادر على أن يقهر غيره‏ «فَوْقَ عِبادِهِ» معنى فوق هاهنا قهره و استعلاؤه عليهم فهم تحت تسخيره و تذليله بما علاهم به من الاقتدار الذي لا ينفك منه أحد و مثله قوله تعالى‏ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ‏ يريد أنه أقوى منهم‏ «وَ هُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ» معناه أنه مع قدرته عليهم لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة و الخبير العالم بالشي‏ء و تأويله أنه العالم بما يصح أن يخبر به و الخبر علمك بالشي‏ء تقول لي به خبر أي علم و أصله من الخبر لأنه طريق من طرق العلم فإذا كان القاهر على ما ذكرناه بمعنى القادر صح وصفه سبحانه فيما لم يزل بأنه قاهر و قال بعضهم لا يسمى قاهرا إلا بعد أن يقهر غيره فعلى هذا

 

435
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأنعام(6): الآيات 19 الى 20] ص : 436

 

يكون من صفات الأفعال فلا يصح وصفه فيما لم يزل به.

 [سورة الأنعام (6): الآيات 19 الى 20]

قُلْ أَيُّ شَيْ‏ءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ أُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَ مَنْ بَلَغَ أَ إِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى‏ قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَ إِنَّنِي بَرِي‏ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20)

الإعراب‏

شهادة نصب على التمييز و من بلغ في محل نصب بالإنذار و العائد إلى الموصول محذوف و أ إنكم كتب بالياء لأن الهمزة التي قبلها همزة تخفف بأن تجعل بين بين فإذا كانت مكسورة تجعل بين الهمزة و الياء فكتب بالياء «الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ» رفع بالابتداء و يعرفونه خبره‏ «الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ» رفع بكونه نعتا للذين الأولى و يجوز أن يكون رفعا بالابتداء و قوله‏ «فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ» خبره.

النزول‏

قال الكلبي أتى أهل مكة رسول الله ص فقالوا أ ما وجد الله رسولا غيرك ما نرى أحدا يصدقك فيما تقول و لقد سألنا عنك اليهود و النصارى فزعموا أنه ليس لك عندهم ذكر فأرنا من يشهد أنك رسول الله كما تزعم فأنزل الله تعالى هذه الآية.

المعنى‏

 «قُلْ» يا محمد لهؤلاء الكفار «أَيُّ شَيْ‏ءٍ أَكْبَرُ» أي أعظم‏ «شَهادَةً» و أصدق حتى آتيكم به و أدلكم بذلك على أني صادق و قيل معناه أي شي‏ء أكبر شهادة حتى يشهد لي بالبلاغ و عليكم بالتكذيب عن الجبائي و قيل معناه أي شي‏ء أعظم حجة و أصدق شهادة عن ابن عباس فإن قالوا الله و إلا ف «قُلْ» لهم‏ «اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ» يشهد لي بالرسالة و النبوة و قيل معناه يشهد لي بتبليغ الرسالة إليكم و تكذيبكم إياي‏ «وَ أُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ» أي أنزل إلي حجة أو شهادة على صدقي‏ «لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ» أي لأخوفكم به من عذاب الله تعالى‏ «وَ مَنْ بَلَغَ» أي و لا خوف به من بلغه القرآن إلى يوم القيامة و

روى الحسن في تفسيره‏

 

436
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 436

عن النبي ص أنه قال‏ من بلغه أني أدعو إلى أن لا إله إلا الله فقد بلغه‏

يعني بلغته الحجة و قامت عليه و قال محمد بن كعب من بلغه القرآن فكأنما رأى محمدا و سمع منه و قال مجاهد حيث ما يأتي القرآن فهو داع و نذير و قرأ هذه الآية و

في تفسير العياشي قال أبو جعفر و أبو عبد الله (ع) من بلغ معناه من بلغ أن يكون إماما من آل محمد فهو ينذر بالقرآن كما أنذر به رسول الله ص‏

و على هذا فيكون قوله‏ «وَ مَنْ بَلَغَ» في موضع رفع عطفا على الضمير في أنذر و في الآية دلالة على أن الله تعالى يجوز أن يسمي شيئا لأن قوله‏ «أَيُّ شَيْ‏ءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً» جاء جوابه‏ «قُلِ اللَّهُ» و معنى الشي‏ء إنه ما يصح أن يعلم و يخبر عنه فالله سبحانه شي‏ء لا كالأشياء بمعنى أنه معلوم لا كالمعلومات التي هي الجواهر و الأعراض و الاشتراك في الاسم لا يوجب التماثل و في قوله‏ «وَ مَنْ بَلَغَ» دلالة على أنه خاتم الأنبياء و مبعوث إلى الناس كافة ثم قال سبحانه موبخا لهم قل يا محمد لهم‏ «أَ إِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى‏» هذا استفهام معناه الجحد و الإنكار و تقديره كيف تشهدون أن مع الله آلهة أخرى بعد وضوح الأدلة و قيام الحجة بوحدانية الله تعالى و إنما قال‏ «أُخْرى‏» و لم يقل آخر لأن الآلهة جمع و الجمع مؤنث فهو كقوله‏ وَ لِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى‏ و قوله‏ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى‏ و لم يقل الأول ثم قال سبحانه لنبيه‏ «قُلْ» أنت يا محمد «لا أَشْهَدُ» بمثل ذلك و إن شهدتم بإثبات الشريك لله بعد قيام الحجة بوحدانية الله تعالى و الشاهد هو المبين لدعوى المدعي ثم قال‏ «قُلْ» يا محمد لمن شهد أن معه آلهة أخرى‏ «إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَ إِنَّنِي بَرِي‏ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ» به و بعبادته من الأوثان و غيرها و لهذا قال أهل العلم يستحب لمن أسلم ابتداء أن يأتي بالشهادتين و يتبرأ من كل دين سوى الإسلام ثم ذكر سبحانه أن الكفار بين جاهل و معاند فقال‏ «الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ» و هذا مفسر في سورة البقرة «الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ» مفسر في هذه السورة فإن حملته على أنه صفة للذين الأولى فالمعني به أهل الكتاب و إن حملته على الابتداء فإنه يتناول جميع الكفار و قال أبو حمزة الثمالي لما قدم النبي ص المدينة قال عمر لعبد الله بن سلام إن الله تعالى أنزل على نبيه ص أن أهل الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم كيف هذه المعرفة قال عبد الله بن سلام نعرف نبي الله بالنعت الذي نعته الله إذا رأيناه فيكم كما يعرف أحدنا ابنه إذا رآه بين الغلمان و أيم الله الذي يحلف به ابن سلام لأنه بمحمد أشد معرفة مني بابني فقال له كيف قال عبد الله عرفته بما نعته الله لنا في كتابنا فأشهد أنه هو فأما ابني فإني لا أدري ما أحدثت أمه فقال قد وفقت و صدقت و أصبت.

437
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأنعام(6): الآيات 21 الى 22] ص : 438

 

 [سورة الأنعام (6): الآيات 21 الى 22]

وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى‏ عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21) وَ يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22)

القراءة

و يوم يحشرهم ثم يقول بالياء فيهما قراءة يعقوب وحده و كذلك في الفرقان و في سبإ و قرأ في سائر القرآن بالنون و قرأ حفص هنا و في يونس بالنون و في سائر القرآن بالياء و قرأ أبو جعفر و ابن كثير في الفرقان بالياء و في سائر القرآن بالنون و قرأ الباقون بالنون في جميع القرآن.

الحجة

من قرأ بالياء رده إلى الله في قوله‏ عَلَى اللَّهِ كَذِباً و من قرأ بالنون ابتداء و الياء في المعنى كالنون.

الإعراب‏

 «يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ» العامل فيه محذوف على معنى و اذكر يوم نحشرهم و قيل إنه معطوف على محذوف كأنه قيل لا يفلح الظالمون أبدا و يوم نحشرهم و العائد إلى الموصول محذوف من‏ «الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ» و تقديره تزعمون أنهم شركاء أو تزعمونهم شركاء فحذف مفعولي الزعم لدلالة الكلام و حالة السؤال عليه.

المعنى‏

ثم بين سبحانه ما يلزمهم من التوبيخ و التهجين بالإشراك فقال‏ «وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى‏ عَلَى اللَّهِ كَذِباً» معناه و من أكفر ممن اختلق على الله كذبا فأشرك به الآلهة عن ابن عباس و هذا استفهام معناه الجحد أي لا أحد أظلم منه لأن جوابه كذلك فاكتفى من الجواب بما يدل عليه‏ «أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ» أي بالقرآن و بمحمد و معجزاته‏ «إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ» أي لا يفوز برحمة الله و ثوابه و رضوانه و لا بالنجاة من النار الظالمون و الظالم هاهنا هو الكافر بنبوة محمد (ص) المكذب بآياته الجاحد لها بقوله ما نصب الله آية على نبوته‏ «وَ يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً» عنى بهم من تقدم ذكرهم من الكفار لأنه سبحانه يحشرهم يوم القيامة من قبورهم إلى موضع الحساب‏ «ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ» اختلف في وجه هذا السؤال فقيل إن المشركين إذا رأوا تجاوز الله تعالى عن أهل التوحيد قال بعضهم لبعض إذا سئلتم فقولوا أنا موحدون فلما جمعهم الله قال لهم أين شركاؤكم‏

 

438
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأنعام(6): الآيات 23 الى 24] ص : 439

 

ليعلموا أن الله يعرف أنهم أشركوا به في دار الدنيا و أنه لا ينفعهم الكتمان عن مقاتل و قيل إن المشركين كانوا يزعمون أن آلهتهم تشفع لهم عند الله فقيل لهم يوم القيامة «أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ» أنها تشفع لكم توبيخا لهم و تبكيتا على ما كانوا يدعونه عن أكثر المفسرين و إنما أضاف الشركاء إليهم لأنهم اتخذوها لأنفسهم و معنى تزعمون تكذبون قال ابن عباس و كل زعم في كتاب الله كذب و في هذه الآية دلالة واضحة على بطلان مذهب الجبر و على إثبات المعاد و حشر جميع الخلق.

 [سورة الأنعام (6): الآيات 23 الى 24]

ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا وَ اللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى‏ أَنْفُسِهِمْ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (24)

القراءة

قرأ أهل المدينة و أبو عمرو و أبو بكر عن عاصم و خلف‏ «ثُمَّ لَمْ تَكُنْ» بالتاء فتنتهم بالنصب و قرأ ابن كثير و ابن عامر و حفص عن عاصم‏ «ثُمَّ لَمْ تَكُنْ» بالتاء أيضا «فِتْنَتُهُمْ» بالرفع و قرأ حمزة و الكسائي و يعقوب ثم لم يكن بالياء فتنتهم بالنصب و قرأ حمزة و الكسائي و خلف و الله ربنا بالنصب و قرأ الباقون بالجر.

الحجة

من قرأ «تَكُنْ» بالتاء فتنتهم بالنصب فإنه أنث‏ «أَنْ قالُوا» لما كان القول الفتنة في المعنى كما قال‏ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها فأنث الأمثال لما كانت في المعنى الحسنات و مما جاء في الشعر قول لبيد:

فمضى و قدمها و كانت عادة

 

 منه إذا هي عردت أقدامها

 

فأنث الأقدام لما كانت العادة في المعنى قال الزجاج و يجوز أن يكون تأويل‏ «إِلَّا أَنْ قالُوا» إلا مقالتهم و من قرأ «لَمْ تَكُنْ» بالتاء «فِتْنَتُهُمْ» رفعا أثبت علامة التأنيث في الفعل المسند إلى الفتنة و الفتنة مؤنثة و على هذه القراءة يكون قوله‏ «إِلَّا أَنْ قالُوا» في موضع نصب بكونه خبر كان و من قرأ لم يكن بالياء فتنتهم نصبا فعلى أن قوله‏ «أَنْ قالُوا» اسم كان و الأولى و الأقوى أن يكون فتنتهم نصبا و «أَنْ قالُوا» الاسم لأن أن إذا وصلت لم توصف فأشبهت بامتناع وصفها المضمر

 

439
مجمع البیان في تفسير القرآن4

اللغة ص : 440

 

فكما أن المضمر إذا كان مع المظهر كان، أن يكون المضمر الاسم أحسن، فكذلك أن إذا كانت مع اسم غيرها كانت، أن يكون الاسم أولى و أما من قرأ «وَ اللَّهِ رَبِّنا» فإنه جعل الاسم المضاف وصفا للمفرد و مثل ذلك رأيت زيدا صاحبنا و قوله‏ «ما كُنَّا مُشْرِكِينَ» جواب للقسم و من قرأ ربنا بالنصب فصل بالاسم المنادى بين القسم و المقسم عليه و الفصل به لا يمتنع و قد فصل بالنداء بين الصلة و الموصول لكثرة النداء في الكلام و ذلك مثل قول الشاعر:

ذاك الذي و أبيك يعرف مالك‏

 

 و الحق يدفع ترهات الباطل‏

 

و يجوز أن يكون نصبه على المدح بمعنى أعني ربنا و أذكر ربنا.

اللغة

قال الأزهري جماع الفتنة في كلام العرب الامتحان مأخوذ من قولك فتنت الذهب و الفضة إذا أذبتهما بالنار و أحرقتهما و قد فتن الرجل بالمرأة و افتتن و قد فتنته المرأة و أفتنته قال الشاعر:

لئن فتنتني لهي بالأمس أفتنت‏

 

 عقيلا فأمسى قد قلى كل مسلم‏

 

. الإعراب‏

العامل في كيف قوله‏ «كَذَبُوا» و لا يجوز أن يعمل فيه أنظر لأن الاستفهام له صدر الكلام فلا يجوز أن يعمل فيه ما قبله.

المعنى‏

ثم بين سبحانه جواب القوم عند توجه التوبيخ إليهم فقال‏ «ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ» اختلف في معنى الفتنة هنا على وجوه (أحدها) إن معناه ثم لم يكن جوابهم لأنهم حين سألوا اختبر ما عندهم بالسؤال فلم يكن الجواب عن ذلك الاختبار إلا هذا القول (و ثانيها)

إن المراد لم يكن معذرتهم‏ «إِلَّا أَنْ قالُوا» عن ابن عباس و قتادة و هو المروي عن أبي عبد الله (ع)

و هذا راجع إلى معنى الجواب (أيضا) (و ثالثها) ما قاله الزجاج أن تأويله حسن لطيف لا يعرفه إلا من عرف معاني الكلام و تصرف العرب في ذلك و الله عز و جل ذكر في هذه الآية الأقاصيص التي جرت من أمر المشركين و أنهم مفتنون بشركهم ثم أعلم أنه لم يكن افتتانهم بشركهم و إقامتهم عليه إلا أن تبرأوا منه و انتفوا منه فحلفوا أنهم ما

 

440
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 440

كانوا مشركين و مثل ذلك في اللغة أن ترى إنسانا يحب غاويا فإذا وقع في هلكة تبرأ منه فتقول له ما كانت محبتك فلانا إلا أن افتتنت منه فالفتنة هاهنا بمعنى الشرك و الافتتان بالأوثان و يؤيد ذلك ما رواه عطا عن ابن عباس قال فتنتهم يريد شركهم في الدنيا و هذا القول في التأويل يرجع إلى حذف المضاف لأن المعنى لم يكن عاقبة فتنتهم إلا البراءة منها بقولهم‏ «وَ اللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ» و يسأل فيقال كيف يجوز أن يكذبوا في الآخرة و يحلفوا على الكذب و الدار ليست بدار تكليف و كل الناس ملجئون فيها إلى ترك القبيح لمشاهدة الحقائق و زوال عوارض الشبه و الشكوك و لمعرفتهم بالله سبحانه ضرورة و الجواب أن معناه ما كنا مشركين في الدنيا عند أنفسنا و في اعتقادنا و تقديرنا و ذلك أن المشركين في الدنيا يعتقدون كونهم مصيبين فيحلفون على هذا في الآخرة فعلى هذا يكون قولهم و حلفهم يقعان على وجه الصدق و قيل أيضا أنهم إنما يحلفون على ذلك لزوال عقولهم بما يلحقهم من الدهشة من أهوال القيامة ثم ترجع عقولهم فيقرون و يعترفون و يجوز أن ينسوا إشراكهم في الدنيا بما يلحقهم من الدهشة عند مشاهدة تلك الأهوال‏ «انْظُرْ» المعنى يقول الله تعالى عند حلف هؤلاء أنظر يا محمد «كَيْفَ كَذَبُوا عَلى‏ أَنْفُسِهِمْ» و هذا و إن كان لفظه لفظ الاستفهام فالمراد به التنبيه على التعجيب منهم و معناه أنظر إلى إخباري عن افترائهم كيف هو فإنه لا يمكن النظر إلى ما يوجد في الآخرة و إنما كذبهم الله سبحانه في قولهم و إن كانوا صادقين عند أنفسهم لأن الكذب هو الإخبار بالشي‏ء لا على ما هو به علم المخبر بذلك أو لم يعلم فلما كان قولهم‏ «ما كُنَّا مُشْرِكِينَ» كذبا في الحقيقة جاز أن يقال كذبوا على أنفسهم و قيل معناه أنظر كيف كذبوا على أنفسهم في دار الدنيا لا أنهم كذبوا في الآخرة لأنهم كانوا مشركين على الحقيقة و إن اعتقدوا أنهم على الحق عن الجبائي‏ «وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ» أي ضلت عنهم أوثانهم التي كانوا يعبدونها و يفترون الكذب بقولهم هؤلاء شفعاؤنا عند الله غدا فذهبت عنهم في الآخرة فلم يحدوها و لم ينتفعوا بها عن الحسن و قيل أنه عام في كل ما يعبد من دون الله تعالى أنها تضل عن عابديها يوم القيامة و لا تغني عنهم شيئا و اختلف أهل العدل في أن أهل الآخرة هل يجوز أن يقع منهم الكذب فالأصح أنه لا يجوز على ما قلناه و قال بعضهم يجوز ذلك لما يلحقهم من الدهش و الحيرة في القيامة فإذا استقر أهل الجنة في الجنة و أهل النار في النار فحينئذ لا يجوز أن يقع منهم القبيح و الكذب و يكون جميعهم ملجئين إلى ترك القبيح و به قال أبو بكر بن الإخشيد و أصحابه و قال بعضهم أنه يجوز وقوعه منهم على جميع الأحوال.

441
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأنعام(6): آية 25] ص : 442

 

 [سورة الأنعام (6): آية 25]

وَ مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَ جَعَلْنا عَلى‏ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَ فِي آذانِهِمْ وَقْراً وَ إِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25)

اللغة

الأكنة جمع كنان و هو ما وقى شيئا و ستره مثل عنان و أعنة قال الليث كل شي‏ء وقى شيئا فهو كنانة و كنه و الفعل منه كننت و أكننت و الكنة امرأة الابن أو الأخ لأنها في كنه و استكن الرجل من الحر و اكتن استتر و الوقر الثقل في الأذن و الوقر بكسر الواو الحمل قال أبو زيد وقرت أذنه توقر وقرا و قال الكسائي وقرت أذنه فهي موقورة قال الشاعر:

و كلام سي‏ء قد وقرت‏

 

 أذني منه و ما بي من صمم‏

 

و أساطير واحدتها أسطورة و أسطارة مأخوذ من سطر الكتاب و هو سطر و سطر فمن قال سطر جمعه أسطارا و من قال سطر فجمعه في القليل أسطر و الكثير سطور و قال رؤبة:

إني و أسطار سطرن سطرا

 

 لقائل يا نصر نصرا نصرا

 

و جمع أسطار أساطير قال الزجاج و تأويل السطر في اللغة أن تجعل شيئا ممتدا مؤلفا و قال الأخفش أساطير جمع لا واحد له نحو أبابيل و مذاكير و قال بعضهم واحد الأبابيل إبيل بالتشديد و كسر الألف و الجدال الخصومة سمي بذلك لشدته و قيل أنه مشتق من الجدالة و هي الأرض لأن أحدهما يلقي صاحبه على الأرض.

الإعراب‏

 «أَنْ يَفْقَهُوهُ» موضعه نصب على أنه مفعول له المعنى لكراهة أن يفقهوه فلما حذفت اللام نصبت الكراهة و لما حذفت الكراهة انتقل نصبها إلى أن قاله الزجاج يريد أنه حذف المضاف و أقيم المضاف إليه مقامه و «يُجادِلُونَكَ» في موضع نصب على الحال.

النزول‏

قيل أن نفرا من مشركي مكة منهم النضر بن الحارث و أبو سفيان بن حرب و الوليد بن المغيرة و عتبة بن ربيعة و أخوه شيبة و غيرهم جلسوا إلى رسول الله (ص) و هو يقرأ القرآن فقالوا للنضر ما يقول محمد فقال أساطير الأولين مثل ما كنت أحدثكم عن القرون الماضية فأنزل الله هذه الآية.

 

442
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 443

المعنى‏

ثم وصف الله سبحانه حالهم عند استماع القرآن فقال‏ «وَ مِنْهُمْ» أي و من الكفار الذين تقدم ذكرهم‏ «مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ» يريد يستمعون إلى كلامك قال مجاهد يعني قريشا «وَ جَعَلْنا عَلى‏ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَ فِي آذانِهِمْ وَقْراً» قد ذكرنا الكلام فيه في سورة البقرة عند قوله‏ «خَتَمَ اللَّهُ عَلى‏ قُلُوبِهِمْ» و قال القاضي أبو عاصم العامري أصح الأقوال فيه ما روي أن النبي (ص) كان يصلي بالليل و يقرأ القرآن في الصلاة جهرا رجاء أن يستمع إلى قراءته إنسان فيتدبر معانيه و يؤمن به فكان المشركون إذا سمعوه آذوه و منعوه عن الجهر بالقراءة فكان الله تعالى يلقي عليهم النوم أو يجعل في قلوبهم أكنة ليقطعهم عن مرادهم و ذلك بعد ما بلغهم مما تقوم به الحجة و تنقطع به المعذرة و بعد ما علم الله سبحانه أنهم لا ينتفعون بسماعه و لا يؤمنون به فشبه إلقاء النوم عليهم بجعل الغطاء على قلوبهم و بوقر آذانهم لأن ذلك كان يمنعهم من التدبر كالوقر و الغطاء و هذا معنى قوله تعالى‏ «وَ إِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَ بَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً» و هو قول أبي علي الجبائي و يحتمل ذلك وجها آخر و هو أنه تعالى يعاقب هؤلاء الكفار الذين علم أنهم لا يؤمنون بعقوبات يجعلها في قلوبهم تكون موانع من أن يفهموا ما يسمعونه و يحتمل أيضا أن يكون سمي الكفر الذي في قلوبهم كنا تشبيها و مجازا و إعراضهم عن تفهم القرآن وقرا توسعا لأن مع الكفر و الإعراض لا يحصل الإيمان و الفهم كما لا يحصلان مع الكن و الوقر و نسب ذلك إلى نفسه لأنه الذي شبه أحدهما بالآخر كما يقول أحدنا لغيره إذا أثنى على إنسان و ذكر مناقبه جعلته فاضلا و بالضد إذا ذكر مقابحه و فسقه يقول جعلته فاسقا و كما يقال جعل القاضي فلانا عدلا و كل ذلك يراد به الحكم عليه بذلك و الإبانة عن حاله كما قال الشاعر:

جعلتني باخلا كلا و رب منى‏

 

 إني لأسمح كفا منك في اللزب‏

 

و معناه سميتني باخلا «وَ إِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها» يريد و أن يروا كل عبرة لم يصدقوا بها عن ابن عباس و قيل معناه و إن يروا كل علامة و معجزة دالة على نبوتك لا يؤمنوا بها لعنادهم عن الزجاج و لو أجري معنى الآية على ظاهرها لم يكن لهذا معنى لأن من لا يمكنه أن يسمع و يفقه لا يجوز أن يوصف بذلك و كان لا يصح أن يصفهم بأنهم كذبوا بآياته و غفلوا عنها و هم ممنوعون عن ذلك و الذي يزيل الإشكال أنه تعالى قال في وصف بعض‏

443
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأنعام(6): آية 26] ص : 444

 

الكفار «وَ إِذا تُتْلى‏ عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها» الآية و لو كان في أذنيه وقر مانع عن السماع مزيل للقدرة لكان لا معنى لقوله‏ «كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً» و لكان لا يستحق المذمة لأنه لم يعط آلة السمع فكيف يذم على ترك السمع‏ «حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ» يعني أنهم إذا دخلوا عليك بالنهار يجيئون مجي‏ء مخاصمين مجادلين رادين عليك قولك و لم يجيؤوا مجي‏ء من يريد الرشاد و النظر في الدلالة الدالة على توحيد الله و نبوة نبيه‏ «يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا» أي ما هذا القرآن‏ «إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ» أي أحاديث الأولين التي كانوا يسطرونها عن الضحاك و قيل معنى الأساطير الترهات و البسابس مثل حديث رستم و إسفنديار و غيره مما لا فائدة فيه و لا طائل تحته و قال بعضهم أن جدالهم هذا القول منهم و قيل هو مثل قولهم أ تأكلون ما تقتلونه بأيديكم و لا تأكلون ما قتله الله تعالى.

 [سورة الأنعام (6): آية 26]

وَ هُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَ يَنْأَوْنَ عَنْهُ وَ إِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَ ما يَشْعُرُونَ (26)

اللغة

الناي البعد يقال نأيت عنه أنأى نأيا و منه أخذ النؤي و هو الحاجز حول البيت لئلا يدخله الماء.

المعنى‏

ثم كنى عن الكفار الذين تقدم ذكرهم فقال‏ «وَ هُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَ يَنْأَوْنَ عَنْهُ» أي ينهون الناس عن اتباع النبي (ص) و يتباعدون عنه فرارا منه عن ابن عباس و محمد بن الحنفية و الحسن و السدي و قيل معناه ينهون الناس عن استماع القرآن لئلا يقع في قلوبهم صحته و يتباعدونهم عن استماعه عن قتادة و مجاهد و اختاره الجبائي و قيل عنى به أبا طالب بن عبد المطلب و معناه يمنعون الناس عن أذى النبي (ص) و لا يتبعونه عن عطا و مقاتل و هذا لا يصح لأن هذه الآية معطوفة على ما تقدمها و ما تأخر عنها معطوف عليها و كلها في ذم الكفار المعاندين للنبي (ص) هذا و قد ثبت إجماع أهل البيت (ع) على إيمان أبي طالب و إجماعهم حجة لأنهم أحد الثقلين اللذين أمر النبي (ص) بالتمسك بهما

بقوله‏ إن تمسكتم بهما لن تضلوا

و يدل على ذلك أيضا ما

رواه ابن عمر أن أبا بكر جاء بأبيه أبي قحافة

 

444
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 444

يوم الفتح إلى رسول الله (ص) فأسلم فقال (ص) أ لا تركت الشيخ فأتيه و كان أعمى فقال أبو بكر أردت أن يأجره الله تعالى و الذي بعثك بالحق لأنا كنت بإسلام أبي طالب أشد فرحا مني بإسلام أبي ألتمس بذلك قرة عينك فقال (ص) صدقت‏

و روى الطبري بإسناده أن رؤساء قريش لما رأوا ذب أبي طالب عن النبي (ص) اجتمعوا عليه و قالوا جئناك بفتى قريش جمالا و جودا و شهامة عمارة بن الوليد ندفعه إليك و تدفع إلينا ابن أخيك الذي فرق جماعتنا و سفه أحلامنا فنقتله فقال أبو طالب ما أنصفتموني تعطونني ابنكم فاغذوه و أعطيكم ابني فتقتلونه بل فليأت كل امرئ منكم بولده فأقتله و قال:

منعنا الرسول رسول المليك‏

 

 ببيض تلألأ كلمع البروق‏

 

أذود و أحمي رسول المليك‏

 

 حماية حام عليه شفيق‏

 

و أقواله و أشعاره المنبئة عن إسلامه كثيرة مشهورة لا تحصى فمن ذلك قوله:

أ لم تعلموا أنا وجدنا محمدا

 

 نبيا كموسى خط في أول الكتب‏

 

أ ليس أبونا هاشم شد أزره‏

 

 و أوصى بنيه بالطعان و بالحرب‏

 

و قوله من قصيدة:

و قالوا لأحمد أنت امرؤ

 

 خلوف اللسان ضعيف السبب‏

 

ألا إن أحمد قد جاءهم‏

 

 بحق و لم يأتهم بالكذب‏

 

و قوله في حديث الصحيفة و هو من معجزات النبي (ص):

و قد كان في أمر الصحيفة عبرة

 

 متى ما يخبر غائب القوم يعجب‏

 

محا الله منها كفرهم و عقوقهم‏

 

 و ما نقموا من ناطق الحق معرب‏

 

و أمسى ابن عبد الله فينا مصدقا

 

 على سخط من قومنا غير معتب‏

 

و قوله في قصيدة يحض أخاه حمزة على اتباع النبي و الصبر في طاعته:

صبرا أبا يعلى على دين أحمد

 

 و كن مظهرا للدين وفقت صابرا

 

فقد سرني إذ قلت إنك مؤمن‏

 

 فكن لرسول الله في الله ناصرا

 

و قوله من قصيدة:

445
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأنعام(6): الآيات 27 الى 28] ص : 446

 

أقيم على نصر النبي محمد

 

 أقاتل عنه بالقنا و القنابل‏

 

و قوله يحض النجاشي على نصر النبي:

تعلم مليك الحبش أن محمدا

 

 وزير لموسى و المسيح بن مريم‏

 

أتى بهدى مثل الذي أتيا به‏

 

 و كل بأمر الله يهدي و يعصم‏

 

و إنكم تتلونه في كتابكم‏

 

 بصدق حديث لا حديث المرجم‏

 

فلا تجعلوا لله ندا و أسلموا

 

 و إن طريق الحق ليس بمظلم‏

 

و قوله في وصيته و قد حضرته الوفاة:

أوصي بنصر النبي الخير مشهده‏

 

 عليا ابني و شيخ القوم عباسا

 

و حمزة الأسد الحامي حقيقته‏

 

 و جعفرا أن يذودوا دونه الناسا

 

كونوا فدى لكم أمي و ما ولدت‏

 

 في نصر أحمد دون الناس أتراسا

 

في أمثال هذه الأبيات مما هو موجود في قصائده المشهورة و وصاياه و خطبة يطول بها الكتاب على أن أبا طالب لم ينأ عن النبي (ص) قط بل كان يقرب منه و يخالطه و يقوم بنصرته فكيف يكون المعنى بقوله‏ «وَ يَنْأَوْنَ عَنْهُ» «وَ إِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ» معناه ما يهلكون بنهيهم عن قبوله و بعدهم عنه إلا أنفسهم‏ «وَ ما يَشْعُرُونَ» أي و ما يعلمون إهلاكهم إياها بذلك.

 [سورة الأنعام (6): الآيات 27 الى 28]

وَ لَوْ تَرى‏ إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَ لا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَ نَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَ لَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (28)

القراءة

قرأ «وَ لا نُكَذِّبَ» «وَ نَكُونَ» بالنصب حفص عن عاصم و حمزة و يعقوب و قرأ ابن عامر «وَ نَكُونَ» بالنصب و قرأ الباقون بالرفع فيهن.

 

446
مجمع البیان في تفسير القرآن4

الحجة ص : 447

 

الحجة

قال أبو علي من قرأ بالرفع جاز فيه وجهان (أحدهما) أن يكون معطوفا على‏ «نُرَدُّ» فيكون قوله و لا نكذب و نكون داخلا في التمني دخول‏ «نُرَدُّ» فيه فعلى هذا تمني الرد و أن لا نكذب و الكون من المؤمنين و يحتمل الرفع وجها آخر و هو أن تقطعه من الأول و يكون التقدير يا ليتنا نرد و نحن لا نكذب و نكون و قال سيبويه هو على قولك فإنا لا نكذب كما يقول القائل دعني و لا أعود أي فإني ممن لا يعود فإنما يسألك الترك و قد أوجب على نفسه أن لا يعود ترك أو لم يترك و لم يرد أن يسألك أن تجمع له الترك و أن لا يعود و حجة من نصب فقال‏ «وَ لا نُكَذِّبَ» «وَ نَكُونَ» أنه أدخل ذلك في التمني غير موجب لأن التمني غير موجب فهو كالاستفهام و الأمر و النهي في انتصاب ما بعد ذلك كله من الأفعال إذا دخلت عليها الفاء أو الواو على تقدير ذكر المصدر من الفعل الأول كأنه في التمثيل يا ليتنا يكون لنا رد و انتفاء التكذيب و الكون من المؤمنين و من رفع و لا نكذب و نصب‏ «وَ نَكُونَ» فإن الفعل الذي هو لا نكذب يحتمل وجهين (أحدهما) أن يكون داخلا في التمني فيكون المعنى كالنصب (و الآخر) أن يخبر على البتات أن لا نكذب رد أو لم يرد و من نصبها جميعا جعلهما داخلين في التمني.

اللغة

يقال وقفت الدابة وقوفا و وقف غيره يقفه وقفا و حكي عن أبي عمرو أنه أجاز ما أوقفك هاهنا مع إخباره أنه لم يسمعه من العرب و بدا يبدو و بدوا إذا ظهر و فلان ذو بدوات إذا بدا له الرأي بعد الرأي و بدا لي في هذا الأمر بداء و البداء لا يجوز على الله سبحانه لأنه العالم بجميع المعلومات لم يزل و لا يزال.

الإعراب‏

 «وَ لَوْ تَرى‏» جوابه محذوف و تقديره لرأيت أمرا هائلا و نحوه قوله تعالى‏ «وَ لَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ» يريد إسكان هذا القرآن و هذه الأجوبة إنما تحذف لتعظيم الأمر و تفخيمه و مثله قول امرئ القيس:

و جئتك لو شي‏ء أتانا رسوله‏

 

 سواك و لكن لم نجد لك مدفعا

 

و تقديره لو أتانا رسول غيرك لما جئنا و يسأل فيقال لم جاز «وَ لَوْ تَرى‏ إِذْ وُقِفُوا» و إذ هي للماضي و الجواب أن الخبر لصحته و صدق المخبر به صار بمنزلة ما وقع.

المعنى‏

ثم بين سبحانه ما ينال هؤلاء الكفار يوم القيامة من الحسرة و تمني الرجعة فقال‏ «وَ لَوْ تَرى‏» يا محمد أو يا أيها السامع‏ «إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ» فهذا يحتمل ثلاثة أوجه‏

 

447
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 447

جائز أن يكون المعنى عاينوا النار و جائز أن يكونوا عليها و هي تحتهم قال الزجاج و الأجود أن يكون معناه ادخلوها فعرفوا مقدار عذابها كما تقول في الكلام قد وقفت على ما عند فلان تريد قد فهمته و تبينته و هذا و إن كان بلفظ المضي فالمراد به الاستقبال و إنما جاز ذلك لأن كل ما هو كائن يوما مما لم يكن بعد فهو عند الله قد كان و أنشد في مثله:

ستندم إذ يأتي عليك رعيلنا

 

 بأرعن جرار كثير صواهله‏

 

فوضع إذ موضع إذا و قد يوضع أيضا إذا موضع إذ كما قال الشاعر:

و ندمان يزيد الكأس طيبا

 

 سقيت إذا تعرضت النجوم‏

 

 «فَقالُوا» أي فقال الكفار حين عاينوا العذاب و ندموا على ما فعلوا «يا لَيْتَنا نُرَدُّ» إلى الدنيا «وَ لا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا» أي بكتب ربنا و رسله و جميع ما جاءنا من عنده‏ «وَ نَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» يعني من جملة المؤمنين بآيات الله‏ «بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ» اختلف فيه على أقوال (أحدها) أن معناه بل بدا لبعضهم من بعض ما كان علماؤهم يخفونه عن جهالهم و ضعفائهم مما في كتبهم فبدأ للضعفاء عنادهم (و ثانيها) أن المراد بل بدا من أعمالهم ما كانوا يخفونه فأظهره الله و شهدت به جوارحهم عن أبي روق (و ثالثها) إن المعنى ظهر للذين اتبعوا الغواة ما كان الغواة يخفونه عنهم من أمر البعث و النشور لأن المتصل بهذا و له‏ «وَ قالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا» الآية عن الزجاج و هو قول الحسن (و رابعها) أن المراد بل بدا لهم وبال ما كانوا يخفونه من الكفر عن المبرد و كل هذه الأقوال بمعنى ظهرت فضيحتهم في الآخرة و تهتكت أستارهم‏ «وَ لَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ» أي لو ردوا إلى الدنيا و إلى حال التكليف كما طلبوه لعادوا إلى ما نهوا عنه من الكفر و التكذيب‏ «وَ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ» و يسأل على هذا فيقال إن التمني كيف يصح فيه الكذب و إنما يقع الكذب في الخبر و الجواب أن من الناس من حمل الكلام كله على وجه التمني و صرف الكذب إلى غير الأمر الذي تمنوه و قال إن معناه هم كاذبون فيما يخبرون به عن أنفسهم في الدنيا من الإصابة و اعتقاد الحق أو يكون المعنى إنهم كاذبون أن خبروا عن أنفسهم بأنهم متى ردوا آمنوا و إن كان ما حكي عنهم من التمني ليس بخبر و قد يجوز أن يحمل على غير الكذب الحقيقي بأن‏

448
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأنعام(6): الآيات 29 الى 30] ص : 449

يكون المراد أنهم تمنوا ما لا سبيل إليه فكذب أملهم و تمنيهم و هذا مشهور في كلام العرب يقولون كذبك أملك لمن تمنى ما لم يدرك و قال الشاعر:

كذبتم و بيت الله لا تنكحونها

 

 بني شاب قرناها تصر و تحلب‏

 

و قال آخر:

كذبتم و بيت الله لا تأخذونها

 

 مراغمة ما دام للسيف قائم‏

 

و المراد ما ذكرناه من الخيبة في الأمل و التمني فإن قيل كيف يجوز أن يتمنوا الرد إلى الدنيا و قد علموا أنهم لا يردون فالجواب عنه من وجوه (أحدها) إنا لا نعلم أن أهل الآخرة يعرفون جميع أحكام الآخرة و إنما نقول إنهم يعرفون الله معرفة لا يتخالجهم فيها الشك لما يشاهدونه من الآيات الملجئة لهم إلى المعارف و أما التوجع و التمني للخلاص و الدعاء للفرج فيجوز أن يقع منهم ذلك عن البلخي (و ثانيها) أن التمني قد يجوز فيما يعلم أنه لا يكون و لهذا قد يقع التمني على أن لا يكون ما قد كان و أن لا يكون فعل ما قد فعله و تقضي وقته (و ثالثها) أنه لا مانع من أن يقع منهم التمني للرد و لأن يكونوا من المؤمنين عن الزجاج و في الناس من جعل بعض الكلام تمنيا و بعضه إخبارا و علق تكذيبهم بالخبر دون ليتنا و هذا إنما ينساق في قراءة من رفع و لا نكذب و نكون على معنى فإنا لا نكذب بآيات ربنا و نكون من المؤمنين فيكونون قد أخبروا بما علم الله أنهم فيه كاذبون و إن لم يعلموا من أنفسهم مثل ذلك فلهذا كذبهم و ذكر أن أبا عمرو بن العلاء استدل على قراءته بالرفع في الجميع بأن قوله‏ «وَ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ» فيه دلالة على أنهم أخبروا بذلك عن أنفسهم و لن يتمنوه لأن التمني لا يقع فيه الكذب.

 [سورة الأنعام (6): الآيات 29 الى 30]

وَ قالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا وَ ما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29) وَ لَوْ تَرى‏ إِذْ وُقِفُوا عَلى‏ رَبِّهِمْ قالَ أَ لَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى‏ وَ رَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30)

449
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 450

 

المعنى‏

ثم أخبر سبحانه عن الكفار الذين ذكرهم قبل هذه الآية و إنكارهم البعث و النشور و الحشر و الحساب فقال‏ «وَ قالُوا إِنْ هِيَ» أي ما هي‏ «إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا» عنوا بذلك أنه لا حياة لنا في الآخرة و إنما هي هذه التي حيينا بها في الدنيا «وَ ما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ» أي لسنا بمبعوثين بعد الموت ثم خاطب سبحانه نبيه ص فقال‏ «وَ لَوْ تَرى‏» يا محمد «إِذْ وُقِفُوا عَلى‏ رَبِّهِمْ» ليس يصح في هذه الآية شي‏ء من الوجوه التي ذكرناها في قوله‏ وَ لَوْ تَرى‏ إِذْ وُقِفُوا على النار إلا وجها واحدا و هو أن المعنى عرفوا ربهم ضرورة كما يقال وقفته على كلام فلان أي عرفته إياه و قيل أيضا أن المعنى وقفوا على ما وعدهم ربهم من العذاب الذي يفعله بالكفار و الثواب الذي يفعله بالمؤمنين في الآخرة و عرفوا صحة ما أخبرهم به من الحشر و الحساب و يجوز أن يكون المعنى حبسوا على ربهم ينتظر بهم ما يأمرهم به و خرج الكلام مخرج ما جرت به العادة من وقوف العبد بين يدي سيده لما في ذلك من الفصاحة و الإفصاح بالمعنى و التنبيه على عظم الأمر «قالَ» أي يقول الله تعالى لهم و جاء على لفظ الماضي لأنه لتحققه كأنه واقع و قيل معناه تقول الملائكة لهم بأمر الله تعالى‏ «أَ لَيْسَ هذا بِالْحَقِّ» كما قالت الرسل و هذا سؤال توبيخ و تقريع و قوله‏ «هذا» إشارة إلى الجزاء و الحساب و البعث‏ «قالُوا» أي فيقول هؤلاء الكفار مقرين بذلك مذعنين له‏ «بَلى‏» هو حق‏ «وَ رَبِّنا» قسم ذكروه و أكدوا اعترافهم به‏ «قالَ» الله تعالى أو الملك بأمره‏ «فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ» أي بكفركم و إنما قال ذوقوا لأنهم في كل حال يجدون ذلك وجدان الذائق المذوق في شدة الإحساس من غير أن يصيروا إلى حال من يشم بالطعام في نقصان الإدراك.

 [سورة الأنعام (6): الآيات 31 الى 32]

قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى‏ ما فَرَّطْنا فِيها وَ هُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى‏ ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (31) وَ مَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَعِبٌ وَ لَهْوٌ وَ لَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (32)

القراءة

قرأ ابن عامر و لدار الآخرة بلام واحدة و جر الآخرة على الإضافة و الباقون‏

 

450
مجمع البیان في تفسير القرآن4

الحجة ص : 451

بلامين و رفع‏ «الْآخِرَةُ» و قرأ أهل المدينة و ابن ذكوان عن ابن عامر و يعقوب و سهل‏ «أَ فَلا تَعْقِلُونَ» بالتاء هاهنا و في الأعراف و يوسف و ياسين و وافقهم حفص إلا في ياسين و حماد و يحيى عن أبي بكر في يوسف و قرأ الباقون جميع ذلك بالياء.

الحجة

من قرأ «وَ لَلدَّارُ الْآخِرَةُ» فلأن الآخرة صفة للدار يدل على ذلك قوله‏ وَ لَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى‏ وَ إِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ‏ و تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها و من أضاف دارا إلى الآخرة لم يجعل الآخرة صفة للدار فإن الشي‏ء لا يضاف إلى نفسه لكنه جعلها صفة للساعة فكأنه قال و لدار الساعة الآخرة و جاز وصف الساعة بالآخرة كما وصف اليوم بالآخر في قوله‏ وَ ارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ قال أبو علي إنما حسن إضافة الدار إلى الآخرة و لم يقبح من حيث استقبح إقامة الصفة مقام الموصوف لأن الآخرة قد صارت كالأبطح و الأبرق أ لا ترى أنه قد جاء وَ لَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى‏ فاستعملت استعمال الأسماء و لم يكن مثل الصفات التي لم تستعمل استعمال الأسماء و مثل الآخرة في أنها استعملت الأسماء قولهم الدنيا لما استعملت استعمال الأسماء حسن أن لا يلحق لام التعريف في نحو قوله:

" في سعي دنيا طال ما قد مدت"

 

 

 

و أما وجه القراءة بالياء في أ فلا يعقلون فهو أنه قد تقدم ذكر الغيبة في قوله‏ «لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ» و وجه القراءة بالتاء أنه يصلح أن يكون خطابا متوجها إليهم و يصلح أن يكون المراد الغيب و المخاطبون فيغلب الخطاب.

اللغة

كل شي‏ء أتى فجاءة فقد بغت يقال بغته الأمر يبغته بغتة قال الشاعر:

و لكنهم باتوا و لم أخش بغتة

 

 و أفظع شي‏ء حين يفجأك البغت‏

 

و الحسرة شدة الندم حتى يحسر النادم كما يحسر الذي تقوم به دابته في السفر البعيد و التفريط التقصير و أصله التقديم و الإفراط التقديم في مجاوزة الحد و التفريط التقديم في العجز و التقصير و الوزر الثقل في اللغة و اشتقاقه من الوزر و هو الحبل الذي يعتصم به و منه قيل وزير كأنه يعتصم الملك به و مثله قوله تعالى‏ «وَ اجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي» و يزرون يفعلون من وزر يزر وزرا إذا أثم و قيل وزر فهو موزور إذا فعل به ذلك و منه‏

الحديث‏ في النساء يتبعن جنازة قتيل لهن ارجعن موزورات غير مأجورات‏

و العامة تقول مأزورات‏

451
مجمع البیان في تفسير القرآن4

الإعراب ص : 452

و العقل و النهى و الحجى متقاربة المعنى فالعقل الإمساك عن القبيح و قصر النفس و حبسها عن الحسن قال الأصمعي و بالدهناء خبراء يقال له معقلة قال و تراها سميت معقلة لأنها تمسك الماء كما يعقل الدواء البطن و النهى لا يخلو أن يكون مصدرا كالهدي أو جمعا كالظلم و هو في معنى ثبات و حبس و منه النهي و التنهية للمكان الذي ينتهي إليه الماء فيستنقع فيه لتسفله و يمنع ارتفاع ما حوله من أن يسيح على وجه الأرض و الحجى أصله من الحجو و هو احتباس و تمكث قال:

" فهن يعكفن به إذا حجا"

 

 

 

و حجيت بالشي‏ء و تحجيت به يهمز و لا يهمز أي تمسكت عن الأزهري قال أبو علي فكان الحجى مصدر كالشبع و من هذا الباب الحجيا للغز لتمكث الذي يلقى عليه حتى يستخرجه.

الإعراب‏

يقال ما معنى الغاية في قوله‏ «حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ» و ما عامل الإعراب فيها و الجواب أن معناها منتهى تكذيبهم الحسرة يوم القيامة و العامل فيها «كَذَّبُوا» أي كذبوا إلى أن ظهرت الساعة بغتة فندموا حيث لا ينفعهم الندامة و يقال ما معنى دعاء الحسرة و هي مما لا يعقل و الجواب أن العرب إذا اجتهدت في المبالغة في الإخبار عن أمر عظيم تقع فيه جعلته نداء فلفظه لفظ ما ينبه و المنبه غيره مثل قوله‏ يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ و قوله‏ يا حَسْرَتى‏ عَلى‏ ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ‏ و يا وَيْلَتى‏ أَ أَلِدُ و هذا أبلغ من أن تقول أنا أتحسر على التفريط قاله الزجاج و قال سيبويه إنك إذا قلت يا عجباه فكأنك قلت احضر و تعال يا عجب فإنه من أزمانك و تأويل يا حسرتاه انتبهوا على أننا قد حسرنا فخرج مخرج النداء للحسرة و المعنى على النداء لغيرها تنبيها على عظم شأنها و قيل إنها بمنزلة الاستغاثة فكأنه قيل يا حسرتنا تعالي فهذا أوانك كما يقال يا للعجب و قوله‏ «ساءَ ما يَزِرُونَ» تقديره بئس الشي‏ء شي‏ء يزرونه و قد ذكرنا عمل نعم و بئس فيما مضى.

المعنى‏

ثم أخبر سبحانه عن هؤلاء الكفار فقال‏ «قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ» يعني بلقاء ما وعد الله به من الثواب و العقاب و جعل لقائهم لذلك لقاء له تعالى مجازا عن ابن عباس و الحسن و قيل المراد بلقاء جزاء الله كما يقال للميت لقي فلان عمله أي لقي جزاء عمله و نظيره‏ إِلى‏ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ‏ «حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ» أي القيامة «بَغْتَةً» أي فجأة من غير أن علموا وقتها «قالُوا» عند معاينة ذلك اليوم و أهواله و تباين أحوال‏

452
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 452

أهل الثواب و العقاب‏ «يا حَسْرَتَنا عَلى‏ ما فَرَّطْنا فِيها» أي على ما تركنا و ضيعنا في الدنيا من تقديم أعمال الآخرة عن ابن عباس و قيل إن الهاء يعود إلى الساعة عن الحسن و المعنى على ما فرطنا في العمل للساعة و التقدمة لها و قيل إن الهاء يعود إلى الجنة أي في طلبها و العمل لها عن السدي يدل عليه ما

رواه الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد عن النبي ص في هذه الآية قال‏ يرى أهل النار منازلهم من الجنة فيقولون يا حسرتنا

و قال محمد بن جرير الهاء يعود إلى الصفقة لأنه لما ذكر الخسران دل على الصفقة و يجوز أن يكون الهاء يعود إلى معنى ما في قوله‏ «ما فَرَّطْنا» أي يا حسرتنا على الأعمال الصالحة التي فرطنا فيها فعلى هذا الوجه يكون ما موصولة بمعنى الذي و على الوجوه المتقدمة يكون ما بمعنى المصدر و يكون تقديره على تفريطنا «وَ هُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ» أي أثقال ذنوبهم‏ «عَلى‏ ظُهُورِهِمْ» و قال ابن عباس يريد آثامهم و خطاياهم و قال قتادة و السدي إن المؤمن إذا خرج من قبره استقبله أحسن شي‏ء صورة و أطيبه ريحا فيقول أنا عملك الصالح طال ما ركبتك في الدنيا فاركبني أنت اليوم فذلك قوله‏ يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً أي ركبانا و إن الكافر إذا خرج من قبره استقبله أقبح شي‏ء صورة و أخبثه ريحا فيقول أنا عملك السي‏ء طال ما ركبتني في الدنيا فأنا أركبك اليوم و ذلك قوله‏ «وَ هُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى‏ ظُهُورِهِمْ» و قال الزجاج هذا مثل جائز أن يكون جعل ما ينالهم من العذاب بمنزلة أثقل ما يحمل لأن الثقل كما يستعمل في الوزن يستعمل في الحال أيضا كما تقول ثقل علي خطاب فلان و معناه كرهت خطابه كراهة اشتدت علي فعلى هذا يكون المعنى أنهم يقاسون عذاب آثامهم مقاساة تثقل عليهم و لا تزايلهم و إلى هذا المعنى‏

أشار أمير المؤمنين ع في قوله‏ تخففوا تلحقوا فإنما ينتظر بأولكم آخركم‏

 «أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ» أي بئس الحمل حملهم عن ابن عباس و قيل معناه ساء ما ينالهم جزاء لذنوبهم و أعمالهم السيئة إذ كان ذلك عذابا و نكالا ثم رد عليهم قولهم ما هي إلا حياتنا الدنيا و بين سبحانه أن ما يتمتع به من الدنيا يزول و يبيد فقال‏ «وَ مَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ» أي باطل و غرور إذا لم يجعل ذلك طريقا إلى الآخرة و إنما عنى بالحياة الدنيا أعمال الدنيا لأن نفس الدنيا لا توصف باللعب و ما فيه رضا الله من عمل الآخرة لا يوصف به أيضا لأن اللعب ما لا يعقب نفعا و اللهو ما يصرف من الجد إلى الهزل و هذا إنما يتصور في المعاصي و قيل المراد باللعب و اللهو أن الحياة تنقضي و تفنى و لا تبقى فتكون لذة فانية عن قريب كاللعب و اللهو «وَ لَلدَّارُ الْآخِرَةُ» و ما فيها من أنواع النعيم و الجنان‏ «خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ» معاصي الله لأنها باقية دائمة لا يزول عنهم نعيمها و لا يذهب عنهم سرورها «أَ فَلا تَعْقِلُونَ» إن ذلك كما

453
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأنعام(6): الآيات 33 الى 34] ص : 454

 

وصف لهم فيزهدوا في شهوات الدنيا و يرغبوا في نعيم الآخرة و يفعلوا ما يؤديهم إلى ذلك من الأعمال الصالحة و في هذه الآية تسلية للفقراء بما حرموا من متاع الدنيا و تقريع للأغنياء إذا ركنوا إلى حطامها و لم يعملوا لغيرها.

 [سورة الأنعام (6): الآيات 33 الى 34]

قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَ لكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) وَ لَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى‏ ما كُذِّبُوا وَ أُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ وَ لَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34)

القراءة

قرأ نافع ليحزنك بضم الياء و كسر الزاي و الباقون‏ «لَيَحْزُنُكَ» بفتح الياء و ضم الزاي و

قرأ نافع و الكسائي و الأعشى عن أبي بكر لا يكذبونك خفيف‏ و هو قراءة علي (ع) و المروي عن جعفر الصادق (ع)

و الباقون‏ «يُكَذِّبُونَكَ» بفتح الكاف و التشديد.

الحجة

قال أبو علي قال سيبويه قالوا حزن الرجل و حزنته و زعم الخليل إنك حيث تقول حزنته لم ترد أن تقول جعلته حزينا كما أنك حيث قلت أدخلته أردت جعلته داخلا و لكنك أردت أن تقول جعلت فيه حزنا كما تقول كحلته جعلت فيه كحلا و دهنته جعلت فيه دهنا و لم ترد بفعلته هنا تعدي قوله حزن و لو أردت ذلك لقلت أحزنته و حجة نافع إنه أراد أن يعدي حزن فنقله بالهمزة و الاستعمال في حزنته أكثر منه في أحزنته فإلى كثرة الاستعمال ذهب عامة القراء و أما قوله‏ «يُكَذِّبُونَكَ» فمن ثقل فهو من فعلته إذا نسبته إلى الفعل مثل زنيته و فسقته نسبته إلى الزنا و الفسق و قد جاء في هذا المعنى أفعلته قالوا أسقيته أي قلت له سقاك الله قال ذو الرمة:

و أسقيه حتى كاد مما أبثه‏

 

 تكلمني أحجاره و ملاعبه‏

 

فيجوز على هذا أن يكون معنى القراءتين واحدا و يجوز أن يكون‏ «لا يُكَذِّبُونَكَ» أي لا

 

454
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[المعنى‏[سورة الأنعام(6): آية 33]] ص : 455

يصادفونك كاذبا كما تقول أحمدته إذا أصبته محمودا و يدل على الوجه الأول قول الكميت:

و طائفة قد أكفرتني بحبكم‏

 

 و طائفة قالت مسي‏ء و مذنب‏

 

أي نسبتني إلى الكفر قال أحمد بن يحيى كان الكسائي يحكي عن العرب أكذبت الرجل إذا أخبرت أنه جاءك بكذب و كذبته إذا أخبرت أنه كذاب.

 [المعنى‏]

ثم سلى سبحانه نبيه ص على تكذيبهم إياه بعد إقامة الحجة عليهم فقال‏ «قَدْ نَعْلَمُ» نحن يا محمد «إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ» أي ما يقولون إنك شاعر أو مجنون و أشباه ذلك‏ «فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ» دخلت الفاء في أنهم لأن الكلام الأول يقتضيه كأنه قيل إذا كان قد يحزنك قولهم فاعلم أنهم لا يكذبونك و اختلف في معناه على وجوه (أحدها) أن معناه لا يكذبونك بقلوبهم اعتقادا و إن كانوا يظهرون بأفواههم التكذيب عنادا و هو قول أكثر المفسرين عن أبي صالح و قتادة و السدي و غيرهم قالوا يريد أنهم يعلمون أنك رسول الله و لكن يجحدون بعد المعرفة و يشهد لهذا الوجه ما

روى سلام بن مسكين عن أبي يزيد المدني‏ أن رسول الله ص لقي أبا جهل فصافحه أبو جهل فقيل له في ذلك فقال و الله إني لأعلم إنه صادق و لكنا متى كنا تبعا لعبد مناف فأنزل الله هذه الآية

و قال السدي التقى أخنس ابن شريق و أبو جهل بن هشام فقال له يا أبا الحكم أخبرني عن محمد أ صادق هو أم كاذب فإنه ليس هاهنا أحد غيري و غيرك يسمع كلامنا فقال أبو جهل ويحك و الله إن محمدا لصادق و ما كذب قط و لكن إذا ذهب بنو قصي باللواء و الحجابة و السقاية و الندوة و النبوة فما ذا يكون لسائر قريش (و ثانيها) أن المعنى لا يكذبونك بحجة و لا يتمكنون من إبطال ما جئت به ببرهان و يدل عليه ما

روي عن علي (ع) إنه كان يقرأ «لا يُكَذِّبُونَكَ» و يقول إن المراد بها إنهم لا يأتون بحق هو أحق من حقك‏

 (و ثالثها) أن المراد لا يصادفونك كاذبا تقول العرب قاتلناكم فما أجبناكم أي ما أصبناكم جبناء قال الأعشى:

أثوى و قصر ليلة ليزودا

 

 فمضى و أخلف من قتيلة موعدا

 

أراد صادف منها خلف الوعد و قال ذو الرمة:

455
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[المعنى‏[سورة الأنعام(6): آية 33]] ص : 455

تريك بياض لبتها و وجها

 

 كقرن الشمس أفتق ثم زالا

 

أي وجد فتقا من السحاب و لا يختص هذا الوجه بالقراءة بالتخفيف دون التشديد لأن أفعلت و فعلت يجوزان في هذا الموضع و أفعلت هو الأصل فيه ثم يشدد تأكيدا مثل أكرمت و كرمت و أعظمت و عظمت إلا أن التخفيف أشبه بهذا الوجه (و رابعها) أن المراد لا ينسبونك إلى الكذب فيما أتيت به لأنك كنت عندهم أمينا صدوقا و إنما يدفعون ما أتيت به و يقصدون التكذيب بآيات الله و يقوي هذا الوجه قوله‏ «وَ لكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ» و قوله‏ «وَ كَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَ هُوَ الْحَقُّ» و لم يقل و كذبك قومك و ما روي أن أبا جهل قال للنبي ص ما نتهمك و لا نكذبك و لكنا نتهم الذي جئت به و نكذبه (و خامسها) أن المراد أنهم لا يكذبونك بل يكذبونني فإن تكذيبك راجع إلي و لست مختصا به لأنك رسول الله فمن رد عليك فقد رد علي و من كذبك فقد كذبني و ذلك تسلية منه سبحانه للنبي ص و قوله‏ «وَ لكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ» أي بالقرآن و المعجزات يجحدون بغير حجة سفها و جهلا و عنادا و دخلت الباء في‏ «بِآياتِ اللَّهِ» و الجحد يتعدى بغير الجار و المجرور لأن معناه هنا التكذيب أي يكذبون بآيات الله و قال أبو علي الباء تتعلق بالظالمين و المعنى و لكن الظالمين برد آيات الله أو إنكار آيات الله يجحدون ما عرفوه من صدقك و أمانتك و مثله قوله سبحانه‏ وَ آتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها أي ظلموا بردها أو الكفر بها ثم زاد سبحانه في تسلية نبيه ص بقوله‏ «وَ لَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى‏ ما كُذِّبُوا وَ أُوذُوا» أي صبروا على ما نالهم منهم من التكذيب و الأذى في أداء الرسالة «حَتَّى أَتاهُمْ» جاءهم‏ «نَصْرُنا» إياهم على المكذبين و هذا أمر منه سبحانه لنبيه ص بالصبر على كفار قومه إلى أن يأتيه النصر كما صبرت الأنبياء «وَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ» معناه لا أحد يقدر على تكذيب خبر الله على الحقيقة و لا على إخلاف وعده و أن ما أخبر الله به أن يفعل بالكفار فلا بد من كونه لا محالة و ما وعدك به من نصره فلا بد من حصوله لأنه لا يجوز الكذب في إخباره و لا الخلف في وعده و قال الكلبي و عكرمة يعني بكلمات الله الآيات التي وعد فيها نصر الأنبياء نحو قوله‏ كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَ رُسُلِي‏ و قوله‏ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ‏ «وَ لَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ» أي خبرهم في القرآن كيف أنجيناهم و نصرناهم على قومهم قال الأخفش من هاهنا صلة مزيدة كما تقول أصابنا من مطر أي مطر

456
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأنعام(6): الآيات 35 الى 37] ص : 457

 

و قال غيره من النحويين لا يجوز ذلك لأن من لا تزاد في الإيجاب و إنما تزاد في النفي و من هنا للتبعيض و فاعل جاء مضمر يدل المذكور عليه و تقديره و لقد جاءك من نبأ المرسلين نبأ فيكون المعنى أنه أخبره ع ببعض أخبارهم على حسب ما علم من المصالح و يؤيد ذلك قوله‏ وَ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ‏.

 [سورة الأنعام (6): الآيات 35 الى 37]

وَ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى‏ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ (35) إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَ الْمَوْتى‏ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36) وَ قالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى‏ أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (37)

اللغة

النفق سرب في الأرض له مخلص إلى مكان آخر و أصله الخروج و منه المنافق لخروجه من الإيمان إلى الكفر و منه النفقة لخروجها من اليد و السلم الدرج و هو مأخوذ من السلامة قال الزجاج لأنه الذي يسلمك إلى مصعدك و الاستجابة من الجوب و هو القطع و هل عندك جائبة خبر أي تجوب البلاد و الفرق بين يستجيب و يجيب أن يستجيب فيه قبول لما دعي إليه و ليس كذلك يجيب لأنه يجوز أن يجيب بالمخالفة كما أن السائل يقول أ توافق في هذا المذهب أم تخالف فيقول المجيب أخالف عن علي بن عيسى و قيل إن أجاب و استجاب بمعنى.

الإعراب‏

جواب إن محذوف و تقديره إن استطعت ذلك فافعل قال الفراء و إنما تفعله العرب في كل موضع يعرف فيه معنى الجواب أ لا ترى أنك تقول للرجل إن استطعت‏

 

457
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 458

أن تتصدق إن رأيت أن تقوم معنا فتترك الجواب للمعرفة به فإذا قلت إن تقم تصب خيرا فلا بد من الجواب لأن معناه لا يعرف إذا طرح الجواب.

المعنى‏

ثم بين سبحانه أن هؤلاء الكفار لا يؤمنون فقال مخاطبا لنبيه ص‏ «وَ إِنْ كانَ كَبُرَ» أي عظم و اشتد «عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ» و انصرافهم عن الإيمان و قبول دينك و امتناعهم من اتباعك و تصديقك‏ «فَإِنِ اسْتَطَعْتَ» أي قدرت و تهيأ لك‏ «أَنْ تَبْتَغِيَ» أي تطلب و تتخذ «نَفَقاً فِي الْأَرْضِ» أي سربا و مسكنا في جوف الأرض‏ «أَوْ سُلَّماً» أي مصعدا «فِي السَّماءِ» و درجا «فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ» أي حجة تلجئهم إلى الإيمان و تجمعهم على ترك الكفر فافعل ذلك و قيل فتأتيهم بآية أفضل مما آتيناهم به فافعل عن ابن عباس يريد لا آية أفضل و أظهر من ذلك‏ «وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى‏» بالإلجاء و إنما أخبر عز اسمه عن كمال قدرته و أنه لو شاء لألجأهم إلى الإيمان و لم يفعل ذلك لأنه ينافي التكليف و يسقط استحقاق الثواب الذي هو الغرض بالتكليف و ليس في الآية أنه سبحانه لا يشاء منهم أن يؤمنوا مختارين أو لا يشاء أن يفعل ما يؤمنون عنده مختارين و إنما نفى المشيئة لما يلجئهم إلى الإيمان ليتبين أن الكفار لم يغلبوه بكفرهم فإنه لو أراد أن يحول بينهم و بين الكفر لفعل لكنه يريد أن يكون إيمانهم على الوجه الذي يستحق به الثواب و لا ينافي التكليف‏ «فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ» قيل معناه فلا تجزع في مواطن الصبر فيقارب حالك حال الجاهلين بأن تسلك سبيلهم عن الجبائي و قيل إن هذا نفي للجهل عنه أي لا تكن جاهلا بعد أن أتاك العلم بأحوالهم و أنهم لا يؤمنون و المراد فلا تجزع و لا تتحسر لكفرهم و إعراضهم عن الإيمان و غلظ الخطاب تبعيدا و زجرا عن هذه الحال ثم بين سبحانه الوجه الذي لأجله لا يجتمع هؤلاء الكفار على الإيمان فقال‏ «إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ» و معناه إنما يستجيب إلى الإيمان بالله و ما أنزل إليك من يسمع كلامك و يصغي إليك و إلى ما تقرأه عليه من القرآن و يتفكر في آياتك فإن من لم يتفكر و لم يستدل بالآيات بمنزلة من لم يسمع كما قيل:

لقد أسمعت لو ناديت حيا

 

 و لكن لا حياة لمن تنادي‏

 

و قال الآخر:

" أصم عما ساءه سميع"

 

 

 

 «وَ الْمَوْتى‏ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ» يريد أن الذين لا يصغون إليك من هؤلاء الكفار و لا يتدبرون فيما تقرأه عليهم و تبينه لهم من الآيات و الحجج بمنزلة الموتى فكما أيست أن تسمع الموتى كلامك إلى أن يبعثهم الله فكذلك فأيس من‏

458
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأنعام(6): الآيات 38 الى 39] ص : 459

هؤلاء أن يستجيبوا لك و تقديره إنما يستجيب المؤمن السامع للحق فأما الكافر فهو بمنزلة الميت فلا يجيب إلى أن يبعثه الله يوم القيامة فيلجئه إلى الإيمان و قيل معناه إنما يستجيب من كان قلبه حيا فأما من كان قلبه ميتا فلا ثم وصف الموتى بأنه يبعثهم و يحكم فيهم‏ «ثُمَّ إِلَيْهِ» أي إلى حكمه‏ «يُرْجَعُونَ» و قيل معناه يبعثهم الله من القبور ثم يرجعون إلى موقف الحساب ثم عاد سبحانه إلى حكاية أقوال الكفار فقال عاطفا على ما تقدم‏ «وَ قالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ» هذا إخبار عن رؤساء قريش لما عجزوا من معارضته فيما أتى به من القرآن اقترحوا عليه مثل آيات الأولين كعصا موسى و ناقة ثمود فقال سبحانه في موضع آخر «أَ وَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ» و قال هاهنا «قُلْ» يا محمد «إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى‏ أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً» أي آية تجمعهم على هدى عن الزجاج و قيل آية كما يسألونها «وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ» ما في إنزالها من وجوب الاستئصال لهم إذا لم يؤمنوا عند نزولها و ما في الاقتصار بهم على ما أوتوه من الآيات من المصلحة و قيل معناه و لكن أكثرهم لا يعلمون أن فيما أنزلنا من الآيات مقنعا و كفاية لمن نظر و تدبر و قد اعترضت الملحدة على المسلمين بهذه الآية فقالوا أنها تدل على أن الله تعالى لم ينزل على محمد آية إذ لو نزلها لذكرها عند سؤال المشركين إياها فيقال لهم قد بينا أنهم التمسوا آية مخصوصة و تلك لم يؤتوها لأن المصلحة منعت عن إيتائها و قد أنزل الآيات الدالة على نبوته من القرآن و آتيتهم من المعجزات الباهرة التي شاهدوها ما لو نظروا فيها أو في بعضها حق النظر لعرفوا صدقه و صحة نبوته و قد بين في آية أخرى أنه لو أنزل عليهم ما التمسوه لم يؤمنوا فقال‏ «وَ لَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ» إلى قوله‏ «ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا» و في موضع آخر «وَ قالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ» يعني في قدرة الله ينزل منها ما يشاء و يسقط ما اعترضوا به.

 [سورة الأنعام (6): الآيات 38 الى 39]

وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْ‏ءٍ ثُمَّ إِلى‏ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38) وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَ بُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَ مَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (39)

459
مجمع البیان في تفسير القرآن4

اللغة ص : 460

 

اللغة

الدابة كل ما يدب من الحيوان و أصله الصفة من دب يدب دبيبا إذا مشى مشيا فيه تقارب خطو و الدبوب و الديبوب النمام و

في الحديث‏ لا يدخل الجنة ديبوب و لا قلاع‏

فالديبوب النمام لأنه يدب بالنميمة و القلاع الواشي بالرجل ليقتلعه قال الأزهري تصغير الدابة دويبة الباء مخففة و فيها إشمام الكسر و

في الحديث‏ أيتكن صاحبة الجمل الأدبب تنبحها كلاب الحوأب‏

أراد الأدب فأظهر التضعيف و هو الكثير الوبر و قد دب يدب دبيبا و الجناح إحدى ناحيتي الطير اللتين يتمكن بهما من الطيران في الهواء و أصله الميل إلى ناحية.

الإعراب‏

من مزيدة و تأويله و ما دابة و يجوز في غير القرآن «لا طائر يطير» بالرفع عطفا على موضع من دابة و قوله‏ «مِنْ شَيْ‏ءٍ» من زائدة أيضا و تفيد التعميم أي ما فرطنا شيئا ما و صم و بكم كلاهما خبر الذين كقولهم هذا حلو حامض و دخول الواو لا يمنع من ذلك فإنه بمنزلة قولك صم بكم.

المعنى‏

لما بين سبحانه أنه قادر على أن ينزل آية عقبه بذكر ما يدل على كمال قدرته و حسن تدبيره و حكمته فقال‏ «وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ» أي ما من حيوان يمشي على وجه الأرض‏ «وَ لا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ» جمع بهذين اللفظين جميع الحيوانات لأنها لا تخلو إما أن تكون مما يطير بجناحيه أو يدب و مما يسأل عنه أن يقال لم قال يطير بجناحيه و قد علم أن الطير لا يطير إلا بالجناح فالجواب أن هذا إنما جاء للتوكيد و رفع اللبس لأن القائل قد يقول طر في حاجتي أي أسرع فيها و قال الشاعر:

قوم إذا الشر أبدى ناجذية لهم‏

 

 طاروا إليه زرافات و وحدانا

 

و أنشد سيبويه:

فطرت بمنصلي في يعملات‏

 

 و دوامي الأيد يخبطن السريحا

 

و قيل إنما قال بجناحيه لأن السمك تطير في الماء و لا أجنحة لها و إنما خرج السمك‏

 

460
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 460

عن الطائر لأنه من دواب البحر و إنما أراد سبحانه ما في الأرض و ما في الجو «إِلَّا أُمَمٌ» أي أصناف مصنفة تعرف بأسمائها يشتمل كل صنف على العدد الكثير عن مجاهد «أَمْثالُكُمْ» قيل أنه يريد أشباهكم في إبداع الله إياها و خلقه لها و دلالتها على أن لها صانعا و قيل إنما مثلت الأمم عن غير الناس بالناس في الحاجة إلى مدبر يدبرهم في أغذيتهم و أكلهم و لباسهم و نومهم و يقظتهم و هدايتهم إلى مراشدهم إلى ما لا يحصى كثرة من أحوالهم و مصالحهم و أنهم يموتون و يحشرون و بين بهذه الآية أنه لا يجوز للعباد أن يتعدوا في ظلم شي‏ء منها فإن الله خالقها و المنتصف لها «ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْ‏ءٍ» أي ما تركنا و قيل معناه ما قصرنا و اختلف في معنى الكتاب على أقوال (أحدها) إنه يريد بالكتاب القرآن لأنه ذكر جميع ما يحتاج إليه فيه من أمور الدين و الدنيا إما مجملا و إما مفصلا و المجمل قد بينه على لسان نبيه ص و أمرنا باتباعه في قوله‏ «ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا» و هذا مثل قوله تعالى‏ «وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ» و يروى عن عبد الله بن مسعود أنه قال ما لي لا ألعن من لعنه الله في كتابه يعني الواشمة و المستوشمة و الواصلة و المستوصلة فقرأت المرأة التي سمعت ذلك منه جميع القرآن ثم أتته و قالت يا ابن أم عبد تلوت البارحة ما بين الدفتين فلم أجد فيه لعن الواشمة فقال لو تلوتيه لوجدتيه قال الله تعالى‏ «ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا» و إن‏

مما أتانا رسول الله أن قال‏ لعن الله الواشمة و المستوشمة

و هو قول أكثر المفسرين و هذا القول اختيار البلخي (و ثانيها) أن المراد بالكتاب هاهنا الكتاب الذي هو عند الله عز و جل المشتمل على ما كان و يكون و هو اللوح المحفوظ و فيه آجال الحيوان و أرزاقه و آثاره ليعلم ابن آدم أن عمله أولى بالإحصاء و الاستقصاء عن الحسن (و ثالثها) أن المراد بالكتاب الأجل أي ما تركنا شيئا إلا و قد أوحينا له أجلا ثم يحشرون جميعا عن أبي مسلم و هذا الوجه بعيد «ثُمَّ إِلى‏ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ» معناه يحشرون إلى الله بعد موتهم يوم القيامة كما يحشر العباد فيعوض الله تعالى ما يستحق العوض منها و ينتصف لبعضها من بعض و فيما رووه عن أبي هريرة أنه قال يحشر الله الخلق يوم القيامة البهائم و الدواب و الطير و كل شي‏ء فيبلغ من عدل الله يومئذ أن يأخذ للجماء من القرناء ثم يقول كوني ترابا فلذلك يقول الكافر يا ليتني كنت ترابا و

عن أبي ذر قال‏ بينا أنا عند رسول الله ص إذ انتطحت عنزان فقال النبي ص أ تدرون فيما انتطحا فقالوا لا ندري قال لكن الله يدري‏

461
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأنعام(6): الآيات 40 الى 41] ص : 462

 

و سيقضي بينهما

و على هذا فإنما جعلت أمثالنا في الحشر و الاقتصاص و اختاره الزجاج فقال يعني أمثالكم في أنهم يبعثون و يؤيده قوله‏ «وَ إِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ» و معنى إلى ربهم إلى حيث لا يملك النفع و الضر إلا الله سبحانه إذ لم يمكن منه كما مكن في الدنيا و استدلت جماعة من أهل التناسخ بهذه الآية على أن البهائم و الطيور مكلفة لقوله‏ «أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ» و هذا باطل لأنا قد بينا أنها من أي وجه تكون أمثالنا و لو وجب حمل ذلك على العموم لوجب أن تكون أمثالنا في كونها على مثل صورنا و هيأتنا و خلقتنا و أخلاقنا و كيف يصح تكليف البهائم و هي غير عاقلة و التكليف لا يصح إلا مع كمال العقل‏ «وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا» أي بالقرآن و قيل بسائر الحجج و البينات‏ «صُمٌّ وَ بُكْمٌ» قد بينا معناهما في سورة البقرة «فِي الظُّلُماتِ» أي في ظلمات الكفر و الجهل لا يهتدون إلى شي‏ء من منافع الدين و قيل أراد صم و بكم في الظلمات في الآخرة على الحقيقة عقابا لهم على كفرهم لأنه ذكرهم عند ذكر الحشر عن أبي علي الجبائي‏ «مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ» هذا مجمل قد بينه في قوله‏ «وَ ما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ» «وَ يُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ» «وَ الَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً» «يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ» و المعنى من يشأ الله يخذله بأن يمنعه ألطافه و فوائده و ذلك إذا واتر عليه الأدلة و أوضح له الحجج فأعرض عنها و لم ينعم النظر فيها و يجوز أن يريد من يشأ الله إضلاله عن طريق الجنة و نيل ثوابها يضلله عنه‏ «وَ مَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» أي و من يشأ أن يرحمه و يهديه إلى الجنة يجعله على الصراط الذي يسلكه المؤمنون إلى الجنة.

 [سورة الأنعام (6): الآيات 40 الى 41]

قُلْ أَ رَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَ غَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَ تَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ (41)

القراءة

قرأ أهل المدينة أ رأيتكم و أ رأيتم و أ رأيت و أشباه ذلك بتخفيف الهمزة كل القرآن و قرأ الكسائي وحده أريتكم و أريت و أريتم كل القرآن بترك الهمزة و قرأ الباقون بالهمز في الجميع كل القرآن.

الحجة

قال أبو علي من حقق الهمزة فوجه قراءته بين لأنه فعلت من الرؤية فالهمزة

 

462
مجمع البیان في تفسير القرآن4

الإعراب ص : 463

عين الفعل و من قرأ بألف في كل القرآن من غير همز على مقدار ذوق الهمزة فإنه يجعل الهمزة بين بين أي بين الألف و الهمزة و أما الكسائي فإنه حذف الهمزة حذفا أ لا ترى أن التخفيف القياسي فيها أن تجعل بين بين و هذا حذف الهمزة كما قالوا ويلمه و كما أنشد أحمد بن يحيى:

 (إذن لم أقاتل فالبسوني برقعا)

 

 

 

و كقول أبي الأسود:

" يا با المغيرة رب أمر معضل"

 

 

 

و مما جاء على ذلك قول الآخر:

أ رأيت إن جاءت به أملودا

 

 مرجلا و يلبس البرودا

 

و مما يقوي ذلك قول الشاعر:

و من رأى مثل معدان بن ليلى‏

 

 إذا ما النسع طال على المطية.

 

الإعراب‏

 «أَ رَأَيْتَكُمْ» الكاف فيه للخطاب مجردا و معنى الاسم مخلوع عنه لأنه لو كان اسما لوجب أن يكون الاسم الذي بعده في قوله‏ أَ رَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَ‏ و أ رأيتك زيدا ما صنع هو الكاف في المعنى لأن رأيت يتعدى إلى مفعولين يكون الأول منهما هو الثاني في المعنى و قد علمنا أنه ليس الكاف في المعنى و إذا لم يكن اسما كان حرفا للخطاب مجردا من معنى الاسمية كالكاف في ذلك و هنالك و كالتاء في أنت و إذا ثبت أنه للخطاب فالتاء في أ رأيت لا يجوز أن يكون للخطاب لأنه لا يجوز أن يلحق الكلمة علامتان للخطاب كما لا يلحقها علامتان للتأنيث و لا علامتان للاستفهام فلما لم يجز ذلك أفردت التاء في جميع الأحوال لما كان الفعل لا بد له من فاعل و جعل في جميع الأحوال على لفظ واحد لأن ما يلحق الكاف من معنى الخطاب يبين الفاعلين فيخصص التأنيث من التذكير و التثنية من الجمع و لو لحق علامة التأنيث و الجمع التاء لاجتمعت علامتان للخطاب ما يلحق التاء و ما يلحق الكاف فكان يؤدي إلى ما لا نظير له فرفض و هذا من كلام أبي علي الفارسي و جواب إن من قوله‏ «إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ» الفعل الذي دخل عليه حرف الاستفهام كما تقول إن أتاك زيد أ تكرمه و موضع إن و جوابه نصب لأنه في موضع مفعولي رأيت و قوله‏ «إِنْ كُنْتُمْ‏

463
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 464

صادِقِينَ» جوابه محذوف يدل عليه قوله‏ «أَ رَأَيْتَكُمْ» لأنه في معنى أخبروا فكأنه قال إن كنتم صادقين فأخبروا من تدعون عند نزول البلاء بكم.

المعنى‏

ثم أمر سبحانه نبيه بمحاجة الكفار فقال‏ «قُلْ» يا محمد لهؤلاء الكفار «أَ رَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ» في الدنيا كما نزل بالأمم قبلكم مثل عاد و ثمود «أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ» أي القيامة قال الزجاج الساعة اسم للوقت الذي يصعق فيه العباد و اسم للوقت الذي يبعث فيه العباد و المعنى أو أتتكم الساعة التي وعدتم فيها بالبعث و الفناء لأن قبل البعث يموت الخلق كلهم‏ «أَ غَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ» أي أ تدعون فيها لكشف ذلك عنكم هذه الأوثان التي تعلمون أنها لا تقدر أن تنفع أنفسها و لا غيرها أو تدعون الله الذي هو خالقكم و مالككم لكشف ذلك عنكم‏ «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» في أن هذه الأوثان آلهة لكم احتج سبحانه عليهم بما لا يدفعونه لأنهم كانوا إذا مسهم الضر دعوا الله ثم قال‏ «بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ» و بل استدراك و إيجاب بعد نفي أعلمهم الله تعالى أنهم إذا لحقتهم الشدائد في البحار و البراري و القفار يتضرعون إليه و يقبلون عليه و المعنى لا تدعون غيره بل تدعونه‏ «فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ» أي يكشف الضر الذي من أجله دعوتم إن شاء أن يكشفه‏ «وَ تَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ» أي تتركون دعاء ما تشركون من دون الله لأنه ليس عندهم ضرر و لا نفع عن ابن عباس و يكون العائد إلى الموصول محذوفا للعلم على تقدير ما تشركون به و قيل معناه إنكم في ترككم دعاءهم بمنزلة من قد نسيهم عن الزجاج و هو قول الحسن لأنه قال تعرضون عنه إعراض الناسي أي لليأس في النجاة من مثله و يجوز أن يكون ما مع تشركون بمنزلة المصدر فيكون بمنزلة و تنسون شرككم.

464
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأنعام(6): الآيات 42 الى 45] ص : 465

 

 [سورة الأنعام (6): الآيات 42 الى 45]

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى‏ أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَ الضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَ لكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْ‏ءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (45)

القراءة

قرأ أبو جعفر فتحنا بالتشديد في جميع القرآن و وافقه ابن عامر إلا قوله‏ وَ لَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً و حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً فإنه خففهما و وافقهما يعقوب في القمر و قرأ الباقون في جميع ذلك بالتخفيف إلا مواضع قد اختلفوا فيها سنذكرها إن شاء الله إذا بلغنا إلى مواضعها.

الحجة

من ثقل أراد التكثير و المبالغة و من خفف لم يرد ذلك.

اللغة

البأساء من البأس و الخوف و الضراء من الضر و قد يكون البأساء من البؤس، و التضرع التذلل يقال ضرع فلان لفلان إذا بخع له و سأله أن يعطيه و المبلس الشديد الحسرة و قال الفراء المبلس المنقطع الحجة قال رؤبة:

و حضرت يوم الخميس الأخماس‏

 

 و في الوجوه صفرة و إبلاس‏

 

دابر القوم الذي يدبرهم و يدبرهم لغتان و هو الذي يتلوهم من خلفهم و يأتي على أعقابهم و أنشد:

آل المهلب جز الله دابرهم‏

 

 أضحوا رمادا فلا أصل و لا طرف‏

 

و قال الأصمعي الدابر الأصل يقال قطع الله دابره أي أصله و أنشد:

فدى لكما رجلي و رحلي و ناقتي‏

 

 غداة الكلاب إذ تجز الدوابر

 

أي يقتل القوم فتذهب أصولهم فلا يبقى لهم أثر و قال غيره دابر الأمر آخره و روي عن عبد الله أنه قال من الناس من لا يأتي الصلاة ألا دبريا بضم الدال يعني في آخر الوقت كذا يقول أصحاب الحديث قال أبو زيد الصواب دبريا بفتح الدال و الباء.

الإعراب‏

لو لا للتحضيض و لا يدخل إلا على الفعل و معناه هلا تضرعوا «وَ لكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ» معطوف على تأويل الكلام الأول فإن في قوله (هلا تضرعوا) دلالة على أنهم لم يتضرعوا و قوله‏ «بَغْتَةً» مصدر وقع موقع الحال أي أخذناهم مباغتين.

 

465
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 466

المعنى‏

ثم أعلم الله سبحانه نبيه حال الأمم الماضية في مخالفة رسله و بين أن حال هؤلاء إذا سلكوا طريق المخالفة كحالهم في نزول العذاب بهم فقال‏ «وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا» و هاهنا محذوف و تقديره رسلا «إِلى‏ أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ» فخالفوهم‏ «فَأَخَذْناهُمْ» و حسن الحذف للإيجاز به و الاختصار من غير إخلال لدلالة مفهوم الكلام عليه‏ «بِالْبَأْساءِ وَ الضَّرَّاءِ» يريد به الفقر و البؤس و الأسقام و الأوجاع عن ابن عباس و الحسن‏ «لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ» و معناه لكي يتضرعوا و قال الزجاج لعل ترج و هذا الترجي للعباد، المعنى فأخذناهم بذلك ليكون ما يرجوه العباد منهم من التضرع كما قال في قصة فرعون‏ لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى‏ قال سيبويه المعنى اذهبا أنتما على رجائكما فالله عالم بما يكون من وراء ذلك أخبر الله تعالى أنه أرسل الرسل إلى أقوام بلغوا من القسوة إلى أن أخذوا بالشدة في أنفسهم و أموالهم ليخضعوا و يذلوا لأمر الله فلم يخضعوا و لم يتضرعوا و هذا كالتسلية للنبي (ص) «فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا» معناه فهلا تضرعوا إذ جاءهم بأسنا «وَ لكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ» فأقاموا على كفرهم فلم تنجع فيهم العظة «وَ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ» بالوسوسة و الإغراء بالمعصية لما فيها من عاجل اللذة «ما كانُوا يَعْمَلُونَ» يعني أعمالهم و في هذا حجة على من قال إن الله لم يرد من الكافرين الإيمان لأنه سبحانه بين أنه إنما فعل ذلك بهم ليتضرعوا و بين أن الشيطان هو الذي زين الكفر للكافر بخلاف ما قالته المجبرة من أنه تعالى هو المزين لهم ذلك‏ «فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ» أي تركوا ما وعظوا به عن ابن عباس و تأويله تركوا العمل بذلك و قيل تركوا ما دعاهم إليه الرسل عن مقاتل‏ «فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْ‏ءٍ» أي كل نعمة و بركة من السماء و الأرض عن ابن عباس و قيل أبواب كل شي‏ء كان مغلقا عنهم من الخير عن مقاتل و المعنى أنه تعالى امتحنهم بالشدائد لكي يتضرعوا و يتوبوا فلما تركوا ذلك فتح عليهم أبواب النعم و التوسعة في الرزق ليرغبوا بذلك في نعيم الآخرة و إنما فعل ذلك بهم و إن كان الموضع موضع العقوبة و الانتقام دون الإكرام و الإنعام ليدعوهم ذلك إلى الطاعة فإن الدعاء إلى الطاعة يكون تارة بالعنف و تارة باللطف أو لتشديد العقوبة عليهم بالنقل من النعيم إلى العذاب الأليم‏ «حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا» من النعم و اشتغلوا بالتلذذ و أظهروا السرور بما أعطوه و لم يروه نعمة من الله تعالى حتى يشكروه‏ «أَخَذْناهُمْ» أي أحللنا بهم العقوبة «بَغْتَةً» أي مفاجاة من حيث لا يشعرون‏ «فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ» أي آيسون من النجاة و الرحمة عن ابن عباس و قيل أذلة خاضعون عن البلخي و قيل متحيرون منقطعوا الحجة، و المعاني متقاربة و المراد بقوله‏ «أَبْوابَ كُلِّ شَيْ‏ءٍ» التكثير و التفخيم دون‏

466
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 466

التعميم و هو مثل قوله‏ وَ أُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْ‏ءٍ و المراد فتحنا عليهم أبواب أشياء كثيرة و آتيناهم خيرا كثيرا و

روي عن النبي (ص) أنه قال‏ إذا رأيت الله تعالى يعطي على المعاصي فإن ذلك استدراج منه ثم تلا هذه الآية

، و نحوه ما

روي عن أمير المؤمنين علي ع أنه قال‏ يا ابن آدم إذا رأيت ربك يتابع عليك نعمة فاحذره‏

 «فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا» معناه فاستؤصل الذين ظلموا بالعذاب فلم يبق لهم عقب و لا نسل‏ «وَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» على إهلاك أعدائه و إعلاء كلمة رسله، حمد الله تعالى نفسه بأن استأصل شافتهم و قطع دابرهم لأنه سبحانه أرسل إليهم و أنظرهم بعد كفرهم و أخذهم بالبأساء و الضراء و اختبرهم بالمحنة و البلاء ثم بالنعمة و الرخاء و بالغ في الإنذار و الإمهال و الإنظار فهو المحمود على كل حال و في هذا تعليم للمؤمنين ليحمدوا الله تعالى على كفايته إياهم شر الظالمين و دلالة على أن هلاكهم نعمة من الله تعالى يجب حمده عليها و

روى علي بن إبراهيم عن أبيه عن القاسم بن محمد عن سليمان بن داود المقري عن فضيل بن عياض عن أبي عبد الله (ع) قال‏ سألته عن الورع فقال الورع هو الذي يتورع عن محارم الله و يجتنب هؤلاء و إذا لم يتق الشبهات وقع في الحرام و هو لا يعرفه و إذا رأى المنكر و لم ينكره و هو يقدر عليه فقد أحب أن يعصى الله و من أحب أن يعصى الله فقد بارز الله بالعداوة و من أحب بقاء الظالمين فقد أحب أن يعصى الله و أن الله حمد نفسه على إهلاك الظالمين فقال‏ «فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ».

467
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأنعام(6): الآيات 46 الى 49] ص : 468

 

 [سورة الأنعام (6): الآيات 46 الى 49]

قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَ أَبْصارَكُمْ وَ خَتَمَ عَلى‏ قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46) قُلْ أَ رَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47) وَ ما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَ أَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (48) وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (49)

اللغة

صدف عن الشي‏ء صدوفا إذا مال عنه و الصدف و الصدفة الجانب و الناحية و الصدف كل بناء مرتفع و

في الحديث‏ كان (ص) إذا مر بصدف مائل أسرع المشي‏

. الإعراب‏

 «مَنْ إِلهٌ» مبتدأ و خبر و غير صفة إله و هذه الجملة في موضع مفعولي أ رأيتم و من استفهام علق الفعل الذي هو أ رأيتم فلم يعمل في مفعوليه لفظا و قوله‏ «إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ» جوابه محذوف و تقديره فمن يأتيكم به إلا أنه أغنى عنه قوله‏ «مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ» الذي هو مفعول أ رأيتم في المعنى و موضع الشرط و جوابه نصب على الحال كما تقول لأضربنه إن ذهب أو مكث فإن قولك إن ذهب أو مكث وقع موقع ذاهبا أو ماكثا و تقديره مقدرا ذهابه أو مكثه و يدل على أنه في موضع الحال مشابهته المفرد في أنه لا يستقل بنفسه كما تستقل الجمل و إن كان جملة في المعنى فإنه بدخول حرف الشرط قد صار بمنزلة المفرد في الحاجة إلى ما يستند إليه كما احتاج المفرد و يدل على قوة اتصاله بما قبله حاجته إلى ما قبله كما احتاج ما وقع موقعه إلى ما قبله و ليس شي‏ء من الفضلات يقع الجملة موقعه غير الحال فثبت أنه في موضع منصوب هو حال فإن قيل إن الجزاء مقدر و الشرط المذكور في اللفظ مع الجزاء كلام مستقل و إنما كان هذا الاستدلال يسوغ لو كان الجزاء غير مقدر قيل الجزاء و إن كان مقدرا لا حكم له لأنه لا يجوز إظهاره و إنما هو شي‏ء يثبت من جهة التقدير فضعف أمره و لو جاز إظهاره لكان في موضع الحال و هذا مأخوذ من كلام أبي علي الفارسي ذكره في القصريات مع كلام كثير في معناه قد دقق فيه و لم يسبق إليه و قوله‏ «يَأْتِيكُمْ بِهِ» في موضع رفع بأنه صفة إله.

المعنى‏

ثم زاد سبحانه في الاحتجاج عليهم فقال‏ «قُلْ» يا محمد لهؤلاء الكفار «أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَ أَبْصارَكُمْ» أي ذهب بهما فصرتم صما عميا «وَ خَتَمَ عَلى‏ قُلُوبِكُمْ» أي طبع عليها و قيل ذهب بعقولكم و سلب عنكم التمييز حتى لا تفهمون شيئا و إنما خص هذه الأشياء بالذكر لأن بها تتم النعمة دينا و دنيا «مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ» قال الزجاج هذه الهاء تعود إلى معنى الفعل، المعنى من إله غير الله يأتيكم بما أخذ منكم قال‏

 

468
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 468

و يجوز أن يكون عائدا إلى السمع و يكون ما عطف على السمع داخلا في القصة معه إذا كان معطوفا عليه قال ابن عباس يريد لا يقدر هؤلاء الذين يعبدون أن يجعلوا لكم أسماعا و أبصارا و قلوبا تعقلون بها و تفهمون أي إن أخذها الله منكم فمن يردها عليكم بين سبحانه بهذا أنه كما لا يقدر على ذلك غير الله فكذلك يجب أن لا تعبدوا سواه‏ «انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ» أي نبين لهم في القرآن الآيات عن الكلبي و قيل تصريف الآيات توجيهها في الجهات التي يظهرها أتم الإظهار و مرة في جهة النعمة و مرة في جهة الشدة و قيل تصريف الآيات إحداثها دالة على وجوه كما أن الآية المعجزة تدل على فاعلها و على قدرته و علمه و على نبوة النبي (ص) و صدقه‏ «ثُمَّ هُمْ» أي الكفار «يَصْدِفُونَ» أي يعرضون عن تأمل الآيات و الفكر فيها و قيل إعراضهم عنها كفرهم بها و إنما قال أنظر لأنه تعالى عجب أولا من تتابع نعمه عليهم و ضروب دلائله من تصريف الآيات و أسباب الاعتبار ثم عجب ثانيا من إعراضهم عنها ثم زاد تعالى في الحجاج فقال‏ «قُلْ أَ رَأَيْتَكُمْ» أي أعلمتم‏ «إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ» أي عذبكم الله بعد أعذاره عليكم و إرساله الرسل‏ «بَغْتَةً» أي مفاجاة «أَوْ جَهْرَةً» أي علانية و إنما قابل البغتة بالجهرة لأن البغتة تتضمن معنى الخفية لأنه يأتيهم من حيث لا يشعرون و قيل البغتة أن يأتيهم ليلا و الجهرة أن يأتيهم نهارا عن الحسن‏ «هَلْ يُهْلَكُ» أي لا يهلك بهذا العذاب‏ «إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ» أي الكافرون الذين يكفرون بالله و يفسدون في الأرض و قيل أنهم كانوا يستدعون العذاب فبين أنه إذا نزل لا يهلك به إلا الكافرون فإن هلك فيه مؤمن أو طفل فإنما يهلك محنة و يعوضه الله على ذلك أعواضا كثيرة يصغر ذلك في جنبها و المراد بذلك عذاب الدنيا دون عذاب الآخرة ثم بين سبحانه أنه لا يبعث الرسل أربابا يقدرون على كل شي‏ء يسألون عنه من الآيات و إنما يرسلهم لما يعلمه من المصالح فقال‏ «وَ ما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ» ثم ذكر ثواب من صدقهم في باقي الآية و عقاب من كذبهم في الآية الثانية فقال‏ «فَمَنْ آمَنَ» أي صدق الرسل‏ «وَ أَصْلَحَ» أي عمل صالحا في الدنيا «فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ» في الآخرة «وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ» كما يحزن أهل النار و قيل لا يحزنون على ما خلفوا وراءهم في الدنيا «وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا» أي أدلتنا و حججنا و قيل بمحمد (ص) و معجزاته‏ «يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ» يصيبهم العذاب يوم القيامة «بِما كانُوا يَفْسُقُونَ» أي بفسقهم و خروجهم عن الإيمان.

469
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأنعام(6): آية 50] ص : 470

 

 [سورة الأنعام (6): آية 50]

قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَ لا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَ لا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى‏ إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى‏ وَ الْبَصِيرُ أَ فَلا تَتَفَكَّرُونَ (50)

اللغة

الخزائن جمع الخزانة و هي اسم المكان الذي يخزن فيه الشي‏ء و خزن الشي‏ء إحرازه بحيث لا تناله الأيدي و منه خزن اللحم خزنا إذا تغير لأنه يخبأ حتى ينتن.

المعنى‏

ثم أمر النبي (ص) أن يقول لهم بعد اقتراحهم الآيات منه أني لا أدعي الربوبية و إنما أدعي النبوة فقال‏ «قُلْ» يا محمد «لا أَقُولُ لَكُمْ» أيها الناس‏ «عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ» يريد خزائن رحمة الله عن ابن عباس و قيل خزائن الله مقدوراته عن الجبائي و قيل أرزاق الخلق حتى يؤمنوا طمعا في المال‏ «وَ لا أَعْلَمُ الْغَيْبَ» الذي يختص الله بعلمه و إنما أعلم قدر ما يعلمني الله تعالى من أمر البعث و النشور و الجنة و النار و غير ذلك و قيل عاقبة ما تصيرون إليه عن ابن عباس‏ «وَ لا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ» لأني إنسان تعرفون نسبي يريد لا أقدر على ما يقدر عليه الملك و قد استدل بهذا على أن الملائكة أفضل من الأنبياء و هذا بعيد لأن الفضل الذي هو كثرة الثواب لا معنى له هاهنا و إنما المراد لا أقول لكم إني ملك فأشاهد من أمر الله و غيبه عن العباد ما تشاهده الملائكة «إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى‏ إِلَيَّ» يريد ما أخبركم إلا بما أنزله الله إلي عن ابن عباس و قال الزجاج أي ما أنبأتكم به من غيب فيما مضى و فيما سيكون فهو بوحي من الله عز و جل ثم أمره سبحانه فقال‏ «قُلْ» يا محمد لهم‏ «هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى‏ وَ الْبَصِيرُ» أي هل يستوي العارف بالله سبحانه العالم بدينه و الجاهل به و بدينه فجعل الأعمى مثلا للجاهل و البصير مثلا للعارف بالله و بنبيه و هذا قول الحسن و اختاره الجبائي و

في تفسير أهل البيت‏ هل يستوي من يعلم و من لا يعلم‏

و قيل معناه هل يستوي من صدق على نفسه و اعترف بحاله التي هو عليها من الحاجة و العبودية لخالقه و من ذهب عن البيان و عمي عن الحق عن البلخي‏ «أَ فَلا تَتَفَكَّرُونَ» فتنصفوا من أنفسكم و تعملوا بالواجب عليكم من الإقرار بالتوحيد و نفي التشبيه و هذا استفهام يراد به الإخبار يعني إنهما لا يستويان.

 

470
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأنعام(6): آية 51] ص : 471

 

 [سورة الأنعام (6): آية 51]

وَ أَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى‏ رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَ لا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51)

الإعراب‏

الهاء في به يعود إلى ما من قوله‏ ما يُوحى‏ إِلَيَ‏ و ليس مع اسمه و خبره في موضع نصب على الحال من يخافون كأنه قيل متخلين من ولي و شفيع.

المعنى‏

ثم أمر سبحانه بعد تقديم البينات بالإنذار فقال‏ «وَ أَنْذِرْ» أي عظ و خوف‏ «بِهِ» أي بالقرآن عن ابن عباس و قيل بالله عن الضحاك‏ «الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى‏ رَبِّهِمْ» يريد المؤمنين يخافون يوم القيامة و ما فيها من شدة الأهوال عن ابن عباس و الحسن و قيل معناه يعلمون عن الضحاك و قيل يخافون أن يحشروا علما بأنه سيكون عن الفراء قال و لذلك فسره المفسرون بيعلمون قال الزجاج المراد بهم كل معترف بالبعث من مسلم و كتابي و إنما خص الذين يخافون الحشر دون غيرهم و هو ينذر جميع الخلق لأن الذين يخافون الحشر الحجة عليهم أوجب لاعترافهم بالمعاد و

قال الصادق (ع‏ أنذر بالقرآن من يرجون الوصول إلى ربهم ترغبهم فما عنده فإن القرآن شافع مشفع لهم‏

 «لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ» أي غير الله‏ «وَلِيٌّ وَ لا شَفِيعٌ» عن الضحاك و قال الزجاج إن اليهود و النصارى ذكرت أنها أبناء الله و أحباؤه فأعلم الله عز اسمه أن أهل الكفر ليس لهم من دون الله ولي و لا شفيع و هذا الذي قاله ظاهر في أهل الكفر و المفسرون على أن الآية في المؤمنين و يكون معنى قوله‏ «لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَ لا شَفِيعٌ» على أن شفاعة الأنبياء و غيرهم للمؤمنين إنما تكون بإذن الله لقوله سبحانه‏ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ‏ فذلك راجع إلى الله تعالى‏ «لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ» كي يخافوا في الدنيا و ينتهوا عما نهيتم عنه عن ابن عباس.

 [سورة الأنعام (6): الآيات 52 الى 53]

وَ لا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَ الْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ وَ ما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52) وَ كَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَ هؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)

 

471
مجمع البیان في تفسير القرآن4

القراءة ص : 472

 

القراءة

قرأ ابن عامر بالغدوة و العشي في كل القرآن بواو و الباقون‏ «بِالْغَداةِ» بالألف.

الحجة

قال أبو علي الوجه‏ «بِالْغَداةِ» لأنها تستعمل نكرة و تتعرف باللام فأما غدوة فمعرفة لم تتنكر و هو علم صيغ له قال سيبويه غدوة و بكرة جعل كل واحد منهما اسما للجنس كما جعلوا أم حبين اسما لدابة معروفة قال و زعم يونس عن أبي عمرو و هو القياس إنك إذا قلت لقيته يوما من الأيام غدوة أو بكرة و أنت تريد المعرفة لم تنون و هذا يقوي قراءة من قرأ «بِالْغَداةِ وَ الْعَشِيِّ» و وجه قراءة ابن عامر أن سيبويه قال زعم الخليل أنه يجوز أن تقول أتيتك اليوم غدوة و بكرة فجعلهما بمنزلة ضحوة و من حجته أن بعض أسماء الزمان جاء معرفة بغير ألف و لام نحو ما حكاه أبو زيد من قولهم لقيته فينة غير مصروف و الفينة بعد الفينة فألحق لام المعرفة ما استعمل معرفة و وجه ذلك أنه يقدر فيه التنكير و الشياع كما يقدر فيه ذلك إذا ثني و ذلك مستمر في جميع هذا الضرب من المعارف و مثل ذلك ما حكاه سيبويه من قول العرب هذا يوم اثنين مباركا و أتيتك يوم اثنين مباركا فجاء معرفة بلا ألف و لام كما جاء بالألف و اللام و من ثم انتصب الحال و مثل ذلك قولهم هذا ابن عرس مقبل أما أن يكون جعل عرسا نكرة و إن كان علما و أما أن يكون أخبر عنه بخبرين.

الإعراب‏

 «فَتَطْرُدَهُمْ» جواب للنفي في قوله‏ «ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ وَ ما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ» و قوله‏ «فَتَكُونَ» نصب لأنه جواب للنهي و هو قوله‏ «وَ لا تَطْرُدِ» أي لا تطردهم فتكون من الظالمين و قد بينا تقديره في مواضع.

النزول‏

روى الثعلبي بإسناده عن عبد الله بن مسعود قال مر الملأ من قريش على رسول الله (ص) و عنده صهيب و خباب و بلال و عمار و غيرهم من ضعفاء المسلمين فقالوا يا محمد أ رضيت بهؤلاء من قومك أ فنحن نكون تبعا لهم أ هؤلاء الذين من الله عليهم أطردهم عنك فلعلك إن طردتهم تبعناك فأنزل الله تعالى‏ «وَ لا تَطْرُدِ» إلى آخره و قال سلمان و خباب فينا نزلت هذه الآية جاء الأقرع بن حابس التميمي و عيينة بن حصين الفزاري و ذووهم من المؤلفة قلوبهم فوجدوا النبي (ص) قاعدا مع بلال و صهيب و عمار و خباب في ناس من ضعفاء المؤمنين فحقروهم و قالوا يا رسول الله لو نحيت هؤلاء عنك حتى نخلو بك فإن وفود العرب تأتيك فنستحي أن يرونا مع هؤلاء الأعبد ثم إذا انصرفنا فإن شئت فأعدهم إلى مجلسك‏

 

472
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 473

فأجابهم النبي (ص) إلى ذلك فقالا له اكتب لنا بهذا على نفسك كتابا فدعا بصحيفة و أحضر عليا ليكتب قال و نحن قعود في ناحية إذ نزل جبرائيل (ع) بقوله‏ «وَ لا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ» إلى قوله‏ «أَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ» فنحى رسول الله (ص) الصحيفة و أقبل علينا و دنونا منه و هو يقول كتب ربكم على نفسه الرحمة فكنا نقعد معه فإذا أراد أن يقوم قام و تركنا فأنزل الله عز و جل‏ «وَ اصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ» الآية قال فكان رسول الله (ص) يقعد معنا و يدنو حتى كادت ركبتنا تمس ركبته فإذا بلغ الساعة التي يقوم فيها قمنا و تركناه حتى يقوم و قال لنا الحمد لله الذي لم يمتني حتى أمرني أن أصبر نفسي مع قوم من أمتي معكم المحيا و معكم الممات.

المعنى‏

ثم نهى سبحانه رسوله ع عن إجابة المشركين فيما اقترحوه عليه من طرد المؤمنين فقال‏ «وَ لا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَ الْعَشِيِّ» يريد يعبدون ربهم بالصلاة المكتوبة يعني صلاة الصبح و العصر عن ابن عباس و الحسن و مجاهد و قتادة و قيل إن المراد بالدعاء هاهنا الذكر أي يذكرون ربهم طرفي النهار عن إبراهيم و روي عنه أيضا أن هذا في الصلوات الخمس‏ «يُرِيدُونَ وَجْهَهُ» يعني يطلبون ثواب الله و يعملون ابتغاء مرضاة الله لا يعدلون بالله شيئا عن عطا قال الزجاج شهد الله لهم بصدق النيات و أنهم مخلصون في ذلك له أي يقصدون الطريق الذي أمرهم بقصده فكأنه ذهب في معنى الوجه إلى الجهة و الطريق‏ «ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ وَ ما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ» يريد ما عليك من حساب المشركين شي‏ء و لا عليهم من حسابك شي‏ء إنما الله الذي يثيب أولياءه و يعذب أعداءه عن ابن عباس في رواية عطا و أكثر المفسرين يردون الضمير إلى الذين يدعون ربهم و هو الأشبه و ذكروا فيه وجهين (أحدهما) ما عليك من عملهم و من حساب عملهم من شي‏ء عن الحسن و ابن عباس و هذا كقوله تعالى في قصة نوح‏ إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى‏ رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ‏ و هذا لأن المشركين ازدروهم لفقرهم و حاجتهم إلى الأعمال الدينية و هم برفع المشركين عليهم في المجلس فقيل له ما عليك من حسابهم من شي‏ء أي لا يلزمك عار بعملهم‏ «فَتَطْرُدَهُمْ» ثم قال‏ «وَ ما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ» تأكيدا لمطابقة الكلام و إن كان مستغنى عنه بالأول (الوجه الثاني) ما عليك من حساب رزقهم من شي‏ء فتملهم و تطردهم أي ليس رزقهم عليك و لا رزقك عليهم و إنما يرزقك و إياهم الله الرازق فدعهم يدنوا منك و لا تطردهم‏ «فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ» لهم بطردهم عن ابن زيد و قيل فتكون من‏

473
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأنعام(6): آية 54] ص : 474

الضارين لنفسك بالمعصية عن ابن عباس قال ابن الأنباري عظم الأمر في هذا على النبي ص و خوف الدخول في جملة الظالمين لأنه كان قد هم بتقديم الرؤساء و أولي الأموال على الضعفاء مقدرا أنه يستجر بإسلامهم إسلام قومهم و من لف لفهم و كان (ص) لم يقصد في ذلك إلا قصد الخير و لم ينو به ازدراء بالفقراء فأعلمه الله إن ذلك غير جائز ثم أخبر الله سبحانه أنه يمتحن الفقراء بالأغنياء و الأغنياء بالفقراء فقال‏ «وَ كَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ» أي كما ابتلينا قبلك الغني بالفقير و الشريف بالوضيع ابتلينا هؤلاء الرؤساء من قريش بالموالي فإذا نظر الشريف إلى الوضيع قد آمن قبله حمي آنفا أن يسلم و يقول سبقني هذا بالإسلام فلا يسلم و إنما قال سبحانه‏ «فَتَنَّا» و هو لا يحتاج إلى الاختبار لأنه عاملهم معاملة المختبر «لِيَقُولُوا» هذه لام العاقبة المعنى فعلنا هذا ليصبروا و يشكروا فآل أمرهم إلى هذه العاقبة «أَ هؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا» و الاستفهام معناه الإنكار كأنهم أنكروا أن يكونوا سبقوهم بفضيلة أو خصوا بمنة و قال أبو علي الجبائي المعنى في‏ «فَتَنَّا» شددنا التكليف على أشراف العرب بأن أمرناهم بالإيمان و بتقديمهم هؤلاء الضعفاء على نفوسهم لتقدمهم إياهم في الإيمان و هذا أمر كان شاقا عليهم فلذلك سماه الله فتنة و قوله‏ «لِيَقُولُوا» أي فعلنا هذا بهم ليقول بعضهم لبعض على وجه الاستفهام لا على وجه الإنكار أ هؤلاء من الله عليهم بالإيمان إذا رأوا النبي يقدم هؤلاء عليهم و ليرضوا بذلك من فعل رسول الله و لم يجعل هذه الفتنة و الشدة في التكليف ليقولوا ذلك على وجه الإنكار لأن إنكارهم لذلك كفر بالله و معصية و الله سبحانه لا يريد ذلك و لا يرضاه و لأنه لو أراد ذلك و فعلوه كانوا مطيعين له لا عاصين و قد ثبت خلافه و قوله‏ «أَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ» هذا استفهام تقرير أي أنه كذلك كقول جرير:

أ لستم خير من ركب المطايا

 

 و أندى العالمين بطون راح‏

 

و هذا دليل واضح على أن فقراء المؤمنين و ضعفاءهم أولى بالتقريب و التقديم و التعظيم من أغنيائهم و لقد

قال أمير المؤمنين علي (ع) من أتى غنيا فتواضع لغنائه ذهب ثلثا دينه.

 [سورة الأنعام (6): آية 54]

وَ إِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى‏ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54)

474
مجمع البیان في تفسير القرآن4

القراءة ص : 475

 

القراءة

قرأ أهل المدينة «أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ» بالفتح فإنه بالكسر و قرأ عاصم و ابن عامر و يعقوب‏ «أَنَّهُ» «فَأَنَّهُ» بفتح الألف فيهما و قرأ الباقون إنه فإنه بالكسر فيهما.

الحجة

قال أبو علي من كسر فقال إنه من عمل جعله تفسيرا للرحمة كما أن قوله‏ «لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ عَظِيمٌ» تفسير للوعد و أما كسر فإنه غفور رحيم فلأن ما بعد الفاء حكمه الابتداء و من ثم حمل قوله‏ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ‏ على إرادة المبتدأ بعد الفاء و حذفه و أما من فتح أن في قوله‏ «أَنَّهُ» فإنه جعل أن الأولى بدلا من الرحمة كأنه قال «كتب ربكم على نفسه أنه من عمل» و أما فتحها بعد الفاء فعلى أنه أضمر له خبرا و تقديره فله أنه غفور رحيم أي فله غفرانه أو أضمر مبتدأ يكون أنه خبرا له أي فأمره أنه غفور رحيم و على هذا التقدير يكون الفتح في قول من فتح‏ أَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ‏ تقديره فله أن له نار جهنم إلا أن إضماره هنا أحسن لأن ذكره قد جرى في قوله‏ فَأَنَّ لَهُ‏ و إن شئت قدرت فأمره أن له نار جهنم فيكون خبر هذا المبتدأ المضمر و أما قراءة «كَتَبَ رَبُّكُمْ» «أَنَّهُ» فإنه فالقول فيها أنه أبدل من الرحمة ثم استأنف ما بعد الفاء.

اللغة

قال المبرد السلام في اللغة أربعة أشياء مصدر سلمت سلاما و جمع سلامة و اسم من أسماء الله عز و جل و شجر في قوله:

" إلا سلام و حرمل"

 

 

 

و معنى السلام الذي هو مصدر أنه دعاء للإنسان بأن يسلم من الآفات و السلام اسم الله تأويله ذو السلام أي الذي يملك السلام الذي هو التخلص من المكروه و أما السلام الشجر فهو شجر قوي سمي بذلك لسلامته من الآفات و السلام الحجارة سمي بذلك لسلامتها من الرخاوة و الصلح يسمى السلام و السلم لأن معناه السلامة من الشر و السلم الدلو التي لها عروة واحدة لأنها أسلم الدلاء من الآفات.

النزول‏

اختلف في من نزلت فيه هذه الآية فقيل نزلت في الذين نهى الله عز و جل‏

 

475
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 476

 

نبيه عن طردهم و كان النبي إذا رآهم بدأهم بالسلام و قال الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرني أن أبدأهم بالسلام عن عكرمة و قيل نزلت في جماعة من الصحابة منهم حمزة و جعفر و مصعب بن عمير و عمار و غيرهم عن عطاء و قيل إن جماعة أتوا رسول الله ص فقالوا إنا أصبنا ذنوبا كثيرة فسكت عنهم رسول الله ص فنزلت الآية عن أنس بن مالك و

قيل نزلت في التائبين و هو المروي عن أبي عبد الله ع‏.

المعنى‏

ثم أمر سبحانه نبيه بتعظيم المؤمنين فقال‏ «وَ إِذا جاءَكَ» يا محمد «الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ» أي يصدقون‏ «بِآياتِنا» أي بحججنا و براهيننا «فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ» ذكر فيه وجوه (أحدها) أنه أمر نبيه ص أن يسلم عليهم من الله تعالى فهو تحية من الله على لسان نبيه ص عن الحسن (و ثانيها) أن الله تعالى أمر نبيه ص أن يسلم عليهم تكرمة لهم عن الجبائي (و ثالثها) أن معناه أقبل عذرهم و اعترافهم و بشرهم بالسلامة مما اعتذروا منه عن ابن عباس‏ «كَتَبَ رَبُّكُمْ» أي أوجب ربكم‏ «عَلى‏ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ» إيجابا مؤكدا عن الزجاج قال إنما خوطب الخلق بما يعقلون و هم يعقلون أن الشي‏ء المؤخر إنما يحفظ بالكتاب و قيل معناه كتبه في اللوح المحفوظ و قد سبق بيان هذا في أول السورة «أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ» قال الزجاج يحتمل الجهالة هاهنا وجهين (أحدهما) أنه عمله و هو جاهل بمقدار المكروه فيه أي لم يعرف أن فيه مكروها (و الآخر) أنه علم أن عاقبته مكروهة و لكنه آثر العاجل فجعل جاهلا بأنه آثر النفع القليل على الراحة الكثيرة و العافية الدائمة و هذا أقوى و مثله قوله سبحانه‏ «إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ» الآية و قد ذكرنا ما فيه هناك‏ «ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَصْلَحَ» أي رجع عن ذنبه و لم يصر على ما فعل و أصلح عمله‏ «فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ».

 [سورة الأنعام (6): آية 55]

وَ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَ لِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55)

القراءة

قرأ أهل المدينة «وَ لِتَسْتَبِينَ» بالتاء سبيل بالنصب و قرأ أهل الكوفة غير حفص و ليستبين بالياء «سَبِيلُ» بالرفع و قرأ زيد عن يعقوب و ليستبين بالياء سبيل بالنصب و قرأ الباقون‏ «وَ لِتَسْتَبِينَ» بالتاء «سَبِيلُ» بالرفع.

الحجة

من قرأ «لِتَسْتَبِينَ» بالتاء «سَبِيلُ» رفعا جعل السبيل فاعلا و أنثه كما في قوله‏ قُلْ هذِهِ سَبِيلِي‏ قال سيبويه استبان الشي‏ء و استبنته و من قرأ «وَ لِتَسْتَبِينَ» بالتاء سبيل نصبا ففي الفعل‏

 

476
مجمع البیان في تفسير القرآن4

الإعراب ص : 477

 

ضمير المخاطب و سبيل مفعوله و هو على قولك استبنت الشي‏ء و من قرأ بالياء «سَبِيلُ» رفعا فالفعل مسند إلى السبيل إلا أنه ذكر كما في قوله سبحانه‏ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا و المعنى و ليستبين سبيل المؤمنين و سبيل المجرمين فحذف لأن ذكر إحدى السبيلين يدل على الآخر و مثله‏ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ و لم يذكر البرد لدلالة الحر عليه و من قرأ بالياء و نصب اللام فتقديره و ليستبين السائل سبيل المجرمين.

الإعراب‏

 «كَذلِكَ» الكاف في موضع نصب بأنه مفعول نفصل و ذلك مجرور الموضع بإضافة الكاف إليه و يسأل ما المشبه و ما المشبه به في قوله‏ «وَ كَذلِكَ» و فيه جوابان (أحدهما) التفصيل الذي تقدم في صفة المهتدين و صفة الضالين شبه بتفصيل الدلائل على الحق من الباطل في صفة غيرهم من كل مخالف للحق (و الثاني) أن المعنى كما فصلنا ما تقدم من الآيات لكم نفصله لغيركم.

المعنى‏

ثم عطف سبحانه على الآيات التي احتج بها على مشركي مكة و غيرهم فقال‏ «وَ كَذلِكَ» أي كما قدمناه من الدلالات على التوحيد و النبوة و القضاء «نُفَصِّلُ الْآياتِ» و هي الحجج و الدلالات أي نميزها و نبينها و نشرحها على صحة قولكم و بطلان ما يقوله هؤلاء الكفار «وَ لِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ» بالرفع أي ليظهر طريق من عاند بعد البيان إذا ذهب عن فهم ذلك بالإعراض عنه لمن أراد التفهم لذلك من المؤمنين ليجانبوها و يسلكوا غيرها و بالنصب ليعرف السامع أو السائل أو التعرف أنت يا محمد سبيلهم و سبيلهم يريد به ما هم عليه من الكفر و العناد و الإقدام على المعاصي و الجرائم المؤدية إلى النار و قيل إن المراد بسبيلهم ما عاجلهم الله به من الإذلال و اللعن و البراءة منهم و الأمر بالقتل و السبي و نحو ذلك و الواو في‏ «وَ لِتَسْتَبِينَ» للعطف على مضمر محذوف و التقدير لتفهموا و لتستبين سبيل المجرمين و المؤمنين و جاز الحذف لأن فيما أبقي دليلا على ما ألقى.

 [سورة الأنعام (6): آية 56]

قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَ ما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56)

القراءة

روي في الشواذ عن يحيى بن وثاب ضللت بكسر اللام و القراء كلهم على فتحها.

 

477
مجمع البیان في تفسير القرآن4

الحجة ص : 478

 

الحجة

و هما لغتان ضللت تضل و ضللت تضل قال أبو عبيدة و اللغة الغالبة الفتح.

الإعراب‏

معنى من في قوله‏ «مِنْ دُونِ اللَّهِ» إضافة الدعاء إلى دون بمعنى ابتداء الغاية و معنى إذا الجزاء و المعنى قد ضللت إن عبدتها.

المعنى‏

ثم أمر الله سبحانه نبيه بأن يظهر البراءة مما يعبدونه فقال‏ «قُلْ» يا محمد «إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ» يعني الأصنام التي تعبدونها و تدعونها آلهة «قُلْ» يا محمد «لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ» في عبادتها أي إنما عبدتموها على طريق الهوى لا على طريق البينة و البرهان عن الزجاج و قيل معناه لا أتبع أهواءكم في طرد المؤمنين‏ «قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً» أي إن أنا فعلت ذلك عن ابن عباس‏ «وَ ما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ» الذين سلكوا سبيل الدين و قيل معناه و ما أنا من المهتدين النبيين الذين سلكوا طريق الهدى.

 [سورة الأنعام (6): الآيات 57 الى 58]

قُلْ إِنِّي عَلى‏ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَ كَذَّبْتُمْ بِهِ ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَ هُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ (57) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58)

القراءة

قرأ أهل الحجاز و عاصم‏ «يَقُصُّ الْحَقَّ» بالصاد و الباقون يقضي الحق.

الحجة

حجة من قرأ يقضي قوله‏ وَ اللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِ‏ و حكي عن أبي عمرو أنه استدل بقوله‏ «وَ هُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ» في أن الفصل في الحكم ليس في القصص و حجة من قرأ «يَقُصُّ» قوله‏ وَ اللَّهُ يَقُولُ الْحَقَ‏ و قالوا قد جاء الفصل في القول أيضا في نحو قوله‏ إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ‏ و أما قوله‏ «الْحَقَّ» فيحتمل أمرين يجوز أن يكون صفة مصدر محذوف تقديره يقضي القضاء الحق أو يقص القصص الحق و يجوز أن يكون مفعولا به مثل يفعل الحق كقوله:

 

478
مجمع البیان في تفسير القرآن4

اللغة ص : 479

 

و عليهما مسرودتان قضاهما

 

 داود أو صنع السوابغ تبع.

 

اللغة

البينة الدلالة التي تفصل بين الحق و الباطل و البيان هو الدلالة و قيل هو العلم الحادث و الاستعجال طلب الشي‏ء في غير وقته و الحكم فصل الأمر على التمام.

الإعراب‏

يقال لم قال كذبتم به و البينة مؤنثة قيل لأن البينة بمعنى البيان فالهاء كناية عن البيان عن الزجاج و قيل كناية عن الرب في قوله‏ «رَبِّي» و قوله‏ «كَذَّبْتُمْ» قد مضمر معه لأنه في موضع الحال و الحال لا يكون بالفعل الماضي إلا و معه قد إما مظهرة أو مضمرة.

المعنى‏

لما أمر النبي ص بأن يتبرأ مما يعبدونه عقب ذلك سبحانه بالبيان أنه على حجة من ذلك و بينة و أنه لا بينة لهم فقال‏ «قُلْ» يا محمد لهؤلاء الكفار «إِنِّي عَلى‏ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي» أي على أمر بين لا متبع لهوى عن الزجاج و قال الحسن البينة النبوة أي على نبوة من جهة ربي و قيل على حجة من معجزة دالة على نبوتي و هي القرآن عن الجبائي و قيل على يقين من ربي عن ابن عباس‏ «وَ كَذَّبْتُمْ بِهِ» أي بما أتيتكم به من البيان يعني القرآن‏ «ما عِنْدِي» أي ليس عندي‏ «ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ» قيل معناه الذي تطلبونه من العذاب كانوا يقولونه يا محمد آتنا بالذي تعدنا و هذا كقوله‏ وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ‏ عن ابن عباس و الحسن و قيل هي الآية التي اقترحوها عليه استعجلوه بها فأعلم الله تعالى أن ذلك عنده فقال‏ «إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ» يريد أن ذلك عند ربي و عن ابن عباس يعني ليس الحكم في الفصل بين الحق و الباطل و في إنزال الآيات إلا لله‏ «يَقُصُّ الْحَقَّ» أي يفصل الحق من الباطل و يقص الحق أي يقوله و يخبر به‏ «وَ هُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ» لأنه لا يظلم في قضاياه و لا يجوز عن الحق و هذا يدل على بطلان قول من يزعم أن الظلم و القبائح بقضائه لأن من المعلوم أن ذلك كله ليس بحق‏ «قُلْ» يا محمد لهؤلاء الكفار «لَوْ أَنَّ عِنْدِي» أي برأيي و إرادتي‏ «ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ» من إنزال العذاب بكم‏ «لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ» أي لفرغ من الأمر بأن أهلككم فاستريح منكم غير أن الأمر فيه إلى الله تعالى‏ «وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ» و بوقت عذابهم و ما يصلحهم و في هذا دلالة على أنه سبحانه إنما يؤخر العقوبة لضرب من المصلحة إما لأن يؤمنوا أو لغير ذلك من المصالح فهو يدبر ذلك على حسب ما تقتضيه الحكمة.

 

479
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأنعام(6): الآيات 59 الى 60] ص : 480

 

 [سورة الأنعام (6): الآيات 59 الى 60]

وَ عِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلاَّ هُوَ وَ يَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ وَ ما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها وَ لا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَ لا رَطْبٍ وَ لا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (59) وَ هُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَ يَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى‏ أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60)

اللغة

المفاتح جمع مفتح فالمفتح بالكسر المفتاح الذي يفتح به و المفتح بفتح الميم الخزانة و كل خزانة كانت لصنف من الأشياء فهو مفتح قال الفراء في قوله‏ إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ يعني خزائنه و التوفي قبض الشي‏ء على التمام يقال توفيت الشي‏ء و استوفيته بمعنى و الجرح العمل بالجارحة و الاجتراح الاكتساب.

الإعراب‏

 «وَ لا حَبَّةٍ» تقديره و لا تسقط من حبة ثابتة في ظلمات الأرض و لا رطب و لا يابس و قوله‏ «إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ» الجار و المجرور في موضع الرفع لأنه خبر الابتداء تقديره إلا هو في كتاب مبين و لا بد من هذا التقدير لأنه لو لم يكن محمولا على هذا لوجب أن لا يعلمها في كتاب مبين و هو سبحانه يعلم ذلك في كتاب مبين و الاستثناء منقطع.

المعنى‏

لما ذكر سبحانه أنه أعلم بالظالمين بين عقيبه أنه لا يخفى عليه شي‏ء من الغيب و يعلم أسرار العالمين فقال‏ «وَ عِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ» معناه و عنده خزائن الغيب الذي فيه علم العذاب المستعجل به و غير ذلك لا يعلمها أحد إلا هو أو من أعلمه به و علمه إياه و قيل معناه و عنده مقدورات الغيب يفتح بها على من يشاء من عباده بإعلامه به و تعليمه إياه و تيسيره السبيل إليه و نصبه الأدلة له و يغلق عمن يشاء بأن لا ينصب الأدلة له و قال الزجاج يريد عنده الوصلة إلى علم الغيب و كل ما لا يعلم إذا استعلم يقال فيه افتح علي و قال ابن عمر مفاتح الغيب خمس ثم قرأ إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ الآية و قال ابن عباس معناه‏

 

480
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 480

و عنده خزائن الغيب من الأرزاق و الأعمار و تأويل الآية إن الله تعالى عالم بكل شي‏ء من مبتدءات الأمور و عواقبها فهو يعجل ما تعجيله أصوب و أصلح و يؤخر ما تأخيره أصوب و أصلح و أنه الذي يفتح باب العلم لمن يريد من الأنبياء و الأولياء لأنه لا يعلم الغيب سواه و لا يقدر أحد أن يفتح باب العلم به للعباد إلا الله‏ «وَ يَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ» من حيوان و غيره و قال مجاهد البر القفار و البحر كل قرية فيها ماء «وَ ما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها» قال الزجاج المعنى أنه يعلمها ساقطة و ثابتة و أنت تقول ما يجيئك أحد إلا و أنا أعرفه فليس تأويله إلا و أنا أعرفه في حال مجيئه فقط و قيل يعلم ما سقط من ورق الأشجار و ما بقي و يعلم كم انقلبت ظهرا لبطن عند سقوطها «وَ لا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ» معناه و ما تسقط من حبة من باطن الأرض إلا يعلمها و كنى بالظلمة عن باطن الأرض لأنه لا تدرك كما لا يدرك ما حصل في الظلمة و قال ابن عباس يعني تحت الصخرة في أسفل الأرضين السبع أو تحت حجر أو شي‏ء «وَ لا رَطْبٍ وَ لا يابِسٍ» قد جمع الأشياء كلها في قوله‏ «وَ لا رَطْبٍ وَ لا يابِسٍ» لأن الأجسام كلها لا تخلو من أحد هذين و هو بمنزلة قولك و لا مجتمع و لا مفترق لأن الأجسام لا تخلو من أن تكون مجتمعة أو متفرقة و قيل يريد ما ينبت ما لا ينبت عن ابن عباس و عنه أيضا أن الرطب الماء و اليابس البادية و قيل الرطب الحي و اليابس الميت و

روي عن أبي عبد الله (ع) أنه قال‏ الورقة السقط الحبة الولد و ظلمات الأرض الأرحام و الرطب ما يحيا و اليابس ما يغيض‏

 «إِلَّا فِي كِتابٍ» معناه و هو مكتوب في كتاب‏ «مُبِينٍ» أي في اللوح المحفوظ و لم يكتبها في اللوح المحفوظ ليحفظها و يدرسها فإنه كان عالما بها قبل أن كتبها و لكن ليعارض الملائكة الحوادث على ممر الأيام بالمكتوب فيه فيجدونها موافقة للمكتوب فيه فيزدادون علما و يقينا بصفات الله تعالى و أيضا فإن المكلف إذا علم أن أعماله مكتوبة في اللوح المحفوظ تطالعها الملائكة قويت دواعيه إلى الأفعال الحسنة و ترك القبائح و قال الحسن هذا توكيد في الزجر عن المعاصي و الحث على البر لأن هذه الأشياء التي لا ثواب فيها و لا عقاب إذا كانت محصاة عنده محفوظة فالأعمال التي فيها الثواب و العقاب أولى بالحفظ و قيل إن قوله‏ «فِي كِتابٍ مُبِينٍ» معناه أنه محفوظ غير منسي و لا مغفول عنه كما يقول القائل لغيره ما تصنعه عندي مسطور مكتوب و إنما يريد بذلك أنه حافظ له يريد مكافاته عليه و أنشد:

 (إن لسلمى عندنا ديوانا)

 

 

 

عن البلخي قال الجرجاني صاحب النظم تم الكلام عند قوله‏ «وَ لا يابِسٍ» ثم استأنف خبرا آخر بقوله‏ «إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ» يعني و هو في كتاب مبين أيضا لأنك لو جعلت قوله‏ «إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ» متصلا بالكلام الأول لفسد المعنى و لما نبه سبحانه بهذه الآية على أنه عالم لذاته من حيث‏

481
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 480

أنه لو كان عالما بعلم لوجب أحد ثلاثة أشياء كلها فاسدة إما أن يكون له علوم غير متناهية و إما أن يكون معلوماته متناهية أو يتعلق علم واحد بمعلومات غير متناهية و كلها باطل بالدليل نبه في الآية التي تليها على أنه قادر لذاته من حيث أنه قادر على الإحياء و الإماتة فقال‏ «وَ هُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ» أي يقبض أرواحكم عن التصرف عن ابن عباس و غيره و اختاره علي بن عيسى و قيل معناه يقبضكم بالنوم كما يقبضكم بالموت فيكون كقوله‏ «اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَ الَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها» الآية عن الزجاج و الجبائي‏ «وَ يَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ» أي ما كسبتم من الأعمال على التفصيل بالنهار على كثرته و كثرتكم و فيه إشارة إلى رحمته حيث يعلم مخالفتهم إياه ثم لا يعاجلهم بعقوبة و لا يمنعهم فضله و رحمته‏ «ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ» أي ينبهكم من نومكم في النهار عن الزجاج و الجبائي جعل انتباههم من النوم بعثا «لِيُقْضى‏ أَجَلٌ مُسَمًّى» معناه لتستوفوا آجالكم و ترتيب الآية و هو الذي يتوفاكم بالليل ثم يبعثكم في النهار على علم بما تجترحون بالنهار ليقضي أجل مسمى فاللام تتصل بقوله‏ «ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ» إلا أنه قدم ما من أجله بعثنا بالنهار لأنه أهم و العناية به أشد عن علي بن عيسى و معنى القضاء فصل الأمر على تمام و معنى قضاء الأجل فصل مدة العمر من غيرها بالموت و في هذا حجة على النشأة الثانية لأن منزلتها بعد الأولى كمنزلة اليقظة بعد النوم في أن من قدر على أحدهما فهو قادر على الآخر «ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ» يريد إذا تمت المدة المضروبة لكل نفس نقله إلى الدار الآخرة و معنى إليه إلى حكمه و جزائه و إلى موضع ليس لأحد سواه فيه أمر «ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ» يخبركم‏ «بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» أي بما غفلتم عنه من أعمالكم و في هذه الآية دلالة على البعث و الإعادة نبه الله سبحانه على ذلك بالنوم و اليقظة فإن كلا منهما لا يقدر عليه غيره تعالى فأما ما يصح إعادته من الأشياء فالصحيح من مذهب أهل العدل فيه أن يكون الشي‏ء من فعل القديم سبحانه القادر لذاته و أن يكون مما يبقى و أن لا يكون مما يتولد عن سبب.

482
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأنعام(6): الآيات 61 الى 62] ص : 483

 

 [سورة الأنعام (6): الآيات 61 الى 62]

وَ هُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَ يُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَ هُمْ لا يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَ هُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ (62)

القراءة

قرأ حمزة وحده توفاه و الباقون بالتاء و قرأ الأعرج يفرطون في الشواذ.

الحجة

حجة من قرأ بالتاء قوله‏ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ‏ و قالَتْ رُسُلُهُمْ‏ و حجة حمزة أنه فعل متقدم مسند إلى مؤنث غير حقيقي و إنما التأنيث للجمع فهو مثل‏ وَ قالَ نِسْوَةٌ و إن كانت الكتابة في المصحف بالياء فليس ذلك بخلاف لأن الألف الممالة قد كتبت بياء و قراءة الأعرج من أفرط في الأمر إذا زاد فيه و قراءة العامة من فرط في الأمر إذا قصر فيه فهو بمعنى لا يقصرون فيما يؤمرون به من توفي من تحضره منيته و ذاك بمعنى لا يزيدون على ذلك و لا يتوفون إلا من أمروا بتوفية و نظيره قوله‏ وَ كُلُّ شَيْ‏ءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ.

المعنى‏

ثم زاد سبحانه في بيان كمال قدرته فقال‏ «وَ هُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ» معناه و الله المقتدر المستعلي على عباده الذي هو فوقهم لا بمعنى أنه في مكان مرتفع فوقهم و فوق مكانهم لأن ذلك من صفة الأجسام و الله تعالى منزه عن ذلك و مثله في اللغة أمر فلان فوق أمر فلان أي هو أعلى أمرا و أنفذ حكما و مثله قوله‏ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ‏ فالمراد به أنه أقوى و أقدر منهم و أنه القاهر لهم و يقال هو فوقه في العلم أي أعلم منه و فوقه في الجود أي أجود فعبر عن تلك الزيادة بهذه العبارة للبيان عنها «وَ يُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً» عطف على صلة الألف و اللام في القاهر و تقديره و هو الذي يقهر عباده و يرسل عليكم حفظة أي ملائكة يحفظون أعمالكم و يحصونها عليكم و يكتبونها و في هذا لطف للعباد لينزجروا عن المعاصي إذا علموا أن عليهم حفظة من عند الله يشهدون بها عليهم يوم القيامة «حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ» أي تقبض روحه‏ «رُسُلُنا» يعني أعوان ملك الموت عن ابن عباس و الحسن و قتادة قالوا و إنما يقبضون الأرواح بأمره و لذلك أضاف التوفي إليه في قوله‏ قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ‏ و قال الزجاج يريد بالرسل هؤلاء الحفظة فيكون المعنى يرسلهم للحفظ في الحياة و التوفية عند مجي‏ء الممات و حتى هذه هي التي تقع بعدها الجملة «وَ هُمْ لا يُفَرِّطُونَ» أي لا يضيعون عن ابن عباس و السدي و قيل لا يغفلون و لا يتوانون عن الزجاج و قال معنى التفريط تقدمة العجز فالمعنى أنهم لا يعجزون ثم بين سبحانه أن هؤلاء الذين تتوفاهم رسله يرجعون إليه فقال‏ «ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ» أي إلى الموضع الذي لا يملك الحكم فيه إلا هو «مَوْلاهُمُ الْحَقِّ» قد مر معناه عند قوله‏ أَنْتَ مَوْلانا و الحق اسم من أسماء الله تعالى و اختلف في معناه فقيل‏

 

483
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأنعام(6): الآيات 63 الى 64] ص : 484

 

المعنى أن أمره كله حق لا يشوبه باطل، و جد لا يجاوره هزل فيكون مصدرا وصف به نحو قولهم رجل عدل و في قول زهير:

متى يشتجر قوم يقل سرواتهم‏

 

 هم بيننا فهم رضا و هم عدل‏

 

و قيل إن الحق بمعنى المحق كما قيل غياث بمعنى مغيث و قيل إن معناه الثابت الباقي الذي لا فناء له و قيل معناه ذو الحق يريد أن أفعاله و أقواله حق‏ «أَلا لَهُ الْحُكْمُ» أي القضاء فيهم يوم القيامة لا يملك الحكم في ذلك اليوم سواه كما قد يملك الحكم في الدنيا غيره بتمليكه إياه‏ «وَ هُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ» أي إذا حاسب فحسابه سريع و قد مضى معناه في سورة البقرة عند قوله‏ سَرِيعُ الْحِسابِ‏ و

روي عن أمير المؤمنين علي (ع) أنه سأل كيف يحاسب الله الخلق و لا يرونه قال كما يرزقهم و لا يرونه‏

و

روي‏ أنه سبحانه يحاسب جميع عباده على مقدار حلب شاة

و هذا يدل على أنه لا يشغله محاسبة أحد عن محاسبة غيره و يدل على أنه سبحانه يتكلم بلا لسان و لهوات ليصح أن يحاسب الجميع في وقت واحد.

 [سورة الأنعام (6): الآيات 63 الى 64]

قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَ خُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَ مِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64)

القراءة

قرأ أبو بكر عن عاصم خفية بكسر الخاء هنا و في الأعراف و الباقون‏ «خُفْيَةً» بالضم و قرأ قل من ينجيكم خفيفة يعقوب و سهل و قرأ الباقون‏ «يُنَجِّيكُمْ» و قرأ أهل الكوفة «لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ» بالألف إلا أن عاصما قرأ بالتفخيم و الباقون بالإمالة و قرأ غيرهم من القراء لئن أنجيتنا و قرأ أهل الكوفة و أبو جعفر و هشام عن ابن عامر «قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ» بالتشديد و الباقون ينجيكم بالتخفيف.

الحجة

أما خفية فإن أبا عبيدة قال خفية أي تخفون في أنفسكم و حكى غيره خفية

 

484
مجمع البیان في تفسير القرآن4

الإعراب ص : 485

و خفية لغتان و أما خيفة ففعلة من الخوف انقلبت الياء عن الواو للكسرة قال:

فلا تقعدن على زخة

 

 و تضمر في القلب وجدا و خيفا

 

و هو جمع خيفة و أما قوله ينجيكم فإنهم قالوا نجا زيد فإذا نقل الفعل حسن نقله بالهمزة كما حسن نقله بالتضعيف و في التنزيل‏ فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ فَأَنْجَيْناهُ وَ الَّذِينَ مَعَهُ‏ و فيه‏ وَ نَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا فاستوى القراءتان في الحسن فأما من قرأ «أَنْجانا» فإنه حمله على الغيبة لأن ما قبله‏ «تَدْعُونَهُ» و ما بعده‏ «قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ» و كلاهما للغيبة و من قرأ لئن أنجيتنا فإنه واجه بالخطاب و لم يراع من المشاكلة ما راعاه الكوفيون.

الإعراب‏

تدعونه في موضع نصب على الحال تقديره قل من ينجيكم داعين و قائلين لئن أنجيتنا، تضرعا نصب بأنه حال أيضا من تدعونه و كذلك خفية و المعنى تدعونه مظهرين الضراعة و مضمرين الحاجة إليه أو معلنين و مسرين.

المعنى‏

ثم عاد سبحانه إلى حجاج الكفار فقال‏ «قُلْ» يا محمد لهؤلاء الكفار «مَنْ يُنَجِّيكُمْ» أي يخلصكم و يسلمكم‏ «مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ» أي من شدائدهما و أهوالهما عن ابن عباس قال الزجاج العرب تقول لليوم الذي تلقى فيه شدة يوم مظلم حتى أنهم يقولون يوم ذو كواكب أي قد اشتدت ظلمته حتى صار كالليل و أنشد:

بني أسد هل تعلمون بلاءنا

 

 إذا كان يوم ذو كواكب أشهب‏

 

و قال آخر:

فدى لبني ذهل بن شيبان ناقتي‏

 

 إذا كان يوما ذا كواكب أشنعا

 

و قال غيره أراد ظلمة الليل و ظلمة الغيم و ظلمة التيه و الحيرة في البر و البحر فجمع لفظه ليدل على معنى الجمع‏ «تَدْعُونَهُ» أي تدعون الله عند معاينة هذه الأهوال‏ «تَضَرُّعاً وَ خُفْيَةً» أي علانية و سرا عن ابن عباس و الحسن و قيل معناه تدعونه مخلصين متضرعين تضرعا بألسنتكم و خفية في أنفسكم و هذا أظهر «لَئِنْ أَنْجانا» أي في أي شدة وقعتم قلتم‏

485
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأنعام(6): آية 65] ص : 486

 

لئن أنجيتنا «مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ» لإنعامك علينا و هذا يدل على أن السنة في الدعاء التضرع و الإخفاء و قد

روي عن النبي ص أنه قال‏ خير الدعاء الخفي و خير الرزق ما يكفي‏

و

مر بقوم رفعوا أصواتهم بالدعاء فقال إنكم لا تدعون أصم و لا غائبا و إنما تدعون سميعا قريبا

 «قُلِ» يا محمد «اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ» أي ينعم عليكم بالنجاة و الفرج و يخلصكم‏ «مِنْها» أي من هذه الظلمات‏ «وَ مِنْ كُلِّ كَرْبٍ» أي و يخلصكم الله من كل غم‏ «ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ» بالله تعالى بعد قيام الحجة عليكم ما لا يقدر على الإنجاء من كل كرب و إن خف.

 [سورة الأنعام (6): آية 65]

قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى‏ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَ يُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65)

اللغة

لبست عليهم الأمر ألبسه إذا لم أبينه و خلطت بعضه ببعض و لبست الثوب ألبسه و اللبس اختلاط الأمر و اختلاط الكلام و لابست الأمر خالطته و الشيع الفرق و كل فرقة شيعة على حدة و شيعت فلانا اتبعته و التشيع هو الاتباع على وجه التدين و الولاء للمتبوع و الشيعة صارت في العرف اسما لمتبعي أمير المؤمنين علي (ع) على سبيل الاعتقاد لإمامته بعد النبي ص بلا فصل من الإمامية و الزيدية و غيرهم و لا يقع إطلاق هذه اللفظة على غيرهم من المتبعين سواء كان متبوعهم محقا أو مبطلا إلا أن يسقط عنه لام التعريف و يضاف بلفظ من للتبعيض فيقال هؤلاء شيعة بني العباس أو شيعة بني فلان.

المعنى‏

ثم عطف سبحانه على ما تقدم من الحجج التي حاج به الكافرين و نبه على الأعذار و الإنذار فقال‏ «قُلْ» يا محمد لهؤلاء الكفار «هُوَ الْقادِرُ عَلى‏ أَنْ يَبْعَثَ» أي يرسل‏ «عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ» قيل فيه وجوه (أحدها) أن عذابا من فوقكم عنى به الصيحة و الحجارة و الطوفان و الريح كما فعل بعاد و ثمود و قوم شعيب و قوم لوط أو من‏

 

486
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 486

تحت أرجلكم عنى به الخسف كما فعل بقارون عن سعيد بن جبير و مجاهد (و ثانيها) أن المراد بقوله‏ «مِنْ فَوْقِكُمْ» أي من قبل كباركم أو من تحت أرجلكم من سفلتكم عن الضحاك (و ثالثها)

أن من فوقكم السلاطين الظلمة و من تحت أرجلكم العبيد السوء و من لا خير فيه عن ابن عباس‏ و هو المروي عن أبي عبد الله (ع)

 «أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً» أي يخلطكم فرقا مختلفي الأهواء لا تكونون شيعة واحدة و قيل هو أن يكلهم إلى أنفسهم فلا يلطف لهم اللطف الذي يؤمنون عنده و يخليهم من ألطافه بذنوبهم السالفة و

قيل عنى به يضرب بعضكم ببعض بما يلقيه بينكم من العداوة و العصبية و هو المروي عن أبي عبد الله (ع)

 «وَ يُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ» أي قتال بعض و حرب بعض و معناه يقتل بعضكم بعضا حتى يفني بعضكم بعضا كما قال‏ وَ كَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ‏ و

قيل هو سواء الجوار عن أبي عبد الله (ع)

و قال الحسن التهديد بإنزال العذاب و الخسف يتناول الكفار و قوله‏ «أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً» يتناول أهل الصلاة و

قال قال رسول الله ص‏ سألت ربي أن لا يظهر على أمتي أهل دين غيرهم فأعطاني و سألته أن لا يهلكهم جوعا فأعطاني و سألته أن لا يجمعهم على ضلالة فأعطاني و سألته أن لا يلبسهم شيعا فمنعني‏

و

في تفسير الكلبي‏ أنه لما نزلت هذه الآية قام النبي ص فتوضأ و أسبغ وضوءه ثم قام و صلى فأحسن صلاته ثم سأل الله سبحانه أن لا يبعث على أمته عذابا من فوقهم و لا من تحت أرجلهم و لا يلبسهم شيعا و لا يذيق بعضهم بأس بعض فنزل جبرائيل (ع) فقال يا محمد إن الله تعالى سمع مقالتك و إنه قد أجارهم من خصلتين و لم يجرهم من خصلتين أجارهم من أن يبعث عليهم عذابا من فوقهم أو من تحت أرجلهم و لم يجرهم من الخصلتين الأخريين فقال ص يا جبرائيل ما بقاء أمتي مع قتل بعضهم بعضا فقام و عاد إلى الدعاء فنزل‏ الم أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَ هُمْ لا يُفْتَنُونَ‏ الآيتين فقال لا بد من فتنة تبتلى بها الأمة بعد نبيها ليتبين الصادق من الكاذب لأن الوحي انقطع و بقي السيف و افتراق الكلمة إلى يوم القيامة

و

في الخبر أنه ص قال‏ إذا وضع السيف في أمتي لم يرفع عنها إلى يوم القيامة

و قال أبي بن كعب سيكون في هذه الأمة بين يدي الساعة خسف و قذف و مسخ ثم أكد سبحانه الاحتجاج عليهم بقوله‏ «انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ» أي أنظر يا محمد كيف نردد الآيات و نظهرها مرة بعد أخرى بوجوه أدلتها حتى تزول الشبه‏ «لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ» أي لكي يعلموا الحق فيتبعوه و الباطل فيجتنبوه و إذا كان البعث في الآية محمولا على التسليط فالمراد به التمكين و رفع الحيلولة

487
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأنعام(6): الآيات 66 الى 67] ص : 488

 

دون أن يفعل سبحانه ذلك أو يأمر به تعالى الله عن ذلك و في هذه الآية دلالة على أنه سبحانه قادر على ما المعلوم أنه لا يفعله.

 [سورة الأنعام (6): الآيات 66 الى 67]

وَ كَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَ هُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (67)

المعنى‏

لما ذكر سبحانه تصريف الآيات قال عقيب ذلك‏ «وَ كَذَّبَ بِهِ» أي بما نصرف من الآيات عن الجبائي و البلخي و قال الأزهري الهاء يعود إلى القرآن و هو قول الحسن و جماعة «قَوْمُكَ» يعني قريشا و العرب‏ «وَ هُوَ الْحَقُّ» أي القرآن أو تصريف الآيات حق بمعنى أنه يدل على الحق و أن ما فيه حق ثم بين سبحانه أن عاقبة تكذيبهم يعود عليهم فقال‏ «قُلْ» يا محمد «لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ» أي لم أومر بمنعكم من التكذيب بآيات الله و أن أحفظكم من ذلك و أحول بينكم و بينه لأن الوكيل على الشي‏ء هو القائم بحفظه و الذي يدفع الضرر عنه عن الجبائي و قيل معناه لست بحافظ لأعمالكم لأجازيكم بها إنما أنا منذر و الله سبحانه هو المجازي عن الحسن و قيل معناه لم أومر بحربكم و لا أخذكم بالإيمان كما يأخذ الموكل بالشي‏ء الذي يلزم بلوغ آخره عن الزجاج‏ «لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ» أي لكل خبر من أخبار الله و رسوله حقيقة كائنة إما في الدنيا و إما في الآخرة عن ابن عباس و مجاهد و قيل معناه لكل خبر قرار على غاية ينتهي إليها و يظهر عندها قال السدي استقر يوم بدر ما كان يعدهم من العقاب و سمي الوقت مستقرا لأنه ظرف للفعل الواقع فيه و قيل معناه لكل عمل مستقر عند الله حتى يجازي به يوم القيامة عن الحسن‏ «وَ سَوْفَ تَعْلَمُونَ» فيه وعيد و تهديد لهم إما بعذاب الآخرة و إما بالحرب و أخذهم بالإيمان شاءوا أو أبوا و تقديره و سوف تعلمون ما يحل بكم من العذاب و حذف لدلالة الكلام عليه.

 

488
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأنعام(6): الآيات 68 الى 69] ص : 489

 

 [سورة الأنعام (6): الآيات 68 الى 69]

وَ إِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَ إِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى‏ مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68) وَ ما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ وَ لكِنْ ذِكْرى‏ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69)

القراءة

قرأ ابن عامر وحده ينسينك بالتشديد و الباقون‏ «يُنْسِيَنَّكَ» بالتخفيف.

الحجة

حجة من خفف قوله‏ وَ ما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ‏ و حجة ابن عامر أنه يجوز نقل الفعل بتضعيف العين كما يجوز نقله بالهمزة كما يقال عزمته و أعزمته.

الإعراب‏

ذكرى يجوز أن يكون في موضع نصب على معنى و لكن ذكروهم ذكرى و يجوز أن يكون في موضع رفع على أحد وجهين إما أن يكون على معنى و لكن الذي تأمرونهم به ذكري فيكون خبر المبتدأ و إما أن يكون عليكم ذكرى أي عليكم أن تذكروهم كما قال‏ إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ‏ و على هذا فيكون ذكرى مبتدأ.

النزول‏

قال أبو جعفر (ع) لما نزلت‏ «فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى‏ مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» قال المسلمون كيف نصنع إن كان كلما استهزأ المشركون بالقرآن قمنا و تركناهم فلا ندخل إذا المسجد الحرام و لا نطوف بالبيت الحرام فأنزل الله سبحانه‏ «وَ ما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ» أمرهم بتذكيرهم و تبصيرهم ما استطاعوا.

المعنى‏

ثم أمر سبحانه بترك مجالستهم عند استهزائهم بالقرآن فقال‏ «وَ إِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا» خاطب النبي ص أي إذا رأيت هؤلاء الكفار و قيل الخطاب له و المراد غيره و معنى يخوضون يكذبون بآياتنا و ديننا عن الحسن و سعيد بن جبير و الخوض التخليط في المفاوضة على سبيل العبث و اللعب و ترك التفهم و التبيين‏ «فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ» أي فاتركهم و لا تجالسهم‏ «حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ» أي يدخلوا في حديث غير الاستهزاء بالقرآن و إنما أمره ص بالإعراض عنهم لأن من حاج من هذه حاله فقد وضع الشي‏ء غير موضعه و حط من قدر البيان و الحجاج‏ «وَ إِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ» المعنى و إن أنساك الشيطان نهينا إياك عن الجلوس معهم و يسأل على هذا فيقال كيف أضاف النسيان إلى الشيطان و هو فعل الله تعالى و الجواب إنما أضافه إلى الشيطان لأنه تعالى أجرى العادة بفعل النسيان عند الإعراض عن الفكر و تراكم الخواطر الردية و الوساوس الفاسدة من الشيطان فجاز إضافة النسيان إليه لما حصل عند فعله كما أن من ألقى غيره في البرد حتى مات فإنه يضاف الموت إليه لأنه عرضه لذلك و كان كالسبب فيه‏ «فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى‏» أي بعد

 

489
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 489

ذكرك نهينا و ما يجب عليك من الإعراض عن الجبائي و قيل معناه بعد أن تذكرهم بدعائك إياهم إلى الدين عن أبي مسلم فكأنه قال أعرض في حال اليأس و ذكر في حال الطمع‏ «مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» يعني في مجالس الكفار و الفساق الذي يظهرون التكذيب بالقرآن و الآيات و الاستهزاء بذلك و به قال سعيد بن جبير و السدي و اختاره البلخي و قال كان ذلك في أول الإسلام و كان يختص النبي ص و رخص للمؤمنين في ذلك لما عز الإسلام و كثر المسلمون نهوا عن مجالستهم و نسخت هذه الآية بقوله‏ فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ‏ قال الجبائي و في هذه الآية دلالة على بطلان قول الإمامية في جواز التقية على الأنبياء و الأئمة و أن النسيان لا يجوز على الأنبياء و هذا القول غير صحيح و لا مستقيم لأن الإمامية إنما تجوز التقية على الإمام فيما تكون عليه دلالة قاطعة توصل إلى العلم و يكون المكلف مزاح العلة في تكليفه ذلك فأما ما لا يعرف إلا بقول الإمام من الأحكام و لا يكون على ذلك دليل إلا من جهته فلا يجوز عليه التقية فيه و هذا كما إذا تقدم من النبي بيان في شي‏ء من الأشياء الشرعية فإنه يجوز منه أن لا يبين في حال أخرى لأمته ذلك الشي‏ء إذا اقتضته المصلحة أ لا ترى إلى ما

روي‏ أن عمر بن الخطاب سأله عن الكلالة فقال يكفيك آية السيف‏

و أما النسيان و السهو فلم يجوزوهما عليهم فيما يؤدونه عن الله تعالى فأما ما سواه فقد جوزوا عليهم أن ينسوه أو يسهوا عنه ما لم يؤد ذلك إلى إخلال بالعقل و كيف لا يكون كذلك و قد جوزوا عليهم النوم و الإغماء و هما من قبيل السهو فهذا ظن منه فاسد و إن بعض الظن إثم‏ «وَ ما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ» أي ليس على المؤمنين الذين اتقوا معاصي الله سبحانه من حساب الكفرة شي‏ء بحضورهم مجلس الخوض‏ «وَ لكِنْ ذِكْرى‏ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ» أي نهوا عن مجالستهم ليزدادوا تقى و أمروا أن يذكروهم و ينبهوهم على خطاياهم لكي يتقي المشركون إذا رأوا إعراض هؤلاء المؤمنين عنهم و تركهم مجالستهم فلا يعودون لذلك عن أكثر المفسرين و قيل معناه ليس على المتقين من الحساب يوم القيامة مكروه و لا تبعة و لكنه أعلمهم أنهم محاسبون و حكم بذلك عليهم لكي يعلموا أن الله يحاسبهم فيتقوا عن البلخي فالهاء و الميم على الوجه الأول يعود إلى الكفار و في الثاني إلى المؤمنين.

490
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأنعام(6): آية 70] ص : 491

 

 [سورة الأنعام (6): آية 70]

وَ ذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَ لَهْواً وَ غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَ ذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَ لا شَفِيعٌ وَ إِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (70)

اللغة

يقال أبسلته بجريرته أي أسلمته بها و المستبسل المستسلم الذي يعلم أنه لا يقدر على التخلص قال الشاعر:

و إبسالي بني بغير جرم‏

 

 بعوناه و لا بدم مراق‏

 

أي إسلامي إياهم و البعو الجناية قال الأخفش تبسل أي تجازى و قيل تبسل أي ترهن و المعاني متقاربة و هذا بسل عليك أي حرام عليك و جائز أن يكون أسد باسل من هذا أي إنه لا يقدر عليه و جائز أن يكون من الأول بمعنى أن معه من الإقدام ما يستبسل له قرنه و يقال أعط الراقي بسلته أي أجرته و تأويله أنه عمل في الشي‏ء الذي قد استبسل صاحبه معه و العدل الفداء و أصله المثل و الحميم الماء الحار أحم حتى انتهى غليانه و منه الحمام.

الإعراب‏

 «أَنْ تُبْسَلَ» في موضع نصب بأنه مفعول و هو من باب حذف المضاف تقديره كراهية أن تبسل و قوله‏ «لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ» صفة لنفس و التقدير نفس عادمة وليا و شفيعا يكسبها أولئك الذين أبسلوا مبتدأ و خبر و قوله‏ «لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ» يجوز أن يكون خبرا ثانيا لأولئك و يجوز أن يكون كلاما مستأنفا.

المعنى‏

ثم عاد تعالى إلى وصف من تقدم ذكرهم من الكفار فقال‏ «وَ ذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَ لَهْواً» أي دعهم و أعرض عنهم و إنما أراد به إعراض إنكار لأنه قال بعد ذلك‏ «وَ ذَكِّرْ» يريد دع ملاطفتهم و مجالستهم و لا تدع مذاكرتهم و دعوتهم و نظيره في سورة النساء فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَ عِظْهُمْ‏ «وَ غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا» يعني به اغتروا بحياتهم‏ «وَ ذَكِّرْ بِهِ» أي عظ بالقرآن و قيل بيوم الدين و قيل بالحساب‏ «أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ» أي لكي لا تسلم نفس للهلكة بما كسبت أي بما عملت عن الحسن و مجاهد و السدي و اختاره الجبائي و الفراء و قيل‏

 

491
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأنعام(6): آية 71] ص : 492

 

إن معنى تبسل تهلك عن ابن عباس و قيل تحبس عن قتادة و قيل تؤخذ عن ابن زيد و قيل تسلم إلى خزنة جهنم عن عطية العوفي و قيل تجازى عن الأخفش‏ «لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ» أي ناصر ينجيها من العذاب‏ «وَ لا شَفِيعٌ» يشفع لها «وَ إِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ» و إن تفد كل فداء «لا يُؤْخَذْ مِنْها» و قيل معناه و أن تقسط كل قسط في ذلك اليوم لا يقبل منها لأن التوبة هناك غير مقبولة و إنما تقبل في الدنيا «أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا» أي أهلكوا و قيل أسلموا للهلكة فلا مخلص لهم و قيل ارتهنوا و قيل جوزوا «بِما كَسَبُوا» أي بكسبهم و عملهم‏ «لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ» أي ماء مغلي حار «وَ عَذابٌ أَلِيمٌ» مؤلم‏ «بِما كانُوا يَكْفُرُونَ» أي بكفرهم يريد جزاء على كفرهم و اختلف في الآية فقيل هي منسوخة بآية السيف عن قتادة و قيل ليست بمنسوخة و إنما هي تهديد و وعيد عن مجاهد و غيره و فيها دلالة على الوعيد العظيم لمن كانت هذه سبيله من الاستهزاء بالقرآن و بآيات الله و تحذير عن سلوك طريقتهم و قال الفراء ما من أمة إلا و لهم عيد يلعبون فيه و يلهون إلا أمة محمد ص فإن أعيادهم صلاة و دعاء و عبادة.

 [سورة الأنعام (6): آية 71]

قُلْ أَ نَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا وَ لا يَضُرُّنا وَ نُرَدُّ عَلى‏ أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى‏ وَ أُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (71)

القراءة

قرأ حمزة وحده استهويه بألف ممالة و الباقون‏ «اسْتَهْوَتْهُ» بالتاء المعجمة من فوق.

الحجة

قال أبو علي كلا المذهبين حسن قال الشاعر:

و كنا ورثناه على عهد تبع‏

 

 طويلا سواريه شديدا دعائمه.

 

اللغة

استهواه من قولهم هوى من حالق إذا تردى منه و يشبه به الذي زل عن‏

 

492
مجمع البیان في تفسير القرآن4

الإعراب ص : 493

الطريق المستقيم كما أن قوله زل إنما هو في المكان قال:

 (قام على منزعة زلخ فزل)

 

 

 

ثم يشبه به المخطئ في طريقته في مثل قوله‏ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ‏ فكذلك هوى و أهواه غيره فيقال أهويته و استهويته بمعنى كما يقال أزله الشيطان و استزله بمعنى و كذلك استجابة بمعنى أجابه قال:

 (فلم يستجبه عند ذاك مجيب)

 

 

 

و الحيران المتردد في أمر لا يهتدي إلى المخرج منه و الفعل منه حار يحار حيرة و رجل حائر و حيران و قوم حيارى.

الإعراب‏

 «كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ» في موضع نصب صفة لمصدر محذوف تقديره أ ندعو من دون الله دعاء مثل دعاء الذي استهوته الشياطين في الأرض حيران، و حيران نصب على الحال من مفعول استهوته، «لَهُ أَصْحابٌ» وصف لحيران و يدعونه صفة لأصحاب أي أصحاب داعون له إلى الهدي قائلون له ائتنا و هاهنا منتهى الكلام و قوله‏ «أُمِرْنا لِنُسْلِمَ» تقول العرب أمرتك لتفعل و أمرتك أن تفعل و أمرتك بأن تفعل فمن قال أمرتك بأن تفعل فالباء للإلصاق و المعنى وقع الأمر بهذا الفعل و من قال أمرتك أن تفعل حذف الجار و من قال أمرتك لتفعل المعنى أمرتك للفعل و قال الزجاج التقدير أمرنا كي نسلم قال الشاعر:

أريد لأنسى ذكرها فكأنما

 

 تمثل لي ليلى بكل سبيل‏

 

أي كي أنسى.

المعنى‏

ثم أمر سبحانه نبيه ص و المؤمنين بخطاب الكفار فقال‏ «قُلْ» يا محمد لهؤلاء الكفار الذين يدعون إلى عبادة الأصنام أو قل أيها الإنسان أو أيها السامع‏ «أَ نَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا» إن عبدناه‏ «وَ لا يَضُرُّنا» إن تركنا عبادته‏ «وَ نُرَدُّ عَلى‏ أَعْقابِنا» هذا مثل يقولون لكل خائب لم يظفر بحاجته رد على عقبيه و نكص على عقبيه و تقديره أ نرجع القهقرى في مشيتنا و المعنى أ نرجع عن ديننا الذي هو خير الأديان‏ «بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ» لا يهتدي إلى طريق و قيل معناه استغوته الغيلان في المهامة عن ابن عباس و قيل معناه دعته الشياطين إلى اتباع الهوى و قيل أهلكته و قيل ذهبت به عن نفطويه و قيل أضلته عن أبي مسلم‏ «لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا» أي إلى الطريق الواضح يقولون له ائتنا و لا يقبل منهم و لا يصير إليهم لأنه قد تحير لاستيلاء الشيطان عليه‏

493
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأنعام(6): الآيات 72 الى 73] ص : 494

 

يهوى و لا يهتدي ثم أمره الله سبحانه فقال‏ «قُلْ» لهؤلاء الكفار «إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى‏» أي دلالة الله لنا على توحيده و أمر دينه هو الهدى الذي يؤدي المستدل به إلى الصلاح و الرشاد في دينه و هو الذي يجب أن نعمل عليه و نستدل به فلا نترك ذلك إلى ما تدعون إليه‏ «وَ أُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ» معناه و أمرنا أن نسلم و قيل معناه أن نسلم أمورنا و نفوضها إلى الله و نتوكل عليه فيها.

 [سورة الأنعام (6): الآيات 72 الى 73]

وَ أَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ اتَّقُوهُ وَ هُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72) وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَ يَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَ لَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ وَ هُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73)

الإعراب‏

يحتمل أول الآية وجهين (أحدهما) أن يكون التقدير أمرنا لأن نسلم و لأن نقيم الصلاة (و الثاني) أن يكون محمولا على المعنى لأن معناه أمرنا بالإسلام و بإقامة الصلاة و موضع أن نصب لأن الباء لما سقطت أفضى الفعل فنصب عالم الغيب رفع لأنه نعت الذي في قوله‏ «وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ» و يحتمل أن يكون فاعل فعل يدل عليه الفعل المبني للمفعول به و هو قوله‏ «يُنْفَخُ فِي الصُّورِ» و هذا كما يقولون أكل طعامك عبد الله و التقدير أكله عبد الله قال الشاعر:

ليبك يزيد ضارع لخصومة

 

 و مختبط مما تطيح الطوانح‏

 

كأن قيل من يبكيه قال يبكيه ضارع و الأول أجود.

المعنى‏

 «وَ أَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ» هذا موصول بما قبله أي و قيل لنا أقيموا الصلاة «وَ اتَّقُوهُ» أي و اتقوا رب العالمين أي تجنبوا معاصيه فتتقوا عقابه‏ «وَ هُوَ الَّذِي إِلَيْهِ‏

 

494
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 494

تُحْشَرُونَ» أي تجمعون إليه يوم القيامة فيجازي كل عامل منكم بعمله‏ «وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ» فيه قولان (أحدهما) أن معناه خلقهما للحق لا للباطل عن الحسن و الزجاج و غيرهما و معناه خلقهما حقا و صوابا لا باطلا و خطأ كما قال‏ وَ ما خَلَقْنَا السَّماءَ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما باطِلًا و أدخلت الباء و الألف و اللام كما أدخلت في نظائرها يقولون فلان يقول بالحق بمعنى أنه يقول حقا لا أن الحق معنى غير القول بل تقديره إن خلقهما حكمة و صواب من حكم الله و هو موصوف بالحكمة في خلقهما و خلق ما سواهما من جميع خلقه لا أن هناك حقا سوى خلقهما خلقهما به و القول الآخر ما قاله قوم أن معناه خلق السماوات و الأرض بكلامه الحق و هو قوله‏ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً فالحق صفة قوله و كلامه و الأول هو الصحيح‏ «وَ يَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ» ذكر في نصب يوم وجوه (أحدها) أن يكون عطفا على الهاء في قوله‏ «وَ اتَّقُوهُ» أي و اتقوا يوم يقول كن فيكون كما قال سبحانه‏ وَ اتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً (و الثاني) أن يكون على معنى و اذكر يوم يقول كن فيكون لأن بعده‏ وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ عطفا على ذلك قال الزجاج و هو الأجود (الثالث) أن يكون معطوفا على السماوات و المعنى و هو الذي خلق السماوات و الأرض بالحق و خلق يوم يقول كن فيكون فإن يوم القيامة لم يأت بعد فجوابه أن ما أنبأ الله بكونه فحقيقة واقع لا محالة و أما قوله‏ «كُنْ فَيَكُونُ» فقد قيل فيه إنه خطاب للصور و المعنى يوم يقول للصور كن فيكون و ما ذكر من الصور يدل عليه و قيل إن قوله‏ «كُنْ فَيَكُونُ» فيه إضمار جميع ما يخلق في ذلك الوقت، المعنى و يوم يقول للشي‏ء كن فيكون و هذا إنما ذكر ليدل على سرعة أمر البعث و الساعة فكأنه يقول و يوم يقول للخلق موتوا فيموتون و انتشروا فينتشرون أي لا يتعذر عليه ذلك و لا يتأخر عن وقت إرادته و قيل معناه و يوم يقول كن فيكون‏ «قَوْلُهُ الْحَقُّ» أي يأمر فيقع أمره أي ما وعدوا به من الثواب و حذروا به من العقاب و الحق من صفة قوله و قوله فاعل يكون كما تقول قد قلت فكان قولك و ليس المعنى إنك قلت فكان الكلام إنما المعنى إنه كان ما دل عليه القول و أما على القول المتقدم فيكون قوله مبتدأ و الحق خبره و قد ذكرنا تفسير قوله‏ «كُنْ فَيَكُونُ» في سورة البقرة مستقصى‏ «وَ لَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ» قيل في نصب يوم هنا وجوه (أحدها) أن يكون متعلقا بله الملك و تقديره أن الملك قد وجب له في ذلك اليوم الذي فيه ينفخ في الصور فقد خص ذلك اليوم بأن الملك له فيه كما خصه في قوله‏ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ و الوجه فيه أنه لا يبقى ملك من ملكه الله في الدنيا أو تغلب عليه بل يتفرد سبحانه بالملك‏

495
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأنعام(6): الآيات 74 الى 75] ص : 496

 

 (و الثاني) أن يكون‏ «يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ» مبنيا عن قوله‏ «يَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ» (و الثالث) أن يكون منصوبا بقوله‏ «الْحَقُّ» و المعنى قوله الحق يوم ينفخ في الصور و الوجه في اختصاصه بذلك اليوم و إن كان قوله حقا في كل وقت ما بيناه في الوجه الأول و هو مثل قوله‏ وَ الْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ‏ و لا شك أن الأمر في كل وقت لله تعالى و المراد أن ذلك اليوم يوم لا يخالف الله في أوامره لأنها محتومة ليس فيها تخيير و لا يقدر أحد على معصيته و أما الصور فقيل فيه قرن ينفخ فيه إسرافيل ع نفختين فتفنى الخلائق كلهم بالنفخة الأولى و يحيون بالنفخة الثانية فتكون النفخة الأولى لانتهاء الدنيا و الثانية لابتداء الآخرة و قال الحسن هو جمع صورة كما أن السور جمع سورة و على هذا فيكون معناه يوم ينفخ الروح في الصور و يؤيد القول الأول ما

رواه أبو سعيد الخدري عن النبي ص أنه قال‏ كيف أنعم و قد التقم صاحب القرن القرن و حنا جبينه و أصغى سمعه ينتظر أن يؤمر فينفخ قالوا فكيف نقول يا رسول الله قال قولوا حسبنا الله و نعم الوكيل‏

و العرب تقول نفخ الصور و نفخ في الصور قال الشاعر:

لو لا ابن جعدة لم يفتح قهندزكم‏

 

 و لا خراسان حتى ينفخ الصور

 

 «عالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ» أي يعلم ما لا يشاهده الخلق و ما يشاهدونه و ما لا يعلمه الخلق و ما يعلمونه لا يخفى عليه شي‏ء من ذلك‏ «وَ هُوَ الْحَكِيمُ» في أفعاله‏ «الْخَبِيرُ» العالم بعباده و أفعالهم.

 [سورة الأنعام (6): الآيات 74 الى 75]

وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَ تَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَ قَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (74) وَ كَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75)

القراءة

القراءة الظاهرة «آزَرَ» بالفتح و قرأ يعقوب الحضرمي آزر بضم الراء و هو قراءة الحسن و ابن عباس و مجاهد و الضحاك.

 

496
مجمع البیان في تفسير القرآن4

الحجة ص : 497

 

الحجة

من قرأ بالفتح جعل آزر في موضع جر بدلا من أبيه أو عطف بيان و من قرأ بالضم جعله منادى مفردا و تقديره يا آزر.

اللغة

الأصنام جمع صنم و الصنم ما كان صورة و الوثن ما كان غير مصور و الآلهة جمع إله مثل إزار و آزرة و المبين هو البين الظاهر و الملكوت بمنزلة الملك غير أن هذا اللفظ أبلغ لأن الواو و التاء تزادان للمبالغة و مثله الرغبوت و الرهبوت و وزنه فعلوت و في المثل رهبوت خير من رحموت أي لأن ترهب خير من أن ترحم.

الإعراب‏

العامل في إذ محذوف و تقديره و اذكر إذ قال و قيل أنه يتصل بقوله‏ بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ‏ أي و بعد إذ قال إبراهيم و الكاف في كذلك كاف التشبيه و المعنى كما أرينا إبراهيم قبح ما كان عليه أبوه و قومه من المذهب كذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات و الأرض للاعتبار و قيل شبه رؤية إبراهيم برؤية محمد ص و المعنى كما أريناك يا محمد أرينا إبراهيم و قوله‏ «وَ لِيَكُونَ» عطف على محذوف و تقديره نريه الملكوت ليستدل به و ليكون من الموقنين و قيل إنه جملة مستأنفة أي و ليكون من الموقنين أريناه فاللام يتعلق بأريناه المحذوف و قيل إن الواو زائدة و معناه ليكون و هذا بعيد.

المعنى‏

 «وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ» أي و اذكر إذ قال‏ «لِأَبِيهِ آزَرَ» فيه أقوال (أحدها) أنه اسم أبي إبراهيم عن الحسن و السدي و الضحاك (و ثانيها) أن اسم أبي إبراهيم تارخ قال الزجاج ليس بين النسابين اختلاف أن اسم أبي إبراهيم تارخ و الذي في القرآن يدل على أن اسمه آزر و قيل آزر عندهم ذم في لغتهم كأنه قال و إذ قال إبراهيم لأبيه يا مخطئ فإذا كان كذلك فالاختيار الرفع و جائز أن يكون وصفا له كأنه قال لأبيه المخطئ و قيل آزر اسم صنم عن سعيد بن المسيب و مجاهد قال الزجاج فإذا كان كذلك فموضعه نصب على إضمار الفعل كأنه قال و إذ قال إبراهيم لأبيه أ تتخذ آزر و جعل أصناما بدلا من آزر و أشباهه فقال بعد أن قال أ تتخذ آزر إلها أ تتخذ أصناما آلهة و هذا الذي قال الزجاج يقوي ما قاله أصحابنا أن آزر كان جد إبراهيم لأمه أو كان عمه من حيث صح عندهم أن آباء النبي إلى آدم كلهم كانوا موحدين و اجتمعت الطائفة على ذلك‏

و روي عن النبي ص أنه قال‏ لم يزل ينقلني الله من أصلاب الطاهرين إلى أرحام المطهرات حتى أخرجني في عالمكم هذا لم يدنسني بدنس الجاهلية

 

497
مجمع البیان في تفسير القرآن4

النظم ص : 498

و لو كان في آبائه كافر لم يصف جميعهم بالطهارة مع قوله تعالى‏ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ‏ و لهم في ذلك أدلة ليس هنا موضع ذكرها و قوله‏ «أَ تَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً» استفهام المراد به الإنكار أي لا تفعل ذلك‏ «إِنِّي أَراكَ وَ قَوْمَكَ فِي ضَلالٍ» عن الصواب‏ «مُبِينٍ» ظاهر و في الآية حث للنبي على محاجة قومه الذين دعوه إلى عبادة الأصنام و الاقتداء بأبيه إبراهيم فيه و تسلية له بذلك‏ «وَ كَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ» أي مثل ما وصفناه من قصة إبراهيم و قوله لأبيه ما قال نريه‏ «مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ» أي القدرة التي تقوى بها دلالته على توحيد الله تعالى و قيل معناه كما أريناك يا محمد أريناه آثار قدرتنا فيما خلقنا من الشمس و القمر و النجوم و ما في الأرض من البحار و المياه و الرياح ليستدل بها و هذا معنى قول ابن عباس و قتادة و قيل يعني بالملكوت آيات السماوات و الأرض عن مجاهد و قيل أن ملكوت السماوات و الأرض ملكهما بالنبطية عن مجاهد أيضا و قيل أن ملكوت السماوات و الأرض ما نشاهده من الحوادث الدالة على أن الله سبحانه مالك لهما و الله المالك لهما و لكل شي‏ء بنفسه لا يملكه سواه فأجرى الملكوت على المملوك الذي هو في السماوات و الأرض مجازا عن أبي علي الجبائي‏

و قال أبو جعفر (ع) كشط الله له عن الأرضين حتى رآهن و ما تحتهن و عن السماوات حتى رآهن و ما فيهن من الملائكة و حملة العرش‏

و روى أبو بصير عن أبي عبد الله (ع) قال‏ لما رأى إبراهيم ملكوت السماوات و الأرض رأى رجلا يزني فدعا عليه فمات ثم رأى آخر فدعا عليه فمات ثم رأى ثلاثة فدعا عليهم فماتوا فأوحى الله تعالى يا إبراهيم إن دعوتك مستجابة فلا تدع على عبادي فإني لو شئت أن أميتهم بدعائك ما خلقتهم إني خلقت خلقي على ثلاثة أصناف صنف يعبدني لا يشرك بي شيئا فأثيبه و صنف يعبد غيري فليس يفوتني و صنف يعبد غيري فأخرج من صلبه من يعبدني‏

 «وَ لِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ» أي من المتيقنين بأن الله سبحانه هو خالق ذلك و المالك له.

النظم‏

وجه اتصال الآية بما قبلها أنه لما عاب دينهم و ذم آلهتهم و احتج عليهم بما سلف ذكره بين أنه دين إبراهيم و للناس ألف بدين الآباء لا سيما إذا كان الأب ذا قدر و قيل أنها تتصل بقوله‏ «أَ نَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا» إلى قوله‏ «بَعْدَ إِذْ هَدانَا» ثم قال و بعد أن قال إبراهيم كذا و كذا عن أبي مسلم.

498
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأنعام(6): الآيات 76 الى 79] ص : 499

 

 [سورة الأنعام (6): الآيات 76 الى 79]

فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى‏ كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِي‏ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ حَنِيفاً وَ ما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)

القراءة

قرأ أبو عمرو و ورش من طريق البخاري رئي كوكبا بفتح الراء و كسر الهمزة حيث كان و قرأ ابن عامر و حمزة و الكسائي و خلف و يحيى عن أبي بكر رئي بكسر الراء و الهمزة و قرأ الباقون بفتح الراء و الهمزة.

الحجة

ذكر أبو علي الوجه في قراءة من لم يمل و قراءة من أمال و أورد في ذلك كلاما كثيرا تركنا ذكره خوف الإطالة.

اللغة

يقال جن عليه الليل و جنه الليل و أجنه الليل إذا أظلم حتى يستر بظلمته و يقال لكل ما ستر قد جن و أجن و منه اشتقاق الجن لأنهم استجنوا عن أعين الناس و قال الهذلي:

و ماء وردت قبيل الكرى‏

 

 و قد جنه السدف الأدهم‏

 

و يقال أجننت الميت و جننته إذا واريته في اللحد و أفل يأفل أفولا إذا غاب قال ذو الرمة:

مصابيح ليست باللواتي يقودها

 

 نجوم و لا بالآفلات الدوالك‏

 

 

499
مجمع البیان في تفسير القرآن4

الإعراب ص : 500

و البزوغ الطلوع يقال بزغت الشمس إذا طلعت و يسمى ثلاث ليال من أول الشهر الهلال ثم يسمى قمرا إلى آخر الشهر و إنما يسمى قمرا لبياضه و حمار أقمر أبيض و الحنيف المائل إلى الحق.

الإعراب‏

السؤال يقال لم قال‏ «هذا رَبِّي» و لم يقل هذه كما قال‏ «بازِغَةً» و الجواب أن التقدير هذا النور الطالع ربي ليكون الخبر و المخبر عنه جميعا على التذكير كما كان جميعا على التأنيث في‏ «رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً» و قال ابن فضال المجاشعي قوله‏ «رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً» إخبار من الله تعالى و قوله‏ «هذا رَبِّي» من كلام إبراهيم و الشمس مؤنثة في كلام العرب و أما في كلام ما سواهم فيجوز أن لا تكون مؤنثة و إبراهيم (ع) لم يكن عربيا فحكى الله تعالى كلامه على ما كان في لغته و يقال لم أنث الشمس و ذكر القمر و الجواب أن تأنيثها تفخيم لها لكثرة ضيائها على حد قولهم نسابة و علامة و ليس القمر كذلك لأنه دونها في الضياء و يقال لم دخلت الألف و اللام فيها و هي واحدة و لم تدخل في زيد و عمرو قيل لأن شعاع الشمس يقع عليه اسم الشمس فاحتيج إلى التعريف إذا قصد إلى جرم الشمس أو إلى الشعاع على طريق الجنس أو الواحد من الجنس و ليس زيد و نحوه كذلك.

المعنى‏

لما تقدم ذكر الآيات التي أراها الله تعالى إبراهيم (ع) بين سبحانه كيف استدل بها و كيف عرف الحق من جهتها فقال‏ «فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ» أي أظلم عليه و ستر بظلامه كل ضياء «رَأى‏ كَوْكَباً» و اختلف في الكوكب الذي رآه فقيل هو الزهرة و قيل هو المشتري‏ «قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ» أي غرب‏ «قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ» و اختلف في تفسير هذه الآيات على أقوال (أحدها) أن إبراهيم (ع) إنما قال ذلك عند كمال عقله في زمان مهلة النظر و خطور الخاطر الموجب عليه النظر بقلبه لأنه (ع) لما أكمل الله عقله و حرك دواعيه على الفكر و التأمل رأى الكوكب فأعظمه و أعجبه نوره و حسنه و قد كان قومه يعبدون الكواكب فقال هذا ربي على سبيل الفكر فلما أفل علم أن الأفول لا يجوز على الإله فاستدل بذلك على أنه محدث مخلوق و كذلك كانت حاله في رؤية القمر و الشمس فإنه لما رأى أفولهما قطع على حدوثهما و استحالة إلهيتهما و قال في آخر كلامه‏ «يا قَوْمِ إِنِّي بَرِي‏ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ» إلى آخره و كان هذا القول منه عقيب معرفته بالله تعالى و علمه بأن صفات المحدثين لا تجوز عليه و هذا اختيار أبي القاسم البلخي و غيره قال و زمان مهلة النظر هي أكثر من ساعة و أقل من شهر و لا يعلم ما بينهما إلا

500
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 500

الله تعالى (و ثانيها) أنه إنما قال ذلك قبل بلوغه و لما قارب كمال العقل حركته الخواطر فيما شاهده من هذه الحوادث فلما رأى الكوكب و نوره و إشراقه و زهوره ظن أنه ربه فلما أفل و انتقل من حال إلى حال قال لا أحب الآفلين‏ «فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً» عند طلوعه و رأى كبره و إشراقه و انبساط نوره و ضيائه في الدنيا «قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ» و صار مثل الكوكب في الأفول و الغيبوبة و علم أنه لا يجوز أن يكون ذلك صفة الإله‏ «قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي» إلى رشدي و لم يوفقني و يلطف بي في إصابة الحق من توحيده‏ «لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ» بعبادة هذه الحوادث‏ «فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً» أي طالعة و قد ملأت الدنيا نورا و رأى عظمها و كبرها «قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ» من الكوكب و القمر «فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ» حينئذ لقومه‏ «يا قَوْمِ إِنِّي بَرِي‏ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ» مع الله الذي خلقني و خلقكم في عبادته من آلهتكم فلما أكمل الله عقله و ضبط بفكره النظر في حدوث الأجسام بأن وجدها غير منفكة من المعاني المحدثة و أنه لا بد لها من محدث قال حينئذ لقومه‏ «إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ» أي نفسي‏ «لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ حَنِيفاً» أي مخلصا مائلا عن الشرك إلى الإخلاص‏ «وَ ما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ» و هذا اختيار أبي علي الجبائي و يسأل عن القول الأول كيف قال (ع) هذا ربي مخبرا و هو غير عالم بما يخبر به و الإخبار بما لا يأمن المخبر أن يكون فيه كاذبا قبيح و الجواب عنه من وجهين (أحدهما) أنه لم يقل ذلك مخبرا و إنما قاله فارضا و مقدرا على سبيل التأمل كما يفرض أحدنا إذا نظر في حدوث الأجسام كونها قديمة ليتبين ما يؤدي إليه الفرض من الفساد و لا يكون بذلك مخبرا في الحقيقة (و الآخر) أنه أخبر عن ظنه و قد يجوز أن يظن المتفكر في حال فكره و نظره ما لا أصل له ثم يرجع عنه بالأدلة.

 (سؤال آخر) كيف تعجب إبراهيم (ع) من رؤية هذه الأشياء تعجب من لم يكن رآها و كيف يجوز أن يكون مع كمال عقله لم يشاهد السماء و الكواكب و الجواب أنه لا يمتنع أن يكون (ع) ما رأى السماء إلا في ذلك الوقت لأنه قد روي أن أمه كانت ولدته في مغارة خوفا من أن يقتله نمرود و من يكون في المغارة لا يرى السماء فلما قارب البلوغ و بلغ حد التكليف خرج من المغارة و رأى السماء و قد يجوز أيضا أن يكون قد رأى السماء قبل ذلك إلا أنه لم يفكر في إعلامها لأن الفكر لم يكن واجبا عليه و حين كمل عقله فكر في ذلك (و ثالثها) أن إبراهيم (ع) لم يقل‏ «هذا رَبِّي» على طريق الشك بل كان عالما موقنا أن ربه سبحانه لا يجوز أن يكون بصفة الكواكب و إنما قال ذلك على سبيل الإنكار على قومه و التنبيه لهم على أن‏

501
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 500

يكون إلها معبودا لا يكون بهذه الصفة الدالة على الحدوث و يكون قوله‏ «هذا رَبِّي» محمولا على أحد الوجهين إما على أنه كذلك عندكم و في مذاهبكم كما يقول أحدنا للمشبه هذا ربه جسم يتحرك و يسكن و إما على أن يكون قال ذلك مستفهما و أسقط حرف الاستفهام للاستغناء عنه و قد كثر مجي‏ء ذلك في كلام العرب قال أوس بن حجر:

لعمرك لا أدري و إن كنت داريا

 

 شعيب بن سهم أم شعيب بن منقر

 

و قال الأخطل:

كذبتك عينك أم رأيت بواسط

 

 غلس الظلام من الرباب خيالا

 

و قال عمرو بن أبي ربيعة:

ثم قالوا تحبها قلت بهرا

 

 عدد القطر و الحصى و التراب‏

 

أي أ تحبها؟ و قال آخر:

رفوني و قالوا يا خويلد لا ترع‏

 

 فقلت و أنكرت الوجوه هم هم‏

 

أي أ هم هم و روي عن ابن عباس أنه قال في قوله‏ «فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ» معناه أ فلا اقتحم فحذف حرف الاستفهام (و رابعها) أنه (ع) إنما قال استخداعا للقوم يريهم قصور علمهم و بطلان عبادتهم لمخلوق جار عليه أعراض الحوادث فإنهم كانوا يعبدون الشمس و القمر و الكواكب و بعضهم يعبدون النيران و بعضهم يعبدون الأوثان فلما رأى الكوكب الذي كانوا يعبدونه قال لهم هذا ربي في زعمكم كما قال‏ «أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ» فأضافه إلى نفسه حكاية لقولهم فكأنه قال لهم هذا ربي في قولكم و قيل أنه نوى في قلبه الشرط أي إن كان ربكم هذا الحجر كما تزعمون فهذا الكوكب و هذا القمر و الشمس ربي و لم يكن الحجر ربهم و لا الكوكب ربه و في هذه الآيات دلالة على حدوث الأجسام و إثبات الصانع و إنما استدل إبراهيم بالأفول على حدوثها لأن حركتها بالأفول أظهر و من الشبهة أبعد

502
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[القصة] ص : 503

 

و إذا جازت عليها الحركة و السكون فلا بد أن تكون مخلوقة محدثة و إذا كانت محدثة فلا بد لها من محدث و المحدث لا بد أن يكون قادرا ليصح منه الإحداث و إذا أحدثها على غاية الانتظام و الإحكام فلا بد أن يكون عالما و إذا كان قادرا عالما وجب أن يكون حيا موجودا و فيها تنبيه لمشركي العرب و زجر لهم عن عبادة الأصنام و حث لهم على سلوك طريق أبيهم إبراهيم (ع) في النظر و التفكر لأنهم كانوا يعظمون آباءهم فأعلمهم سبحانه أن اتباع الحق من دين إبراهيم الذي يقرون بفضله أوجب عليهم.

 [القصة]

ذكر أهل التفسير و التاريخ أن إبراهيم (ع) ولد في زمن نمرود بن كنعان و زعم بعضهم أن نمرود كان من ولاة كيكاوس و بعضهم قال كان ملكا برأسه و قيل لنمرود أنه يولد في بلده هذه السنة مولود يكون هلاكه و زوال ملكه على يده ثم اختلفوا فقال بعضهم إنما قالوا ذلك من طريق التنجيم و التكهن و قال آخرون بل وجد ذلك في كتب الأنبياء و قال آخرون رأى نمرود كان كوكبا طلع فذهب بضوء الشمس و القمر فسأل عنه فعبر بأنه غلام يذهب ملكه على يده عن السدي فعند ذلك أمر بقتل كل ولد يولد تلك السنة و أمر بأن يعزل الرجال عن النساء و بأن يتفحص عن أحوال النساء فمن وجدت حبلى تحبس حتى تلد فإن كان غلاما قتل و إن كانت جارية خليت حتى حبلت أم إبراهيم فلما دنت ولادة إبراهيم خرجت أمه هاربة فذهبت به إلى غار و لفته في خرقة ثم جعلت على باب الغار صخرة ثم انصرفت عنه فجعل الله رزقه في إبهامه فجعل يمصها فتشخب لبنا و جعل يشب في اليوم كما يشب غيره في الجمعة و يشب في الجمعة كما يشب غيره في الشهر و يشب في الشهر كما يشب غيره في السنة فمكث ما شاء الله أن يمكث و قيل كانت تختلف إليه أمه فكان يمص أصابعه فوجدته يمص من أصبع ماء و من أصبع لبنا و من أصبع عسلا و من أصبع تمرا و من أصبع سمنا عن أبي روق و محمد بن إسحاق و لما خرج من السرب نظر إلى النجم و كان آخر الشهر فرأى الكوكب قبل القمر ثم رأى القمر ثم رأى الشمس فقال ما قال و لما رأى قومه يعبدون الأصنام خالفهم و كان يعيب آلهتهم حتى فشا أمره و جرت المناظرات.

 [سورة الأنعام (6): الآيات 80 الى 81]

وَ حاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَ تُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَ قَدْ هَدانِ وَ لا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْ‏ءٍ عِلْماً أَ فَلا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَ كَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَ لا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81)

 

503
مجمع البیان في تفسير القرآن4

القراءة ص : 504

القراءة

قرأ أهل المدينة و ابن عامر في رواية ابن ذكوان أ تحاجوني خفيفة النون و الباقون بالتشديد.

الحجة

قال أبو علي لا نظير في قول من شدد فأما وجه التخفيف فإنه حذفت النون الثانية لالتقاء النونين و التضعيف يكره فيتوصل إلى إزالته تارة بالحذف نحو علماء بنو فلان و تارة بالإبدال نحو لا أملاه حتى تفارقا نحو ديوان و قيراط فحذفوا النون الثانية كراهة التضعيف و لا يجوز أن تكون المحذوفة الأولى لأن الاستثقال يقع بالتكرير في الأمر الأعم و في الأولى أيضا أنها دلالة الإعراب و إنما حذفت الثانية كما حذفتها في ليتي في نحو قوله:

إذ قال ليتي أصادفه و يذهب بعض مالي‏

 

 

 

و قوله:

تراه كالثغام يعل مسكا

 

 يسوء الفاليات إذا فليني‏

 

فالمحذوفة المصاحبة للياء ليسلم سكون لام الفعل و ما يجري مجراها أو حركتها و لا يجوز أن يكون المحذوفة الأولى لأن الفعل يبقى بلا فاعل كما لا تحذف الأولى في أ تحاجوني لأنها للإعراب و يدل على أن المحذوفة الثانية أنها حذفت مع الجار أيضا في نحو قوله:

قدني من نصر الخبيبين قدي‏

 

 

 

و قد جاء حذف هذه النون في كلامهم قال الشاعر:

أ بالموت الذي لا بد أني‏

 

 ملاق لا أباك تخوفيني‏

 

و قال:

504
مجمع البیان في تفسير القرآن4

الإعراب ص : 505

تذكرونا إذ نقاتلكم‏

 

 لا يضر معدما عدمه.

 

الإعراب‏

موضع أن يشاء نصب أي لا أخاف إلا مشيئة الله و هذا استثناء منقطع و قيل متصل و تقديره لا أخافهم إلا أن يشاء ربي إحياءهم و اقتدارهم و علما منصوب على التمييز.

المعنى‏

ثم ذكر سبحانه محاجة إبراهيم مع قومه فقال‏ «وَ حاجَّهُ قَوْمُهُ» أي خاصموه و جادلوه في الدين و خوفوه من ترك عبادة آلهتهم‏ «قالَ» أي إبراهيم لهم‏ «أَ تُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَ قَدْ هَدانِ» أي وفقني لمعرفته و لطف بي في العلم بتوحيده و ترك الشرك و إخلاص العبادة له‏ «وَ لا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ» أي لا أخاف منه ضررا إن كفرت به و لا أرجو نفعا إن عبدته لأنه بين صنم قد كسر فلم يدفع عن نفسه و نجم دل أفوله على حدوثه فكيف تحاجونني و تدعونني إلى عبادة من لا يخاف ضره و لا يرجى نفعه‏ «إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً» فيه قولان (أحدهما) أن معناه إلا أن يغلب الله هذه الأصنام التي تخوفونني بها فيحييها و يقدرها فتضر و تنفع فيكون ضررها و نفعها إذ ذاك دليلا على حدوثها أيضا و على توحيد الله و على أنه المستحق للعبادة دون غيره و أنه لا شريك له في ملكه ثم أثنى على الله سبحانه فقال‏ «وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْ‏ءٍ عِلْماً» أي هو عالم بكل شي‏ء ثم أمرهم بالتذكر و التدبر فقال‏ «أَ فَلا تَتَذَكَّرُونَ» و الثاني قول الحسن معناه لا أخاف الأوثان إلا أن يشاء ربي أن يعذبني ببعض ذنوبي أو يشاء الإضرار بي ابتداء و الأول أجود ثم احتج (ع) عليهم و أكد الحجاج بقوله‏ «وَ كَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ» أي كيف تلزمونني أن أخاف ما أشركتم به من الأوثان المخلوقة و قد تبين حالهم في أنهم لا يضرون و لا ينفعون‏ «وَ لا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ» أي و لا تخافون من هو القادر على الضر و النفع بل تجرؤون عليه بأن أشركتم أي جعلتم له شركاء في ملكه و تعبدونهم من دونه و قيل معناه كيف أخاف شرككم و أنا منه بري‏ء و الله تعالى لا يعاقبني بفعلكم و أنتم لا تخافون و قد أشركتم به فيكون على هذا ما في قوله‏ «ما أَشْرَكْتُمْ» مصدرية «ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً» أي حجة على صحته و هذا يدل على أن كل من قال قولا أو اعتقد مذهبا بغير حجة فهو مبطل‏ «فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ» أ نحن و قد عرفنا الله بأدلته و وجهنا العبادة نحوه أم أنتم و قد أشركتم بعبادة غيره من الأصنام و لو أطرحتم العصبية و الحمية لما وجدتم لهذا الحجاج مدفعا «إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» أي تستعملون عقولكم و علومكم فتميزون الحق من الباطل و الدليل من الشبهة.

505
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأنعام(6): آية 82] ص : 506

 

 [سورة الأنعام (6): آية 82]

الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَ هُمْ مُهْتَدُونَ (82)

اللغة

قال الأصمعي الظلم في اللغة وضع الشي‏ء في غير موضعه قال الشاعر يمدح قوما:

" هرت الشقاشق ظلامون للجزر"

 

 

 

يريد أنهم عرقبوها فوضعوا النحر غير موضعه و قال النابغة:

" و النؤي كالحوض بالمظلومة الجلد"

 

 

 

يريد الأرض التي صرف عنها المطر و إنما سماها مظلومة لأنهم يتحوضون فيها حوضا لم يحكموا صنعه و لم يضعوه في موضعه لكونهم مسافرين.

المعنى‏

لما تقدم قوله سبحانه‏ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ‏ أي بأن يأمن من العذاب الموحد أم المشرك عقبه ببيان من هو أحق به فقال‏ «الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ» معناه الذين عرفوا الله تعالى و صدقوا به و بما أوجبه عليهم و لم يخلطوا ذلك بظلم و الظلم هو الشرك عن ابن عباس و سعيد بن المسيب و قتادة و مجاهد و أكثر المفسرين و روي عن أبي بن كعب أنه قال أ لم تسمع قوله سبحانه‏ «إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ» و هو المروي عن سلمان الفارسي و حذيفة بن اليمان‏

و روي عن عبد الله بن مسعود قال‏ لما نزلت هذه الآية شق على الناس و قالوا يا رسول الله و أينا لم يظلم نفسه فقال ص أنه ليس الذي تعنون أ لم تستمعوا إلى ما قال العبد الصالح‏ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ‏

و قال الجبائي و البلخي يدخل في الظلم كل كبيرة تحبط ثواب الطاعة و قال البلخي و لو اختص الشرك على ما قالوه لوجب أن يكون مرتكب الكبيرة إذا كان مؤمنا كان آمنا و ذلك خلاف القول بالإرجاء و هذا لا يلزم لأنه قول بدليل الخطاب و مرتكب الكبيرة غير آمن و إن كان ذلك معلوما بدليل آخر «أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ» من الله بحصول الثواب و الأمان من العقاب‏ «وَ هُمْ مُهْتَدُونَ» أي محكوم لهم بالاهتداء إلى الحق و الدين و قيل إلى الجنة و اختلف في هذه الآية فقيل أنه من تمام قول‏

 

506
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأنعام(6): الآيات 83 الى 87] ص : 507

 

إبراهيم (ع) و قيل إن هذا القول من الله تعالى على جهة فصل القضاء بذلك بين إبراهيم (ع) و قومه عن محمد بن إسحاق و ابن زيد و الجبائي.

 [سورة الأنعام (6): الآيات 83 الى 87]

وَ تِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى‏ قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83) وَ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَ نُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَ سُلَيْمانَ وَ أَيُّوبَ وَ يُوسُفَ وَ مُوسى‏ وَ هارُونَ وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَ زَكَرِيَّا وَ يَحْيى‏ وَ عِيسى‏ وَ إِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَ إِسْماعِيلَ وَ الْيَسَعَ وَ يُونُسَ وَ لُوطاً وَ كلاًّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ (86) وَ مِنْ آبائِهِمْ وَ ذُرِّيَّاتِهِمْ وَ إِخْوانِهِمْ وَ اجْتَبَيْناهُمْ وَ هَدَيْناهُمْ إِلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (87)

القراءة

قرأ أهل الكوفة و يعقوب‏ «دَرَجاتٍ» منونا و الباقون درجات من نشاء بالإضافة و قرأ أهل الكوفة غير عاصم و الليسع بتشديد اللام و فتحها و سكون الياء هاهنا و في ص و الباقون‏ «وَ الْيَسَعَ» بسكون اللام و فتح الياء.

الحجة

من أضاف درجات ذهب إلى أن المرفوعة هي الدرجات لمن يشاء و من نون ذهب إلى أن المرفوع صاحب الدرجات و يقوي قراءة من أضاف قوله‏ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى‏ بَعْضٍ‏ فمن فضل على غيره فقد رفعت درجته عليه و يدل على قراءة من نون قوله‏ «وَ رَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ» لأنه في ذكر الرسل فأما قوله‏ «وَ رَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا» فإنه في الرتب و ارتفاع الأحوال في الدنيا و اتضاعها لأن قبله نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا و أما من قرأ الليسع باللام فإن هذه اللام‏

 

507
مجمع البیان في تفسير القرآن4

الحجة ص : 507

زائدة قال أبو علي اعلم أن لام المعرفة يدخل الأسماء على ضربين (أحدهما) للتعريف و الآخر زيادة زيدت كما تزاد الحروف و التعريف على ضروب منها أن يكون إشارة إلى معهود بينك و بين المخاطب نحو الرجل إذا أردت به رجلا عرفتماه بعهد كان بينكما (و الآخر) أن يكون إشارة إلى ما في نفوس الناس من علمهم للجنس فهذا الضرب و إن كان معرفة كالأول فهو مخالف له من حيث كان الأول قد علمه حسا و هذا لم يعلمه كذلك إنما يعلمه معقولا و أما نحو مررت بهذا الرجل فإنما أشير به إلى الشاهد الحاضر لا إلى غائب معلوم بعهد أ لا ترى أنك تقول ذلك فيما لا عهد بينك فيه و بين مخاطبك و يدلك على ذلك قولك في النداء يا أيها الرجل فتشير به إلى المخاطب الحاضر فأما نحو العباس و الحارث و الحسن فإنما دخلت الألف و اللام فيها على تنزيل أنها صفات جارية على موصوفين و هذا، يعني الخليل بقوله جعلوه الشي‏ء بعينه فإذا لم ينزل هذا التنزيل لم يلحقوها الألف و اللام فقالوا حارث و عباس و على كلا المذهبين جاء ذلك في كلامهم قال الفرزدق:

يقعدهم أعراق حذيم بعد ما

 

 رجا الهتم إدراك العلى و المكارم‏

 

و قال:

ثلاث مئين للملوك وفى بها

 

 ردائي و جلت عن وجوه الأهاتم‏

 

فجعله مرة اسما بمنزلة أضحاة و أضاح و مرة صفة بمنزلة أحمر و حمر و جمع الأعشى بين الأمرين في قوله:

أتاني وعيد الحوص من آل جعفر

 

 فيا عبد عمرو لو نهيت الأحاوصا

 

و أما قوله:

و التيم الأم من يمشي و ألأمهم‏

 

 ذهل بن تيم بنو السود المدانيس‏

 

فإنه يحتمل أمرين يجوز أن يكون بمنزلة العباس لأن التيم مصدر و المصادر قد أجريت مجرى‏

508
مجمع البیان في تفسير القرآن4

الإعراب ص : 509

أسماء الفاعلين فوصف بها كما وصف بأسماء الفاعلين و جمع جمعها في نحو نور و أنوار و سيل و سوائل و على هذا قالوا الفضل في اسم رجل كأنهم جعلوه الشي‏ء الذي هو خلاف النقص و الآخر أن يكون تيمي و تيم كزنجي و زنج فأما الألف و اللام في الليسع فلا يخلو أن تكون زائدة أو غير زائدة فإن كانت غير زائدة فلا يخلو أن يكون على حد الرجل إذا أردت به المعهود أو الجنس نحو إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ أو على دخولهما في العباس فلا يجوز أن يكون على واحد من ذلك فثبت أنه زيادة و مما جاءت اللام فيه زائدة ما أنشده أحمد بن يحيى:

يا ليت أم العمرو كانت صاحبي‏

 

 مكان من أنشأ على الركائب‏

 

و مما جاءت الألف و اللام فيه زائدة الخمسة العشر درهما حكاه أبو الحسن الأخفش أ لا ترى أنهما اسم واحد و لا يجوز أن يعرف اسم واحد بتعريفين كما لا يجوز أن يتعرف بعض الاسم دون بعض و ذهب أبو الحسن إلى أن اللام في اللات زائدة لأن اللات معرفة فأما العزى فبمنزلة العباس و قياس قول أبي الحسن هذا أن يكون اللام في اليسع أيضا زائدة لأنه علم مثل اللات و ليس صفة و مما جاءت اللام فيه زائدة قول الشاعر:

وجدنا الوليد بن اليزيد مباركا

 

 شديدا بأعباء الخلافة كاهله‏

 

فأما من قال الليسع فإنه يكون اللام على حد ما في الحرث أ لا ترى أنه على وزن الصفات إلا أنه و إن كان كذلك فليس له مزية على القول الآخر أ لا ترى أنه لم يجي‏ء في الأسماء الأعجمية المنقولة في حال التعريف نحو إسماعيل و إسحاق شي‏ء على هذا النحو كما لم يجي‏ء فيها شي‏ء فيه لام التعريف فإذا كان كذلك كان الليسع بمنزلة اليسع في أنه خارج عما عليه الأسماء الأعجمية المختصة المعربة.

الإعراب‏

 «وَ تِلْكَ حُجَّتُنا» تلك مبتدأ و حجتنا خبره و الظاهر أن قوله‏ «عَلى‏ قَوْمِهِ» من صلة حجتنا أي و تلك حجتنا على قومه و إذا جعلت‏ «آتَيْناها» من صفة حجتنا كان فصلا بين الصلة و الموصول و ذلك لا يجوز فينبغي أن يكون متعلقا بمحذوف هذا الظاهر تفسير له كذا نقل عن أبي علي الجبائي.

509
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 510

المعنى‏

ثم بين سبحانه أن الحجج التي ذكرها إبراهيم (ع) لقومه آتاه إياها و أعطاها إياه بمعنى أنه هداه لها و أنه احتج بها بأمره فقال‏ «وَ تِلْكَ حُجَّتُنا» أي أدلتنا «آتَيْناها» أي أعطيناها «إِبْراهِيمَ» و أخطرناها بباله و جعلناها حججا «عَلى‏ قَوْمِهِ» من الكفار حتى تمكن من إيرادها عليهم عند المحاجة «نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ» من المؤمنين الذين يصدقون الله و رسوله و يطيعونه و نفضل بعضهم على بعض بحسب أحوالهم في الإيمان و اليقين‏ «إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ» يجعل التفاوت بينهم على ما توجبه حكمته و يقتضيه علمه و قيل معناه نرفع درجات من نشاء على الخلق بالاصطفاء للرسالة «وَ وَهَبْنا لَهُ» أي لإبراهيم‏ «إِسْحاقَ» و هو ابنه من سارة «وَ يَعْقُوبَ» ابن إسحاق‏ «كُلًّا هَدَيْنا» أي كل الثلاثة فضلنا بالنبوة كما قال سبحانه‏ «وَ وَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى‏» أي ذاهبا عن النبوة فهداك إليها و قيل معناه كلا هدينا بنيل الثواب و الكرامات عن الجبائي من الله سبحانه على إبراهيم بأن رزقه الولد و ولد الولد فإن من أفضل النعم على العبد أن يرزقه الله ولدا يدعو له بعد موته فكيف إذا رزق الولد و ولد الولد و هما نبيان مرسلان‏ «وَ نُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ» أي من قبل هؤلاء «وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ» أي من ذرية نوح لأنه أقرب المذكورين إليه و لأن فيمن عددهم من ليس من ذرية إبراهيم و هو لوط و إلياس و قيل أرادوا من ذرية إبراهيم‏ «داوُدَ» و هو داود بن أيشا «وَ سُلَيْمانَ» ابنه‏ «وَ أَيُّوبَ» و هو أيوب بن أموص بن رازج بن روم بن عيصا بن إسحاق ابن إبراهيم‏ «وَ يُوسُفَ» بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم‏ «وَ مُوسى‏» بن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب‏ «وَ هارُونَ» أخاه و كان أكبر منه بسنة «وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ» بنيل الثواب و الكرامات و قيل المراد به كما تفضلنا على هؤلاء الأنبياء بالنبوة فكذلك نتفضل على المحسنين بنيل الثواب و الكرامات‏ «وَ زَكَرِيَّا» و هو زكريا بن أذن بن بركيا «وَ يَحْيى‏» و هو ابنه‏ «وَ عِيسى‏» و هو ابن مريم بنت عمران بن ياشهم بن أمون بن حزقيا «وَ إِلْياسَ» و اختلف فيه فقيل أنه إدريس كما قيل ليعقوب إسرائيل عن عبد الله بن مسعود و قيل هو إلياس بن بستر بن فنحاص بن العيزار بن هارون بن عمران نبي الله عن ابن إسحاق و قيل هو الخضر عن كعب‏ «كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ» أي من الأنبياء و المرسلين‏ «وَ إِسْماعِيلَ» و هو ابن إبراهيم‏ «وَ الْيَسَعَ» بن أخطوب بن العجوز «وَ يُونُسَ» بن متى‏ «وَ لُوطاً» و هو لوط بن هارون بن أخي إبراهيم و قيل هو ابن أخته‏ «وَ كلًّا» أي و كل واحد منهم‏ «فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ» أي عالمي زمانه و من قال أن الهاء في قوله‏ «وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ» كناية عن إبراهيم قال أنه سمى ذريته إلى قوله‏ «وَ كَذلِكَ نَجْزِي‏

510
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأنعام(6): الآيات 88 الى 90] ص : 511

 

الْمُحْسِنِينَ» ثم عطف قوله‏ «وَ زَكَرِيَّا وَ يَحْيى‏» على قوله‏ «وَ نُوحاً هَدَيْنا» و لا يمتنع أيضا أن يكون غلب الأكثر الذين هم من نسل إبراهيم على أن الرواية التي جاءت عن ابن مسعود أن إلياس إدريس هو جد نوح إذا لم تضعف قول من قال إن الهاء كناية عن نوح فكذلك إذا لم يكن لوط من ذرية إبراهيم لم يضعف قول من قال إن الهاء كناية عن إبراهيم و قال الزجاج يجوز أن يكون من ذريته من ذرية نوح و يجوز أن يكون من ذرية إبراهيم لأن ذكرهما جميعا قد جرى و أسماء الأنبياء التي جاءت بعد قوله‏ «وَ نُوحاً» نسق على نوح و إذا جعل الله سبحانه عيسى من ذرية إبراهيم (ع) أو نوح ففي ذلك دلالة واضحة و حجة قاطعة على أن أولاد الحسن و الحسين (ع) ذرية رسول الله (ص) على الإطلاق و إنهما ابنا رسول الله (ص)

و قد صح في الحديث أنه قال لهما ع‏ ابناي هذان إمامان قاما أو قعدا

و قال للحسن (ع) أن ابني هذا سيد

و إن الصحابة كانت تقول لكل منهما و من أولادهما يا ابن رسول الله‏ «وَ مِنْ آبائِهِمْ» يعني و من آباء هؤلاء الأنبياء «وَ ذُرِّيَّاتِهِمْ وَ إِخْوانِهِمْ» جماعة فضلناهم و قال الزجاج معناه هدينا هؤلاء و هدينا بعض آبائهم و إخوانهم‏ «وَ اجْتَبَيْناهُمْ» أي اصطفيناهم و اخترناهم للرسالة و هو مأخوذ من جبيت الماء في الحوض إذا جمعته‏ «وَ هَدَيْناهُمْ» أي سددناهم و أرشدناهم فاهتدوا «إِلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» أي طريق بين لا اعوجاج فيه و هو الدين الحق.

 [سورة الأنعام (6): الآيات 88 الى 90]

ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ لَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (88) أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَ الْحُكْمَ وَ النُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ (89) أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرى‏ لِلْعالَمِينَ (90)

القراءة

قرأ ابن عامر وحده اقتده بكسر الهاء مشبعة و الباقون‏ «اقْتَدِهْ» ساكنة الهاء إلا

 

511
مجمع البیان في تفسير القرآن4

الحجة ص : 512

أن حمزة و الكسائي و يعقوب و خلفا يحذفون الهاء في الوصل و يثبتونها في الوقف و الباقون يثبتونها في الوصل و الوقف.

الحجة

قال أبو علي الوجه الوقوف على الهاء لاجتماع الجمهور على إثباته و لا ينبغي أن يوصل و الهاء ثابتة لأن هذه الهاء في السكت بمنزلة همزة الوصل في الابتداء في أن الهاء للوقف كما أن همزة الوصل للابتداء بالساكن فكما لا تثبت الهمزة في الوصل كذلك ينبغي أن لا تثبت الهاء و وجه قراءة ابن عامر أن يجعل الهاء كناية عن المصدر لا التي تلحق الوقف و حسن إضماره لذكر الفعل الدال عليه و مثل ذلك قول الشاعر:

فجال على وحشييه و تخاله‏

 

 على ظهره سبا جديدا يمانيا

 

كأنه قال و تخال خيلا على ظهره سبا فعلى متعلق بمحذوف و التقدير ثابتا على ظهره و مثله قول الشاعر:

هذا سراقة للقرآن يدرسه‏

 

 و المرء عند الرشى إن يلقها ذيب‏

 

فالهاء كناية عن المصدر و دل يدرسه على الدرس و لا يجوز أن يكون ضمير القرآن لأن الفعل قد تعدى إليه باللام فلا يجوز أن يتعدى إليه و إلى ضميره.

المعنى‏

ثم بين سبحانه إكرامه لأنبيائه (ع) ثم أمر من بعد بالاقتداء بهم فقال‏ «ذلِكَ» و هو إشارة إلى ما تقدم ذكره من التفضيل و الاجتباء و الهداية و الاصطفاء «هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ» ممن لم يسمهم في هذه الآيات و الهداية هنا هي الإرشاد إلى الثواب دون الهداية التي هي نصب الأدلة أ لا ترى إلى قوله‏ «وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ» و ذلك لا يليق إلا بالثواب الذي يختص المحسنين دون الدلالة التي يشترك بها المؤمن و الكافر و قوله‏ «وَ لَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» يدل أيضا على ذلك‏

512
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 512

و معناه أنهم لو أشركوا لبطلت أعمالهم التي كانوا يوقعونها على خلاف الوجه الذي يستحق به الثواب لتوجيهها إلى غير الله تعالى و ليس في ذلك دلالة على أن الثواب الذي استحقوه على طاعتهم المتقدمة يحبط إذ ليس في ظاهر الآية ما يقتضي ذلك على أنا قد علمنا بالدليل أن المشرك لا يكون له ثواب أصلا و اجتمعت الأمة على ذلك‏ «أُولئِكَ» يعني به من تقدم ذكرهم من الأنبياء «الَّذِينَ آتَيْناهُمُ» أي أعطيناهم‏ «الْكِتابَ» أراد الكتب و وحد لأنه عنى به الجنس‏ «وَ الْحُكْمَ» معناه و الحكم بين الناس و قيل الحكمة «وَ النُّبُوَّةَ» أي الرسالة «فَإِنْ يَكْفُرْ بِها» أي بالكتاب و الحكم و بالنبوة و «هؤُلاءِ» يعني الكفار الذين جحدوا نبوة النبي (ص) في ذلك الوقت‏ «فَقَدْ وَكَّلْنا بِها» أي بمراعاة أمر النبوة و تعظيمها و الأخذ بهدى الأنبياء «قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ» و اختلف في المعنيين بذلك فقيل عنى به الأنبياء الذين جرى ذكرهم آمنوا بما أتى به النبي (ص) قبل وقت مبعثه عن الحسن و اختاره الزجاج و الطبري و الجبائي و قيل عنى به الملائكة عن أبي رجاء العطاردي و قيل عنى به من آمن من أصحاب النبي (ص) في وقت مبعثه و قيل عنى بقوله‏ «فَإِنْ يَكْفُرْ بِها» كفار قريش و بقوله‏ «قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ» أهل المدينة عن الضحاك و اختاره الفراء و إنما قال‏ «وَكَّلْنا بِها» و لم يقل فقد قام بها قوم تشريفا لهم بالإضافة إلى نفسه و قيل معناه فقد ألزمناها قوما فقاموا بها و في هذا ضمان من الله تعالى أن ينصر نبيه ص و يحفظ دينه‏ «أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ» أي هداهم الله إلى الصبر «فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ» معناه اقتد بهم في الصبر على أذى قومك و اصبر كما صبروا حتى تستحق من الثواب ما استحقوه و قيل معناه أولئك الذين قبلوا هدى الله و اهتدوا بلطف الله الذي فعله بهم فاقتد بطريقتهم في التوحيد و الأدلة و تبليغ الرسالة و الإشارة بأولئك إلى الأنبياء الذين تقدم ذكرهم عن ابن عباس و السدي و ابن زيد و قيل إلى المؤمنين الموكلين بحفظ دين الله لأنه في ذكرهم عن الحسن و قتادة و على هذا فلم يتكرر لفظ الهداية و في القول الأول أعاد ذكر الهداية لطول الكلام و يكون معنى قوله‏ «فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ» اقتد بصبر أيوب و سخاء إبراهيم و صلابة موسى و زهد عيسى ثم فسر بعض ما يقتدى بهم فيه بقوله‏ «قُلْ» يا محمد «لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً» أي لا أطلب منكم على تبليغ الوحي و أداء الرسالة جعلا كما لم يسأل ذلك الأنبياء قبلي فإن أخذ الأجر عليه ينفر الناس عن القبول‏ «إِنْ هُوَ» أي ما هو «إِلَّا ذِكْرى‏» أي تذكيرا «لِلْعالَمِينَ» بما يلزمهم إتيانه و اجتنابه و في هذه الآية دلالة على أنه لا يخلو كل زمان من حافظ للدين إما نبي أو إمام لقوله‏ «فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً» و أسند

513
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأنعام(6): آية 91] ص : 514

 

التوكيل إلى نفسه و قد استدل قوم بالآية على أن النبي (ص) و أمته كانوا متعبدين بشرائع من قبلهم إلا ما قام الدليل على نسخه و هذا لا يصح لأن الآية قد وردت فيما اتفقوا عليه على ما تقدم ذكره و ذلك لا يليق إلا بالتوحيد و مكارم الأخلاق فأما الشرائع فإنها تختلف فلا يصح الاقتداء بجميع الأنبياء فيها و تدل الآية على أن نبينا مبعوث إلى كافة العالمين و إن النبوة مختومة به و لذلك قال‏ «إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى‏ لِلْعالَمِينَ».

 [سورة الأنعام (6): آية 91]

وَ ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى‏ بَشَرٍ مِنْ شَيْ‏ءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى‏ نُوراً وَ هُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَ تُخْفُونَ كَثِيراً وَ عُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَ لا آباؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91)

القراءة

قرأ ابن كثير و أبو عمرو يجعلونه قراطيس يبدونها و يخفون بالياء فيها و الباقون بالتاء في الجميع.

الحجة

من قرأ بالياء فلأن ما قبله‏ «ما قَدَرُوا اللَّهَ» على الغيبة و من قرأ بالتاء فعلى الخطاب من قوله‏ «قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ» و قوله (فيما بعد) «وَ عُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا».

الإعراب‏

 «حَقَّ قَدْرِهِ» منصوب على المصدر «تُبْدُونَها وَ تُخْفُونَ كَثِيراً» يجوز أن يكون صفة لقراطيس لأن النكرات توصف بالجمل و يجوز أن يكون حالا من ضمير الكتاب في‏ «تَجْعَلُونَهُ» على أن تجعل القراطيس الكتاب في المعنى لأنه مكتوب فيها و إنما رفع قوله‏ «يَلْعَبُونَ» لأنه لم يجعله جوابا لقوله‏ «ذَرْهُمْ» و لو جعله جوابا لجزمه كما قال سبحانه‏ «ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا» و موضع‏ «يَلْعَبُونَ» نصب على الحال و التقدير ذرهم لاعبين في خوضهم.

النزول‏

جاء رجل من اليهود يقال له مالك بن الضيف يخاصم النبي (ص) فقال له النبي (ص) أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى أ ما تجد في التوراة إن الله سبحانه يبغض‏

 

514
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 515

الحبر السمين و كان سمينا فغضب و قال ما أنزل الله على بشر من شي‏ء فقال له أصحابه ويحك و لا موسى فنزلت الآية

عن سعيد بن جبير و قيل إن الرجل كان فنحاص بن عازورا و هو قائل هذه المقالة عن السدي و

قيل أن اليهود قالت يا محمد أنزل الله عليك كتابا قال نعم قالوا و الله ما أنزل الله من السماء كتابا فنزلت الآية

عن ابن عباس و في رواية أخرى عنه أنها نزلت في الكفار أنكروا قدرة الله عليهم فمن أقر أن الله على كل شي‏ء قدير فقد قدر الله حق قدره و قيل نزلت في مشركي قريش عن مجاهد.

المعنى‏

لما تقدم ذكر الأنبياء و النبوة عقبه سبحانه بالتهجين لمن أنكر النبوة فقال‏ «وَ ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ» أي ما عرفوا الله حق معرفته و ما عظموه حق عظمته و ما وصفوه بما هو أهل أن يوصف به‏ «إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى‏ بَشَرٍ مِنْ شَيْ‏ءٍ» أي ما أرسل الله رسولا و لم ينزل على بشر شيئا مع أن المصلحة و الحكمة تقتضيان ذلك و المعجزات الباهرة تدل على بعثة كثير منهم ثم أمر سبحانه نبيه (ص) فقال‏ «قُلْ» يا محمد لهم‏ «مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى‏» يعني التوراة و إنما احتج بذلك عليهم لأن القائل لذلك من اليهود و من قال أن المعني بالآية مشركو العرب قال احتج عليهم بالأمر الظاهر ثم بين أن منزلة محمد في ذلك كمنزلة موسى‏ «نُوراً» أي يستضاء به في الدين كما يستضاء بالنور في الدنيا «وَ هُدىً لِلنَّاسِ» أي دلالة يهتدون به‏ «تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ» أي كتبا و صحفا متفرقة و قال أبو علي الفارسي معناه تجعلونه ذا قراطيس أي تودعونه إياها «تُبْدُونَها وَ تُخْفُونَ كَثِيراً» أي تبدون بعضها و تكتمون بعضها و هو ما في الكتب من صفات النبي (ص) و الإشارة إليه و البشارة به‏ «وَ عُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَ لا آباؤُكُمْ» قيل إنه خطاب للمسلمين يذكرهم ما أنعم به عليهم عن مجاهد و قيل هو خطاب لليهود أي علمتم التوراة فضيعتموه و لم تنتفعوا به و قيل معناه علمتم بالقرآن ما لم تعلموا عن الحسن‏ «قُلْ» يا محمد «اللَّهَ» أي الله أنزل ذلك و هذا كما إن الإنسان إذا أراد البيان و الاحتجاج بما يعلم أن الخصم مقر به و لا يستطيع دفعه ذكر ذلك ثم تولى الجواب عنه بما قد علم أنه لا جواب له غيره‏ «ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ» أي دعهم و ما يختارونه من العناد و ما خاضوا فيه من الباطل و اللعب و ليس هذا على إباحة ترك الدعاء و الإنذار بل على ضرب من التوعد و التهدد كأنه قال دعهم فسيعلمون عاقبة أمرهم.

515
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأنعام(6): آية 92] ص : 516

 

 [سورة الأنعام (6): آية 92]

وَ هذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَ لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى‏ وَ مَنْ حَوْلَها وَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ هُمْ عَلى‏ صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (92)

القراءة

قرأ أبو بكر عن عاصم لينذر بالياء و الباقون بالتاء.

الحجة

من قرأ بالتاء يؤيد قراءة قوله‏ «وَ أَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ» و «إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها» و من قرأ بالياء جعل المنذر هو الكتاب و يؤيده قوله‏ وَ لِيُنْذَرُوا بِهِ‏ و إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ‏ فلا يمتنع إسناد الإنذار إليه على وجه التوسع.

الإعراب‏

 «أَنْزَلْناهُ» جملة مرفوعة الموضع صفة لكتاب و مبارك أيضا صفة له.

المعنى‏

لما احتج سبحانه بإنزال التوراة على موسى ع بين أن سبيل القرآن سبيلها فقال‏ «وَ هذا كِتابٌ» يعني القرآن‏ «أَنْزَلْناهُ» من السماء إلى الأرض لأن جبرائيل (ع) أتى به من السماء «مُبارَكٌ» و إنما سماه مباركا لأنه ممدوح مستسعد به فكل من تمسك به نال الفوز عن أبي مسلم و قيل إن البركة ثبوت الخير على النماء و الزيادة و منه تبارك الله أي ثبت له ما يستحق به التعظيم لم يزل و لا يزال فالقرآن مبارك لأن قراءته خير و العمل به خير و فيه علم الأولين و الآخرين و فيه مغفرة للذنوب و فيه الحلال و الحرام و قيل البركة الزيادة فالقرآن مبارك لما فيه من زيادة البيان على ما في الكتب المتقدمة لأنه ناسخ لا يرد عليه نسخ لبقائه إلى آخر التكليف‏ «مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ» من الكتب كالتوراة و الإنجيل و غيرهما عن الحسن و تصديقه للكتب على وجهين (أحدهما) أنه يشهد بأنها حق (و الثاني) أنه ورد بالصفة التي نطقت بها الكتب المتقدمة «وَ لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى‏ وَ مَنْ حَوْلَها» يعني بأم القرى مكة و من حولها أهل الأرض كلهم عن ابن عباس و هو من باب حذف المضاف يريد لتنذر أهل أم القرى و إنما سميت مكة أم القرى لأن الأرض دحيت من تحتها فكان الأرض نشأت منها و قيل لأن أول بيت وضع في الدنيا وضع بمكة فكان القرى تنشأت‏

 

516
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأنعام(6): آية 93] ص : 517

 

منها عن السدي و قيل لأن على جميع الناس أن يستقبلوها و يعظموها لأنها قبلتهم كما يجب تعظيم الأم عن الزجاج و الجبائي‏ «وَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ» أي بالقرآن و يحتمل أن يكون كناية عن محمد ص لدلالة الكلام عليه‏ «وَ هُمْ عَلى‏ صَلاتِهِمْ» أي على أوقات صلواتهم‏ «يُحافِظُونَ» أي يراعونها ليؤدوها فيها و يقوموا بإتمام ركوعها و سجودها و جميع أركانها و في هذا دلالة على أن المؤمن لا يجوز أن يكون مؤمنا ببعض ما أوجبه الله دون بعض و فيها دلالة على عظم قدر الصلاة و منزلتها لأنه سبحانه خصها بالذكر من بين الفرائض و نبه على أن من كان مصدقا بالقيامة و بالنبي ص لا يخل بها و لا يتركها.

 [سورة الأنعام (6): آية 93]

وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى‏ عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَ لَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْ‏ءٌ وَ مَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَ لَوْ تَرى‏ إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَ الْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَ كُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93)

اللغة

أصل الافتراء القطع من فريت الأديم أفريه فريا فكان الافتراء هو القطع على خبر لا حقيقة له و الفترة الغشية و غمرة كل شي‏ء معظمه و غمرات الموت شدائده قال الشاعر:

الغمرات ثم ينجلينا

 

 و ثم يذهبن فلا يجينا

 

و أصله الشي‏ء يغمر الأشياء فيغطيها و الهون بضم الهاء الهوان قال ذو الإصبع العدواني:

 

517
مجمع البیان في تفسير القرآن4

الإعراب ص : 518

 

اذهب إليك فما أمي براعية

 

 ترعى المخاض و لا أغضي على الهون‏

 

و الهون بفتح الهاء الدعة و الرفق و منه‏ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً قال:

هونا كما لا يرد الدهر ما فاتا

 

 لا تهلكا أسفا في إثر من ماتا

 

. الإعراب‏

 «مَنْ قالَ سَأُنْزِلُ» في موضع الجر على العطف كأنه قال و من أظلم ممن قال ذلك و جواب لو من قوله‏ «وَ لَوْ تَرى‏ إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ» محذوف أي لرأيت عذابا عظيما.

النزول‏

اختلفوا فيمن نزلت هذه الآية فقيل نزلت في مسيلمة حيث ادعى النبوة إلى قوله‏ «وَ لَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْ‏ءٌ» و

قوله‏ «سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ» في عبد الله بن سعد بن أبي سرح فإنه كان يكتب الوحي للنبي ص فكان إذا قال له اكتب عليما حكيما كتب غفورا رحيما و إذا قال له اكتب غفورا رحيما كتب عليما حكيما و ارتد و لحق بمكة و قال إني أنزل مثل ما أنزل الله عن عكرمة و ابن عباس و مجاهد و السدي و إليه ذهب الفراء و الزجاج و الجبائي‏ و هو المروي عن أبي جعفر (ع)

و قال قوم نزلت في ابن أبي سرح خاصة و قال قوم نزلت في مسيلمة خاصة.

المعنى‏

لما تقدم ذكر نبوة النبي ص و إنزال الكتاب عليه عقبه سبحانه بذكر تهجين الكفار الذين كذبوه أو ادعوا أنهم يأتون بمثل ما أتى به فقال‏ «وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى‏ عَلَى اللَّهِ كَذِباً» هذا استفهام في معنى الإنكار أي لا أحد أظلم ممن كذب على الله فادعى أنه نبي و ليس بنبي‏ «أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَ لَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْ‏ءٌ» أي يدعي الوحي و لا يأتيه و لا يجوز في حكمة الله سبحانه أن يبعث كذابا و هذا و إن كان داخلا في الافتراء فإنما أفرد بالذكر تعظيما «وَ مَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ» قال الزجاج هذا جواب لقولهم لو نشاء لقلنا مثل هذا فادعوا ثم لم يفعلوا و بذلوا النفوس و الأموال و استعملوا سائر الحيل في إطفاء نور الله و أبى الله ألا أن يتم نوره و قيل المراد به عبد الله بن سعد بن أبي سرح أملى عليه رسول الله ص ذات يوم‏ وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ‏ إلى قوله‏ «ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ» فجرى على لسان ابن أبي سرح فتبارك الله أحسن الخالقين فأملأه عليه و قال هكذا أنزل فارتد عدو الله‏

 

518
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأنعام(6): آية 94] ص : 519

 

و قال لئن كان محمد صادقا فلقد أوحي إلي كما أوحي إليه و لئن كان كاذبا فلقد قلت كما قال و ارتد عن الإسلام و هدر رسول الله ص دمه فلما كان يوم الفتح جاء به عثمان و قد أخذ بيده و رسول الله ص في المسجد فقال يا رسول الله اعف عنه فسكت رسول الله ص ثم أعاد فسكت ثم أعاد فسكت فقال هو لك فلما مر قال رسول الله لأصحابه أ لم أقل من رآه فليقتله فقال عباد بن بشر كانت عيني إليك يا رسول الله أن تشير إلي فأقتله فقال ص الأنبياء لا يقتلون بالإشارة ثم أخبر سبحانه عن حال هؤلاء فقال‏ «وَ لَوْ تَرى‏ إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ» أي في شدائد الموت عند النزع و قيل في أشد العذاب في النار «وَ الْمَلائِكَةُ» الذين يقبضون الأرواح و قيل يريد ملائكة العذاب‏ «باسِطُوا أَيْدِيهِمْ» لقبض أرواحهم و قيل يبسطون إليهم أيديهم بالعذاب يضربون وجوههم و أدبارهم‏ «أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ» أي يقولون أخرجوا أنفسكم من سكرات الموت إن استطعتم و صدقتم فيما قلتم و ادعيتم و قيل أخرجوا أنفسكم من أجسادكم عند معاينة الموت إرهاقا لهم و تغليظا عليهم و إن كان إخراجها من فعل غيرهم و قيل على التأويل الأول يقولون لهم يوم القيامة أخرجوا أنفسكم من عذاب النار إن استطعتم أي خلصوها منه‏ «الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ» أي عذابا تلقون فيه الهوان‏ «بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ» أي في الدنيا «وَ كُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ» أي تأنفون من اتباع آياته.

 [سورة الأنعام (6): آية 94]

وَ لَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى‏ كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ تَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَ ما نَرى‏ مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَ ضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94)

القراءة

قرأ أهل المدينة و الكسائي و حفص‏ «بَيْنَكُمْ» بالنصب و الباقون بالرفع.

الحجة

قال أبو علي استعمل هذا الاسم على ضربين (أحدهما) أن يكون اسما متصرفا كالافتراق (و الآخر) أن يكون ظرفا و المرفوع في قراءة من قرأ لقد تقطع بينكم هو الذي كان ظرفا ثم استعمل اسما و الدليل على جواز كونه اسما قوله‏ وَ مِنْ بَيْنِنا وَ بَيْنِكَ حِجابٌ‏

 

519
مجمع البیان في تفسير القرآن4

اللغة ص : 520

و هذا فِراقُ بَيْنِي وَ بَيْنِكَ‏ فلما استعمل اسما في هذه المواضع جاز أن يسند إليه الفعل الذي هو تقطع في قول من رفع و الذي يدل على أن هذا المرفوع هو الذي استعمل ظرفا أنه لا يخلو من أن يكون الذي كان ظرفا اتسع فيه أو يكون الذي هو مصدر فلا يجوز أن يكون المصدر لأن تقديره يكون لقد تقطع افتراقكم و هذا خلاف المعنى المراد لأن المراد لقد تقطع وصلكم و ما كنتم تتألفون عليه فإن قلت كيف جاز أن يكون بمعنى الوصل و أصله الافتراق و التمايز قيل إنه لما استعمل مع الشيئين المتلابسين في نحو بيني و بينه شركة و بيني و بينه رحم و صداقة صارت لاستعمالها في هذه المواضع بمنزلة الوصلة و على خلاف الفرقة فلهذا قد جاء لقد تقطع بينكم بمعنى تقطع وصلكم فأما من نصب‏ «بَيْنَكُمْ» ففيه مذهبان (أحدهما) أنه أضمر الفاعل في الفعل و دل عليه ما تقدم من قوله‏ «وَ ما نَرى‏ مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ» لأن هذا يدل على التقاطع و ذلك المضمر هو الوصل فكأنه قال لقد تقطع وصلكم بينكم و قد حكى سيبويه أنهم قالوا إذا كان غدا فأتني و أضمر ما كانوا فيه من رخاء و بلاء لدلالة الحال عليه و المذهب الآخر أنه انتصب على شي‏ء يراه أبو الحسن فإنه يذهب إلى أن معناه معنى المرفوع فلما جرى في كلامهم منصوبا ظرفا تركوه على ما يكون عليه في أكثر الكلام و كذلك يقول في قوله‏ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ‏ و قوله و أَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَ مِنَّا دُونَ ذلِكَ‏ و دون في موضع رفع عنده و إن كان منصوب اللفظ كما يقال منا الصالح و منا الطالح.

اللغة

فرادى جمع فرد و فريد و فرد و العرب تقول فرادى و فراد فلا يصرفونها تشبيها بثلاث و رباع قال الشاعر:

ترى النعرات البيض تحت لبانه‏

 

 فراد و مثنى أصعقتها صواهله‏

 

و قال النابغة:

من وحش وجرة موشي أكارعه‏

 

 طاوي المصير كسيف الصيقل الفرد

 

و مثل الفرادى الردافى و القرابى و التخويل الإعطاء و أصله تمليك الخول كما أن‏

520
مجمع البیان في تفسير القرآن4

الإعراب ص : 521

 

التمويل هو تمليك الأموال و خوله الله أعطاه مالا و فلان خولي مال و خال مال و خائل مال إذ كان يصلح المال و هم خول فلان أي أتباعه الواحد خائل و الزعم قد يكون حقا و قد يكون باطلا قال الشاعر:

يقول هلكنا إن هلكت و إنما

 

 على الله أرزاق العباد كما زعم‏

 

و البين مصدر بأن يبين إذا فارق قال الشاعر:

بأن الخليط برامتين فودعوا

 

 أو كلما ظعنوا لبين تجزع‏

 

قال أبو زيد بأن الحي بينونة و بينا إذا ظعنوا و تباينوا أي تفرقوا بعد أن كانوا جميعا.

الإعراب‏

 «فُرادى‏» نصب على الحال و «ما خَوَّلْناكُمْ» موصول و صلة في موضع نصب بأنه مفعول‏ «تَرَكْتُمْ».

النزول‏

نزلت في النضر بن الحرث بن كلدة حين قال سوف يشفع لي اللات و العزى عن عكرمة.

المعنى‏

ثم بين سبحانه تمام ما يقال لهم على سبيل التوبيخ فقال‏ «وَ لَقَدْ جِئْتُمُونا» قيل هذا من كلام الله تعالى يخاطب به عباده إما عند الموت أو عند البعث و قيل هو من كلام الملائكة يؤدونه عن الله إلى الذين يقبضون أرواحهم‏ «فُرادى‏» أي وحدانا لا مال لكم و لا خول و لا ولد و لا حشم عن الجبائي و قيل واحدا واحدا على حدة عن الحسن و قيل كل واحد منهم منفردا من شريكه في الغي و شقيقه عن الزجاج‏ «كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ» أي كما خلقناكم في بطون أمهاتكم فلا ناصر لكم و لا معين عن الجبائي و قيل معناه ما

روي عن النبي ص أنه قال‏ تحشرون حفاة عراة غرلا

و الغرل هم القلف و

روي‏ أن عائشة قالت لرسول الله ص حين سمعت ذلك وا سوأتاه أ ينظر بعضهم إلى سوأة بعض من الرجال و النساء فقال ص‏ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ‏ و يشغل بعضهم عن بعض‏

و قال الزجاج معناه كما بدأناكم أول مرة أي يكون بعثكم كخلقكم‏ «وَ تَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ» معناه ملكناكم في الدنيا مما كنتم تتباهون به من الأموال‏ «وَراءَ ظُهُورِكُمْ» أي خلف ظهوركم في الدنيا و المراد

 

521
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأنعام(6): الآيات 95 الى 96] ص : 522

 

تركتم الأموال و حملتم من الذنوب الأحمال و استمتع غيركم بما خلفتم و حوسبتم عليه فيا لها من حسرة «وَ ما نَرى‏ مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ» أي ليس معكم من كنتم تزعمون أنهم يشفعون لكم عند الله يوم القيامة و هي الأصنام‏ «الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ» معناه زعمتم أنهم شركاؤنا فيكم و شفعاؤكم يريد و ما نفعكم عبادة الأوثان التي كنتم تقولون إنها فيكم شركاء و إنها تشفع لكم عند الله تعالى و هذا عام في كل من عبد غير الله و اعتمد غيره يرجو خيره و يخاف ضيره في مخالفة الله تعالى‏ «لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ» أي وصلكم و جمعكم و من قرأ بالنصب فمعناه لقد تقطع الأمر بينكم أو تقطع وصلكم بينكم‏ «وَ ضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ» أي ضاع و تلاشي و لا تدرون أين ذهب من جعلتم شفعاءكم من آلهتكم و لم تنفعكم عبادتها و قيل معناه ما تزعمون من عدم البعث و الجزاء قد حث الله سبحانه في هذه الآية على اقتناء الطاعات التي بها ينال الفوز و تدرك النجاة دون اقتناء المال الذي لا شك في تركه و عدم الانتفاع به بعد الممات.

 [سورة الأنعام (6): الآيات 95 الى 96]

إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَ النَّوى‏ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَ مُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95) فالِقُ الْإِصْباحِ وَ جَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96)

القراءة

قرأ أهل الكوفة «وَ جَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً» و الباقون و جاعل بالألف و الرفع الليل بالجر.

الحجة

وجه قول من قرأ و جاعل الليل أن قبله اسم فاعل و هو «فالِقُ الْحَبِّ» و «فالِقُ الْإِصْباحِ» ليكون فاعل المعطوف مثل فاعل المعطوف عليه أ لا ترى أن حكم الاسم أن يعطف على اسم مثله لأن الاسم بالاسم أشبه من الفعل بالاسم و يقوي ذلك قولهم:

للبس عباءة و تقر عيني‏

 

 أحب إلي من لبس الشفوف‏

 

 

522
مجمع البیان في تفسير القرآن4

اللغة ص : 523

 

فنصب و تقر ليكون في تقدير اسم بإضمار أن فيكون قد عطف اسما على اسم و قوله:

و لو لا رجال من رزام و مازن‏

 

 و آل سبيع أو أسوك علقما

 

و من قرأ أو جعل فلأن اسم الفاعل الذي قبله بمعنى المضي فلما كان فاعل بمعنى فعل عطف عليه فعل لموافقته في المعنى و يدلك على أنه بمنزلة فعل أنه نزل منزلته فيما عطف عليه و هو قوله‏ «وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ حُسْباناً» أ لا ترى أنه لما كان المعنى فعل حمل المعطوف على ذلك فنصب الشمس و القمر على فعل لما كان فاعل كفعل و يقوي ذلك قولهم هذا معطي زيد درهما أمس فالدرهم محمول على أعطى لأن اسم الفاعل إذا كان لما مضى لم يعمل عمل الفعل فإذا كان معط بمنزلة أعطى كذلك جعل فالق بمنزلة فلق لأن اسم الفاعل لما مضى فعطف عليه فعل لما كان بمنزلته.

اللغة

الفلق الشق يقال فلقة فانفلق و الفلق الصبح لأن الظلام ينفلق عنه و الفلق المطمئن من الأرض كأنه منشق عنها و الحب جمع حبة و هو كل ما لا يكون له نوى كالبر و الشعير و النوى جمع نواة و الإصباح و الصبح واحد و هو مصدر أصبحنا إصباحا و قد روي عن الحسن أنه قرأ فالق الأصباح بالفتح يريد صبح كل يوم و ما قرأ به غيره و السكن الذي يسكن إليه و الحسبان جمع حساب مثل شهاب و شهبان و قيل هو مصدر حسبت الحساب أحسبه حسابا و حسبانا و حكي عن بعض العرب على الله حسبان فلان و حسبته أي حسابه و الحسبان بكسر الحاء جمع حسبانة و هي وسادة صغيرة و الحسبان و المحسبة مصدر حسبت فلانا عاقلا أحسبه و أحسبه.

الإعراب‏

النصب في‏ «الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ» مفعول فعل يدل عليه و قوله و جاعل الليل سكنا و تقديره و جعل الشمس و القمر حسبانا و حسبانا المفعول الثاني منه و لا يجوز و جاعل الليل سكنا لأن اسم الفاعل إذا كان واقعا لم يعمل عمل الفعل و أضيف إلى ما بعده لا غير تقول هذا ضارب زيد أمس لا غير.

المعنى‏

ثم عاد الكلام إلى الاحتجاج على المشركين بعجائب الصنع و لطائف التدبير فقال سبحانه‏ «إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَ النَّوى‏» أي شاق الحبة اليابسة الميتة فيخرج منها

 

523
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 523

النبات و شاق النواة اليابسة فيخرج منها النخل و الشجر عن الحسن و قتادة و السدي و قيل معناه خالق الحب و النوى و منشئهما و مبدئهما عن ابن عباس و الضحاك و قيل المراد به ما في الحبة و النوى من الشق و هو من عجيب قدرة الله تعالى في استوائه عن مجاهد و أبي مالك‏ «يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَ مُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ» أي يخرج النبات الغض الطري الخضر من الحب اليابس و يخرج الحب اليابس من النبات الحي النامي عن الزجاج و العرب تسمي الشجر ما دام غضا قائما بأنه حي فإذا يبس أو قطع أو قلع سموه ميتا و قيل معناه يخلق الحي من النطفة و هي موات و يخلق النطفة و هي موات من الحي عن الحسن و قتادة و ابن زيد و غيرهم و هذا أصح و قيل معناه يخرج الطير من البيض و البيض من الطير عن الجبائي و قيل معناه يخرج المؤمن من الكافر و الكافر من المؤمن‏ «ذلِكُمُ اللَّهُ» أي فاعل ذلك كله الله‏ «فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ» أي تصرفون عن الحق و يذهب بكم عن هذه الأدلة الظاهرة إلى الباطل أ فلا تتدبرون فتعلمون أنه لا ينبغي أن يجعل لمن أنعم عليكم بفلق الحب و النوى و إخراج الزرع من الحب و الشجر من النوى شريك في عبادته‏ «فالِقُ الْإِصْباحِ» أي شاق عمود الصبح عن ظلمة الليل و سواده عن أكثر المفسرين و قيل معناه خالق الصباح عن ابن عباس‏ «وَ جَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً» تسكنون فيه و تتودعون فيه عن ابن عباس و مجاهد و أكثر المفسرين نبه الله سبحانه على عظيم نعمته بأن جعل الليل للسكون و النهار للتصرف و دل بتعاقبهما على كمال قدرته و حكمته ثم قال‏ «وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ حُسْباناً» أي جعلهما تجريان في أفلاكهما بحساب لا يتجاوزانه حتى ينتهيا إلى أقصى منازلهما فتقطع الشمس جميع البروج الاثني عشر في ثلاثمائة و خمس و ستين يوما و ربع القمر في ثمانية و عشرين يوما و بنى عليهما الليالي و الأيام و الشهور و الأعوام كما قال سبحانه‏ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ بِحُسْبانٍ‏ و قال‏ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ‏ عن ابن عباس و السدي و قتادة و مجاهد أشار سبحانه بذلك إلى ما في حسبانهما من مصالح العباد في معاملاتهم و تواريخهم و أوقات عباداتهم و غير ذلك من أمورهم الدينية و الدنيوية «ذلِكَ» إشارة إلى ما وصفه سبحانه من فلق الإصباح‏ «وَ جَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ حُسْباناً» «تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ» الذي عز سلطانه فلا يقدر أحد على الامتناع منه‏ «الْعَلِيمِ» بمصالح خلقه و تدبيرهم.

524
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأنعام(6): الآيات 97 الى 98] ص : 525

 

 [سورة الأنعام (6): الآيات 97 الى 98]

وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97) وَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَ مُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98)

القراءة

قرأ ابن كثير و أبو عمرو و يعقوب برواية روح و زيد فمستقر بكسر القاف و الباقون بفتح القاف.

الحجة

قال أبو علي من كسر القاف كان المستقر بمعنى القار فإذا كان كذلك وجب خبره أن يكون المضمر منكم أي فمنكم مستقر كقولك بعضكم مستقر أي مستقر في الأرحام و من فتح فليس على أنه مفعول أ لا ترى أن استقر لا يتعدى و إذا لم يتعد لم يبن منه اسم مفعول به و إذا لم يكن مفعولا به كان اسم مكان فالمستقر بمنزلة المقر كما كان المستقر بمعنى القار و إذا كان كذلك جعلت الخبر المضمر لكم و التقدير فمستقر لكم و أما المستودع فإن استودع فعل يتعدى إلى مفعولين تقول استودعت زيدا ألفا و أودعت زيدا ألفا فاستودع مثل أودع كما أن استجاب مثل أجاب فالمستودع يجوز أن يكون الإنسان الذي استودع ذلك المكان و يجوز أن يكون المكان نفسه و من قرأ «فَمُسْتَقَرٌّ» بفتح القاف جعل المستودع مكانا ليكون مثل المعطوف عليه أي فلكم مكان استقرار و استيداع و من قرأ فمستقر فالمعنى منكم مستقر في الأرحام و منكم مستودع في الأصلاب فالمستودع اسم المفعول به فيكون مثل المستقر في أنه اسم لغير المكان.

المعنى‏

ثم ذكر سبحانه ما يقارب في المعنى الآية المتقدمة فيما يدل على وحدانيته و عظيم قدرته فقال‏ «وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ» أي خلق‏ «لَكُمُ» أي لنفعكم‏ «النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها» أي بضوئها و طلوعها و مواضعها «فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ» لأن من النجوم ما يكون بين يدي الإنسان و منها ما يكون خلفه و منها ما يكون عن يمينه و منها ما يكون عن يساره و يهتدي بها في الأسفار و في البلاد و في القبلة و أوقات الليل و إلى الطرق في مسالك البراري و البحار و قال البلخي ليس في قوله‏ «لِتَهْتَدُوا بِها» ما يدل على أنه لم يخلقها لغير ذلك بل خلقها سبحانه لأمور جليلة عظيمة و من فكر في صغر الصغير منها و كبر الكبير و اختلاف مواقعها و مجاريها

 

525
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 525

و اتصالاتها و سيرها و ظهور منافع الشمس و القمر في نشوء الحيوان و النبات علم أن الأمر كذلك و لو لم يخلقها إلا للاهتداء لما كان لخلقها صغارا و كبارا و اختلافاتها في المسير معنى و في تفسير علي بن إبراهيم بن هاشم أن النجوم آل محمد (ع) «قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ» أي بينا الحجج و البينات‏ «لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» أي يتفكرون فيعلمون‏ «وَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ» أي أبدعكم و خلقكم‏ «مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ» أي من آدم (ع) لأن الله تعالى خلقنا جميعا منه و خلق أمنا حواء، من ضلع من أضلاعه و من علينا بهذا لأن الناس إذا رجعوا إلى أصل واحد كانوا أقرب إلى التواد و التعاطف و التآلف‏ «فَمُسْتَقَرٌّ وَ مُسْتَوْدَعٌ» قد مر ذكرهما في الحجة و اختلف في معناهما فقيل مستقر في الرحم إلى أن يولد و مستودع في القبر إلى أن يبعث عن عبد الله بن مسعود و قيل مستقر في بطون الأمهات و مستودع في أصلاب الآباء عن سعيد بن جبير و عكرمة عن ابن عباس و قيل مستقر على ظهر الأرض في الدنيا و مستودع عند الله في الآخرة عن مجاهد و قيل مستقرها أيام حياتها و مستودعها حيث يموت و حيث يبعث عن أبي العالية و قيل مستقر في القبر و مستودع في الدنيا عن الحسن و كان يقول يا ابن آدم أنت وديعة في أهلك و يوشك أن تلحق بصاحبك و أنشد قول لبيد:

و ما المال و الأهلون إلا وديعة

 

 و لا بد يوما أن ترد الودائع‏

 

و قال سليمان بن زيد العدوي في هذا المعنى:

فجع الأحبة بالأحبة قبلنا

 

 فالناس مفجوع به و مفجع‏

 

مستودع أو مستقر مدخلا

 

 فالمستقر يزوره المستودع‏

 

 «قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ» أي بينا الحجج و ميزنا الأدلة «لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ» مواقع الحجة و مواضع العبرة و إنما خص الذين يعلمون و يفقهون لأنهم المنتفعون بها كما قال‏ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ‏ و كرر قوله‏ «قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ» حثا على النظر و تنبيها على أن كلا مما ذكر آية و دلالة تدل على توحيده و صفاته العلى.

526
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأنعام(6): آية 99] ص : 527

 

 [سورة الأنعام (6): آية 99]

وَ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْ‏ءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَ مِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَ جَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَ الزَّيْتُونَ وَ الرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَ غَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى‏ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَ يَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)

القراءة

قرأ أبو بكر عن عاصم برواية أبي يوسف الأعشى و البرجمي و جنات بالرفع و هو قراءة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)

و عبد الله بن مسعود الأعمش و يحيى بن يعمر و قرأ الباقون‏ «وَ جَنَّاتٍ» على النصب و قرأ حمزة و الكسائي و خلف ثمره بضمتين و كذلك‏ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ‏ و في سورة ياسين ليأكلوا من ثمره و قرأ الباقون‏ «ثَمَرِهِ» بفتحتين في الجميع.

الحجة

من قرأ «وَ جَنَّاتٍ» فإنه عطفها على قوله‏ «خَضِراً» أي فأخرجنا من الماء خضرا و جنات من أعناب و من قرأ و جنات بالرفع فإنه عطفها على‏ «قِنْوانٌ» لفظا و إن لم يكن من جنسها كقول الشاعر:

 (متقلدا سيفا و رمحا)

 

 

 

و من قرأ «إِلى‏ ثَمَرِهِ» فالثمر جمع ثمرة مثل بقرة و بقر و شجرة و شجر و من قرأ ثمره بضمتين فيحتمل وجهين (أحدهما) أن يكون على ثمرة و ثمر مثل خشبة و خشب و أكمة و أكم قال الشاعر:

نحن الفوارس يوم ديسقة المغشو

 

 الكمأة غوارب الأكم‏

 

و نظيره من المعتل قارة و قور و ناقة و نوق و ساحة و سوح قال الشاعر:

و كان سيان ألا يسرحوا نعما

 

 أو يسرحوه بها و اغبرت السوح‏

 

 (و الآخر) أن يكون جمع ثمار على ثمر فيكون ثمر جمع الجمع.

اللغة

خضر بمعنى أخضر يقال أخضر فهو خضر و أخضر و أعور فهو عور و أعور و

في الحديث‏ أن الدنيا حلوة خضرة

أي غضة ناعمة و ذهب دمه خضرا مضرا أي باطلا و أخذ الشي‏ء خضرا مضرا أي مجانا بغير ثمن و قيل غضا طريا و فلان أخضر الجلدة و أخضر المنكب أي ذو سعة و خصب و قال الفضل بن عباس بن عتبة بن أبي لهب:

 

527
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 528

و أنا الأخضر من يعرفني‏

 

 أخضر الجلدة في بيت العرب‏

 

من يساجلني يساجل ماجدا

 

 يملأ الدلو إلى عقد الكرب‏

 

برسول الله و ابني بنته‏

 

 و بعباس بن عبد المطلب‏

 

و كتيبة خضراء إذا كان عليها سواد الحديد و العرب تسمي الأسود أخضر و يسمى سواد العراق سوادا لكثرة خضرته و متراكب متفاعل من الركوب و طلع النخل أول ما يبدو من ثمره و قد أطلع النخل و القنوان جمع قنو و هو العذق بكسر العين أي الكباسة و العذق بفتح العين النخلة و قنوان و قنوان بكسر القاف و ضمها لغتان و قنيان بالياء لغة تميم و دانية قريبة المتناول و الينع النضج يقال ينع الثمر ينعا و ينعا و أينع إذا أدرك قال الشاعر:

في قباب وسط دسكرة

 

 حولها الزيتون قد ينعا

 

و قيل إن الينع جمع يانع مثل صاحب و صحب و تاجر و تجر.

المعنى‏

ثم عطف سبحانه على ما تقدم فقال‏ «وَ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً» يريد من السحاب و العرب تقول كل ما علاك فأظلك فهو سماء «فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْ‏ءٍ» و المعنى فأخرجنا بالماء الذي أنزلناه من السماء من غذاء الأنعام و الطير و الوحش و أرزاق بني آدم ما يتغذون به و يأكلونه فينبتون عليه و ينمون و يريد بنبات كل شي‏ء ما ينبت به كل شي‏ء و ينمو عليه و يحتمل أن يكون المراد أخرجنا به جميع أنواع النبات ليكون كل شي‏ء هو أصناف النبات كقوله‏ إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ‏ عن الفراء و الأول أحسن و إنما قال به لأنه سبحانه جعله سببا مؤديا إلى النبات لا مولدا له و قد كان يمكنه الإنبات بغيره فلا يقال أنه فعله بسبب مولد «فَأَخْرَجْنا مِنْهُ» أي من الماء و قيل من النبات‏ «خَضِراً» أي زرعا رطبا أخضر و هو ساق السنبلة «نُخْرِجُ مِنْهُ» أي من ذلك الزرع الخضر «حَبًّا مُتَراكِباً» قد تركب بعضه على بعض مثل سنبلة الحنطة و السمسم و غير ذلك‏ «وَ مِنَ النَّخْلِ» أي و نخرج من النخل‏ «مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ» أي أعذاق الرطب‏ «دانِيَةٌ» أي قريبة المتناول و لم يقل و منها قنوان بعيدة لأن في الكلام دليلا على البعيدة السحيقة من النخل قد كانت غير سحيقة

528
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 528

فاجتزأ بذكر القرينة عن ذكر السحيقة كما قال‏ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ و لم يقل و سرابيل تقيكم البرد لأن في الكلام دليل على أنها تقي البرد لأن ما يستر عن الحر يستر عن البرد عن الزجاج و قيل دانية دنت من الأرض لكثرة ثمرها و ثقل حملها و تقديره و من النخل من طلعها ما قنوانه دانية و إنما خص الطلع بالذكر لما فيه من المنافع و الأغذية الشريفة التي ليست في أكمام الثمار «وَ جَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ» يعني و أخرجنا به أيضا جنات من أعناب أي بساتين من أعناب و من رفعه فتقديره و نخرج به جنات من أعناب‏ «وَ الزَّيْتُونَ وَ الرُّمَّانَ» أي فأخرجنا به الزيتون و الرمان أي شجر الزيتون و الرمان و قرن الزيتون و الرمان لأنهما شجرتان تعرف العرب أن ورقهما يشتمل على الغصن من أوله إلى آخره قال الشاعر:

بورك الميت الغريب كما بورك‏

 

 نضج الرمان و الزيتون‏

 

و معناه أن ورقهما يشتمل على العود كله‏ «مُشْتَبِهاً وَ غَيْرَ مُتَشابِهٍ» أي مشتبها شجرة يشبه بعضه بعضا و غير متشابه في الطعم و قيل مشتبها ورقه مختلفا ثمره عن قتادة و قيل مشتبها في الخلق مختلفا في الطعم و قيل مشتبها ما كان من جنس واحد و غير متشابه إذا اختلف جنسه عن الجبائي و الأولى أن يقال أن جميع ذلك مشتبه من وجوه مختلف من وجوه فيدخل فيه جميع ما تقدم‏ «انْظُرُوا إِلى‏ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ» أي انظروا إلى خروج الثمار نظر الاعتبار «وَ يَنْعِهِ» أي نضجه و معناه انظروا من ابتداء خروجه إذا أثمر إلى انتهائه إذا أينع و أدرك كيف تنتقل عليه الأحوال في الطعم و اللون و الرائحة و الصغر و الكبر ليستدلوا بذلك على أن له صانعا مدبرا «إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ» أي إن في خلق هذه الثمار و الزروع مع إتقان جواهرها أجناسا مختلفة لا يشبه بعضها بعضا لدلالات على أن لها خالقا قصد إلى التمييز بينها قبل خلقها على علم بها و إنها تكونت بخلقه و تدبيره‏ «لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» لأنهم بها يستدلون و بمعرفة مدلولاتها ينتفعون.

529
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأنعام(6): الآيات 100 الى 101] ص : 530

 

 [سورة الأنعام (6): الآيات 100 الى 101]

وَ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَ خَلَقَهُمْ وَ خَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَ بَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَ تَعالى‏ عَمَّا يَصِفُونَ (100) بَدِيعُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَ لَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَلِيمٌ (101)

القراءة

قرأ أهل المدينة و خرقوا بالتشديد و الباقون‏ «وَ خَرَقُوا» بالتخفيف.

الحجة

قال أحمد بن يحيى خرق و اخترق بمعنى و قال أبو الحسن الخفيفة أعجب إلي لأنها أكثر و المعنى في القراءتين كذبوا و قد روي في الشواذ عن ابن عباس و حرفوا بالحاء و الفاء و هذا شاهد يكذبهم أيضا و مثله‏ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ+.

اللغة

البديع بمعنى المبدع و الفرق بين الإبداع و الاختراع أن الإبداع فعل ما لم يسبق إلى مثله و الاختراع فعل ما لم يوجد سبب له و لذلك يقال البدعة لما خالف السنة لأنه إحداث ما لم يسبق إليه و لا يقدر أحد على الاختراع غير الله تعالى لأن حده ما ابتدئ في غير محل القدرة عليه و القادر بقدرة إما أن يفعل مباشرا و هو ما ابتدئ في محل القدرة أو متولدا و هو ما يوقع بحسب غيره و لا يقدر على الاختراع أصلا.

الإعراب‏

انتصاب الجن من وجهين (أحدهما) أن يكون مفعولا أي جعلوا الجن لله شركاء و يكون شركاء مفعولا ثانيا كما قال‏ وَ جَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً (و الآخر) أن يكون الجن بدلا من شركاء و مفسرا له سبحانه نصب على المصدر كأنه قال تسبيحا له و بديع خبر مبتدإ محذوف تقديره هو بديع السماوات و يجوز أن يكون مبتدأ و خبره‏ «أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ» و إنما تعدى بديع و هو فعيل لأنه معدول عن مفعل و الصفة تعمل عمل ما عدلت منه فإذا لم تكن معدولة لم تتعد نحو طويل و قصير.

المعنى‏

ثم رد سبحانه على المشركين و عجب من كفرهم مع هذه البراهين و الحجج و البينات فقال‏ «وَ جَعَلُوا» يعني المشركين‏ «لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ» أخبر الله سبحانه أنهم اتخذوا معه آلهة جعلوهم له أندادا كما قال‏ وَ جَعَلُوا بَيْنَهُ وَ بَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً و أراد بالجن الملائكة و إنما سماهم جنا لاستتارهم عن الأعين و هذا كما قال‏ جَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً عن قتادة و السدي و قيل أن قريشا كانوا يقولون أن الله تعالى قد صاهر الجن فحدث بينهما الملائكة فيكون على هذا القول المراد به الجن المعروف و قيل أراد بالجن الشياطين لأنهم أطاعوا الشياطين في عبادة الأوثان عن الحسن‏ «وَ خَلَقَهُمْ» الهاء و الميم عائدة إليهم أي جعلوا للذي خلقهم شركاء لا يخلقون و يجوز أن يكون الهاء و الميم‏

 

530
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 530

عائدة على الجن فيكون المعنى و الله خلق الجن فكيف يكونون شركاء له و يجوز أن يكون المعنى و خلق الجن و الإنس جميعا و روي أن يحيى بن يعمر قرأ و خلقهم بسكون اللام أي و خلق الجن يعني ما يخلقونه و يأفكون فيه و يكذبونه كأنه قال جعلوا الجن شركاءه و أفعالهم شركاء أفعاله أو شركاء له إذا عنى بذلك الأصنام و نحوها و قيل إن المعني بالآية المجوس إذ قالوا يزدان و أهرمن و هو الشيطان عندهم فنسبوا خلق المؤذيات و الشرور و الأشياء الضارة إلى أهرمن و جعلوه بذلك شريكا له و مثلهم الثنوية القائلون بالنور و الظلمة «وَ خَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَ بَناتٍ» أي اختلقوا و موهوا و افتروا الكذب على الله و نسبوا البنين و البنات إلى الله فإن المشركين قالوا الملائكة بنات الله و النصارى قالوا المسيح ابن الله و اليهود قالوا عزير ابن الله‏ «بِغَيْرِ عِلْمٍ» أي بغير حجة و يجوز أن يكون معناه بغير علم منهم بما عليهم عاجلا و آجلا و يجوز أن يكون معناه بغير علم منهم بما قالوه على حقيقة لكن جهلا منهم بالله و بعظمته تعالى‏ «سُبْحانَهُ» أي تنزيها له عما يقولون‏ «وَ تَعالى‏ عَمَّا يَصِفُونَ» من ادعائهم له شركاء و اختراقهم له بنين و بنات أي هو يجل من أن يوصف بما وصفوه به و إنما صار اتخاذ الولد نقصا لأنه لا يخلو من أن يكون ولادة أو تبنيا و كلاهما يوجب التشبيه و من أشبه المحدث كان على صفة نقص‏

 «بَدِيعُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ» أي مبدعهما و منشئهما بعلمه ابتداء لا من شي‏ء و لا على مثال سبق‏ و هو المروي عن أبي جعفر (ع)

 «أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ» أي كيف يكون له ولد و من أين يكون له ولد «وَ لَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ» أي زوجة و إنما يكون الولد من النساء فيما يتعارفونه‏ «وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ» في هذا نفي للصاحبة و الولد فإن من خلق الأشياء لا يكون شي‏ء من خلقه صاحبة له و لا ولدا و لأن الأشياء كلها مخلوقة له فكيف يتعزز بالولد و يتكثر به‏ «وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَلِيمٌ» يعلم الأشياء كلها موجودها و معدومها لا يخفى عليه خافية و من قال أن في قوله‏ «وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ» دلالة على خلق أفعال العباد فجوابه أن المفهوم منه أنه أراد المخلوقات كما يفهم المأكولات من قول من قال أكلت كل شي‏ء و المخلوقات كلها بما فيها من التقدير العجيب يضاف خلقها إليه سبحانه على أنه سبحانه قد نزه نفسه عن إفك العباد و كذبهم فلو كان خلقا له لما تنزه عنه.

531
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأنعام(6): الآيات 102 الى 103] ص : 532

 

 [سورة الأنعام (6): الآيات 102 الى 103]

ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ فَاعْبُدُوهُ وَ هُوَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ وَكِيلٌ (102) لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَ هُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَ هُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)

اللغة

الوكيل على الشي‏ء هو الحافظ له الذي يحوطه و يدفع الضرر عنه و إنما وصف سبحانه نفسه بأنه وكيل مع أنه مالك الأشياء لأنه لما كانت منافعها لغيره لاستحالة المنافع عليه و المضار صحت هذه الصفة له و قيل الوكيل من يوكل إليه الأمور يقال وكلت إليه هذا الأمر أي وليته تدبيره و المؤمن يتوكل على الله أي يفوض أمره إليه و الإدراك اللحاق يقال أدرك قتادة الحسن أي لحقه و أدرك الطعام نضج و أدرك الزرع بلغ منتهاه و أدرك الغلام بلغ و لحق حال الرجولية و أدركته ببصري لحقته ببصري و تدارك القوم تلاحقوا و لا يكون الإدراك بمعنى الإحاطة لأن الجدار محيط بالدار و ليس بمدرك لها و البصر الحاسة التي تقع بها الرؤية.

الإعراب‏

 «خالِقُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ» خبر مبتدإ محذوف و يجوز أن يكون صفة ربكم و كان يجوز نصبه على الحال لأنه نكرة اتصل بمعرفة بعد التمام.

المعنى‏

لما قدم سبحانه ذكر الأدلة على وحدانيته عقبه بتنبيه عباده على أنه الإله المستحق للطاعة و العبادة و تعليمهم الاستدلال بأفعاله عليه فقال‏ «ذلِكُمُ» أي ذلك الذي خلق هذه الأشياء و دبر هذه التدابير لكم أيها الناس هو «اللَّهُ رَبُّكُمْ» أي خالقكم و مالككم و مدبركم و سيدكم‏ «لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ» أي كل مخلوق من الأجسام و الأعراض التي لا يقدر عليها غيره‏ «فَاعْبُدُوهُ» لأنه المستحق للعبادة «وَ هُوَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ وَكِيلٌ» أي حافظ و مدبر و حفيظ على خلقه فهو وكيل على الخلق و لا يقال وكيل لهم‏ «لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ» أي لا تراه العيون لأن الإدراك متى قرن بالبصر لم يفهم منه إلا الرؤية كما أنه إذا قرن بآلة السمع فقيل أدركت بإذني لم يفهم منه إلا السماع و كذلك إذا أضيف إلى كل واحد من الحواس أفاد ما تلك الحاسة آلة فيه فقولهم أدركته بفمي معناه وجدت طعمه و أدركته بأنفي معناه وجدت رائحته‏ «وَ هُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ» تقديره لا تدركه ذوو الأبصار و هو يدرك ذوي الأبصار أي المبصرين و معناه أنه يرى و لا يرى و بهذا خالف سبحانه جميع الموجودات لأن منها ما يرى و يرى كالأحياء و منها ما يرى و لا يرى كالجمادات و الأعراض المدركة و منها ما لا يرى و لا يرى كالأعراض غير المدركة فالله تعالى خالف جميعها و تفرد بأن يرى و لا يرى و تمدح في الآية بمجموع الأمرين كما تمدح في الآية الأخرى بقوله‏ وَ هُوَ يُطْعِمُ وَ لا

 

532
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأنعام(6): الآيات 104 الى 105] ص : 533

 

يُطْعَمُ‏ و

روى العياشي بالإسناد المتصل‏ أن الفضل بن سهل ذا الرياستين سأل أبا الحسن علي بن موسى الرضا (ع) فقال أخبرني عما اختلف الناس فيه من الرؤية فقال من وصف الله بخلاف ما وصف به نفسه فقال أعظم الفرية على الله‏ «لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَ هُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ» و هذه الأبصار ليست هي الأعين إنما هي الأبصار التي في القلوب لا يقع عليه الأوهام و لا يدرك كيف هو

 «وَ هُوَ اللَّطِيفُ» قيل في معناه وجوه (أحدها) أنه اللاطف بعباده بسبوغ الإنعام غير أنه عدل عن وزن فاعل إلى فعيل للمبالغة (و الثاني) أن معناه لطيف التدبير إلا أنه حذف لدلالة الكلام عليه- (و الثالث) أن اللطيف الذي يستقل الكثير من نعمه و يستكثر القليل من طاعة عباده (و الرابع) أن اللطيف الذي إذا دعوته لباك و إن قصدته آواك و إن أحببته أدناك و إن أطعته كافأك و إن عصيته عافاك و إن أعرضت عنه دعاك و إن أقبلت إليه هداك (و الخامس) اللطيف من يكافي الوافي و يعفو عن الجافي (و السادس) اللطيف من يعز المفتخر به و يغني المفتقر إليه (و السابع) اللطيف من يكون عطاؤه خيرة و منعه ذخيرة «الْخَبِيرُ» العليم بكل شي‏ء من مصالح عباده فيدبرهم عليها و بأفعالهم فيجازيهم عليها.

 [سورة الأنعام (6): الآيات 104 الى 105]

قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَ ما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104) وَ كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَ لِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَ لِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105)

القراءة

قرأ ابن كثير و أبو عمرو دارست و قرأ ابن عامر و يعقوب و سهل درست بفتح السين و سكون التاء و الباقون‏ «دَرَسْتَ» و في قراءة عبد الله و أبي درس أي ليقولوا درس محمد و روي عن ابن عباس و الحسن درست.

الحجة

من قرأ دارست فمعناه أنك دارست أهل الكتاب و ذاكرتهم و يقويه قوله‏ وَ أَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ‏ و من قرأ «دَرَسْتَ» فحجته أن ابن مسعود قرأ درس فأسند الفعل فيه إلى الغيبة كما أسند إلى الخطاب و من قرأ درست فهو من الدروس الذي هو تعفي الأثر أي انمحت و يكون اللام في‏ «لِيَقُولُوا» على هذا بمعنى لكراهية أن يقولوا و لأن لا يقولوا أنها أخبار قد تقدمت فطال العهد بها و باد من كان يعرفها لأن تلك الأخبار لا تخلو من خلل فإذا سلم‏

 

533
مجمع البیان في تفسير القرآن4

اللغة ص : 534

 

الكتاب منه لم يكن لطاعن فيه مطعن و أما على القراءتين الأوليين فاللام في ليقولوا كالتي في قوله‏ «لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَ حَزَناً» و لم يلتقطوه لذلك كما لم يصرف الآيات ليقولوا درست و دارست و لكن لما قالوا ذلك أطلق على هذا للاتساع و أما قراءة ابن عباس درست ففيه ضمير الآيات و معناه درستها أنت يا محمد و يجوز أن يكون معناه عفت و تنوسيت فيكون كقوله‏ إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ‏.

اللغة

البصيرة البينة و الدلالة التي يبصر بها الشي‏ء على ما هو به و البصائر جمعها و البصيرة مقدار الدرهم من الدم و البصرة الترس و البصيرة الثأر و الدية قال الشاعر:

جاءوا بصائرهم على أكتافهم‏

 

 و بصيرتي يعدو بها عتد و أي‏

 

أي أخذوا الديات فصارت عارا و بصيرتي على فرسي أطلب بها ثاري و قيل أراد ثقل دمائهم على أكتافهم لم يثأروا بها قال الأزهري البصيرة ما اعتقد في القلب من تحقيق الشي‏ء و الشقة تكون على الجنا و الإبصار الإدراك بحاسة البصر و الدرس أصله استمرار التلاوة و درس الأثر دروسا إذا انمحى لاستمرار الزمان به و درست الريح الأثر دروسا محته باستمرارها عليه.

الإعراب‏

 «كَذلِكَ» موضع الكاف نصب منه بكونه صفة للمصدر أي تصريفا مثل ذلك التصريف و اللام في‏ «وَ لِيَقُولُوا» معطوف على محذوف تقديره ليجحدوا و ليقولوا درست و اللام لام العاقبة.

المعنى‏

ثم بين سبحانه أنه بعد هذه الآيات قد أزاح العلة للمكلفين فقال‏ «قَدْ جاءَكُمْ» أيها الناس‏ «بَصائِرُ» بينات و دلالات‏ «مِنْ رَبِّكُمْ» تبصرون بها الهدى من الضلال و تميزون بها بين الحق و الباطل و وصف البينة بأنها جاءت تفخيما لشأنها كما يقال جاءت العافية و انصرف المرض و أقبل السعد «فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ» أي من تبين هذه الحجج بأن نظر فيها حتى أوجبت له العلم فمنفعة ذلك تعود إليه و لنفسه نظر «وَ مَنْ عَمِيَ» فلم ينظر فيها و صدف عنها «فَعَلَيْها» أي على نفسه وباله و بها أضر و إياها ضر فسمي‏

 

534
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأنعام(6): الآيات 106 الى 107] ص : 535

 

العلم و التبيين إبصارا و الجهل عمى مجازا و توسعا و في هذا دلالة على أن المكلفين مخيرون في أفعالهم غير مجبرين ثم أمر سبحانه نبيه بأن يقول لهم‏ «وَ ما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ» أي لست أنا الرقيب على أعمالكم قال الزجاج معناه لست آخذكم بالإيمان أخذ الحفيظ عليكم و الوكيل و هذا قبل الأمر بالقتال فلما أمر النبي ص بالقتال صار حفيظا عليهم و مسيطرا على كل من تولى‏ «وَ كَذلِكَ» أي و كما صرفنا الآيات قبل‏ «نُصَرِّفُ» هذه‏ «الْآياتِ» قال علي بن عيسى و التصريف إجراء المعنى الدائر في المعاني المتعاقبة لتجتمع فيه وجوه الفائدة «وَ لِيَقُولُوا دَرَسْتَ» ذلك يا محمد أي تعلمته من اليهود قال الزجاج و هذه اللام تسميها أهل اللغة لام الصيرورة أي أن السبب الذي أداهم إلى أن قالوا درست هو تلاوة الآيات و كذلك دارست أي دارست أهل الكتابين و قارأتهم و ذاكرتهم عن الحسن و مجاهد و السدي و ابن عباس‏ «وَ لِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» معناه لنبين الذي هذه الآيات دالة عليه للعلماء الذين يعقلون ما نورده عليهم و إنما خصهم بذلك لأنهم انتفعوا به دون غيرهم.

 [سورة الأنعام (6): الآيات 106 الى 107]

اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106) وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا وَ ما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَ ما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107)

اللغة

الاتباع أن يتصرف الثاني بتصريف الأول و النبي كان يتصرف في الدين بتصريف الوحي فلذلك كان متبعا و كذلك كل متدبر بتدبير غيره فهو متبع له و الإيحاء هو إلقاء المعنى إلى النفس على وجه يخفى و الإعراض أصله الانصراف بالوجه إلى جهة العرض و منه:

و أعرضت اليمامة و اشمخرت‏

 

 كأسياف بأيدي مصلتينا

 

أي ظهرت كالظهور بالعرض و منه المعارضة لظهور المساواة بها كالظهور بالعرض‏

 

535
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 536

 

و الاعتراض المنع من الشي‏ء الحاجز عنه عرضا و منه العرض الذي يظهر كالظهور بالعرض ثم لا يلبث و حد أيضا بأنه ما يظهر في الوجود و لا يكون له لبث كلبث الجواهر.

المعنى‏

ثم أمر سبحانه نبيه ص باتباع الوحي فقال‏ «اتَّبِعْ» أيها الرسول‏ «ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ» إنما أعاد سبحانه هذا القول لأن المراد ادعهم إلى أنه لا إله إلا هو عن الحسن و قيل معناه ما أوحي إليك من أنه لا إله إلا هو «وَ أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ» قال ابن عباس نسخته آية القتال و قيل معناه اهجرهم و لا تخالطهم و لا تلاطفهم و لم يرد به الإعراض عن دعائهم إلى الله تعالى و حكمه ثابت‏ «وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا» أي لو شاء الله أن يتركوا الشرك قهرا و إجبارا لاضطرهم إلى ذلك إلا أنه لم يضطرهم إليه بما ينافي أمر التكليف و أمرهم بتركه اختيارا ليستحقوا الثواب و المدح عليه فلم يتركوه فأتوا به من قبل نفوسهم و في تفسير أهل البيت (ع) لو شاء الله أن يجعلهم كلهم مؤمنين معصومين حتى كان لا يعصيه أحد لما كان يحتاج إلى جنة و لا إلى نار و لكنه أمرهم و نهاهم و امتحنهم و أعطاهم ما له به عليهم الحجة من الآلة و الاستطاعة ليستحقوا الثواب و العقاب‏ «وَ ما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً» مراقبا لأعمالهم‏ «وَ ما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ» أي و لست بموكل عليهم بذلك و إنما أنت رسول عليك البلاغ و علينا الحساب و جمع بين حفيظ و وكيل لاختلاف معنى اللفظين فإن الحافظ للشي‏ء هو الذي يصونه عما يضره و الوكيل على الشي‏ء هو الذي يجلب الخير إليه.

 [سورة الأنعام (6): آية 108]

وَ لا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى‏ رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (108)

القراءة

قرأ يعقوب عدوا بضم العين و الدال و تشديد الواو و هو قراءة الحسن و أبي رجاء و قتادة و قرأ الباقون‏ «عَدْواً» بفتح العين و سكون الدال.

الحجة

العدو و العدو جميعا الظلم و التعدي للحق و مثلهما العدوان و العداء و إنما انتصب‏ «عَدْواً» لأنه مصدر في موضع الحال.

 

536
مجمع البیان في تفسير القرآن4

اللغة ص : 537

 

اللغة

السب الذكر بالقبيح و منه الشتم و الذم و أصله السبب كأنه يتسبب إلى ذكره بالقبيح و سبك الذي يسابك قال:

لا تسبنني فلست بسبي‏

 

 إن سبي من الرجال الكريم‏

 

و قيل أصل السب القطع.

النزول‏

قال ابن عباس لما نزلت‏ «إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ» الآية قال المشركون يا محمد لتنتهين عن سب آلهتنا أو لنهجون ربك فنزلت الآية و قال قتادة كان المسلمون يسبون أصنام الكفار فنهاهم الله عن ذلك لئلا يسبوا الله فإنهم قوم جهلة.

المعنى‏

ثم نهى الله المؤمنين أن يسبوا الأصنام لما في ذلك من المفسدة فقال‏ «وَ لا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ» أي لا تخرجوا من دعوة الكفار و محاجتهم إلى أن تسبوا ما يعبدونه من دون الله فإن ذلك ليس من الحجاج في شي‏ء «فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً» أي ظلما «بِغَيْرِ عِلْمٍ» و أنتم اليوم غير قادرين على معاقبتهم بما يستحقون لأن الدار دارهم و لم يؤذن لكم في القتال و إنما قال من دون الله لأن المعنى يدعونه إلها و في هذا دلالة على أنه لا ينبغي لأحد أن يفعل أو يقول ما يؤدي إلى معصية غيره و

سئل أبو عبد الله (ع) عن قول النبي (ص) أن الشرك أخفى من دبيب النمل على صفوانة سوداء في ليلة ظلماء فقال كان المؤمنون يسبون ما يعبد المشركون من دون الله فكان المشركون يسبون ما يعبد المؤمنون فنهى الله المؤمنين عن سب آلهتهم لكيلا يسب الكفار إله المؤمنين فكان المؤمنون قد أشركوا من حيث لا يعلمون‏

 «كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ» قيل في معناه أقوال (أحدها) أن المراد كما زينا لكم أعمالكم زينا لكل أمة ممن قبلكم أعمالهم من حسن الدعاء إلى الله تعالى و ترك السب للأصنام و نهيناهم أن يأتوا من الأفعال ما ينفر الكفار عن قبول الحق عن الحسن و الجبائي و يسمى ما يجب على الإنسان أن يعلمه بأنه عمله كما تقول لولدك أو غلامك اعمل عملك أي ما ينبغي لك أن تفعله (و ثانيها) أن معناه و كذلك زينا لكل أمة عملهم بميل الطباع إليه و لكن قد عرفناهم الحق مع ذلك ليأتوا الحق و يجتنبوا الباطل (و ثالثها) أن المراد زينا عملهم بذكر ثوابه فهو كقوله‏ «وَ لكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَ زَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَ كَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَ الْفُسُوقَ وَ الْعِصْيانَ» يريد حبب إليكم الإيمان بذكر ثوابه و مدح فاعليه على فعله و كره الكفر بذكر عقابه و ذم فاعليه على فعله و لم يرد سبحانه بذلك أنه زين عمل الكافرين لأن ذلك‏

 

537
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأنعام(6): الآيات 109 الى 110] ص : 538

 

يقتضي الدعاء إليه و الله تعالى ما دعا أحدا إلى معصيته لكنه نهى عنها و ذم فاعليها و قد قال سبحانه‏ «وَ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ»+ و لا خلاف أن المراد بذلك الكفر و المعاصي و في ذلك دلالة على أن المراد به في الآية تزيين أعمال الطاعة «ثُمَّ إِلى‏ رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ» أي مصيرهم‏ «فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ» أي بأعمالهم من الخير و الشر نهى الله سبحانه في هذه الآية عن سب الأصنام لئلا يؤدي ذلك إلى سبه فإذا كان سبحانه لا يريد ما ربما يكون سببا إلى سبه فلأن لا يريد سبب نفسه أولى و أجدر و أيضا إذا لم يرد سب الأصنام إذا كان زيادة في كفر الكافرين فلأن لا يريد كفرهم أحرى فبطل قول المجبرة.

 [سورة الأنعام (6): الآيات 109 الى 110]

وَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَ ما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (109) وَ نُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَ أَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ نَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)

القراءة

قرأ ابن كثير و أهل البصرة و أبو بكر عن عاصم و نصير عن الكسائي و خلف إنها بكسر الألف و قرأ الباقون‏ «أَنَّها» بفتح الألف و قرأ ابن عامر و حمزة لا تؤمنون بالتاء و الباقون‏ «لا يُؤْمِنُونَ» بالياء و في الشواذ و يذرهم بالياء و الجزم قراءة الأعمش.

الحجة

قال أبو علي‏ «وَ ما يُشْعِرُكُمْ» ما فيه استفهام و فاعل‏ «يُشْعِرُكُمْ» ضمير ما و لا يجوز أن يكون نفيا لأن الفعل فيه يبقى بلا فاعل فإن قلت يكون ما نفيا و يكون فاعل‏ «يُشْعِرُكُمْ» ضمير اسم الله تعالى قيل ذلك لا يصح لأن التقدير يصير و ما يشعركم الله انتفاء إيمانهم و هذا لا يستقيم لأن الله قد أعلمنا أنهم لا يؤمنون بقوله‏ «وَ لَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا» الآية و إذا فسد أن يكون ما للنفي ثبت أنها للاستفهام فيكون اسما فيصير في الفعل ضميره و يكون المعنى و ما يدريكم إيمانهم إذا جاءت فحذف المفعول و حذف المفعول كثير ثم قال إنهم لا يؤمنون مع مجي‏ء الآية فمن كسر الهمزة فإنه استأنف على القطع بأنهم لا يؤمنون و من فتح الهمزة جاز أن يكون‏ «يُشْعِرُكُمْ» منقولا من شعرت الشي‏ء و شعرت به مثل دريته و دريت به في أنه يتعدى مرة بحرف‏

 

538
مجمع البیان في تفسير القرآن4

الحجة ص : 538

و مرة بلا حرف فإذا عديته بالحرف جاز أن يكون أن في قول من لم يجعلها بمعنى لعل في موضع جر لأن الكلام لما طال صار كالبدل منه و جاز أن يكون في موضع نصب و الوجه في هذه القراءة على تأويلين (أحدهما) أن يكون بمعنى لعل كقول الشاعر و هو دريد بن الصمة:

ذريني أطوف في البلاد لأنني‏

 

 أرى ما ترين أو بخيلا مخلدا

 

و قال:

هل أنتم عائجون بنا لأنا

 

 نرى العرصات أو أثر الخيام‏

 

و قال عدي بن زيد:

أ عاذل ما يدريك أن منيتي‏

 

 إلى ساعة في اليوم أو في ضحى الغد

 

أي لعل منيتي المعنى و ما يشعركم لعلها إذا جاءت لا يؤمنون و هذا ما فسره الخليل بقوله ائت السوق إنك تشتري لنا شيئا أي لعلك و قد جاء في التنزيل لعل بعد العلم قال سبحانه‏ «وَ ما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى» «وَ ما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ» و التأويل الآخر الذي لم يذهب إليه الخليل و سيبويه أن يكون لا في قوله‏ «لا يُؤْمِنُونَ» زائدة و التقدير و ما يشعركم أنها إذا جاءت يؤمنون و مثل لا هذه في كونها في تأويل زائدة و في آخر غير زائدة قول الشاعر:

أبى جودة لا البخل و استعجلت به‏

 

 نعم من فتى لا يمنع الجوع قاتله‏

 

يريد لا يمنع الجائع الخبز و ينشد أبي جودة لا البخل و لا البخل فمن نصب البخل جعلها زائدة كأنه قال أبى جودة البخل و من قال لا البخل أضاف لا إلى البخل و وجه القراءة بالياء في‏ «يُؤْمِنُونَ» أن المراد بهم قوم مخصوصون بدلالة قوله‏ وَ لَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ الآية و ليس كل الكفار بهذه الصفة أي لا يؤمن هؤلاء المقسمون و وجه القراءة بالتاء أنه انصراف من الغيبة إلى الخطاب و المراد بالمخاطبين هم الغيب المقسمون الذين أخبر عنهم أنهم لا يؤمنون و من قرأ و يذرهم فإنه أسكن المرفوع تخفيفا.

539
مجمع البیان في تفسير القرآن4

اللغة ص : 540

 

اللغة

الجهد بالفتح المشقة و الجهد بالضم الطاقة و قيل الجهد بالفتح المبالغة فقوله‏ «جَهْدَ أَيْمانِهِمْ» أي بالغوا في اليمين و اجتهدوا فيه و هو منصوب على المصدر لأنه مضاف إلى المصدر و المضاف إلى المصدر مصدر فإن الأيمان جمع اليمين و اليمين هي القسم و التقدير و أقسموا بالله جهد أقسامهم.

النزول‏

قالت قريش يا محمد تخبرنا أن موسى كان معه عصا يضرب بها الحجر فينفجر منه اثنتا عشرة عينا و تخبرنا أن عيسى كان يحيي الموتى و تخبرنا أن ثمود كانت لهم ناقة فأتنا بآية من الآيات حتى نصدقك فقال رسول الله ص أي شي‏ء تحبون أن آتيكم به قالوا اجعل لنا الصفا ذهبا و ابعث لنا بعض موتانا حتى نسألهم عنك أ حق ما تقول أم باطل و أرنا الملائكة يشهدون لك أو ائتنا بالله و الملائكة قبيلا فقال رسول الله ص فإن فعلت بعض ما تقولون أ تصدقونني قالوا نعم و الله لئن فعلت لنتبعنك أجمعين و سأل المسلمون رسول الله ص أن ينزلها عليهم حتى يؤمنوا فقام رسول الله ص يدعو أن يجعل الصفا ذهبا فجاءه جبرائيل (ع) فقال له إن شئت أصبح الصفا ذهبا و لكن إن لم يصدقوا عذبتهم و إن شئت تركتهم حتى يتوب تائبهم فقال رسول الله ص بل يتوب تائبهم فأنزل الله تعالى هذه الآية عن الكلبي و محمد بن كعب القرظي..

المعنى‏

ثم بين سبحانه حال الكفار الذين سألوه الآيات فقال‏ «وَ أَقْسَمُوا» أي حلفوا «بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ» أي مجدين مجتهدين مظهرين الوفاء به‏ «لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ» مما سألوه‏ «لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ» يا محمد «إِنَّمَا الْآياتُ» أي الأعلام و المعجزات‏ «عِنْدَ اللَّهِ» و الله تعالى مالكها و القادر عليها فلو علم صلاحكم في إنزالها لأنزلها «وَ ما يُشْعِرُكُمْ» الخطاب متوجه إلى المشركين عن مجاهد و ابن زيد و قيل هو متوجه إلى المؤمنين عن الفراء و غيره لأنهم ظنوا أنهم لو أجيبوا إلى الآيات لآمنوا «أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ» قد مر معناه‏ «وَ نُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَ أَبْصارَهُمْ» أخبر سبحانه أنه يقلب أفئدة هؤلاء الكفار و أبصارهم عقوبة لهم و في كيفية تقليبهما قولان (أحدهما) أنه يقلبهما في جهنم على لهب النار و حر الجمر «كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ» في الدنيا عن الجبائي قال و جمع بين صفتهم في الدنيا و صفتهم في الآخرة كما قال‏ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ يعني في الآخرة عامِلَةٌ ناصِبَةٌ يعني في الدنيا (و الآخر) أن المعنى نقلب أفئدتهم و أبصارهم بالحيرة التي تغم و تزعج النفس و قوله‏ «كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ» قيل إنه متصل بما قبله و تقديره و أقسموا بالله ليؤمنن بالآيات و الله‏

 

540
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأنعام(6): آية 111] ص : 541

 

تعالى قد قلب قلوبهم و أبصارهم و علم أن فيها خلاف ما يقولون يقال فلان قد قلب هذه المسألة و قلب هذا الأمر إذا عرف حقيقته و وقف عليه و ما يدريكم‏ «أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ» كما لم يؤمنوا بما أنزل الله من الآيات أول مرة عن ابن عباس و مجاهد و قيل معناه لو أعيدوا إلى الدنيا ثانية لم يؤمنوا به كما لم يؤمنوا به أول مرة في الدنيا كما قال‏ وَ لَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ‏ عن ابن عباس في رواية أخرى و قيل معناه يجازيهم في الآخرة كما لم يؤمنوا به في الدنيا عن الجبائي و الهاء في به يحتمل أن يكون عائدة على القرآن و ما أنزل من الآيات و يحتمل أن تكون عائدة على النبي ص‏ «وَ نَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ» أي نخليهم و ما اختاروه من الطغيان فلا نحول بينه و بينهم‏ «يَعْمَهُونَ» يترددون في الحيرة قال الحسين بن علي المغربي قوله‏ «وَ نُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَ أَبْصارَهُمْ» حشو بين الجملتين و معناه أنا نحيط علما بذات الصدور و خائنة الأعين أي نختبر قلوبهم فنجد باطنها بخلاف ظاهرها.

 [سورة الأنعام (6): آية 111]

وَ لَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَ كَلَّمَهُمُ الْمَوْتى‏ وَ حَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْ‏ءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111)

القراءة

قرأ ابن كثير و أبو عمرو و يعقوب‏ «قُبُلًا» بضمتين هاهنا و في الكهف قبلا بكسر القاف و فتح الباء و قرأ أبو جعفر هاهنا بكسر القاف و في الكهف بالضم و قرأ نافع و ابن عامر قبلا+ بكسر القاف في موضعين و قرأ أهل الكوفة بضم القاف في السورتين.

الحجة

 «قُبُلًا» يحتمل أن يكون جمع قبيل بمعنى الكفيل و يجوز أن يكون بمعنى الصنف كما فسر أبو عبيدة و يجوز أن يكون بمعنى قبل أي مواجهة كما فسره أبو زيد في قوله لقيت فلانا قبلا و قبلا و قبلا و مقابلة و قبيلا كله واحد و هو المواجهة فالمعنى في القراءتين على قوله واحد و إن اختلف اللفظان.

اللغة

الحشر الجمع مع سوق و كل جمع حشر.

المعنى‏

ثم بين سبحانه حالهم في عنادهم و ترددهم في طغيانهم و كفرهم فقال‏

 

541
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأنعام(6): الآيات 112 الى 113] ص : 542

 «وَ لَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ» حتى يروهم عيانا يشهدون لنبينا بالرسالة «وَ كَلَّمَهُمُ الْمَوْتى‏» أي و أحيينا الموتى حتى كلموهم بالتوحيد و شهدوا لمحمد بالرسالة «وَ حَشَرْنا» أي جمعنا «عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْ‏ءٍ» أي كل آية و قيل كل ما سألوه‏ «قُبُلًا» أي معاينة و مقابلة حتى يواجهوها عن ابن عباس و قتادة و معناه أنهم من شدة عنادهم و تركهم الانقياد و الإذعان للحق يشكون في المشاهدات التي لا يشك فيها و مثله قوله‏ «وَ إِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ» و قبلا أي قبيلا قبيلا يعني جماعة جماعة عن مجاهد هذا إذا حملت قبلا على جمع القبيل الذي هو الصنف و إنما كانت تبهر هذه الآية لأنه ليس في العرف أن يجتمع جميع الأشياء و تنحشر إلى موضع و قيل كفلاء عن الفراء و هذا الوجه فيه بعد لأنهم إذا لم يؤمنوا عند إنزال الملائكة إليهم و كلام الموتى فإن لا يؤمنوا بالكفالة أجدر إلا أن يكون المراد حشر كل شي‏ء و في الأشياء المحشورة ما لا ينطق فإذا نطق بالكفالة ما لا ينطق كان خارقا للعادة «ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا» عند هذه الآيات‏

 «إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ» أن يجبرهم على الإيمان عن الحسن‏ و هو المروي عن أهل البيت (ع)

و المعنى أنهم قط لا يؤمنون مختارين إلا أن يكرهوا «وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ» أن الله قادر على ذلك و قيل معناه يجهلون أنهم لو أوتوا بكل آية ما آمنوا طوعا و قيل معناه يجهلون مواضع المصلحة فيبطلون ما لا فائدة فيه و في الآية دلالة على أن الله سبحانه لو علم أنه إذا فعل ما اقترحوه من الآيات آمنوا لفعل ذلك و لكان ذلك من الواجب في حكمته لأنه لو لم يجب ذلك لم يكن لتعليله بأنه لم يظهر هذه الآيات لعلمه بأنه لو فعلها لم يؤمنوا معنى و فيها أيضا دلالة على أن إرادته محدثة لأن الاستثناء يدل على ذلك إذ لو كانت قديمة لم يجز هذا الاستثناء و لم يصح كما كان لا يصح لو قال ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يعلم الله و إلا أن يقدر الله لحصول هاتين الصفتين فيما لم يزل و متى قيل فلم لا يقال أنهم لم يؤمنوا لأنه سبحانه يعلم أنه لم يشأ فالقول فيه أنه لو كان كذلك لكان وقوع الإيمان منهم موقوفا على المشيئة سواء كانت الآيات أم لم تكن و في هذا إبطال للآيات.

 [سورة الأنعام (6): الآيات 112 الى 113]

وَ كَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَ الْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى‏ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَ ما يَفْتَرُونَ (112) وَ لِتَصْغى‏ إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَ لِيَرْضَوْهُ وَ لِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113)

542
مجمع البیان في تفسير القرآن4

القراءة ص : 543

 

القراءة

في الشواذ عن الحسن و لتصغى إليه و ليرضوه و ليقترفوا بسكون اللام في الجميع و القراءة الظاهرة بكسر اللام في سائرها.

الحجة

قال أبو الفتح هذه اللام هي الجارة أعني لام كي و هي معطوفة على الغرور من قوله‏ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى‏ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً أي للغرور و لأن «تصغى‏ إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَ لِيَرْضَوْهُ وَ لِيَقْتَرِفُوا» إلا أن إسكان هذه اللام شاذ في الاستعمال على قوته في القياس لأن هذا الإسكان إنما كثر عنهم في لام الأمر نحو قوله تعالى‏ «ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَ لْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَ لْيَطَّوَّفُوا» و إنما أسكنت تخفيفا لثقل الكسرة فيها و فرقوا بينها و بين لام كي بأن لم يسكنوها و كأنهم إنما اختاروا السكون للأم الأمر و التحريك للأم كي من حيث كانت لام كي نائبة في أكثر الأمر عن أن و هي أيضا في جواب كان سيفعل إذا قلت ما كان ليفعل محذوفة مع اللام البتة فلما نابت عنها قووها بإقرار حركتها فيها لأن الحرف المتحرك أقوى من الساكن و الأقوى أشبه بأن ينوب عن غيره من الأضعف.

اللغة

الزخرف المزين يقال زخرفه زخرفة إذا زينه و الزخرف كمال حسن الشي‏ء و

في الحديث‏ أنه ص لم يدخل الكعبة حتى أمر بالزخرف فنحي‏

قيل كانت نقوش و تصاوير زينت الكعبة بها و قيل أراد بالزخرف الذهب و الغرور ما له ظاهر تحبه و فيه باطن مكروه و الشيطان غرور لأنه يحمل على محاب النفس و وراءه سوء العاقبة و بيع الغرر ما لا يكون على ثقة و صغوت إليه أصغي صغوا و صغوا و صغيت أصغي بالياء أيضا و أصغيت إليه إصغاء بمعنى قال الشاعر:

ترى السفيه به عن كل محكمة

 

 زيغ و فيه إلى التشبيه إصغاء

 

و يقال أصغيت الإناء إذا أملته ليجتمع ما فيه و منه‏

الحديث‏ كان رسول الله ص يصغي الإناء للهر

و الأصل فيه الميل إلى الشي‏ء لغرض من الأغراض و الاقتراف اكتساب الإثم و يقال‏

 

543
مجمع البیان في تفسير القرآن4

الإعراب ص : 544

خرج يقترف لأهله أي يكتسب لهم و قارف فلان هذا الأمر إذا واقعة و عمله و قرف الذنب و اقترفه عمله و قرفه بما ادعاه عليه أي رماه بالريبة و قرف القرحة أي قشر منها و اقترف كذبا.

الإعراب‏

نصب عدوا على أحد وجهين إما أن يكون مفعول جعلنا و شياطين بدل منه و مفسر له و عدوا في معنى أعداء و إما أن يكون أصله خبرا و يكون هنا مفعولا ثانيا لجعلنا على تقدير جعلنا شياطين الإنس و الجن عدوا أي أعداء و قوله‏ «غُرُوراً» نصب على المصدر من معنى الفعل المتقدم لأن معنى إيحاء الزخرف من القول معنى الغرور فكأنه قال يغرون غرورا عن الزجاج و قيل أنه مفعول له عن ابن جني و قيل نصب على البدل من زخرف عن أبي مسلم.

المعنى‏

ثم بين سبحانه ما كان عليه حال الأنبياء (ع) مع أعدائهم تسلية لنبيه ص فقال‏ «وَ كَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَ الْجِنِّ» أي و كما جعلنا لك شياطين الإنس و الجن أعداء كذلك جعلنا لمن تقدمك من الأنبياء و أممهم و قيل في معنى قوله و جعلنا هنا وجوه (أحدها) أن المراد كما أمرناك بعداوة قومك من المشركين فقد أمرنا من قبلك بمعاداة أعدائهم من الجن و الإنس و متى أمر الله رسوله بمعاداة قوم من المشركين فقد جعلهم أعداء له و قد يقول الأمير للمبارز من عسكره جعلت فلانا قرنك في المبارزة و إنما يعني بذلك أنه أمره بمبارزته لأنه إذا أمره بمبارزته فقد جعل من يبارزه قرنا له (و ثانيها) أن معناه حكمنا بأنهم أعداء و أخبرنا بذلك لتعاملوهم معاملة الأعداء في الاحتراز عنهم و الاستعداد لدفع شرهم و هذا كما يقال جعل القاضي فلانا عدلا و فلانا فاسقا إذا حكم بعدالة هذا و فسق ذلك (و ثالثها) أن المراد خلينا بينهم و بين اختيارهم العداوة لم نمنعهم عن ذلك كرها و لا جبرا لأن ذلك يزيل التكليف (و رابعها) أنه سبحانه إنما أضاف ذلك إلى نفسه لأنه سبحانه لما أرسل إليهم الرسل و أمرهم بدعائهم إلى الإسلام و الإيمان و خلع ما كانوا يعبدونه من الأصنام و الأوثان نصبوا عند ذلك العداوة لأنبيائه (ع) و مثله قوله سبحانه مخبرا عن نوح (ع) «فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً» و المراد بشياطين الإنس و الجن مردة الكفار من الفريقين عن الحسن و قتادة و مجاهد و قيل إن شياطين الإنس الذين يغوونهم و شياطين الجن الذين هم من ولد إبليس عن السدي و عكرمة و في تفسير الكلبي عن ابن عباس أن إبليس جعل جنده فريقين فبعث فريقا منهم إلى الإنس و فريقا إلى الجن فشياطين الإنس و الجن أعداء الرسل و المؤمنين فيلتقي شياطين الإنس و شياطين الجن في كل حين فيقول بعضهم لبعض أضللت صاحبي‏

544
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 544

بكذا فأضل صاحبك بمثلها فكذلك يوحي بعضهم إلى بعض‏

و روي عن أبي جعفر (ع) أيضا أنه قال‏ إن الشياطين يلقي بعضهم بعضا فيلقي إليه ما يغوى به الخلق حتى يتعلم بعضهم من بعض‏

 «يُوحِي» أي يوسوس و يلقي خفية «بَعْضُهُمْ إِلى‏ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ» أي المموه المزين الذي يستحسن ظاهره لا حقيقة له و لا أصل‏ «غُرُوراً» أي يغرونهم بذلك غرورا أو ليغروهم بذلك‏ «وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ» أخبر سبحانه أنه لو شاء أن يمنعهم من ذلك جبرا و يحول بينهم و بينه لقدر على ذلك و لو حال بينهم و بينه لما فعلوه و لكنه خلى بينهم و بين أفعالهم إبقاء للتكليف و امتحانا للمكلفين و قيل معناه و لو شاء ربك ما فعلوه بأن ينزل عليهم عذابا أو آية فتظل أعناقهم لها خاضعين‏ «فَذَرْهُمْ وَ ما يَفْتَرُونَ» أي دعهم و افتراءهم الكذب فإني أجازيهم و أعاقبهم أمر سبحانه نبيه ص بأن يخلي بينهم و بين ما اختاروه و لا يمنعهم منه بالقهر تهديدا لهم كما قال‏ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ‏ دون أن يكون أمرا واجبا أو ندبا «وَ لِتَصْغى‏ إِلَيْهِ» أي و لتميل إلى هذا الوحي بزخرف القول أو إلى هذا القول المزخرف‏ «أَفْئِدَةُ» أي قلوب‏ «الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ» و العامل في قوله‏ «وَ لِتَصْغى‏» قوله‏ «يُوحِي» و لا يجوز أن يكون العامل فيه جعلنا لأن الله سبحانه لا يجوز أن يريد إصغاء القلوب إلى الكفر و وحي الشياطين إلا أن تجعلها لام العاقبة كما في قوله‏ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَ حَزَناً على أنه غير معلوم أن كل من أرادوا منه الصغو قد صغى إلى كلامهم و لم يصح ذلك أيضا في قوله‏ «وَ لِيَرْضَوْهُ وَ لِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ» لأنه غير معلوم حصول ذلك و على ما قلناه يكون جميع ذلك معطوفا بعضه على بعض و المراد بالأفئدة أصحاب الأفئدة و لكن لما كان الاعتقاد في القلب و كذلك الشهوة أسند الصغو إلى القلب‏ «وَ لِيَرْضَوْهُ» أي و ليرضوا ما أوحي إليهم من القول المزخرف‏ «وَ لِيَقْتَرِفُوا» أي و ليكتسبوا من الإثم و المعاصي‏ «ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ» أي مكتسبون في عداوة النبي ص و المؤمنين عن ابن عباس و السدي و قال أبو علي الجبائي إن اللام في قوله‏ «وَ لِتَصْغى‏» و ما بعده لام الأمر و المراد بها التهديد كما قال سبحانه‏ «اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ» و استفزز من استطعت و هذا غلط فاحش لأنه لو كان كذلك لقال و لتصغ فحذف الألف و قال البلخي اللام في و لتصغى لام العاقبة و ما بعده لام الأمر الذي يراد به التهديد و هذا جائز إلا أن فيه تعسفا فالأصح ما ذكرناه.

545
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأنعام(6): آية 114] ص : 546

 

 [سورة الأنعام (6): آية 114]

أَ فَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً وَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114)

القراءة

قرأ ابن عامر و حفص‏ «مُنَزَّلٌ» بالتشديد و الباقون بالتخفيف.

الحجة

حجة التشديد قوله سبحانه‏ تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ+ و ما أشبهه و حجة التخفيف‏ إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ+ و ما أشبهه.

المعنى‏

ثم أمر الله سبحانه نبيه ص أن يقول لهؤلاء الكفار الذين مضى ذكرهم‏ «أَ فَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً» أي أطلب سوى الله حاكما و الحكم و الحاكم بمعنى واحد إلا أن الحكم أمدح لأن معناه من يستحق أن يتحاكم إليه فهو لا يقضي إلا بالحق و قد يحكم الحاكم بغير حق و المعنى هل يجوز لأحد أن يعدل عن حكم الله رغبة عنه أو هل يجوز أن يكون حكم سوى الله يساويه في حكمه‏ «وَ هُوَ الَّذِي» يعني و الله الذي‏ «أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ» أي القرآن‏ «مُفَصَّلًا» فصل فيه جميع ما يحتاج إليه و قيل فصل فيه بين الصادق و الكاذب في الدين و قيل فصل بين الحلال و الحرام و الكفر و الإيمان عن الحسن و معنى التفصيل تبيين المعاني بما ينفي التخليط المعمي للمعنى و ينفي أيضا التداخل الذي يوجب نقصان البيان عن المراد «وَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ» يعني بهم مؤمني أهل الكتاب و الكتاب هو التوراة و الإنجيل و قيل يعني بهم كبراء الصحابة و أصحاب بدر و الكتاب هو القرآن عن عطا «يَعْلَمُونَ أَنَّهُ» أي إن القرآن‏ «مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ» يعني ببيان الحق أي يعلمون أن كل ما فيه بيان عن الشي‏ء على ما هو به فترغيبه و ترهيبه و وعده و وعيده و قصصه و أمثاله و غير ذلك جميعه بهذه الصفة و قيل إن معنى بالحق بالبرهان الذي تقدم لهم حتى علموه به‏ «فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ» أي من الشاكين في ذلك و الخطاب للنبي ص و المراد به للأمة و قيل الخطاب لغيره أي فلا تكن أيها الإنسان أو أيها السامع و قيل الخطاب له ص و المراد به الزيادة في شرح صدره و يقينه و طمأنينة قلبه و تسكينه كقوله تعالى‏ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ‏ عن أبي مسلم.

 

546
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأنعام(6): آية 115] ص : 547

 

 [سورة الأنعام (6): آية 115]

وَ تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَ عَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115)

القراءة

 «كَلِمَةُ رَبِّكَ» بالتوحيد عراقي غير أبي عمرو و الباقون كلمات ربك.

الحجة

من قرأ «كَلِمَةُ رَبِّكَ» قال قد وقع المفرد على الكثرة فلذلك أغنى عن الجمع قالوا إن زهيرا قال في كلمته يعنون قصيدته و قال قس في كلمته يعنون خطبته و من قرأ بالجمع فلأنه لما كان جمعا في المعنى جمعوا.

اللغة

التبديل وضع الشي‏ء مكان غيره و الصدق الخبر الذي مخبره على وفق ما أخبر به و العدل ضد الجور و قيل إن أفعال الله تعالى كلها عدل لأنها كلها على الاستقامة و قيل إنما يوصف بذلك فيما يعامل به عباده.

الإعراب‏

 «صِدْقاً وَ عَدْلًا» نصب على التمييز و قيل إنهما مصدران انتصبا على الحال من الكلمة و تقدير ذلك صادقة و عادلة عن أبي علي الفارسي و قد تقدم مثل هذا فيما مضى.

المعنى‏

ثم بين سبحانه صفة الكتاب المنزل فقال‏ «وَ تَمَّتْ» أي كملت على وجه لا يمكن أحدا الزيادة فيه و النقصان منه‏ «كَلِمَةُ رَبِّكَ» أي القرآن عن قتادة و غيره و قيل معناه أنزلت شيئا بعد شي‏ء حتى كملت على ما تقتضيه الحكمة و قيل إن المراد بالكلمة دين الله كما في قوله‏ وَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا عن أبي مسلم و قيل المراد بها حجة الله على الخلق‏ «صِدْقاً وَ عَدْلًا» ما كان في القرآن من الأخبار فهو صدق لا يشوبه كذب و ما فيه من الأمر و النهي و الحكم و الإباحة و الحظر فهو عدل‏ «لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ» أي لا مغير لأحكامه عن قتادة لأنه و إن أمكن التغيير و التبديل في اللفظ كما بدل أهل الكتاب التوراة و الإنجيل فإنه لا يعتد بذلك قال و قد تطلق الكلمة بمعنى الحكم قال سبحانه‏ «وَ كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ» أي حكم ربك و يقال عقوبة ربك و قال النبي ص في صفة النساء إنهن هو أن عندكم استحللتم فروجهن بكلمة الله تعالى و قيل معناه أن القرآن محروس عن الزيادة و النقصان فلا مغير لشي‏ء منه و ذلك أن الله تعالى ضمن حفظه في قوله‏ «وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ» و لا يجوز أن يعني بالكلمات الشرائع كما عنى بقوله‏ «وَ صَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها» لأن الشرائع قد يجوز فيها النسخ و التبديل‏ «وَ هُوَ السَّمِيعُ» لأقوالكم‏ «الْعَلِيمُ» بضمائركم.

 

547
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأنعام(6): الآيات 116 الى 117] ص : 548

 

 [سورة الأنعام (6): الآيات 116 الى 117]

وَ إِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (116) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117)

اللغة

الفرق بين الأكثر و الأعظم أن الأعظم قد يوصف به واحد و لا يوصف بالأكثر واحد بحال و لهذا يقال في صفة الله تعالى عظيم و أعظم و لا يوصف بأكثر و إنما يقال أكبر بمعنى أعظم و الخرص الكذب يقال خرص يخرص خرصا و تخرص و اخترص و أصله القطع قال الشاعر:

ترى قصد المران فيهم كأنه‏

 

 تذرع خرصان بأيدي الشواطب‏

 

يعني جريدا يقطع طولا و يتخذ منه الحصر و هو جمع الخرص و منه خرص النخل يخرص خرصا إذا أحرزه و الخرص حبة القرط إذا كانت منفردة و الخرص العود لانقطاعه عن نظائره بطيب ريحه و لفظة أعلم إذا لم يذكر معها من فله معنيان (أحدهما) أعلم من الكل و اجتزئ عن ذكر من كقولهم الله أكبر أي من كل شي‏ء (و الثاني) بمعنى فعيل كقول الفرزدق:

إن الذي سمك السماء بنى لنا

 

 بيتا دعائمه أعز و أطول‏

 

أي عزيز و طويل.

الإعراب‏

موضع‏ «مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ» فيه وجوه (أحدها) أنه نصب على حذف الباء حتى يكون مقابلا لقوله‏ «وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ» (و الثاني) أن موضع من رفع بالابتداء و لفظها لفظ الاستفهام و المعنى أن ربك هو أعلم أي الناس يضل عن سبيله و هذا مثل قوله تعالى‏ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى‏ عن الزجاج و في هذه المسألة خلاف و سيأتي شرح ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى (و الثالث) أن موضعها نصب بفعل مضمر يدل عليه قوله‏ «أَعْلَمُ» فكأنه‏

 

548
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 549

قال إن ربك هو أعلم يعلم من يضل عن سبيله و صيغة أفعل من كذا لا تتعدى لأنها غير جارية على الفعل و لا معدولة عن الجارية على الفعل كما عدل ضروب عن ضارب و متجار عن تاجر عن أبي علي الفارسي و زعم قوم أن أعلم هاهنا بمعنى يعلم كما قال حاتم الطائي:

فحالفت طيئ من دوننا حلفا

 

 و الله أعلم ما كنا لهم خذلا

 

و قالت الخنساء:

أ لقوم أعلم أن جفنته‏

 

 تغدو غداة الريح أو تسري‏

 

و هذا فاسد لأنه لا يطابق قوله‏ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ‏ و لا يجوز أن يكون من في موضع جر بإضافة أعلم إليه لأن أفعل لا يضاف إلا إلى ما هو بعضه و جل ربنا و تقدس عن أن يكون بعض الضالين و لا بعض المضلين.

المعنى‏

لما تقدم ذكر الكتاب بين سبحانه في هذه الآية أن من تبع غير الكتاب ضل و أضل فقال‏ «وَ إِنْ تُطِعْ» يا محمد خاطبه ص و المراد غيره و قيل المراد هو و غيره و الطاعة هي امتثال الأمر و موافقة المطيع المطاع فيما يريده منه إذا كان المريد فوقه و الفرق بينها و بين الإجابة أن الإجابة عامة في موافقة الإرادة الواقعة موقع المسألة و لا يراعى فيها الرتبة «أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ» يعني الكفار و أهل الضلالة و إنما ذكر الأكثر لأنه علم سبحانه أن منهم من يؤمن و يدعو إلى الحق و يذب عن الدين و لكن هم الأقل و الأكثر الضلال‏ «يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ» أي عن دينه و في هذا دلالة على أنه لا عبرة في دين الله و معرفة الحق بالقلة و الكثرة لجواز أن يكون الحق مع الأقل و إنما الاعتبار فيه بالحجة دون القلة و الكثرة «إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ» أي ما يتبع هؤلاء المشركون فيما يعتقدونه و يدعون إليه إلا الظن‏ «وَ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ» أي ما هم إلا يكذبون و قيل معناه أنهم لا يقولون عن علم و لكن عن خرص و تخمين و قال ابن عباس كانوا يدعون النبي ص و المؤمنين إلى أكل الميتة و يقولون أ تأكلون ما قتلتم و لا تأكلون ما قتل ربكم فهذا ضلالهم‏ «إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ» خاطب سبحانه نبيه ص و إن عنى به جميع الأمة و يسأل فيقال كيف جاز في صفة القديم سبحانه أعلم مع أنه سبحانه لا يخلو من أن يكون أعلم بالمعنى ممن يعلمه أو ممن لا يعلمه و كلاهما لا

549
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأنعام(6): الآيات 118 الى 120] ص : 550

 

يصح فيه أفعل و الجواب أن المعنى هو أعلم به ممن يعلمه لأنه يعلمه من وجوه لا يخفى على غيره و ذلك أنه يعلم ما يكون منه و ما كان و ما هو كائن إلى يوم القيامة على جميع الوجوه التي يصح أن يعلم الأشياء عليها و ليس كذلك غيره لأن غيره لا يعلم جميع الأشياء و ما يعلمه لا يعلمه من جميع وجوهها و أما من هو غير عالم أصلا فلا يقال الله سبحانه أعلم منه لأن لفظة أعلم يقتضي الاشتراك في العلم و زيادة لمن وصف بأنه أعلم و هذا لا يصح فيمن ليس بعالم أصلا إلا مجازا «وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ» المعنى أنه سبحانه أعلم بمن يسلك سبيل الضلال المؤدي إلى الهلاك و العقاب و من يسلك سبيل الهدى المفضي به إلى النجاة و الثواب و في هذا دلالة على أن الضلال و الإضلال من فعل العبد خلاف ما يقوله أهل الجبر و على أنه لا يجوز التقليد و اتباع الظن في الدين و الاغترار بالكثرة و

إلى هذا أشار أمير المؤمنين علي (ع) حيث قال للحرث الهمداني‏ يا حار الحق لا يعرف بالرجال اعرف الحق تعرف أهله.

 [سورة الأنعام (6): الآيات 118 الى 120]

فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) وَ ما لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَ قَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَ إِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119) وَ ذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَ باطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ (120)

القراءة

قرأ أهل الكوفة غير حفص‏ «فَصَّلَ لَكُمْ» بالفتح ما حرم بالضم و قرأ أهل المدينة و حفص و يعقوب و سهل‏ «فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ» كليهما بالفتح و قرأ الباقون فصل لكم ما حرم بالضم فيهما و قرأ ابن كثير و أبو عمرو و يعقوب ليضلون بفتح الياء هنا و في يونس ليضلوا عن سبيلك و في إبراهيم ليضلوا عن سبيله و في الحج ليضل عن سبيل الله و في لقمان و الزمر

 

550
مجمع البیان في تفسير القرآن4

الحجة ص : 551

 

في المواضع الستة و قرأ أهل الكوفة بضم الياء في هذه المواضع و قرأ الباقون هنا و في سورة يونس بفتح الياء و في الأربعة بعد هذين الموضعين بضم الياء.

الحجة

حجة من ضم الفاء من فصل و الحاء من حرم قوله‏ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ وَ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ فهذا تفصيل هذا العام المجمل بقوله حرم و هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلًا فمفصلا يدل على فصل و حجة من قرأ فصل و حرم بفتح الفاء و الحاء قوله‏ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ‏ و قوله‏ أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ‏ و قوله‏ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هذا و حجة من ضم الياء من يضلون و يضلوا أنه يدل على أن الموصوف بذلك في الضلالة أذهب و من الهدى أبعد أ لا ترى أن كل مضل ضال و ليس كل ضال مضلا لأن الضلال قد يكون مقصورا على نفسه لا يتعداه إلى سواه و من قرأ بفتح الياء فإنه يريد أنهم يضلون في أنفسهم من غير أن يضلوا غيرهم من أتباعهم بامتناعهم من أكل ما ذكر اسم الله عليه و غير ذلك أي يضلون باتباع أهوائهم.

الإعراب و اللغة

 «وَ ذَرُوا» الواو للعطف و إنما استعمل منه الأمر و المستقبل و لا يستعمل وذر و لا واذر أشعروا بذلك كراهية الابتداء بالواو حتى لم يزيدوها هناك أصلا مع زيادتهم أخواتها و استغنوا فيها بترك و تارك و هذا كما استعملوا الماضي دون المستقبل و اسم الفاعل في عسى و الظاهر الكائن على وجه يمكن إدراكه و الباطن هو الكائن على وجه يتعذر إدراكه و الكسب ما يفعل لاجتلاب النفع أو دفع الضرر و إنما يوصف به العبد دون الله تعالى لاستحالة النفع و الضرر عليه سبحانه و الكواسب الجوارح من الطير لأنها تكسب ما تنتفع به و قد بينا أن معنى الاقتراف الاكتساب.

المعنى‏

ثم عطف سبحانه على ما تقدم من الكلام فقال‏ «فَكُلُوا» ثم اختلف في ذلك فقيل إنه لما ذكر المهتدين فكأنه قال و من الهداية أن تحلوا ما أحل الله و تحرموا ما حرم الله فكلوا و قيل إن المشركين لما قالوا للمسلمين أ تأكلون ما قتلتم أنتم و لا تأكلوا ما قتل ربكم فكأنه قال سبحانه لهم أعرضوا عن جهلكم فكلوا و المراد به الإباحة و إن كانت الصيغة صيغة الأمر «مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ» يعني ذكر اسم الله عند ذبحه دون الميتة و ما ذكر عليه اسم الأصنام و الذكر هو قول بسم الله و قيل هو كل اسم يختص الله تعالى به أو صفة تختصه كقول‏

 

551
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 551

باسم الرحمان أو باسم القديم أو باسم القادر لنفسه أو العالم لنفسه و ما يجري مجراه و الأول مجمع على جوازه و الظاهر يقتضي جواز غيره لقوله سبحانه‏ «قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى‏» «إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ» بأن عرفتم و رسوله و صحة ما أتاكم به من عند الله فكلوا ما أحل دون ما حرم و في هذه الآية دلالة على وجوب التسمية على الذبيحة و على أن ذبائح الكفار لا يجوز أكلها لأنهم لا يسمون الله تعالى عليها و من سمى منهم لا يعتقد وجوب ذلك حقيقة و لأنه يعتقد أن الذي يسميه و هو الذي أبد شرع موسى أو عيسى فإذا لا يذكرون الله تعالى حقيقة «وَ ما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ» قد ذكرنا إعرابه في سورة البقرة عند قوله‏ وَ ما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ‏ و تقديره أي شي‏ء لكم في أن لا تأكلوا فيكون ما للاستفهام و هو اختيار الزجاج و غيره من البصريين و معناه ما الذي يمنعكم أن تأكلوا مما ذكر اسم الله عند ذبحه و قيل معناه ليس لكم أن لا تأكلوا فيكون ما للنفي‏ «وَ قَدْ فَصَّلَ لَكُمْ» أي بين لكم‏ «ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ» قيل هو ما ذكر في سورة المائدة من قوله‏ «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ» الآية و اعترض على هذا بأن سورة المائدة نزلت بعد الأنعام بمدة فلا يصح أن يقال أنه فصل إلا أن يحمل على أنه بين على لسان الرسول ص و بعد ذلك نزل به القرآن و قيل إنه ما فصل في هذه السورة في قوله‏ قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً الآية «إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ» معناه إلا ما خفتم على نفوسكم الهلاك من الجوع إذا تركتم التناول منه فحينئذ يجوز لكم تناوله و إن كان مما حرمه الله و اختلف في مقدار ما يسوغ تناوله عند الاضطرار فعندنا لا يجوز أن يتناول إلا ما يمسك به الرمق و قال قوم يجوز أن يشبع المضطر منها و أن يحمل منها معه حتى يجد ما يأكل و قال الجبائي في هذه الآية دلالة على أن ما يكره على أكله من هذه الأجناس يجوز أكله لأن المكره يخاف على نفسه مثل المضطر «وَ إِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ» أي باتباع أهوائهم و من قرأ بالضم أراد أنهم يضلون أشياعهم فحذف المفعول به و في أمثاله كثرة و إنما جعل النكرة اسم أن لأن الكلام إذا طال احتمل ذلك و دل بعضه على بعض‏ «بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ» المتجاوزين الحق إلى الباطل و الحلال إلى الحرام‏ «وَ ذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَ باطِنَهُ» أمر سبحانه بترك الإثم مع قيام الدلالة على كونه إثما و نهى عن ارتكابه سرا و علانية و هو قول قتادة و مجاهد و الربيع بن أنس و قيل أراد بالظاهر أفعال الجوارح و بالباطن أفعال القلوب عن الجبائي و قيل الظاهر من الإثم هو الزنا و الباطن هو اتخاذ الأخدان عن السدي و الضحاك و قيل ظاهر الإثم امرأة الأب و باطنه الزنا عن سعيد بن جبير و قيل إن أهل الجاهلية كانت ترى أن الزنا إذا أظهر كان فيه إثم و إذا استسر

552
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأنعام(6): آية 121] ص : 553

 

به صاحبه لم يكن إثما ذكره الضحاك و الأصح القول الأول لأنه يعم الجميع‏ «إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ» أي يعملون المعاصي التي فيها الآثام و يرتكبون القبائح‏ «سَيُجْزَوْنَ» أي سيعاقبون‏ «بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ» بما كانوا يكسبون و يرتكبون.

 [سورة الأنعام (6): آية 121]

وَ لا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَ إِنَّهُ لَفِسْقٌ وَ إِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى‏ أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَ إِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)

المعنى‏

ثم أكد سبحانه ما تقدم بقوله‏ «وَ لا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ» يعني عند الذبح من الذبائح و هذا تصريح في وجوب التسمية على الذبيحة لأنه لو لم يكن كذلك لكان ترك التسمية غير محرم لها «وَ إِنَّهُ لَفِسْقٌ» يعني و إن أكل ما لم يذكر اسم الله عليه لفسق و في هذا دلالة على تحريم أكل ذبائح الكفار كلهم أهل الكتاب و غيرهم من سمي منهم و من لم يسم لأنهم لا يعرفون الله تعالى على ما ذكرناه من قبل فلا يصح منهم القصد إلى ذكر اسمه فأما ذبيحة المسلم إذا لم يسم الله تعالى عليها فقد اختلف في ذلك فقيل لا يحل أكلها سواء ترك التسمية عمدا أو نسيانا عن مالك و داود و روي ذلك عن الحسن و ابن سيرين و به قال الجبائي و قيل يحل أكلها في الحالين عن الشافعي و

قيل يحل أكلها إذا ترك التسمية ناسيا بعد أن يكون معتقدا لوجوبها و يحرم أكلها إذا تركها متعمدا عن أبي حنيفة و أصحابه‏ و هو المروي عن أئمتنا ع‏

 «وَ إِنَّ الشَّياطِينَ» يعني علماء الكافرين و رؤساءهم المتمردين في كفرهم‏ «لَيُوحُونَ» أي يؤمون و يشيرون‏ «إِلى‏ أَوْلِيائِهِمْ» الذين اتبعوهم من الكفار «لِيُجادِلُوكُمْ» في استحلال الميتة قال الحسن كان مشركو العرب يجادلون المسلمين فيقولون لهم كيف تأكلون مما تقتلونه أنتم و لا تأكلون مما قتله الله و قتيل الله أولى بالأكل من قتيلكم فهذه مجادلتهم و قال عكرمة إن قوما من مجوس فارس كتبوا إلى مشركي قريش و كانوا أولياءهم في الجاهلية أن محمدا و أصحابه يزعمون أنهم يتبعون أمر الله ثم يزعمون أن ما ذبحوه حلال و ما قتله الله حرام فوقع ذلك في نفوسهم فذلك إيحاؤهم إليهم و قال ابن عباس معناه و إن الشياطين من الجن و هم إبليس و جنوده ليوحون إلى أوليائهم من الإنس و الوحي‏

 

553
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأنعام(6): الآيات 122 الى 123] ص : 554

 

إلقاء المعنى إلى النفس من وجه خفي و هم يلقون الوسوسة إلى قلوب أهل الشرك ثم قال سبحانه‏ «وَ إِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ» أيها المؤمنون فيما يقولون من استحلال الميتة و غيره‏ «إِنَّكُمْ» إذا «لَمُشْرِكُونَ» لأن من استحل الميتة فهو كافر بالإجماع و من أكلها محرما لها مختارا فهو فاسق و هو قول الحسن و جماعة المفسرين و قال عطا أنه مختص بذبائح العرب التي كانت تذبحها للأوثان.

 [سورة الأنعام (6): الآيات 122 الى 123]

أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَ جَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (122) وَ كَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَ ما يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَ ما يَشْعُرُونَ (123)

القراءة

قرأ أهل المدينة و يعقوب ميتا بالتشديد و الباقون بالتخفيف.

الحجة

قال أبو عبيدة الميتة تخفيف ميتة و معناهما واحد قال أبو الرعلاء الغساني:

ليس من مات فاستراح بميت‏

 

 إنما الميت ميت الأحياء

 

إنما الميت من يعيش كئيبا

 

 كاسفا باله قليل الرجاء

 

و المحذوف من الياءين الثانية المنقلبة عن الواو و أعلت بالحذف كما أعلت بالقلب.

اللغة

الأكابر جمع الأكبر و قد قالوا الأكابرة و الأصاغرة كما قالوا الأساورة و الأحامرة قال الشاعر:

 

554
مجمع البیان في تفسير القرآن4

الإعراب ص : 555

 

إن الأحامرة الثلاثة أهلكت‏

 

 ما لي و كنت بهن قدما مولعا

 

الخمر و اللحم السمين أحبه‏

 

 و الزعفران و قد أبيت مردعا

 

و أصل المكر الفتل و منه جارية ممكورة أي مفتلة البدن فكان المكر معناه الفتل إلى خلاف الرشد.

الإعراب‏

 «أَ وَ مَنْ» هذه همزة الاستفهام دخلت على واو العطف و هو استفهام يراد به التقرير و موضع الكاف في قوله‏ «وَ كَذلِكَ جَعَلْنا» نصب معطوفة على ما قبلها و هو قوله‏ «كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ» مجرميها يجوز أن يكون منصوبا على التقديم و التأخير تقديره جعلنا في كل قرية مجرميها أكابر و يجوز أن يكون منصوبا بإضافة أكابر إليه.

النزول‏

الآية الأولى قيل أنها نزلت في حمزة بن عبد المطلب و أبي جهل بن هشام و ذلك أن أبا جهل آذى رسول الله ص فأخبر بذلك حمزة و هو على دين قومه فغضب و جاء و معه قوس فضرب بها رأس أبي جهل و آمن عن ابن عباس و

قيل إنها نزلت في عمار بن ياسر حين آمن و أبي جهل عن عكرمة و هو المروي عن أبي جعفر (ع)

و قيل نزلت في عمر بن الخطاب عن الضحاك و قيل أنها عامة في كل مؤمن و كافر عن الحسن و جماعة و هذا أولى لأنه أعم فائدة فيدخل فيه جميع الأقوال المذكورة.

المعنى‏

ثم ذكر سبحانه مثل الفريقين فقال‏ «أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ» أي كافرا فأحييناه بأن هديناه إلى الإيمان عن ابن عباس و الحسن و مجاهد شبه سبحانه الكفر بالموت و الإيمان بالحياة و قيل معناه من كان نطفة فأحييناه كقوله‏ وَ كُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ‏ «وَ جَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ» قيل فيه وجوه (أحدها) أن المراد بالنور العلم و الحكمة سمى سبحانه ذلك نورا و الجهل ظلمة لأن العلم يهتدى به إلى الرشاد كما يهتدى بالنور في الطرقات (و ثانيها) أن المراد بالنور هنا القرآن عن مجاهد (و ثالثها) أن المراد به الإيمان عن ابن عباس‏ «كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ» لم يقل سبحانه كمن هو في الظلمات تقديره كمن مثله مثل من هو في الظلمات يعني به الكافر الذي هو في ظلمة الكفر و قيل معناه كمن هو في ظلمات الكفر «لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها» لكنه ذكره بلفظ المثل ليبين أنه بلغ في الكفر و الحيرة

 

555
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 555

غاية يضرب به المثل فيها و إنما سمى الله تعالى الكافر ميتا لأنه لا ينتفع بحياته و لا ينتفع غيره بحياته فهو أسوء حالا من الميت إذ لا يوجد من الميت ما يعاقب عليه و لا يتضرر غيره به و سمي المؤمن حيا لأن له و لغيره المصلحة و المنفعة في حياته و كذلك سمي الكافر ميتا و المؤمن حيا في عدة مواضع مثل قوله‏ «إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى‏»+ و «لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا» و قوله‏ «وَ ما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَ لَا الْأَمْواتُ» و سمي القرآن و الإيمان و العلم نورا لأن الناس يبصرون بذلك و يهتدون به من ظلمات الكفر و حيرة الضلالة كما يهتدي بسائر الأنوار و سمي الكفر ظلمة لأن الكافر لا يهتدي بهداه و لا يبصر أمر رشده و هذا كما سمي الكافر أعمى في قوله‏ «أَ فَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى‏» و قوله‏ «وَ ما يَسْتَوِي الْأَعْمى‏ وَ الْبَصِيرُ»+ «كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» وجه التشبيه بالكافر أن معناه زين لهؤلاء الكفر فعملوه مثل ما زين لأولئك الإيمان فعملوه فشبه حال هؤلاء في التزيين بحال أولئك فيه كما قال سبحانه‏ كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ+ و روي عن الحسن أنه قال زينه و الله لهم الشيطان و أنفسهم و استدل بقوله‏ «وَ إِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى‏ أَوْلِيائِهِمْ» و قوله‏ «زُيِّنَ» لا يقتضي مزينا غيرهم لأنه بمنزلة قوله تعالى‏ «أَنَّى يُصْرَفُونَ» و «أَنَّى يُؤْفَكُونَ» و قول العرب أعجب فلان بنفسه و أولع بكذا و مثله كثير «وَ كَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ» أي مثل ذلك الذي قصصنا عليك زين للكافرين عملهم و مثل ذلك جعلنا في كل قرية أكابر «مُجْرِمِيها» و جعلنا ذا المكر من المجرمين كما جعلنا ذا النور من المؤمنين فكل ما فعلنا بهؤلاء فعلنا بأولئك إلا أن أولئك اهتدوا بحسن اختيارهم و هؤلاء ضلوا بسوء اختيارهم لأن في كل واحد منهما الجعل بمعنى الصيرورة إلا أن الأول باللطف و الثاني بالتمكين من المكر و إنما خص أكابر المجرمين بذلك دون الأصاغر لأنه أليق بالاقتدار على الجميع لأن الأكابر إذا كانوا في قبضة القادر فالأصاغر بذلك أجدر و اللام في قوله‏ «لِيَمْكُرُوا فِيها» لام العاقبة و يسمى لام الصيرورة كما في قوله سبحانه‏ «لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَ حَزَناً» و كما قال الشاعر:

فأقسم لو قتلوا مالكا

 

 لكنت لهم حية راصدة

 

و أم سماك فلا تجزعي‏

 

 فللموت ما تلد الوالدة

 

 «وَ ما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَ ما يَشْعُرُونَ» لأن عقاب ذلك يحل بهم و لا يصح أن يمكر الإنسان بنفسه على الحقيقة لأنه لا يصح أن يخفي عن نفسه معنى ما يحتال به عليها و يصح أن يخفي ذلك عن غيره و فائدة الآية أن أكابر مجرميها لم يمكروا بالمؤمنين على وجه‏

556
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأنعام(6): آية 124] ص : 557

 

المغالبة لله إذ هم كأنه سبحانه جعلهم ليمكروا و هذه مبالغة في انتفاء صفة المغالبة.

 [سورة الأنعام (6): آية 124]

وَ إِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى‏ مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ (124)

القراءة

قرأ ابن كثير و حفص‏ «رِسالَتَهُ» على التوحيد و نصب التاء و الباقون رسالاته على الجمع.

الحجة

من وحد فلأن الرسالة تدل على القلة و الكثرة لكونها مصدرا و من جمع فلما تكرر من رسالات الله سبحانه مرة بعد أخرى.

اللغة

الأجرام الإقدام على القبيح بالانقطاع إليه لأن أصل الجرم القطع فكأنه قطع ما يجب أن يوصل من العمل و منه قيل للذنب الجرم و الجريمة و الصغار الذل الذي يصغر إلى المرء نفسه يقال صغر الإنسان يصغر صغارا و صغرا.

الإعراب‏

الله أعلم حيث يجعل رسالاته لا يخلو حيث هنا من أن يكون ظرفا متضمنا لحرفه أو غير ظرف فإن كان ظرفا فلا يجوز أن يعمل فيه أعلم لأنه يصير المعنى أعلم في هذا الموضع أو في هذا الوقت و لا يوصف تعالى بأنه أعلم في مواضع أو في أوقات كما يقال زيد أعلم في مكان كذا أو أعلم في زمان كذا و إذا كان الأمر كذلك لم يجز أن يكون حيث هنا ظرفا و إذا لم يكن ظرفا كان اسما و كان انتصابه انتصاب المفعول به على الاتساع و يقوي ذلك دخول الجار عليها فكان الأصل الله أعلم بمواضع رسالاته ثم حذف الجار كما قال سبحانه‏ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ+ و في موضع آخر أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ‏ فمن يضل معمول فعل مضمر دل عليه أعلم و لا يجوز أن يكون معمول أعلم لأن المعاني لا تعمل في مواضع الاستفهام و نحوه إنما تعمل فيها الأفعال التي تلغى فتعلق كما تلغى و مثل ذلك في أنه لا يكون إلا محمولا على فعل قوله:

 (و أضرب منا بالسيوف القوانس)

 

 

 

فالقوانس منصوب‏

 

557
مجمع البیان في تفسير القرآن4

الإعراب ص : 557

بفعل مضمر دل عليه قوله اضرب لأن المعاني لا تعمل في المفعول به و مما جعل حيث فيه اسما متمكنا غير ظرف متضمن لمعنى في قول الشاعر:

كان منها حيث تلوي المنطقا

 

 حقفا نقا مالا على حقفي نقا

 

أ لا ترى أن حيث هنا في موضع نصب بكان و حقفا نقا مرفوع بأنه خبره و قال القاضي أبو سعيد السيرافي في شرح كتاب سيبويه أن من العرب من يضيف حيث إلى المفرد فيجر ما بعدها و أنشد ابن الأعرابي بيتا آخره:

 (حيث لي العمايم)

 

 

 

و أنشد أيضا أبو سعيد و أبو علي في إخراج حيث من حد الظرفية بالإضافة إليها إلى حد الأسماء المحضة قول الشاعر يصف شيخا يقتل القمل:

يهز الهرانع عقده عند الخصى‏

 

 بأذل حيث يكون من يتذلل‏

 

و من ذلك قول الفرزدق:

فمحن به عذبا رضابا غروبه‏

 

 رقاق و أعلى حيث ركبن أعجف‏

 

و قوله‏ «صَغارٌ عِنْدَ اللَّهِ» قال الزجاج عند متصلة بسيصيب أي سيصيبهم عند الله صغار و جاز أن يكون عند متصلة بصغار فيكون المعنى سيصيب الذين أجرموا صغار ثابت لهم عند الله و لا يصلح أن يكون من محذوفة من عند إنما المحذوف من عند في إذا قلت زيد عند عمرو فالمعنى زيد في حضرة عمرو قال أبو علي إذا قلت أن عند معمول لصغار لم تحتج إلى تقدير محذوف في الكلام لكن نفس المصدر يتناوله و يعمل فيه و يكون التقدير أن يصغروا عند الله فلا وجه لتقدير ثابت في الكلام فإن قدرت صغارا موصوفا بعند لم يكن عند معمولا لصغار و لكن يكون متعلقا بمحذوف فلا بد على هذا من تقدير ثابت و نحوه ما يكون في الأصل صفة ثم حذف و أقيم الظرف مقامه للدلالة عليه و هذا كقولك و أنت تريد الصفة هذا رجل عندك فالمعنى ثابت عندك أو مستقر عندك و كلا الوجهين جائز.

558
مجمع البیان في تفسير القرآن4

النزول ص : 559

 

النزول‏

نزلت في الوليد بن المغيرة قال و الله لو كانت النبوة حقا لكنت أولى بها منك لأني أكبر منك سنا و أكثر منك مالا و قيل نزلت في أبي جهل بن هشام قال زاحمنا بني عبد مناف في الشرف حتى إذا صرنا كفرسي رهان قالوا منا نبي يوحى إليه و الله لا نؤمن به و لا نتبعه أبدا إلا أن يأتينا وحي كما يأتيه عن مقاتل.

المعنى‏

ثم حكى سبحانه عن الأكابر الذين تقدم ذكرهم اقتراحاتهم الباطلة فقال‏ «وَ إِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ» أي دلالة معجزة من عند الله تعالى تدل على توحيده و صدق نبيه ص‏ «قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ» أي لن نصدق بها «حَتَّى نُؤْتى‏» أي نعطي آية معجزة «مِثْلَ ما أُوتِيَ» أي أعطي‏ «رُسُلُ اللَّهِ» حسدا منهم للنبي ص ثم أخبر سبحانه على وجه الإنكار عليهم بقوله‏ «اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ» أنه أعلم منهم و من جميع الخلق بمن يصلح لرسالاته و يتعلق مصالح الخلق ببعثه و أنه يعلم من يقوم بأعباء الرسالة و من لا يقوم بها فيجعلها عند من يقوم بأدائها و يحتمل ما يلحقه من المشقة و الأذى على تبليغها ثم توعدهم سبحانه فقال‏ «سَيُصِيبُ» أي سينال‏ «الَّذِينَ أَجْرَمُوا» أي انقطعوا إلى الكفر و أقدموا عليه يعني بهم المشركين من أكابر القرى الذين سبق ذكرهم‏ «صَغارٌ عِنْدَ اللَّهِ» أي سيصيبهم عند الله ذل و هوان و إن كانوا أكابر في الدنيا عن الزجاج و يجوز أن يكون المعنى سيصيبهم صغار معد لهم عند الله أو سيصيبهم أن يصغروا عند الله‏ «وَ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ» في الدنيا أي جزاء على مكرهم.

 [سورة الأنعام (6): آية 125]

فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَ مَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (125)

القراءة

قرأ ابن كثير ضيقا بتخفيف الياء و سكونها هاهنا و في الفرقان و الباقون بتشديدها و كسرها و قرأ أهل المدينة و أبو بكر و سهل حرجا بكسر الراء و الباقون بفتحها و قرأ ابن كثير يصعد بتخفيف الصاد و العين و سكون الصاد و قرأ أبو بكر يصاعد بتشديد الصاد و ألف بعدها و تخفيف العين و الباقون‏ «يَصَّعَّدُ» بتشديد الصاد و العين و فتح الصاد.

 

559
مجمع البیان في تفسير القرآن4

الحجة ص : 560

 

الحجة

الضيق و الضيق بمعنى مثل الميت و الميت و من فتح الراء من حرج فقد وصف بالمصدر كما قيل في قمن و دنف و نحوهما من المصادر التي يوصف بها و من كسر الراء من حرج فهو مثل دنف و قمن و قراءة ابن كثير يصعد من الصعود و من قرأ «يَصَّعَّدُ» أراد يتصعد فأدغم و معنى يتصعد أنه يثقل الإسلام عليه فكأنه يتكلف ما يثقل عليه شيئا بعد شي‏ء كقولهم يتعفف و يتحرج و نحو ذلك مما يتعاطى فيه الفعل شيئا بعد شي‏ء و يصاعد مثل يصعد في المعنى فهو مثل ضاعف و ضعف و ناعم و نعم و هما من المشقة و صعوبة الشي‏ء و من ذلك قوله‏ «يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً» و قوله‏ «سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً» أي سأغشيه عذابا صعودا و عقبة صعود أي شاقة و من ذلك قول عمر بن الخطاب ما تصعد في شي‏ء كما تصعد في خطبة النكاح أي ما شق علي شي‏ء مشقتها.

اللغة

الحرج و الحرج أضيق الضيق قال أبو زيد حرج عليه السحر يحرج حرجا إذ أصبح قبل أن يتسحر و حرم عليه حرما و هما بمعنى واحد و حرجت على المرأة الصلاة و حرمت بمعنى واحد و حرج فلان إذا هاب أن يتقدم على الأمر و قاتل فصبر و هو كاره و قد ذكرنا معاني الهداية و الهدى و الضلال و الإضلال في سورة البقرة و ما يجوز إسناده إلى الله تعالى من كلا الأمرين و ما لا يجوز عند قوله‏ «وَ ما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ».

المعنى‏

لما تقدم ذكر المؤمنين و الكافرين بين عقبة ما يفعله سبحانه بكل من القبيلتين فقال‏ «فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ» قد ذكر في تأويل الآية وجوه (أحدها) أن معناه‏ «فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ» إلى الثواب و طريق الجنة «يَشْرَحْ صَدْرَهُ» في الدنيا «لِلْإِسْلامِ» بأن يثبت عزمه عليه و يقوي دواعيه على التمسك به و يزيل عن قلبه وساوس الشيطان و ما يعرض في القلوب من الخواطر الفاسدة و إنما يفعل ذلك لطفا له و منا عليه و ثوابا على اهتدائه بهدى الله و قبوله إياه و نظيره قوله سبحانه‏ «وَ الَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً» «وَ يَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً» «وَ مَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً» يعني و من يرد أن يضله عن ثوابه و كرامته يجعل صدره في كفره ضيقا حرجا عقوبة له على ترك الإيمان من غير أن يكون سبحانه مانعا له عن الإيمان و سالبا إياه القدرة عليه بل ربما يكون ذلك سببا داعيا له إلى الإيمان فإن من ضاق صدره بالشي‏ء كان ذلك داعيا له إلى تركه و الدليل على أن شرح الصدر قد يكون ثوابا قوله سبحانه‏ «أَ لَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ» الآيات و معلوم أن وضع الوزر و رفع الذكر يكون ثوابا على تحمل أعباء الرسالة و كلفها فكذلك ما قرن به من شرح الصدر

 

560
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 560

و الدليل على أن الهدى قد يكون إلى الثواب قوله‏ «وَ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَ يُصْلِحُ بالَهُمْ» و معلوم أن الهداية بعد القتل لا تكون إلا إلى الثواب فليس بعد الموت تكليف‏

و قد وردت الرواية الصحيحة أنه لما نزلت هذه الآية سئل رسول الله ص عن شرح الصدر ما هو فقال نور يقذفه الله في قلب المؤمن فينشرح له صدره و ينفسح قالوا فهل لذلك من أمارة يعرف بها قال ص نعم الإنابة إلى دار الخلود و التجافي عن دار الغرور و الاستعداد للموت قبل نزول الموت‏

 (و ثانيها) أن معنى الآية فمن يرد الله أن يثبته على الهدى يشرح صدره من الوجه الذي ذكرناه جزاء له على إيمانه و اهتدائه و قد يطلق لفظ الهدى و المراد به الاستدامة كما قلناه في قوله‏ «اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ» «وَ مَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ» أي يخذله و يخلي بينه و بين ما يريده لاختياره الكفر و تركه الإيمان‏ «يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً» بأن يمنعه الألطاف التي ينشرح لها صدره لخروجه من قبولها بإقامته على كفره فإن قيل إنا نجد الكافر غير ضيق الصدر لما هو فيه و نراه طيب القلب على كفره فكيف يصح الخلف في خبره سبحانه قلنا أنه سبحانه بين أنه يجعل صدره ضيقا و لم يقل في كل حال و معلوم من حاله في أحوال كثيرة أنه يضيق صدره بما هو فيه من ورود الشبه و الشكوك عليه و عند ما يجازي الله تعالى المؤمن على استعمال الأدلة الموصلة إلى الإيمان و هذا القدر هو الذي يقتضيه الظاهر (و ثالثها) أن معنى الآية من يرد الله أن يهديه زيادة الهدى التي وعدها المؤمن‏ «يَشْرَحْ صَدْرَهُ» لتلك الزيادة لأن من حقها أن تزيد المؤمن بصيرة و من يرد أن يضله عن تلك الزيادة بمعنى يذهبه عنها من حيث أخرج هو نفسه من أن يصح عليه‏ «يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً» لمكان فقد تلك الزيادة لأنها إذا اقتضت في المؤمن ما قلناه أوجب في الكافر ما يضاده و يكون الفائدة في ذلك الترغيب في الإيمان و الزجر عن الكفر و هذا التأويل قريب مما تقدمه و قد روي عن ابن عباس أنه قال إنما سمى الله قلب الكافر حرجا لأنه لا يصل الخير إلى قلبه و في رواية أخرى لا تصل الحكمة إلى قلبه و لا يجوز أن يكون المراد بالإضلال في الآية الدعاء إلى الضلال و لا الأمر به و لا الإجبار عليه لإجماع الأمة على أن الله تعالى لا يأمر بالضلال و لا يدعو إليه فكيف يجبر عليه و الدعاء إليه أهون من الإجبار عليه و قد ذم الله تعالى فرعون و السامري على إضلالهما عن دين الهدى في قوله‏ «وَ أَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَ ما هَدى‏» و قوله‏ «وَ أَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ» و لا خلاف في أن إضلالهما إضلال أمر و إجبار و دعاء و قد ذمهما الله تعالى عليه مطلقا فكيف يتمدح بما ذم عليه غيره قوله‏ «كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ» فيه وجوه (أحدها) أن معناه كأنه قد كلف أن يصعد إلى السماء إذا دعي إلى الإسلام من ضيق‏

561
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأنعام(6): الآيات 126 الى 127] ص : 562

 

صدره عنه أو كان قلبه يصعد في السماء نبوا عن الإسلام و الحكمة عن الزجاج (و ثانيها) أن معنى يصعد كأنه يتكلف مشقة في ارتقاء صعود و على هذا قيل عقبة عنوت و كؤود عن أبي علي الفارسي قال و لا يكون السماء في هذا القول المظلة للأرض و لكن كما قال سيبويه القيدود الطويل في غير سماء أي في غير ارتفاع صعدا و قريب منه ما روي عن سعيد بن جبير أن معناه كأنه لا يجد مسلكا إلا صعدا (و ثالثها) أن معناه كأنما ينزع قلبه إلى السماء لشدة المشقة عليه في مفارقة مذهبه‏ «كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ» أي العذاب عن ابن زيد و غيره من أهل اللغة و قيل هو ما لا خير فيه عن مجاهد «عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ» و في هذا دلالة على صحة التأويل الأول لأنه تعالى بين أن الإضلال المذكور في الآية كان على وجه العقوبة على الكفر و لو كان المراد به الإجبار على الكفر لقال كذلك لا يؤمن من جعل الله الرجس على قلبه و وجه التشبيه في قوله‏ «كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ» أنه يجعل الرجس على هؤلاء كما يجعل ضيق الصدر في قلوب أولئك و أن كل ذلك على وجه الاستحقاق و

روى العياشي بإسناده عن أبي بصير عن خيثمة قال سمعت أبا جعفر (ع) يقول‏ أن القلب يتقلب من لدن موضعه إلى حنجرته ما لم يصب الحق فإذا أصاب الحق قر ثم قرأ هذه الآية.

 [سورة الأنعام (6): الآيات 126 الى 127]

وَ هذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126) لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ هُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (127)

المعنى‏

ثم أشار تعالى إلى ما تقدم من البيان فقال‏ «وَ هذا صِراطُ رَبِّكَ» أي طريق ربك و هو القرآن عن ابن مسعود و الإسلام عن ابن عباس و إنما أضافه إلى نفسه لأنه تعالى هو الذي دل عليه و أرشد إليه‏ «مُسْتَقِيماً» لا اعوجاج فيه و إنما انتصب على الحال و إنما وصف الصراط الذي هو أدلة الحق بالاستقامة مع اختلاف وجوه الأدلة لأنها مع اختلافها تؤدي إلى الحق فكأنها طريق واحد لسلامة جميعها من التناقض و الفساد «قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ» أي بيناها و ميزناها «لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ» و أصله يتذكرون خص المتذكرين بذلك لأنهم المنتفعون بالحجج كما قال‏ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ‏ «لَهُمْ دارُ السَّلامِ» أي للذين تذكروا

 

562
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأنعام(6): الآيات 128 الى 129] ص : 563

 

و تدبروا و عرفوا الحق و تبعوه دار السلامة الدائمة الخالصة من كل آفة و بلية مما يلقاه أهل النار عن الزجاج و الجبائي و قيل أن السلام هو الله تعالى و دار الجنة عن الحسن و السدي‏ «عِنْدَ رَبِّهِمْ» أي هي مضمونة لهم عند ربهم يوصلهم إليها لا محالة كما يقول الرجل لغيره لك عندي هذا المال أي في ضماني و قيل معناه لهم دار السلام في الآخرة يعطيهم إياها «وَ هُوَ وَلِيُّهُمْ» يعني الله يتولى إيصال المنافع إليهم و دفع المضار عنهم و قيل وليهم ناصرهم على أعدائهم و قيل يتولاهم في الدنيا بالتوفيق و في الآخرة بالجزاء «بِما كانُوا يَعْمَلُونَ» المراد جزاء بما كانوا يعملون من الطاعات فحذف لظهور المعنى فإن من المعلوم أن ما لا يكون طاعة من الأعمال فلا ثواب عليه.

 [سورة الأنعام (6): الآيات 128 الى 129]

وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَ قالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَ بَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128) وَ كَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (129)

القراءة

قرأ حفص و روح‏ «وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ» بالياء و الباقون بالنون.

الحجة

من قرأ بالياء فلقوله‏ عِنْدَ رَبِّهِمْ‏ و النون كالياء في المعنى و يقوي النون قوله‏ «وَ حَشَرْناهُمْ» و «نَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى‏».

الإعراب‏

قال الزجاج‏ «خالِدِينَ فِيها» منصوب على الحال و المعنى النار مقامكم في حال خلود دائم قال أبو علي المثوى عندي في الآية اسم للمصدر دون المكان لحصول الحال في الكلام معملا فيها أ لا ترى أنه لا يخلو من أن يكون موضعا أو مصدرا فلا يجوز أن يكون موضعا لأن اسم الموضع لا يعمل عمل الفعل لأنه لا معنى للفعل فيه و إذا لم يكن موضعا ثبت أنه مصدر و المعنى النار ذات إقامتكم فيها خالدين أي أهل أن تقيموا أو تثووا خالدين فيها فالكاف و الميم في المعنى فاعلون و إن كان في اللفظ خفض بالإضافة.

 

563
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 564

المعنى‏

ثم عطف سبحانه على ما تقدم فقال‏ «وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً» أي يجمعهم يريد جميع الخلق و قيل الإنس و الجن لأنه يتعقبه حديثهم و قيل يريد الكفار و انتصب اليوم بالقول المضمر لأن المعنى‏ «وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً» يقول‏ «يا مَعْشَرَ الْجِنِّ» أي يا جماعة الجن‏ «قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ» أي قد استكثرتم ممن أضللتموه من الإنس عن الزجاج و هو مأخوذ من قول ابن عباس معناه من إغواء الإنس و إضلالهم‏ «وَ قالَ أَوْلِياؤُهُمْ» أي متبعوهم‏ «مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ» أي انتفع بعضنا ببعض و قد قيل فيه أقوال (أحدها) أن استمتاع الجن بالإنس أن اتخذهم الإنس قادة و رؤساء فاتبعوا أهواءهم و استمتاع الإنس بالجن انتفاعهم في الدنيا بما زين لهم الجن من اللذات و دعوهم إليه من الشهوات (و ثانيها) أن استمتاع الإنس بالجن أن الرجل كان إذا سافر و خاف الجن في سلوك طريق قال أعوذ بسيد هذا الوادي ثم يسلك فلا يخاف و كانوا يرون ذلك استجارة بالجن و إن الجن تجيرهم كما قال الله تعالى‏ وَ أَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً و استمتاع الجن بالإنس أن الجن إذا اعتقدوا أن الإنس يتعوذون بهم و يعتقدون أنهم ينفعونهم و يضرونهم كان في ذلك لهم سرور و نفع عن الحسن و ابن جريج و الزجاج و غيرهم (و ثالثها) أن المراد بالاستمتاع طاعة بعضهم لبعض و موافقة بعضهم بعضا عن محمد بن كعب قال البلخي و يحتمل أن يكون الاستمتاع مقصورا عن الإنس فيكون الإنس استمتع بعضهم ببعض دون الجن و قوله‏ «وَ بَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا» يعني بالأجل الموت عن الحسن و السدي و قيل البعث و الحشر لأن الحشر أجل الجزاء كما أن الموت أجل استدراك ما مضى قال الجبائي و في هذا دلالة على أنه لا أجل إلا واحد لأنه لو كان أجلان لكان الرجل إذا اقتطع دون الموت بأن يقتل لم يكن بلغ أجله و الآية تتضمن أنهم أجمع قالوا بلغنا أجلنا الذي أجلت لنا و قال علي بن عيسى و غيره من البغداديين لا دلالة في الآية على ذلك بل لا يمتنع أن يكون للإنسان أجلان (أحدهما) ما يقع فيه الموت (و الآخر) ما يقع فيه الحشر أو ما كان يجوز أن يعيش إليه‏ «قالَ» الله تعالى لهم‏ «النَّارُ مَثْواكُمْ» أي مقامكم و الثواء الإقامة «خالِدِينَ فِيها» أي دائمين مؤبدين فيها معذبين‏ «إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ» و قيل في معنى هذا الاستثناء أقوال (أحدها) ما روي عن ابن عباس أنه قال كان وعيد الكفار مبهما غير مقطوع به ثم قطع به لقوله تعالى‏ «إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ» (و ثانيها) أن الاستثناء إنما هو من يوم القيامة لأن قوله‏ «وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً» هو يوم القيامة فقال‏ «خالِدِينَ فِيها» مذ يوم يبعثون إلا ما شاء الله من مقدار حشرهم من قبورهم و مقدار مدتهم في محاسبتهم عن الزجاج قال‏

564
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 564

و جائز أن يكون المراد إلا ما شاء الله أن يعذبهم به من أضعاف العذاب (و ثالثها) أن الاستثناء راجع إلى غير الكفار من عصاة المسلمين الذين هم في مشيئة الله تعالى إن شاء عذبهم بذنوبهم بقدر استحقاقهم عدلا و إن شاء عفا عنهم فضلا (و رابعها) إن معناه إلا ما شاء الله ممن آمن منهم عن عطاء «إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ» أي محكم لأفعاله عليم بكل شي‏ء و قيل حكيم في عقاب من يختار أن يعاقبه و العفو عمن يختار أن يعفو عنه عليم بمن يستحق الثواب و بمقدار ما يستحقه و بمن يستحق العقاب و بمقدار ما يستحقه‏ «وَ كَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ» الكاف للتشبيه أي كذلك المهل بتخلية بعضهم عن بعض للامتحان الذي معه يصح الجزاء على الأعمال توليتنا بعض الظالمين بعضا بأن نجعل بعضهم يتولى أمر بعض للعقاب الذي يجري على الاستحقاق عن علي بن عيسى و قيل معناه أنا كما وكلنا هؤلاء الظالمين من الجن و الإنس بعضهم إلى بعض يوم القيامة و تبرأنا منهم فكذلك نكل الظالمين بعضهم إلى بعض يوم القيامة و نكل الأتباع إلى المتبوعين و نقول للأتباع قولوا للمتبوعين حتى يخلصوكم من العذاب عن أبي علي الجبائي قال و الغرض بذلك إعلامهم أنه ليس لهم يوم القيامة ولي يدفع عنهم شيئا من العذاب و قال غيره لما حكى الله تعالى ما يجري بين الجن و الإنس من الخصام و الجدال في الآخرة قال و كذلك أي و كما فعلنا بهؤلاء من الجمع بينهم في النار و تولية بعضهم بعضا نفعل مثله بالظالمين جزاء على أعمالهم و قال ابن عباس إذا رضي الله عن قوم ولى أمرهم خيارهم و إذا سخط على قوم ولى أمرهم شرارهم بما كانوا يكسبون من المعاصي أي جزاء على أعمالهم القبيحة و ذلك معنى قوله‏ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ‏ و مثله ما

رواه الكلبي عن مالك بن دينار قال قرأت في بعض كتب الحكمة أن الله تعالى يقول‏ إني أنا الله مالك الملوك، قلوب الملوك بيدي فمن أطاعني جعلتهم عليه رحمة و من عصاني جعلتهم عليه نقمة فلا تشغلوا أنفسكم بسب الملوك و لكن توبوا إلي أعطفهم عليكم‏

و قيل معنى قوله نولي بعضهم بعضا نخلي بينهم و بين ما يختارونه من غير نصرة لهم و قيل معناه نتابع بعضهم بعضا في النار من الموالاة التي هي المتابعة أي يدخل بعضهم النار عقيب بعض عن قتادة.

565
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأنعام(6): الآيات 130 الى 132] ص : 566

 

 [سورة الأنعام (6): الآيات 130 الى 132]

يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ أَ لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَ يُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى‏ أَنْفُسِنا وَ غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَ شَهِدُوا عَلى‏ أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (130) ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى‏ بِظُلْمٍ وَ أَهْلُها غافِلُونَ (131) وَ لِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَ ما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132)

القراءة

قرأ ابن عامر عما تعملون بالتاء و الباقون بالياء.

اللغة

الغفلة عن المعنى و السهو عنه و العزوب عنه نظائر و ضد الغفلة اليقظة و ضد السهو الذكر و ضد العزوب الحضور.

الإعراب‏

موضع‏ «ذلِكَ» يحتمل أن يكون رفعا على تقدير الأمر ذلك و يحتمل أن يكون نصبا على تقدير فعلنا ذلك و إن لم يكن أن هذه هي المخففة من الثقيلة و تقديره لأنه لم يكن كما في قول الشاعر:

في فتية كسيوف الهند قد علموا

 

 أن هالك كل من يحفى و ينتعل‏

 

و أن المفتوحة لا بد لها من إضمار الهاء لأنه لا معنى لها في الابتداء و إنما هي بمعنى المصدر المبني على غيره و المكسورة لا تحتاج إلى الهاء لأنها تصح أن تكون حرفا من حروف الابتداء فلا يحتاج إلى إضمار و إنما لم يبن كل إذا حذف منه المضاف إليه كما بني قبل و بعد لأن ما حذف منه المضاف إليه مثل قبل و بعد لم يكن في حال الإعراب على التمكن التام فإنه لا يدخله الرفع في تلك الحال فلما انضاف إلى ذلك نقصان التمكن بحذف المضاف إليه أخرج إلى البناء و ليس كذلك كل لأنه متمكن على كل حال فلذلك لم يبن.

المعنى‏

ثم بين عز و جل تمام ما يخاطب به الجن و الإنس يوم القيامة بأن يقول‏ «يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ» و المعشر الجماعة التامة من القوم التي تشتمل على أصناف الطوائف و منه العرة لأنها تمام العقد «أَ لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ» هذا احتجاج عليهم بأن بعث إليهم الرسل إعذارا و إنذارا و تأكيدا للحجة عليهم و أما قوله‏ «مِنْكُمْ» و إن كان خطابا لجميعهم و الرسل‏

 

566
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 566

من الإنس خاصة فإنه يحتمل أن يكون لتغليب أحدهما على الآخر كما قال تعالى‏ «يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَ الْمَرْجانُ» و إن كان اللؤلؤ يخرج من الملح دون العذب و كما يقال أكلت الخبز و اللبن و إنما يؤكل الخبز و يشرب اللبن و هو قول أكثر المفسرين و الزجاج و الرماني و قيل إنه أرسل رسل إلى الجن كما أرسل إلى الإنس عن الضحاك و قال الكلبي كان الرسل يرسلون إلى الإنس ثم بعث محمد ص إلى الإنس و الجن و قال ابن عباس إنما بعث الرسول من الإنس ثم كان يرسل هو إلى الجن رسولا من الجن و قال مجاهد الرسل من الإنس و النذر من الجن‏ «يَقُصُّونَ» أي يتلون و يقرءون‏ «عَلَيْكُمْ آياتِي» أي حجبي و دلائلي و بيناتي‏ «وَ يُنْذِرُونَكُمْ» أي يخوفونكم‏ «لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا» أي لقاء ما تستحقونه من العقاب في هذا اليوم و حصولكم فيه يعني يوم القيامة «قالُوا شَهِدْنا عَلى‏ أَنْفُسِنا» بالكفر و العصيان في حال التكليف و لزوم الحجة و انقطاع المعذرة و اعترافنا بذلك‏ «وَ غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا» أي تزينت لهم بظاهرها حتى اغتروا بها «وَ شَهِدُوا عَلى‏ أَنْفُسِهِمْ» في الآخرة «أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ» في الدنيا أي أقروا بذلك و شهدوا باستحقاقهم العقاب‏ «ذلِكَ» حكم الله تعالى‏ «أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ» أي لأنه لم يكن ربك‏ «مُهْلِكَ الْقُرى‏ بِظُلْمٍ وَ أَهْلُها غافِلُونَ» و هذا يجري مجرى التعليل أي لأجل أنه لم يكن الله تعالى ليهلك أهل القرى بظلم يكون منهم حتى يبعث إليهم رسلا ينبهونهم على حجج الله تعالى و يزجرونهم و يذكرونهم و لا يؤاخذهم بغتة و هذا إنما يكون منه تعالى على وجه الاستظهار في الحجة دون أن يكون ذلك واجبا لأن ما فعلوه من الظلم قد استحقوا به العقاب و قيل معناه أنه تعالى لا يهلكهم بظلم منه على غفلة منهم من غير تنبيه و تذكير عن الفراء و الجبائي و مثله قوله‏ وَ ما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى‏ بِظُلْمٍ وَ أَهْلُها مُصْلِحُونَ‏ و في هذا دلالة واضحة على أنه تعالى منزه عن الظلم و لو كان الظلم من خلقه لما صح تنزهه تعالى عنه‏ «وَ لِكُلٍّ» أي و لكل عامل طاعة أو معصية «دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا» أي مراتب في عمله على حسب ما يستحقه فيجازى عليه إن كان خيرا فخير و إن كان شرا فشر و إنما سميت درجات لتفاضلها كتفاضل الدرج في الارتفاع و الانحطاط و إنما يعبر عن تفاضل أهل الجنة بالدرج و عن تفاضل أهل النار بالدرك إلا أنه لما جمع بينهم عبر عن تفاضلهم بالدرج تغليبا لصفة أهل الجنة «وَ ما رَبُّكَ» يا محمد أو أيها السامع‏ «بِغافِلٍ» أي ساه‏ «عَمَّا يَعْمَلُونَ» أي لا يشذ شي‏ء من ذلك عن عمله فيجازيهم على حسب ما يستحقونه من الجزاء و في هذا تنبيه و تذكير للخلق في كل أمورهم.

567
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأنعام(6): الآيات 133 الى 135] ص : 568

 

 [سورة الأنعام (6): الآيات 133 الى 135]

وَ رَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَ يَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133) إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134) قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى‏ مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135)

القراءة

قرأ أبو بكر عن عاصم مكاناتكم على الجمع و الباقون‏ «مَكانَتِكُمْ» على التوحيد و قرأ حمزة و الكسائي من يكون بالياء و الباقون بالتاء.

الحجة

وجه قراءة «مَكانَتِكُمْ» على التوحيد أنه مصدر و المصادر في أكثر الأمور مفردة و وجه الجمع أنه قد يجمع المصدر كقولهم الحلوم و الأحلام قال:

فأما إذا جلسوا في الندي‏

 

 فأحلام عاد و أيد هضم‏

 

و من قرأ من يكون بالياء فلأن العاقبة مصدر كالعافية و تأنيثه غير حقيقي فمن أنث فهو كقوله‏ «فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ» و من ذكر فكقوله‏ وَ أَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ و كلا الأمرين جائز.

اللغة

الإنشاء الابتداء أنشأ الله الخلق إذا خلقهم و ابتدأهم و منه قولهم أنشأ فلان قصيدة و النشأ الأحداث من الأولاد قال نصيب:

و لو لا أن يقال صبا نصيب‏

 

 لقلت بنفسي النشأ الصغار

 

و توعدون من الإيعاد و يحتمل أن يكون من الوعد و الوعد في الخير و الإيعاد في الشر و قال أبو زيد المكانة المنزلة يقال رجل مكين عند السلطان من قوم مكناء و قد مكن مكانة.

الإعراب‏

الكاف في قوله‏ «كَما أَنْشَأَكُمْ» في موضع نصب أي مثل ما أنشأكم و من في قوله‏ «وَ يَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ» للبدل كقولهم أعطيتك من دينارك ثوبا أي مكان دينارك و بدله و من في قوله‏ «مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ» لابتداء الغاية و ما في قوله‏ «إِنَّ ما تُوعَدُونَ» بمعنى الذي و من في قوله‏

 

568
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 569

 «مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ» في موضع رفع بالابتداء و خبره‏ «تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ» و تقديره أينا تكون له عاقبة الدار و يكون تعليقا و يحتمل أن يكون موضعه نصبا بتعلمون و يكون في معنى الذي.

المعنى‏

لما أمر سبحانه بطاعته و حث عليها و رغب فيها بين أنه لم يأمر بها لحاجة لأنه يتعالى عن النفع و الضر فقال‏ «وَ رَبُّكَ» أي خالقك و سيدك‏ «الْغَنِيُّ» عن أعمال عباده لا تنفعه طاعتهم و لا تضره معصيتهم لأن الغني عن الشي‏ء هو الذي يكون وجود الشي‏ء و عدمه و صحته و فساده عنده بمنزلة «ذُو الرَّحْمَةِ» أي صاحب النعمة على عباده بين سبحانه أنه مع غناه عن عباده ينعم عليهم و أن إنعامه و إن كثر لا ينقص من ملكه و لا من غناه ثم أخبر سبحانه عن قدرته فقال‏ «إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ» أي يهلككم و تقديره يذهبكم بالإهلاك‏ «وَ يَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ» أي و ينشئ بعد هلاككم خلقا غيركم يكون خلفا لكم‏ «كَما أَنْشَأَكُمْ» في الأول‏ «مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ» تقدموكم و هذا خطاب لمن سبق ذكره من الجن و الإنس و يحتمل أن يكون معناه و يستخلف جنسا آخر أي كما قدر على إخراج الجن من الجن و الإنس من الإنس فهو قادر على أن يخرج قوما آخر لا من الجن و لا من الإنس و في هذه الآية دلالة على أن خلاف المعلوم يجوز أن يكون مقدورا لأنه سبحانه بين أنه قادر على أن ينشئ خلقا خلاف الجن و الإنس و لم يفعل ذلك‏ «إِنَّ ما تُوعَدُونَ» من القيامة و الحساب و الجنة و النار و الثواب و العقاب و تفاوت أهل الجنة في الدرجات و تفاوت أهل النار في الدركات‏ «لَآتٍ» لا محالة «وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ» بفائتين و يقال بسابقين و يقال بخارجين من ملكه و قدرته و الإعجاز أن يأتي الإنسان بشي‏ء يعجز خصمه عنه و يقصر دونه فيكون قد جعله عاجزا عنه فعلى هذا يكون المعنى لستم بمعجزين الله سبحانه عن الإتيان بالبعث و العقاب‏ «قُلْ» يا محمد لهم‏ «يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى‏ مَكانَتِكُمْ» أي على قدر منزلتكم و تمكنكم من الدنيا و معناه أثبتوا على ما أنتم عليه من الكفر و هذا تهديد و وعيد بصيغة الأمر و قيل على مكانتكم على طريقتكم و قيل على حالتكم عن الجبائي أي أقيموا على حالتكم التي أنتم عليها فإني مجازيكم‏ «إِنِّي عامِلٌ» إخبار عن النبي ص أي عامل بما أمرني الله تعالى به و قيل إخبار عن الله تعالى أي عامل ما وعدتكم به من البعث و الجزاء عن أبي مسلم و الأول الصحيح‏ «فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ» أي فستعلمون أينا تكون له العاقبة المحمودة في دار السلام عند الله تعالى و قيل المراد عاقبة دار الدنيا في النصر عليكم‏ «إِنَّهُ لا

569
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأنعام(6): آية 136] ص : 570

 

يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ» أي لا يظفر الظالمون بمطلوبهم و إنما لم يقل الكافرون و إن كان الكلام في ذكرهم لأنه سبحانه قال في موضع آخر وَ الْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ‏ و قال‏ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ‏.

 [سورة الأنعام (6): آية 136]

وَ جَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَ الْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَ هذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَ ما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى‏ شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (136)

القراءة

قرأ الكسائي بزعمهم بضم الزاي و هي قراءة يحيى بن ثابت و الأعمش و قرأ الباقون بفتح الزاي.

الحجة

القول فيه أنهما لغتان أو قيل إن الكسر أيضا لغة و مثله الفتك و الفتك و الفتك و الود و الود و الود.

اللغة

الذرء الخلق على وجه الاختراع و أصله الظهور و منه ملح ذرآني و ذرآني لظهور بياضه و الذرأة ظهور الشيب قال:

 (و قد علتني ذرأة بادي بدي)

 

 

 

و ذرئت لحيته إذا شابت و الحرث الزرع و الحرث الأرض التي تثار للزرع و الأنعام جمع النعم مأخوذ من نعمة الوطء و لا يقال لذوات الحافر أنعام.

المعنى‏

ثم عاد الكلام إلى حجاج المشركين و بيان اعتقاداتهم الفاسدة فقال سبحانه‏ «وَ جَعَلُوا لِلَّهِ» أي كفار مكة و من تقدمهم من المشركين و الجعل هنا بمعنى الوصف و الحكم‏ «مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ» أي مما خلق من الزرع‏ «وَ الْأَنْعامِ» أي المواشي من الإبل و البقر و الغنم‏ «نَصِيباً» أي حظا و هاهنا حذف يدل الكلام عليه و هو و جعلوا للأوثان منه نصيبا «فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَ هذا لِشُرَكائِنا» يعني الأوثان و إنما جعلوا الأوثان شركاءهم لأنهم جعلوا لها

 

570
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأنعام(6): آية 137] ص : 571

 

نصيبا من أموالهم ينفقونه عليها فشاركوها في نعمهم‏ «فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَ ما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى‏ شُرَكائِهِمْ» قيل في معناه أقوال (أحدها) أنهم كانوا يزرعون لله زرعا و للأصنام زرعا فكان إذا زكا الزرع الذي زرعوه لله و لم يزك الزرع الذي زرعوه للأصنام جعلوا بعضه للأصنام و صرفوه إليها و يقولون إن الله غني و الأصنام أحوج و إن زكا الزرع الذي جعلوه للأصنام و لم يزك الزرع الذي زرعوه لله لم يجعلوا منه شيئا لله و قالوا هو غني و كانوا يقسمون النعم فيجعلون بعضه لله و بعضه للأصنام فما كان لله أطعموه الضيفان و ما كان للصنم أنفقوه على الصنم عن الزجاج و غيره (و ثانيها)

أنه كان إذا اختلط ما جعل للأصنام بما جعل لله تعالى ردوه و إذا اختلط ما جعل لله بما جعل للأصنام تركوه و قالوا الله أغنى و إذا تخرق الماء من الذي لله في الذي للأصنام لم يسدوه و إذا تخرق من الذي للأصنام في الذي لله سدوه و قالوا الله أغنى عن ابن عباس و قتادة و هو المروي عن أئمتنا (ع)

 (و ثالثها) أنه كان إذا هلك ما جعل للأصنام بدلوه مما جعل لله و إذا هلك ما جعل لله لم يبدلوه مما جعل للأصنام عن الحسن و السدي‏ «ساءَ ما يَحْكُمُونَ» أي ساء الحكم حكمهم هذا.

 [سورة الأنعام (6): آية 137]

وَ كَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَ لِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَ ما يَفْتَرُونَ (137)

القراءة

قرأ ابن عامر وحده زين بضم الزاي قتل بالرفع أولادهم بالنصب شركائهم بالجر و الباقون‏ «زَيَّنَ» بالفتح‏ «قَتْلَ» بالنصب‏ «أَوْلادِهِمْ» بالجر و «شُرَكاؤُهُمْ» بالرفع.

الحجة

شركاؤهم في قراءة الأكثرين فاعل زين و قتل أولادهم مفعوله و لا يجوز أن يكون شركاء فاعل المصدر الذي هو قتل أولادهم لأن زين حينئذ يبقى بلا فاعل و لأن الشركاء ليسوا قاتلين إنما هم مزينون القتل لهم و أضيف المصدر الذي هو قتل إلى المفعولين الذين هم الأولاد و حذف الفاعل و تقديره قتلهم أولادهم كما حذف ضمير الإنسان في قوله‏ لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ و المعنى من دعائه الخير و أما قراءة ابن عامر و كذلك زين فإنه أسند

 

571
مجمع البیان في تفسير القرآن4

اللغة ص : 572

زين إلى قتل و أعمل المصدر عمل الفعل و أضافه إلى الفاعل و نظير ذلك قوله‏ وَ لَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ‏ فاسم الله هنا فاعل كما أن الشركاء في الآية فاعلون و المصدر مضاف إلى الشركاء الذين هم فاعلون و المعنى قتل شركائهم أولادهم و تقديره أن قتل شركاؤهم أولادهم و فصل بين المضاف و المضاف إليه بمفعول به و المفعول مفعول المصدر و هذا قبيح في الاستعمال قال أبو علي و وجه ذلك على ضعفه أنه قد جاء في الشعر الفصل قال الطرماح:

يطفن بحوزي المراتع لم ترع‏

 

 بواديه من قرع القسي الكنائن‏

 

و زعموا أن أبا الحسن أنشد:

" زج القلوص أبي مزادة"

 

 

 

فهو شاذ مثل قراءة ابن عامر و ذكر سيبويه في هذه الآية قراءة أخرى و هو قوله و كذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم و هو قراءة أبي عبد الرحمن السلمي فحمل الشركاء فيها على فعل مضمر غير هذا الظاهر كأنه لما قيل و كذلك زين قيل من زينه فقال زينه شركاؤهم و مثل ذلك قوله:

ليبك يزيد ضارع لخصومة

 

 و مختبط مما تطيح الطوائح‏

 

كأنه لما قيل ليبك يزيد قبل من يبكيه فقال يبكيه ضارع.

اللغة

الإرداء الإهلاك و ردي يردي ردى إذا هلك و تردى ترديا و المرادة الحجر يتردى من رأس الجبل.

المعنى‏

ثم بين سبحانه خصلة أخرى من خصالهم الذميمة فقال‏ «وَ كَذلِكَ» أي و كما جعل أولئك في الحرث و الأنعام ما لا يجوز كذلك‏ «زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» أي مشركي العرب‏ «قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ» يعني الشياطين الذين زينوا لهم قتل البنات و وأدهن أحياء خيفة العيلة و الفقر و العار عن الحسن و مجاهد و السدي و قيل إن المزينين لهم ذلك قوم كانوا يخدمون الأوثان عن الفراء و الزجاج و قيل هم الغواة من الناس و قيل كان السبب في تزيين قتل البنات أن النعمان بن المنذر أغار

572
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأنعام(6): آية 138] ص : 573

 

على قوم فسبى نساءهم و كان فيهن بنت قيس بن عاصم ثم اصطلحوا فأرادت كل امرأة منهن عشيرتها غير ابنة قيس فإنها أرادت من سباها فحلف قيس لا يولد له بنت إلا وأدها فصار ذلك سنة فيما بينهم‏ «لِيُرْدُوهُمْ» أي يهلكوهم و اللام لام العاقبة لأنهم لم يكونوا معاندين لهم فيقصدوا أن يردوهم عن أبي علي الجبائي و قال غيره يجوز أن يكون فيهم المعاند فيكون ذلك على التغليب‏ «وَ لِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ» أي يخلطوا عليهم و يدخلوا عليهم الشبهات فيه‏ «وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما فَعَلُوهُ» معناه و لو شاء أن يمنعهم من ذلك أو يضطرهم إلى تركه لفعل و لو فعل المنع و الحيلولة لما فعلوه و لكن كان يكون ذلك منافيا للتكليف‏ «فَذَرْهُمْ وَ ما يَفْتَرُونَ» أي اتركهم و دعهم و افتراءهم أي كذبهم على الله تعالى فإنه يجازيهم و في هذا غاية الزجر و التهديد كما يقول القائل دعه و ما اختار و في هذه الآية دلالة واضحة على أن تزيين القتل و القتل فعلهم و أنهم في إضافة ذلك إلى الله سبحانه كاذبون.

 [سورة الأنعام (6): آية 138]

وَ قالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَ حَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلاَّ مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَ أَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَ أَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ (138)

القراءة

قرئ في الشواذ حرج روي ذلك عن أبي بن كعب و ابن مسعود و ابن الزبير و الأعمش و عكرمة و عمرو بن دينار.

الحجة

الحرج يمكن أن يؤول معناه إلى الحجر فإنهما يرجعان في الأصل إلى معنى الضيق فإن الحرام سمي حجرا لضيقه و الحرج أيضا الضيق فعلى هذا يكون لغة في حجر مثل جذب و جبذ فهو من المقلوب.

اللغة

الحجر الحرام و الحجر العقل و فلان في حجر القاضي من حجرت حجرا أي في منع القاضي إياه من الحكم في ماله و حجر المرأة و حجرها بالفتح و الكسر حضنها.

الإعراب‏

افتراء منصوب بقوله‏ «لا يَذْكُرُونَ» و هو مفعول له و يجوز أن يكون لا يذكرون بمعنى يفترون فكأنه قال يفترون افتراء.

 

573
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 574

 

المعنى‏

ثم حكى سبحانه عنهم عقيدة أخرى من عقائدهم الفاسدة فقال‏ «وَ قالُوا» يعني المشركين‏ «هذِهِ أَنْعامٌ» أي مواش و هي الإبل و البقر و الغنم‏ «وَ حَرْثٌ» زرع‏ «حِجْرٌ» أي حرام عنى بذلك الأنعام و الزرع الذين جعلوهما لآلهتهم و أوثانهم‏ «لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ» أي لا يأكلها إلا من نشاء أن نأذن له في أكلها و أعلم سبحانه أن هذا التحريم زعم منهم لا حجة لهم فيه و لا برهان و كانوا لا يحلون ذلك إلا لمن قام بخدمة أصنامهم من الرجال دون النساء «وَ أَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها» يعني الأنعام التي حرموا الركوب عليها و هي السائبة و البحيرة و الحام عن الحسن و مجاهد و قيل هي الحامي الذي حمى ظهره إذا ركب ولد ولده عندهم فلا يركب و لا يحمل عليه‏ «وَ أَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا» قيل كانت لهم من أنعامهم طائفة لا يذكرون اسم الله عليها و لا في شي‏ء من شأنها عن مجاهد و قيل إنهم كانوا لا يحجون عليها عن أبي وائل و قيل هي التي إذا ذكوها أهلوا عليها بأصنامهم فلا يذكرون اسم الله عليها عن الضحاك‏ «افْتِراءً عَلَيْهِ» أي كذبا على الله تعالى لأنهم كانوا يقولون إن الله أمرهم بذلك و كانوا كاذبين به عليه سبحانه‏ «سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ» ظاهر المعنى.

 [سورة الأنعام (6): آية 139]

وَ قالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَ مُحَرَّمٌ عَلى‏ أَزْواجِنا وَ إِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139)

القراءة

قرأ ابن كثير «وَ إِنْ يَكُنْ» بالياء ميتة رفع و قرأ ابن عامر و أبو جعفر تكن بالتاء ميتة رفع و قرأ أبو بكر عن عاصم تكن بالتاء «مَيْتَةً» نصب و الباقون‏ «يَكُنْ» بالياء «مَيْتَةً» نصب و في الشواذ قراءة ابن عباس بخلاف و قتادة و الأعرج خالصة بالنصب و قراءة سعيد بن جبير خالصا و قراءة ابن عباس بخلاف و الزهري و الأعمش خالص بالرفع و قراءة ابن عباس و ابن مسعود و الأعمش بخلاف خالصة مرفوع مضاف.

الحجة

وجه قراءة الأكثر أن يحمل على ما فيكون تقديره إن يكن ما في بطون الأنعام ميتة و وجه قراءة ابن كثير أنه لما لم يكن تأنيث الميتة تأنيث ذوات الفروج جاز تذكير

 

574
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 575

الفعل كقوله‏ فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ‏ و يكون كان تامة و تقديره إن وقع ميتة و من أنث الفعل فكقوله سبحانه‏ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ و وجه قراءة أبي بكر إن ما في بطون الأنعام من الأنعام فلذلك أنثها و أما «خالِصَةٌ» بالرفع على القراءة المشهورة فتقديره ما في بطون الأنعام من الأنعام خالصة لنا أي خالص فأنث للمبالغة في الخلوص كما يقال فلان خالصة فلان أي صفيه و المبالغ في الصفاء و الثقة عنده و التاء فيه للمبالغة و ليكون أيضا بلفظ المصدر نحو العافية و العاقبة و المصدر إلى الجنسية فيكون أعم و أوكد و يدل على ذلك قراءة من قرأ خالص و أما من نصب خالصة و خالصا ففيه وجهان- (أحدهما) أن يكون حالا من المضمر في الظرف الذي جرى صلة على ما فيكون كقولهم الذي في الدار قائما زيد فيكون قوله‏ «لِذُكُورِنا» خبر المبتدأ الموصول (و الآخر) أن يكون حالا من ما على مذهب أبي الحسن في إجازته تقديم الحال على العامل فيها إذا كان معنى بعد أن يتقدم صاحب الحال عليها كقولنا زيد قائما في الدار و احتج بقوله سبحانه‏ وَ الْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ.

المعنى‏

ثم حكى الله سبحانه عنهم مقالة أخرى فقال‏ «وَ قالُوا» يعني هؤلاء الكفار الذين تقدم ذكرهم‏ «ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ» يعني ألبان البحائر و السيب عن ابن عباس و الشعبي و قتادة و قيل أجنة البحائر و السيب ما ولد منها حيا فهو خالص للذكور دون النساء و ما ولد ميتا أكله الرجال و النساء عن مجاهد و السدي و قيل المراد به كليهما «خالِصَةٌ لِذُكُورِنا» لا يشركهم فيها أحد من الإناث من قولهم فلان يخلص العمل لله و منه إخلاص التوحيد و سمي الذكور من الذكر الذي هو الشرف و الذكر أشبه و أذكر من الأنثى‏ «وَ مُحَرَّمٌ عَلى‏ أَزْواجِنا» أي نسائنا «وَ إِنْ يَكُنْ مَيْتَةً» معناه و أن يكن جنين الأنعام ميتة «فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ» أي الذكور و الإناث فيه سواء ثم قال سبحانه‏ «سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ» أي سيجزيهم العقاب بوصفهم فلما أسقط الباء نصب وصفهم و قيل تقديره سيجزيهم جزاء وصفهم فحذف المضاف و أقام المضاف إليه مقامه عن الزجاج‏ «إِنَّهُ حَكِيمٌ» فيما يفعل بهم من العقاب آجلا و في إمهالهم عاجلا «عَلِيمٌ» بما يفعلونه لا يخفى عليه شي‏ء منها و قد عاب الله سبحانه الكفار في هذه الآية من وجوه أربعة (أحدها) ذبحهم الأنعام بغير إذن الله (و ثانيها) أكلهم على ادعاء التذكية افتراء على الله (و ثالثها) تحليلهم للذكور و تحريمهم على الإناث تفرقة بين ما لا يفترق إلا بحكم من الله (و رابعها) تسويتهم بينهم في الميتة من غير رجوع إلى سمع موثوق به.

575
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأنعام(6): آية 140] ص : 576

 

 [سورة الأنعام (6): آية 140]

قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ حَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِراءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَ ما كانُوا مُهْتَدِينَ (140)

القراءة

قرأ ابن كثير و ابن عامر قتلوا بتشديد التاء و الباقون بالتخفيف.

الحجة

التشديد للتكثير و التخفيف يدل على القلة و الكثرة و قد تقدم بيان ذلك.

الإعراب‏

قوله‏ «سَفَهاً» و «افْتِراءً عَلَى اللَّهِ» نصب على الوجهين اللذين ذكرناهما في قوله‏ افْتِراءً عَلَيْهِ‏.

المعنى‏

ثم جمع سبحانه بين الفريقين الذين قتلوا أولادهم و الذين حرموا الحلال فقال‏ «قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ» خوفا من الفقر و هربا من العار و معناه هلكت نفوسهم باستحقاقهم على ذلك عقاب الأبد و الخسران هلاك رأس المال‏ «سَفَهاً» أي جهلا و تقديره سفهوا بما فعلوه سفها و الفرق بين السفه و النزق أن السفه عجلة يدعو إليها الهوى و النزق عجلة من جهة حدة الطبع و الغيظ «بِغَيْرِ عِلْمٍ» و هذا تأكيد لجهلهم و ذهابهم عن الثواب‏ «وَ حَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ» يعني الأنعام و الحرث الذين زعموا أنها حجر عن الحسن و اعترض علي بن عيسى على هذا فقال الأنعام كانت محرمة حتى ورد السمع فما قاله غير صحيح و هذا الاعتراض يفسد من حيث إن الركوب لا يحتاج إلى السمع و إن احتاج الذبح إليه لأن الركوب مباح إذا قام بمصالحها و لأن أكلها أيضا بعد الذبح مباح‏ «افْتِراءً» أي كذبا «عَلَى اللَّهِ» سبحانه‏ «قَدْ ضَلُّوا» أي ذهبوا عن طريق الحق بما فعلوه و حكموا بحكم الشياطين فيما حكموا فيه‏ «وَ ما كانُوا مُهْتَدِينَ» إلى شي‏ء من الدين و الخير و الرشاد و في هذه الآيات دلالات على بطلان مذهب المجبرة لأنه سبحانه أضاف القتل و الافتراء و التحريم إليهم و نزه نفسه عن ذلك و ذمهم على قتل الأطفال بغير جرم فكيف يعاقبهم سبحانه عقاب الأبد على غير جرم.

 

576
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأنعام(6): آية 141] ص : 577

 

 [سورة الأنعام (6): آية 141]

وَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَ غَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَ النَّخْلَ وَ الزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَ الزَّيْتُونَ وَ الرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَ غَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَ آتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَ لا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141)

القراءة

قرأ أهل البصرة و الشام و عاصم حصاده بالفتح و الباقون‏ «حَصادِهِ» بالكسر.

الحجة

هما لغتان قال سيبويه جاءوا بالمصادر حين أرادوا انتهاء الزمان على مثال فعال و ذلك الصرام و الجداد و الجرام و الجزاز و القطاع و الحصاد و ربما دخلت اللغتان في بعض هذا فكان فيه فعال و فعال.

اللغة

الإنشاء إحداث الفعل ابتداء لا على مثال سبق و هو كالابتداع. و الاختراع هو إحداث الأفعال في الغير من غير سبب. و الخلق هو التقدير و الترتيب و الجنات و البساتين التي يجنها الشجر من النخل و غيره و الروضة الخضراء بالنبات و الزهر المشرقة باختلاف الألوان الحسنة و العرش أصله الرفع و منه سمي السرير عرشا لارتفاعه و العرش السقف و الملك و عرش الكرم رفع بعض أغصانها على بعض و العريش شبه الهودج يتخذ للمرأة و الإسراف مجاوزة الحد و قد يكون بالمجاوزة إلى الزيادة و قد يكون بالتقصير و هو أن يجاوز حد الحق و العدل قال الشاعر:

أعطوا هنيدة يخدوها ثمانية

 

 ما في عطائهم من و لا سرف‏

 

أي و لا تقصير و قيل معناه و لا إفراط.

الإعراب‏

 «مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ» نصب على الحال من‏ «أَنْشَأَ» و إنما انتصب على الحال و إن كان يؤكل بعد ذلك بزمان لأمرين (أحدهما) أن المعنى مقدر اختلاف أكله كما في قوله مررت برجل معه صقر صائدا به غدا أي مقدرا الصيد به غدا (و الثاني) أن يكون معنى أكله ثمرة الذي يصلح أن يؤكل منه.

المعنى‏

لما حكى سبحانه عن المشركين أنهم جعلوا بعض الأشياء للأوثان عقب ذلك البيان بأنه الخالق لجميع الأشياء فلا يجوز إضافة شي‏ء منها إلى الأوثان و لا تحليل ذلك و لا تحريمه إلا بإذنه فقال‏ «وَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَ» أي خلق و ابتدع لا على مثال‏ «جَنَّاتٍ» أي بساتين فيها الأشجار المختلفة «مَعْرُوشاتٍ» مرفوعات بالدعائم قيل هو ما عرشه الناس من‏

 

577
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 577

الكروم و نحوها عن ابن عباس و السدي و قيل عرشها أن يجعل لها حظائر كالحيطان عن أبي علي قال و أصله الرفع و منه قوله تعالى‏ «خاوِيَةٌ عَلى‏ عُرُوشِها»+ يعني على أعاليها و ما ارتفع منها ما لم تندك فتسوى بالأرض‏ «وَ غَيْرَ مَعْرُوشاتٍ» يعني ما خرج من قبل نفسه في البراري و الجبال من أنواع الأشجار عن ابن عباس و قيل معناه غير مرفوعات بل قائمة على أصولها مستغنية عن التعريش عن أبي مسلم‏ «وَ النَّخْلَ وَ الزَّرْعَ» أي و أنشأ النخل و الزرع‏ «مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ» أي طعمه و قيل ثمرة و قيل هذا وصف للنخل و الزرع جميعا فخلق سبحانه بعضها مختلف اللون و الطعم و الرائحة و الصورة و بعضها مختلفا في الصورة متفقا في الطعم و بعضها مختلفا في الطعم متفقا في الصورة و كل ذلك يدل على توحيده و على أنه قادر على ما يشاء عالم بكل شي‏ء «وَ الزَّيْتُونَ وَ الرُّمَّانَ» أي و أنشأ الزيتون و الرمان‏ «مُتَشابِهاً» في الطعم و اللون و الصورة «وَ غَيْرَ مُتَشابِهٍ» فيها و إنما قرن الزيتون إلى الرمان لأنهما متشابهان باكتناز الأوراق في أغصانها «كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ» المراد به الإباحة و إن كان بلفظ الأمر قال الجبائي و جماعة هذا يدل على جواز الأكل من الثمر و إن كان فيه حق الفقراء «وَ آتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ» هذا أمر بإيتاء الحق يوم الحصاد على الجملة و الحق الذي يجب إخراجه يوم الحصاد فيه قولان (أحدهما) أنه الزكاة العشر أو نصف العشر عن ابن عباس و محمد بن الحنفية و زيد بن أسلم و الحسن و سعيد بن المسيب و قتادة و الضحاك و طاووس (و الثاني)

أنه ما تيسر مما يعطي المساكين‏ عن جعفر بن محمد عن أبيه عن آبائه (ع)

و عطا و مجاهد و ابن عمر و سعيد بن جبير و الربيع بن أنس و روي أصحابنا أنه الضغث بعد الضغث و الحفنة بعد الحفنة و قال إبراهيم و السدي الآية منسوخة بفرض العشر و نصف العشر لأن هذه الآية مكية و فرض الزكاة إنما أنزل بالمدينة و لما روي أن الزكاة نسخ كل صدقة قالوا و لأن الزكاة لا تخرج يوم الحصاد قال علي بن عيسى و هذا غلط لأن يوم حصاده ظرف لحقه و ليس للإيتاء المأمور به‏ «وَ لا تُسْرِفُوا» أي لا تجاوزوا الحد و فيه أقوال (أحدها) أنه خطاب لأرباب الأموال لا تسرفوا بأن تتصدقوا بالجميع و لا تبقوا للعيال شيئا كما فعل ثابت بن قيس بن شماس فإنه صرم خمسين نخلا و تصدق بالجميع و لم يدخل منه شيئا في داره لأهله عن أبي العالية و ابن جريج (و ثانيها) أن معناه و لا تقصروا بأن تمنعوا بعض الواجب و التقصير سرف عن سعيد بن المسيب (و ثالثها) أن المعنى لا تسرفوا في الأكل قبل الحصاد كيلا يؤدي إلى‏

578
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأنعام(6): الآيات 142 الى 144] ص : 579

 

بخس حق الفقراء عن أبي مسلم (و رابعها) أن معناه لا تنفقوه في المعصية و لا تضعوه في غير موضعه و في جميع هذه الأقوال الخطاب لأرباب الأموال (و خامسها) أن الخطاب للأئمة و معناه لا تأخذوا ما يجحف بأرباب الأموال و لا تأخذوا فوق الحق عن ابن زيد (و سادسها) أن الخطاب للجميع بأن لا يسرف رب المال في الإعطاء و لا الإمام في الأخذ و صرف ذلك إلى غير مصارفه و هذا أعم فائدة «إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ» ظاهر المعنى.

 [سورة الأنعام (6): الآيات 142 الى 144]

وَ مِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَ فَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَ لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142) ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَ مِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (143) وَ مِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَ مِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى‏ عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144)

القراءة

قرأ ابن كثير و ابن فليح و ابن عامر و أهل البصرة المعز بفتح العين و الباقون بسكونها.

الحجة

قال أبو علي من قرأ المعز فإنه جمع ماعز مثل خادم و خدم و حارس و حرس و طالب و طلب و قال أبو الحسن هو جمع على غير واحد و كذلك المعزى و حكى أبو زيد

 

579
مجمع البیان في تفسير القرآن4

اللغة ص : 580

 

الأمعوز و قالوا المعيز كالكليب و الضئين و من قرأ «الْمَعْزِ» فإنه جمع أيضا مثل صاحب و صحب و تاجر و تجر و راكب و ركب و أبو الحسن يرى هذا الجمع مستمرا و يرده في التصغير إلى الواحد فيقول في تحقير ركب رويكبون و في تجر تويجرون و سيبويه يراه اسما من أسماء الجموع و أنشد أبو عثمان في الاحتجاج لسيبويه:

أخشى ركيبا أو رجيلا عاديا

 

 

 

فتحقيره له على لفظه يدل على أنه اسم للجمع و أنشد:

و أين ركيب واضعون رحالهم.

 

 

 

اللغة

الحمولة الإبل يحمل عليه الأثقال و لا واحد لها من لفظها كالركوبة و الجزورة و الحمولة بضم الحاء هي الأحمال و هي الحمول أيضا و إنما قيل للصغار فرش لأمرين (أحدهما) لاستواء أسنانها في الصغر و الانحطاط كاستواء ما يفرش (و الثاني) أنه من الفرش و هو الأرض المستوية التي يتوطاها الناس و الزوج يقع على الواحد الذي يكون معه آخر و على الاثنين كما يقال للواحد و الاثنين خصم و عدل و الاشتمال أصله الشمول يقال شملهم الأمر يشملهم و شملهم الأمر يشملهم شمولا إذا عمهم و منه الشمال لشمولها على ظاهر الشي‏ء و باطنه بقوتها و لطفها و من ذلك الشمول للخمر لاشتمالها على العقل و قيل لأن لها عصفة كعصفة الشمال.

الإعراب‏

حمولة عطف على جنات أي و أنشأ من الأنعام حمولة و اثنين محمول على أنشأ أيضا أي ثمانية أزواج اثنين من كذا و اثنين من كذا فثمانية أزواج بدل من حمولة و فرشا و اثنين من كذا و اثنين من كذا بدل من ثمانية أو عطف بيان و قوله‏ «آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ» دخلت همزة الاستفهام على همزة الوصل و فصل بينهما بالألف و لم تسقط همزة الوصل لئلا يلتبس الاستفهام بالخبر و لو أسقطت لجاز لأن أم تدل على الاستفهام و على هذا الوجه أجاز سيبويه أن يكون قول الشاعر:

فو الله ما أدري و إن كنت داريا

 

 شعيث بن سهم أو شعيث بن منقر

 

استفهاما فيكون تقديره أ شعيث و ما في قوله‏ «أَمَّا» اشتملت في موضع نصب بكونه عطفا على الأنثيين و إنما قال الأنثيين فثنى لأنه أراد من الضأن و المعز.

المعنى‏

ثم عطف سبحانه على ما عده فيما تقدم من عظيم الأنعام ببيان نعمته في‏

 

580
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 580

إنشاء الأنعام فقال‏ «وَ مِنَ الْأَنْعامِ» أي و أنشأ من الأنعام‏ «حَمُولَةً وَ فَرْشاً» قد قيل فيه أقوال (أحدها) أن الحمولة كبار الإبل و الفرش صغارها عن ابن عباس و ابن مسعود بخلاف و الحسن بخلاف و مجاهد (و ثانيها) أن الحمولة ما يحمل عليه من الإبل و البقر و الفرش الغنم عن الحسن في رواية أخرى و قتادة و الربيع و السدي و الضحاك و ابن زيد (و ثالثها) أن الحمولة كل ما حمل من الإبل و البقر و الخيل و البغال و الحمير و الفرش الغنم عن ابن عباس في رواية أخرى فكأنه ذهب إلى أنه يدخل في الأنعام الحافر على وجه التبع (رابعها) أن معناه ما ينتفعون به في الحمل و ما يفترشونه في الذبح فمعنى الافتراش الاضطجاع للذبح عن أبي مسلم قال و هو كقوله‏ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها و روي عن الربيع بن أنس أيضا أن الفرش ما يفرش للذبح أيضا (و خامسها) أن الفرش ما يفرش من أصوافها و أوبارها و يرجع الصفتان إلى الأنعام أي من الأنعام ما يحمل عليه و منها ما يتخذ من أوبارها و أصوافها ما يفرش و يبسط عن أبي علي الجبائي‏ «كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ» أي استحلوا الأكل مما أعطاكم الله و لا تحرموا شيئا منها كما فعله أهل الجاهلية في الحرث و الأنعام و على هذا يكون الأمر على ظاهره و يمكن أن يكون أراد نفس الأكل فيكون بمعنى الإباحة «وَ لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ» مضى تفسيره في سورة البقرة ثم فسر تعالى الحمولة و الفرش فقال‏ «ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ» و تقديره و أنشأ ثمانية أزواج أنشأ «مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَ مِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ» وَ مِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَ مِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ‏ و إنما أجمل ثم فصل المجمل لأنه أراد أن يقرر على شي‏ء شي‏ء منه ليكون أشد في التوبيخ من أن يذكر ذلك دفعة واحدة و معناه ثمانية أفراد لأن كل واحد من ذلك يسمى زوجا فالذكر زوج الأنثى و الأنثى زوج الذكر كما قال تعالى‏ «أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ» و قيل معناه ثمانية أصناف من الضأن اثنين يعني الذكر و الأنثى و من المعز اثنين الذكر و الأنثى و الضأن ذوات الصوف من الغنم و المعز ذوات الشعر منه و واحد الضأن ضائن كقولهم تاجر و تجر و الأنثى ضائنة و واحد المعز ماعز و

قيل أن المراد بالاثنين الأهلي و الوحشي من الضأن و المعز و البقر و المراد بالاثنين من الإبل العراب و البخاتي و هو المروي عن أبي عبد الله (ع)

و إنما خص هذه الثمانية لأنها جميع الأنعام التي كانوا يحرمون منها ما يحرمونه على ما تقدم ذكره‏ «قُلْ» يا محمد لهؤلاء المشركين الذين يحرمون ما أحل الله تعالى‏ «آلذَّكَرَيْنِ» من الضأن و المعز «حَرَّمَ» الله‏ «أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ» منهما «أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ» أي أم حرم ما اشتمل عليه رحم الأنثى من الضأن و الأنثى من‏

581
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأنعام(6): آية 145] ص : 582

المعز و إنما ذكر الله سبحانه هذا على وجه الاحتجاج عليهم بين به فريتهم و كذبهم على الله تعالى فيما ادعوا من أن ما في بطون الأنعام حلال للذكور و حرام على الإناث و غير ذلك مما حرموه فإنهم لو قالوا حرم الذكرين لزمهم أن يكون كل ذكر حراما و لو قالوا حرم الأنثيين لزمهم أن يكون كل أنثى حراما و لو قالوا حرم ما اشتمل عليه رحم الأنثى من الضأن و المعز لزمهم تحريم الذكور و الإناث فإن أرحام الإناث تشتمل على الذكور و الإناث فيلزمهم بزعمهم تحريم هذا الجنس صغارا و كبارا و ذكورا و إناثا و لم يكونوا يفعلون ذلك بل كان يخصون بالتحريم بعضا دون بعض فقد لزمتهم الحجة ثم قال‏ «نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» معناه أخبروني بعلم عما ذكرتموه من تحريم ما حرمتموه و تحليل ما حللتموه إن كنتم صادقين في ذلك‏ «وَ مِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَ مِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ» هذا تفصيل لتمام الأزواج الثمانية «قُلْ» يا محمد «آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ» الله منهما «أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ» قد تقدم معناه‏ «أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ» أي حضورا «إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا» أي أمركم به و حرمه عليكم حتى تضيفوه إليه و إنما ذكر ذلك لأن طريق العلم إما الدليل الذي يشترك العقلاء في إدراك الحق به أو المشاهدة التي يختص بها بعضهم دون بعض فإذا لم يكن واحد من الأمرين سقط المذهب و المراد بذلك أعلمتموه بالسمع و الكتب المنزلة و أنتم لا تقرون بذلك أم شافهكم الله تعالى به فعلمتموه و إذا لم يكن واحد منهما فقد علم بطلان ما ذهبتم إليه‏ «فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى‏ عَلَى اللَّهِ كَذِباً» أي من أظلم لنفسه ممن كذب على الله و أضاف إليه تحريم ما لم يحرمه و تحليل ما لم يحلله‏ «لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ» أي يعمل عمل القاصد إلى إضلالهم من أجل دعائه إياهم إلى ما لا يثق بصحته مما لا يأمن من أن يكون فيه هلاكهم و إن لم يقصد إضلالهم‏ «إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» إلى الثواب لأنهم مستحقون العقاب الدائم بكفرهم و ضلالهم.

 [سورة الأنعام (6): آية 145]

قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى‏ طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145)

582
مجمع البیان في تفسير القرآن4

القراءة ص : 583

 

القراءة

قرأ ابن كثير و حمزة تكون بالتاء «مَيْتَةً» بالنصب و قرأ أبو جعفر و ابن عامر تكون بالتاء ميتة بالرفع و الباقون بالياء و نصب‏ «مَيْتَةً» و كلهم خففوا «مَيْتَةً» غير أبي جعفر فإنه شددها.

الحجة

قال أبو علي قراءة ابن كثير و حمزة محمولة على المعنى كأنه قال إلا أن تكون العين و النفس ميتة أ لا ترى أن المحرم لا يخلو من جواز العبارة عنه بأحد هذه الأشياء و ليس قوله‏ «إِلَّا أَنْ يَكُونَ» كقولك جاءني القوم لا يكون زيدا و ليس زيدا في أن الضمير الذي يتضمنه من الاستثناء لا يظهر و لا يدخل الفعل علامة التأنيث لأن الفعل إنما يكون عاريا من علامة التأنيث و من أن يظهر معه الضمير إذا لم يدخل عليه أن فأما إذا دخله أن فعلى حكم سائر الأفعال و من قرأ بالياء و نصب‏ «مَيْتَةً» فإنه جعل فيه ضميرا مما تقدم و هو أقيس مما تقدم ذكره أي إلا أن يكون الموجود ميتة و من قرأ إلا أن تكون ميتة فألحق علامة التأنيث الفعل كما ألحق في قوله‏ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ و تقديره إلا أن تقع ميتة.

المعنى‏

لما قدم سبحانه ذكر ما حرمه المشركون عقبه ببيان المحرمات فقال‏ «قُلْ» يا محمد لهؤلاء الكفار «لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ» أي أوحاه الله تعالى إلي شيئا «مُحَرَّماً عَلى‏ طاعِمٍ يَطْعَمُهُ» أي على أكل يأكله‏ «إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً» أي مصبوبا و إنما خص المصبوب بالذكر لأن ما يختلط باللحم منه مما لا يمكن تخليصه منه معفو عنه مباح‏ «أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ» إنما خص الأشياء الثلاثة هنا بذكر التحريم مع أن غيرها محرم فإنه سبحانه ذكر في المائدة تحريم المتخنقة و الموقوذة و المتردية و غيرها لأن جميع ذلك يقع عليه اسم الميتة فيكون في حكمها فأجمل هاهنا و فصل هناك و أجود من هذا أن يقال أنه سبحانه خص هذه الأشياء بالتحريم تعظيما لحرمتها و بين تحريم ما عداها في مواضع أخر إما بنص القرآن و إما بوحي غير القرآن و أيضا فإن هذه السورة مكية و المائدة مدنية فيجوز أن يكون غير ما في الآية من المحرمات إنما حرم فيما بعد و الميتة عبادة عما كان فيه حياة فقدت من غير تذكية شرعية «فَإِنَّهُ رِجْسٌ» أي نجس و الرجس اسم لكل شي‏ء مستقذر منفور عنه و الرجس أيضا العذاب و الهاء في قوله‏ «فَإِنَّهُ» عائد إلى ما تقدم ذكره فلذلك ذكره‏ «أَوْ فِسْقاً» عطف على قوله‏ «أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ» فلذلك نصبه‏ «أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ» أي ذكر عليه اسم الأصنام و الأوثان و لم يذكر اسم الله عليه و سمي ما ذكر عليه اسم الصنم فسقا لخروجه عن أمر الله و أصل الإهلال رفع الصوت بالشي‏ء و قد ذكرناه في سورة المائدة «فَمَنِ اضْطُرَّ» إلى تناول شي‏ء مما ذكرناه‏ «غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ» قد سبق معناه في سورة

 

583
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأنعام(6): الآيات 146 الى 147] ص : 584

 

البقرة «فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» حكم بالرخصة كما حكم بالمغفرة و الرحمة.

 [سورة الأنعام (6): الآيات 146 الى 147]

وَ عَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَ مِنَ الْبَقَرِ وَ الْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلاَّ ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَ إِنَّا لَصادِقُونَ (146) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَ لا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147)

اللغة

الظفر ظفر الإنسان و غيره و رجل أظفر إذا كان طويل الأظفار كما يقال أشعر لطويل الشعر و الحوايا المباعر قال الزجاج واحدها حاوية و حاوياء و حوية و هي ما يحوي في البطن فاجتمع و استدار.

الإعراب‏

موضع الحوايا يحتمل أن يكون رفعا عطفا على الظهور و تقديره أو ما حملت الحوايا و يحتمل أن يكون نصبا عطفا على ما في قوله‏ «إِلَّا ما حَمَلَتْ» فأما قوله‏ «أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ» فإن ما هذه معطوفة على ما الأولى‏ «" ذلِكَ"» يجوز أن يكون منصوب الموضع بأنه مفعول ثان لجزيناهم التقدير جزيناهم ذلك ببغيهم و لا يجوز أن يرفع بالابتداء لأنه يصير التقدير ذلك جزيناهموه فيكون كقولهم زيد ضربت أي ضربته و هذا إنما يجوز في ضرورة الشعر.

المعنى‏

ثم بين سبحانه ما حرمه على اليهود فقال‏ «وَ عَلَى الَّذِينَ هادُوا» أي على اليهود في أيام موسى‏ «حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ» اختلف في معناه فقيل هو كل ما ليس بمنفرج الأصابع كالإبل و النعام و الإوز و البط عن ابن عباس و سعيد بن جبير و قتادة و مجاهد و السدي و قيل هو الإبل فقط عن ابن زيد و قيل يدخل فيه كل السباع و الكلاب و السنانير و ما يصطاد بظفره عن الجبائي و قيل كل ذي مخلب من الطير و كل ذي حافر من الدواب عن القتيبي و البلخي‏ «وَ مِنَ الْبَقَرِ وَ الْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما» أخبر سبحانه أنه كان حرم عليهم‏

 

584
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 584

شحوم البقر و الغنم من الثرب و شحم الكلي و غير ذلك مما في أجوافها و استثنى من ذلك فقال‏ «إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما» من الشحم و هو اللحم السمين فإنه لم يحرم عليهم‏ «أَوِ الْحَوايا» أي ما حملته الحوايا من الشحم فإنه غير محرم عليهم أيضا و الحوايا هي المباعر عن ابن عباس و الحسن و سعيد بن جبير و قتادة و مجاهد و السدي و قيل هي بنات اللبن عن ابن زيد و قيل هي الأمعاء التي عليها الشحوم عن الجبائي‏ «أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ» ذلك أيضا مستثنى من جملة ما حرم و هو شحم الجنب و الألية لأنه على العصعص عن ابن جريج و السدي و قيل الألية لم تدخل في هذا لأنها لم تستثن عن الجبائي فكأنه لم يعتد بعظم العصعص قال الزجاج إنما دخلت أو هاهنا على طريق الإباحة كما قال سبحانه‏ وَ لا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً و المعنى أن كل هؤلاء أهل أن يعصى فاعص هذا أو اعص هذا و أو بليغة في هذا المعنى لأنك إذا قلت لا تطع زيدا و عمرا فجائز أن يكون نهيتني عن طاعتهما في حال معا فإن أطعت زيدا على حدته لم أكن عصيتك و إذا قلت لا تطع زيدا أو عمرا أو خالدا فالمعنى أن هؤلاء كلهم أهل أن لا يطاع فلا تطع واحدا منهم و لا تطع الجماعة و مثله جالس الحسن أو ابن سيرين أو الشعبي‏ «ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ» المعنى حرمنا ذلك عليهم عقوبة لهم بقتلهم الأنبياء و أخذهم الربا و استحلالهم أموال الناس بالباطل فهذا بغيهم و هو كقوله‏ فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ‏ و قيل بغيهم ظلمهم على أنفسهم في ارتكابهم المحظورات و قيل إن ملوك بني إسرائيل كانوا يمنعون فقراءهم من أكل لحوم الطير و الشحوم فحرم الله ذلك ببغيهم على فقرائهم ذكره علي بن إبراهيم في تفسيره و يسأل فيقال كيف يكون التكليف عقوبة و هو تابع للمصلحة و تعريض للثواب و جوابه أنه إنما سمي جزاء و عقابا لأن عظيم ما فعلوه من المعاصي اقتضى تحريم ذلك و تغيير المصلحة فيه و لو لا عظم جرمهم لما اقتضت المصلحة ذلك‏ «وَ إِنَّا لَصادِقُونَ» أي في الإخبار عن التحريم و عن بغيهم و في كل شي‏ء و في أن ذلك التحريم عقوبة لأوائلهم و مصلحة لمن بعدهم إلى وقت النسخ‏ «فَإِنْ كَذَّبُوكَ» يا محمد فيما تقول‏ «فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ» لذلك لا يعجل عليكم بالعقوبة بل يمهلكم‏ «وَ لا يُرَدُّ بَأْسُهُ» أي لا يدفع عذابه إذا جاء وقته‏ «عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ» أي المكذبين.

585
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأنعام(6): الآيات 148 الى 150] ص : 586

 

 [سورة الأنعام (6): الآيات 148 الى 150]

سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَ لا آباؤُنا وَ لا حَرَّمْنا مِنْ شَيْ‏ءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ (148) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (149) قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هذا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَ هُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150)

اللغة

هلم قال الزجاج أنها هاء ضمت إليها لم و جعلتا كالكلمة الواحدة فأكثر اللغات أن يقال هلم للواحد و الاثنين و الجماعة بذلك جاء القرآن نحو قوله‏ هَلُمَّ إِلَيْنا و معنى‏ «هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ» هاتوا شهداءكم و من العرب من يثني و يجمع و يؤنث فيقول للمذكر هلم و للاثنين هلما و للجماعة هلموا و للمؤنث هلمي و للنسوة هلممن و فتحت لأنها مدغمة كما فتحت رديا هذا في الأمر لالتقاء الساكنين و لا يجوز فيها هلم للواحد بالضم كما يجوز في رد الفتح و الضم و الكسر لأنها لا تتصرف قال أبو علي هي في اللغة الأولى بمنزلة رويد و صه و مه و نحو ذلك من الأسماء التي سميت بها الأفعال و في الأخرى بمنزلة رد في ظهور علامات الفاعلين فيها كما يظهر في رد و أما هاء اللاحق بها فهي التي للتنبيه لحقت أولا لأن لفظ الأمر قد يحتاج إلى استعطاف المأمور به و استدعاء إقباله على الأمر فهو لذلك يقرب من المنادى و من ثم دخل حرف التنبيه في الأيا اسجدوا أ لا ترى أنه أمر كما أن هذا أمر و قد دخل في جمل أخر نحو ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ+ فكما دخل في هذه المواضع كذلك لحقت في لم إلا أنه كثر الاستعمال معها فغير بالحذف لكثرة الاستعمال كأشياء تغير لذلك نحو لم أبل و لم أدر

 

586
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 587

و ما أشبه ذلك مما يغير للكثرة.

المعنى‏

لما تقدم الرد على المشركين لاعتقاداتهم الباطلة رد عليهم سبحانه هنا مقالتهم الفاسدة فقال‏ «سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا» أي سيحتج هؤلاء المشركين في إقامتهم على شركهم و في تحريمهم ما أحل الله تعالى بأن يقولوا «لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا» أي لو شاء الله أن لا نعتقد الشرك و لا نفعل التحريم‏ «وَ لا آباؤُنا» و أراد منا خلاف ذلك ما أشركنا و لا آباؤنا «وَ لا حَرَّمْنا مِنْ شَيْ‏ءٍ» أي شيئا من ذلك ثم كذبهم الله تعالى في ذلك بقوله‏ «كَذلِكَ» أي مثل هذا التكذيب الذي كان من هؤلاء في أنه منكر «كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» و إنما قال كذب بالتشديد لأنهم بهذا القول كذبوا رسول الله ص في قوله لهم أن الله سبحانه أمركم بتوحيده و ترك الإشراك به و ترك التحريم لهذه الأنعام فكانوا بقولهم إن الله تعالى أراد منا ذلك و شاءه و لو أراد غيره ما فعلناه مكذبين للرسول ع كما كذب من تقدمهم أنبياءهم فيما أتوا به من قبل الله تعالى‏ «حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا» أي حتى نالوا عذابنا و قيل معناه حتى أصابوا العذاب المعجل و دل ذلك على أن لهم عذابا مدخرا عند الله تعالى لأن الذوق أول إدراك الشي‏ء «قُلْ» يا محمد لهم جوابا عما قالوه من أن الشرك بمشيئة الله تعالى‏ «هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ» أي حجة تؤدي إلى علم و قيل معناه هل عندكم علم فيما تقولونه‏ «فَتُخْرِجُوهُ لَنا» أي فتخرجوا ذلك العلم أو تلك الحجة لنا بين سبحانه بهذا أنه ليس عندهم علم و لا حجة فيما يضيفونه إلى الله تعالى و إن ما قالوه باطل ثم أكد سبحانه الرد عليهم و تكذيبهم في مقالتهم بقوله‏ «إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ» أي ما تتبعون فيما تقولونه إلا الظن و التخمين‏ «وَ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ» أي إلا تكذبون في هذه المقالة على الله تعالى و في هذه الآية دلالة واضحة على أن الله سبحانه لا يشاء المعاصي و الكفر و تكذيب ظاهر لمن أضاف ذلك إلى الله سبحانه هذا مع قيام الأدلة العقلية التي لا يدخلها التأويل على أنه سبحانه يتعالى عن إرادة القبيح و جميع صفات النقص علوا كبيرا «قُلْ» يا محمد إذا عجز هؤلاء عن إقامة حجة على ما قالوه‏ «فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ» و الحجة البينة الصحيحة المصححة للأحكام و هي التي تقصد إلى الحكم بشهادته مأخوذة من حج إذا قصد و البالغة هي التي تبلغ قطع عذر المحجوج بأن تزيل كل لبس و شبهة عمن نظر فيها و استدل بها و إنما كانت حجة الله صحيحة بالغة لأنه لا يحتج إلا بالحق و بما يؤدي إلى العلم‏ «فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ» أي لو شاء لألجأكم إلى الإيمان و هداكم جميعا إليه بفعل الإلجاء إلا أنه‏

587
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 587

لم يفعل ذلك و إن كان فعله حسنا لأن الإلجاء ينافي التكليف و هذه المشيئة بخلاف المشيئة المذكورة في الآية الأولى لأن الله تعالى أثبت هذه و نفي تلك و ذلك لا يستقيم إلا على الوجه الذي ذكرناه فالأولى مشيئة الاختيار و الثانية مشيئة الإلجاء و قيل أن المراد أنه لو شاء لهداكم إلى نيل الثواب و دخول الجنة ابتداء من غير تكليف و لكنه سبحانه لم يفعل ذلك بل كلفكم و عرضكم للثواب الذي لا يحسن الابتداء بمثله و لو كان الأمر على ما قاله أهل الجبر من أن الله سبحانه شاء منهم الكفر لكانت الحجة للكفار على الله تعالى من حيث فعلوا ما شاء الله تعالى و لكانوا بذلك مطيعين له لأن الطاعة هي امتثال الأمر المراد و لا يكون الحجة لله تعالى عليهم على قولهم من حيث أنه خلق فيهم الكفر و أراد منهم الكفر فأي حجة له عليهم مع ذلك ثم بين سبحانه أن الطريق الموصل إلى صحة مذاهبهم مفسد غير ثابت من جهة حجة عقلية و لا سمعية و ما هذه صفته فهو فاسد لا محالة فقال‏ «قُلْ» يا محمد لهم‏ «هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ» أي أحضروا و هاتوا شهداءكم‏ «الَّذِينَ يَشْهَدُونَ» بصحة ما تدعونه من‏ «أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هذا» أي هذا الذي ذكر مما حرمه المشركون من البحيرة و السائبة و الوصيلة و الحرث و الأنعام و غيرها «فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ» معناه فإن لم يجدوا شاهدا يشهد لهم على تحريمها غيرهم فشهدوا بأنفسهم فلا تشهد أنت معهم و إنما نهاه عن الشهادة معهم لأن شهادتهم تكون شهادة بالباطل فإن قيل كيف دعاهم إلى الشهادة ثم قال فلا تشهد معهم فالجواب أنه أمرهم أن يأتوا بالعدول الذين يشهدون بالحق فإذا لم يجدوا ذلك و شهدوا لأنفسهم فلا ينبغي أن تقبل شهادتهم أو تشهد معهم لأنها ترجع إلى دعوى مجردة بعيدة من الصواب و قيل أنه سبحانه أراد هاتوا شهداء من غيركم و لم يكن أحد غير العرب يشهد على ذلك لأنه كان للعرب شرائع شرعوها لأنفسهم‏ «وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا» الخطاب للنبي ص و المراد أمته أي لا تعتقد مذهب من اعتقد مذهبه هوى و يمكن أن يتخذ الإنسان المذهب هوى من وجوه منها أن يهوى من سبق إليه فيقلده فيه و منها أن يدخل عليه شبهة فيتخيله بصورة الصحيح مع أن في عقله ما يمنع منها و منها أن يقطع النظر دون غايته للمشقة التي تلحقه فيعتقد المذهب الفاسد و منها أن يكون نشأ على شي‏ء و ألفه و اعتاده فيصعب عليه مفارقته و كل ذلك متميز مما استحسنه بعقله‏ «وَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ» أي و لا تتبع أهواء الذين لا يؤمنون بالآخرة إنما ذكر الفريقين و إن كانوا كلهم كفارا ليفصل وجوه كفرهم لأن منه ما يكون مع الإقرار بالآخرة كحال أهل الكتاب و منه ما يكون مع الإنكار كحال عبدة الأوثان‏ «وَ هُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ» أي يجعلون له عدلا و هو المثل و في الآية دلالة على‏

588
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأنعام(6): آية 151] ص : 589

 

فساد التقليد لأنه سبحانه طالب الكفار على صحة مذهبهم و جعل عجزهم عن الإتيان بها دلالة على بطلان قولهم و أيضا فإنه سبحانه أوجب اتباع الدليل دون اتباع الهوى.

 [سورة الأنعام (6): آية 151]

قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَ لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَ إِيَّاهُمْ وَ لا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ وَ لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151)

اللغة

تعالوا مشتق من العلو على تقدير أن الداعي في المكان العالي و إن كان في مستو من الأرض كما يقال للإنسان ارتفع إلى صدر المجلس و التلاوة مثل القراءة و المتلو مثل المقروء و التلاوة غير المتلو كما أن الحكاية غير المحكي فالمتلو و المحكي هو الكلام الأول و التلاوة و الحكاية هي الثاني منه على طريق الإعادة و الإملاق الإفلاس من المال و الزاد و منه الملق و التملق لأنه اجتهاد في تقرب المفلس للطمع في العطية و الفواحش جمع فاحشة و هو القبيح العظيم القبح و القبيح يقع على الصغير و الكبير لأنه يقال القرد قبيح الصورة و لا يقال فاحش الصورة و ضد القبيح الحسن و ليس كذلك الفاحش.

الإعراب‏

 «ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ» في موضع نصب بقوله‏ «أَتْلُ» المعنى أتل الذي حرمه ربكم عليكم فيكون ما موصولة و جائز أن يكون في موضع نصب بحرم لأن التلاوة بمنزلة القول فكأنه قال أقول أي شي‏ء حرم ربكم عليكم أ هذا أم هذا فجائز أن يكون الذي تلاه عليهم قوله‏ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً و يكون‏ «أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ» منصوبة بمعنى طرح اللام أي أبين لكم الحرام لأن لا تشركوا لأنهم إذا حرموا ما أحل الله فقد جعلوا غير الله في القبول منه بمنزلة الله سبحانه فصاروا بذلك مشركين و يجوز أن يكون‏ «أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً» محمولا على المعنى فيكون المعنى أتل عليكم ألا تشركوا أي أتل عليكم تحريم الشرك و يجوز أن يكون على معنى أوصيكم أن لا تشركوا به شيئا لأن قوله‏ «وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً» محمول على معنى أوصيكم‏

 

589
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 590

بالوالدين إحسانا هذا كله قول الزجاج و «تُشْرِكُوا» يجوز أن يكون منصوبا بأن و يكون لا للنفي و يجوز أن يكون مجزوما بلا على النهي و إذا كان منصوبا فيكون قوله‏ «وَ لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ» عطفا بالنهي على الخبر و جاز ذلك كما جاز في قوله‏ «قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَ لا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» و قال جامع العلوم البصير الأصفهاني يجوز أن تقف على‏ «عَلَيْكُمْ» ثم تبتدئ بأن لا تشركوا أي هو أن لا تشركوا أي هو الإشراك أي المحرم الإشراك و" لا" زيادة و يجوز أن يكون ما استفهاما فيقف على قوله‏ «رَبُّكُمْ» ثم يبتدئ فيقول‏ «عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا» أي عليكم ترك الإشراك و هذا وقف بيان و تمام قوله‏ «قُلْ تَعالَوْا» عند قوله‏ «بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ» لأن قوله‏ «وَ أَنَّ هذا صِراطِي» فيمن فتح معطوف على قوله‏ «ما حَرَّمَ» أي أتل هذا و هذا و من كسر فالتقدير (و قل إن هذا صراطي) و كذلك‏ «ثُمَّ آتَيْنا» أي و قل ثم آتينا و هذا كله داخل في التلاوة و القول.

المعنى‏

لما حكى سبحانه عنهم تحريم ما حرموه عقبه بذكر المحرمات فقال سبحانه‏ «قُلْ» يا محمد لهؤلاء المشركين‏ «تَعالَوْا» أي أقبلوا و ادنوا «أَتْلُ» أي أقرأ «ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ» أي منعكم عنه بالنهي ثم بدأ بالتوحيد فقال‏ «أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً» أي أمركم أن لا تشركوا و لا فرق بين أن تقول لا تشركوا به شيئا و بين أن تقول حرم ربكم عليكم أن تشركوا به شيئا إذ النهي يتضمن التحريم و قد ذكرنا ما يحتمله من المعاني في الإعراب و قد قيل أيضا أن الكلام قد تم عند قوله‏ «حَرَّمَ رَبُّكُمْ» ثم قال‏ «عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا» كقوله سبحانه‏ «عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ» «وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً» أي و أوصى بالوالدين إحسانا و يدل على ذلك أن في حرم كذا معنى أوصى بتحريمه و أمر بتجنبه و لما كانت نعم الوالدين تالية نعم الله سبحانه في الرتبة أمر بالإحسان إليهما بعد الأمر بعبادة الله تعالى‏ «وَ لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ» أي خوفا من الفقر عن ابن عباس و غيره‏ «نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَ إِيَّاهُمْ» أي فإن رزقكم و رزقهم جميعا علينا «وَ لا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ» أي المعاصي و القبائح كلها «ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ» أي ظاهرها و باطنها عن الحسن و قيل أنهم كانوا لا يرون بالزنا في السر بأسا و يمنعون منه علانية فنهى الله سبحانه عنه في الحالتين عن ابن عباس و الضحاك و السدي و قريب منه‏

ما روي عن أبي جعفر (ع) أن ما ظهر هو الزنا و ما بطن هو المخالة

و قيل أن ما ظهر أفعال الجوارح و ما بطن أفعال القلوب فالمراد ترك‏

590
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأنعام(6): الآيات 152 الى 153] ص : 591

 

المعاصي كلها و هذا أعم فائدة «وَ لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ» أعاد ذكر القتل و إن كان داخلا في الفواحش تفخيما لشأنه و تعظيما لأمره و النفس المحرم قتلها هي نفس المسلم و المعاهد دون الحربي و الحق الذي يستباح به قتل النفس المحرم قتلها ثلاثة أشياء القود و الزنا بعد إحصان و الكفر بعد إيمان‏ «ذلِكُمْ» خطاب لجميع الخلق أي ما ذكر في هذه الآية «وَصَّاكُمْ بِهِ» أي أمركم به‏ «لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» أي لكي تعقلوا ما أمركم الله تعالى به فتحللوا ما حلله لكم و تحرموا ما حرمه عليكم و دل قوله سبحانه‏ «وَصَّاكُمْ بِهِ» على أن الوصية مضمرة في أول الآية على ما قلناه و في قوله سبحانه‏ «أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً» دلالة على أن التكليف قد يتعلق بأن لا يفعل كما يتعلق بالفعل و على أنه يستحق الثواب و العقاب على أن لا يفعل و هو الصحيح من المذهب.

 [سورة الأنعام (6): الآيات 152 الى 153]

وَ لا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَ أَوْفُوا الْكَيْلَ وَ الْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَ إِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَ لَوْ كانَ ذا قُرْبى‏ وَ بِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَ أَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَ لا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)

القراءة

قرأ أهل الكوفة إلا أبا بكر تذكرون بتخفيف الذال حيث وقع و الباقون بالتشديد و قرأ أهل الكوفة غير عاصم و إن هذا بكسر الهمزة و الباقون بفتحها و كلهم شدد النون إلا ابن عامر و يعقوب فإنهما قرءا إن بالتخفيف و كلهم سكن الياء من صراطي إلا ابن عامر فإنه فتحها و قرأ ابن عامر و ابن كثير سراطي بالسين و قرأ حمزة بين الصاد و الزاي.

الحجة

القراءتان في تذكرون متقاربتان و الأصل تتذكرون فمن حفف حذف التاء الأولى و من شدد أدغم التاء الثانية في الذال و أما من فتح و إن هذا فإنه حملها على فاتبعوه‏

 

591
مجمع البیان في تفسير القرآن4

اللغة ص : 592

على قياس قول سيبويه في قوله تعالى‏ لِإِيلافِ قُرَيْشٍ‏ و قوله‏ وَ إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ‏ و قوله‏ وَ أَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً فيكون على تقدير و لأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه و من خفف فقال و أن هذا فإن الخفيفة في قوله يتعلق بما يتعلق به الشديدة و موضع هذا رفع بالابتداء و خبره صراطي و في أن ضمير القصة و الحديث و على هذه الشريطة يخفف و ليست المفتوحة كالمكسورة إذا خففت و على هذا قول الأعشى:

في فتية كسيوف الهند قد علموا

 

 إن هالك كل من يحفى و ينتعل‏

 

و الفاء التي في قوله‏ «فَاتَّبِعُوهُ» على قول من كسر إن عاطفة جملة على جملة و على قول من فتح أن زائدة.

اللغة

الأشد واحدها شد مثل الأشر في جمع شر و الأضر في جمع ضر و الشد القوة و هو استحكام قوة الشباب و السن كما أن شد النهار هو ارتفاعه قال عنترة:

عهدي به شد النهار كأنما

 

 خضب البنان و رأسه بالعظلم‏

 

و قيل هو جمع شدة مثل نعمة و أنعم و قال بعض البصريين الأشد واحد فيكون مثل الآنك قال سيبويه الذكر و الذكر بمعنى و ذكر فعل يتعدى إلى مفعول واحد فإذا ضاعفت العين يعدى إلى مفعولين كما في قوله:

يذكرنيك حنين العجول‏

 

 و نوح الحمامة تدعو هديلا

 

و يقول ذكره فتذكر فتفعل مطاوع فعل كما أن تفاعل مطاوع فاعل.

المعنى‏

ثم ذكر سبحانه تمام ما يتلو عليهم فقال‏ «وَ لا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ» و المراد بالقرب التصرف فيه و إنما خص مال اليتيم بالذكر لأنه لا يستطيع الدفاع عن نفسه و لا عن ماله فيكون الطمع في ماله أشد و يد الرغبة إليه أمد فأكد سبحانه النهي عن التصرف في ماله و إن كان ذلك واجبا في مال كل أحد «إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» أي بالخصلة أو الطريقة الحسنى و لذلك أنث و قد قيل في معناه أقوال (أحدها) أن معناه إلا بتثمير ماله بالتجارة عن‏

592
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 592

مجاهد و الضحاك و السدي (و ثانيها) بأن يأخذ القيم عليه بالأكل بالمعروف دون الكسوة عن ابن زيد و الجبائي (و ثالثها) بأن يحفظ عليه حتى يكبر «حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ» اختلف في معناه فقيل أنه بلوغ الحلم عن الشعبي و قيل هو أن يبلغ ثماني عشرة سنة و قال السدي هو أن يبلغ ثلاثين سنة ثم نسخها قوله‏ حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ‏ الآية و قال أبو حنيفة إذا بلغ خمسا و عشرين سنة دفع المال إليه و قبل ذلك يمنع منه إذا لم يؤنس منه الرشد و قيل إنه لا حد له بل هو أن يبلغ و يكمل عقله و يؤنس منه الرشد فيسلم إليه ماله و هذا أقوى الوجوه و ليس بلوغ اليتيم أشده مما يبيح قرب ماله بغير الأحسن و لكن تقديره و لا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن على الأبد حتى يبلغ أشده فادفعوا إليه بدليل قوله‏ وَ لا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَ بِداراً أَنْ يَكْبَرُوا «وَ أَوْفُوا» أي أتموا «الْكَيْلَ وَ الْمِيزانَ بِالْقِسْطِ» أي بالعدل و الوفاء من غير بخس‏ «لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها» أي إلا ما يسعها و لا يضيق عنه و معناه هنا أنه لما كان التعديل في الوزن و الكيل على التحديد من أقل القليل بتعذر بين سبحانه أنه لا يلزم في ذلك إلا الاجتهاد في التحرز من النقصان‏ «وَ إِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَ لَوْ كانَ ذا قُرْبى‏» أي فقولوا الحق و إن كان على ذي قرابة لكم و إنما خص القول بالعدل دون الفعل لأن من جعل عادته العدل في القول دعاه ذلك إلى العدل في الفعل و يكون ذلك من آكد الدواعي إليه و قيل معناه إذا شهدتم أو حكمتم فاعدلوا في الشهادة و الحكم و إن كان المقول عليه أو المشهود له أو عليه قرابتك و هذا من الأوامر البليغة التي يدخل فيها مع قلة حروفها الأقارير و الشهادات و الوصايا و الفتاوى و القضايا و الأحكام و المذاهب و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر «وَ بِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا» قيل في معنى عهد الله قولان (أحدهما) أن كل ما أوجبه الله تعالى على العباد فقد عهد إليهم بإيجابه عليهم و بتقديم القول فيه و الدلالة عليه (و الآخر) أن المراد به النذور و العهود في غير معصية الله تعالى و المراد أوفوا بما عاهدتم الله عليه من ذلك‏ «ذلِكُمْ» أي ذلك الذي تقدم ذكره من ذكر مال اليتيم و أن لا يقرب إلا بالحق و إيفاء الكيل و اجتناب البخس و التطفيف و تحري الحق فيه على مقدار الطاقة و القول بالحق و الصدق و الوفاء بالعهد «وَصَّاكُمْ» الله سبحانه‏ «بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» أي لكي تتذكروه و تأخذوا به فلا تطرحوه و لا تغفلوا عنه فتتركوا العمل به و القيام بما يلزمكم منه‏ «وَ أَنَّ هذا صِراطِي» أي و لأن هذا صراطي و من خفف فتقديره و لأنه هذا صراطي و من كسر أن فإنه استأنف قال ابن عباس يريد أن هذا ديني دين الحنيفية أقوم الأديان و أحسنها و قيل يريدان ما ذكر في هذه الآيات من الواجب و المحرم‏

593
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأنعام(6): الآيات 154 الى 155] ص : 594

 

صراطي لأن امتثال ذلك على ما أمر به يؤدي إلى الثواب و الجنة فهو طريق إليها و إلى النعيم فيها «مُسْتَقِيماً» أي فيما لا عوج فيه و لا تناقض و هو منصوب على الحال‏ «فَاتَّبِعُوهُ» أي اقتدوا به و اعملوا به و اعتقدوا صحته و أحلوا حلاله و حرموا حرامه‏ «وَ لا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ» أي طرق الكفر و البدع و الشبهات عن مجاهد و قيل يريد اليهودية و النصرانية و المجوسية و عبادة الأوثان عن ابن عباس‏ «فَتَفَرَّقَ» و أصله فتتفرق‏ «بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ» أي فتشتت و تميل و تخالف بكم عن دينه الذي ارتضى و به أوصى و قيل عن طريق الدين‏ «ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» أي لكي تتقوا عقابه باجتناب معاصيه قال ابن عباس هذه الآيات محكمات لم ينسخهن شي‏ء من جميع الكتب و هي محرمات على بني آدم كلهم و هم أم الكتاب من عمل بهن دخل الجنة و من تركهن دخل النار و قال كعب الأحبار و الذي نفس كعب بيده إن هذا لأول شي‏ء في التوراة بسم الله الرحمن الرحيم قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم الآيات.

 [سورة الأنعام (6): الآيات 154 الى 155]

ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَ تَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154) وَ هذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَ اتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155)

القراءة

في الشواذ قراءة يحيى بن يعمر على الذي أحسن بالرفع.

الحجة

قال ابن جني هذا مستضعف الإعراب عندنا لأنه حذف المبتدأ العائد إلى الذي لأن تقديره على الذي هو أحسن و إنما يحذف من صلة الذي الهاء المنصوبة بالفعل الذي هو صلتها نحو مررت بالذي ضربت أي ضربته و من المفعول بدله و طال الاسم بصلته فحذف الهاء لذلك و ليس المبتدأ بنيف و لا فضلة فيحذف تخفيفا لا سيما و هو عائد الموصول و على أن هذا قد جاء نحوه عنهم حكى سيبويه عن الخليل أنه سمع ما أنا بالذي قائل لك شيئا و سوءا أي بالذي هو قائل لك و قال لم أر مثل الفتيان في غير الأيام ينسون ما عواقبها أي ينسون الذي هو عواقبها و يجوز أن يكون ينسون معلقة كما علقوا نقيضتها التي هي يعلمون فيكون ما استفهاما و عواقبها خبر ما كقولك قد علمت من أبوك و على الوجه الأول حمله أصحابنا و قال الزجاج تماما منصوب بأنه مفعول له و كذلك تفصيلا و ما بعده‏

 

594
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 595

و المعنى آتيناه لهذه العلة أي للتمام و للتفصيل أنزلناه في موضع رفع بأنه صفة كتاب.

المعنى‏

 «ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ» قيل في معنى ثم آتينا موسى الكتاب مع أن كتاب موسى قبل القرآن و ثم يقتضي التراخي وجوه (أحدها) أن فيه حذفا و تقديره ثم قل يا محمد آتينا موسى الكتاب بدلالة قوله‏ قُلْ تَعالَوْا (و ثانيها) أن تقديره ثم أتل عليكم آتينا موسى الكتاب و يكون عطفا على معنى التلاوة و المعنى قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ثم أتل عليكم ما آتاه الله موسى عن الزجاج (و ثالثها) أنه عطف خبر على خبر لا عطف معنى على معنى و تقديره ثم أخبركم أنه أعطى موسى الكتاب و الذي قول الشاعر:

و لقد ساد ثم ساد أبوه‏

 

 ثم قد ساد قبل ذلك جده‏

 

 (و رابعها) أنه يتصل بقوله في قصة إبراهيم‏ وَ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ‏ فعد سبحانه نعمته عليه بما جعل في ذريته من الأنبياء ثم عطف عليه بذكر ما أنعم عليه بما أتي موسى من الكتاب و النبوة و هو أيضا من ذريته عن أبي مسلم و استحسنه المغربي‏ «تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ» قيل فيه وجوه (أحدها) تماما على إحسان موسى فكأنه قال ليكمل إحسانه الذي يستحق به كمال ثوابه في الآخرة عن الربيع و الفراء (و ثانيها) تماما على المحسنين عن مجاهد و قيل إن في قراءة عبد الله تماما على الذي أحسنوا فكأنه قال تماما للنعمة على المحسنين الذين هو أحدهم و النون قد تحذف من الذين كما في البيت:

و إن الذي حانت بفلج دماؤهم‏

 

 هم القوم كل القوم يا أم خالد

 

و يجوز أن يكون الذي للجنس و يكون بمعنى من أحسن (و ثالثها) أن معناه تماما على إحسان الله إلى أنبيائه عن ابن زيد (و رابعها) أن معناه تماما لكرامته في الجنة على إحسانه في الدنيا عن الحسن و قتادة و قال قتادة تقديره من أحسن في الدنيا تمت عليه كرامة الله في الآخرة (و خامسها) أن معناه تماما على الذي أحسن الله سبحانه إلى موسى بالنبوة و غيرها من الكرامة عن الجبائي (و سادسها) ما قاله أبو مسلم أنه يتصل بقصة إبراهيم فيكون المعنى تماما للنعمة على إبراهيم و لجزائه على إحسانه في طاعة ربه و ذلك من لسان الصدق الذي سأل الله سبحانه أن يجعله له و لفظة على تقتضي المضاعفة عليه و لو قال تماما و لم يأت بقوله على‏

595
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأنعام(6): الآيات 156 الى 157] ص : 596

الذي أحسن لدل على نقصانه قبل تكميله‏ «وَ تَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ» أي و بيانا لكل ما يحتاج إليه الخلق‏ «وَ هُدىً» أي و دلالة على الحق و الدين يهتدي بها إلى التوحيد و العدل و الشرائع‏ «وَ رَحْمَةً» أي نعمة على سائر المكلفين لما فيه من الأمر و النهي و الوعد و الوعيد و الأحكام‏ «لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ» معناه لكي يؤمنوا بجزاء ربهم فسمي الجزاء لقاء الله تفخيما لشأنه مع ما فيه من الإيجاز و الاختصار و قيل معنى اللقاء الرجوع إلى ملكه و سلطانه يوم لا يملك أحد سواه شيئا «وَ هذا كِتابٌ» يعني القرآن وصفه بهذا الوصف لبيان أنه مما ينبغي أن يكتب لأنه أجل الحكم‏ «أَنْزَلْناهُ» يعني أنزله جبرائيل إلى محمد ص فأضاف النزول إلى نفسه توسعا «مُبارَكٌ» و هو من يأتي من قبله الخير الكثير عن الزجاج فالبركة ثبوت الخير بزيادته و نموه و أصله الثبوت و منه براكاء القتال في قوله:

و ما ينجي من الغمرات إلا

 

 براكاء القتال أو الفرار

 

و منه تبارك الله أي تعالى بصفة إثبات لا أول له و لا آخر و هذا تعظيم لا يستحقه غير الله تعالى‏ «فَاتَّبِعُوهُ» أي اعتقدوا صحته و اعملوا به و كونوا من أتباعه‏ «وَ اتَّقُوا» معاصي الله و مخالفته و مخالفة كتابه‏ «لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ» أي لكي ترحموا و إنما قال و اتقوا لعلكم ترحمون مع أنهم إذا اتقوا رحموا لا محالة لأمرين (أحدهما) أنه اتقوا على رجاء الرحمة لأنكم لا تدرون بما توافون في الآخرة (و الثاني) اتقوا لترحموا أي ليكن الغرض بالتقوى منكم طلب ما عند الله من الرحمة و الثواب.

 [سورة الأنعام (6): الآيات 156 الى 157]

أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى‏ طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَ إِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى‏ مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ هُدىً وَ رَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَ صَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ (157)

596
مجمع البیان في تفسير القرآن4

الإعراب ص : 597

الإعراب‏

قال الزجاج أن تقولوا معناه عند البصريين كراهة أن تقولوا و هم لا يجيزون إضمار لا فلا يقولون جئت أن أكرمك أي لأن لا أكرمك و لكن يجوز فعلت ذلك أن أكرمك على إضمار محبة أن أكرمك أو كراهة أن أكرمك و يكون الحال ينبئ عن الضمير و أو تقولوا نصب تقولوا بأنه معطوف على أن تقولوا أي أو كراهة أن تقولوا و أقول أراد أنه مفعول له على حذف المضاف و إقامة المضاف إليه مقامه و إذا كان حذف المضاف يطرد جوازه مع غير أن فلأن يجوز مع أن أجدر مع طول الكلام بالصلة و قال الكسائي موضع أن تقولوا نصب باتقوا أي اتقوا يا أهل مكة أن تقولوا و «لَوْ أَنَّا» فتحت أن بعد لو مع أنه لا يقع فيه المصدر لأن الفعل مقدر بعد لو فكأنه قيل لو وقع إلينا أنا أنزل الكتاب علينا إلا أن هذا الفعل لا يظهر من أجل طول أن بالصلة و لا يحذف مع المصدر إلا في الشعر قال:

لو غيركم علق الزبير بحبله‏

 

 أدى الجوار إلى بني العوام.

 

المعنى‏

ثم بين سبحانه أنه إنما أنزل القرآن قطعا للمعذرة و إزاحة للعلة فقال‏ «أَنْ تَقُولُوا» أي كراهة أن تقولوا يا أهل مكة أو لئلا تقولوا «إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى‏ طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا» أي جماعتين و هم اليهود و النصارى عن ابن عباس و الحسن و مجاهد و قتادة و السدي و إنما خصهما بالذكر لشهرتهما و ظهور أمرهما أي أنزلنا عليكم هذا الكتاب لنقطع حجتكم‏ «وَ إِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ» و المعنى إنا كنا غافلين عن تلاوة كتبهم و ما كنا إلا غافلين عن دراستهم و لم ينزل علينا الكتاب كما أنزل عليهم لأنهم كانوا أهله دوننا و لو أريد منا ما أريد منهم لأنزل الكتاب علينا كما أنزل عليهم‏ «أَوْ تَقُولُوا» يا أهل مكة «لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى‏ مِنْهُمْ» في المبادرة إلى قبوله و التمسك به لأنا أجود أذهانا و أثبت معرفة منهم فإن العرب كانوا يدلون بجودة الفهم و دكاء الحدس و حدة الذهن و قد يكون العارف بالشي‏ء أهدى إليه من عارف آخر بأن يعرفه من وجوه لا يعرفها هو و بأن يكون ما يعرفه به أثبت مما يعرفه به الآخر ثم قال تعالى‏ «فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ» أي حجة واضحة و دلالة ظاهرة و هو القرآن‏ «وَ هُدىً» يهتدي به الخلق إلى النعيم المقيم و الثواب العظيم‏ «وَ رَحْمَةٌ» أي نعمة لمن اتبعه و عمل به‏ «فَمَنْ أَظْلَمُ» لنفسه‏ «مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَ صَدَفَ عَنْها» أي أعرض عنها غير مستدل بها و لا مفكر فيها عن ابن عباس و مجاهد و السدي و قتادة «سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ» أي شدة العذاب و هو ما أعده الله للكفار نعوذ بالله منه‏ «بِما كانُوا يَصْدِفُونَ» أي جزاء بما كانوا يصدفون عن القرآن و من أتى به و هو محمد ص‏

597
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأنعام(6): آية 158] ص : 598

 

و في هذا دلالة على أن إنزال القرآن لطف للمكلفين و أنه لو لم ينزله لكان لهم الحجة و إذا كان في منع اللطف عذر و حجة للمكلف فمنع القدرة و خلق الكفر أولى بذلك فإن قيل فهل للذين ماتوا من قبل من خوطب بقوله‏ «أَنْ تَقُولُوا» حجة و عذر قيل له إن عذر أولئك كان مقطوعا بالعقل و بما تقدم من الأخبار و الكتب و هؤلاء أيضا لو لم يأتهم الكتاب و الرسول لم يكن لهم حجة لكن الله تعالى لما علم أن المصلحة تعلقت بذلك فعله و لو علم مثل ذلك فيمن تقدم لأنزل عليهم مثل ما أنزل على هؤلاء و إذا لم ينزل عليهم علمنا أن ذلك لم يكن من مصالحهم.

 [سورة الأنعام (6): آية 158]

هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158)

القراءة

قرأ حمزة و الكسائي و خلف يأتيهم بالياء هاهنا و في النحل و قرأ الباقون‏ «تَأْتِيَهُمُ» بالتاء و قد مضى الكلام في أمثال ذلك.

المعنى‏

ثم توعدهم سبحانه فقال‏ «هَلْ يَنْظُرُونَ» معناه ما ينتظرون يعني هؤلاء ذكرهم و قال أبو علي الجبائي معناه هل تنتظر أنت يا محمد و أصحابك إلا هذا و هم و إن انتظروا غيره فذلك لا يعتد به من حيث ما ينتظرونه من هذه الأشياء المذكورة لعظم شأنها فهو مثل قوله‏ وَ ما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لكِنَّ اللَّهَ رَمى‏ و كما يقال تكلم فلان و لم يتكلم إذا تكلم بما لا يعتد به‏ «إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ» لقبض أرواحهم عن مجاهد و قتادة و السدي و قيل لإنزال العذاب و الخسف بهم و قيل لعذاب القبر «أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ» فيه أقوال (أحدها) أو يأتي أمر ربك بالعذاب فحذف المضاف و مثله‏ وَ جاءَ رَبُّكَ‏ عن الحسن و جاز هذا الحذف كما جاز في قوله‏ إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ‏ أي أولياء الله و قال ابن عباس يأتي أمر ربك فيهم بالقتل (و ثانيها) أو يأتي ربك بجلائل آياته فيكون حذف الجار فوصل الفعل ثم حذف المفعول لدلالة الكلام عليه و هو قيام الدليل في العقل على أن الله سبحانه لا يجوز عليه الانتقال و لا يختلف عليه الحل‏

 

598
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 598

 (و ثالثها) أن المعنى أو يأتي إهلاك ربك إياهم بعذاب عاجل أو آجل أو بالقيامة و هذا كقولنا قد نزل فلان ببلد كذا و قد أتاهم فلان أي قد أوقع بهم عن الزجاج‏ «أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ» و ذلك نحو خروج الدابة أو طلوع الشمس من مغربها عن مجاهد و قتادة و السدي و

روي عن النبي ص أنه قال‏ بادروا بالأعمال ستا طلوع الشمس من مغربها و الدابة و الدجال و الدخان و خويصة أحدكم أي موته و أمر العامة

يعني القيامة «يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ» التي تضطرهم إلى المعرفة و يزول التكليف عندها «لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ» لأنه ينسد باب التوبة بظهور آيات القيامة و يضطر الله تعالى كل أحد إلى معرفته و معرفة المحسنات و المقبحات ضرورة و يعرفه أنه إن حاول القبيح أو ترك الحسن حيل بينه و بينه فيصير ملحا إلى فعل الحسن و ترك القبيح‏ «أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً» عطف على قوله‏ «آمَنَتْ» و قيل في معناه أقوال (أحدها) أنه إنما قال ذلك على جهة التغليب لأن الأكثر مما ينتفع بإيمانه حينئذ من كسب في إيمانه خيرا (و ثانيها) أنه لا ينفع أحدا فعل الإيمان و لا فعل خير فيه في تلك الحال لأنها حال زوال التكليف و إنما ينفع ذلك قبل تلك الحال عن السدي فيكون معناه لا ينفعه إيمانه حينئذ و إن كسب في إيمانه خيرا أي طاعة و برا لأن الإيمان و اكتساب الخير إنما ينفعان من قبل (و ثالثها) أنه الإبهام في أحد الأمرين فالمعنى أنه لا ينفع في ذلك اليوم إيمان نفس إذا لم تكن آمنت قبل ذلك اليوم أو ضمت إلى إيمانها أفعال الخير فإنها إذا آمنت قبل نفعها إيمانها و كذلك إذا ضمت إلى الإيمان طاعة نفعتها أيضا يريد أنه لا ينفع حينئذ إيمان من آمن من الكفار و لا طاعة من أطاع من المؤمنين و من آمن من قبل نفعه إيمانه بانفراده و كذلك من أطاع من المؤمنين نفعته طاعته أيضا و هذا أقوى الأقوال و أوضحها «قُلِ انْتَظِرُوا» إتيان الملائكة و وقوع هذه الآيات‏ «إِنَّا مُنْتَظِرُونَ» بكم وقوعها و في هذه الآية حث على المسارعة إلى الإيمان و الطاعة قبل الحال التي لا يقبل فيها التوبة و فيها أيضا حجة على من يقول إن الإيمان اسم لأداء الواجبات و للطاعات فإنه سبحانه قد صرح فيها بأن اكتساب الخيرات غير الإيمان المجرد لعطفه سبحانه كسب الخيرات و هي الطاعات في الإيمان على فعل الإيمان فكأنه قال لا ينفع نفسا لم تؤمن قبل ذلك اليوم إيمانها ذلك اليوم و كذا لا ينفع نفسا لم تكن كاسبة خيرا في إيمانها قبل ذلك كسبها الخيرات ذلك اليوم و قد عكس الحاكم أبو سعيد في تفسيره الأمر فيه فقال هو خلاف ما يقوله المرجئة لأنه يدل على أن الإيمان بمجرده لا ينفع حتى يكون معه اكتساب الخيرات و ليت شعري كيف تدل الآية على ما قاله و كيف حكم لنفسه على خصمه فيما الحكم فيه لخصمه عليه و هل هذا إلا عدول‏

599
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأنعام(6): آية 159] ص : 600

 

عن سنن العدل و الإنصاف.

 [سورة الأنعام (6): آية 159]

إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَ كانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْ‏ءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (159)

القراءة

قرأ حمزة و الكسائي هاهنا و في الروم فارقوا بالألف‏ و هو المروي عن علي ع‏

و الباقون‏ «فَرَّقُوا» بالتشديد.

الحجة

قال أبو علي من قرأ فرقوا فتقديره يؤمنون ببعض و يكفرون ببعض كما قال‏ أَ فَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَ تَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ‏ و قال‏ وَ يُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَ رُسُلِهِ وَ يَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَ نَكْفُرُ بِبَعْضٍ‏ و من قرأ فارقوا دينهم فالمعنى باينوه و خرجوا عنه و هو يؤول إلى معنى فرقوا أ لا ترى أنهم لما آمنوا ببعضه و كفروا ببعضه فارقوه كله فخرجوا عنه و لم يتبعوه.

اللغة

الشيع الفرق التي يمالئ بعضهم بعضا على أمر واحد مع اختلافهم في غيره و قيل إن أصله من الظهور يقال شاع الخبر يشيع شيوعا ظهر و شيعت النار إذا ألقيت عليها الحطب فكأنك تظهرها و قال الزجاج أصله الاتباع يقال شاعكم السلام و أشاعكم السلام أي تبعكم السلام قال:

ألا يا نخلة من ذات عرق‏

 

 برود الظل شاعكم السلام‏

 

و يقول آتيك غدا أو شيعة أي أو اليوم الذي تتبعه فمعنى الشيعة الذين يتبع بعضهم بعضا قال الكميت:

و ما لي إلا آل أحمد شيعة

 

 و ما لي إلا مشعب الحق مشعب‏

 

. المعنى‏

ثم عطف سبحانه على ما قدمه من الوعيد فقال‏ «إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَ كانُوا شِيَعاً» اختلف في المعنيين بهذه الآية على أقوال (أحدها) أنهم الكفار و أصناف المشركين عن السدي و الحسن و نسختها آية السيف (و ثانيها) أنهم اليهود و النصارى لأنهم يكفر بعضهم بعضا عن قتادة (و ثالثها)

أنهم أهل الضلالة و أصحاب الشبهات و البدع من هذه‏

 

600
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأنعام(6): آية 160] ص : 601

 

الأمة رواه أبو هريرة و عائشة مرفوعا و هو المروي عن الباقر (ع)

جعلوا دين الله أديانا لإكفار بعضهم بعضا و صاروا أحزابا و فرقا «لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْ‏ءٍ» هذا خطاب للنبي ص و إعلام له أنه ليس منهم في شي‏ء و أنه على المباعدة التامة من أن يجتمع معهم في معنى من مذاهبهم الفاسدة و ليس كذلك بعضهم مع بعض لأنهم يجتمعون في معنى من المعاني الباطلة و إن افترقوا في غيره فليس منهم في شي‏ء لأنه بري‏ء من جميعه و قيل إن معناه لست من مخالطتهم في شي‏ء و إنما هو نهي النبي من مقاربتهم و أمر له بمباعدتهم عن قتادة و قيل معناه لست من قتالهم في شي‏ء ثم نسختها آية القتال عن الكلبي و الحسن‏ «إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ» في مجازاتهم على سوء أفعالهم و قيل أمرهم في الإنظار و الاستئصال إلى الله و قيل الحكم بينهم في اختلافهم إلى الله‏ «ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ» أي يخبرهم و يجازيهم‏ «بِما كانُوا يَفْعَلُونَ» يوم القيامة فيظهر المحق من المبطل.

 [سورة الأنعام (6): آية 160]

مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَ مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى‏ إِلاَّ مِثْلَها وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ (160)

القراءة

قرأ يعقوب عشر منون أمثالها برفع اللام و هو قراءة الحسن و سعيد بن جبير و الباقون‏ «عَشْرُ» مضاف‏ «أَمْثالِها» مجرور.

الحجة

من قرأ عشر أمثالها فالمعنى له عشر حسنات أمثالها فيكون أمثالها صفة للموصوف الذي أضيف إليه عشر و من قرأ عشر أمثالها فيكون أمثالها صفة لعشر هذا قول الزجاج و حذف الموصوف و إقامة الصفة مقامه ضعيف عند المحققين و أكثر ما يأتي ذلك في الشعر و الأولى أن يكون أمثالها غير صفة في قوله‏ «عَشْرُ أَمْثالِها» بل يكون محمولا على المعنى فأنث الأمثال لما كان في معنى الحسنات و حكي عن أبي عمرو أنه سمع أعرابيا يقول فلان لغوب جاءته كتابي فاحتقرها قال فقلت له أ تقول جاءته كتابي قال نعم أ ليس بصحيفة.

اللغة

الحسنة اسم للأعلى في الحسن و دخول الهاء للمبالغة قال علي بن عيسى دخول الهاء يدل على أنها طاعة أما واجب أو ندب و ليس كل حسن كذلك لأن في الحسن ما هو مباح لا يستحق عليه مدح و لا ثواب و أقوى من ذلك أن يقال دخول لام التعريف فيها يدل على أنها المأمور بها لأنها لام العهد و الله سبحانه لا يأمر بالمباح.

 

601
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 602

المعنى‏

لما ذكر سبحانه الوعيد على المعاصي عقبه بذكر الوعد و تضعيف الجزاء في الطاعات فقال‏ «مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها» أي من جاء بالخصلة الواحدة من خصال الطاعة فله عشر أمثالها من الثواب‏ «وَ مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ» أي بالخصلة الواحدة من خصال الشر «فَلا يُجْزى‏ إِلَّا مِثْلَها» و ذلك من عظيم فضل الله تعالى و جزيل إنعامه على عباده حيث لا يقتصر في الثواب على قدر الاستحقاق بل يزيد عليه و ربما يعفو عن ذنوب المؤمن منا منه عليه و تفضلا و إن عاقب على قدر الاستحقاق عدلا و قيل المراد بالحسنة التوحيد و بالسيئة الشرك عن الحسن و أكثر المفسرين و على هذا فإن أصل الحسنات التوحيد و أسوء السيئات الكفر «وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ» بالزيادة على مقدار ما استحقوا من العقاب ثم اختلف الناس في أن هذه الحسنات العشر التي وعدها الله من جاء بالحسنة هل يكون كلها ثوابا أم لا فقال بعضهم لا يكون كلها ثوابا و إنما يكون الثواب منها الواحدة و التسع الزائدة تكون تفضلا و يؤيده قوله‏ «لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَ يَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ» فيكون على هذا معنى عشر أمثالها في النعيم و اللذة لا في عظيم المنزلة و يجوز أن يكون التفضل مثل الثواب في الكثرة و اللذة و أن يميز منه الثواب بمقارنة التعظيم و الإجلال اللذين لولاهما لما حسن التكليف و هذا هو الصحيح و قال قوم لا يجوز أن يساوي الثواب و التفضل على وجه فيكون على قولهم كل ذلك ثوابا قال الزجاج إن المجازاة من الله عز و جل على الحسنة بدخول الجنة شي‏ء لا يبلغ وصف مقداره فإذا قال‏ عَشْرُ أَمْثالِها و قال‏ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ و قال‏ فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً فالمعنى في هذا كله أن جزاء الله سبحانه على الحسنات على التضعيف للمثل الواحد الذي هو النهاية في التقدير في النفوس فيضاعف الله سبحانه ذلك بما بين عشرة أضعاف إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة و قد قيل أيضا في ذلك أن المعنى من جاء بالحسنة فله عشر أمثال المستحق عليها و المستحق لا يعلم مقداره إلا الله تعالى و ليس المراد أمثال ذلك في العدد و هذا كما يقول الإنسان لأجيره لك من الأجر مثل ما عملت أي مثل ما تستحقه بعملك و

قد وردت الرواية عن المعرور بن سويد عن أبي ذر قال حدثني الصادق المصدق‏ إن الله تعالى قال الحسنة عشر أو أزيد و السيئة واحدة أو أغفر فالويل لمن غلبت آحاده أعشاره.

602
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأنعام(6): الآيات 161 الى 163] ص : 603

 

 [سورة الأنعام (6): الآيات 161 الى 163]

قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَ نُسُكِي وَ مَحْيايَ وَ مَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَ بِذلِكَ أُمِرْتُ وَ أَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)

القراءة

قرأ ابن عامر و أهل الكوفة «قِيَماً» مكسورة القاف خفيفة الياء و الباقون قيما مفتوحة القاف مشددة الياء و قرأ أهل المدينة محياي ساكنة الياء و مماتي بفتحها و الباقون‏ «مَحْيايَ» بفتح الياء و «مَماتِي» ساكنة الياء.

الحجة

من قرأ قيما فالقيم هو المستقيم فيكون وصفا للدين كما أن التقدير في قوله‏ دِينُ الْقَيِّمَةِ دين الملة القيمة لأن الملة هي مثل الدين و من قرأ قيما فإنه مصدر كالصغر و الكبر إلا أنه لم يصحح كما صحح حول و عوض و كان القياس و لكنه شذ كما شذ نحو ثيرة في جمع ثور و جياد في جمع جواد و كان القياس الواو و قال الزجاج إنما اعتل قيم لأنه من قام فلما اعتل قام اعتل قيم لأنه جرى عليه و أما حول فإنه جار على غير فعل و أما إسكان الياء في محياي فإنه شاذ عن القياس و الاستعمال فإن الساكنين لا يلتقيان على هذا الحد و إذا كان ما قبلها متحركا نحو و مماتي فالفتح جائز و الإسكان جائز قال أبو علي و الوجه في محياي بسكون الياء مع شذوذه ما حكى عن بعض البغداديين أنه سمع التقت حلقتا البطان بإسكان الألف مع سكون لام المعرفة و مثل هذا ما جوزه يونس في قوله أضربان زيد و أضربنان زيدا و سيبويه ينكر هذا من قول يونس و قال علي بن عيسى و لو وصله على نية الوقف جاز كما فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ‏ فإنما هذه الهاء في الوقف كما تسكن تلك الياء في الوقف.

اللغة

الملة الشريعة مأخوذة من الإملاء كأنه ما يأتي به الشرع و يورده الرسول من الشرائع المتجددة فيمله على أمته ليكتب أو يحفظ فأما التوحيد و العدل فواجبان بالعقل و لا يكون فيهما اختلاف و الشرائع تختلف و لهذا يجوز أن يقال ديني دين الملائكة و لا يقال ملتي ملة الملائكة فكل ملة دين و ليس كل دين ملة و النسك العبادة و رجل ناسك و منه النسيكة الذبيحة و المنسك الموضع الذي تذبح فيه النسائك قال الزجاج فالنسك كل ما تقرب به إلى الله تعالى إلا أن الغالب عليه أمر الذبح و قول الناس فلان ناسك ليس يراد به ذبح إنما يراد به أنه يؤدي المناسك أي يؤدي ما افترض عليه مما يتقرب به إلى الله.

الإعراب‏

دينا قال أبو علي يحتمل نصبه ثلاثة أضرب أحدها أنه لما قال هداني ربي إلى صراط مستقيم استغنى بجري ذكر الفعل عن ذكره ثانيا فقال دينا قيما كما قال‏ اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ‏ و إن شئت نصبته على اعرفوا

 

603
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 604

لأن هدايتهم إليه تعريف لهم فحمله على اعرفوا دينا قيما و إن شئت حملته على الاتباع كأنه قال اتبعوا دينا قيما و الزموه كما قال‏ اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ‏ قال الزجاج ملة إبراهيم بدل من دينا قيما و حنيفا منصوب على الحال من إبراهيم و المعنى هداني و عرفني ملة إبراهيم في حال حنيفية.

المعنى‏

ثم أمر الله نبيه ص فقال‏ «قُلْ» يا محمد لهؤلاء الكفار و للخلق جميعا «إِنَّنِي هَدانِي» أي دلني و أرشدني‏ «رَبِّي إِلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» و قيل أراد لطف لي ربي في الاهتداء و وفقني لذلك و قد بينا معنى الصراط المستقيم في سورة الحمد «دِيناً قِيَماً» أي مستقيما على نهاية الاستقامة و قيل دائما لا ينسخ‏ «مِلَّةَ إِبْراهِيمَ» و إنما وصف دين النبي بأنه ملة إبراهيم ترغيبا فيه للعرب لجلالة إبراهيم في نفوسها و نفوس كل أهل الأديان و لانتساب العرب إليه و اتفاقهم على أنه كان على الحق‏ «حَنِيفاً» أي مخلصا في العبادة لله عن الحسن و قيل مائلا إلى الإسلام ميلا لازما لا رجوع معه من قولهم رجل أحنف إذا كان مائل القدم من خلقة عن الزجاج و قيل مستقيما و إنما جاء أحنف على التفاؤل عن الجبائي‏ «وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» يعني إبراهيم كان يدعو إلى عبادة الله و ينهى عن عبادة الأصنام‏ «قُلْ إِنَّ صَلاتِي» قد فسرنا معنى الصلاة فيما تقدم‏ «وَ نُسُكِي» أي ذبيحتي للحج و العمرة عن سعيد بن جبير و مجاهد و قتادة و السدي و قيل نسكي ديني عن الحسن و قيل عبادتي عن الجبائي و الزجاج و إنما ضم الصلاة إلى أصل الواجبات من التوحيد و العدل لأن فيها التعظيم لله عند التكبير و فيها تلاوة القرآن الذي يدعو إلى كل بر و فيها الركوع و السجود و فيها الخضوع لله تعالى و التسبيح الذي هو التنزيه له‏ «وَ مَحْيايَ وَ مَماتِي» أي حياتي و موتي‏ «لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» و إنما جمع بين صلاته و حياته و أحدهما من فعله و الآخر من فعل الله لأنهما جميعا بتدبير الله و قيل معناه صلاتي و نسكي له عبادة و حياتي و مماتي له ملكا و قدرة عن القاضي و قيل إن عبادتي له لأنها بهدايته و لطفه و محياي و مماتي له لأنه بتدبيره و خلقه و قيل معنى قوله‏ «وَ مَحْيايَ وَ مَماتِي لِلَّهِ» أن الأعمال الصالحة التي تتعلق بالحياة في فنون الطاعات و ما يتعلق بالممات من الوصية و الختم بالخيرات لله و فيه تنبيه على أنه لا ينبغي أن يجعل الإنسان حياته لشهوته و مماته لورثته‏ «لا شَرِيكَ لَهُ» أي لا ثاني له في الإلهية و قيل لا شريك له في العبادة و في الإحياء و الإماتة «وَ بِذلِكَ أُمِرْتُ» أي و بهذا أمرني ربي‏ «وَ أَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ» من هذه الأمة فإن إبراهيم كان أول المسلمين و من بعده تابع له في الإسلام عن الحسن و قتادة و فيه بيان‏

604
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأنعام(6): الآيات 164 الى 165] ص : 605

 

فضل الإسلام و بيان وجوب اتباعه على الإسلام إذ كان ص أول من سارع إليه و لأنه إنما أمر بذلك ليتأسى به و يقتدي بفعله.

 [سورة الأنعام (6): الآيات 164 الى 165]

قُلْ أَ غَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَ هُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْ‏ءٍ وَ لا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْها وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى‏ ثُمَّ إِلى‏ رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164) وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَ رَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَ إِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)

اللغة

الرب إذا أطلق أفاد المالك بتصريف الشي‏ء بأتم التصريف و إذا أضيف فقيل رب الدار و رب الضيعة فمعناه المالك لتصريفه بأتم تصريف العباد و أصله التربية و هي تنشئة الشي‏ء حالا بعد حال حتى يصير إلى الكمال و الفرق بين الرب و السيد أن السيد المالك لتدبير السواد الأعظم و الرب المالك لتدبير الشي‏ء حتى يصير إلى الكمال مع إجرائه على تلك الحال و يقال وزر يزر وزرا و وزر يوزر فهو موزور و أصله من الوزر الذي هو الملجأ فحال الموزور كحال الملتجئ إلى غير ملجأ و منه الوزير لأن الملك يلتجئ إليه في الأمور و قيل إن أصله الثقل و منه قوله‏ وَ وَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ‏ و كلاهما محتمل و واحد الخلائف خليفة مثل صحيفة و صحائف و سفينة و سفائن و خلف فلان فلانا يخلفه فهو خليفته إذا جاء بعده.

الإعراب‏

في نصب درجات ثلاثة أقوال (أحدها) أن يقع موقع المصدر فكأنه قال رفعة بعد رفعة (و الثاني) أنه إلى درجات فحذفت إلى كما حذفته في قولك دخلت البيت و تقديره إلى البيت (و الثالث) أن يكون مفعولا من قولك ارتفع درجة و رفعته درجة مثل اكتسى ثوبا و كسوته ثوبا.

المعنى‏

لما أمر سبحانه نبيه ص ببيان الإخلاص في الدين عقبه بأمره أن يبين لهم بطلان أفعال المشركين فقال‏ «قُلْ» يا محمد لهؤلاء الكفار على وجه الإنكار «أَ غَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي‏

 

605
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 605

رَبًّا وَ هُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْ‏ءٍ» و تقديره أ يجوز أن أطلب غير الله ربا و أطلب الفوز بعبادته و هو مربوب مثلي و أترك عبادة من خلقني و رباني و هو مالك كل شي‏ء و خالقه و مدبره و ليس بمربوب أم هذا قبيح في العقول و هو لازم لكم على عبادتكم الأوثان‏ «وَ لا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها» أي لا تكسب كل نفس جزاء كل عمل من طاعة أو معصية إلا عليها فعليها عقاب معصيتها و لها ثواب طاعتها و وجه اتصاله بما قبله أنه لا ينفعني في ابتغاء رب غيره ما أنتم عليه من ذلك لأنه ليس بعذر لي في اكتساب الإثم اكتساب غيري له‏ «وَ» لأنه‏ «لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى‏» أي لا يحمل أحد ذنب غيره و معناه و لا يجازى أحد بذنب غيره و قال الزجاج معناه لا تؤخذ نفس غير آثمة بإثم أخرى و قيل إن الكفار قالوا للنبي ص اتبعنا و علينا وزرك أن كان خطأ فأنزل الله هذا و فيه دلالة على فساد قول المجبرة إن الله تعالى يعذب الطفل بكفر أبيه‏ «ثُمَّ إِلى‏ رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ» أي مآلكم و مصيركم‏ «فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ» أي يخبركم بالحق فيما اختلفتم فيه فيظهر المحسن من المسي‏ء «وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ» أخبر سبحانه أنه الذي جعل الخلق خلائف الأرض و معناه أن أهل كل عصر يخلف أهل العصر الذي قبله كلما مضى قرن خلفهم قرن يجري ذلك على انتظام و اتساق حتى تقوم الساعة على العصر الأخير فلا يخلفه عصر و هذا لا يكون إلا من عالم مدبر عن الحسن و السدي و جماعة و قيل المراد بذلك أمة نبينا محمد ص جعلهم الله تعالى خلفاء لسائر الأمم و نصرهم على سائر الخلق‏ «وَ رَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ» في الرزق عن السدي و قيل في الصورة و العقل و العمر و المال و القوة و هذا أولى لأن الأول يدخل فيه و وجه الحكمة في ذلك مع أنه سبحانه خلقهم ابتداء من غير استحقاق بعمل يوجب التفاضل بينهم ما فيه من الألطاف الداعية إلى الواجبات و الصارفة عن المقبحات لأن كل من كان غنيا في ماله شريفا في نسبه ربما دعاه ذلك إلى طاعة من يملكه رغبة في امتثاله و من كان على ضد ذلك ربما دعاه إلى طاعته رهبة من أمثاله و رجاء أن ينقله عن هذه الحال إلى حال جليلة يغتبط عليها «لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ» أي ليختبركم فيما أعطاكم أي يعاملكم معاملة المختبر مظاهرة في العدل و انتفاء من الظلم و معناه لينظر الغني إلى الفقير فيشكر و ينظر الفقير إلى الغني فيصبر و يفكر العاقل في الأدلة و يعمل بما يعلم‏ «إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ» إنما وصف نفسه بذلك مع أن عقابه في الآخرة من حيث إن كل ما هو آت قريب فهو إذا سريع و قيل معناه أنه سريع العقاب بمن استحقه في دار الدنيا فيكون تحذيرا لمواقع الخطيئة على هذه الجهة و قيل معناه أنه قادر على تعجيل العقاب فاحذروا معاجلته بالهلاك في الدنيا

606
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 605

 «وَ إِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ» قابل سبحانه بين العقاب و الغفران و لم يقابل بالثواب لأن ذلك أدعى إلى الإقلاع عما يوجب العقاب لأنه لو ذكر الثواب لجاز أن يتوهم أنه لمن لم يكن منه عصيان و قيل أنه سبحانه افتتح السورة بالحمد على نعمه تعليما و ختمها بالمغفرة و الرحمة ليحمد على ذلك.

607
مجمع البیان في تفسير القرآن4

(7) سورة الأعراف مكية و آياتها ست و مائتان(206) ص : 608

 

 (7) سورة الأعراف مكية و آياتها ست و مائتان (206)

 [توضيح‏]

هي مكية و قد روي عن قتادة و الضحاك أنها مكية غير قوله‏ «وَ سْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ» إلى قوله‏ «بِما كانُوا يَفْسُقُونَ» فإنها نزلت بالمدينة

عدد آيها

مائتان و ست آيات حجازي كوفي و خمس بصري شامي.

اختلافها

خمس آيات‏ «المص» و «بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ» كوفي‏ «مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ» بصري شامي‏ «ضِعْفاً مِنَ النَّارِ» و «الْحُسْنى‏ عَلى‏ بَنِي إِسْرائِيلَ» حجازي.

فضلها

أبي بن كعب عن النبي ص قال‏ من قرأ سورة الأعراف جعل الله بينه و بين إبليس سترا و كان آدم شفيعا له يوم القيامة

و

روى العياشي بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله (ع) قال‏ من قرأ سورة الأعراف في كل شهر كان يوم القيامة من الذين لا خوف عليهم و لا هم يحزنون فإن قرأها في كل يوم جمعة كان ممن لا يحاسب يوم القيامة

قال أبو عبد الله (ع) أما إن فيها آيا محكمة فلا تدعوا قراءتها و القيام بها فإنها تشهد يوم القيامة لمن قرأها عند ربه.

تفسيرها

لما ختم الله سبحانه سورة الأنعام بالرحمة افتتح هذه السورة بأنه أنزل كتابا فيه معالم الدين و الحكمة فقال.

 

608
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأعراف(7): الآيات 1 الى 3] ص : 609

 

 [سورة الأعراف (7): الآيات 1 الى 3]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏

المص (1) كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَ ذِكْرى‏ لِلْمُؤْمِنِينَ (2) اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَ لا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (3)

القراءة

قرأ ابن عامر يتذكرون بياء و تاء و قرأ أهل الكوفة غير أبي بكر «تَذَكَّرُونَ» خفيفة الذال و قرأ الباقون تذكرون بتشديد الذال و الكاف.

الحجة

قال أبو علي من قرأ تذكرون مشددة أراد تتذكرون فأدغم التاء في الذال و إدغامها فيها حسن لأن التاء مهموسة و الذال مجهورة و المجهور أزيد صوتا و أقوى من المهموس فحسن إدغام الأنقص في الأزيد و لا يسوغ إدغام الأزيد في الأنقص ما في قوله‏ «ما تَذَكَّرُونَ» موصولة بالفعل و هي معه منزلة المصدر و المعنى قليلا تذكركم و لا ذكر في الصلة يعود إليها كما لا يكون في صلة أن ذكر و من قرأ تذكرون فإنه حذف التاء التي أدغمها من شدد الذال و ذلك حسن لاجتماع ثلاثة أحرف متقاربة و يقوي ذلك قولهم اسطاع يسطيع فحذفوا أحد الثلاثة المتقاربة و من قرأ يتذكرون بياء و تاء فوجهه أنه مخاطبة النبي ص أي قليلا ما يتذكر هؤلاء.

اللغة

قد تقدم ذكر الحروف المقطعة في أوائل السور في أول سورة البقرة و ذكرنا الأقوال في معانيها و إعرابها فلا معنى لإعادتها و بينا أن حروف الهجاء توصل على نية الوقف فرقا بينها و بين ما يوصل للمعاني فعلى هذا متى سميت رجلا بالمص وجبت الحكاية و إن سميته بصاد أو قاف لم يجب ذلك لأن صاد و قاف لهما نظير في الأسماء المفردة مثل باب و نار و ليس كذلك‏ «المص» لأنه بمنزلة الجملة إذ ليس له نظير في المفرد و إنما عد الكوفيون‏ «المص» آية و لم يعدوا صاد لأن‏ «المص» بمنزلة الجملة مع أن آخره على ثلاثة أحرف بمنزلة المردف فلما اجتمع هذان السببان و كل واحد منهما يقتضي عده عدوه و لم يعدوا المر لأن آخره لا يشبه المردف و لم يعدوا صاد لأنه بمنزلة اسم مفرد و كذلك قاف و نون و من قال إن هذه الحروف في أوائل السور أسماء للسور فعلى قوله إنما سميت بها و لم تسم بالأسماء المنقولة لأنها تتضمن معاني أخر مضافة إلى التسمية و هو أنها فاتحة لما هو منها و أنها فاصلة بينها و بين ما قبلها و لأنه يأتي من التأليف بعدها ما هو معجز مع أنه تأليف كتأليفها فهذه المعاني من أسرارها و الذكرى مصدر ذكر يذكر تذكيرا فهي اسم للتذكير و فيه مبالغة و مثله الرجعى.

الإعراب‏

قال الزجاج أجمع النحويون على أن قوله‏ «كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ» مرفوع بغير

 

609
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 610

هذه الحروف فالمعنى هذا كتاب أنزل إليك و من قال إن كتاب يرتفع بالمص و تقديره المص حروف كتاب يلزمه إضمار شيئين فيكون المعنى المص بعض حروف كتاب أنزل إليك فيكون قد أضمر المضاف و ما أضيف إليه و هذا ليس بجائز فإن قال قائل قد يقول أ ب ت ث ثمانية و عشرون حرفا و إنما ذكرت أربعة فمن أين جاز ذلك قيل قد صار اسم هذه الحروف كلها أ ب ت ث كما أنك تقول الحمد سبع آيات فالحمد اسم لجملة السورة و ليس اسم الكتاب الم و لا اسم القرآن طسم و هذا فرق بين قال و الذي اخترناه في تفسير المص قول ابن عباس أن المص أنا الله أعلم و أفصل فيكون يرتفع بعض هذه الحروف ببعض و الجملة لا موضع لها و قوله‏ «فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ» دخول الفاء فيه يحتمل وجهين (أحدهما) أن تكون عاطفة جملة على جملة و تقديره هذا كتاب أنزلناه إليك فلا يكن بعد إنزاله في صدرك حرج و الآخر أن يكون جوابا و تقديره إذا كان أنزل إليك الكتاب لتنذر به فلا يكن في صدرك حرج منه فيكون محمولا على معنى إذا، و ذكرى قال الزجاج يصلح أن يكون في موضع نصب و رفع و خفض فالنصب على قوله‏ «أُنْزِلَ إِلَيْكَ» لتنذر به و لتذكر به ذكري لأن في الإنذار معنى التذكير و هذا كما يقال جئتك للإحسان و شوقا إليك فيكون مفعولا له و أما الرفع فعلى تقدير و هو ذكرى و أما الخفض فعلى معنى لتنذر فإن معنى لتنذر لأن تنذر فيكون تقديره للإنذار و للذكرى قال علي بن عيسى و هذا الوجه ضعيف لأنه لا يجوز أن يحمل الجر على التأويل كما لا يجوز مررت به و زيد.

المعنى‏

 «المص» مضى تفسيره و ما قيل فيه‏ «كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ» أي هذا الذي أوحيته إليك كتاب أنزل إليك أي أنزله الملائكة إليك بأمر الله تعالى‏ «فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ» ذكر في معناه أقوال (أحدها) ما ذكره الحسن أن معنى الحرج الضيق فمعناه و لا يضيقن صدرك لتشعب الفكر خوفا من أن لا تقوم بتبليغ ما أنزل إليك حق القيام فليس عليك أكثر من الإنذار (و ثانيها) أن معنى الحرج الشك عن ابن عباس و مجاهد و قتادة و السدي فمعناه فلا يكن في صدرك شك فيما يلزمك من القيام بحقه فإنما أنزل إليك لتنذر به (و ثالثها) إن معناه فلا يضيقن صدرك من قومك أن يكذبوك و يجبهوك بالسوء فيما أنزل إليك كما قال سبحانه‏ فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى‏ آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً عن الفراء و

قد روي في الخبر أن الله تعالى لما نزل القرآن إلى رسول الله ص قال إني أخشى أن‏

610
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأعراف(7): الآيات 4 الى 5] ص : 611

 

يكذبني الناس و يثلغوا رأسي فيتركوه كالخبزة فأزال الله الخوف عنه بهذه الآية

و قوله‏ «لِتُنْذِرَ بِهِ» أي بالقرآن قال الفراء و الزجاج و أكثر العلماء أنه على التقديم و التأخير و تقديره كتاب أنزل إليك لتنذر به‏ «وَ ذِكْرى‏ لِلْمُؤْمِنِينَ» فلا يكن في صدرك حرج منه و قال آخرون هو متصل بقوله‏ «فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ» أي كن على انشراح صدر بالإنذار و معناه التخوف بوعده و وعيده و أمثاله و أمره و نهيه و ليذكروا بما فيه و إنما خص المؤمنين لأنهم المنتفعون به ثم خاطب الله سبحانه المكلفين فقال‏ «اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ» و يحتمل أن يكون المراد قل لهم يا محمد اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم لأنه قال قبل لتنذر به و الاتباع تصرف الثاني بتصرف الأول و تدبره بتدبيره فالأول إمام و الثاني مؤتم و وجوب الاتباع فيما أنزل الله تعالى يدخل فيه الواجب و الندب و المباح لأنه يجب أن يعتقد في كل منها ما أمر الله سبحانه به كما يجب أن يعتقد في الحرام وجوب اجتنابه‏ «وَ لا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ» أي و لا تتخذوا غيره أولياء تطيعونهم في معصية الله لأن من لا يتبع القرآن صار متبعا لغير الله من الشيطان و الأوثان فأمر سبحانه باتباع القرآن و نهى عن اتباع الشيطان ليعلموا أن اتباع القرآن اتباع له سبحانه‏ «قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ» أي قليلا يا معشر المشركين تذكركم و اتعاظكم و هذا استبطاء في التذكر و خرج مخرج الخبر و المراد به الأمر فمعناه تذكروا كثيرا ما يلزمكم من أمر دينكم و ما أوجبه الله عليكم و معنى التذكر أن يأخذ في الذكر شيئا بعد شي‏ء مثل التفقه و التعلم.

 [سورة الأعراف (7): الآيات 4 الى 5]

وَ كَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ (4) فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلاَّ أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (5)

الإعراب‏

كم لفظة موضوعة للتكثير و رب للتقليل و إنما كان كذلك لأن رب حرف و كم اسم و التقليل ضرب من النفي و كم يدخل في الخبر بمعنى التكثير فأما في الاستفهام فلا لأن الاستفهام موكول إلى بيان المجيب و إنما دخلها التكثير لأن استبهام العدد عن أن يظهر أو يضبط إنما يكون لكثرته في غالب الأمر و كم مبهمة قال الفرزدق:

 

611
مجمع البیان في تفسير القرآن4

الإعراب ص : 611

كم عمة لك يا جرير و خالة

 

 فدعاء قد حلبت علي عشاري‏

 

فدل بكم على كثرة العمات و الخالات و موضع كم في الآية رفع بالابتداء و خبرها أهلكناها و لو جعلتها في موضع نصب جاز كما تقول في قوله سبحانه‏ «إِنَّا كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ» و الأول أجود و قيل في دخول الفاء في قوله‏ «فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً» مع أن الفاء للتعقيب أقوال (أحدها) أهلكناها في حكمنا فجاءها بأسنا (و الثاني) أهلكناها بإرسال ملائكة العذاب إليها فجاءها بأسنا (و الثالث) أنه مثل زرتني فأكرمتني فإن نفس الإكرام هي الزيارة قال علي بن عيسى و ليس هذا مثل ذلك لأن هذا إنما جاز لأنه قصد الزيارة ثم الإكرام بها (و الرابع) أهلكناها فصح أنه جاءها بأسنا و قال الفراء إن الفاء هاهنا بمعنى الواو و رد عليه علي بن عيسى بأنه نقل حرف عن معناه بغير دليل و ذلك لا يجوز و قوله‏ «أَوْ هُمْ قائِلُونَ» قال الفراء واو الحال مقدرة فيه و تقديره أو و هم قائلون و إنما حذفت استخفافا قال الزجاج و هذا لا يحتاج إلى ضمير الواو و لو قلت جاءني زيد راجلا أو فهو فارس أو جاءني زيد هو فارس لم يحتج إلى واو لأن الذكر قد عاد إلى الأول و معنى بياتا أي ليلا يقال بات بياتا حسنا و بيتة حسنة و المصدر في الأصل بات بيتا و إنما سمي البيت بيتا لأنه يصلح للمبيت فمعنى أو هم قائلون أي أو جاءهم بأسنا نهارا في وقت القائلة فأو دخلت هاهنا على جهة تصرف الشي‏ء و وقوعه و أما مرة كذا فهي في الخبر هاهنا بمنزلة أو في الإباحة إذا قلت جالس الحسن و ابن سيرين أي كل واحد منهما أهل أن يجالس و أو هاهنا أحسن من الواو لأن الواو يتضمن اجتماع الشيئين لو قلت ضربت القوم قياما و قعودا لأوجبت الواو أنك ضربتهم و هم على هاتين الحالتين و لو قلت ضربتهم قياما أو ضربتهم قعودا و لم تكن شاكا فإنما المعنى أنك ضربتهم مرة على هذه الحال و مرة على هذه الحال و أقول أن الأولى أن يكون بياتا مصدرا وضع موضع الحال فيكون بمعنى بائتين أو قائلين فيكون حالا عن الهاء و الميم في جاءهم و موضع أن قالوا الاختيار أن يكون رفعا و أن يكون دعواهم في موضع نصب كقوله‏ وَ ما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا و يجوز أن يكون في موضع نصب و يكون الدعوى في موضع رفع إلا أن الدعوى إذا كانت في موضع رفع فالأكثر في اللفظ فما كانت دعواهم كذا لأن الدعوى‏

612
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 613

 

مؤنثة و هي اسم لما تدعيه و تصلح أن تكون بمعنى الدعاء حكى سيبويه اللهم أشركنا في صالح دعوى المسلمين و أنشد:

 (ولت و دعواها كثير صخبه)

 

 

 

أي دعاؤها.

المعنى‏

لما تقدم الأمر منه سبحانه للمكلفين باتباع القرآن و التحذير من مخالفته و التذكير عقب ذلك تذكيرهم ما نزل بمن قبلهم من العذاب و تحذيرهم أن ينزل بهم ما نزل بأولئك فقال‏ «وَ كَمْ مِنْ قَرْيَةٍ» أي من أهل قرية فحذف المضاف لدلالة الكلام عليه‏ «أَهْلَكْناها» بعذاب الاستئصال‏ «فَجاءَها بَأْسُنا» أي عذابنا «بَياتاً» بالليل‏ «أَوْ هُمْ قائِلُونَ» أي في وقت القيلولة و هي نصف النهار و أصله الراحة و منه الإقالة في البيع لأنه الإراحة منه بالإعفاء من عقدة و الأخذ بالشدة في وقت الراحة أعظم في العقوبة فلذلك خص الوقتين بالذكر «فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا» أي لم يكن دعاء هؤلاء الذين أهلكناهم عقوبة لهم على معاصيهم و كفرهم في الوقت الذي جاءهم شدة عذابنا «إِلَّا أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ» يعني اعترافهم بذلك على نفوسهم و إقرارهم به و هذا القول كان منهم عند معاينة البأس و التيقن بأنه ينزل بهم و يجوز أن يكونوا قالوه حين لابسهم طرف منه و لم يهلكوا بعد و في هذا دلالة على أن الاعتراف و التوبة عند معاينة البأس لا ينفع.

 [سورة الأعراف (7): الآيات 6 الى 9]

فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَ لَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَ ما كُنَّا غائِبِينَ (7) وَ الْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَ مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ (9)

اللغة

السؤال طلب الجواب بأدائه في الكلام كما أن الاستخبار طلب الخبر بأدائه في الكلام و القصص ما يتلو بعضه بعضا و منه المقص لأن قطعه يتلو بعضه بعضا و منه القصة من الشعر و القصة من الكتاب و منه القصاص لأنه يتلو الجناية في الاستحقاق و منه المقاصة في الحق لأنه يسقط ماله قصاصا بما عليه و الوزن في اللغة هو مقابلة أحد الشيئين‏

 

613
مجمع البیان في تفسير القرآن4

الإعراب ص : 614

بالآخر حتى يظهر مقداره و قد استعمل في غير ذلك تشبيها به فمنها وزن الشعر بالعروض و منها قولهم فلان يزن كلامه وزنا قال الأخطل:

و إذا وضعت أباك في ميزانهم‏

 

 رجحوا و شال أبوك في الميزان‏

 

و الحق وضع الشي‏ء موضعه على وجه تقتضيه الحكمة و قد استعمل مصدرا على هذا المعنى و صفة كما جرى ذلك في العدل قال الله سبحانه ذلك بأن الله هو الحق فجرى على طريق الوصف و الثقل عبارة عن الاعتماد اللازم سفلا و نقيضه الخفة و هي الاعتماد اللازم علوا.

الإعراب‏

الفاء في قوله‏ «فَلَنَسْئَلَنَّ» عاطفة جملة على جملة و إنما دخلت الفاء و هي موجبة للتعقيب مع تراخي ما بين الأول و الثاني و ذلك يليق بثم لتقريب ما بينهما كما قال سبحانه‏ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ و قال‏ وَ ما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ‏ و قال‏ أَ وَ لَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ‏ و إذا طرف المفاجاة و بينهما بعد" يومئذ" يجوز فيه الإعراب و البناء لأن إضافته إلى مبني إضافة غير محضة تقربه من الأسماء المركبة و إضافته إلى الجملة تقربه من الإضافة الحقيقية و نون إذ لأنه قد قطع عن الإضافة إذ من شأن التنوين أن يعاقب الإضافة.

المعنى‏

و لما أنذرهم سبحانه بالعذاب في الدنيا عقبه بالإنذار بعذاب الآخرة فقال‏ «فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَ لَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ» أقسم الله سبحانه أنه يسأل المكلفين الذين أرسل إليهم رسله و أقسم أيضا أنه يسأل المرسلين الذين بعثهم فيسأل هؤلاء عن الإبلاغ و يسأل أولئك عن الامتثال و هو تعالى و إن كان عالما بما كان منهم فإنما أخرج الكلام مخرج التهديد و الزجر ليتأهب العباد بحسن الاستعداد لذلك السؤال و قيل أنه يسأل الأمم عن الإجابة و يسأل الرسل ما ذا عملت أممهم فيما جاءوا به و قيل إن الأمم يسألون سؤال توبيخ و الأنبياء يسألون سؤال شهادة على الحق عن الحسن و أما فائدة السؤال فأشياء منها أن يعلم الخلائق أنه سبحانه أرسل الرسل و أزاح العلة و أنه لا يظلم أحدا و منها أن يعلموا أن الكفار استحقوا العذاب بأفعالهم و منها أن يزداد سرور أهل الإيمان بالثناء الجميل عليهم و يزداد غم‏

614
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 614

الكفار بما يظهر من أفعالهم القبيحة و منها أن ذلك لطف للمكلفين إذا أخبروا به و مما يسأل على هذا أن يقال كيف يجمع بين قوله تعالى‏ «وَ لا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ‏ فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَ لا جَانٌ‏ و قوله‏ «فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ» فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ‏ و الجواب عنه من وجوه (أحدها) أنه سبحانه نفي أن يسألهم سؤال استرشاد و استعلام و إنما يسألهم سؤال تبكيت و تقريع و لذلك قال عقيبه‏ يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ‏ و سؤال الاستعلام مثل قولك أين زيد و من عندك و هذا لا يجوز على الله سبحانه و سؤال التوبيخ و التقريع كمن يقول أ لم أحسن إليك فكفرت نعمتي و منه قوله‏ أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ‏ أَ لَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى‏ عَلَيْكُمْ‏ و كقول الشاعر:

 (أ طربا و أنت قنسري)

 

 

 

أي كبير السن و هذا توبيخ منه لنفسه أي كيف أطرب مع الكبر و الشيب و قد يكون السؤال للتقرير كقول الشاعر:

أ لستم خير من ركب المطايا

 

 و أندى العالمين بطون راح‏

 

أي أنتم كذلك و في ضده قوله:

" و هل يصلح العطار ما أفسد الدهر"

 

 

 

أي لا يصلح و أما سؤال المرسلين فليس بتقريع و لا توبيخ لهم و لكنه توبيخ للكفار و تقريع لهم (و ثانيها) أنهم إنما يسألون يوم القيامة كما قال‏ وَ قِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ‏ ثم تنقطع مسألتهم عند حصولهم في العقوبة و عند دخولهم النار فلا تنافي بين الخبرين بل هو إثبات للسؤال في وقت و نفي له في وقت آخر (و ثالثها) أن في القيامة مواقف ففي بعضها يسأل و في بعضها لا يسأل فلا تضاد بين الآيات و أما الجمع بين قوله‏ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَ لا يَتَساءَلُونَ‏ و قوله‏ «وَ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى‏ بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ» فهو أن الأول معناه لا يسأل بعضهم بعضا سؤال استخبار عن الحال التي جهلها بعضهم لتشاغلهم عن ذلك و لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه و الثاني معناه يسأل بعضهم بعضا سؤال تلاوم و توبيخ كما قال في موضع آخر يَتَلاوَمُونَ‏ و كقوله‏ «أَ نَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى‏» الآية و مثل ذلك كثير في القرآن ثم بين سبحانه ما ذكرناه من أنه لا يسألهم سؤال استعلام بقوله‏ «فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ» أي لنخبرنهم بجميع أفعالهم ليعلموا أن أعمالهم كانت محفوظة و ليعلم كل منهم جزاء عمله و أنه لا ظلم عليه و ليظهر لأهل الموقف أحوالهم‏ «بِعِلْمٍ» قيل معناه نقص عليهم أعمالهم بأنا عالمون بها و قيل معناه بمعلوم كما قال‏

615
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 614

و لا يحيطون بشي‏ء من علمه أي من معلومه و قال ابن عباس معنى قوله‏ «فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ» ينطق عليهم كتاب أعمالهم كقوله تعالى‏ «هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ» «وَ ما كُنَّا غائِبِينَ» عن علم ذلك و قيل عن الرسل فيما بلغوا و عن الأمم فيما أجابوا و ذكر ذلك مؤكدا لعلمه بأحوالهم و المعنى أنه لا يخفى عليه شي‏ء «وَ الْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ» ذكر فيه أقوال (أحدها) أن الوزن عبارة عن العدل في الآخرة و أن لا ظلم فيها على أحد عن مجاهد و الضحاك و هو قول البلخي (و ثانيها) أن الله ينصب ميزانا له لسان و كفتان يوم القيامة فتوزن به أعمال العباد الحسنات و السيئات عن ابن عباس و الحسن و به قال الجبائي ثم اختلفوا في كيفية الوزن لأن الأعمال أعراض لا يجوز عليها الإعادة و لا يكون لها وزن و لا تقوم بأنفسها فقيل توزن صحائف الأعمال عن عبد الله بن عمر و جماعة و قيل يظهر علامات للحسنات و علامات للسيئات في الكفتين فيراها الناس عن الجبائي و قيل يظهر للحسنات صورة حسنة و للسيئات صورة سيئة عن ابن عباس و قيل توزن نفس المؤمن و الكافر عن عبيد بن عمير قال يؤتى بالرجل العظيم الجثة فلا يزن جناح بعوضة (و ثالثها) أن المراد بالوزن ظهور مقدار المؤمن في العظم و مقدار الكافر في الذلة كما قال سبحانه‏ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً فمن أتى بالعمل الصالح الذي يثقل وزنه أي يعظم قدره فقد أفلح و من أتى بالعمل السي‏ء الذي لا وزن له و لا قيمة فقد خسر عن أبي مسلم و أحسن الأقوال القول الأول و بعده الثاني و إنما قلنا ذلك لأنه اشتهر من العرب قولهم كلام فلان موزون و أفعاله موزونة يريدون بذلك أنها واقعة بحسب الحاجة لا تكون ناقصة عنها و لا زائدة عليها زيادة مضرة أو داخلة في باب العبث قال مالك ابن أسماء الفزاري:

و حديث ألذه هو مما

 

 ينعت الناعتون يوزن وزنا

 

منطق صائب و يلحن أحيانا

 

 و خير الحديث ما كان لحنا

 

أي يعرض في الكلام و لا يصرح به و قيل أنه من اللحن الذي هو سرعة الفهم و الفطنة و على هذا فيكون معنى الوزن أنه قام في النفس مساويا لغيره كما يقوم الوزن في مرآة العين كذلك و أما حسن القول الثاني فلمراعاة الخبر الوارد فيه و الجري على ظاهره‏ «فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ» إنما جمع الموازين لأنه يجوز أن يكون لكل نوع من أنواع الطاعات يوم القيامة ميزان و يجوز أن يكون كل ميزان صنفا من أصناف أعماله و يؤيد هذا ما

جاء في الخبر أن الصلاة ميزان فمن وفى استوفى‏

 «فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» أي الفائزون بثواب الله‏ «وَ مَنْ‏

616
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأعراف(7): الآيات 10 الى 11] ص : 617

 

خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ» بأن استحقوا عذاب الأبد «بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ» أي بجحودهم بما جاء به محمد ص من آياتنا و حججنا و الخسران ذهاب رأس المال و من أعظم رأس المال النفس فإذا أهلك نفسه بسوء عمله فقد خسر نفسه.

 [سورة الأعراف (7): الآيات 10 الى 11]

وَ لَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَ جَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (10) وَ لَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11)

القراءة

قرأ كل القراء «مَعايِشَ» بغير همز و روى بعضهم عن نافع معائش ممدودا مهموزا.

الحجة

قال أبو علي معايش جمع معيشة و اعتل معيشة لأنه على وزن يعيش و زيادته زيادة تختص الاسم دون الفعل فلم يحتج إلى الفصل بين الاسم و الفعل كما احتيج إليه فيما كانت زيادته مشتركة نحو الهمزة في أخاف و هو أخوف منك و موافقة الاسم لبناء الفعل توجب في الاسم الاعتلال أ لا ترى أنهم أعلوا بابا و نابا و يوم راح لما كان على وزن الفعل و صححوا نحو حول و غيبة و لومة لما لم تكن على مثال الفعل فمعيشة موافقة للفعل في البناء أ لا ترى أنه مثل يعيش في الزنة و تكسيرها يزيل مشابهته في البناء فقد علمت بذلك زوال المعنى الموجب للإعلال في الواحد في الجمع فلزم التصحيح في التكسير لزوال المشابهة في اللفظ و لأن التكسير معنى لا يكون في الفعل إنما يختص به الاسم و إذا كانوا قد صححوا نحو الجولان و الهيمان مع قيام بناء الفعل فيه لما لحقه من الزيادة التي يختص بها الاسم فتصحيح قولهم معايش الذي قد زال مشابهة الفعل عنه في اللفظ و المعنى لا إشكال فيه و في وجوب العدل عن إعلاله و من أعل فهمز فمجازة على وجه اللفظ و هو أن معيشة على وزن مصيبة فتوهمها فعيلة فهمزها كما همز مصائب و مثل ذلك مما يحمل على الغلط قولهم في جمع مسيل أمسلة فتوهموه فعيلة و إنما هو مفعلة و ذكر المحققون أن الهمزة في هذه الياء إنما تكون إذا كانت زائدة نحو صحيفة و صحائف و إنما يهمز الياء الزائدة لأنه لا حظ لها في الحركة و قد قربت من آخر الكلمة و لزمتها الحركة فأوجبوا فيها الهمزة و إذا جمعت مقاما قلت‏

 

617
مجمع البیان في تفسير القرآن4

اللغة ص : 618

 

مقاوم و أنشدوا:

و إني لقوام مقاوم لم يكن‏

 

 جرير و لا مولى جرير يقومها.

 

اللغة

التمكين إعطاء ما يصح به الفعل مع رفع المنع لأن الفعل كما يحتاج إلى القدرة فقد يحتاج إلى آلة و إلى دلالة و إلى سبب و يحتاج إلى ارتفاع المنع فالتمكين عبارة عن جميع ذلك و الجعل إيجاد ما به يكون الشي‏ء على خلاف ما كان عليه مثل أن تقول جعلت الساكن متحركا لأنك فعلت فيه الحركة و نظيره التصيير و جعل الشي‏ء أعم من حدوثه لأنه قد يكون بحدوث غيره مما يتغير به و المعيشة ما يكون وصلة إلى ما فيه الحياة من جهة المطعم و المشرب و الملبس، و الخلق إحداث الشي‏ء على تقدير تقتضيه الحكمة و التصوير جعل الشي‏ء على صورة من الصور و الصورة بنية مقومة على هيئة ظاهرة و السجود أصله الانخفاض و حقيقته وضع الجبهة على الأرض.

الإعراب‏

 «قَلِيلًا» نصب بتشكرون و تقديره تشكرون قليلا و ما زائدة و يجوز أن يكون ما مع ما بعدها بمنزلة المصدر فيكون تقديره قليلا شكركم.

المعنى‏

ثم ذكر سبحانه نعمه على البشر بالتمكين في الأرض و ما خلق فيها من الأرزاق مضافة إلى نعمة السابغة عليهم بإنزال الكتب و إرسال الرسل فقال‏ «وَ لَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ» أي مكناكم من التصرف فيها و ملكناكموها و جعلناها لكم قرارا «وَ جَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ» أي ما تعيشون به من أنواع الرزق و وجوه النعم و المنافع و قيل يريد المكاسب و الإقدار عليها بالعلم و القدرة و الآلات‏ «قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ» أي ثم أنتم مع هذه النعم التي أنعمناها عليكم لتشكروا قد قل شكركم ثم ذكر سبحانه نعمته في ابتداء الخلق فقال‏ «وَ لَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ» قال الأخفش ثم هاهنا في معنى الواو و قال الزجاج و هذا خطأ لا يجيزه الخليل و سيبويه و جميع من يوثق بعلمه إنما ثم للشي‏ء الذي يكون بعد المذكور قبله لا غير و إنما المعنى في هذا الخطاب ذكر ابتداء الخلق أولا فالمراد أنا بدأنا خلق آدم ثم صورناه فابتداء خلق آدم (ع) من التراب ثم وقعت الصورة بعد ذلك فهذا معنى‏ «خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ» بعد الفراغ من خلق آدم فثم إنما هو لما بعد و هذا مروي عن الحسن و من كلام العرب فعلنا بكم كذا و كذا و هم يعنون أسلافهم و في التنزيل‏ «وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَ رَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ» أي ميثاق أسلافكم و قد قيل في ذلك‏

 

618
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأعراف(7): الآيات 12 الى 13] ص : 619

 

أقوال أخر منها أن معناه خلقنا آدم ثم صورناكم في ظهره ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم عن ابن عباس و مجاهد و الربيع و قتادة و السدي و منها أن الترتيب وقع في الإخبار فكأنه قال خلقناكم ثم صورناكم ثم أنا نخبركم إنا قلنا للملائكة اسجدوا لآدم كما يقول القائل أنا راجل ثم أنا مسرع و هذا قول جماعة من النحويين منهم علي بن عيسى و القاضي أبو سعيد السيرافي و غيرهما و على هذا فقد قيل إن المعنى خلقناكم في أصلاب الرجال ثم صورناكم في أرحام النساء عن عكرمة و قيل خلقناكم في الرحم ثم صورناكم بشق السمع و البصر و سائر الأعضاء عن يمان و قول الشاعر:

سألت ربيعة من خيرها

 

 أبا ثم أما فقالت ليه‏

 

فمعناه لنجيب أولا عن الأب ثم الأم و قوله‏ «فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ» قد مضى الكلام فيه في سورة البقرة.

 [سورة الأعراف (7): الآيات 12 الى 13]

قالَ ما مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13)

اللغة

الصاغر الذليل بصغر القدر يقال صغر يصغر صغرا و صغارا فهو صاغر إذا رضي بالضيم و من الصغر ضد الكبر صغر يصغر قال ابن السكيت يقال فلان صغرة ولد أبيه أي أصغرهم.

الإعراب‏

ما في قوله‏ «ما مَنَعَكَ» مرفوع الموضع و المعنى أي شي‏ء منعك و لا ملغى في قوله‏ «أَلَّا تَسْجُدَ» المعنى ما منعك أن تسجد و مثله قوله سبحانه‏ «لِئَلَّا يَعْلَمَ» و معناه لأن يعلم و قال الشاعر:

أبي جودة لا البخل و استعجلت به‏

 

 نعم من فتى لا يمنع الجود قاتله‏

 

قالوا معناه أبى جودة البخل و قال أبو عمرو بن العلاء الرواية أبى جودة لا البخل بالجر

 

619
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 620

و المعنى أبى جودة لا التي تبخل الإنسان قال الزجاج و روي فيه وجها آخر حسنا و هو أن يكون لا غير لغو و يكون البخل منصوبا بدلا من لا و المعنى أبى جودة لا التي هي البخل فكأنه قال أبى جودة البخل و قد قيل إنما دخل لا في قوله‏ «أَلَّا تَسْجُدَ» لأن معناه ما دعاك إلى أن لا تسجد أو ما أحوجك إلى أن لا تسجد.

المعنى‏

ثم حكى سبحانه خطابه لإبليس حين امتنع من السجود لآدم بقوله‏ «قالَ» أي قال الله تعالى‏ «ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ» أي ما دعاك إلى أن لا تسجد و ما اضطرك إليه أو ما منعك أن تسجد «إِذْ أَمَرْتُكَ» بالسجود لآدم‏ «قالَ» إبليس‏ «أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ» و هذا الجواب غير مطابق لأنه كان يجب أن يقول منعني كذا لأن قوله‏ «أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ» جواب لمن يقول أيكما خير و لكن فيه معنى الجواب و يجري ذلك مجرى أن يقول القائل لغيره كيف كنت فيقول أنا صالح و كان يجب أن يقول كنت صالحا لكنه جاز ذلك لأنه أفاد أنه صالح في الحال مع أنه كان صالحا فيما مضى قال ابن عباس أول من قاس إبليس فأخطأ القياس فمن قاس الدين بشي‏ء من رأيه قرنه الله بإبليس و قال ابن سيرين أول من قاس إبليس و ما عبدت الشمس و القمر إلا بالمقاييس و وجه دخول الشبهة على إبليس أنه ظن أن النار إذا كانت أشرف من الطين لم يجز أن يسجد الأشرف للأدون و هذا خطأ لأن ذلك تابع لما يعلم الله سبحانه من مصالح العباد و قد قيل أيضا أن الطين خير من النار لأنه أكثر منافع للخلق من حيث أن الأرض مستقر الخلق و فيها معايشهم و منها يخرج أنواع أرزاقهم و الخيرية إنما يراد بها كثرة المنافع دون كثرة الثواب لأن الثواب لا يكون إلا للمكلف المأمور دون الجماد «قالَ» أي قال الله سبحانه لإبليس‏ «فَاهْبِطْ» أي أنزل و انحدر «مِنْها» أي من السماء عن الحسن و قيل من الجنة و قيل معناه أنزل عما أنت عليه من الدرجة الرفيعة و المنزلة الشريفة التي هي درجة متبعي أمر الله سبحانه و حافظي حدوده إلى الدرجة الدنية التي هي درجة العاصين المضيعين أمر الله‏ «فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ» عن أمر الله‏ «فِيها» أي في الجنة أو في السماء فإنها ليست بموضع المتكبرين و إنما موضعهم النار كما قال‏ «أَ لَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ» «فَاخْرُجْ» من المكان الذي أنت فيه أو المنزلة التي أنت عليها «إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ» أي من الأذلاء بالمعصية في الدنيا لأن العاصي ذليل عند من عصاه أو بالعذاب في الآخرة لأن المعذب ذليل و هذا الكلام إنما صدر من الله سبحانه على لسان بعض الملائكة عن الجبائي و قيل إن إبليس رأى معجزة تدله على أن ذلك كلام الله و قوله‏

620
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأعراف(7): الآيات 14 الى 17] ص : 621

 

سبحانه‏ «فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها» لا يدل على أنه يجوز التكبر في غير الجنة فإن التكبر لا يجوز على حال لأنه إظهار كبر النفس على جميع الأشياء و هذا في صفة العباد ذم و في صفة الله سبحانه مدح إلا أن إبليس تكبر على الله سبحانه في الجنة فأخرج منها قسرا و من تكبر خارج الجنة منع من ذلك بالأمر و النهي.

 [سورة الأعراف (7): الآيات 14 الى 17]

قالَ أَنْظِرْنِي إِلى‏ يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15) قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ وَ عَنْ أَيْمانِهِمْ وَ عَنْ شَمائِلِهِمْ وَ لا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ (17)

اللغة

الإنظار و الإمهال و التأخير و التأجيل نظائر و بينها فروق و ضد الإمهال الإعجال و البعث الإطلاق في الأمر و الانبعاث الانطلاق و البعث و الحشر و النشر و الجمع نظائر.

الإعراب‏

 «لَأَقْعُدَنَّ» جواب للقسم و القسم محذوف لأن غرضه بالكلام التأكيد و هو ضد قوله‏ «ص وَ الْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ» فإنه حذف الجواب هناك و بقي القسم لأن الغرض تعظيم المقسم به و نصب‏ «صِراطَكَ» على الحذف دون الظرف و تقديره على صراطك كما قيل ضرب زيد الظهر و البطن أي على الظهر و البطن قال الشاعر:

لدن بهز الكف يعسل متنه‏

 

 فيه كما عسل الطريق الثعلب‏

 

و قال آخر:

 

كأني إذا أسعى لأظفر طائرا

 

 مع النجم في جو السماء يصوب‏

 

أي لأظفر على طائر.

 

621
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 622

المعنى‏

 «قالَ» يعني إبليس‏ «أَنْظِرْنِي» أي أمهلني و أخرني في الأجل و لا تمتني‏ «إِلى‏ يَوْمِ يُبْعَثُونَ» أي يبعث الخلق من قبورهم للجزاء و قيل معناه أنظرني في الجزاء إلى يوم القيامة فكأنه خاف أن يعاجله الله سبحانه بالعقوبة يدل عليه قوله‏ «إِلى‏ يَوْمِ يُبْعَثُونَ» و لم يقل إلى يوم يموتون و معلوم أن الله تعالى لا يبقي أحدا حيا إلى يوم القيامة قال الكلبي أراد الخبيث أن لا يذوق الموت في النفخة الأولى مع من يموت فأجيب بالإنظار إلى يوم الوقت المعلوم و هي النفخة الأولى ليذوق الموت بين النفختين و هو أربعون سنة و أما الوجه في مسألة إبليس الإنظار مع علمه بأنه مطرود ملعون فعلمه بأنه سبحانه يظاهر إلى عباده بالنعم و يعمهم بالفضل و الكرم فلم يصرفه ارتكابه المعصية عن المسألة و الطمع في الإجابة «قالَ» أي قال الله سبحانه لإبليس‏ «إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ» أي من المؤخرين‏ «قالَ» إبليس لما لعنه الله و طرده ثم سأله الإنظار فأجابه الله تعالى إلى شي‏ء منه‏ «فَبِما أَغْوَيْتَنِي» أي فبالذي أغويتني قيل في معناه أقوال (أحدها) أن معناه بما خيبتني من رحمتك و جنتك كما قال الشاعر:

فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره‏

 

 و من يغو لا يعدم على الغي لائما

 

أي من يخب (و ثانيها) أن المراد امتحنتني بالسجود لآدم فغويت عنده فلذلك قال أغويتني كما قال‏ «فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ» (و ثالثها) أن معناه حكمت بغوايتي كما يقال أضللتني أي حكمت بضلالتي عن ابن عباس و ابن زيد (و رابعها) أن معناه أهلكتني بلعنك إياي كما قال الشاعر:

معطفة الأثناء ليس فصيلها

 

 برازئها درا و لا ميت غوي‏

 

أي و لا ميت هلاكا بالقعود عن شرب اللبن و منه قوله‏ «فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا» أي هلاكا و قالوا غوي الفصيل إذا فقد اللبن فمات و المصدر غوى مقصور (و خامسها) أن يكون الكلام على ظاهره من الغواية و لا يبعد أن يكون إبليس قد اعتقد أن الله تعالى يغوي الخلق بأن يضلهم و يكون ذلك من جملة ما كان اعتقده من الشر «لَأَقْعُدَنَّ» أي لأجلسن‏ «لَهُمْ» أي‏

622
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 622

لأولاد آدم‏ «صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ» أي على طريقك المستوي و هو طريق الحق لأصدنهم عنه بالإغواء حتى أصرفهم إلى طريق الباطل كيدا لهم و عداوة و قول من قال إنه لو كان ما يفعل به الإيمان هو بعينه ما يفعل به الكفر لكان قوله‏ «فَبِما أَغْوَيْتَنِي» مساويا لقوله فيما أصلحتني يفسد بأن صفة الآلة إذا وقع بها الكفر صفتها إذا وقع بها الإيمان و إن كانت الآلة واحدة كما أن السيف واحد و يصلح لأن يستعمل في قتل المؤمن كما يصلح أن يستعمل في قتل الكافر و لا يجب من ذلك أن تكون الصفتان واحدة من أجل أنه واحد فلا يمتنع أن يكون متى استعملت آلة الإيمان في الضلال و الكفر تسمى إغواء و إن استعمل في الإيمان سميت هداية و إن كان ما يصح به الإيمان هو بعينه ما يصح به الكفر و الضلال‏ «ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ وَ عَنْ أَيْمانِهِمْ وَ عَنْ شَمائِلِهِمْ» قيل في ذلك أقوال (أحدها) أن المعنى من قبل دنياهم و آخرتهم و من جهة حسناتهم و سيئاتهم عن ابن عباس و قتادة و السدي و ابن جريج و تلخيصه إني أزين لهم الدنيا و أخوفهم بالفقر و أقول لهم لا جنة و لا نار و لا بعث و لا حساب و أثبطهم عن الحسنات و أشغلهم عنها و أحبب إليهم السيئات و أحثهم عليها قال ابن عباس و إنما لم يقل و من فوقهم لأن فوقهم جهة نزول الرحمة من السماء فلا سبيل له إلى ذلك و لم يقل من تحت أرجلهم لأن الإتيان منه موحش (و ثانيها) أن معنى‏ «مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ» و «عَنْ أَيْمانِهِمْ» من حيث يبصرون و «مِنْ خَلْفِهِمْ» و «عَنْ شَمائِلِهِمْ» من حيث لا يبصرون عن مجاهد (و ثالثها)

ما روي عن أبي جعفر (ع) قال‏ «ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ» معناه أهون عليهم أمر الآخرة «وَ مِنْ خَلْفِهِمْ» آمرهم بجمع الأموال و البخل بها عن الحقوق لتبقى لورثتهم‏ «وَ عَنْ أَيْمانِهِمْ» أفسد عليهم أمر دينهم بتزيين الضلالة و تحسين الشبهة «وَ عَنْ شَمائِلِهِمْ» بتحبيب اللذات إليهم و تغليب الشهوات على قلوبهم‏

و إنما دخلت من في القدام و الخلف و عن في اليمين و الشمال لأن في القدام و الخلف معنى طلب النهاية و في اليمين و الشمال الانحراف عن الجهة «وَ لا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ» هذا إخبار من إبليس إن الله تعالى لا يجد أكثر خلقه شاكرين و قيل إنه يمكن أن يكون قد قال ذلك من أحد وجهين إما من جهة الملائكة بإخبار الله تعالى إياهم و إما عن ظن منه كما قال سبحانه‏ «وَ لَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ» فإنه لما استنزل آدم ظن أن ذريته أيضا سيجيبونه لكونهم أضعف منه و القول الأول اختيار الجبائي و الثاني عن الحسن و أبي مسلم.

623
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأعراف(7): الآيات 18 الى 21] ص : 624

 

 [سورة الأعراف (7): الآيات 18 الى 21]

قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18) وَ يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَ لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَ قالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ (20) وَ قاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21)

القراءة

في الشواذ قراءة الزهري مذوما على تخفيف الهمزة و قرأ أبو جعفر و شيبة سوأتهما بتشديد الواو و هو قراءة الحسن و الزهري و قرأ ابن محيض عن هذي الشجرة.

الحجة

الوجه في تخفيف السوآت أنه يحذف الهمزة و يلقى حركتها على الواو فيقال السوة و منهم من يقول السوة و هو أردأ اللغتين و أما هذي الشجرة فإنه الأصل في الكلمة و إنما الهاء في ذه بدل من الياء في ذي و أما الياء اللاحقة بعد الهاء في هذه و نحوه فزائدة لحقت بعد الهاء تشبيها لها بهاء الإضمار في نحو مررت بهي.

اللغة

الذام و الذيم أشد العيب يقال ذامه يذامه ذاما فهو مذءوم و ذامه يذيم ذيما و ذاما فهو مذيم قال الشاعر:

صحبتك إذ عيني عليها غشاوة

 

 فلما انجلت قطعت نفسي أذيمها

 

و في رواية ألومها و الدحر الدفع على وجه الهوان و الإذلال دحره يدحره دحرا و دحورا و الوسوسة الدعاء إلى أمر بصوت خفي كالهينمة و الخشخشة قال رؤبة:

وسوس يدعو مخلصا رب الفلق‏

 

 سرا و قد أون تأوين العقق‏

 

 

624
مجمع البیان في تفسير القرآن4

الإعراب ص : 625

و قال الأعشى:

تسمع للحلي وسواسا إذا انصرفت‏

 

 كما استعان بريج عشرق زجل‏

 

و الإبداء الإظهار و هو جعل الشي‏ء على صفة ما يصح أن يدرك و ضده الإخفاء و كل شي‏ء أزيل عنه الساتر فقد أبدي و المواراة جعل الشي‏ء وراء ما يستره و مثله المساترة و ضده المكاشفة و لم يهمز و وري لأن الثانية يده و لو لا ذلك لوجب همز الواو المضمومة و السوأة الفرج لأنه يسوء صاحبه إظهاره و أصل القسم من القسمة قال أعشى بني ثعلبة:

رضيعي لبان ثدي أم تقاسما

 

 بأسحم داج عوض لا نتفرق‏

 

و المقاسمة لا تكون إلا بين اثنين و القسم كان من إبليس لا من آدم فهو من باب عاقبت اللص و طارقت النعل و عافاه الله و قيل إن في جميع ذلك معنى المقابلة فالمعاقبة مقابلة بالجزاء و كذلك المعافاة مقابلة المرض بالسلامة و كذلك المقاسمة مقابلة في المنازعة باليمين و النصح نقيض الغش يقال نصحته أنصحه و هو إخلاص الفاعل ضميره فيما يظهر من عمله.

الإعراب‏

 «لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ» اللام الأولى لام الابتداء و الثانية لام القسم و من للشرط و هو في موضع رفع بالابتداء و لا يجوز أن يكون هنا بمعنى الذي لأنها لا تقلب الماضي إلى الاستقبال و حذف الجزاء في قوله‏ «لَمَنْ تَبِعَكَ» لأن جواب القسم أولى بالذكر من حيث أنه في صدر الكلام و لو كان القسم في حشو الكلام لكان الجزاء أحق بالذكر من جواب القسم كقولك إن تأتني و الله أكرمك و يجوز أن تقول و الله لمن جاءك أضربه بمعنى لا أضربه و لم يجز بمعنى لأضربنه كما يجوز و الله أضرب زيدا لا أضرب و لا يجوز بمعنى لأضربن لأن الإيجاب لا بد فيه من نون التأكيد مع اللام و إنما قال منكم على التغليب للخطاب على الغيبة و المعنى لأملأن جهنم منك و ممن تبعك منهم كما قاله في موضع آخر و قوله‏ «إِلَّا أَنْ تَكُونا» تقديره إلا كراهة أن تكونا ملكين فحذف المضاف فهو في موضع نصب بأنه مفعول له و قيل إن تقديره لأن لا تكونا ملكين فحذف لا و الأول الصحيح و قوله‏ «إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ»

625
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 626

تقديره إني لكما ناصح ثم فسر ذلك بقوله‏ «لَمِنَ النَّاصِحِينَ» و لا يكون قوله‏ «لَكُما» متعلقا بالناصحين لأن ما في الصلة لا يجوز أن يتقدم على الموصول و مثله قوله‏ وَ أَنَا عَلى‏ ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ‏ تقديره و أنا على ذلكم شاهد و بينه بقوله‏ مِنَ الشَّاهِدِينَ‏.

المعنى‏

ثم بين سبحانه ما فعله بإبليس من الإهانة و الإذلال و ما أتاه آدم من الإكرام و الإجلال بقوله‏ «قالَ اخْرُجْ مِنْها» أي من الجنة أو من السماء أو من المنزلة الرفيعة «مَذْؤُماً» أي مذموما عن ابن زيد و قيل معيبا عن المبرد و قيل مهانا لعينا عن ابن عباس و قتادة «مَدْحُوراً» أي مطرودا عن مجاهد و السدي‏ «لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ» أي من بني آدم معناه من أطاعك و اقتدى بك من بني آدم‏ «لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ» أي منك و من ذريتك و كفار بني آدم‏ «أَجْمَعِينَ» و إنما جمعهم في الخطاب لأنه لا يكون في جهنم إلا إبليس و حزبه من الشياطين و كفار الإنس و ضلالهم الذين انقادوا له و تركوا أمر الله لاتباعه‏ «وَ يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ الْجَنَّةَ» هذا أمر بالسكنى دون السكون و إنما لم يقل و زوجتك لأن الإضافة إليه قد أغنت عن ذكره و أبانت عن معناه فكان الحذف أحسن لما فيه من الإيجاز من غير إخلال بالمعنى‏ «فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما» أباح سبحانه لهما أن يأكلا من حيث شاءا و أين شاءا و ما شاءا «وَ لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ» بالأكل‏ «فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ» أي من الباخسين نفوسهم الثواب العظيم و قد مضى تفسير هذه الآية مشروحا في سورة البقرة «فَوَسْوَسَ لَهُمَا» أي لآدم و حواء «الشَّيْطانُ» الفرق بين وسوس إليه و وسوس له أن معنى وسوس إليه أنه ألقى إلى قلبه المعنى بصوت خفي و معنى وسوس له أنه أوهمه النصيحة له في ذلك‏ «لِيُبْدِيَ لَهُما» أي ليظهر لهما «ما وُورِيَ» أي ستر «عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما» أي عوراتهما و هذا الظاهر يوجب أن يكون إبليس علم أن من أكل من هذه الشجرة بدت عورته و أن من بدت عورته لا يترك في الجنة فاحتال في إخراجهما منها بالوسوسة «وَ قالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ» أي عن أكل هذه الشجرة «إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ» و المعنى أنه أوهمهما أنهما إذا أكلا من هذه الشجرة تغيرت صورتهما إلى صورة الملك و أن الله تعالى قد حكم بذلك و بأن لا تبيد حياتهما إذا أكلا منها و روي عن يحيى بن أبي كثير أنه قرأ ملكين بكسر اللام قال الزجاج قوله‏ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى‏ شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَ مُلْكٍ لا يَبْلى‏ بدل على الملكين و أحبسه قد قرأ به و يحتمل أن يكون المراد بقوله‏ «إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ» أنه أوهمهما أن المنهي عن تناول الشجرة الملائكة خاصة و الخالدين دونهما فيكون كما يقول أحدنا لغيره ما نهيت‏

626
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 626

عن كذا إلا أن تكون فلانا و إنما يريد أن المنهي إنما هو فلان دونك و هذا المعنى أوكد في الشبهة و اللبس عليهما ذكره المرتضى قدس الله روحه‏ «وَ قاسَمَهُما» أي و حلف لهما بالله تعالى حتى خدعهما عن قتادة «إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ» أي المخلصين النصيحة في دعائكما إلى التناول من هذه الشجرة و لذلك تأكدت الشبهة عندهما إذ ظنا أن أحدا لا يقدم على اليمين بالله تعالى إلا صادقا فدعاهما ذلك إلى تناول الشجرة و استدل جماعة من المعتزلة بقوله‏ «إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ» على أن الملائكة أفضل من الأنبياء قالوا لأن إبليس رغبهما بالتناول من الشجرة في منزلة الملائكة حتى تناولا و لا يجوز أن يرغب عاقل في أن يكون على منزلة دون منزلته فيحمله ذلك على معصية الله و أجاب عنه المرتضى بأن قال ما أنكرتم أن تكون الآية محمولة على الوجه الثاني الذي ذكرناه دون أن يكون معناها أن ينقلبا إلى صفة الملائكة و إذا كانت الآية محتملة لما ذكروه و أيضا فمما يرفع هذه الشبهة أن يقال ما أنكرتم أن يكونا رغبا في أن ينقلبا إلى صفة الملائكة و خلقتهم لما رغبهما إبليس في ذلك و لا تدل هذه الرغبة على أن الملائكة أفضل منهما فإن الثواب إنما يستحق على الطاعات دون الصور و الهيئات و لا يمتنع أن يكونا رغبا في صور الملائكة و هيأتها و لا يكون ذلك رغبة في الثواب و لا الفضل أ لا ترى أنهما رغبا في أن يكونا من الخالدين و ليس الخلود مما يقتضي مزية في الثواب و لا الفضل.

627
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأعراف(7): الآيات 22 الى 25] ص : 628

 

 [سورة الأعراف (7): الآيات 22 الى 25]

فَدَلاَّهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَ طَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَ ناداهُما رَبُّهُما أَ لَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَ أَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَ إِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَ تَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (23) قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَ مَتاعٌ إِلى‏ حِينٍ (24) قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَ فِيها تَمُوتُونَ وَ مِنْها تُخْرَجُونَ (25)

القراءة

قرأ أهل الكوفة غير عاصم تخرجون بفتح التاء هاهنا و في الروم و الزخرف و الجاثية لا يُخْرَجُونَ مِنْها+ بفتح الياء و وافقهم يعقوب و سهل هاهنا و ابن ذكوان هاهنا و في الزخرف و قرأ الباقون جميع ذلك بضم التاء و الياء.

الحجة

من قرأ بالفتح فحجته اتفاق الجميع في قوله‏ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ‏ بفتح التاء و قوله‏ إِلى‏ رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ‏ يؤيده أيضا قوله‏ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ‏ و من قرأ بالضم فحجته قوله‏ أَ يَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَ كُنْتُمْ تُراباً وَ عِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ‏ و قوله‏ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى‏.

اللغة

دلاهما قيل أصله من تدلية الدلو و هو أن ترسلها في البئر و الغرور إظهار النصح مع إبطان الغش و أصل الغر طي الثواب يقال اطوه على غره أي على كسر طيه فالغرور بمنزلته لما فيه من إظهار حال و إخفاء حال و طفق يفعل كذا بمعنى جعل يفعل و مثله ظل يفعل و ابتدأ يفعل و أخذ يفعل و الخصف أصله الضم و الجمع و منه خصف النعل و المخصف المثقب الذي يخصف به النعل و منه‏

قول النبي ص‏ لكنه خاصف النعل في الحجرة

يعني عليا (ع) و الإخصاف سرعة العدو لأنه يقطعه بسرعة و البعض هو أحد قسمي العدة فأحد قسمي العشرة بعضها واحد قسمي الاثنين كذلك و لا بعض للواحد لأنه لا ينقسم قال علي بن عيسى العدو هو النائي بنصرته في وقت الحاجة إلى معونته و الولي هو الداني بنصرته في وقت الحاجة إليها، و المستقر هو موضع الاستقرار و هو أيضا الاستقرار بعينه لأن المصدر يجي‏ء على وزن المفعول و المتاع الانتفاع بما فيه عاجل استلذاذ و الحين الوقت قصيرا كان أو طويلا إلا أنه استعمل هنا على طول الوقت و ليس بأصل فيه.

المعنى‏

 «فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ» أي أوقعهما في المكروه بأن غرهما بيمينه و قيل معناه دلاهما من الجنة إلى الأرض و قيل معناه خذلهما و خلاهما من قولهم تدلى من الجبل أو السطح إذ أنزل إلى جهة السفل عن أبي عبيدة أي حطهما عن درجتهما بغروره‏ «فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ» أي ابتدءا بالأكل و نالا منها شيئا يسيرا و لذلك أتى بلفظة ذاقا عبارة عن أنهما تناولا شيئا قليلا من ثمرة الشجرة على خوف شديد لأن الذوق ابتداء الأكل و الشرب ليعرف الطعم و في هذا دلالة على أن ذوق الشي‏ء المحرم يوجب الذم فكيف استيفاؤه و قضاء الوطر منه‏ «بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما» أي ظهرت لهما عوراتهما ظهر لكل واحد منهما عورة صاحبه قال‏

 

628
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 628

الكلبي فلما أكلا منها تهافت لباسهما عنهما فأبصر كل واحد منهما سوأة صاحبه فاستحيا «وَ طَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ» أي أخذا يجعلان ورقة على ورقة ليسترا سوآتهما عن الزجاج و قيل معناه جعلا يرقعان و يصلان عليهما من ورق الجنة و هو ورق التين حتى صار كهيئة الثوب عن قتادة و هذا إنما كان لأن المصلحة اقتضت إخراجهما من الجنة و إهباطهما إلى الأرض لا على وجه العقوبة فإن الأنبياء لا يستحقون العقوبة و قد مضى الكلام فيه في سورة البقرة «وَ ناداهُما رَبُّهُما أَ لَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ» أي من تلك الشجرة لكنه لما خاطب اثنين قال تلكما و الكاف حرف الخطاب‏ «وَ أَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ» ظاهر المعنى‏ «قالا» أي قال آدم و حواء لما عاتبهما الله سبحانه و وبخهما على ارتكاب النهي عنه‏ «رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا» و معناه بخسناها الثواب بترك المندوب إليه فالظلم هو النقص و من ذهب إلى أنهم فعلا صغيرة فإنه يحمل الظلم على تنقيص الثواب إذا كانت الصغيرة عنده تنقص من ثواب الطاعات فأما من قال إن الصغيرة تقع مكفرة من غير أن تنقص من ثواب فاعلها شيئا فلا يتصور هذا المعنى عنده و لا يثبت في الآية فائدة و لا خلاف أن حواء و آدم لم يستحقا العقاب و إنما قالا ذلك لأن من جل في الدين قدمه كثر على يسير الزلل ندمه و قيل معناه ظلمنا أنفسنا بالنزول إلى الأرض و مفارقة العيش الرغد «وَ إِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا» معناه و إن لم تستر علينا لأن المغفرة هي الستر على ما تقدم بيانه‏ «وَ تَرْحَمْنا» أي و لم تتفضل علينا بنعمتك التي يتم بها ما فوتناه نفوسنا من الثواب و بضروب فضلك‏ «لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ» أي من جملة من خسر و لم يربح و الإنسان يصح أن يظلم نفسه بأن يدخل عليها ضررا غير مستحق فلا يدفع عنها ضررا أعظم منه و لا يجتلب به منفعة توفي عليه و لا يصح أن يكون معاقبا لنفسه‏ «قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَ مَتاعٌ إِلى‏ حِينٍ» قد مر تفسيره في سورة البقرة «قالَ» الله تعالى‏ «فِيها تَحْيَوْنَ» أي في الأرض تعيشون‏ «وَ فِيها تَمُوتُونَ وَ مِنْها تُخْرَجُونَ» عند البعث يوم القيامة قال الجبائي في الآية دلالة على أن الله سبحانه يخرج العباد يوم القيامة من هذه الأرض التي حيوا فيها بعد موتهم و أنه يفنيها بعد أن يخرج العباد منها في يوم الحشر و إذا أراد إفناءها زجرهم عنها زجرة فيصيرون إلى أرض أخرى يقال لها الساهرة و تفنى هذه كما قال‏ فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ.

629
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأعراف(7): الآيات 26 الى 28] ص : 630

 

 [سورة الأعراف (7): الآيات 26 الى 28]

يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَ رِيشاً وَ لِباسُ التَّقْوى‏ ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26) يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَ قَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (27) وَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَ اللَّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (28)

القراءة

قرأ أهل المدينة و ابن عامر و الكسائي و لباس بالنصب و الباقون بالرفع.

الحجة

قال أبو علي أما النصب فلأنه حمل على أنزل أي أنزلنا عليكم لباسا و لباس التقوى و قوله‏ «ذلِكَ» على هذا مبتدأ و خبره‏ «خَيْرٌ» و من رفع فقال‏ «وَ لِباسُ التَّقْوى‏» قطع اللباس من الأول و استأنف به فجعله مبتدأ و ذلك صفة أو بدل أو عطف بيان و من قال إن ذلك لغو لم يكن على قوله دلالة لأنه يجوز أن يكون على أحد ما ذكرنا و خير خبر اللباس و المعنى لباس التقوى خير لصاحبه إذا أخذ به و أقرب له إلى الله تعالى مما خلق له من اللباس و الرياش الذي يتجمل به و أضيف اللباس إلى التقوى كما أضيف في قوله‏ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ‏ إلى الجوع و الخوف.

اللغة

اللباس كل ما يصلح للبس من ثوب أو غيره من نحو الدرع و ما يغشى به البيت من نطع أو كسوة و أصله المصدر تقول لبسه يلبسه و لباسا و لبسا بكسر اللام قال الشاعر:

فلما كشفن اللبس عنه مسحنه‏

 

 بأطراف طفل زان غيلا موشما

 

 

630
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 631

و الغيل الساعد الريان الممتلئ و الريش و الأثاث متاع البيت من فراش أو دثار و قيل الريش ما فيه الجمال و منه ريش الطائر و قيل أنه المصدر من راشه يريشه ريشا و أنشد سيبويه:

ريشي منكم و هواي معكم‏

 

 و إن كانت زيارتكم لماما

 

قال الزجاج الريش كل ما يستر الرجل في جسمه و معيشته يقال تريش فلان أي صار له ما يعيش به و تقول العرب أعطيته رجلا بريشه أي بكسوته و قال أبو عبيدة الريش و الرياش ما ظهر من اللباس و الفتنة الابتلاء و الامتحان يقال فتنت الذهب بالنار امتحنته و قلب فاتن أي مفتون قال الشاعر:

رخيم الكلام قطيع القيام‏

 

 أمسى فؤادي بها فاتنا

 

القبيل الجماعة من قبائل شتى فإذا كانوا من أب و أم واحد فهم قبيلة.

المعنى‏

لما ذكر سبحانه نعمته على بني آدم في تبوئه الدار و المستقر عقبه بذكر النعمة في الملابس و الستر فقال‏ «يا بَنِي آدَمَ» و هو خطاب عام لجميع أهل الأزمنة من المكلفين كما يوصي الإنسان ولده و ولد ولده بتقوى الله و يجوز خطاب المعدوم إذا كان من المعلوم أنه سيوجد و يتكامل فيه شروط التكليف‏ «قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً» قيل إنه أنزل ذلك مع آدم و حواء حين أمرا بالانهباط عن الجبائي و هو الظاهر و قيل معناه أنه ينبت بالمطر الذي ينزل من السماء عن الحسن و قيل لأن البركات ينسب إلى أنها تأتي من السماء كقوله‏ وَ أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ عن علي بن عيسى و قيل معنى أنزلنا عليكم أعطيناكم و وهبنا لكم و كل ما أعطاه الله تعالى لعبده فقد أنزله عليه ليس أن هناك علوا و سفلا و لكنه يجري مجرى التعظيم كما يقال رفعت حاجتي إلى فلان و رفعت قضيتي إلى الأمير عن أبي مسلم و قيل معناه خلقنا لكم كما قال‏ وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ‏ وَ أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ عن أبي علي الفارسي‏ «يُوارِي سَوْآتِكُمْ» أي يستر عوراتكم‏ «وَ رِيشاً» أي أثاثا مما تحتاجون إليه و قيل مالا عن ابن عباس و مجاهد و السدي و قيل جمالا عن ابن زيد و قيل خصبا و معاشا عن الأخفش و قيل خيرا و كل ما قاله المفسرون فإنه يدخل فيه إلا أن كلا منهم خص بعض الخير

631
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 631

بالذكر «وَ لِباسُ التَّقْوى‏» هو العمل الصالح عن ابن عباس و قيل هو الحياء الذي يكسيكم التقوى عن الحسن و قيل هو ثياب النسك و التواضع إذا اقتصر عليه كلباس الصوف و الخشن من الثياب عن الجبائي و قيل هو لباس الحرب و الدرع و المغفر و الآلات التي يتقى بها من العدو عن زيد بن علي بن الحسين (ع) و أبي مسلم و قيل هو خشية الله تعالى عن عروة بن الزبير و قيل هو ستر العورة يتقي الله فيواري عورته عن ابن زيد و قيل هو الإيمان عن قتادة و السدي و لا مانع من حمل ذلك على الجميع‏ «ذلِكَ خَيْرٌ» أي لباس التقوى خير من جميع ما يلبس‏ «ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ» أي ذلك الذي خلقه الله و أنزله من حجج الله التي تدل على توحيده‏ «لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ» معناه لكي يتفكروا فيها فيؤمنوا بالله و يصيروا إلى طاعته و ينتهوا عن معاصيه ثم خاطبهم سبحانه مرة أخرى فقال‏ «يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ» أي لا يضلنكم عن الدين و لا يصرفنكم عن الحق بأن يدعوكم إلى المعاصي التي تميل إليها النفوس و إنما صح أن ينهى الإنسان بصيغة النهي للشيطان لأنه أبلغ في التحذير من حيث يقتضي أنه يطلبنا بالمكروه و يقصدنا بالعداوة فالنهي له يدخل فيه النهي لنا عن ترك التحذير منه‏ «كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ» نسب الإخراج إليه لما كان بإغوائه و إن كان خروجهما بأمر الله تعالى و جرى ذلك مجرى ذمه لفرعون بأنه يذبح أبناءهم و إنما أمر بذلك و تحقيق الذم فيها راجع إلى فعل المذموم و لكنه يذكر بهذه الصفة لبيان منزلة فعله في عظم الفاحشة «يَنْزِعُ عَنْهُما» عند وسوسته و دعائه لهما «لِباسَهُما» من ثياب الجنة و قيل كان لباسهما الظفر عن ابن عباس أي كان شبه الظفر و على خلقته و قيل كان لباسهما نورا عن وهب بن منبه‏ «لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما» عوراتهما «إِنَّهُ» يعني الشيطان‏ «يَراكُمْ هُوَ وَ قَبِيلُهُ» أي نسله عن الحسن و ابن زيد يدل عليه قوله‏ «أَ فَتَتَّخِذُونَهُ وَ ذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي» و قيل جنوده و أتباعه من الجن و الشياطين‏ «مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ» قال ابن عباس إن الله تعالى جعلهم يجرون من بني آدم مجرى الدم و صدور بني آدم مساكن لهم كما قال‏ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ‏ فهم يرون بني آدم و بنو آدم لا يرونهم قال قتادة و الله إن عدوا يراك من حيث لا تراه لشديد المئونة إلا من عصم الله و إنما قال ذلك لأنا إذا كنا لا نراهم لم نعرف قصدهم لنا بالكيد و الإغواء فينبغي أن نكون على حذر فيما نجده في أنفسنا من الوساوس خيفة أن يكون ذلك من الشيطان و إنما لا يراهم البشر لأن أجسامهم شفافة لطيفة تحتاج رؤيتها إلى فضل شعاع و قال أبو الهذيل و أبو بكر بن الإخشيد يجوز أن يمكنهم الله تعالى فينكشفوا فيراهم حينئذ من يحضرهم و إليه ذهب علي بن عيسى و قال إنهم ممكنون من ذلك و هو الذي نصره‏

632
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 631

الشيخ المفيد أبو عبد الله رحمه الله قال الشيخ أبو جعفر قدس الله روحه و هو الأقوى عندي و قال الجبائي لا يجوز أن يرى الشياطين و الجن لأن الله عز اسمه قال‏ «لا تَرَوْنَهُمْ» و إنما يجوز أن يروا في زمن الأنبياء بأن يكشف الله أجسادهم على الأنبياء كما يجوز أن يرى الناس الملائكة في زمن الأنبياء «إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ» أي حكمنا بذلك لأنهم يتناصرون على الباطل كما قال‏ وَ جَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أي حكموا بذلك حكما باطلا و إنما خص الذين لا يؤمنون تنبيها على أنهم مع اجتهادهم لا يتمكنون من خيار المؤمنين المتيقظين منهم و إنما يتمكنون من الكفرة و الجهال و الفسقة الإغفال‏ «وَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً» كنى به عن المشركين الذين كانوا يبدون سوآتهم في طوافهم فكان يطوف الرجال و النساء عراة يقولون نطوف كما ولدتنا أمهاتنا و لا نطوف في الثياب التي قارفنا فيها الذنوب و هم الحمس قال الفراء كانوا يعملون شيئا من سيور مقطعة يشدونهم على حقويهم يسمى حوفا و إن عمل من صوف يسمى رهطا و كانت تضع المرأة على قبلها النسعة فتقول:

اليوم يبدو بعضه أو كله‏

 

 و ما بدا منه فلا أحله‏

 

يعني الفرج لأن ذلك يستر سترا تاما و في الآية حذف تقديره و إذا فعلوا فاحشة فنهوا عنها «قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا» قيل و من أين أخذها آباؤكم قالوا «اللَّهُ أَمَرَنا بِها» أخبر سبحانه عن هؤلاء الكفار أنهم إذا فعلوا ما يعظم قبحه اعتذروا لنفوسهم إنا وجدنا آباءنا يفعلونها و أن آباءهم فعلوا ذلك من قبل الله و قال الحسن إنهم كانوا أهل إجبار فقالوا لو كره الله ما نحن عليه لنقلنا عنه فلهذا قالوا «وَ اللَّهُ أَمَرَنا بِها» فرد الله سبحانه عليهم قولهم بأن قال‏ «إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ» ثم أنكر عليهم من وجه آخر فقال‏ «أَ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ» لأنهم إن قالوا لا لنقضوا مذهبهم و إن قالوا نعم افتضحوا في قولهم قال الزجاج‏ «أَ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ» معناه أ تكذبون عليه.

633
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأعراف(7): الآيات 29 الى 30] ص : 634

 

 [سورة الأعراف (7): الآيات 29 الى 30]

قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَ أَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَ ادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقاً هَدى‏ وَ فَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30)

اللغة

أصل القسط العدل فإذا كان إلى جهة الحق فهو عدل و منه قوله‏ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ+ و إذا كان إلى جهة الباطل فهو جور و منه قوله‏ وَ أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً و أصل الإخلاص إخراج كل شائب من الجنس و منه إخلاص الدين لله و هو توجيه العبادة إليه خالصا دون غيره و البداء فعل الشي‏ء أول مرة و العود فعله ثاني مرة و قد يكون فعل أول خصلة منه بدء كبدء الصلاة و بدء القراءة و بدأ و أبدأ لغتان و الفريق جماعة انفصلت من جماعة و الاتخاذ افتعال من الأخذ بمعنى إعداد الشي‏ء لأمر من الأمور و الحسبان بمعنى الظن و هو ما قوي عند الظان كون المظنون على ما ظنه مع تجويزه أن يكون على غيره فبالقوة يتميز من اعتقاد التقليد و التبخيت و بالتجويز يتميز من العلم لأن مع العلم القطع.

الإعراب‏

 «وَ أَقِيمُوا» عطف على ما تقدم من قوله‏ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ‏ فتقديره احذروا الشيطان و أقيموا وجوهكم عن أبي مسلم و قيل إن تقديره أمر ربي بالقسط و قل أقيموا و قوله‏ «كَما بَدَأَكُمْ» قال أبو علي الفارسي تقديره كما بدأ خلقكم ثم حذف المضاف و «تَعُودُونَ» معناه و يعود خلقكم ثم حذف المضاف و أقيم المضاف إليه مقامه فصار المخاطبون فاعلين و «فَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ» نصبه ليعطف فعلا على فعل و تقديره و فريقا أضل فأضمر أضل لأنه قد فسره ما بعده فأغني عن ذكره و نظيره قوله‏ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَ الظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً و قال الفراء فريقا منصوب على الحال من تعودون و فريقا الثاني عطف عليه و لو رفع على تقدير أحدهما كذا و الآخر كذا لجاز كما قال‏ قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ أُخْرى‏ كافِرَةٌ.

المعنى‏

لما بين سبحانه أنه لا يأمر بالفحشاء و هو اسم جامع للقبائح و السيئات عقبه ببيان ما يأمر به من القسط و هو اسم جامع لجميع الخيرات فقال‏ «قُلْ» يا محمد «أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ» أي بالعدل و الاستقامة عن مجاهد و السدي و أكثر المفسرين و قيل بالتوحيد عن الضحاك و قيل بلا إله إلا الله عن ابن عباس و قيل بجميع الطاعات و القرب عن أبي مسلم‏ «وَ أَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ» قيل فيه وجوه (أحدها) أن معناه توجهوا إلى قبلة كل مسجد في الصلاة على استقامة عن مجاهد و السدي و ابن زيد (و ثانيها) أن معناه أقيموا

 

634
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 634

وجوهكم إلى الجهة التي أمركم الله بالتوجه إليها في صلاتكم و هي الكعبة و المراد بالمسجد أوقات السجود و هي أوقات الصلاة عن الجبائي و غيره (و ثالثها) أن المراد إذا أدركتم الصلاة في مسجد فصلوا و لا تقولوا حتى أرجع إلى مسجدي و المراد بالمسجد موضع السجود عن الفراء و هو اختيار المغربي (و رابعها) إن معناه قصدوا المسجد في وقت كل صلاة أمر بالجماعة لها ندبا عند الأكثرين و حتما عند الأقلين (و خامسها) أن معناه أخلصوا وجوهكم لله تعالى في الطاعة فلا تشركوا به وثنا و لا غيره عن الربيع‏ «وَ ادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ» و هذا أمر بالدعاء و التضرع إليه سبحانه على وجه الإخلاص أي ارغبوا إليه في الدعاء بعد إخلاصكم له الدين و قيل معناه و اعبدوه مخلصين له الدين‏ «كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ» قيل في وجه اتصاله بما قبله وجوه (أحدها) أن معناه و ادعوه مخلصين فإنكم مبعوثون و مجازون و إن بعد ذلك في عقولكم فاعتبروا بالابتداء و اعلموا أنه كما بدأكم في الخلق الأول فإنه يبعثكم فتعودون إليه في الخلق الثاني (و ثانيها) أنه يتصل بقوله‏ فِيها تَحْيَوْنَ وَ فِيها تَمُوتُونَ وَ مِنْها تُخْرَجُونَ‏ فقال‏ «كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ» أي فليس بعثكم بأشد من ابتدائكم عن الزجاج قال و إنما ذكره على وجه الحجاج عليهم لأنهم كانوا لا يقرون بالبعث (و ثالثها) أنه كلام مستأنف أي يعيدكم بعد الموت فيجازيكم عن أبي مسلم قال قتادة بدأكم من التراب و إليه تعودون كما قال‏ مِنْها خَلَقْناكُمْ وَ فِيها نُعِيدُكُمْ‏ و قيل معناه كما بدأكم لا تملكون شيئا كذلك تبعثون يوم القيامة و

يروى عن النبي ص أنه قال‏ تحشرون يوم القيامة عراة حفاة غرلا كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا أنا كنا فاعلين‏

و قيل معناه تبعثون على ما متم عليه، المؤمن على إيمانه و الكافر على كفره عن ابن عباس و جابر «فَرِيقاً» أي جماعة «هَدى‏» أي حكم لهم بالاهتداء بقبولهم للهدى أو لطف لهم بما اهتدوا عنده أو هداهم إلى طريق الثواب كما تكرر بيانه في مواضع‏ «وَ فَرِيقاً حَقَّ» أي وجب‏ «عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ» إذا لم يقبلوا الهدى أو حق عليهم الخذلان لأنه لم يكن لهم لطف ينشرح له صدورهم أو حق عليهم العذاب و الهلاك بكفرهم و يؤيد هذا القول الأخير أنه سبحانه ذكر الهدى و الضلال بعد العود و البعث ثم قال‏ «إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ» بين سبحانه أنه لم يبدأهم بالعقوبة و لكن جازاهم على عصيانهم و اتباعهم الشيطان و إنما اتخذوهم أولياء بطاعتهم لهم فيما دعوهم إليه‏ «وَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ» و معناه و هم مع ذلك يظنون أنهم في ذلك على هداية و حق.

635
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأعراف(7): الآيات 31 الى 32] ص : 636

 

 [سورة الأعراف (7): الآيات 31 الى 32]

يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَ كُلُوا وَ اشْرَبُوا وَ لا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَ الطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32)

القراءة

قرأ نافع وحده خالصة بالرفع و الباقون بالنصب.

الحجة

قال أبو علي من رفعه جعله خبر المبتدأ الذي هو «هِيَ» و يكون‏ «لِلَّذِينَ آمَنُوا» تبيينا للخلوص و لا شي‏ء فيه على هذا و من قال هذا حلو حامض أمكن أن يكون‏ «لِلَّذِينَ آمَنُوا» خبرا و خالصة خبر آخر و من نصب‏ «خالِصَةً» كان حالا مما في قوله‏ «لِلَّذِينَ آمَنُوا» أ لا ترى أن فيه ذكرا يعود إلى المبتدأ الذي هو هي فخالصة حال عن ذلك الذكر و العامل في الحال ما في اللام من معنى الفعل و حجة من رفع أن المعنى هي تخلص للذين آمنوا يوم القيامة و إن شركهم فيها غيرهم من الكافرين في الدنيا و من نصب فالمعنى عنده ثابتة للذين آمنوا في حال خلوصها يوم القيامة لهم و انتصاب‏ «خالِصَةً» على الحال أشبه بقوله‏ «إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ آخِذِينَ» و نحو ذلك مما انتصب الاسم فيه على الحال بعد الابتداء و خبره و ما يجري مجراه إذا كان فيه معنى فعل قال الزجاج من نصب‏ «خالِصَةً» فهو حال على أن العامل في قولك‏ «فِي الْحَياةِ الدُّنْيا» في تأويل الحال كأنك تقول هي ثابتة للمؤمنين مستقرة في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة قال أبو علي قوله‏ «فِي الْحَياةِ الدُّنْيا» يحتمل ثلاثة أضرب (أحدها) أن يكون قل هي في الحياة الدنيا للذين آمنوا خالصة على أن يكون خبر هي قوله‏ «لِلَّذِينَ آمَنُوا» و يكون‏ «فِي الْحَياةِ الدُّنْيا» ظرفا و العامل فيه الظرف الذي هو قوله‏ «لِلَّذِينَ آمَنُوا» و التقدير هي في الحياة الدنيا للمؤمنين مقدار خلوصها يوم القيامة ففي هذا الوجه يجوز تقديرها مقدمة على اللام الجارة لأنه ظرف للذين آمنوا و الظروف و إن كان العامل فيها المعاني فإن تقديمها عليها جائز و إن لم يجز ذلك في الأحوال و يحتمل أن يكون قوله‏ «فِي الْحَياةِ الدُّنْيا» متصلا بالصلة التي هي‏ «آمَنُوا» و هي العاملة فيه و المعنى هي للذين آمنوا في حياتهم أي للذين آمنوا و لم‏

 

636
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 637

يكفروا فيها خالصة فموضع في على هذا نصب بآمنوا و يجوز أن يكون‏ «فِي الْحَياةِ الدُّنْيا» في موضع حال و صاحب الحال هو هي و العامل في الحال معنى الفعل و هو قوله‏ «لِلَّذِينَ آمَنُوا» و المعنى قل هي لهم مستقرة في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة و لا يجوز في هذا الوجه و لا في الوجه الذي قبله تقدير تقديم‏ «فِي الْحَياةِ» على قوله‏ «لِلَّذِينَ آمَنُوا» أما في الوجه الأول فلأن قوله‏ «فِي الْحَياةِ» صلة الذين و لا يجوز تقديم الصلة على الموصول و أما في الوجه الآخر فلأنه في موضع الحال و الحال لا يجوز تقديمها إذا كان العامل فيها معنى الفعل و هذا الوجه الثالث ذكره أبو إسحاق و أما قراءة من قرأ «خالِصَةً» بالنصب جعله منصوبا على الحال على أن العامل في قوله‏ «فِي الْحَياةِ الدُّنْيا» على تأويل الحال إلى آخر كلامه فينبغي أن تعلم أن من نصب‏ «خالِصَةً» في قراءة جاز أن يكون‏ «فِي الْحَياةِ الدُّنْيا» ظرفا للذين آمنوا و العامل فيه معنى الفعل و جاز أن يكون متعلقا بآمنوا و ظرفا له و جاز أن يكون في موضع الحال كما ذكر فالوجهان الأولان لا يحتاج معهما إلى تقدير شي‏ء حتى تعلقه بما قبل أما إذا كان ظرفا للأم الجارة فمعنى الفعل يعمل فيه كما تقول لك ثوب كل يوم و إذا كان من الصلة فنفس الفعل الظاهر يعمل فيه فأما إذا جعلته حالا فإنه ينبغي أن تقدر فعلا و أو اسم فاعل يكون في موضع الحال و يكون في الحياة متعلقا به و لا يوهمنك قول أبي إسحاق الذي ذكرناه أنه يلزم أن يقدر قوله‏ «فِي الْحَياةِ الدُّنْيا» في تقدير الحال لا غير إذا جعلت خالصة منصوبا على الحال فإن الوجهين الآخرين كل واحد منهما مع نصب‏ «خالِصَةً» على الحال سائغ جائز.

المعنى‏

لما تقدم ذكر ما أنعم الله سبحانه على عباده من اللباس و الرزق أمرهم في أثرها بتناول الزينة و التستر و الاقتصاد في المأكل و المشرب فقال‏ «يا بَنِي آدَمَ» و هو خطاب لسائر المكلفين‏

 «خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ» أي خذوا ثيابكم التي تتزينون بها للصلاة في الجمعات و الأعياد عن أبي جعفر الباقر (ع)

و قيل عند كل صلاة

روى العياشي بإسناده‏ أن الحسن بن علي ع كان إذا قام إلى الصلاة لبس أجود ثيابه فقيل له يا ابن رسول الله لم تلبس أجود ثيابك فقال إن الله جميل يحب الجمال فأتجمل لربي و هو يقول‏ «خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ» فأحب أن ألبس أجود ثيابي‏

و قيل معناه خذوا ما تسترون به عوراتكم و إنما قال ذلك لأنهم كانوا يتعرون من ثيابهم للطواف على ما تقدم بيانه و كان يطوف الرجال بالنهار و النساء بالليل فأمرنا بلبس الثياب في الصلاة و الطواف عن جماعة من المفسرين و

قيل إن أخذ الزينة هو التمشط عند كل صلاة روي ذلك عن الصادق (ع)

 «وَ كُلُوا وَ اشْرَبُوا»

637
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 637

صورته صورة الأمر و المراد الإباحة و هو عام في جميع المباحات‏ «وَ لا تُسْرِفُوا» أي لا تجاوزوا الحلال إلى الحرام قال مجاهد لو أنفقت مثل أحد في طاعة الله لم تكن مسرفا و لو أنفقت درهما أو مدا في معصية الله لكان إسرافا و قيل معناه لا تخرجوا عن حد الاستواء في زيادة المقدار و قد حكي أن الرشيد كان له طبيب نصراني حاذق فقال ذات يوم لعلي بن الحسين بن واقد ليس في كتابكم من علم الطب شي‏ء و العلم علمان علم الأديان و علم الأبدان فقال له علي قد جمع الله الطب كله في نصف آية من كتابه و هو قوله‏ «كُلُوا وَ اشْرَبُوا وَ لا تُسْرِفُوا» و جمع نبينا ص الطب في‏

قوله‏ المعدة بيت الداء و الحمية رأس كل دواء و أعط كل بدن ما عودته‏

فقال الطبيب ما ترك كتابكم و لا نبيكم لجالينوس طبا و قيل معناه و لا تأكلوا محرما و لا باطلا على وجه لا يحل و أكل الحرام و إن قل إسراف و مجاوزة للحد و ما استقبحه العقلاء و عاد بالضرر عليكم فهو أيضا إسراف لا يحل كمن يطبخ القدر بماء الورد و يطرح فيها المسك و كمن لا يملك إلا دينار فاشترى به طيبا فتطيب به و ترك عياله محتاجين‏ «إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ» أي يبغضهم لأنه سبحانه قد ذمهم به و لو كان بمعنى لا يحبهم و لا يبغضكم لم يكن ذما و لا مدحا و لما حث الله سبحانه على تناول الزينة عند كل مسجد و ندب إليه الأكل و الشرب و نهي عن الإسراف و كان قوم من العرب يحرمون كثيرا من هذا الجنس حتى أنهم كانوا يحرمون السمون و الألبان في الإحرام و كانوا يحرمون السوائب و البحائر أنكر عز اسمه ذلك عليهم فقال‏ «قُلْ» يا محمد «مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَ الطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ» أي من حرم الثياب التي تتزين بها الناس مما أخرجها الله من الأرض لعباده و الطيبات من الرزق قيل هي المستلذات من الرزق و قيل هي و المحللات و الأول أظهر لخلوصها يوم القيامة للمؤمنين‏ «قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ» قال ابن عباس يعني أن المؤمنين يشاركون المشركين في الطيبات في الدنيا فأكلوا من طيبات طعامهم و لبسوا من جياد ثيابهم و نكحوا من صالح نسائهم ثم يخلص الله الطيبات في الآخرة للذين آمنوا و ليس للمشركين فيها شي‏ء قال الفراء مجازاة هي للذين آمنوا مشتركة في الدنيا و هي خالصة لهم في الآخرة و هذا معنى قول ابن عباس و قيل معناه قل هي في الحياة الدنيا للذين آمنوا غير خالصة من الهموم و الأحزان و المشقة و هي خالصة يوم القيامة من ذلك عن الجبائي‏ «كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ» أي كما نميز لكم الآيات و ندلكم بها على منافعكم و صلاح‏

638
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأعراف(7): الآيات 33 الى 34] ص : 639

 

دينكم كذلك نفصل الآيات‏ «لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» و في هذه الآية دلالة على جواز لبس الثياب الفاخرة و أكل الأطعمة الطيبة من الحلال و

روى العياشي بإسناده عن الحسين بن زيد عن عمه عمر بن علي عن أبيه زين العابدين بن الحسين بن علي ع‏ أنه كان يشتري كساء الخز بخمسين دينارا فإذا أصاف تصدق به و لا يرى بذلك بأسا و يقول‏ «قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ»

الآية و

بإسناده عن يوسف بن إبراهيم قال‏ دخلت على أبي عبد الله (ع) و عليه جبة خز و طيلسان خز فنظر إلي فقلت جعلت فداك هذا خز ما تقول فيه فقال و ما بأس بالخز قلت فسداه إبريسم قال لا بأس به فقد أصيب الحسين (ع) و عليه جبة خز ثم قال إن عبد الله بن عباس لما بعثه أمير المؤمنين (ع) إلى الخوارج لبس أفضل ثيابه و تطيب بأطيب طيبه و ركب أفضل مراكبه فخرج إليهم فوافقهم قالوا يا ابن عباس بينا أنت خير الناس إذ أتيتنا في لباس الجبابرة و مراكبهم فتلا هذه الآية «قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ» إلى آخرها فالبس و تجمل فإن الله جميل يحب الجمال و ليكن من حلال‏

و في الآية دلالة أيضا على أن الأشياء على الإباحة لقوله‏ «مَنْ حَرَّمَ» فالسمع ورد مؤكدا لما في العقل.

 [سورة الأعراف (7): الآيات 33 الى 34]

قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ وَ الْإِثْمَ وَ الْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَ أَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَ أَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (33) وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَ لا يَسْتَقْدِمُونَ (34)

اللغة

التحريم هو المنع من الفعل بإقامة الدليل على وجوب تجنبه و ضده التحليل و هو الإطلاق في الفعل بالبيان على جواز تناوله و أصل التحريم المنع من قولهم حرم فلان الرزق حرمانا فهو محروم و أحرم بالحج و حرمة الرجل زوجته و الحرمات الجنايات و المحرم القرابة التي لا يحل تزوجها و حريم الدار ما كان من حقوقها و الفواحش جمع فاحشة و هي أقبح القبائح و هي الكبائر و البغي الاستطالة على الناس و حده طلب الترؤس بالقهر من غير حق و أصله الطلب و ينبغي كذا أي هو أولى أن يطلب و السلطان و البرهان و البيان و الفرقان‏

 

639
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 640

نظائر و حدودها تختلف فالبيان إظهار المعنى للنفس كإظهار نقيضه و البرهان إظهار صحة المعنى و إفساد نقيضه و الفرقان إظهار تميز المعنى مما التبس به و السلطان إظهار ما يتسلط به على نقيض المعنى بالإبطال و الأمة الجماعة التي يعمها معنى و أصلها من أمه يومه إذا قصده فالأمة الجماعة التي على مقصد واحد و الأجل الوقت المضروب لانقضاء المهل لأن بين العقد الأول الذي يضرب لنفس الأجل و بين الوقت الآخر مهلا مثل أجل الدين و أجل الرزق و أجل الوعد و أجل العمر.

المعنى‏

ثم بين سبحانه المحرمات فقال‏ «قُلْ» يا محمد «إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ» أي جميع القبائح و الكبائر عن الجبائي و أبي مسلم‏ «ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ» أي ما علن منها و ما خفي و قد ذكرنا ما قيل فيه في سورة الأنعام و معناه لم يحرم ربي إلا الفواحش لما قد بينا قبل أن لفظة إنما محققة لما ذكرنا فيه لما لم يذكر فذكر القبائح على الإجمال ثم فصل للبيان فقال‏ «وَ الْإِثْمَ وَ الْبَغْيَ» فكأنه قال حرم ربي الفواحش التي منها الإثم و منها البغي و منها الإشراك بالله و قيل إن الفواحش هي الزنا و هو الذي بطن منها و التعري في الطواف و هو الذي ظهر منها عن مجاهد و قيل هي الطواف فما ظهر منها طواف الرجال بالنهار و ما بطن طواف النساء بالليل و الإثم قيل هو الذنوب و المعاصي عن الجبائي و قيل الإثم ما دون الحد عن الفراء و قيل الإثم الخمر عن الحسن و أنشد الأخفش:

شربت الإثم حتى ضل عقلي‏

 

 كذاك الإثم يذهب بالعقول‏

 

و قال آخر:

نهانا رسول الله أن نقرب الخنا

 

 و أن نشرب الإثم الذي يوجب الوزرا

 

و البغي الظلم و الفساد و قوله‏ «بِغَيْرِ الْحَقِّ» تأكيد كقوله‏ وَ يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍ‏ و قيل قد يخرج البغي من كونه ظلما إذا كان بسبب جائز في الشرع كالقصاص‏ «وَ أَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ» أي و حرم الشرك بالله‏ «ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً» أي لم يقم عليه حجة و كل إشراك بالله فهو بهذه الصفة ليس عليه حجة و لا برهان‏ «وَ أَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ» أي و حرم القول على الله بغير علم ثم بين تعالى ما فيه تسلية النبي ص في تأخير عذاب الكفار فقال‏ «وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ» أي لكل جماعة و أهل عصر وقت لاستئصالهم عن الحسن و لم يقل لكل أحد لأن‏

640
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأعراف(7): الآيات 35 الى 36] ص : 641

 

ذكر الأمة يقتضي تقارب أعمار أهل العصر و وجه آخر و هو أنه يقتضي إهلاكهم في الدنيا بعد إقامة الحجة عليهم بإتيان الرسل و قال الجبائي المراد بالأجل هنا أجل العمر الذي هو مدة الحياة و هذا أقوى لأنه يعم جميع الأمم‏ «فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ» أي لا يتأخرون‏ «ساعَةً» عن ذلك الوقت‏ «وَ لا يَسْتَقْدِمُونَ» أي لا يتقدمون ساعة على ذلك الوقت و قيل معناه لا يطلبون التأخر عن ذلك الوقت للإياس عنه و لا يطلبون التقدم عليه و معنى‏ «جاءَ أَجَلُهُمْ» قرب أجلهم كما يقال جاء الصيف إذا قارب وقته.

 [سورة الأعراف (7): الآيات 35 الى 36]

يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى‏ وَ أَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ اسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (36)

الإعراب‏

 «إِمَّا» أصله إن الجزاء دخلت عليه ما و لدخولها دخلت النون الثقيلة في‏ «يَأْتِيَنَّكُمْ» و لو قال إن يأتينكم لم يجز و قد شرحنا هذا في سورة البقرة و بيناه و قال سيبويه إن حتى و أما و إلا لا يجوز فيهن الإمالة لأن هذه الألفات ألزمت الفتح لأنها أواخر حروف جاءت لمعنى ففصل بينها و بين أواخر الأسماء التي فيها الألف نحو حبلى و هدى إلا أن حتى كتبت بالياء لأنها على أربعة أحرف فأشبهت سكرى و أما التي للتخيير شبهت بأن التي ضمت إليها ما فكتبت بالألف و إلا كتبت بالألف لأنها لو كتبت بالياء لاشبهت إلى.

المعنى‏

لما تقدم ذكر النعم الدنيوية عقبه بذكر النعم الدينية «يا بَنِي آدَمَ» هو خطاب يعم جميع المكلفين من بني آدم من جاءه الرسول منهم و من جاز أن يأتيه الرسول معطوف على ما تقدم‏ «إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ» أي إن يأتكم‏ «رُسُلٌ مِنْكُمْ» أي من جنسكم‏ «يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي» أي يعرضونها عليكم و يخبرونكم بها «فَمَنِ اتَّقى‏» إنكار الرسل و الآيات‏ «وَ أَصْلَحَ» عمله و قيل فمن اتقى المعاصي و اجتنبها و التقوى اسم جامع لذلك و تقديره فمن اتقى منكم و أصلح‏ «فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ» في الدنيا «وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ» في الآخرة «وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا» أي حججنا «وَ اسْتَكْبَرُوا عَنْها» أي عن قبولها «أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ»

 

641
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأعراف(7): آية 37] ص : 642

 

الملازمون لها «هُمْ فِيها خالِدُونَ» باقون فيها على وجه الدوام و التأييد.

 [سورة الأعراف (7): آية 37]

فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى‏ عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَ شَهِدُوا عَلى‏ أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (37)

اللغة

النيل وصول النفع إلى العبد إذا أطلق فإن قيد وقع على الضرر لأن أصله الوصول إلى الشي‏ء من نلت أنال نيلا قال امرؤ القيس:

سماحة ذا و بر ذا و وفاء ذا

 

 و نائل ذا إذا صحا و إذا سكر

 

و التوفي قبض الشي‏ء بتمامه يقال توفيته و استوفيته.

المعنى‏

ثم ذكر سبحانه وعيد المكذبين فقال‏ «فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى‏ عَلَى اللَّهِ كَذِباً» أي لا أحد أظلم منه صورته صورة الاستفهام و المراد به الإخبار و إنما جاء بلفظ الاستفهام ليكون أبلغ‏ «أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ» الدالة على توحيده و نبوة رسله‏ «أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ» أي من العذاب إلا أنه كنى عن العذاب بالكتاب لأن الكتاب ورد به كقوله‏ «لكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ» عن الحسن و أبي صالح و قيل معناه ينالهم نصيبهم من العمر و الرزق و ما كتب لهم من الخير و الشر فلا يقطع عنهم رزقهم بكفرهم عن الربيع و ابن زيد و قيل ينالهم جميع ما كتب لهم و عليهم عن مجاهد و عطية «حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا» يعني الملائكة أي حتى إذا استوفوا أرزاقهم و جاءهم ملك الموت مع أعوانه‏ «يَتَوَفَّوْنَهُمْ» أي يقبضون أرواحهم و قيل معناه حتى إذا جاءتهم الملائكة لحشرهم يتوفونهم إلى النار يوم القيامة عن الحسن‏ «قالُوا» يعني الملائكة «أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ» من الأوثان و الأصنام و المراد بهذا السؤال توبيخهم أي هلا دفعوا عنكم ما نزل بكم من‏

 

642
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأعراف(7): الآيات 38 الى 39] ص : 643

 

العذاب‏ «قالُوا» يعني قال الكفار «ضَلُّوا عَنَّا» أي ذهبوا عنا و افتقدناهم فلا يقدرون على الدفع عنا و بطلت عبادتنا إياهم‏ «وَ شَهِدُوا عَلى‏ أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ» أي أقروا على نفوسهم بالكفر.

 [سورة الأعراف (7): الآيات 38 الى 39]

قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَ لكِنْ لا تَعْلَمُونَ (38) وَ قالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39)

القراءة

قرأ أبو بكر لا يعلمون بالياء و الباقون بالتاء.

الحجة

وجه القراءة بالياء أنه حمل الكلام على كل لأنه و إن كان للمخاطبين فهو اسم ظاهر موضوع للغيبة فحمل على اللفظ دون المعنى.

اللغة

الخلو انتفاء الشي‏ء عن مكانه يقال خلا عن البيت و كذلك خلت بمعنى مضت لأنها إذا مضت بالهلاك فقد خلا مكانها منها الجن جنس من الحيوان مستترون عن أعين الناس لرقتهم يغلب عليهم التمرد في أفعالهم كما يغلب على الملك أفعال الخير، و الضعف المثل الزائد على مثله فإذا قال القائل أضعف هذا الدرهم فمعناه اجعل معه درهما آخر لا دينارا و كذلك إذا قال أضعف الاثنين فمعناه أجعلهما أربعة و حكي أن المضعف في كلام العرب ما كان ضعفين و المضاعف ما كان أكثر من ذلك، و اداركوا أصله تداركوا فأدغمت التاء في الدال و اجتلب ألف الوصل ليمكن النطق بالساكن الذي بعده و معناه تلاحقوا.

المعنى‏

 «قالَ ادْخُلُوا» هذه حكاية قول الله تعالى للكفار يوم القيامة و أمره لهم‏

 

643
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 643

بالدخول و يجوز أن يكون إخبارا عن جعله إياهم في جملة أولئك من غير أن يكون هناك قول كما قال‏ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ‏ و المراد أنه جعلهم كذلك‏ «فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ» أي في جملة أقوام و جماعات قد مضت‏ «مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ» على الكفر «فِي النَّارِ» و قيل إن" في" بمعنى مع أي ادخلوا مع أمم كافرة «كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ» من هذه الأمم النار «لَعَنَتْ أُخْتَها» يعني التي سبقتها إلى النار و هي أختها في الدين لا في النسب يريد أنهم يلعنون من كان قبلهم عن ابن عباس و قيل يلعن الأتباع القادة و الرؤساء إذا حصلوا في العذاب بعد ما كانوا يتوادون في الدنيا يقولون أنتم أوردتمونا هذه الموارد فلعنكم الله عن أبي مسلم‏ «حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا» أي تلاحقوا و اجتمعوا «فِيها» أي في النار «جَمِيعاً» أي كان هذا حالهم حتى اجتمعوا فيها فلما اجتمعوا فيها «قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ» أي قالت أخراهم دخولا النار و هم الأتباع لأولاهم دخولا و هم القادة و الرؤساء «رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا» أي شرعوا لنا أن نتخذ من دونك إلها عن ابن عباس و قيل معناه دعونا إلى الضلال و حملونا عليه و منعونا عن اتباع الحق قال الصادق ع يعني أئمة الجور «فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ» أي فأعطهم عذابا مضاعفا قال ابن مسعود أراد بالضعف هنا الحيات و الأفاعي و قيل أراد بأحد الضعفين عذابهم على الكفر و بالآخر عذابهم على الإغواء «قالَ» الله تعالى‏ «لِكُلٍّ ضِعْفٌ» أي للتابع و المتبوع عذاب مضاعف لأنهم قد دخلوا في الكفر جميعا «وَ لكِنْ لا تَعْلَمُونَ» أيها المضلون و المضلون ما لكل فريق منكم من العذاب‏ «وَ قالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ» أي قال المتبوعون للتابعين‏ «فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ» أي تفاوت في الكفر حتى تطلبوا من الله أن يزيد في عذابنا و ينقص من عذابكم و قيل معناه قالت الأمة السابقة للأمة المتاخرة ما كان لكم علينا من فضل في الرأي و العقل و قد بلغكم ما نزل بنا من العذاب فلم اتبعتمونا و قيل من فضل أي من تخفيف من العذاب‏ «فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ» من الكفر باختياركم لا باختيارنا لكم.

644
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأعراف(7): الآيات 40 الى 41] ص : 645

 

 [سورة الأعراف (7): الآيات 40 الى 41]

إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ اسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَ لا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَ مِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41)

القراءة

قرأ حمزة و الكسائي و خلف لا يفتح بالياء و التخفيف و قرأ أبو عمرو بالتاء و التخفيف و قرأ الباقون بالتاء و التشديد و روي في الشواذ عن ابن عباس و سعيد بن جبير و عكرمة و مجاهد و الشعبي و ابن الشخير حتى يلج الجمل بالضم و التشديد عن سعيد بن جبير في رواية أخرى و عبد الكريم و حنظلة الجمل بالضم و التخفيف و عن ابن عباس أيضا الجمل بضم الجيم و سكون الميم و الجمل بضمتين و عن ابن السماك الجمل بفتح الجيم و سكون الميم.

الحجة

حجة من قرأ «لا تُفَتَّحُ» بالتشديد قوله‏ جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ‏ و حجة من خفف قوله‏ فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ و أما الجمل بالضم و التشديد و الجمل بالتخفيف و كلاهما الحبل الغليظة من القنب و قيل هو حبل السفينة و قيل الحبال المجموعة و أما الجمل فيجوز أن يكون جمع جمل فيكون مثل أسد و أسد و وثن و وثن و كذلك المضموم أيضا كأسد و وثن قال ابن جني و أما الجمل فيبعد أن يكون مخففا من جمل لخفة الفتحة و إن كان قد جاء عنهم قوله:

و ما كل مبتاع و لو سلف صفقة

 

 يراجع ما قد فاته برداد.

 

اللغة

السم بفتح السين و ضمها الثقب و منه السم القاتل لأنه ينفذ بلطفه في مسام البدن حتى يصل إلى القلب فينقض بنيته و كل ثقب في البدن لطيف فهو سم و سم و جمعه سموم و قال الفرزدق:

فنفست عن سمية حتى تنفسا

 

 و قلت له لا تخش شيئا و رائيا

 

يريد بسميه ثقبي أنفه و يجمع السم القاتل سماما و الخياط و المخيط الإبرة كاللحاف و الملحف و القناع و المقنع و الإزار و المئزر و القرام و المقرم ذكره الفراء و جهنم اسم من أسماء النار و اشتقاقها من الجهومة و هي الغلظ و قيل أخذ من قولهم بئر جهنام أي بعيد قعرها، و المهاد الوطاء الذي يفترش و منه مهد الصبي و قد مهدت له هذا الأمر أي وطأته له، و الغواشي جمع غاشية و هو كل ما يغشاك أي يسترك و منه غاشية السرج و فلان يغشى فلانا أي يأتيه و يلابسه.

الإعراب‏

قال أبو علي للنحويين في نحو غواشي و جوابي قولان (أحدهما) مذهب سيبويه و الخليل و هو أن الياء حذفت حذفا لا لالتقاء الساكنين فلما حذفت الياء انتقص الاسم عن الزنة التي كان التنوين يعاقبها و لا يجتمع معها فدخلها و إنما حذف هنا الياء لا لالتقاء

 

645
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 646

الساكنين كما يحذف حرف اللين في الوقف في نحو وَ اللَّيْلِ إِذا يَسْرِ و ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ‏ و قد حذف في الوصل أيضا و كان الذي حسن ذلك الحذف أنها قد صارت بمنزلة الحركات لأنها قد صارت عوضا منها بدلالة تعاقبها و أنها تحذف في الموضع الذي تحذف فيه الحركة فلما قوي الحذف فيها و كثر و كان هذا الجمع خارجا عن الأبنية الأول و بائنا لزم الحذف و القول الآخر ما حدث السراج عن المبرد عن المازني قال ينظر يونس النحوي و أبو زيد و الكسائي إلى جواري و بابه فما كان من الصحيح لا يلحقه التنوين لم يلحقوه في المعتل و ما كان يلحقه في التنوين في الصحيح ألحقوه في المعتل قال و الذي عليه البصريون هو القول الأول.

المعنى‏

ثم عاد الكلام إلى الوعيد فقال سبحانه‏ «إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ اسْتَكْبَرُوا عَنْها» أي تكبروا عن قبولها «لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ» أي لا تفتح أبواب السماء لأرواحهم كما تفتح لأرواح المؤمنين عن ابن عباس و السدي و قيل لا تفتح لأعمالهم و لدعائهم عن الحسن و مجاهد و عن ابن عباس في رواية أخرى و

روي عن أبي جعفر الباقر (ع) أنه قال‏ أما المؤمنون فترفع أعمالهم و أرواحهم إلى السماء فتفتح لهم أبوابها و أما الكافر فيصعد بعمله و روحه حتى إذا بلغ إلى السماء نادى مناد اهبطوا به إلى سجين و هو واد بحضرموت يقال له برهوت‏

و قيل لا تفتح لهم أبواب السماء لدخول الجنة لأن الجنة في السماء عن الجبائي‏ «وَ لا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ» أي حتى يدخل البعير في ثقب الإبرة و المعنى لا يدخلون الجنة أبدا و سئل ابن مسعود عن الجمل فقال هو زوج الناقة كأنه استجهل من سأله عن الجمل و هذا كما تقول العرب في التبعيد للشي‏ء لا أفعل كذا حتى يشيب الغراب و حتى يبيض القار و حتى يؤوب القارظان قال الشاعر:

إذا شاب الغراب أتيت أهلي‏

 

 و صار القار كاللبن الحليب‏

 

و قال آخر:

فرجي الخير و انتظري إيابي‏

 

 إذا ما القارظ العنزي آبا

 

و تعليق الحكم بما لا يتوهم وجوده و لا يتصور حصوله تأكيد له و تحقيق لليأس من وجوده‏ «وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ» أي و مثل ما جزينا هؤلاء نجزي سائر المجرمين‏

646
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأعراف(7): الآيات 42 الى 43] ص : 647

 

المكذبين بآيات الله تعالى‏ «لَهُمْ» أي لهؤلاء «مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ» أي فراش و مضجع‏ «وَ مِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ» مثل قوله‏ لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ و قيل المراد به لحف و المعنى أن النار محيطة بهم من أعلاهم و أسفلهم‏ «وَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ» قال ابن عباس يريد الذين أشركوا به و اتخذوا من دونه إلها.

 [سورة الأعراف (7): الآيات 42 الى 43]

وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (42) وَ نَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَ قالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَ ما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللَّهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَ نُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)

القراءة

قرأ ابن عامر ما كنا لنهتدي بغير واو و كذلك في مصاحف أهل الشام و الباقون مع الواو و قرأ أبو عمرو و حمزة و الكسائي أورثتموها مدغمة و كذلك في الزخرف و قرأ الباقون‏ «أُورِثْتُمُوها» غير مدغمة.

الحجة

قال أبو علي وجه الاستغناء عن حرف العطف أن الجملة ملتبسة بما قبلها فأغني التباسها به عن حرف العطف و قد تقدم ذكر أمثاله و من ترك الإدغام في‏ «أُورِثْتُمُوها» فلتباين المخرجين و كان الحرفين في حكم الانفصال و إن كانا من كلمة واحدة أ لا ترى أنهم لم يدغموا وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا و إن كانا مثلين لما لم يكونا لازمين أ لا ترى أن تاء افتعل قد يقع بعدها غير التاء فكذلك أورث قد يقع بعد الثاء منها غير الثاء فلا يجب الإدغام و وجه الإدغام أن الثاء و التاء مهموستان متقاربتان فاستحسن الإدغام لذلك.

اللغة

الغل الحقد الذي ينغل بلطفه إلى صميم القلب و منه الغلول و هو الوصول بالحيلة إلى دقيق الخيانة و منه الغل الذي يجمع اليدين و العنق بانغلاله فيهما و الصدر ما

 

647
مجمع البیان في تفسير القرآن4

الإعراب ص : 648

يصدر من جهته التدبير و الرأي و منه قيل للرئيس صدر و الجريان انحدار المائع فالماء يجري و الدم يجري و كل ما يصح أن يجري فهو مائع و النهر الواسع من مجاري الماء و منه النهار لاتساع ضيائه و النداء الدعاء بطريقة يا فلان.

الإعراب‏

 «لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها» جملة في موضع رفع بأنه خبر «الَّذِينَ آمَنُوا» و حذف العائد إلى المبتدأ فكأنه قيل منهم لا من غيرهم نحو قولهم السمن منوان بدرهم أي منوان منه و يجوز أن يكون اعتراضا ما بين المبتدأ و الخبر و يكون الخبر الجملة التي هي‏ «أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ» و إذا كان اعتراضا فلا موضع له من الإعراب و «أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ» يجوز أن يكون أن بمعنى أي لتفسير النداء فيكون المعنى نودوا على وجه التهنئة بكلام هذا معناه و يجوز أن يكون مخففة من الثقيلة و الهاء مضمرة و التقدير بأنه تلكم الجنة قال الشاعر:

أكاشره و أعلم أن كلانا

 

 على ما ساء صاحبه حريص.

 

المعنى‏

لما تقدم وعيد الكفار بالخلود في النيران أتبع ذلك بالوعد للمؤمنين بالخلود في الجنان فقال‏ «وَ الَّذِينَ آمَنُوا» أي صدقوا بآيات الله و اعترفوا بها و لم يستكبروا عنها «وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ» أي ما أوجبه الله عليهم أو ندبهم إليه‏ «لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها» التكليف من الله سبحانه هو إرادة ما فيه المشقة من الكلفة التي هي المشقة أي لا نلزم نفسا إلا قدر طاقتها و ما دونها لأن الوسع دون الطاقة و وجه اتصاله بما قبله بين إذا جعلته خبرا لأن معناه لا نكلف أحدا منهم من الطاعات إلا ما يقدر عليه و إذا كان اعتراضا بين الكلامين فكأنه لما وعد المؤمنين بالجنان و الكافرين بالنيران بين أنه لا يكلف أحدا منهم إلا ما في وسعه و أن من استحق النار فمن نفسه أتي‏ «أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» مقيمون‏ «وَ نَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ» أي و أخرجنا ما في قلوبهم من حقد و حسد و عداوة في الجنة حتى لا يحسد بعضهم بعضا و إن رآه أرفع درجة منه‏ «تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ» قيل أنه في موضع الحال أي يجري ماء الأنهار من تحت أبنيتهم و أشجارهم في حال نزعنا الغل من صدورهم و قيل هو استئناف‏ «وَ قالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا» أي هدانا للعمل الذي استوجبنا به هذا الثواب بأن دلنا عليه و عرضنا له بتكليفه إيانا و قيل معناه هدانا لثبوت الإيمان في قلوبنا و قيل لنزع الغل من صدورنا و قيل هدانا لمجاوزة الصراط و دخول الجنة «وَ ما كُنَّا

648
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأعراف(7): الآيات 44 الى 45] ص : 649

 

لِنَهْتَدِيَ» لما يصيرنا إلى هذا النعيم المقيم و الثواب العظيم‏ «لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللَّهُ» هذا اعتراف من أهل الجنة بنعمة الله سبحانه إليهم و منته عليهم في دخول الجنة على سبيل الشكر و التلذذ بذلك لأنه لا تكليف هناك‏ «لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ» و هذا إقرار منهم بأن ما جاءت به الرسل إليهم من جهة الله تعالى فهو حق لا شبهة في صحته‏ «وَ نُودُوا» أي و يناديهم مناد من جهة الله تعالى و يجوز أن يكون ذلك خطابا منه سبحانه لهم‏ «أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ» أي هذه الجنة و إنما قال تلكم لأنهم وعدوا بها في الدنيا فكأنه قيل لهم هذه تلكم التي وعدتم بها و يجوز أن يكونوا عاينوها فيقال لهم قبل أن يدخلوها إشارة إليها تكلم الجنة «أُورِثْتُمُوها» أي أعطيتموها إرثا و صارت إليكم كما يصير الميراث لأهله و قيل معناه جعلها الله سبحانه بدلا لكم كما كان أعده للكفار لو آمنوا و

روي عن النبي ص أنه قال‏ ما من أحد إلا و له منزل في الجنة و منزل في النار فأما الكافر فيرث المؤمن منزله من النار و المؤمن يرث الكافر منزله من الجنة فذلك قوله‏ «أُورِثْتُمُوها»

 «بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» أي توحدون الله و تقومون بفرائضه.

 [سورة الأعراف (7): الآيات 44 الى 45]

وَ نادى‏ أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَ يَبْغُونَها عِوَجاً وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ (45)

القراءة

قال الكسائي وحده نعم بكسر العين كل القرآن و الباقون بالفتح و قرأ أهل المدينة و البصرة «أَنْ» مخففة «لَعْنَةُ اللَّهِ» بالرفع و الباقون أن مشددة لعنة الله بالنصب.

الحجة

قال الأخفش نعم و نعم لغتان فالكسر لغة كنانة و هذيل و الفتح لغة باقي العرب و أن التي تقع بعد العلم إنما هي المشددة و المخففة عنها و «فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ» معناه أعلم معلم‏

 

649
مجمع البیان في تفسير القرآن4

الإعراب و اللغة ص : 650

 «أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ» و من خفف أن فعلى إرادة إضمار القصة و الحديث و تقديره أنه لعنة الله و مثله‏ آخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ‏ التقدير أنه و لا تخفف أن هذه إلا و إضمار القصة و الحديث يراد معها و المكسورة إذا خففت لا يكون كذلك و الفصل بينهما أن المفتوحة موصولة و الموصولة تقتضي صلتها فصارت لاقتضائها أشد اتصالا بما بعدها من المكسورة فقدر بعدها الضمير الذي هو من جملة صلتها و ليست المكسورة كذلك.

الإعراب و اللغة

قال سيبويه نعم عدة و تصديق فإذا استفهمت أجبت بنعم قال أبو علي و الذي يريده بقوله عدة و تصديق أنه يستعمل عدة و يستعمل تصديقا و ليس يريد أنه يجتمع التصديق مع العدة أ لا ترى أنه إذا قال أ تعطيني فقلت نعم كان عدة و لا تصديق في هذا و إذا قال قد كان كذا فقلت نعم فقد صدقته و لا عدة في هذا فليس هذا القول من سيبويه كقوله في إذا أنها جواب و جزاء لأن إذا يكون جوابا في الموضع الذي يكون فيه جزاء و قوله إذا استفهمت أجبت بنعم يريد إذا استفهمت عن موجب أجبت بنعم و لو كان مكان الإيجاب النفي لقلت بلى و لم تقل نعم كما لا تقول في جواب الموجب بلى قال‏ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى‏ و «الَّذِينَ يَصُدُّونَ» في موضع جر بأنه صفة للظالمين و «عِوَجاً» يجوز أن يكون منصوبا بأنه مفعول به بمعنى يبغون لها العوج و يجوز أن يكون منصوبا على المصدر بمعنى يطلبون لها هذا الضرب من الطلب كما تقول رجع القهقرى أي رجع هذا الضرب من الرجوع و كذلك عدا البشكي و اشتمل الصما و العوج بالكسر يكون في الطريق و في الدين و بالفتح يكون في الخلقة تقول في ساقه عوج بفتح العين و في دينه عوج بالكسر.

المعنى‏

ثم حكى سبحانه ما يجري بين أهل الجنة و النار بعد استقرارهم في الدارين فقال‏ «وَ نادى‏» أي و سينادي‏ «أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ» أي أهل الجنة أهل النار و إنما ذكره بلفظ الماضي لتحقيق المعنى جعل ما سيكون كأنه قد كان لأنه كائن لا محالة و ذلك أبلغ في الردع‏ «أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا» من الثواب في كتبه و على ألسنة رسله‏ «حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ» من العقاب‏ «حَقًّا» و إنما أضافوا الوعد بالجنة إلى نفوسهم لأن الكفار ما وعدهم الله بالجنة إلا بشرط أن يؤمنوا فلما لم يؤمنوا فكأنهم لم يوعدوا بالجنة و إنما سألوهم هذا السؤال لأن الكفار كانوا يكذبون المؤمنين فيما يدعون لأنفسهم من‏

650
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأعراف(7): الآيات 46 الى 47] ص : 651

 

الثواب و لهم من العقاب فهو سؤال توبيخ و شماتة يريد به سرور أهل الجنة و حسرة أهل النار «قالُوا نَعَمْ» أي قال أهل النار وجدنا ما وعدنا ربنا من العقاب حقا و صدقا «فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ» أي نادى مناد بينهم أسمع الفريقين‏ «أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ» أي غضب الله و سخطه و أليم عقابه على الكافرين لأنه وصف الظالمين بقوله‏ «الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ» أي يعرضون عن الطريق الذي دل الله سبحانه على أنه يؤدي إلى الجنة و قيل معناه يصرفون غيرهم عن سبيل الله أي دينه و الحق الذي دعا إليه‏ «وَ يَبْغُونَها عِوَجاً» قال ابن عباس معناه يصلون لغير الله و يعظمون ما لم يعظمه الله و قيل معناه يطلبون لها العوج بالشبه التي يلتبسون بها و يوهمون أنه يقدح فيها و هي معوجة عن الحق بتناقضها «وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ» أي بالدار الآخرة يعني القيامة و البعث و الجزاء «كافِرُونَ» جاحدون و قيل في المؤذن أنه مالك خازن النار و

روي عن أبي الحسن الرضا (ع) أنه قال‏ المؤذن أمير المؤمنين علي (ع) ذكره علي بن إبراهيم في تفسيره قال حدثني أبي عن محمد بن فضيل عن الرضا (ع)

و

رواه الحاكم أبو القاسم الحسكاني بإسناده عن محمد بن الحنفية عن علي ع أنه قال‏ أنا ذلك المؤذن‏

و

بإسناده عن أبي صالح عن ابن عباس‏ أن لعلي (ع) في كتاب الله أسماء لا يعرفها الناس قوله‏ «فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ» فهو المؤذن بينهم يقول ألا لعنة الله على الذين كذبوا بولايتي و استخفوا بحقي.

 [سورة الأعراف (7): الآيات 46 الى 47]

وَ بَيْنَهُما حِجابٌ وَ عَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ وَ نادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَ هُمْ يَطْمَعُونَ (46) وَ إِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47)

اللغة

الحجاب الحاجز المانع من الإدراك و منه قيل للضرير محجوب و حاجب الأمير و حاجب العير و الأعراف الأمكنة المرتفعة أخذ من عرف الفرس و منه عرف الديك و كل مرتفع من الأرض عرف لأنه بظهوره أعرف مما انخفض قال الشماخ:

 

651
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 652

و ظلت بأعراف تعالى كأنها

 

 رماح نحاها وجهة الريح راكز

 

و قال آخر:

كل كناز لحمه نياف‏

 

 كالعلم الموفي على الأعراف‏

 

يعني نشوزا من الأرض و السيماء العلامة و هي فعلى من سام إبله يسومها إذا أرسلها في المرعى معلمة و هي السائمة و قيل إن وزنه عفلى من وسمت فقلبت كما قالوا له جاه في الناس و أصله وجه و كما قالوا اضمحل و امضحل و أرض خامة أي وخمة و فيه ثلاث لغات سيما و سيماء بالقصر و المد و سيمياء على زنة كبرياء قال الشاعر:

" له سيمياء ما يشق على البصر"

 

 

 

و التلقاء جهة اللقاء و هي جهة المقابلة و لذلك كان ظرفا من ظروف المكان تقول هو تلقاءك نحو هو حذاءك و الأبصار جمع بصر و هو الحاسة التي يدرك بها المبصر و قد يستعمل بمعنى المصدر و يقال له بصر بالأشياء أي علم بها و هو بصير بالأمور أي عالم.

المعنى‏

ثم ذكر سبحانه الفريقين في الجزاء فقال‏ «وَ بَيْنَهُما حِجابٌ» أي بين الفريقين أهل الجنة و أهل النار ستر و هو الأعراف و الأعراف سور بين الجنة و النار عن ابن عباس و مجاهد و السدي و في التنزيل‏ فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَ ظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ‏ و قيل الأعراف شرف ذلك السور عن الجبائي و قيل الأعراف الصراط عن الحسن بن الفضل‏ «وَ عَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ» اختلف في المراد بالرجال هنا على أقوال فقيل إنهم قوم استوت حسناتهم و سيئاتهم فحالت حسناتهم بينهم و بين النار و حالت سيئاتهم بينهم و بين الجنة فجعلوا هناك حتى يقضي الله فيهم ما شاء ثم يدخلهم الجنة عن ابن عباس و ابن مسعود و ذكر أن بكر بن عبد الله المزني قال للحسن بلغني أنهم قوم استوت حسناتهم و سيئاتهم فضرب الحسن يده على فخذه ثم قال هؤلاء قوم جعلهم الله على تعريف أهل الجنة و النار يميزون بعضهم من بعض و الله لا أدري لعل بعضهم معنا في هذا البيت و قيل إن الأعراف موضع عال على الصراط عليه حمزة و العباس و علي و جعفر يعرفون محبيهم ببياض الوجوه و مبغضيهم بسواد الوجوه عن الضحاك عن ابن عباس رواه الثعلبي بالإسناد في تفسيره و قيل إنهم الملائكة في صورة الرجال يعرفون أهل الجنة و النار و يكونون خزنة الجنة و النار

652
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 652

جميعا أو يكونون حفظة الأعمال الشاهدين بها في الآخرة عن أبي مجلز و قيل إنهم فضلاء المؤمنين عن الحسن و مجاهد و قيل إنهم الشهداء و هم عدول الآخرة عن الجبائي و

قال أبو جعفر الباقر (ع) هم آل محمد ع لا يدخل الجنة إلا من عرفهم و عرفوه و لا يدخل النار إلا من أنكرهم و أنكروه‏

و

قال أبو عبد الله جعفر بن محمد ع‏ الأعراف كثبان بين الجنة و النار فيقف عليها كل نبي و كل خليفة نبي مع المذنبين من أهل زمانه كما يقف صاحب الجيش مع الضعفاء من جنده و قد سيق المحسنون إلى الجنة فيقول ذلك الخليفة للمذنبين الواقفين معه انظروا إلى إخوانكم المحسنين قد سيقوا إلى الجنة فيسلم المذنبون عليهم و ذلك قوله‏ «وَ نادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ»

ثم أخبر سبحانه أنهم لم يدخلوها و هم يطمعون يعني هؤلاء المذنبين لم يدخلوا الجنة و هم يطمعون أن يدخلهم الله إياها بشفاعة النبي و الإمام و ينظر هؤلاء المذنبون إلى أهل النار فيقولون‏ «رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» ثم ينادي أصحاب الأعراف و هم الأنبياء و الخلفاء أهل النار مقرعين لهم‏ ما أَغْنى‏ عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَ ما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ أَ هؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ‏ يعني أ هؤلاء المستضعفين الذين كنتم تحقرونهم تستطيلون بدنياكم عليهم ثم يقولون لهؤلاء المستضعفين عن أمر من الله لهم بذلك‏ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَ لا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ‏ و

يؤيده ما رواه عمر بن شيبة و غيره‏ أن عليا (ع) قسيم النار و الجنة

و

رواه أيضا بإسناده عن النبي ص أنه قال‏ يا علي كأني بك يوم القيامة و بيدك عصا عوسج تسوق قوما إلى الجنة و آخرين إلى النار

و

روى أبو القاسم الحسكاني بإسناده رفعه إلى الأصبغ بن نباتة قال‏ كنت جالسا عند علي (ع) فأتاه ابن الكوا فسأله عن هذه الآية فقال ويحك يا ابن الكوا نحن نقف يوم القيامة بين الجنة و النار فمن ينصرنا عرفناه بسيماه فأدخلناه الجنة و من أبغضنا عرفناه بسيماه فأدخلناه النار

و قوله‏ «يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ» يعني هؤلاء الرجال الذين هم على الأعراف يعرفون جميع الخلق بسيماهم يعرفون أهل الجنة بسيماء المطيعين و أهل النار بسيماء العصاة «وَ نادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ» يعني هؤلاء الذين على الأعراف ينادون بأصحاب الجنة «أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ» و هذا تسليم و تهنئة و سرور بما وهب الله لهم‏ «لَمْ يَدْخُلُوها» أي لم يدخلوا الجنة بعد عن ابن عباس و ابن مسعود و الحسن و قتادة «وَ هُمْ يَطْمَعُونَ» أن يدخلوها و قيل إن الطمع هاهنا طمع يقين مثل قول إبراهيم‏ وَ الَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي‏ و هو قول الحسن و أبي علي الجبائي‏ «وَ إِذا

653
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأعراف(7): الآيات 48 الى 49] ص : 654

 

صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ» يعني أبصار الذين على الأعراف‏ «تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ» إلى جهنم فنظروا إليهم و إنما قال صرفت أبصارهم لأن نظرهم نظر عداوة فلا ينظرون إليهم إلا إذا صرفت وجوههم إليهم‏ «قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» أي لا تجمعنا و إياهم في النار و روي أن في قراءة عبد الله بن مسعود و سالم و إذا قلبت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا ربنا عائذا بك أن تجعلنا مع القوم الظالمين و روي ذلك عن أبي عبد الله (ع).

 [سورة الأعراف (7): الآيات 48 الى 49]

وَ نادى‏ أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى‏ عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَ ما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَ هؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَ لا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49)

اللغة

النداء امتداد الصوت و رفعه و نادى نظير دعا إلا أن الدعاء قد يكون بعلامة من غير صوت و لا كلام و لكن بإشارة تنبئ عن معنى تعال و لا يكون النداء إلا برفع الصوت و هو مشتق من الندى و الخوف توقع المكروه و هو ضد الأمن و هو الثقة بانتفاء المكروه.

الإعراب‏

 «هؤُلاءِ» مبتدأ و خبره‏ «الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ» و الأولى أن يكون‏ «الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ» خبر مبتدإ محذوف التقدير أ هؤلاء هم الذين أقسمتم و قوله‏ «لا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ» جواب أقسمتم و هذا داخل في صلة الذين لأن الذين هنا وصل بالقسم و جوابه و لا يجوز أن يكون الذين صفة لهؤلاء من وجهين (أحدهما) أن المبهم لا يوصف إلا بالجنس (و الآخر) أنه يبقى المبتدأ بلا خبر.

المعنى‏

ثم بين سبحانه خطاب أصحاب الأعراف لأصحاب النار فقال‏ «وَ نادى‏» أي و سينادي‏ «أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالًا» من أصحاب النار «يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ» أي بصفاتهم يدعونهم بأساميهم و كناهم و يسمون رؤساء المشركين عن ابن عباس و قيل بعلاماتهم التي جعلها الله تعالى لهم من سواد الوجوه و تشويه الخلق و زرقة العين عن الجبائي و قيل بصورهم التي كانوا يعرفونهم بها في الدنيا «قالُوا ما أَغْنى‏ عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ» الأموال‏

 

654
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأعراف(7): الآيات 50 الى 51] ص : 655

 

و العدد في الدنيا «وَ ما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ» أي و استكباركم عن عبادة الله و عن قبول الحق و قد كنا نصحناكم فاشتغلتم بجمع المال و تكبرتم فلم تقبلوا منا فأين ذلك المال و أين ذلك التكبر و قيل معناه ما نفعكم جماعتكم التي استندتم إليها و تجبركم عن الانقياد لأنبياء الله في الدنيا عن الجبائي‏ «أَ هؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ» أي حلفتم أنهم لا يصيبهم الله برحمة و خير و لا يدخلون الجنة كذبتم ثم يقولون لهؤلاء «ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَ لا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ» أي لا خائفين و لا محزونين على أكمل سرور و أتم كرامة و المراد بهذا تقريع الذين زروا على ضعفاء المؤمنين حتى حلفوا أنهم لا خير لهم عند الله و قد اضطربت أقوال المفسرين في القائل لهذا القول فقال الأكثرون إنه كلام أصحاب الأعراف و قيل هو كلام الله تعالى و قيل كلام الملائكة و الصحيح ما ذكرناه لأنه المروي عن الصادق (ع).

 [سورة الأعراف (7): الآيات 50 الى 51]

وَ نادى‏ أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ (50) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَ لَعِباً وَ غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا وَ ما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (51)

اللغة

الإفاضة إجراء المائع من علو و منه قولهم أفاضوا في الحديث أي أخذوا فيه من أوله لأنه بمنزلة أعلاه و أفاضوا من عرفات إلى المزدلفة صاروا إليها و اللهو طلب صرف الهم بما لا يحسن أن يطلب به و اللعب طلب المرح بما لا يحسن أن يطلب به و اشتقاقه من اللعاب و هو المرور على غير استواء.

الإعراب‏

قال‏ «أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ» ثم قال‏ «حَرَّمَهُما» و لم يقل حرمه و إن كان التقدير أفيضوا أحد هذين لأنه جاء على قولهم جالس الحسن أو ابن سيرين فيجوز مجالستهما جميعا و قوله‏ «الَّذِينَ اتَّخَذُوا» يجوز أن يكون في موضع جر صفة للكافرين و يحتمل أن يكون رفعا بالابتداء فيكون إخبارا من الله تعالى على وجه الذم لهم.

 

655
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 656

المعنى‏

ثم ذكر سبحانه كلام أهل النار و ما أظهروه من الافتقار بدلا مما كانوا عليه من الاستكبار فقال‏ «وَ نادى‏» أي و سينادي‏ «أَصْحابُ النَّارِ» و هم المخلدون في النار و في عذابها «أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ» أي صبوا علينا من الماء نسكن به العطش أو ندفع به حر النار «أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ» أي أعطاكم الله من الطعام عن السدي و ابن زيد «قالُوا» يعني أهل الجنة جوابا لهم‏ «إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ» و يسأل فيقال كيف ينادي أهل الجنة و أهل النار و

أهل الجنة في السماء على ما جاءت به الرواية

و أهل النار في الأرض و بينهما أبعد الغايات من البعد و أجيب عن ذلك بأنه يجوز أن يزيل الله تعالى عنهم ما يمنع من السماع و يجوز أن يقوي الله أصواتهم فيسمع بعضهم كلام بعض‏ «الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَ لَعِباً» أي أعدوا دينهم الذي أمرهم الله تعالى به للهو و اللعب دون التدين به و قيل معناه اتخذوا دينهم الذي كان يلزمهم التدين به و التجنب من محظوراته لعبا و لهوا فحرموا ما شاءوا و استحلوا ما شاءوا بشهواتهم‏ «وَ غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا» أي اغتروا بها و بطول البقاء فيها فكأن الدنيا غرتهم‏ «فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا» أي نتركهم في العذاب كما تركوا التأهب و العمل للقاء هذا اليوم عن ابن عباس و الحسن و مجاهد و قيل معناه نعاملهم معاملة المنسي في النار فلا نجيب لهم دعوة و لا نرحم لهم عبرة كما تركوا الاستدلال حتى نسوا العلم و تعرضوا للنسيان عن الجبائي‏ «وَ ما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ» ما في الموضوعين بمعنى المصدر و تقديره كنسيانهم لقاء يومهم هذا و كونهم جاحدين لآياتنا و اختلف في هذه الآية فقيل إن الجميع كلام الله تعالى على غير وجه الحكاية عن أهل الجنة و تم كلام أهل الجنة عند قوله‏ «حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ» و قيل إنه من كلام أهل الجنة إلى قوله‏ «الْحَياةُ الدُّنْيا» ثم استأنف تعالى الكلام بقوله‏ «فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ».

656
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأعراف(7): الآيات 52 الى 53] ص : 657

 

 [سورة الأعراف (7): الآيات 52 الى 53]

وَ لَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى‏ عِلْمٍ هُدىً وَ رَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (53)

اللغة

الكتاب صحيفة فيها حروف مسطورة تدل بتأليفها على معان مفهومة و التفصيل و التبيين و التقسيم نظائر ينظرون أي ينتظرون و الانتظار هو الإقبال على ما يأتي بالتوقع له و أصله الإقبال على الشي‏ء بوجه من الوجوه و التأويل ما يؤول إليه حال الشي‏ء و النسيان ذهاب المعنى عن النفس و اختلف المتكلمون فيه فقال أبو علي الجبائي أنه معنى و قال أبو هاشم ليس بمعنى و إنما هو من قبيل السهو و قال القاضي هو ذهاب العلم الضروري و إليه ذهب المرتضى.

الإعراب‏

 «هُدىً وَ رَحْمَةً» يجوز أن يكون حالا و يجوز أن يكون مفعولا له و قال أبو مسلم مصدر وضع موضع الحال و لو قرئ بالرفع على الاستئناف أو بالجر على البدل لجاز إلا أن القراءة بالنصب‏ «فَيَشْفَعُوا» نصب لأنه جواب التمني بالفاء و تقديره هل يكون لنا شفعاء فشفاعة، «أَوْ نُرَدُّ» بالرفع على تقدير أو هل نرد فنعمل أي هل يكون لنا رد قال فعمل أي فعمل منا غير ما كنا عملناه.

المعنى‏

لما ذكر حال الفريقين بين سبحانه أنه قد أتاهم الكتاب و الحجة فقال‏ «وَ لَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ» و هو القرآن‏ «فَصَّلْناهُ» بيناه و فسرناه‏ «عَلى‏ عِلْمٍ» أي و نحن عالمون به و لما كانت لفظة عالم مأخوذة من العلم جاز أن يذكر العلم ليدل به على العالم كما أن الوجود في صفة الموجود كذلك‏ «هُدىً وَ رَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» أي دلالة ترشدهم إلى الحق و تنجيهم من الضلالة و نعمة على جميع المؤمنين لأنهم المنتفعون به‏ «هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ» أي هل ينتظرون إلا عاقبة لجزاء عليه و ما يؤول مغبة أمورهم إليه عن الحسن و قتادة و مجاهد و السدي و إنما أضاف إليهم مجازا لأنهم كانوا جاحدين لذلك غير متوقعين له و إنما كان ينتظر بهم المؤمنون لإيمانهم بذلك و اعترافهم به و قيل إن تأويله ما وعدوا به من البعث و النشور و الحساب و العقاب عن الجبائي‏ «يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ» أي يوم يأتي عاقبة ما وعدوا به‏ «يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ» أي يقول الذين تركوا العمل به ترك الناس له و أعرضوا

 

657
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأعراف(7): آية 54] ص : 658

 

عنه عن مجاهد و الزجاج‏ «قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ» اعترفوا بأن ما جاءت به الرسل كان حقا و الحق ما شهد بصحته العقل‏ «فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا» تمنوا أن يكون لهم شفعاء يشفعون لهم في إزالة العقاب‏ «أَوْ نُرَدُّ» أي أو هل نرد إلى الدنيا «فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ» من الشرك و المعصية «قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ» أي أهلكوها بالعذاب‏ «وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ» على الأصنام بقولهم إنها آلهة و إنها تشفع لنا.

 [سورة الأعراف (7): آية 54]

إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى‏ عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ وَ النُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (54)

القراءة

قرأ أهل الكوفة غير حفص و يعقوب يغشي بالتشديد و كذلك في الرعد و الباقون بالتخفيف و قرأ ابن عامر و الشمس و القمر و النجوم مسخرات كله بالرفع و الباقون بالنصب.

الحجة

قال أبو علي غشي فعل متعد إلى مفعول واحد فإذا نقلته بالهمزة أو بتضعيف العين تعدى إلى مفعولين و قد جاء التنزيل بالأمرين قال‏ فَغَشَّاها ما غَشَّى‏ فما في موضع نصب بأنه المفعول الثاني و قال‏ فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ‏ فهذا منقول بالهمزة و المفعول الثاني محذوف و المعنى فأغشيناهم العمى أو فقد الرؤية عنهم فإذا جاء التنزيل بالأمرين فكلا الفريقين قرأ بما جاء في التنزيل و قوله‏ «يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ» كل واحد من الليل و النهار منتصب بأنه مفعول به و الفعل قبل النقل غشي الليل و النهار و لم يقل يغشي النهار و الليل كما قال‏ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ و لم يقل تقيكم البرد للعلم بذلك من الفحوى و مثل هذا لا يضيق و حجة من نصب‏ «الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ وَ النُّجُومَ» له حمله على خلق كما قال‏ وَ اسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَ‏ و حجة ابن عامر قوله و سخر لكم ما في السماوات و الأرض و مما في السماء الشمس و القمر فإذا أخبر بتسخيرهما حسن الإخبار عنهما به كما أنك إذا قلت ضربت زيدا

 

658
مجمع البیان في تفسير القرآن4

اللغة ص : 659

 

استقام أن تقول زيد مضروب.

اللغة

قد بينا معنى الاستواء في سورة البقرة عند قوله‏ ثُمَّ اسْتَوى‏ إِلَى السَّماءِ و العرش السرير و منه‏ وَ لَها عَرْشٌ عَظِيمٌ‏ و العرش الملك يقال ثل عرشه و العرش السقف و منه قوله‏ وَ هِيَ خاوِيَةٌ عَلى‏ عُرُوشِها و الحثيث السير السريع بالسوق و أصل البركة الثبات و منه براكاء القتال.

الإعراب‏

قوله‏ «حَثِيثاً» يجوز أن يكون حالا من الفاعل أو المفعول أو منهما جميعا و مثله قوله‏ فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ‏ فإن تحمله كذلك و مثله قول الشاعر:

متى ما تلقني فردين ترجف‏

 

 روانف أليتيك و تستطارا.

 

المعنى‏

لما ذكر سبحانه الكفار و عبادتهم غير الله سبحانه احتج عليهم بمقدوراته و مصنوعاته و دلهم بذلك على أنه لا معبود سواه فقال مخاطبا لجميع الخلق‏ «إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ» أي إن سيدكم و مالككم و منشئكم و محدثكم هو الله‏ «الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ» أي أنشأ أعيانها و أبدعها لا من شي‏ء و لا على مثال ثم أمسكها بلا عماد يدعمها «وَ الْأَرْضَ» أي و أنشأ الأرض أوجدها كذلك‏ «فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ» أي في مقدار ستة أيام من أيام الدنيا و لا شبهة أنه سبحانه يقدر على خلق أمثال ذلك في لحظة و لكنه خلقهما في هذه المدة لمصلحة و رتبهما على أيام الأسبوع فابتدأ بالأحد و الإثنين و الثلاثاء و الأربعاء و الخميس و الجمعة فاجتمع له الخلق يوم الجمعة فلذلك سمي الجمعة عن مجاهد و قيل إن ترتيب الحوادث على إنشاء شي‏ء بعد شي‏ء على ترتيب أدل على كون فاعله عالما مدبرا يصرفه على اختياره و يجريه على مشيئته و قيل إنه سبحانه علم خلقه التثبت و الرفق في الأمور عن سعيد بن جبير «ثُمَّ اسْتَوى‏ عَلَى الْعَرْشِ» أي استوى أمره على الملك عن الحسن يعني استقر ملكه و استقام بعد خلق السماوات و الأرض فظهر ذلك للملائكة و إنما أخرج هذا على المتعارف من كلام العرب كقولهم استوى الملك على عرشه إذا انتظمت أمور مملكته و إذا اختل أمر ملكه قالوا ثل عرشه و لعل ذلك الملك لا يكون له سرير و لا يجلس على سرير أبدا قال الشاعر:

إذا ما بنو مروان ثلت عروشهم‏

 

 و أودت كما أودت أياد و حمير

 

 

659
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأعراف(7): الآيات 55 الى 56] ص : 660

 

و قال:

إن يقتلوك فقد ثللت عروشهم‏

 

 بعتيبة بن الحارث بن شهاب‏

 

و قيل معناه ثم استوى عليه بأن رفعه عن الجبائي و قيل معناه ثم قصد إلى خلق العرش عن الفراء و جماعة و اختاره القاضي قال دل بقوله ثم إن خلق العرش كان بعد خلق السماء و الأرض و روي عن مالك بن أنس أنه قال الاستواء غير مجهول و كيفيته غير معلومة و السؤال عنه بدعة و روي عن أبي حنيفة أنه قال أمروه كما جاء أي لا تفسروه‏ «يُغْشِي» أي يلبس‏ «اللَّيْلَ النَّهارَ» يعني يأتي بأحدهما بعد الآخر فيجعل ظلمة الليل بمنزلة الغشاوة للنهار و لم يقل و يغشي النهار الليل لأن الكلام يدل عليه و قد ذكر في موضع آخر يكور الليل على النهار و يكور النهار على الليل‏ «يَطْلُبُهُ حَثِيثاً» أي يتلوه فيدركه سريعا و هذا توسع يريد أنه يأتي في أثره كما يأتي الشي‏ء في إثر الشي‏ء طالبا له‏ «وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ وَ النُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ» أي مذللات جاريات في مجاريهن بتدبيره و صنعه خلقهن لمنافع العباد و من قرأ مسخرات بالنصب فإنه منصوب على الحال‏ «أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ» إنما فصل بين الخلق و الأمر لأن فائدتهما مختلفة لأنه يريد بالخلق أن له الاختراع و بالأمر أن له أن يأمر في خلقه بما أحب و يفعل بهم ما شاء «تَبارَكَ اللَّهُ» أي تعالى بالوحدانية فيما لم يزل و لا يزال فهو بمعنى تعالى بدوام الثبات و قيل معناه تعالى عن صفات المخلوقين و المحدثين و قيل تعالى بدوام البركة أي البركة في ذكر اسمه‏ «رَبُّ الْعالَمِينَ» أي خالقهم و مالكهم و سيدهم.

 [سورة الأعراف (7): الآيات 55 الى 56]

ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَ خُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَ ادْعُوهُ خَوْفاً وَ طَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)

القراءة

قرأ أبو بكر عن عاصم خفية بكسر الخاء و الباقون بضمها و هما لغتان.

اللغة

التضرع التذلل و هو إظهار الذل الذي في النفس و مثله التخشع و منه التطلب لأمر من الأمور و أصل التضرع الميل في الجهات ذلا من قولهم ضرع الرجل يضرع ضرعا إذا مال بإصبعه يمينا و شمالا ذلا و خوفا و منه ضرع الشاة لأن اللبن يميل إليه و منه المضارعة

 

660
مجمع البیان في تفسير القرآن4

الإعراب ص : 661

للمشابهة لأنها تميل إلى شبه و الضريع نبت لا يسمن لأنه يميل مع كل داء و الخفية خلاف العلانية و الهمزة في الإخفاء منقلبة عن الياء كما أن الهمزة في الغناء منقلبة عن الياء بدلالة الغنية و قالوا أخفيت الشي‏ء إذا أظهرته قال الشاعر:

يخفي التراب بأظلاف ثمانية

 

 في أربع مسهن الأرض تحليل‏

 

و يمكن أن يكون أخفيت الشي‏ء أي أزلت إظهاره و إذا أزلت إظهاره فقد كتمته كما أن أشكيته بمعنى أزلت شكايته و الخفية الإخفاء و الخيفة الخوف و الرهبة و الطمع توقع المحبوب و ضده اليأس و هو القطع بانتفاء المحبوب.

الإعراب‏

 «تَضَرُّعاً وَ خُفْيَةً» مصدران وضعا موضع الحال أي ادعوه متضرعين و مخفين و قوله‏ «خَوْفاً وَ طَمَعاً» في موضع الحال أيضا أي خائفين عقابه و طامعين في رحمته قال الفراء إنما ذكر قريب و لم يؤنث ليفصل بين القريب من القرابة و القريب من القرب قال الزجاج و هذا غلط لأن كل ما قرب في مكان أو نسب فهو جار على ما يصيبه من التأنيث و التذكير و الوجه في تذكيره هنا أن الرحمة و الغفران و العفو في معنى واحد و كذلك كل تأنيث ليس بحقيقي و قال الأخفش جائز أن يكون أراد بالرحمة هنا النظر فلذلك ذكره و مثله قول الشاعر:

يا أيها الراكب المزجي مطيته‏

 

 سائل بني أسد ما هذه الصوت‏

 

أي ما هذه الصيحة و قول الآخر:

إن السماحة و المروءة ضمنا

 

 قبرا بمرو على الطريق الواضح.

 

المعنى‏

ثم أمر سبحانه بعد ذكره دلائل توحيده بدعائه على وجه الخشوع كافة عبيده فقال‏ «ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَ خُفْيَةً» أي تخشعا و سرا عن الحسن قال بين دعوة السر و دعوة العلانية سبعون ضعفا ثم قال إن كان الرجل لقد جمع القرآن و ما يشعر به جاره و إن كان الرجل لقد فقه الفقه الكثير و ما يشعر به الناس و إن كان الرجل ليصلي الصلاة الكثيرة في بيته و عنده الزور فلا يشعرن به و لقد تداركنا أقواما ما كان على الأرض من عمل يقدرون أن‏

661
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 661

يعملوه في السر فيكون علانية أبدا و لقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء و ما يسمع لهم صوت إن كان إلا همسا بينهم و بين ربهم‏

و روي‏ أن النبي ص كان في غزاة فأشرفوا على واد فجعل الناس يهللون و يكبرون و يرفعون أصواتهم فقال ص يا أيها الناس أربعوا على أنفسكم أما إنكم لا تدعون الأصم و لا غائبا إنكم تدعون سميعا قريبا إنه معكم‏

و قيل إن التضرع رفع الصوت و الخفية السر أي ادعوه علانية و سرا عن أبي مسلم و رواه علي بن إبراهيم في تفسيره‏ «إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ» في الدعاء قيل هو أن يطلب منازل الأنبياء فيجاوز الحد في الدعاء عن أبي مجلز و قيل هو الصياح في الدعاء عن ابن جريج و قيل معناه لا يحب المجاوزين الحد المرسوم في جميع العبادات و الدعوات‏ «وَ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها» و معناه النهي عن قتل المؤمنين و إضلالهم و العمل بالمعاصي في الأرض بعد أن أصلحها الله بالكتب و الرسل عن السدي و الحسن و الضحاك و الكلبي و قيل بعد أن أمر الله بالإصلاح فيها قال الحسن و إصلاحها اتباع أوامر الله تعالى فيها و روي عنه أيضا أنه قال لا تفسدوها بقتل المؤمن بعد إصلاحها ببقائه و قيل لا تفسدوها بالظلم بعد إصلاحها بالعدل و قيل معناه لا تعصوا في الأرض فيمسك الله المطر و يهلك الحرث بمعاصيكم عن عطية و على هذا فيكون معنى قوله‏ «بَعْدَ إِصْلاحِها» بعد إصلاح الله إياها بالمطر و الخصب‏

و روى ميسر عن أبي جعفر (ع) في هذه الآية قال‏ إن الأرض كانت فاسدة فأصلحها الله بنبيه ص‏

 «وَ ادْعُوهُ خَوْفاً وَ طَمَعاً» خوفا من عقابه و طمعا في ثوابه و قيل خوفا من الرد و طمعا في الإجابة و قيل خوفا من عدله و طمعا في فضله عن ابن جريج و قيل معناه خوفا من النيران و طمعا في الجنان عن عطا «إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ» معناه أن إنعام الله قريب إلى فاعلي الإحسان و قيل إن رحمة الله أي ثوابه قريب من المطيعين عن سعيد بن جبير و قيل المراد بالرحمة المطر عن الأخفش و يؤيده قوله‏ فَانْظُرْ إِلى‏ آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها و الإنسان هو النفع الذي يستحق به الحمد و الإساءة هي الضرر الذي يستحق به الذم و من قال إن المراد بالمحسنين من خلصت أفعاله من الإساءة و كانت كلها حسنة فالظاهر لا يقتضي ذلك بل الذي يقتضيه أن رحمة الله واصلة إلى من فعل الإحسان و ليس فيه أنه لا يصل إلى من جمع الإحسان و الإساءة و ذلك موقوف على الدلالة.

662
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأعراف(7): الآيات 57 الى 58] ص : 663

 

 [سورة الأعراف (7): الآيات 57 الى 58]

وَ هُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى‏ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57) وَ الْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَ الَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58)

القراءة

قرأ ابن كثير الريح واحدة و نشرا مضمومة النون و الشين و قرأ أهل المدينة و البصرة «الرِّياحَ» جمع نشر بضم النون و الشين حيث كان و قرأ أهل الكوفة غير عاصم الريح نشرا بفتح النون و سكون الشين و قرأ ابن عامر الرياح نشرا بضم النون و سكون الشين و قرأ عاصم‏ «الرِّياحَ بُشْراً» بالباء ساكنة الشين و قرأ أبو جعفر إلا نكدا بفتح الكاف و الباقون بالكسر.

الحجة

قال أبو علي اعلم أن الريح اسم على فعل و العين منه واو فانقلبت في الواحد للكسر فأما في الجمع القليل فصحت لأنه لا شي‏ء فيه يوجب الإعلال أ لا ترى أن الفتحة لا توجب إعلال هذه الواو في نحو قوم و قول فأما في الجمع الكثير فرياح انقلبت ياء للكسرة التي قبلها و إذا كانت انقلبت في نحو ديمة و ديم و حيلة و حيل فأن تنقلب في رياح أجدر لوقوع الألف بعدها و الألف تشبه الياء و الياء إذا تأخرت عن الواو أوجب فيه الإعلال و كذلك الألف لتشبهها بها و قد يجوز أن يكون الريح على لفظ الواحد و يراد به الكثرة كقولهم كثر الدرهم و الدينار و الشاة و البعير و إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ ثم قال‏ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا و كذلك من قرأ الريح نشرا فأفرد و وصفه بالجمع فإنه حمله على المعنى و قد أجاز أبو الحسن ذلك و قال الشاعر:

فيها اثنتان و أربعون حلوبة

 

 سودا كخافية الغراب الأسحم‏

 

و من نصب حمله على المعنى لأن المفرد يراد به الجمع و هذا وجه قراءة ابن كثير و قول من جمع الريح إذا وصفها بالجمع الذي هو نشرا أحسن لأن الحمل على المعنى ليس بكثير كالحمل على اللفظ و أما ما جاء

في الحديث‏ أن النبي ص كان يقول إذا هبت ريح اللهم اجعلها رياحا و لا تجعلها ريحا

فلأن عامة ما جاء في التنزيل على لفظ الرياح للسقيا و الرحمة كقوله تعالى‏ «وَ أَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ» و «يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ» و ما جاء بخلاف ذلك جاء على الإفراد كقوله‏ «فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ» رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ‏ قال‏

 

663
مجمع البیان في تفسير القرآن4

اللغة ص : 664

أبو عبيدة نشرا متفرقة من كل جانب و قال أبو زيد أنشر الله الموتى إنشارا إذا بعثها و أنشر الله الريح مثل أحياها فنشرت هي أي حييت و الدليل على أن إنشار الريح إحياؤها قول المرار الفقعسي:

و هبت له ريح الجنوب و أحييت‏

 

 له ريدة يحيي المياه نسيمها

 

و الريدة و الريدانة الريح قال‏

 (أودت به ريدانة صرصر)

 

 

 

و من قرأ نشرا يحتمل ضربين يجوز أن يكون جمع ريح نشور و ريح ناشر و يكون على معنى النسب فإذا جعلته جميع نشور احتمل أمرين (أحدهما) أن يكون النشور بمعنى المنشر كما أن الركوب بمعنى المركوب فكأن المعنى ريح أو رياح منشرة و يجوز أن يكون جمع نشور يراد به الفاعل مثل طهور و نحوه من الصفات و يجوز أن يكون نشرا جمع ناشر كشاهد و شهد و نازل و نزل و قاتل و قتل قال الأعشى‏

 (إنا لأمثالكم يا قومنا قتل)

 

 

 

و قول ابن عامر نشرا يحتمل الوجهين (أحدهما) أن يكون على فعول و فاعل و خفف العين كما خفف في كتب و رسل و يكون جمع فاعل كنازل و ينزل و عايط و عيط و أما من قرأ نشرا فإنه يحتمل ضربين (أحدهما) أن يكون المصدر حالا من الريح فإذا جعلته حالا منها احتمل أمرين (أحدهما) أن يكون النشر الذي هو خلاف الطي كأنها كانت بانقطاعها كالمطوية و يجوز على تأويل أبي عبيدة أن تكون متفرقة في وجوهها (و الآخر) أن يكون النشر الذي هو الحياة في نحو قوله‏

 (يا عجبا للميت الناشر)

 

 

 

فإذا حملته على ذلك و هو الوجه كان المصدر يراد به الفاعل كما تقول أتانا ركضا أي راكضا و يجوز أن يكون المصدر يراد به المفعول كأنه يرسل الرياح إنشارا أي محياة فحذف الزوائد من المصدر كما قال عمرك الله و كما قال‏

 (و أن يهلك فذلك كان قدري)

 

 

 

أي تقديري (و الضرب الآخر) أن يكون نشرا ينتصب انتصاب المصدر من باب صنع الله لأنه إذا قال يرسل الرياح دل هذا الكلام على تنشر الرياح نشرا أو تنشر نشرا من قوله‏

 (كما تنشر بعد الطية الكتب)

 

 

 

و من نشرت الريح كما ينشر الميت و قرأ عاصم‏ «بُشْراً» جمع بشير و بشر من قوله‏ «يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ» أي تبشر بالمطر و الرحمة و جمع بشيرا على بشر ككتاب و كتب الوجه في قراءة أبي جعفر نكدا أنه لغة في نكد قال الزجاج و يجوز فيه و جهان آخران نكدا و نكدا إلا أنه لم يثبت بهما رواية.

اللغة

الإقلال حمل الشي‏ء بأسره حتى يقل في طاقة الحامل له بقوة جسمه يقال استقل بحمله استقلالا و أقله إقلالا و السحاب الغيم الجاري في السماء يقال سحبته فانسحب‏

664
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 665

و السوق حث الشي‏ء في السير حتى يقع الإسراع فيه يقال ساقه و استاقه و البلد هو الأرض التي تجمع الخلق الكثير و البادية كالبلد للأعراب و نحوهم من الأكراد و النكد العسر الممتنع من إعطاء الخير على وجه البخل يقال نكد ينكد نكدا و نكدا فهو نكد و نكد و قد نكد إذا سئل فبخل قال الشاعر:

و أعط ما أعطيته طيبا

 

 لا خير في المنكود و الناكد

 

. المعنى‏

لما أخبر الله سبحانه في الآية المتقدمة بأنه خلق السماوات و الأرض و ما فيها من البدائع عطف على ذلك بقوله‏ «وَ هُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ» تعداد النعمة على بريته أي يطلقها و يجريها منتشرة في الأرض أو محيية للأرض أو مبشرة بالغيث على ما تقدم بيانه قدام رحمته و هو المطر «حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ» أي حملت و قيل رفعت‏ «سَحاباً ثِقالًا» بالماء «سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ» أي إلى بلد ميت و موت البلد تعفي مزارعه و دروس مشاربه لا نبات فيه و لا زرع و لم يقل سقناها لأنه رد الضمير إلى لفظ السحاب و الرياح تجمع السحاب من المواضع المختلفة حتى إذا اتصل السحاب أنزل المطر «فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ» يجوز أن يكون في الضمير في به راجعا إلى البلد أي فأنزلنا بالبلد الماء و يجوز أن يكون راجعا إلى السحاب أي فأنزلنا بالسحاب الماء «فَأَخْرَجْنا بِهِ» أي بهذا الماء المنزل أو بهذا البلد «مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ» يحتمل أن يكون من للتبعيض و يحتمل أن يكون لتبيين الجنس‏ «كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى‏» أي كما أخرجنا الثمرات كذلك نخرج الموتى بأن نحييها بعد موتها «لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» أي لكي تتذكروا و تتفكروا و تعتبروا بأن من قدر على إنشاء الأشجار و الثمار في البلد الذي لا ماء فيه و لا زرع بريح يرسلها فإنه يقدر على إحياء الأموات بأن يعيدها إلى ما كانت عليه و يخلق فيها الحياة و القدرة و استدل أبو القاسم البلخي بهذه الآية على أن كثيرا من الأشياء يكون بالطبع قال لأن الله تعالى بين أنه يخرج الثمرات بالماء الذي ينزله من السماء ثم قال و لا ينبغي أن ينكر ذلك و إنما ينكر قول من يقول بقدم الطبائع و أن الجهادات فاعلة فأما من قال أن الله تعالى هو الفاعل لهذه الأشياء غير أنه يفعلها تارة مخترعة بلا وسائط و تارة يفعلها بوسائط فلا كراهة في ذلك كما تقول في السبب و المسبب و أنكر عليه هذا القول أكثر أهل العدل و قالوا إن الله سبحانه أجرى العادة بإخراج النبات عند إنزال المطر مع قدرته على إخراج ذلك من غير مطر لما تقتضيه الحكمة من وجوه المصالح الدينية و الدنيوية ثم بين سبحانه حال الأرض التي يأتيها المطر فقال‏ «وَ الْبَلَدُ الطَّيِّبُ» معناه و الأرض الطيب ترابه‏ «يَخْرُجُ نَباتُهُ» أي‏

665
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 665

زروعه خروجا حسنا ناميا زاكيا من غير كد و لا عناء «بِإِذْنِ رَبِّهِ» بأمر الله تعالى و إنما قال‏ «بِإِذْنِ رَبِّهِ» ليكون أدل على العظمة و نفوذ الإرادة من غير تعب و لا نصب‏ «وَ الَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً» أي و الأرض السبخة التي خبث ترابها لا يخرج ريعها إلا شيئا قليلا لا ينتفع به عن السدي و معناه إلا عسرا ممتنعا من الخروج و لو أراد سبحانه أن يخرج من الأرض النكدة أكثر مما يخرج من الأرض الطيبة لأمكنه إلا أنه أجرى العادة بإخراجه من الأرض الطيبة ليكون ذلك باعثا للإنسان على طلب الخير من مظانه و دلالة له على وجوب الاجتهاد في الطاعات فإذا حمل نفسه على ابتغاء الخير اليسير الذي لا يدوم و ربما لا يحصل فأن يبتغي النعيم الدائم الذي لا يفنى و لا يبيد بالأعمال الصالحة أولى‏ «كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ» أي الدلالات المختلفة «لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ» معناه كما بينا هذا المثل نبين الدلالات للشاكرين و قيل كما صرفنا الآيات لكم بالإتيان بآية بعد آية و حجة بعد أخرى نصرفها لقوم يشكرون الله على إنعامه عليهم و من إنعامه عليهم هدايته إياهم لما فيه نجاتهم و تبصيرهم سبيل أهل الضلال و أمره إياهم تجنب ذلك و العدول عنه و روي عن ابن عباس و مجاهد و الحسن أن هذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمن و الكافر فأخبر بأن الأرض كلها جنس واحد إلا أن منها طيبة تلين بالمطر و يحسن نباتها و يكثر ريعها و منها سبخة لا تنبت شيئا فإن أنبتت فما لا منفعة فيه و كذلك القلوب كلها لحم و دم ثم منها لين يقيل الوعظ و منها قاس جاف لا يقبل الوعظ فليشكر الله تعالى من لأن قلبه لذكره.

666
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأعراف(7): الآيات 59 الى 64] ص : 667

 

 [سورة الأعراف (7): الآيات 59 الى 64]

لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى‏ قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (60) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَ لكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَ أَنْصَحُ لَكُمْ وَ أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (62) أَ وَ عَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى‏ رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَ لِتَتَّقُوا وَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63)

فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَ الَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَ أَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ (64)

القراءة

قرأ أبو جعفر و الكسائي من إله غيره بخفض الراء حيث وقع و الباقون بالرفع و قرأ أبو عمرو وحده أبلغكم بتخفيف اللام و الباقون بتشديدها.

الحجة

قال أبو علي وجه قراءة من جر أنه جعل غيرا صفة لإله على اللفظ و جعل لكم مستقرا أو جعله غير مستقر و أضمر الخبر و الخبر ما لكم في الوجود أو في العالم أو نحو ذلك لا بد من هذا الإضمار إذا لم نجعل لكم مستقرا لأن الصفة و الموصوف لا يستقل بهما كلام و حجة من رفع قوله‏ ما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ‏ فكما أن قوله‏ إِلَّا اللَّهُ‏ بدل من قوله‏ مِنْ إِلهٍ‏ كذلك قوله‏ «غَيْرُهُ» يكون بدلا من قوله‏ «مِنْ إِلهٍ» و «غَيْرُهُ» يكون بمنزلة الاسم الذي بعد إلا و هذا الذي ذكرنا أولى أن يحمل عليه من أن يجعل غير صفة لإله على الموضع فإن قلت ما تنكر أن يكون‏ إِلَّا اللَّهُ‏ صفة لقوله‏ مِنْ إِلهٍ‏ على الموضع كما كان قوله‏ لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ‏ صفة لآلهة قيل إن إلا بكونها استثناء أعرف و أكثر من كونها صفة و إنما جعلت صفة على التشبيه بغير فإذا كان الاستثناء أولى حملنا هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ‏ على الاستثناء من المنفي في المعنى لأن قوله‏ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ‏ بمنزلة ما من خالق غير الله و لا بد من إضمار الخبر كأنه ما من خالق للعالم غير الله و يؤكد ذلك لا إله إلا الله فهذا استثناء من منفي مثل لا أحد في الدار إلا زيد فأما قراءة حمزة و الكسائي‏ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ‏ فعلى أن جعلا غير صفة للخالق و أضمرا الخبر كما تقدم و الباقون جعلوه استثناء بدلا من المنفي و هو الأولى عندنا لما تقدم من الاستشهاد عليه من قوله‏ ما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ+ و «أُبَلِّغُكُمْ» فالقول فيه أن بلغ يتعدى إلى مفعول في نحو بلغني الخبر فإذا نقلته تعدى إلى مفعولين و النقل يكون بالهمزة و بتضعيف العين و كلا الأمرين جاء به التنزيل قال سبحانه‏ يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ‏ إلى قوله‏ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ‏ و قال‏ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ‏ و لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا.

اللغة

الملأ الجماعة من الرجال خاصة و مثله القوم و النفر و الرهط عن الفراء و سموا بذلك لأنهم يملئون المحافل و القوم الجمع الذي يقوم بالأمر سموا بالمصدر و الإبلاغ‏

 

667
مجمع البیان في تفسير القرآن4

الإعراب ص : 668

إيصال ما فيه بيان و إفهام و منه البلاغة و هو إيصال المعنى إلى النفس بأحسن صورة من اللفظ و البليغ الذي ينشئ البلاغة لا الذي يأتي بها على وجه الحكاية و الفرق بين الإبلاغ و الأداء أن الأداء إيصال الشي‏ء على الوجه الذي يجب فيه و منه فلان أدى الدين أداء و فلان حسن الأداء لما يسمع و حسن الأداء للقراءة و الرسالات جمع رسالة و هي جملة من البيان يحملها القائم بها ليؤديها إلى غيره و النصيحة إخلاص النية من شائب الفساد في المعاملة و الفلك و السفن يقع على الواحد و على الجمع و أصله الدور مشتق من قولهم فلك ثدي الجارية إذا استدار و منه الفلكة و الفلك.

الإعراب‏

 «يا قَوْمِ» حذفت ياء الإضافة لقوة النداء على التغيير حتى يحذف للترخيم فلما جاز أن يحذف في غير النداء للاجتزاء بالكسرة منها لزم أن يحذف فيه لاجتماع سببين فيها «لكِنِّي» أصله لكنني حذفت النون لاجتماع النونات و يجوز الإتمام في غير القرآن لأنه الأصل و كذلك إني و كأني فأما ليتني فلا يجوز فيه إلا إثبات النون لأنه لم يعرض فيه علة الحذف و أما لعلي فيجوز فيه الوجهان لأن اللام قريبة من النون، «رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ» من هنا لابتداء الغاية أي هو ابتدائي بالرسالة و كل مبتدإ بفعل فذلك الفعل منه و أصل من أن يكون لابتداء الغاية.

المعنى‏

لما بين الله سبحانه الأدلة على وحدانيته ذكر بعده حال من عاند و كذب رسله تسلية لنبينا محمد ص و تثبيتا له على احتمال الأذى من قومه و تحذيرا لهم عن الاقتداء بأولئك فينزل بهم ما نزل بهم و ابتداء بقصة نوح فقال‏ «لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى‏ قَوْمِهِ» اللام للقسم و قد تأكيد للكلام و تقديره حقا أقول إنا حملنا نوحا الرسالة إلى قومه و تحميل الرسالة تكليفه القيام بها و هي منزلة جليلة شريفة يستحق الرسول بتقبله إياها و قيامه بأعبائها من التعظيم و الإجلال ما لا يستحق بغيره و هو نوح بن ملك بن متوشلخ بن أخنوخ النبي و هو إدريس (ع) و هو أول نبي بعد إدريس و قيل إنه كان نجارا و ولد في العام الذي مات فيه آدم (ع) قبل موت آدم في الألف الأولى و بعث في الألف الثانية و هو ابن أربعمائة و قيل بعث و هو ابن خمسين سنة و لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما و كان في تلك الألف ثلاثة قرون عايشهم و عمر فيهم و كان يدعوهم ليلا و نهارا فلا يزيدهم دعاؤه إلا فرارا و كان يضربه قومه حتى يغشى عليه فإذا أفاق قال اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون ثم شكاهم إلى الله تعالى ففرغت له الدنيا و عاش بعد ذلك تسعين سنة و روي أكثر من ذلك أيضا «فَقالَ‏

668
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 668

يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ» أخبر سبحانه أنه أمرهم بعبادة الله وحده لأنه لا إله لهم غيره و لا معبود لهم سواه ثم أوعدهم على مخالفته فقال‏ «إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ» إنما قال أخاف و لم يقطع لأنه جوز أن يؤمنوا ثم ذكر سبحانه جوابهم فقال‏ «قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ» أي الجماعة من قومه عن الجبائي و قيل الأشراف و الرؤساء الذين يملئون الصدور هيبا و جمالا عن أبي مسلم‏ «إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» قيل معناه رؤية القلب الذي هو العلم أي إنا لنعلمك في ذهاب من الحق بين ظاهر لدعائك إيانا إلى ترك عبادة الأصنام و قيل معناه رؤية البصر أي نراك بأبصارنا على هذه الحال و قيل أنه من الرأي الذي هو غالب الظن فكأنه قال إنا لنظنك‏ «قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ» هذا إخبار عما أجابهم به نوح (ع) أي ليس بي عدول عن الحق و لا ذهاب عن الصواب يقال به ضلالة لأن معناه عرض به ذاك كما يقال به جنة و لا يجوز أن يقال به معرفة لأنها ليست مما يعرض لصاحبها و لكن يصح أن يقال به جوع و به عطش‏ «وَ لكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ» الذي يملك كل شي‏ء «أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي» أي أؤدي إليكم ما حملني ربي من الرسالات‏ «وَ أَنْصَحُ لَكُمْ» في تبليغ الرسالة على وجهها من غير تغيير و لا زيادة و لا نقصان‏ «وَ أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ» أي من صفات الله و توحيده و عدله و حكمته‏ «ما لا تَعْلَمُونَ» و قيل أعلم من دين الله و قيل أعلم من قدرته و سلطانه و شدة عقابه ما لا تعلمونه و الكل محتمل و قيل إنما قال ذلك لأن قوم نوح لم يسمعوا قط أن الله سبحانه عذب قوما و قد سمعت الأمم بعدهم هلاك من قبلهم أ لا ترى أن هودا قال جعلكم خلفاء من بعد نوح و قال شعيب مثل ما أصاب قوم نوح‏ «أَ وَ عَجِبْتُمْ» هذه همزة استفهام دخلت على واو العطف على جهة الإنكار فبقيت الواو مفتوحة كما كانت فالكلام مستأنف من وجه متصل من وجه‏ «أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ» أي لأن جاءكم بيان و قيل نبوة و رسالة «مِنْ رَبِّكُمْ عَلى‏ رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ» أي على بشر مثلكم ليخوفكم العقاب إن لم تؤمنوا و قيل أن" على" هنا بمعنى مع أي مع رجل منكم تعرفون مولده و منشأه ليعلمكم بموضع المخافة و إنما أنكر عليهم التعجب لأنه ليس في إرساله إليهم ليرشدهم إلى ما فيه صلاحهم موضع تعجب و إنما العجب من إعمال أمرهم كيف و وجوب الرسالة إذا كان للخلق فيها مصلحة أمر قد اقتضته الحكمة و دل عليه العقل‏ «وَ لِتَتَّقُوا» أي و لتتقوا الشرك و المعاصي‏ «وَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ» أي و لكي ترحموا و قال الحسن و لتتقوه رجاء أن يرحمكم‏ «فَكَذَّبُوهُ» أي فكذبوا نوحا فيما دعاهم إليه‏ «فَأَنْجَيْناهُ وَ الَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ» أي فخلصناه و الذين كانوا معه في السفينة و هم المؤمنون من عذاب الغرق‏ «وَ أَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا» أي و أهلكنا الذين‏

669
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[قصة نوح(ع)] ص : 670

كذبوا بدلائلنا بالماء «إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ» عن الحق أي ذاهبين عنه جاهلين به يقال رجل عم إذا كان أعمى القلب و رجل أعمى في البصر قال زهير:

و لكنني عن علم ما في غد عمي.

 

 

 

 [قصة نوح (ع)]

قد ذكرنا نسبه و كان من قصته ما

رواه الشيخ أبو جعفر بن بابويه بإسناده في كتاب النبوة مرفوعا إلى أبي عبد الله (ع) قال‏ لما بعث الله عز و جل نوحا دعا قومه علانية فلما سمع عقب هبة الله بن آدم من نوح تصديق ما في أيديهم من العلم و عرفوا أن العلم الذي في أيديهم هو العلم الذي جاء به نوح صدقوه و سلموا له فأما ولد قابيل فإنهم كذبوه و قالوا إن الجن كانوا قبلنا فبعث الله إليهم ملكا فلو أراد أن يبعث إلينا لبعث إلينا ملكا من الملائكة

حنان بن سدير عن أبي عبد الله (ع) قال‏ آمن مع نوح من قومه ثمانية نفر

و

في حديث وهب بن منبه‏ أن نوحا (ع) كان أول نبي نبأه الله عز و جل بعد إدريس و كان إلى الأدمة ما هو دقيق الوجه في رأسه طول عظيم العينين دقيق الساقين طويلا جسيما دعا قومه إلى الله حتى انقرضت ثلاثة قرون منهم كل قرن ثلثمائة سنة يدعوهم سرا و جهرا فلا يزدادون إلا طغيانا و لا يأتي منهم قرن إلا كان أعتى على الله من الذين قبلهم و كان الرجل منهم يأتي بابنه و هو صغير فيقيمه على رأس نوح فيقول يا بني إن بقيت بعدي فلا تطيعن هذا المجنون و كانوا يثورون إلى نوح فيضربونه حتى يسيل مسامعه دما و حتى لا يعقل شيئا مما يصنع به فيحمل فيرمي به في بيت أو على باب داره مغشيا عليه فأوحى الله تعالى إليه أنه لن يؤمن من قومك إلا من آمن فعندها أقبل على الدعاء عليهم و لم يكن دعا عليهم قبل ذلك فقال‏ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ‏ إلى آخر السورة فأعقم الله تعالى أصلاب الرجال و أرحام النساء و لبثوا أربعين سنة لا يولد لهم ولد و قحطوا في تلك الأربعين سنة حتى هلكت أموالهم و أصابهم الجهد و البلاء ثم قال لهم نوح‏ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً الآيات فأعذر إليهم و أنذر فلم يزدادوا إلا كفرا فلما يئس منهم أقصر عن كلامهم و دعائهم فلم يؤمنوا و قالوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَ لا تَذَرُنَّ وَدًّا وَ لا سُواعاً الآية يعنون آلهتهم حتى غرقهم الله و آلهتهم التي كانوا يعبدونها فلما كان بعد خروج نوح من السفينة و عبد الناس الأصنام سموا أصنامهم بأسماء أصنام قوم نوح فاتخذ أهل اليمن يغوث و يعوق و أهل دومة الجندل صنما سموه ودا و اتخذت حمير صنما سمته نسرا و هذيل صنما سموه سواعا فلم يزالوا يعبدونها حتى جاء الإسلام‏

و سنذكر قصة السفينة و الغرق في سورة هود إن‏

670
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[قصة نوح(ع)] ص : 670

شاء الله تعالى و

روى الشيخ أبو جعفر بن بابويه عن علي بن أحمد بن موسى قال حدثنا محمد بن أبي عبد الله الكوفي قال حدثنا سهل بن زياد الآدمي قال حدثنا عبد العظيم بن عبد الله الحسني قال سمعت علي بن محمد (ع) يقول‏ عاش نوح (ع) ألفين و خمسمائة سنة و كان يوما في السفينة نائما فهبت ريح فكشفت عورته فضحك حام و يافث و زجرهما سام و نهاهم عن الضحك و كان كلما غطى سام ما يكشفه الريح كشفه حام و يافث فانتبه نوح فرآهم يضحكون فقال ما هذا فأخبره سام بما كان فرفع نوح يده إلى السماء يدعو فقال اللهم غير ماء صلب حام حتى لا يولد له إلا السودان اللهم غير ماء صلب يافث فغير الله ماء صلبيهما فجميع السودان من صلب حام حيث كانوا و جميع الترك و السقلاب و يأجوج و مأجوج و الصين من يافث و جميع البيض سواهم من سام و قال نوح لحام و يافث جعل الله ذريتكما خولا لذرية سام إلى يوم القيامة لأنه بر بي و عققتماني فلا زالت سمة عقوقكما لي في ذريتكما ظاهرة و سمة البر بي في ذرية سام ظاهرة ما بقيت الدنيا

قال الشيخ أبو جعفر بن بابويه القمي رحمه الله ذكر يافث في هذا الخبر غريب لم أروه إلا من هذا الطريق و جميع الأخبار التي رويتها في هذا المعنى فيها ذكر حام وحده و أنه ضحك لما انكشفت عورة أبيه و أن ساما و يافث كانا في ناحية فبلغهما ما صنع فأقبلا و معهما ثوب و هما معرضان و ألقيا عليه الثوب و هو نائم فلما استيقظ أوحى الله عز و جل إليه الذي صنع حام فلعن حاما و دعا عليه و

روى إبراهيم بن هاشم عن علي بن الحكم عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله ع قال‏ عاش نوح ألفي سنة و خمسمائة سنة منها ثمانمائة و خمسين قبل أن يبعث و ألف سنة إلا خمسين عاما و هو في قومه يدعوهم و مائتي عام في عمل السفينة و خمسمائة عام بعد ما نزل من السفينة و نضب الماء فمصر الأمصار و أسكن ولده البلدان ثم إن ملك الموت جاءه و هو في الشمس فقال السلام عليك يا ملك الموت فقال جئت لأقبض روحك فقال له تدعني أتحول من الشمس إلى الظل فقال له نعم قال فتحول نوح ثم قال له يا ملك الموت كان ما مر بي من الدنيا مثل تحولي من الشمس إلى الظل فامض لما أمرت به قال فقبض روحه (ع).

671
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأعراف(7): الآيات 65 الى 72] ص : 672

 

 [سورة الأعراف (7): الآيات 65 الى 72]

وَ إِلى‏ عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَ فَلا تَتَّقُونَ (65) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَ إِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ (66) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَ لكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَ أَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ (68) أَ وَ عَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى‏ رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَ اذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَ زادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69)

قالُوا أَ جِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَ نَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَ غَضَبٌ أَ تُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71) فَأَنْجَيْناهُ وَ الَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَ قَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ ما كانُوا مُؤْمِنِينَ (72)

اللغة

السفاهة خفة الحلم و ثوب سفيه إذا كان خفيفا قال مؤرج السفاهة الجنون بلغة حمير و الفرق بين العجب و العجب أن العجب بضم العين عقد النفس على فضيلة لها ينبغي أن يعجب منها و ليس كذلك العجب بفتح العين و الجيم لأنه قد يكون حسنا و في المثل لا خير فيمن لا يتعجب من العجب و أرذل منه المتعجب من غير عجب و خلفاء جمع خليفة و هو الكائن بدل غيره ليقوم مقامه في تدبيره و هذا الجمع على التذكير لا على اللفظ مثل ظريف و ظرفاء و جائز أن يجمع على خلائف على اللفظ مثل ظريفة و ظرائف و الآلاء النعم و في واحدها أربع لغات إلى مثل معي مثل قفا و ألى مثل رمى و إلى مثل حسي قال الأعشى:

 

672
مجمع البیان في تفسير القرآن4

الإعراب ص : 673

أبيض لا يرهب الهزال و لا

 

 يقطع رحما و لا يخون إلى‏

 

و روي إلي أيضا و قيل أنه أراد بقوله إلا إلا بالتشديد فخففه و هو العهد و القرابة و الوقوع و السقوط و النزول نظائر و الرجس العذاب و قيل الرجس الرجز قلبت الزاي سينا كما قلبت السين تاء في قول الشاعر:

ألا لحى الله بني السعلات‏

 

 عمرو بن يربوع شرار النات‏

 

أي الناس:

" ليسوا بأعفاف و لا أكيات"

 

 

 

يريد أكياس.

الإعراب‏

انتصب‏ «أَخاهُمْ هُوداً» بقوله‏ أَرْسَلْنا في أول الكلام لأن تفصيل القصص يقتضي ذلك و التقدير و أرسلنا إلى عاد أخاهم هودا و صرف هود لخفته كما صرفت جمل لخفتها «يا قَوْمِ» موضع قوم نصب لأنه نداء مضاف و لو وصفته لم يجز في صفته إلا النصب قوله‏ «وَ لكِنِّي رَسُولٌ» استدرك بلكن لأن فيه معنى ما دعاني إلى أمركم السفه و لكن دعاني إليه أني رسول.

المعنى‏

ثم عطف سبحانه على قصة نوح قصة هود فقال‏ «وَ إِلى‏ عادٍ» و هو عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح‏ «أَخاهُمْ» يعني في النسب لا في الدين‏ «هُوداً» و هو هود بن شالخ بن أرفحشد بن سام بن نوح (ع) عن محمد بن إسحاق و قيل هو هود بن عبد الله بن رياح بن جلوث بن عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح عن غيره و كذا هو في كتاب النبوة و إنما قال أخاهم لأنه أبلغ في الحجة عليهم إذا اختار الرسالة إليهم من هو من قبيلتهم ليكونوا إليه أسكن و به آنس و عنه أفهم‏ «قالَ» هود «يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ» قد مر تفسيره‏ «أَ فَلا تَتَّقُونَ» استفهام يراد به التقرير «قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ» قد مر تفسيره‏ «إِنَّا لَنَراكَ» يا هود «فِي سَفاهَةٍ» أي جهالة و معناه نراك سفيها إلا أنه قال في سفاهة على جهة المبالغة أي نراك منغمسا في سفاهة «وَ إِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ» أي كذبوه ظانين لا متيقنين عن الحسن و الزجاج و قيل إن المراد بالظن هنا العلم كما في قول الشاعر:

فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج‏

 

 سراتهم في الفارسي المسرد

 

و معناه أيقنوا «قالَ» هود «يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ» أي لم يحملني على هذا الإخبار

673
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 673

السفاهة «وَ لكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ» هذا تعليم من الله تعالى بأن لا يقابل السفهاء بالكلام القبيح و لكن يقتصر الإنسان على نفي ما أضيف إليه عن النفس‏ «أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي» أي نبوات ربي إنما قال رسالات هنا و فيما تقدم بلفظ الجمع لأن الرسالة متضمنة لأشياء كثيرة من الأمر و النهي و الترغيب و الترهيب و الوعد و الوعيد و غير ذلك فأتى بلفظ يدل عليها و إذا قال رسالة ربي بلفظ الواحد أتى بلفظة مشتملة على هذه الأشياء بطريق الإجمال‏ «وَ أَنَا لَكُمْ ناصِحٌ» فيما أدعوكم إليه من طاعة الله و توحيده‏ «أَمِينٌ» أي ثقة مأمون في تأدية الرسالة فلا أكذب و لا أغير عن الضحاك و الجبائي و قيل معناه كنت مأمونا فيكم فكيف تكذبونني عن الكلبي‏ «أَ وَ عَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ» أي لا عجب في أن جاءكم نبوة و قيل معجزة و بيان‏ «عَلى‏ رَجُلٍ مِنْكُمْ» في النسب نشأ بينكم و قيل إن معناه كيف تتعجبون من بعثة رجل منكم و لا تتعجبون من عبادة حجر «لِيُنْذِرَكُمْ» ليخوفكم‏ «وَ اذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ» معناه و اذكروا نعمة الله عليكم بأن جعلكم سكان الأرض من بعد قوم نوح و هلاكهم بالعصيان‏ «وَ زادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً» أي طولا و قوة عن ابن عباس و جماعة قال الكلبي كان أطولهم مائة ذراع و أقصرهم ستين ذراعا و قيل كان أقصرهم اثني عشر ذراعا و

قال أبو جعفر الباقر (ع) كانوا كأنهم النخل الطوال و كان الرجل منهم ينحو الجبل بيديه فيهدم منه قطعة

و قيل معناه و زاد في خلقكم بسطة فكانوا أطول من غيرهم بمقدار أن يمد الإنسان يده فوق رأسه باسطا «فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ» أي نعم الله‏ «لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» أي لكي تفوزوا بنعيم الدنيا و الآخرة «قالُوا أَ جِئْتَنا» يا هود «لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَ نَذَرَ» عبادة «ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا» من الأصنام‏ «فَأْتِنا بِما تَعِدُنا» من العذاب‏ «إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ» في أنك رسول الله إلينا و في نزول العذاب بنا لو لم نترك عبادة الأصنام‏ «قالَ» هود لقومه جوابا عما قالوه‏ «قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ» أي وجب عليكم و حل بكم لا محالة فهو كالواقع‏ «مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ» أي عذاب‏ «وَ غَضَبٌ» و الغضب من الله إرادة العذاب بمستحقيه و مثله السخط «أَ تُجادِلُونَنِي» أي أ تناظرونني و تخاصمونني‏ «فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ» أي في أصنام صنعتموها أنتم و آباؤكم و اخترعتم لها أسماء سميتموها آلهة و ما فيها من معنى الإلهية شي‏ء و قيل معناه تسميتهم لبعضها أنه يسقيهم المطر و لآخر أنه يأتيهم بالرزق و لآخر أنه يشفي المرضى و الآخر أنه يصحبهم في السفر «ما نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ» أي حجة و برهان و بينة و عليكم البينة بما ادعيتم و سميتم و ليس علي أن آتيكم بالبينة على ما تعبدون من دون الله بل ذلك عليكم و علي أن آتيكم بسلطان مبين إن الله تعالى هو المعبود و لا معبود

674
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[قصة هود] ص : 675

سواه و إني رسوله‏ «فَانْتَظِرُوا» عذاب الله فإنه نازل بكم‏ «إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ» لنزوله بكم عن الحسن و الجبائي و المفسرين‏ «فَأَنْجَيْناهُ وَ الَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا» أي فخلصنا هودا و الذين كانوا آمنوا معه من العذاب بإخراجنا إياهم من بينهم قبل إنزال العذاب بهم‏ «وَ قَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا» أي و استأصلنا الذين كذبوا بحججنا بعذاب الاستئصال فلم يبق لهم نسل و لا ذرية «وَ ما كانُوا مُؤْمِنِينَ» بالله و رسوله و إنما قال ذلك ليبين أنه كان المعلوم من حالهم أنه لو لم يهلكهم ما كانوا ليؤمنوا كما قال في موضع آخر وَ لَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَ ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا و في هذه الآية دلالة على أن قوم هود استؤصلوا فلا عقب لهم.

 [قصة هود]

جملة ما ذكره السدي و محمد بن إسحاق و غيرهما من المفسرين في قصة هود أن عادا كانوا ينزلون اليمن و كانت مساكنهم منها بالشحر و الأحقاف و هي رمال يقال لها رمل عالج و الدهناء و يبرين ما بين عمان إلى حضرموت و كان لهم زرع و نخل و لهم أعمار طويلة و أجساد عظيمة و كانوا أصحاب أصنام يعبدونها فبعث الله تعالى إليهم هودا نبيا و كان من أوسطهم نسبا و أفضلهم حسبا فدعاهم إلى التوحيد و خلع الأنداد فأبوا عليه و كذبوه و آذوه فأمسك الله عنهم المطر سبع سنين و قيل ثلاث سنين حتى قحطوا و كان الناس في ذلك الزمان إذا نزل بهم بلاء أو جهد التجئوا إلى بيت الله الحرام بمكة مسلمهم و كافرهم و أهل مكة يومئذ العماليق من ولد عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح و كان سيد العماليق إذ ذاك بمكة رجلا يقال له معاوية بن بكر و كانت أمه من عاد فبعث عاد وفدا إلى مكة ليستسقوا لهم فنزلوا على معاوية بن بكر و هو بظاهر مكة خارجا من الحرم فأكرمهم و أنزلهم و أقاموا عنده شهرا يشربون الخمر فلما رأى معاوية طول مقامهم و قد بعثهم قومهم يتغوثون من البلاء الذي نزل بهم شق ذلك عليه و قال هلك أخوالي و هؤلاء مقيمون عندي و هم ضيفي أستحي أن آمرهم بالخروج إلى ما بعثوا إليه و شكا ذلك إلى قينتيه اللتين كانتا تغنيانهم و هما الجرادتان فقالتا قل شعرا نغنيهم به لا يدرون من قاله فقال معاوية بن بكر:

أ لا يا قيل ويحك قم فهينم‏

 

 لعل الله يصبحنا غماما

 

675
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[قصة هود] ص : 675

فيسقي أرض عاد إن عادا

 

 قد أمسوا ما يبينون الكلاما

 

و إن الوحش تأتيهم جهارا

 

 و لا تخشى لعادي سهاما

 

و أنتم هاهنا فيما اشتهيتم‏

 

 نهاركم و ليلكم التماما

 

فقبح وفدكم من وفد قوم‏

 

 و لا لقوا التحية و السلاما

 

فلما غنتهم الجرادتان بهذا قال بعضهم لبعض إنما بعثكم قومكم يتغوثون بكم من هذا البلاء فادخلوا هذا الحرم و استسقوا لهم فقال رجل منهم قد آمن يهود سرا و الله لا تسقون بدعائكم و لكن إن أطعتم نبيكم سقيتم فزجروه و خرجوا إلى مكة يستسقون بها لعاد و كان قيل بن عنزر رأس وفد عاد فقال يا إلهنا إن كان هود صادقا فاسقنا فإنا قد هلكنا فأنشأ الله سبحانه سحابا ثلاثا بيضاء و حمراء و سوداء ثم ناداه مناد من السماء يا قيل اختر لنفسك و لقومك فاختار السحابة السوداء التي فيها العذاب فساق الله سبحانه تلك السحابة بما فيها من النقمة إلى عاد فلما رأوها استبشروا بها و قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا يقول الله عز و جل‏ «بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ» فسخرها الله تعالى عليهم سبع ليال و ثمانية أيام حسوما أي دائمة فلم تدع من عاد أحدا إلا هلك و اعتزل هود و من معه من المؤمنين في حظيرة ما يصيبه و من معه إلا ما تلين عليه الجلود و تلتذ النفوس و إنها لتمر من عاد بالظعن ما بين السماء و الأرض و تدمغهم بالحجارة فأهلكتهم و

روى أبو حمزة الثمالي عن سالم عن أبي جعفر (ع) قال‏ إن الله تبارك و تعالى بيت ريح مقفل عليه لو فتح لأذرت ما بين السماء و الأرض ما أرسل على قوم عاد إلا قدر الخاتم‏

و كان هود و صالح و شعيب و إسماعيل و نبينا ص يتكلمون بالعربية.

676
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأعراف(7): الآيات 73 الى 79] ص : 677

 

 [سورة الأعراف (7): الآيات 73 الى 79]

وَ إِلى‏ ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَ لا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (73) وَ اذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَ بَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَ تَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَ لا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَ تَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (76) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَ عَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَ قالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77)

فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (78) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَ قالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَ نَصَحْتُ لَكُمْ وَ لكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79)

القراءة

قرأ ابن عامر وحده و قال الملأ بإثبات الواو و الباقون بغير الواو.

الحجة

قد تقدم القول في نحو هذا الواو و أن إثباتها حسن و حذفها حسن.

اللغة

البينة العلامة الفاصلة بين الحق و الباطل من جهة شهادتها به و الناقة أصلها من التوطئة و التذليل يقال بعير منوق أي مذلل موطأ و تنوق في العمل جودة و الآية و العبرة و الدلالة و العلامة نظائر و التبوئة التمكين من المنازل يقال بوأته منزلا إذا أمكنته منه ليأوي إليه و أصله من الرجوع قال الشاعر:

و بوئت في صميم معشرها

 

 فتم في قومها مبوؤها

 

أي أنزلت و مكنت و القصور جمع قصر و هو الدار التي لها سور يكون به مقصورة و أصله القصر الذي هو الجعل على منزلة دون منزلة و منه القصير لأنه دون غيره و القصر الغاية

 

677
مجمع البیان في تفسير القرآن4

الإعراب ص : 678

يقال قصرك الموت لأنه قصر عليه و العثي الفساد يقال عثى يعثي و عاث يعيث بمعنى و العقر الجرح الذي يأتي على أصل النفس و هو من عقر الحوض: أصله قال امرؤ القيس:

 (بإزاء الحوض أو عقره)

 

 

 

و العتو تجاوز الحد في الفساد و الرجف الاضطراب يقال رجف بهم السقف يرجف رجوفا إذا اضطرب من تحتهم و أرجف الناس بالشي‏ء إذا خاضوا فيه و اضطربوا و الجثوم البروك على الركبة يقال جثم يجثم جثوما قال جرير:

عرفت المنتأى و عرفت منها

 

 مطايا القدر كالحدء الجثوم‏

 

. الإعراب‏

ثمود جاء مصروفا و غير مصروف فمن صرفه فعلى أنه اسم الحي مذكر و من ترك صرفه فعلى أنه اسم القبيلة كما قال‏ أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ فصرف الأول و لم يصرف الثاني آية منصوب على الحال لأن معنى قوله‏ «هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ» انظروا إلى هذه الناقة آية أي علامة و تأكل في موضع نصب على الحال أي آكلة و مفسدين أيضا نصب على الحال و قوله‏ «لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ» موضعه نصب بدل من قوله‏ «لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا» و هو بدل البعض من الكل إلا أنه أعيد فيه حرف الجر و قوله‏ «يا صالِحُ ائْتِنا» إن وصلته همزته و إن ابتدأت به لم تهمز بل تقول ايتنا و إنما كان كذلك لأن أصله ائتنا بهمزتين فكرهوا اجتماعهما فقلبوا الثانية ياء لكسرة ما قبلها و إذا وصل تسقط همزة الوصل فتظهر همزة الأصل.

المعنى‏

ثم عطف سبحانه على ما تقدم قصة صالح فقال‏ «وَ إِلى‏ ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً» أي و أرسلنا إلى ثمود و ثمود هنا القبيلة و هو ثمود بن عاثر بن إرم بن سام بن نوح و صالح من ولد ثمود «قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ» وحده‏ «ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ» فتعبدوه‏ «قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ» أي دلالة معجزة شاهدة على صدقي‏ «هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً» أشار إلى ناقة بعينها أضافها إلى الله سبحانه تفضيلا و تخصيصا نحو بيت الله و قيل إنما أضافها إليه لأنها خلقها بلا واسطة و جعلها دلالة على توحيده و صدق رسوله لأنها خرجت من صخرة ملساء تمخضت بها كما تتمخض المرأة ثم انفلقت عنها على الصفة التي طلبوها و كان لها

678
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 678

شرب يوم تشرب فيه ماء الوادي كله و تسقيهم اللبن بدله و لهم شرب يوم يخصهم لا تقرب فيه ماءهم عن السدي و ابن إسحاق و جماعة و قيل إنما أضافها إلى الله لأنه لم يكن لها مالك سواه تعالى عن الجبائي قال الحسن كانت ناقة من النوق و كان وجه الإعجاز فيها أنها كانت تشرب ماء الوادي كله في يوم على ما شرحناه‏ «فَذَرُوها» أي اتركوها «تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَ لا تَمَسُّوها بِسُوءٍ» أي بعقر أو نحر «فَيَأْخُذَكُمْ» أي ينالكم‏ «عَذابٌ أَلِيمٌ» أي مؤلم‏ «وَ اذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ» أي و اذكروا نعم الله تعالى عليكم في أن أورثكم الأرض و مكنكم فيها من بعد عاد «وَ بَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ» أي أنزلكم فيها و جعل لكم فيها مساكن و بيوتا تأوون إليها و «تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً» و السهل خلاف الجبل و هو ما ليس فيه مشقة على النفس أي تبنون في سهولها الدور و القصور و إنما اتخذوها في السهول ليصيفوا فيها «وَ تَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً» قال ابن عباس كانوا يبنون القصور بكل موضع و ينحتون من الجبال بيوتا يسكنونها شتاء لتكون مساكنهم في الشتاء أحصن و أدفأ و يروى أنهم لطول أعمارهم يحتاجون إلى أن ينحتوا بيوتا في الجبال لأن السقوف و الأبنية كانت تبلى قبل فناء أعمارهم‏ «فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ» أي نعم الله عليكم بما أعطاكم من القوة و طول العمر و التمكن في الأرض‏ «وَ لا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ» أي و لا تضطربوا بالفساد في الأرض و لا تبالغوا فيه‏ «قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا» أي تعظموا و رفعوا أنفسهم فوق مقدارها بجحود الحق للأنفة من اتباع الرسول الداعي إليه‏ «مِنْ قَوْمِهِ» أي من قوم صالح‏ «لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا» أي للذين استضعفوهم من المؤمنين‏ «لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ» إنما ذكره لئلا يظن بالمستضعفين أنهم كانوا غير مؤمنين لأنه قد يكون المستضعف مستضعفا في دينه و لا يكون مؤمنا فأزال الله سبحانه هذه الشبهة «أَ تَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ» أي هل تعلمون أن الله سبحانه أرسل صالحا «قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ» أي مصدقون‏ «قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا» لهم حين سمعوا منهم الإيمان و الاعتراف بنبوة صالح‏ «إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ» أي صدقتم به‏ «كافِرُونَ» جاحدون ثم أخبر سبحانه عما فعله المستكبرون بقوله‏ «فَعَقَرُوا النَّاقَةَ» أي فنحروا الناقة قال الأزهري العقر عند العرب قطع عرقوب البعير ثم جعل النحر عقرا لأن ناحر البعير يعقره ثم ينحره‏ «وَ عَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ» أي تجاوزوا الحد في الفساد و المعصية «وَ قالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا» من العذاب على قتل الناقة فقد قتلناها «إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ» ثم أخبر سبحانه بما حل بهم من العذاب بقوله‏ «فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ» أي الصيحة عن مجاهد و السدي و قيل الصاعقة و قيل الزلزلة أهلكوا بها عن أبي مسلم و قيل كانت صيحة

679
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[قصة صالح‏] ص : 680

زلزلت بها الأرض و أصل الرجفة الحركة المزعجة بشدة الزعزعة «فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ» أي في بلدهم و لذلك وحد و قيل يريد في دورهم و إنما وحد لأنه أراد الجنس كقوله‏ «إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ» و قد ذكر في موضع آخر ديارهم بالجمع‏ «جاثِمِينَ» أي صرعى ميتين ساقطين لا حركة بهم و قيل كالرماد الجاثم لأنهم احترقوا بالصاعقة «فَتَوَلَّى عَنْهُمْ» صالح أي أعرض عنهم لأنه إنما كان يقبل عليهم لدعائهم إلى الإيمان‏ «وَ قالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَ نَصَحْتُ لَكُمْ» أي أديت النصح في تبليغ الرسالة «وَ لكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ» أي و لكنكم لا تحبون من ينصح لكم لأن من أحب إنسانا قبل منه.

 [قصة صالح‏]

و كان من قصة صالح و قومه على ما ذكره أصحاب التواريخ أن عادا لما هلكت و تقضي أمرها عمرت ثمود بعدها و استخلفوا في الأرض فكثروا و عمروا و كانوا في سعة من معايشهم فعتوا على الله و أفسدوا في الأرض و عبدوا غير الله فبعث الله إليهم صالحا و كان من أوسطهم نسبا و كانوا قوما عربا و

روي في الخبر أنه لما بعث كان ابن ست عشرة سنة فلبث فيهم يدعوهم إلى الله تعالى حتى بلغ عشرين و مائة سنة لا يجيبونه إلى خير و كان لهم سبعون صنما يعبدونها فلما رأى ذلك منهم قال لهم أنا أعرض عليكم أمرين إن شئتم فاسألوني حتى أسأل إلهي فيجيبكم فيما تسألون و إن شئتم سألت آلهتكم فإن أجابوني خرجت عنكم فقد شنئتكم و شنئتموني قالوا قد أنصفت فاتعدوا ليوم يخرجون فيه فخرجوا بأصنامهم إلى عيدهم و أكلوا و شربوا فلما فرغوا دعوه فقالوا يا صالح سل فسألها فلم تجبه قال لا أرى آلهتكم تجيبني فاسألوني حتى أسأل إلهي فيجيبكم الساعة فقالوا يا صالح أخرج لنا من هذه الصخرة و أشاروا إلى صخرة منفردة ناقة مخترجة جوفاء وبراء و المخترجة ما شاكل البخت من الإبل فإن فعلت صدقناك و آمنا بك فسأل الله سبحانه ذلك صالح فانصدعت الصخرة صدعا كادت عقولهم تطير منه ثم اضطربت كالمرأة يأخذها الطلق ثم انصدعت عن ناقة عشراء جوفاء وبراء كما وصفوا لا يعلم ما بين جنبيها إلا الله عظما و هم ينظرون ثم نتجت سقبا مثلها في العظم فآمن به رهط من قومه و لم يؤمن من أكابرهم فقال لهم صالح هذه ناقة لها شرب و لكم شرب يوم معلوم‏

و قد بينا ذلك قبل فإذا كان يومها وضعت رأسها في مائهم فما ترفعه حتى تشرب كل ما فيه ثم ترفع رأسها فتفجج لهم فيحتلبون ما شاءوا من لبن فيشربون‏

680
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[قصة صالح‏] ص : 680

و يدخرون حتى يملئوا أوانيهم كلها قال الحسن بن محبوب حدثني رجل من أصحابنا يقال له سعيد بن يزيد قال أتيت أرض ثمود فذرعت مصدر الناقة بين الجبلين و رأيت أثر جنبيها فوجدته ثمانين ذراعا و كانت تصدر من غير الفج الذي منه وردت لا تقدر على أن تصدر من حيث ترد لأنه يضيق عنها فكانوا في سعة و دعة منها و كانوا يشربون الماء يوم الناقة من الجبال و المغارات فشق ذلك عليهم و كانت مواشيهم تنفر عنها لعظمها فهموا بقتلها قالوا و كانت امرأة جميلة يقال لها صدوف ذات مال من إبل و بقر و غنم و كانت أشد الناس عداوة لصالح فدعت رجلا من ثمود يقال له مصدع بن مهرج و جعلت له نفسها على أن يعقر الناقة و امرأة أخرى يقال لها عنيزة دعت قدار بن سالف و كان أحمر أزرق قصيرا و كان ولد زنا و لم يكن لسالف الذي يدعى إليه و لكنه ولد على فراشه و قالت له أعطيك أي بناتي شئت على أن تعقر الناقة و كان قدار عزيزا منيعا في قومه فانطلق قدار بن سالف و مصدع فاستغويا غواة ثمود فاتبعهما سبعة نفر و أجمعوا على عقر الناقة قال السدي و غيره أوحى الله تعالى إلى صالح إن قومك سيعقرون ناقتك فقال ذلك لقومه فقالوا ما كنا لنفعل قال صالح أنه يولد في شهركم هذا غلام يعقرها و يكون هلاككم على يديه فقالوا لا يولد لنا ابن في هذا الشهر إلا قتلناه فولد لتسعة منهم في ذلك الشهر فذبحوا أبناءهم ثم ولد للعاشر فأبى أن يذبح ابنه و كان لم يولد له قبل ذلك شي‏ء و كان العاشر أزرق أحمر و نبت نباتا سريعا و كان إذا مر بالتسعة فرأوه قالوا لو كان أبناؤنا أحياء لكانوا مثل هذا فغضب التسعة على صالح لأنه كان سبب قتلهم أبناءهم فتقاسموا بالله لنبيتنه و أهله قالوا نخرج فيرى الناس أنا قد خرجنا إلى سفر فنأتي الغار فتكون فيه حتى إذا كان الليل و خرج صالح إلى مسجده أتيناه فقتلناه ثم رجعنا إلى الغار فكنا فيه ثم رجعنا فقلنا ما شهدنا مهلك أهله و إنا لصادقون فيصدقوننا يعلمون أنا قد خرجنا إلى سفرنا و كان صالح لا ينام معهم في القرية و يبيت في مسجد يقال له مسجد صالح فإذا أصبح أتاهم فوعظهم و إذا أمسى خرج إلى المسجد فبات فيه فانطلقوا فلما دخلوا الغار و أرادوا أن يخرجوا من الليل سقط عليهم الغار فقتلهم فانطلق رجال ممن اطلع على ذلك منهم فإذا هم رضخ فرجعوا و جعلوا يصيحون في القرية أي عباد الله أ ما رضي صالح أن أمرهم بقتل أولادهم إذ قتلهم فاجتمع أهل القرية على عقر الناقة و قال ابن إسحاق إنما كان تقاسم التسعة على تبييت صالح بعد عقر الناقة و إنذار صالح إياهم بالعذاب قال السدي و لما ولد قدار و كبر جلس مع أناس يصيبون من الشراب فأرادوا ماء يمزجون به شرابهم و كان ذلك اليوم شرب الناقة فوجدوا الماء قد شربته الناقة فاشتد ذلك عليهم فقال قدار هل لكم في أن أعقرها لكم قالوا

681
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[قصة صالح‏] ص : 680

نعم و قال كعب كان سبب عقرهم الناقة أن امرأة يقال لها ملكاء كانت قد ملكت ثمودا فلما أقبل الناس على صالح و صارت الرئاسة إليه حسدته فقالت لامرأة يقال لها قطام و كانت معشوقة قدار بن سالف و لامرأة أخرى يقال لها قبال كانت معشوقة مصدع و كان قدار و مصدع يجتمعان معهما كل ليلة و يشربون الخمر فقالت لهما ملكاء إن أتاكما الليلة قدار و مصدع فلا تطيعاهما و قولا لهما إن ملكاء حزينة لأجل الناقة و لأجل صالح فنحن لا نطيعكما حتى تعقرا الناقة فلما أتياهما قالتا هذه المقالة لهما فقالا نحن نكون من وراء عقرها قالوا فانطلق قدار و مصدع و أصحابهما السبعة فرصدوا الناقة حين صدرت عن الماء و قد كمن لها قدار في أصل صخرة على طريقها و كمن لها مصدع في أصل أخرى فمرت على مصدع فرمى بسهم فانتظم به عضلة ساقها و خرجت عنيزة و أمرت ابنتها و كانت من أحسن الناس فأسفرت لقدار ثم زمرته فشه على الناقة بالسيف فكشف عرقوبها فخرت و رغت رغاة واحدة و تحذر سقبها ثم طعن في لبتها فنحرها و خرج أهل البلدة و اقتسموا لحمها و طبخوه فلما رأى الفصيل ما فعل بأمه ولى هاربا حتى صعد جبلا ثم رغا رغاء تقطع منه قلوب القوم و أقبل صالح فخرجوا يعتذرون إليه إنما عقرها فلان و لا ذنب لنا فقال صالح انظروا هل تدركون فصيلها فإن أدركتموه فعسى أن يرفع عنكم العذاب فخرجوا يطلبونه في الجبل فلم يجدوه و كانوا عقروا الناقة ليلة الأربعاء فقال لهم صالح تمتعوا في داركم يعني في محلتكم في الدنيا ثلاثة أيام فإن العذاب نازل بكم ثم قال يا قوم إنكم تصبحون غدا و وجوهكم مصفرة و اليوم الثاني تصبحون وجوهكم محمرة و اليوم الثالث وجوهكم مسودة فلما كان أول يوم أصبحت وجوههم مصفرة فقالوا جاءكم ما قال لكم صالح و لما كان اليوم الثاني احمرت وجوههم و اليوم الثالث اسودت وجوههم فلما كان نصف الليل أتاهم جبرائيل (ع) فصرخ بهم صرخة خرقت أسماعهم و فلقت قلوبهم و صدعت أكبادهم و كانوا قد تحنطوا و تكفنوا و علموا أن العذاب نازل بهم فماتوا أجمعين في طرفة عين صغيرهم و كبيرهم فلم يبق الله منهم ثاغية و لا راغية و لا شيئا يتنفس إلا أهلكه فأصبحوا في ديارهم موتى ثم أرسل الله إليهم مع الصيحة النار من السماء فأحرقتهم أجمعين فهذه قصتهم و في كتاب علي بن إبراهيم فبعث الله عليهم صيحة و زلزلة فهلكوا و

روى الثعلبي بإسناده مرفوعا عن النبي ص قال‏ يا علي أ تدري من أشقى الأولين قال قلت الله و رسوله أعلم قال عاقر الناقة قال أ تدري من أشقى الآخرين قال قلت الله و رسوله أعلم قال قاتلك‏

و

في رواية أخرى قال‏ أشقى الآخرين من يخضب هذه من هذه و أشار إلى لحيته و رأسه‏

و

روى أبو الزبير عن جابر بن عبد الله قال‏ لما مر النبي ص بالحجر في غزوة

682
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأعراف(7): الآيات 80 الى 84] ص : 683

 

تبوك قال لأصحابه لا يدخلن أحد منكم القرية و لا تشربوا من مائهم و لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم الذي أصابهم ثم قال أما بعد فلا تسألوا رسولكم الآيات هؤلاء قوم صالح سألوا رسولهم الآية فبعث الله لهم الناقة و كانت ترد من هذا الفج و تصدر من هذا الفج تشرب ماءهم يوم ورودها و أراهم مرتقى الفصيل حين ارتقى في القارة فعتوا عن أمر ربهم فعقروها فأهلك الله من تحت أديم السماء منهم في مشارق الأرض و مغاربها إلا رجلا واحدا يقال له أبو رغال و هو أبو ثقيف كان في حرم الله فمنعه حرم الله من عذاب الله فلما خرج أصابه ما أصاب قومه فدفن و دفن معه غصن من ذهب و أراهم قبر أبي رغال فنزل القوم فابتدروه بأسيافهم و حثوا عنه فاستخرجوا ذلك الغصن ثم قنع رسول الله ص رأسه و أسرع السير حتى جاز الوادي.

 [سورة الأعراف (7): الآيات 80 الى 84]

وَ لُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَ تَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81) وَ ما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنْجَيْناهُ وَ أَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (83) وَ أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84)

القراءة

قرأ أهل المدينة و حفص و سهل هنا «إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ» و كذلك مذهبهم في الاستفهامين يجتمعان يكتفون بالاستفهام الأول عن الثاني في كل القرآن و هو مذهب الكسائي إلا في قصة لوط و الباقون بهمزتين الثانية مكسورة و حققهما أهل الكوفة إلا أن حفصا يفصل بينهما بألف و ابن كثير و أبو عمرو و رويس يحققون الأولى و يلينون الثانية إلا أن أبا عمرو يفصل بينهما بالألف.

الحجة

قال أبو علي كل واحد من الاستفهامين جملة مستقلة لا يحتاج في تمامها إلى شي‏ء فمن ألحق حرف الاستفهام جملة نقلها به من الخبر إلى الاستخبار و من لم يلحقها

 

683
مجمع البیان في تفسير القرآن4

اللغة ص : 684

 

بقاها على الخبر فإذا كان كذلك فمن قرأ «إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ» جعله تفسيرا للفاحشة كما أن قوله‏ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ‏ تفسير الوصية.

اللغة

قال الزجاج لوط اسم غير مشتق لأن العجمي لا يشتق من العربي و إنما قال ذلك لأنه لم يوجد إلا علما في أسماء الأنبياء و قيل أنه مشتق من لطت الحوض إذا ألزقت عليه الطين و ملسته به و يقال هذا ألوط بقلبي من ذاك أي ألصق و الليطة القشر للصوقة بما اتصل به و الشهوة مطالبة النفس بفعل ما فيه اللذة و ليست كالإرادة لأنها قد تدعو إلى الفعل من جهة الحكمة و الشهوة ضرورية فينا من فعل الله تعالى و الإرادة من فعلنا يقال شهيت أشهى شهوة قال:

و أشعث يشهى النوم قلت له ارتحل‏

 

 إذا ما النجوم أعرضت و اسبكرت‏

 

فقام يجر البرد لو أن نفسه‏

 

 يقال له خذها بكفيك خرت‏

 

و الإسراف الخروج عن حد الحق إلى الفساد و الغابر الباقي قال الأعشى:

عض بما أبقى المواسي له‏

 

 من أمه في الزمن الغابر

 

. الإعراب‏

إنما صرف لوطا لخفته بكونه على ثلاثة أحرف ساكن الأوسط فقاومت الخفة أحد السببين و يجوز في قوله‏ «جَوابَ قَوْمِهِ» الرفع إلا أن الأجود النصب و عليه القراءة شهوة مصدر وضع موضع الحال و قوله‏ «إِلَّا امْرَأَتَهُ» استثناء متصل لأنه يجوز أن تدخل الزوجة في الأهل على التغليب في الجملة دون التفصيل و لم يقل من الغابرات لأنه أراد أنها ممن بقيت مع الرجال و مطرا مصدر ذكر للتأكيد كقوله ضربه ضربا.

المعنى‏

ثم عطف سبحانه على ما تقدم فقال‏ «وَ لُوطاً» أي و أرسلنا لوطا و قيل إن تقديره و اذكر لوطا قال الأخفش يحتمل المعنيين جميعا هاهنا و لم يحتمل في قصة عاد و ثمود إلا أرسلنا لأن فيها ذكر إلى و هو لوط بن هاران بن تارخ ابن أخي إبراهيم الخليل ع و قيل إنه كان ابن خالة إبراهيم و كانت سارة امرأة إبراهيم أخت لوط «إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَ تَأْتُونَ الْفاحِشَةَ» أي السيئة العظيمة القبح يعني إتيان الرجال في أدبارهم‏ «ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ

 

684
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[قصة لوط مع قومه‏] ص : 685

مِنَ الْعالَمِينَ» قيل ما نزا ذكر على ذكر قبل قوم لوط عن عمرو بن دينار قال الحسن و كانوا يفعلون ذلك بالغرباء ثم بين تلك الفاحشة فقال‏ «إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ» معناه أ تأتون الرجال في أدبارهم اشتهاء منكم أي تشتهونهم فتأتونهم و تتركون إتيان النساء اللاتي أباحها الله لكم‏ «بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ» أي متجاوزون عن الحد في الظلم و الفساد و مستوفون جميع المعايب إتيان الذكران و غيره‏ «وَ ما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ» أي لم يجيبوه عما قال‏ «إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ» قابلوا النصح و الوعظ بالسفاهة فقالوا أخرجوا لوطا و من آمن به من بلدتكم و المراد بالقرية البلدة كما قال أبو عمرو بن العلاء ما رأيت قرويين أفصح من الحسن البصري و الحجاج يريد بالقروي من يسكن المدن‏ «إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ» أي يتحرجون عن أدبار الرجال فعابوهم بما يجب أن يمدحوا به عن ابن عباس و مجاهد و قتادة و قيل معناه يتنزهون عن أفعالكم و طرائقكم‏ «فَأَنْجَيْناهُ» أي فخلصنا لوطا من الهلاك‏ «وَ أَهْلَهُ» المختصين به و أهل الرجل من يختص به اختصاص القرابة «إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ» أي من الباقين في قومه المتخلفين عن لوط حتى هلكت لأنها كانت على دينهم فلم تؤمن به و قيل معناه كانت من الباقين في عذاب الله عن الحسن و قتادة «وَ أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً» أي أرسلنا عليهم الحجارة كالمطر كما قال في آية أخرى‏ وَ أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ‏ «فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ» معناه تفكر و أنظر بعين العقل كيف كان مآل أمر المقترفين للسيئات و المنقطعين إليها و عاقبة فعلهم من عذاب الدنيا بالاستئصال قبل عذاب الآخرة بالخلود في النار.

 [قصة لوط مع قومه‏]

و جملة أمرهم‏

فيما روي عن أبي حمزة الثمالي و أبي بصير عن أبي جعفر ع‏ أن لوطا لبث في قومه ثلاثين سنة و كان نازلا فيهم و لم يكن منهم يدعوهم إلى الله و ينهاهم عن الفواحش و يحثهم على الطاعة فلم يجيبوه و لم يطيعوه و كانوا لا يتطهرون من الجنابة بخلاء أشحاء على الطعام فأعقبهم البخل الداء الذي لا دواء له في فروجهم و ذلك أنهم كانوا على طريق السيارة إلى الشام و مصر و كان ينزل بهم الضيفان فدعاهم البخل إلى أن كانوا إذا نزل بهم الضيف فضحوه و إنما فعلوا ذلك لتنكل النازلة عليهم من غير شهوة بهم إلى ذلك فأوردهم البخل هذا الداء حتى صاروا يطلبونه من الرجال و يعطون عليه الجعل و كان لوط سخيا كريما يقري الضيف إذا نزل به فنهوه عن ذلك و قالوا لا تقرين ضيفا جاء ينزل بك فإنك‏

685
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[قصة لوط مع قومه‏] ص : 685

إن فعلت فضحنا ضيفك فكان لوط إذا نزل به الضيف كتم أمره مخافة أن يفضحه قومه و لما أراد الله سبحانه عذابهم بعث إليهم رسلا مبشرين و منذرين فلما عتوا عن أمره بعث الله إليهم جبرائيل (ع) في نفر من الملائكة فأقبلوا إلى إبراهيم قبل لوط فلما رآهم إبراهيم ذبح عجلا سمينا فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم و أوجس منهم خيفة قالوا يا إبراهيم إنا رسل ربك و نحن لا نأكل الطعام إنا أرسلنا إلى قوم لوط و خرجوا من عند إبراهيم فوقفوا على لوط و هو يسقي الزرع فقال من أنتم قالوا نحن أبناء السبيل أضفنا الليلة فقال لوط إن أهل هذه القرية قوم سوء ينكحون الرجال في أدبارهم و يأخذون أموالهم قالوا قد أبطأنا فأضفنا فجاء لوط إلى أهله و كانت امرأته كافرة فقال قد أتاني أضياف في هذه الليلة فاكتمي أمرهم قالت أفعل و كانت العلامة بينها و بين قومها أنه إذا كان عند لوط أضياف بالنهار تدخن من فوق السطح و إذا كان بالليل توقد النار فلما دخل جبرائيل (ع) و الملائكة معه بيت لوط وثبت امرأته على السطح فأوقدت نارا فأقبل القوم من كل ناحية يهرعون إليه أي يسرعون و دار بينهم ما قصة الله تعالى في مواضع من كتابه فضرب جبرائيل (ع) بجناحه على عيونهم فطمسها فلما رأوا ذلك علموا أنهم قد أتاهم العذاب فقال جبرائيل ع يا لوط اخرج من بينهم أنت و أهلك إلا امرأتك فقال كيف أخرج و قد اجتمعوا حول داري فوضع بين يديه عمودا من نور و قال اتبع هذا العمود و لا يلتفت منكم أحد فخرجوا من القرية فلما طلع الفجر ضرب جبرائيل بجناحه في طرف القرية فقلعها من تخوم الأرضين السابعة ثم رفعها في الهواء حتى سمع أهل السماء نباح كلابهم و صراخ ديوكهم ثم قلبها عليها و هو قول الله عز و جل‏ «فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها» و ذلك بعد أن أمطر الله عليهم حجارة من سجيل و هلكت امرأته بأن أرسل الله عليها صخرة فقتلها و قيل قلبت المدينة على الحاضرين منهم فجعل عاليها سافلها و أمطرت الحجارة على الغائبين فأهلكوا بها و قال الكلبي أول من عمل عمل قوم لوط إبليس الخبيث لأن بلادهم أخصبت فانتجعها أهل البلدان فتمثل لهم إبليس في صورة شاب ثم دعاهم إلى دبره فنكح في دبره ثم عبثوا بذلك العمل فلما كثر ذلك فيهم عجت الأرض إلى ربها فسمعت السماء فعجت إلى ربها فسمع العرش فعج إلى ربه فأمر الله السماء أن تحصبهم و أمر الأرض أن تخسف بهم.

686
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأعراف(7): الآيات 85 الى 87] ص : 687

 

 [سورة الأعراف (7): الآيات 85 الى 87]

وَ إِلى‏ مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَ الْمِيزانَ وَ لا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85) وَ لا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَ اذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) وَ إِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَ طائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا وَ هُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (87)

اللغة

الإيفاء إتمام الشي‏ء إلى حد الحق فيه و منه إيفاء العهد و هو إتمامه بالعمل به و الكيل تقدير الشي‏ء بالمكيال حتى يظهر مقداره منه و الوزن تقديره بالميزان و المساحة تقديره بالذراع أو ما زاد عليه أو نقص و البخس النقص عن الحد الذي يوجبه الحق و الإفساد إخراج الشي‏ء إلى حد لا ينتفع به بدلا من حال ينتفع بها و ضده الإصلاح و الصد الصرف عن الفعل بالإغواء فيه كما يصد الشيطان عن ذكر الله و عن الصلاة يقال صده عن الأمر يصده أي منعه العوج بكسر العين في الدين و كل ما لا يرى و العوج بفتح العين في العود و كل ما يرى كالحائط و غيره و الطائفة الجماعة من الناس و هو من الطوف مأخوذة من أنها تجتمع على الطواف.

الإعراب‏

مدين اسم للمدينة أو القبيلة لا ينصرف للتعريف و التأنيث و جائز أن يكون أعجميا عن الزجاج‏ «بِكُلِّ صِراطٍ» بمعنى على كل صراط و يجوز تعاقب الحروف الثلاثة هنا الباء و على و في تقول لا تقعد بكل صراط و على كل صراط و في كل صراط لأنه اجتمع معاني‏

 

687
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 688

الأحرف الثلاثة فيه فإن الباء للإلصاق و هو قد لاصق المكان و على للاستعلاء و هو قد علا المكان و في للمحل و قد حل المكان و من آمن في موضع نصب بأنه مفعول به أي و تصدون المؤمنين بالله و إنما قال‏ «فَاصْبِرُوا» فجعل الصبر جزاء و هو لازم على كل حال لأن المعنى فسيقع جزاء كل فريق بما يستحقه من ثواب أو عقاب كأنه قال فأنتم مصبورون على حكم الله بذلك.

المعنى‏

ثم عطف سبحانه على ما تقدم من القصص قصة شعيب فقال‏ «وَ إِلى‏ مَدْيَنَ» أي و أرسلنا إلى مدين‏ «أَخاهُمْ شُعَيْباً» و قيل إن مدين ابن إبراهيم الخليل فنسبت القبيلة إليه قال عطاء هو شعيب بن توبة بن مدين بن إبراهيم و قال قتادة هو شعيب بن بويب قال ابن إسحاق هو شعيب بن ميكيل بن يشحب بن مدين بن إبراهيم و أم ميكيل بنت لوط و كان يقال له خطيب الأنبياء لحسن مراجعته قومه و هو أصحاب الأيكة و قال قتادة أرسل شعيب مرتين إلى مدين مرة و إلى أصحاب الأيكة مرة «قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ» قد مر تفسيره‏ «فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَ الْمِيزانَ» أي أتموا ما تكيلونه على الناس بالمكيال و ما تزنونه عليهم بالميزان و معناه أدوا حقوق الناس على التمام في المعاملات‏ «وَ لا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ» أي لا تنقصوهم حقوقهم و قال قتادة و السدي البخس الظلم و منه المثل تحسبها حمقاء و هي باخس‏ «وَ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها» يعني لا تعملوا في الأرض بالمعاصي و استحلال المحارم بعد أن أصلحها الله بالأمر و النهي و بعثة الأنبياء و تعريف الخلق مصالحهم و قيل لا تفسدوا بأن لا تؤمنوا فيهلك الله الحرث و النسل‏ «ذلِكُمْ» الذي أمرتكم به‏ «خَيْرٌ لَكُمْ» و أعود عليكم‏ «إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» أي مصدقين بالله و إنما علق خيريته بالإيمان و إن كان هو خيرا على كل حال من حيث إن من لا يكون مؤمنا بالله و عارفا بنبيه لم يمكنه أن يعلم أن ذلك خير له فكأنه قال لهم كونوا مؤمنين لتعلموا أن ذلك خير لكم و يمكن أن يكون المراد لا ينفعكم إيفاء الكيل و الوزن إلا بعد أن تكونوا مؤمنين و قال الفراء لم يكن لشعيب معجزة على نبوته لأن الله تعالى لم يذكر له دلالة في القرآن و هو غلط لأنه لا يجوز أن يخلي الله تعالى نبيا عن معجزة هذا و قد قال سبحانه‏ «قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا» فجاء بالفاء جوابا للجزاء و يجوز أن يكون له معجزات و إن لم تذكر في القرآن كما أن أكثر آيات نبينا ص و معجزاته غير مذكورة في القرآن و لم يوجب ذلك نفيها «وَ لا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ» قيل في معناه أقوال (أحدها) أنهم كانوا يقعدون‏

688
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 688

على طريق من قصد شعيبا للإيمان به فيخوفونه بالقتل عن ابن عباس و الحسن و قتادة و مجاهد (و ثانيها) أنهم كانوا يقطعون الطريق فنهاهم عن أبي هريرة و عبد الرحمن بن زيد و يمكن أن يكونا أرادا به أنهم كانوا يقطعون الطريق على الناس عن قصد شعيب فيرجع إلى معنى القول الأول (و ثالثها) أن المراد لا تقعدوا بكل طريق من طرق الدين فتطلبونه له العوج بإيراد الشبه و تقولون لشعيب إنه كذاب فلا يفتننكم عن الدين و تتوعدونه‏ «وَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ» أي تمنعون عن دين الله من أراد أن يؤمن به من الناس‏ «وَ تَبْغُونَها عِوَجاً» الهاء راجعة إلى السبيل أي تبغون السبيل عوجا عن الحق و هو أن تقولوا هذا كذب و هذا باطل و ما أشبه ذلك عن قتادة و قيل معناه تلتمسون لها الزيغ عن مجاهد و قيل معناه لا تستقيمون على طريق الهدى عن الحسن و قيل تريدون الاعوجاج و العدول عن القصد عن الزجاج‏ «وَ اذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ» أي كثر عددكم قال ابن عباس و ذلك أن مدين بن إبراهيم تزوج بنت لوط فولدت حتى كثر أولادها قال الزجاج و جائز أن يكون كثركم جعلكم أغنياء بعد أن كنتم فقراء و جائز أن يكونوا غير ذوي مقدرة و أقدار فكثرهم و جائز أن يكون عددهم قليلا فكثرهم‏ «وَ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ» يعني فكروا في عواقب أمر عاد و ثمود و لوط و إنزال العقاب بهم و استئصال شافتهم و ما حل بهم من البوار «وَ إِنْ كانَ طائِفَةٌ» أي جماعة «مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ» أي صدقوني في رسالتي و قبلوا قولي‏ «وَ طائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا» لم يصدقوني‏ «فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا» خاطب الطائفتين و معناه لا يغرنكم تفرق الناس عني فإن جميل العاقبة لي و سيجزي الله كل واحد من الفريقين بما يستحقه على عمله في الدنيا أو الآخرة دون الدنيا «وَ هُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ» لأنه لا يجوز عليه الجور و لا المحاباة في الحكم و هذا وعيد لهم قال البلخي أمرهم في هذه الآية بالكف عما كانوا يفعلون من الصد عن الدين و الإبعاد عليه و الكف عنه خير و رشد و لم يأمرهم بالمقام على الكفر و في ذلك دلالة على أنه ليس كل أفعال الكفار كفر و معصية كما يذهب إليه بعض أهل النظر.

689
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأعراف(7): الآيات 88 الى 89] ص : 690

 

 [سورة الأعراف (7): الآيات 88 الى 89]

قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَ وَ لَوْ كُنَّا كارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها وَ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْ‏ءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَ بَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَ أَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ (89)

اللغة

العود الرجوع و هو مصير الشي‏ء إلى حال كان عليها و منه إعادة الله الخلق و تستعمل لفظة الإعادة في الفعل مرة ثانية حقيقة و في فعل مثله مجازا و كلاهما يسمى إعادة تقول أعدت الكتابة و القراءة و معناه فعلت مثله قال الزجاج يقال قد عاد علي من فلان مكروه و إن لم يكن سبقه مكروه قبل ذلك و تأويله أنه قد لحقني منه مكروه و قال الشاعر:

لأن كانت الأيام أحسن مرة

 

 إلي فقد عادت لهن ذنوب‏

 

الافتراء مشتق من فري الأديم و هو مثل الاختلاف و الافتعال و الملة الديانة التي يجتمع على العمل بها فرقة عظيمة و الأصل فيه تكرار الأمر من قولهم طريق مليل إذا تكرر سلوكه حتى توطأ و منه الملل و هو تكرر الشي‏ء على النفس حتى تضجر و الملة الرماد الحار تدفن فيه الخبزة حتى تنضج لتكرار الحمي عليها و الفتح الحكم و الفاتح و الفتاح الحاكم لأنه يفتح باب العلم الذي انغلق على غيره و فاتحته في كذا أي قاضيته قال ابن عباس ما كنت أدري ما الفتح حتى سمعت بنت سيف بن ذي يزن و قد جرى بيني و بينها كلام فقالت انطلق أفاتحك إلى القاضي أي أحاكمك إليه.

المعنى‏

ثم أخبر سبحانه عما دار بينه و بين قومه فقال‏ «قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ» أي رفعوا أنفسهم فوق مقدارها «لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا» أي نخرجنك و أتباعك من المؤمنين بك من بلدتنا التي هي وطنك و مستقرك‏ «أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا» أو لترجعن إلى ملتنا التي كنا عليها لأنه كان عندهم و في ظنهم أنه كان قبل ذلك على دينهم فلذلك أطلقوا لفظ العود و قد كان ع يخفي دينه فيهم و يحتمل أنهم أرادوا به قومه فأدخلوه معهم في الخطاب و يحتمل أن يكون المراد به أو لتدخلن في ديننا و طريقتنا لأن العود يذكر و يراد به الابتداء كما قاله الزجاج و يكون بمعنى الصيرورة و مثله‏

 

690
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 690

قول الشاعر:

تلك المكارم لا قعبان من لبن‏

 

 شيبا بماء فعادا بعد أبوالا

 

و حقيقة المعنى أنا لا نمكنك من المقام في بلدنا و أنت على غير ملتنا فأما أن تخرج من بلدتنا أو تدخل في ملتنا «قالَ أَ وَ لَوْ كُنَّا كارِهِينَ» أي قال شعيب لهم أ تعيدوننا في ملتكم و تردوننا إليها و لو كنا كارهين للدخول فيها و المعنى إنا مع كراهتنا لذلك لما عرفناه من بطلانه لا نرجع فأدخل همزة الاستفهام على و لو و قيل المعنى إنكم لا تقدرون على ردنا إلى دينكم على كره منا فيكون على هذا كارهين بمعنى مكرهين‏ «قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها» أي إن عدنا في ملتكم بأن نحل ما تحلونه و نحرم ما تحرمونه و ننسبه إلى الله تعالى بعد إذ نجانا الله تعالى منها بأن أقام الدليل و الحجة على بطلانها و أوضح الحق لنا فقد اختلقنا على الله كذبا فيما دعوناكم إليه‏ «وَ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا» قيل في معنى هذه المشيئة مع حصول العلم بأنه سبحانه لا يشاء عبادة الأصنام أقوال (أحدها) أن المراد بالملة الشريعة و ليس المراد بها ما يرجع إلى الاعتقاد في الله سبحانه و صفاته مما لا يجوز أن تختلف العبادة فيه و في شريعتهم أشياء يجوز أن يتعبد الله تعالى بها فكأنه قال ليس لنا أن نعود في ملتكم إلا أن يشاء الله أن يتعبدنا بها و ينقلنا إليها و ينسخ ما نحن فيه من الشريعة عن الجبائي و القاضي (و ثانيها) أنه سبحانه علق ما لا يكون بما علم لأنه لا يكون على وجه التبعيد كما قال‏ وَ لا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ و كقول الشاعر:

إذا شاب الغراب أتيت أهلي‏

 

 و صار القار كاللبن الحليب‏

 

فيكون المعنى كما لا يشاء الله عبادة الأصنام و القبائح لأن ذلك لا يليق بحكمته فكذلك لا نعود في ملتكم عن جعفر بن حرب (و ثالثها) أن المراد إلا أن يشاء الله أن يمكنكم من إكراهنا و يخلي بينكم و بينه فنعود إلى إظهارها مكرهين و يقوي هذا قوله‏ «أَ وَ لَوْ كُنَّا كارِهِينَ» (و رابعها) أن تعود الهاء التي في قوله‏ «فِيها» إلى القرية لا إلى الملة لأن ذكر القرية قد تقدم كما

691
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأعراف(7): الآيات 90 الى 93] ص : 692

أن ذكر الملة تقدم فيكون تحقيق الكلام إنا سنخرج من قريتكم و لا نعود فيها إلا أن يشاء الله بما ينجزه لنا من الوعد في الإظهار عليكم و الظفر بكم فنعود فيها (و خامسها) أن يكون المعنى إلا أن يشاء الله أن يردكم إلى الحق فنكون جميعا على ملة واحدة غير مختلفة لأنه لما قال حاكيا عنهم أو لتعودن في ملتنا كان معناه أو لنكونن على ملة واحدة غير مختلفة فحسن أن يقول من بعد إلا أن يشاء الله أن يجمعكم معنا على ملة واحدة فإن قيل فكان الله تعالى ما شاء أن يرجع الكفار إلى الحق قلنا بلى قد شاء ذلك إلا أنه إنما شاء بأن يؤمنوا مختارين ليستحقوا الثواب و لم يشأ على كل حال إذ لو شاءه على كل حال جاز ألا يقع منهم ذلك فكأنه قال إن ملتنا لا تكون واحدة أبدا إلا أن يشاء الله أن يلجئكم إلى الإيمان و الاجتماع معنا على ملتنا «وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْ‏ءٍ عِلْماً» انتصب علما على التمييز و تقديره وسع علم ربنا كل شي‏ء فنقل الفعل إلى نفسه لما فيه من جزالة اللفظ و فخامة المعنى و قيل في وجه اتصاله بما قبله إن الملة إنما يتعبد بها على حسب ما في المعلوم من المصلحة فالمعنى أنه سبحانه أحاط علمه بكل شي‏ء فهو أعلم بما هو أصلح لنا فيتعبدنا به و قيل إن المراد به أنه عالم بما يكون منا من عود أو ترك‏ «عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا» في الانتصار منكم و في كل أمورنا «رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَ بَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ» هذا سؤال من شعيب و رغبة منه إلى الله في أن يحكم بينه و بين قومه بالحق على سبيل الانقطاع إليه سبحانه و إن كان من المعلوم أن الله سيفعله لا محالة و قيل إن معناه اكشف بيننا و بين قومنا و بين أينا على حق و هذا استعجال منه للنصر «وَ أَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ» أي خير الحاكمين و الفاصلين.

 [سورة الأعراف (7): الآيات 90 الى 93]

وَ قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ (92) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَ قالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَ نَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى‏ عَلى‏ قَوْمٍ كافِرِينَ (93)

692
مجمع البیان في تفسير القرآن4

اللغة ص : 693

 

اللغة

غني بالمكان يغنى غنا و غنانا أقام به كأنه استغنى بذلك المكان عن غيره و المغاني المنازل و أصل الباب الغني. قال حاتم طي‏ء:

غنينا زمانا بالتصعلك و الغنى‏

 

 فكلا سقاناه بكأسيهما الدهر

 

فما زادنا بغيا على ذي قرابة

 

 غنانا و لا أزرى بأحسابنا الفقر

 

و الأسى شدة الحزن يقول أسى يأسي أسا و قال يقولون لا تهلك أسى و تجمل.

الإعراب‏

 «إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ» جواب القسم و قد سد مسد جواب الشرط من قوله‏ «لَئِنِ» و إذا هاهنا ملغاة لأنها وقعت حشو الكلام و ما بعدها يعتمد على ما قبلها «الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً» الأول في موضع رفع بالابتداء و خبره‏ «كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا» و إنما أعيد مرة ثانية من غير كناية لتغليظ الأمر في تكذيبهم شعيبا مع البيان أنهم الذين حصلوا على الخسران لا من نسبوه إلى ذلك من أهل الإيمان و هم في قوله‏ «هُمُ الْخاسِرِينَ» فصل و إنما دخل الفصل مع أن المضمر لا يوصف لأنه يحتاج فيه إلى التوكيد ليتمكن معناه في النفس و إن الذي بعده من المعرفة لا يخرجه ذلك من معنى الخبر و إن كان الأصل في الخبر النكرة.

المعنى‏

ثم حكى الله سبحانه ما قالت الجماعة الكافرة الجاحدة بآيات الله فقال‏ «وَ قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ» أي من قوم شعيب الباقين منهم‏ «لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً» في دينه و تركتم دينكم انقيادا لأمره و نهيه لأن الاتباع هو طلب الثاني موافقة الأول فيما دعا إليه‏ «إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ» و الخسران ذهاب رأس المال فكأنهم قالوا إن اتبعتموه كنتم بمنزلة من ذهب رأس ماله و قيل خاسرون مغبونون عن ابن عباس و قيل هالكون‏ «فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ» أي فأخذ قوم شعيب الزلزلة عن الكلبي و قيل أرسل الله عليهم رمدة و حرا شديدا فأخذ بأنفاسهم فدخلوا أجواف البيوت فدخل عليهم البيوت فلم ينفعهم ظل و لا ماء و أنضجهم الحر فبعث الله تعالى سحابة فيها ريح طيبة فوجدوا برد الريح و طيبها و ظل السحابة فتنادوا عليكم بها فخرجوا إلى البرية فلما اجتمعوا تحت السحابة ألهبها الله عليهم نارا و رجفت بهم الأرض فاحترقوا كما يحترق الجراد المقلي و صاروا رمادا و هو عذاب يوم الظلة عن ابن عباس و غيره من المفسرين و قيل‏

بعث الله عليهم صيحة واحدة فماتوا عن أبي عبد الله (ع)

و قيل إنه كان لشعيب قومان قوم أهلكوا بالرجفة و قوم هم أصحاب الظلة «فَأَصْبَحُوا

 

693
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأعراف(7): الآيات 94 الى 95] ص : 694

 

فِي دارِهِمْ» أي منازلهم‏ «جاثِمِينَ» أي ميتين ملقين على وجوههم‏ «الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا» أي كأنهم لم يقيموا بها قط لأن المهلك يصير كأن لم يكن و قيل كأن لم يغنوا فيها كأن لم يعيشوا فيها مستغنين عن قتادة و قيل كأن لم يعمروا فيها عن ابن عباس‏ «الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً» عاد اللفظ تأكيدا و تغليظا «كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ» مر معناه بين سبحانه أنهم الخاسرون دون من آمن به‏ «فَتَوَلَّى عَنْهُمْ» شعيب أي أعرض عنهم لما رأى إقبال العذاب عليهم إعراض الآيس منهم‏ «وَ قالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي» فيما أمرني فلم تؤمنوا «وَ نَصَحْتُ لَكُمْ» فلم تقبلوا و معناه أن ما نزل بكم من البلاء و إن كان عظيما فقد استوجبتم ذلك بجنايتكم على أنفسكم‏ «فَكَيْفَ آسى‏» أي فكيف أحزن‏ «عَلى‏ قَوْمٍ كافِرِينَ» حل العذاب بهم مع استحقاقهم له و قوله‏ «فَكَيْفَ آسى‏» و إن كان على لفظ الاستفهام فالمراد به النفي لأن جوابه في هذا الموضع لا يصح إلا بالنفي و إنما يدخله معنى الإنكار أيضا لهذه العلة و هذا كما قال العجاج:

" أ طربا و أنت قنسري‏

 

 

 

و هذا تسل من شعيب بما يذكر من حاله معهم في مناصحته لهم و تأديته رسالة ربه إليهم و أنه لا ينبغي أن يأسى عليهم مع تمردهم في كفرهم و شدة عتوهم قال البلخي و في هذا دلالة على أنه لا يجوز للمسلم أن يدعو للكافر بالخير و أنه لا يجوز الحزن على هلاك الكافرين و الظالمين.

 [سورة الأعراف (7): الآيات 94 الى 95]

وَ ما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَ الضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَ قالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَ السَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ (95)

اللغة

التبديل وضع أحد الشيئين مكان الآخر و أصل العفو الترك من قوله‏ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْ‏ءٌ فمعنى قوله‏ «عَفَوْا» تركوا حتى كثروا قال:

و لكنا نعض السيف منها

 

 بأسوق عافيات اللحم كوم‏

 

 

694
مجمع البیان في تفسير القرآن4

الإعراب ص : 695

و البغتة الفجأة و هي الأخذ على غرة من غير تقدمة تؤذن بالنازلة يقال بغته يبغته بغتا و بغتة قال:

و أنكأ شي‏ء حين يفجأك البغت‏

 

 

 

. الإعراب‏

أصل يضرعون يتضرعون فأدغمت التاء في الضاد استطالة و إنما يدغم الناقص في الزائد و لا يدغم الزائد في الناقص لما في ذلك من الإخلال به و هو في موضع رفع بأنه خبر لعل و بغتة مصدر وضع موضع الحال.

المعنى‏

ثم ذكر سبحانه بعد ما اقتص من قصص الأنبياء و تكذيب أممهم إياهم و ما نزل بهم من العذاب سنة في أمثالهم تسلية لنبينا ص فقال‏ «وَ ما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ» من القرى التي أهلكناها بالعذاب و قيل في سائر القرى عن الجبائي‏ «مِنْ نَبِيٍّ» و هو من يؤدي عنا بلا واسطة من البشر فلم يؤمنوا به بعد قيام الحجة عليهم‏ «إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها» يعني أهل تلك القرية «بِالْبَأْساءِ وَ الضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ» أي ليتنبهوا و يعلموا أنه مقدمة العذاب و يتضرعوا و يتوبوا عن شركهم و مخالفتهم و يعني بالبأساء ما نالهم من الشدة في أنفسهم و بالضراء ما نالهم في أموالهم و قيل إن البأساء الجوع و الضراء الأمراض و الشدائد عن الحسن و قيل إن البأساء الجوع و الضراء الفقر عن السدي‏ «ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ» أي رفعنا السيئة و وضعنا الحسنة مكانها و السيئة الشدة و الحسنة الرخاء عن ابن عباس و الحسن و قتادة و مجاهد و سميت سيئة لأنها تسوء صاحبها قال الجبائي جرى في هذا الموضع على سبيل التوسع و المجاز «حَتَّى عَفَوْا» أي كثروا عن ابن عباس و مجاهد و السدي و قيل سمنوا عن الحسن و قيل أعرضوا عن الشكر عن أبي مسلم‏ «وَ قالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَ السَّرَّاءُ» أي قال بعضهم لبعض هكذا عادة الدهر فكونوا على ما أنتم عليه كما كان آباؤكم كذلك فلم ينتقلوا عن حالهم فتنتقلوا «فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً» أي فجأة عبرة لمن بعدهم‏ «وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ» أي لم يعلموا أن العذاب نازل بهم إلا بعد حلوله و حقيقة المعنى في الآية أنه سبحانه يدبر خلقه الذين يعصونه بأن يأخذهم تارة بالشدة و تارة بالرخاء فإذا أفسدوا على الأمرين جميعا أخذهم فجأة ليكون ذلك أعظم في الحسرة و أبلغ في العقوبة نعوذ بالله من سخطه.

695
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأعراف(7): الآيات 96 الى 99] ص : 696

 

 [سورة الأعراف (7): الآيات 96 الى 99]

وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى‏ آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ وَ لكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (96) أَ فَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى‏ أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَ هُمْ نائِمُونَ (97) أَ وَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرى‏ أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَ هُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَ فَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ (99)

القراءة

 «أَ وَ أَمِنَ» بفتح الواو عراقي و ابن فليح و الباقون أو أمن بسكون الواو إلا أن ورشا قرأه على أصله في إلقاء حركة الهمزة على الساكن قبلها فقال أ و من.

الحجة

قال أبو علي أو حرف استعمل على ضربين (أحدهما) أن يكون بمعنى أحد الشيئين أو الأشياء في الخبر و الاستفهام (و الآخر) أن يكون للإضراب عما قبلها في الخبر و الاستفهام كما أن أم المنقطعة في الاستفهام و الخبر كذلك فأما التي تكون لأحد الشيئين أو الأشياء فمثاله في الخبر زيد أو عمرو ضربته و جاء زيد أو عمرو كما تقول أحدهما جاء و أحدهما ضربته و هي إذا كانت للإباحة كذلك أيضا و هو قوله جالس الحسن أو ابن سيرين و أما أو التي تجي‏ء للإضراب بعد الخبر و الاستفهام فكقولك أنا أخرج ثم تقول أو أقيم أضربت عن الخروج و أثبت الإقامة كأنك قلت لا بل أقيم كما أنك في قولك إنها لإبل أم شاة مضرب عن الأول و لا يقع بعد أو هذه إلا جملة و من ثم قال سيبويه في قوله‏ وَ لا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً أنك لو قلت أو لا تطع كفورا انقلب المعنى و إنما كان ينقلب المعنى لأنه إذا قال لا تطع منهم آثما أو كفورا فكأنه قال لا تطع هذا الضرب و لا تطع هؤلاء فإنما لزمه أن لا يطيع واحدا منهما لأن كل واحد منهما في معنى الآخر في وجوب ترك الطاعة له كما جاز له أن يجمع بين مجالسة الحسن و ابن سيرين لأن كل واحد منهما أهل للمجالسة و مجالسة كل واحد منهما كمجالسة الآخر و لو قال و لا تطع منهم آثما أو لا تطع كفورا كان بقوله أو لا تطع قد أضرب عن ترك طاعة الأول و كان يجوز أن يطيعه و في جواز ذلك انقلاب المعنى و وجه قراءة من قرأ أو أمن أنه جعل أو للإضراب لا على أنه أبطل الأول و لكن كقوله‏ الم تَنْزِيلُ‏

 

696
مجمع البیان في تفسير القرآن4

اللغة ص : 697

الْكِتابِ‏ ثم قال‏ أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ‏ فجاء هذا ليبصروا ضلالتهم فكان المعنى أو أمنوا هذه الضروب من معاقبتهم و الأخذ لهم و إن شئت جعلته أو التي في قولك ضربت زيدا أو عمرا كأنك أردت أ فآمنوا إحدى هذه العقوبات و وجه قراءة من قرأ «أَ وَ أَمِنَ» أنه أدخل همزة الاستفهام على حرف العطف كما دخل في نحو قوله‏ أَ ثُمَّ إِذا ما وَقَعَ‏ و قوله‏ أَ وَ كُلَّما عاهَدُوا عَهْداً و من حجة من قرأ ذلك أنه أشبه بما قبله و ما بعده أ لا ترى أن قبله‏ «أَ فَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى‏» و بعده‏ «أَ فَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ» أَ وَ لَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ‏ فكما أن هذه الأشياء عطف حرف دخل عليها حرف الاستفهام كذلك يكون‏ «أَ وَ أَمِنَ».

اللغة

البركات الخيرات النامية و أصله الثبوت و الأمن و الثقة و الطمأنينة نظائر في اللغة و ضد الأمن الخوف و ضد الثقة الريبة و ضد الطمأنينة الانزعاج و الأمن الثقة بالسلامة من الخوف و البأس العذاب و البؤس الفقر و الأصل الشدة و رجل بئيس شديد في القتال و النوم نقيض اليقظة و هو سهو يغمر القلب و يغشي العين و يضعف الحس و ينافي العلم يقال نام الرجل ينام نوما و هو حسن النيمة إذا كان حسن هيئة النوم و رجل نومة بسكون الواو و إذا كان خسيسا لا يؤبه به و رجل نومة بفتح الواو إذا كان كثير النوم و النيم الفرو لأن من شأنه أن ينام فيه أو لأنه يغشى كما يغشى النوم و الضحى صدر النهار في وقت انبساط الشمس و أصله الظهور من قولهم ضحا الشمس يضحو ضحوا و ضحوا و فعل ذلك الأمر ضاحية إذا فعله ظاهرا و الأضحية لأنها تذبح عند الضحى يوم العيد قال الخليل المكر الاحتيال بإظهار خلاف الإضمار و قيل إن أصل المكر الالتفاف و منه ساق ممكورة أي ملتفة حسنة قال ذو الرمة:

عجزاء ممكورة خمصانة قلق‏

 

 عنها الوشاح و ثم الجسم و القصب‏

 

و المكور شجر ملتف (يستن في علقى و في مكور) فمعنى قولك مكر فلان يمكر مكرا التف تدبيره على مكروه لصاحبه.

الإعراب‏

لو معناه تعليق الثاني بالأول الذي يجب الثاني بوجوبه و ينتفي بانتفائه على طريقة كان، و إن فيها هذا المعنى على طريقة يكون، و الفرق بينهم من تعلق الثاني‏

697
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 698

بالأول الذي يمكن أن يكون و يمكن أن لا يكون كقولك إن آمن هذا الكافر استحق الجواب و هذا مقدور و ليس كذلك لو لأنها قد تدخل على ما لا يمكن أن يكون كقولك لو كان الجسم سليما لاستغنى عن صانع و إنما فتحت أن بعد لو لأنها وقعت في الموضع الذي يختص بالفعل فإن لو ليس يدخل إلا على الفعل و أن مع اسمها و خبرها في تأويل اسم مفرد فيكون تقديره لو وقع أن أهل القرى آمنوا فيكون أن مع ما بعدها في موضع رفع بالفعل المقدر بعد لو و إنما دخلت همزة الاستفهام على حرف العطف من قوله‏ «أَ فَأَمِنَ» «أَ وَ أَمِنَ» مع أن الاستفهام للاستئناف و العطف بخلافه لأنهما إنما يتنافيان في المفرد لأن الثاني إذا عمل فيه الأول كان من الكلام الأول و الاستئناف قد أخرجه من أن يكون منه و أما في عطف جملة على جملة فيصح لأنه على استئناف جملة بعد جملة.

المعنى‏

ثم بين سبحانه أن كل من أهلكه من الأمم المتقدم ذكرهم إنما أتوا في ذلك من قبل نفوسهم فقال‏ «وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى‏» التي أهلكناها بسبب جحودهم و عنادهم‏ «آمَنُوا» و صدقوا رسلنا «وَ اتَّقَوْا» الشرك و المعاصي‏ «لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ» أي خيرات نامية «مِنَ السَّماءِ» بإنزال المطر «وَ» من‏ «الْأَرْضِ» بإخراج النبات و الثمار كما وعد نوح بذلك أمته فقال‏ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً الآيات و قيل بركات السماء إجابة الدعاء و بركات الأرض تيسير الحوائج‏ «وَ لكِنْ كَذَّبُوا» الرسل‏ «فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ» من المعاصي و المخالفة و تكذيب الرسل فحبسنا السماء عنهم و أخذناهم بالضيق عقوبة لهم على فعلهم‏ «أَ فَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى‏» المكذبون لك يا محمد «أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا» أي عذابنا «بَياتاً» ليلا «وَ هُمْ نائِمُونَ» في فرشهم و منازلهم كما أتى المكذبين قبلهم‏ «أَ وَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرى‏ أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى» أي عذابنا نهارا عند ارتفاع الشمس‏ «وَ هُمْ يَلْعَبُونَ» أي و هم في غير ما ينفعهم أو يعود عليهم بنفع فإن من اشتغل بدنياه و أعرض عن آخرته فهو كاللاعب و المعني بأهل القرى كل أهل قرية يقيم على معاصي الله في كل وقت و زمان و إن نزلت بسبب أهل القرى الظالم أهلها المشركين في زمن النبي ص و إنما خص سبحانه هذين الوقتين لأنه أراد أنه لا يجوز لهم أن يأمنوا ليلا و لا نهارا عن الحسن‏ «أَ فَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ» أي أ فبعد هذا كله أمنوا عذاب الله أن يأتيهم من حيث لا يشعرون عن الجبائي قال دخلت الفاء للتعقيب و سمي العذاب مكرا لنزوله بهم من حيث لا يعلمون كما أن المكر ينزل بالممكور به من جهة الماكر من حيث لا يعلمه و قيل إن مكر الله استدراجه إياهم بالصحة و السلامة و طول‏

698
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأعراف(7): الآيات 100 الى 102] ص : 699

 

العمر و تظاهر النعمة «فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ» يسأل عن هذا فيقال إن الأنبياء و المعصومين أمنوا مكر الله و ليسوا بخاسرين و جوابه من وجوه (أحدها) أن معناه لا يأمن مكر الله من المذنبين إلا القوم الخاسرون بدلالة قوله سبحانه‏ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ‏ (و ثانيها) أن معناه لا يأمن عذاب الله للعصاة إلا الخاسرون و المعصومون لا يأمنون عذاب الله للعصاة و لهذا سلموا من مواقعة الذنوب (و ثالثها) لا يأمن عقاب الله جهلا بحكمته إلا الخاسرون و معنى الآية الإبانة عما يجب أن يكون عليه المكلف من الخوف لعقاب الله تعالى ليسارع إلى طاعته و اجتناب معاصيه و لا يستشعر الأمن من ذلك فيكون قد خسر في دنياه و آخرته بالتهالك في القبائح.

 [سورة الأعراف (7): الآيات 100 الى 102]

أَ وَ لَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَ نَطْبَعُ عَلى‏ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (100) تِلْكَ الْقُرى‏ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَ لَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى‏ قُلُوبِ الْكافِرِينَ (101) وَ ما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَ إِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ (102)

القراءة

قرأ يعقوب برواية زيد أ و لم نهد بالنون و كذلك في طه و السجدة و به قرأ أبو عبد الرحمن السلمي و قتادة و الباقون بالياء.

الحجة

من قرأ نهد بالنون فإنه للتعظيم و هذا يقوي أن المعنى في قوله‏ «أَ وَ لَمْ يَهْدِ» بالياء أ و لم يبين الله سبحانه لهم دون أن يكون المعنى أ و لم يهد لهم مشيئتنا أو اصطلامنا لمن أهلكناه.

اللغة

القصص إتباع الحديث الحديث يقال فلان يقص الأثر أي يتبعه و منه المقص لأنه يتبع في القطع إثر القطع و النبأ الخبر عن أمر عظيم الشأن و لذلك أخذ منه اسم نبي‏

 

699
مجمع البیان في تفسير القرآن4

الإعراب ص : 700

و الوجدان و الإلفاء و الإدراك و المصادفة نظائر.

الإعراب‏

نطبع ليس بمحمول على أصبناهم لأنه لو حمل عليه لكان و لطبعنا و لكنه على الاستئناف أي و نحن نطبع، و «مِنْ عَهْدٍ» من هنا للتبعيض لأنه إذا لم يوجد بعض العهد لم يوجد الجميع و الأولى أن تكون من مزيدة للتعميم و استغراق الجنس و قيل إن أصلها لابتداء الغاية فدخلت على ابتداء الجنس إلى انتهائه، «وَ إِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ» إن هذه هي المخففة من الثقيلة و إذا خففت جاز إلغاؤها من العمل و أن يليها الفعل لأنها حينئذ قد صارت خارجة من شبه الفعل.

المعنى‏

ثم أنكر سبحانه عليهم تركهم الاعتبار بمن تقدمهم من الأمم فقال‏ «أَ وَ لَمْ يَهْدِ» و هو استفهام يراد به التقرير أي لو لم يبين الله بالنون أو لم نبين عن ابن عباس و مجاهد و السدي و قيل معناه أ و لم يهد ما تلونا من أنباء القرى و قيل تقديره أ و لم يهد لهم مشيئتنا لأن قوله‏ «أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ» في موضع رفع بأنه فاعل يهدي‏ «لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها» معناه الذين خلفوا في الأرض من بعد أهلها الذين أهلكهم الله بتكذيبهم للرسل‏ «أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ» يعني أ و لم نبين إنا لو شئنا أهلكناهم بعقاب ذنوبهم كما أهلكنا الأمم الماضية قبلهم‏ «وَ نَطْبَعُ عَلى‏ قُلُوبِهِمْ» قد ذكرنا معنى الطبع و الختم في أوائل سورة البقرة «فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ» الوعظ و لا يقبلونه ثم أخبر سبحانه عن أهل القرى التي ذكرها و قص خبرها فقال‏ «تِلْكَ الْقُرى‏» و المخاطبة للنبي ص‏ «نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها» لتتفكر فيها و تخبر قومك بها ليتذكروا و يعتبروا و يحذروا عن الإصرار على مثل حال أولئك المغترين بطول الإمهال في النعم السابغة و المنن المتظاهرة «وَ لَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ» أي الدلالات و الحجج و إنما أضاف الرسل إليهم مع أنهم رسل الله لأن المرسل مالك الرسالة و قد ملك العباد الانتفاع بها و الاهتداء بما فيها من البيان‏ «فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ» معناه فما أهلكناهم إلا و قد كان في معلومنا أنهم لا يؤمنون أبدا عن مجاهد قال و يريد بقوله‏ «مِنْ قَبْلُ» من قبل الهلاك و هو بمنزلة قوله‏ وَ لَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ‏ و قيل معناه إن عتوهم في كفرهم و تمردهم فيه يحملهم على أن لا يتركوه إلى الإيمان فما كانوا ليؤمنوا بعد أن جاءتهم الرسل بالمعجزات بما كذبوا به من قبل رؤيتهم تلك البينات عن الحسن و قيل معناه ما كان هؤلاء الخلف ليؤمنوا بما كذب به أوائلهم من الأمم و قال الأخفش بما كذبوا معناه بتكذيبهم فجعل ما مصدرية «كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى‏ قُلُوبِ الْكافِرِينَ» قيل إن الله سبحانه شبه‏

700
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 700

الكفر بالصدإ لأنه يذهب عن القلوب بحلاوة الإيمان و نور الإسلام كما يذهب الصدأ بنور السيف و صفاء المرآة و لما صاروا عند أمر الله لهم بالإيمان إلى الكفر جاز أن يضيف الله سبحانه الطبع إلى نفسه كما قال‏ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ‏ و إن كانت السورة لم تزدهم ذلك عن جعفر بن حرب و البلخي و وجه التشبيه في الكاف و معناه أن دلالته على أنهم لا يؤمنون كالطبع على قلوب الكافرين الذين في مثل صفتهم و قيل معناه كما دل الله لكم بالإخبار على إنهم لا يؤمنون فكذلك يدل للملائكة بالطبع على أنهم لا يؤمنون‏ «وَ ما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ» أي ما وجدنا لأكثر المهلكين‏ «مِنْ عَهْدٍ» أي من وفاء بعهد كما يقال فلان لا عهد له أي لا وفاء له بالعهد و ليس بحافظ للعهد و يجوز أن يكون المراد بهذا العهد ما أودع الله العقول من وجوب شكر المنعم و طاعة المالك المحسن و اجتناب القبائح و يجوز أن يكون المراد به ما أخذ على المكلفين على ألسنة الأنبياء أن يعبدوه و لا يشركوا به شيئا و هو قول الحسن‏ «وَ إِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ» اللام و إن للتأكيد و المعنى و إنا وجدنا أكثرهم ناقضين للعهد مخلفين للوعد و يسأل فيقال كيف قال أكثرهم و كلهم فسقة و كيف يجوز أن يكون كافر غير فاسق و الجواب أنه قد يكون الكافر عدلا في دينه غير مرتكب لما يحرم في طريقته فعلى هذا يكون المعنى و إن أكثرهم مع كفرهم فاسق في دينه غير لازم لمذهبه ناقض للعهد و قليل الوفاء بالوعد.

701
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأعراف(7): الآيات 103 الى 108] ص : 702

 

 [سورة الأعراف (7): الآيات 103 الى 108]

ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى‏ بِآياتِنا إِلى‏ فِرْعَوْنَ وَ مَلائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103) وَ قالَ مُوسى‏ يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلى‏ أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ (105) قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) فَأَلْقى‏ عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (107)

وَ نَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108)

القراءة

قرأ نافع وحده حقيق علي بتشديد الياء و الباقون بتخفيف الياء.

الحجة

قال أبو علي حجة نافع في قوله‏ «حَقِيقٌ عَلى‏» و اتصاله بعلى من وجهين (أحدهما) أن حق الذي هو فعل يعدى بعلى قال‏ فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا (و الآخر) أن حقيق بمعنى واجب فكما أن وجب يتعدى بعلى كذلك يتعدى حقيق به و من قرأ «حَقِيقٌ عَلى‏» فجاز تعديته بعلى من الوجهين اللذين ذكرنا و قد قالوا هو حقيق بكذا فيجوز على هذا أن يكون علي بمعنى الباء قال أبو الحسن كما وقعت الباء في قوله‏ بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ‏ موقع على كذلك وقعت على هنا موقع الباء.

اللغة

البعث الإرسال و هو في الأصل النقل باعتماد يوجب الإسراع في المشي فالبعث بعد الموت نقل إلى حال الحياة و البعث للأنبياء نقل بالإرسال عن حالة إلى حالة النبوة و العصا عود كالقضيب يابس و أصله الامتناع بيبسة يقال عصي بالسيف يعصي إذا امتنع قال جرير:

تصف السيوف و غيركم يعصي بها

 

 يا بن القيون و ذاك فعل الصيقل‏

 

و يقال عصا بالسيف أي أخذه أخذ العصا و يقال لمن استقر بعد تنقل ألقى عصاه قال:

فألقت عصاها و استقرت بها النوى‏

 

 كما قر عينا بالإياب المسافر

 

و ليست المعصية بمشتقة من العصا لأن العصا من بنات الواو و المعصية من بنات الياء قال:

فجاءت بنسج العنكبوت كأنه‏

 

 على عصويها سابري مشبرق‏

 

و أصل ألقى من اللقاء الذي هو الاتصال فألقى عصاه أي أزال اتصالهما عما كان عليه و الثعبان الحية الضخمة الطويلة قال الفراء الثعبان أعظم الحيات و هو الذكر و هو مشتق من ثعبت الماء أثعبه إذا فجرته و المثعب مع انفجار الماء فسمي الثعبان لأنه كعنق الماء عند

 

702
مجمع البیان في تفسير القرآن4

الإعراب ص : 703

الانفجار و النزع إزالة الشي‏ء عن مكانه الملابس المتمكن فيه كنزع الرداء عن الإنسان و النزع و القلع و الجذب نظائر.

الإعراب‏

موضع كيف في قوله‏ «كَيْفَ كانَ» نصب لأنه خبر كان و تقديره أنظر أي شي‏ء كان عاقبة المفسدين و موسى على وزن مفعل و الميم زائدة لكثرة زيادتها أولا كالهمزة حتى صارت أغلب من زيادة الألف أخيرا و أفعى على وزن أفعل لهذه العلة و موسى لا ينصرف لأنه اسم أعجمي معرفة و موسى الحديد عربي إن سميت به رجلا لم تصرفه لأنه مؤنث و معرفة على أكثر من ثلاثة أحرف كما لو سميته بعناق لم تصرفه و فرعون على وزن فعلون مثل برذون فالواو زائدة لأنها جاءت مع سلامة الأصول الثلاثة و النون زائدة للزومها و فرعون لا ينصرف لأنه أعجمي معرفة عرب في حال تعريفه لأنه نقل من الاسم العلم و لو عرب في حال تنكره لانصرف كما ينصرف ياقوت في اسم رجل، إلا الحق نصب بأنه مفعول القول على غير الحكاية بل على معنى الترجمة عن المعنى دون حكاية اللفظ، قوله‏ «إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ» قال أبو العباس المبرد إن هنا لم ينقل الماضي إلى معنى الاستقبال من أجل قوة كان لأنها أم الأفعال و لا يجوز ذلك في غيرها و قال أبو بكر السراج المعنى أن تكن جئت بآية أي أن صح ذلك قال إذا أمكن إجزاء الحرف على أصله لم يجز إخراجه عنه و إن ينقل الفعل نقلين إلى الشرط و الاستقبال كما إن لم ينقل الفعل إلى النفي و الماضي و ضمير المخاطب في كنت يرجع إلى المكنى و لا يجوز ذلك في الذي لأن الذي غائب ببدنه أن يعود إليه ضمير الغائب و قد أجازوه إذا تقدمت كناية المتكلم في نحو قول الشاعر:

و أنا الذي قتلت بكرا بالقنا

 

 و تركت تغلب غير ذات سنام‏

 

و نحو

ما روي عن أمير المؤمنين ع من قوله:

أنا الذي سمتني أمي حيدرة

 

 أكيلكم بالسيف كيل السندرة

 

و على هذا يجوز أنت الذي ضربك عمرو و الوجه ضربه عمرو و قوله‏ «فَأْتِ بِها» جاز وقوع الأمر في جواب الشرط لأن فيه معنى إن كنت جئت بآية فإني ألزمك أن تأتي بهذا فقد عاد إلى أنه وجب الثاني بوجوب الأول قوله‏ «فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ» إذا هذه ظرف مكان و يسمى ظرف المفاجاة و هي بخلاف إذا التي هي ظرف زمان و فيها معنى الشرط و يعمل فيها جوابها

703
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 704

و مثال إذا التي هي ظرف المكان قولهم خرجت فإذا الناس وقوف فإذا في موضع نصب بكونها ظرفا لوقوف و تقديره فبالحضرة الناس وقوف فيجوز أن ينصب وقوفا على الحال لأن إذا ظرف مكان و ظروف المكان تكون إخبارا عن الجثث و هذه المسألة وقعت بين سيبويه و الكسائي لما اجتمعا عند يحيى بن خالد البرمكي فيما رواه علي بن سليمان الأخفش قال حدثني أحمد بن يحيى ثعلب و محمد بن زيد المبرد قالا لما ورد سيبويه بغداد شق أمره على الكسائي فأتى جعفر بن يحيى و الفضل بن يحيى فقال أنا وليكما و صاحبكما و هذا الرجل قد قدم ليذهب بمحلي فقالا له فاحتل لنفسك فإنا سنجمع بينكما فجمعا بينهما عند أبيهما و حضر سيبويه وحده و حضر الكسائي و معه الفراء و علي الأحمر و غيرهما من أصحابه فسألوه كيف تقول كنت أظن العقرب أشد لسعة من الزنبور فإذا هو هي أو فإذا هو إياها قال أقول فإذا هو هي فأقبل عليه الجمع فقالوا له أخطأت و لحنت فقال يحيى هذا موضع مشكل أنتما إماما مصريكما فمن يحكم بينكما قال فقال الكسائي و أصحابه الأعراب الذين على الباب فأدخل أبو الجراح و من وجد معه ممن كان الكسائي و أصحابه يحملون عنهم فقالوا إنا نقول فإذا هو إياها و انصرف المجلس على أن سيبويه أخطأ و حكموا عليه بذلك فأعطاه البرامكة و أخذوا له من الرشيد و بعثوا به إلى بلده فما لبث بعد هذا الأمر إلا يسيرا حتى مات و يقال أنه مات كمدا قال علي بن سليمان و أصحاب سيبويه إلى هذه الغاية لا اختلاف بينهم يقولون إن الجواب على ما قال سيبويه فإذا هو هي و هذا موضع الرفع و هو كما قال علي بن سليمان و ذلك أن النصب إنما يكون على الحال نحو خرجت فإذا الناس وقوفا جاز النصب هنا لأن وقوفا نكرة و الحال لا يكون إلا نكرة فإذا أضمرت بطل أمر الحال فإن المضمر معرفة و المعرفة لا تكون حالا فوجب العدول عن النصب إلى الرفع كما تقول فإذا الناس وقوف.

المعنى‏

ثم عطف سبحانه بقصة موسى (ع) على ما تقدم من قصص الأنبياء (ع) فقال‏ «ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ» أي من بعد الرسل الذين ذكرناهم أو من بعد الأمم الذين ذكرنا إهلاكهم‏ «مُوسى‏ بِآياتِنا» أي بدلائلنا و حججنا «إِلى‏ فِرْعَوْنَ وَ مَلَائِهِ» أي أشراف قومه و ذوي الأمر منهم‏ «فَظَلَمُوا بِها» أي ظلموا أنفسهم بجحدها عن الحسن و الجبائي و قيل فظلموا بوضعها غير مواضعها فجعلوا بدل الإيمان بها الكفر و الجحود لأن الظلم وضع الشي‏ء في غير موضعه الذي هو حقه و لم يقل فذهب موسى (ع) فأدى إليهم الرسالة فكذبوه لأن‏

704
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 704

في قوله‏ «فَظَلَمُوا بِها» دلالة عليه‏ «فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ» يعني ما آل إليه أمرهم في الهلاك‏ «وَ قالَ مُوسى‏ يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ» هذه حكاية قول موسى لفرعون و ندائه له إني رسول إليك من قبل رب العالمين مبعوث إليك و إلى قومك قال وهب و كان اسم فرعون الوليد بن مصعب و هو فرعون يوسف و كان بين اليوم الذي دخل يوسف مصر و اليوم الذي دخلها موسى رسولا أربعمائة عام‏ «حَقِيقٌ عَلى‏ أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ» قال الزجاج معناه حقيق على ترك القول على الله إلا الحق و قال الإمام العلامة الزمخشري تقول أنا حقيق علي قول الحق أي واجب علي قول الحق أن أكون أنا قائله و القائم به و لا يرضى إلا مثلي ناطقا به و منه قول العرب فلان يدعيه العلم بالطرق فوق ما يدعي هو العلم بها و قال الفراء معناه حقيق بأن لا أقول على الله إلا الحق فيكون على بمعنى الباء كما تقول رميت السهم على القوس و بالقوس و جاءني فلان على حالة حسنة و بحالة حسنة و قيل معناه حريص علي أن لا أقول على الله إلا الحق و ما فرضه علي من الرسالة عن أبي عبيدة «قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ» أي بحجة و معجزة «مِنْ رَبِّكُمْ» أي أعطانيها ربكم‏ «فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ» أي فأطلق بني إسرائيل من عقال التسخير و خلهم يرجعوا إلى الأرض المقدسة و ذلك أن فرعون و القبط كانوا قد استعبدوا بني إسرائيل و اعتقلوهم للاستخدام في الأعمال الشاقة مثل بناء المنازل و حمل الماء و نقل التراب و ما أشبه ذلك‏ «قالَ» فرعون‏ «إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ» أي حجة و دلالة تشهد لك على ما تقوله‏ «فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ» في أنك رسول الله‏ «فَأَلْقى‏ عَصاهُ» الفاء فاء الجواب أي فكان جوابه لفرعون أن ألقى عصاه من يده‏ «فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ» أي حية عظيمة بين ظاهر أنه ثعبان بحيث لا يشتبه على الناس و لم يكن مما يخيل أنه حية و ليس بحية و قيل إن العصا لما صارت حية أخذت قبة فرعون بين فكيها و كان ما بينهما ثمانون ذراعا فتضرع فرعون إلى موسى بعد أن وثب من سريره و هرب منها و أحدث و هرب الناس و دخل فرعون البيت و صاح يا موسى خذها و أنا أومن بك فأخذها موسى فعادت عصا عن ابن عباس و السدي و قيل و كان طولها ثمانين ذراعا «وَ نَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ» هناك قيل إن فرعون قال له هل معك آية أخرى قال نعم فأدخل يده في جيبه و قيل تحت إبطه ثم نزعها أي أخرجها منه و أظهرها فإذا هي بيضاء أي لونها أبيض نوري و لها شعاع يغلب نور الشمس و كان موسى (ع) آدم فيما يروي ثم أعاد اليد إلى كمه فعادت إلى لونها الأول عن ابن عباس و السدي و مجاهد سؤال. قيل كيف قال سبحانه هنا «فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ» و قال في موضع آخر فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌ‏ و الثعبان الحية العظيمة و الجان الحية

705
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[حديث العصا] ص : 706

 

الصغيرة فاختلف الوصفان و القصة واحدة و الجواب أن الآيتين ليستا إخبارا عن قصة واحدة بل الحالتان مختلفتان و الحالة التي كانت العصا بصفة الجان كانت في ابتداء النبوة و الحالة التي كانت بصفة الثعبان كانت عند لقائه فرعون و على هذا فلا سؤال و قد أجيب أيضا عن ذلك بأنه شبهها بالجان لسرعة حركتها و نشاطها و خفتها مع أنها في جسم الثعبان و كبر خلقه و هذا أبهر في باب الإعجاز.

 [حديث العصا]

قد ذكرنا نسب موسى (ع) في سورة البقرة و أما عصاه فقيل أنه أعطاه إياها ملك حين توجه إلى مدين و قيل إن عصا آدم من آس الجنة حين أهبط و كانت تدور بين أولاده حتى انتهت النوبة إلى شعيب فكانت ميراثا له مع أربعين عصا كانت لآبائه فلما استأجر شعيب موسى أمره بدخول بيت فيه العصي و قال له خذ عصا من تلك العصي فوقعت تلك العصا بيد موسى فاستردها شعيب و قال خذ غيرها حتى فعل ذلك ثلاث مرات في كل مرة تقع يده عليها دون غيرها فتركها في يده في المرة الرابعة فلما خرج من عنده متوجها إلى مصر و رأى نارا و أتى الشجرة فناداه الله تعالى‏ أَنْ يا مُوسى‏ إِنِّي أَنَا اللَّهُ‏ و أمره بإلقائها فألقاها فصارت حية فولى هاربا فناداه الله سبحانه خذها و لا تخف فأدخل يده بين لحييها فعادت عصا فلما أتى فرعون ألقاها بين يديه على ما تقدم بيانه و قيل كان الأنبياء (ع) يأخذون العصا تجنبا من الخيلاء و

قال رسول الله ص‏ تعصوا فإنها من سنن إخواني المرسلين‏

و

قال أمير المؤمنين (ع) قال رسول الله ص‏ من خرج في سفر و معه عصا من لوز مر و تلا هذه الآية وَ لَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ‏ إلى قوله‏ وَ اللَّهُ عَلى‏ ما نَقُولُ وَكِيلٌ‏ آمنه الله من كل سبع ضار و من كل لص عاد و من كل ذات حمة حتى يرجع إلى أهله و منزله و كان معه سبعة و سبعون من المعقبات يستغفرون له حتى يرجع و يضعها

و قيل إن أول من أخذ العصا عند الخطبة في العرب قس بن ساعدة

 [سورة الأعراف (7): الآيات 109 الى 112]

قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَما ذا تَأْمُرُونَ (110) قالُوا أَرْجِهْ وَ أَخاهُ وَ أَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (112)

القراءة

قرأ أهل المدينة و الكسائي و خلف أرجه بكسر الهاء بغير همز بين الجيم و الهاء إلا أن نافعا و الكسائي و خلفا يشبعون كسرة الهاء و لا يشبع أبو جعفر و قالون عن نافع بل‏

 

706
مجمع البیان في تفسير القرآن4

الحجة ص : 707

يكسران الهاء بغير همز بين الجيم و الهاء و قرأ عاصم و حمزة «أَرْجِهْ» بغير همز و سكون الهاء و قرأ الباقون أرجئه بالهمز و ضم الهاء و في الشعراء مثله و قرأ بكل سحار بألف بعد الحاء كوفي غير عاصم هاهنا و في يونس و قرأ الباقون‏ «ساحِرٍ» بألف قبل الحاء في السورتين و لم يختلفوا في الشعراء أن الألف بعد الحاء هناك.

الحجة

قال أبو علي أرجئه أفعله من الإرجاء و هو التأخير و لا بد من ضم الهاء مع الهمزة و لا يجوز غيره و أن لا يبلغ الواو أحسن لأن الهاء خفية فلو بلغ بها الواو لكان كأنه جمع بين ساكنين و من قال أرجئه فألحق الواو فلأن الهاء متحركة و لم يلتق ساكنان لأن الهاء يفصل بينهما و لو كان مع الهاء حرف لين لكان وصلها بالواو أقبح نحو عليهو لاجتماع حروف متقاربة مع أن الهاء ليس بحاجز قوي و من قرأ أرجهي فوصل الهاء بياء فلأن هذه الهاء يوصل في الإدراج بواو و ياء نحو بهو و بهي و ضربهو و من قرأ «أَرْجِهْ» فلأن في أرجأت لغتين أرجئت و أرجيت فإذا قال‏ «أَرْجِهْ» كان من أرجيت قال الزجاج زعم الحذاق بالنحو أن هذه الهاء لا يجوز إسكانها أعني هاء الإضمار و زعم بعض النحويين أن إسكانها جائز و أن هاء التأنيث يجوز إسكانها و استشهد ببيت مجهول و هو:

لما رأى أن لا دعه و لا شبع‏

 

 مال إلى أرطاة حقف فاضطجع‏

 

قال و هذا شعر لا يعرف قائله و الشاعر قد يجوز أن يخطئ و حجة من قرأ ساحر قوله‏ فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ و لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ و السحرة جمع ساحر و كذلك قوله‏ سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ‏ و حجة من قرأ سحار أنه قد وصفه بعليم و ذلك يدل على تناهيه فيه و حذقه به فحسن لذلك أن يذكروا بالاسم الدال على المبالغة في السحر.

اللغة

السحر لطف الحيلة في إظهار أعجوبة توهم المعجزة و قال الأزهري السحر صرف الشي‏ء عن حقيقته إلى غيره و أصل السحر خفاء الأمر و السحر آخر الليل لخفاء الشخص ببقية ظلمته و السحر الرئة لخفاء أمرها و يقال سحر المطر الأرض إذا جادها فقطع‏

707
مجمع البیان في تفسير القرآن4

الإعراب ص : 708

نباتها عن أصوله فقلب الأرض ظهرا لبطن بسرها سحرا و الأرض مسحورة فشبه سحر الساحر بذلك لتخييله إلى من سحره أنه يرى الشي‏ء بخلاف ما هو به.

الإعراب‏

 «فَما ذا تَأْمُرُونَ» موضع ما يحتمل أن يكون رفعا و يكون ذا بمعنى الذي فيكون بمعنى فما الذي تأمرون و يحتمل أن يكون نصبا و يكون ما و ذا اسما واحدا و يكون بمعنى فأي شي‏ء تأمرون و يأتوك مجزوم لأنه جواب الأمر و عامل الإعراب فيه محذوف و تقديره فإنك إن ترسل يأتوك و الباء في قوله‏ «بِكُلِّ ساحِرٍ» يحتمل أن يكون بمعنى مع أي يأتون و معهم كل ساحر فيكون في موضع الحال و يحتمل أن يكون للتعدية تقول ذهبت به و أذهبته و أتيت به و أتيته.

المعنى‏

ثم حكى سبحانه ما قاله أشراف قوم فرعون فقال‏ «قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ» لمن دونهم في الرتبة من الحاضرين‏ «إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ» بالسحر «يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ» معناه يريد أن يستميل بقلوب بني إسرائيل إلى نفسه و يتقوى بهم فيغلبكم بهم و يخرجوكم من بلدتكم‏ «فَما ذا تَأْمُرُونَ» قيل أن هذا قول الأشراف بعضهم لبعض على سبيل المشورة و يحتمل أن يكون قالوا ذلك لفرعون و إنما قالوا تأمرون بلفظ الجمع على خطاب الملوك و يحتمل أيضا أن يكون قول فرعون لقومه فيكون تقديره قال فرعون لهم فما ذا تأمرون و هو قول الفراء و الجبائي‏ «قالُوا أَرْجِهْ وَ أَخاهُ» أي قالوا لفرعون أخره و أخاه هارون و لا تعجل بالحكم فيهما بشي‏ء فتكون عجلتك حجة عليك عن الزجاج و قيل أخره أي أحبسه و الأول أصح لأنه كان يعلم أنه لا يقدر على حبسه مع ما رأى من تلك الآيات‏ «وَ أَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ» التي حولك‏ «حاشِرِينَ» أي جامعين للسحرة يحشرون من يعلمونه منهم عن مجاهد و السدي و قيل هم أصحاب الشرط أرسلهم في حشر السحرة و كانوا اثنين و سبعين رجلا عن ابن عباس‏ «يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ» أي يحشرون إليك السحرة ليجتمعوا و يعارضوا موسى فيغلبوه.

708
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأعراف(7): الآيات 113 الى 116] ص : 709

 

 [سورة الأعراف (7): الآيات 113 الى 116]

وَ جاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (113) قالَ نَعَمْ وَ إِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) قالُوا يا مُوسى‏ إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَ إِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَ اسْتَرْهَبُوهُمْ وَ جاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116)

القراءة

قرأ أهل الحجاز و حفص‏ «إِنَّ لَنا لَأَجْراً» بهمزة واحدة على الخبر و قرأ أ إن بهمزتين محققتين ابن عامر و أهل الكوفة غير حفص و قرأ أبو عمرو آءن بهمزة ممدودة و قرأ يعقوب غير زيد بهمزة غير ممدودة.

الحجة

قال أبو علي الاستفهام أشبه بهذا الموضع لأنهم يستفهمون عن الأجر و ليسوا يقفون على أن لهم الأجر و يقوي ذلك إجماعهم في الشعراء و ربما حذفت همزة الاستفهام قال أبو الحسن في قوله‏ وَ تِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ‏ أن من الناس من يذهب إلى أنه على الاستفهام و قد جاء ذلك في الشعر قال:

أفرح أن أرزأ الكرام و أن‏

 

 أورث ذودا شصائصا نبلا

 

و هذا أقبح من قوله:

و أصبحت فيهم آمنا لا كمعشر

 

 أتوني فقالوا من ربيعة أم مضر

 

لأن أم يدل على الهمزة.

الإعراب‏

نحن يحتمل أن يكون موضعه رفعا و يكون تأكيدا للضمير المتصل في كنا و يحتمل أن يكون فصلا بين الخبر و الاسم و ضم حرف مع أنه يجوز الوقف عليه لأنه في الوجوب نظير لا في النفي و إنما جاز الوقف على كل واحد منهما لأنه جواب لكلام يستغني بدلالته عليه عما يتصل به و الواو في قوله‏ «وَ إِنَّكُمْ» واو العطف فكأنه قال لكم ذلك و إنكم لمن المقربين و هو في مخرج الكلام كأنه معطوف على الحرف و كسرت الألف من إنكم لأنه في موضع استئناف بالوعد و لم يكسر لدخول اللام في الخبر لأنه لو لم يكن اللام لكانت مكسورة و إنما دخلت أن في قوله‏ «إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ» و لم تدخل في‏ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَ إِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ‏ لأن فيه معنى الأمر كأنه قال اختر إما أن تلقي أي إما إلقاءك و إما إلقاءنا فموضع أن نصب و يجوز أيضا

 

709
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 710

أن يكون التقدير إما إلقاؤك مبدوء به و إما إلقاؤنا فموضع أن على هذا يكون نصبا.

المعنى‏

 «وَ جاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ» في الكلام حذف كثير تقديره فأرسل فرعون في المدائن حاشرين يحشرون السحرة فحشروهم فجاء السحرة فرعون و كانوا خمسة عشر ألفا عن ابن إسحاق و قيل ثمانين ألفا عن ابن المنكدر و قيل سبعين ألفا عن عكرمة و قيل بضعة و ثلاثين ألفا عن السدي و قيل كانوا اثنين و سبعين ساحرا اثنان من القبط و هما رئيسا القوم و سبعون من بني إسرائيل عن مقاتل و قيل كانوا سبعين عن الكلبي‏ «قالُوا» لفرعون إنما لم يقل فقالوا حتى يتصل الثاني بالأول لأن المعنى لما جاءوا قالوا فلم يصلح دخول الفاء على هذا الوجه‏ «إِنَّ لَنا لَأَجْراً» أي عوضا على عملنا و جزاء بالخير «إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ» لموسى‏ «قالَ نَعَمْ» أي قال فرعون مجيبا لهم عما سألوه نعم لكم الأجر «وَ إِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ» أي و إنكم مع حصول الأجر لكم لمن المقربين إلى المنازل الجليلة و المراتب الخطيرة التي لا يتخطى إليها العامة و لا يحظى بها إلا الخاصة و في هذا دلالة على حاجة فرعون و ذلته لو استدل قومه به و أحسنوا النظر فيه لنفوسهم لأن من المعلوم أنه لم يحتج إلى السحرة إلا لعجزه و ضعفه‏ «قالُوا» يعني قالت السحرة لموسى‏ «يا مُوسى‏ إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ» ما معك من العصا أولا «وَ إِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ» لما معنا من العصي و الحبال أولا «قالَ» لهم موسى‏ «أَلْقُوا» أنتم و هذا أمر تهديد و تقريع كقوله سبحانه‏ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ‏ و قيل معناه ألقوا على ما يصح و يجوز لا على ما يفسد و يستحيل و قيل معناه إن كنتم محقين فألقوا «فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ» أي فلما ألقى السحرة ما عندهم من السحر احتالوا في تحريك العصي و الحبال بما جعلوا فيها من الزئبق حتى تحركت بحرارة الشمس و غير ذلك من الحيل و أنواع التمويه و التلبيس و خيل إلى الناس أنها تتحرك على ما تتحرك الحية و إنما سحروا أعين الناس لأنهم أروهم شيئا لم يعرفوا حقيقته و خفي ذلك عليهم لبعده منهم فإنهم لم يخلوا الناس يدخلون فيما بينهم و في هذا دلالة على أن السحر لا حقيقة له لأنها لو صارت حيات حقيقة لم يقل الله سبحانه سحروا أعين الناس بل كان يقول فلما ألقوا صارت حيات و قد قال سبحانه أيضا يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى‏ «وَ اسْتَرْهَبُوهُمْ» أي استدعوا رهبتهم حتى رهبهم الناس عن الزجاج و قيل معناه ارهبوهم و أفزعوهم عن المبرد «وَ جاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ» وصف سحرهم بالعظم لبعد مرام الحيلة فيه و شدة التمويه به فهو لذلك عظيم‏

710
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأعراف(7): الآيات 117 الى 122] ص : 711

 

الشأن عند من يراه من الناس و لأنه على ما ذكرناه في عدة السحرة و كثرتهم كان مع كل واحد منهم عصا أو حبل فلما ألقوا و خيل إلى الناس أنها تسعى استعظموا ذلك و خافوه.

 [سورة الأعراف (7): الآيات 117 الى 122]

وَ أَوْحَيْنا إِلى‏ مُوسى‏ أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَ بَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَ انْقَلَبُوا صاغِرِينَ (119) وَ أُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (120) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (121)

رَبِّ مُوسى‏ وَ هارُونَ (122)

القراءة

قرأ حفص عن عاصم‏ «تَلْقَفُ» خفيفة في طه و الشعراء مثله و الباقون تلقف بتشديد القاف في جميعها.

الحجة

تلقف و تلقم واحد و أصله تتلقف فحذفت التاء التي للمطاوعة في تفعل و ثبت التاء التي للمضارعة و تلقف ساكنة اللام مضارع لقف يلقف لقفا قال الشاعر:

أنت عصا موسى التي لم تزل‏

 

 تلقف ما يأفكه الساحر.

 

اللغة

الإفك قلب الشي‏ء عن وجهه في الأصل و منه الإفك الكذب لأنه قلب المعنى عن جهة الصواب، أصل الوقوع السقوط كسقوط الحائط و الطائر و الواقعة النازلة من السماء قال علي بن عيسى الوقوع ظهور الشي‏ء بوجوده نازلا إلى مستقره و الحق كون الشي‏ء في موضعه الذي اقتضته الحكمة و الباطل الكائن بحيث يؤدي إلى الهلاك و هو نقيض الحق فإن الحق كون الشي‏ء بحيث يؤدي إلى النجاة و الغلبة الظفر بالبغية من العدو في حال المنازعة و الصاغر الذليل و الصغر و الصغار الذلة يقال صغر الشي‏ء يصغر صغرا و صغرا و صغارا إذا ذل و أصله صغر القدر.

الإعراب‏

 «أَنْ أَلْقِ» يجوز أن يكون أن مع ما بعدها من الفعل بمنزلة المصدر فيكون تقديره و أوحينا إلى موسى بأن ألق أي بالإلقاء و يجوز أن يكون بمعنى أي لأنه تفسير ما أوحي‏

 

711
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 712

إليه‏ «ما يَأْفِكُونَ» ما بمعنى الذي و تقديره تلقف ما يأفكون فيه أي تلقف المأفوك الذي حل فيه الإفك و مثله‏ وَ اللَّهُ خَلَقَكُمْ وَ ما تَعْمَلُونَ‏ يعني و ما تعملون فيه و «ما كانُوا يَعْمَلُونَ» يحتمل أن تكون ما بمعنى المصدر أي و بطل عملهم و يحتمل أن يكون ما بمعنى الذي أي و بطل الحبال و العصي التي عملوا بها السحر و ما إذا كانت بمعنى المصدر لا تعمل في الفعل كما يعمل إن فيه إذا كانت بمعنى المصدر لأن أن ينقل الفعل نقلين إلى المصدر و إلى الاستقبال و لا ينقله ما إلى الاستقبال تقول يعجبني ما تصنع الآن و يعجبني أن تصنع الخير و «هُنالِكَ» دخلت اللام فيه ليدل على بعد المكان المشار إليه كما دخلت في ذلك لبعد المشار إليه فههنا لما بعد قليلا و هنالك لما كان أشد بعدا و هو ظرف مبهم و فيه معنى الإشارة كما أن ذا مبهم و إنما دخلت كاف المخاطبة مع بعد الإشارة لتشعر بتأكيد معنى الإشارة إلى المخاطب ليتنبه على بعد المشار إليه من المكان. و البعيد أحق بعلامة التنبه من القريب.

المعنى‏

ثم أخبر سبحانه عن نفسه فقال‏ «وَ أَوْحَيْنا إِلى‏ مُوسى‏» أي ألقينا إليه من وجه لم يشعر به إلا هو «أَنْ أَلْقِ عَصاكَ» التي معك‏ «فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ» معناه فألقاها فصارت ثعبانا فإذا هي تبتلع ما يكذبون فيه أنها حيات عن مجاهد «فَوَقَعَ» أي ظهر «الْحَقُّ» و هو أمر موسى و صحة نبوته و معجزاته عن الحسن و مجاهد و قيل وقع الحق بأن صارت العصا حية في الحقيقة «وَ بَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» أي بطل تمويهاتهم عن الجبائي و إنما ظهر ذلك لهم لأنهم لما رأوا تلك الآيات الباهرة و المعجزات القاهرة في العصا علموا أنه أمر سماوي لا يقدر عليه غير الله تعالى فمن تلك الآيات قلب العصا حية و منها أكلها حبالهم و عصيهم مع كثرتها و منها فناء حبالهم و عصيهم في بطنها إما بالتفرق و إما بالفناء عند من جوزه و منها عودها عصا كما كانت من غير زيادة و لا نقصان و كل من هذه الأمور يعلم كل عاقل أنه لا يدخل تحت مقدور البشر فاعترفوا بالتوحيد و النبوة و صار إسلامهم حجة على فرعون و قومه‏ «فَغُلِبُوا هُنالِكَ» أي قهر فرعون و قومه عند ذلك المجمع و بهت فرعون و خلى سبيل موسى و من تبعه‏ «وَ انْقَلَبُوا صاغِرِينَ» أي انصرفوا أذلاء مقهورين‏ «وَ أُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ» يعني أن السحرة لما شاهدوا تلك الآيات و علموا أنها من عند الله تعالى آمنوا بالله تعالى و بموسى و سجدوا لله ألهمهم الله ذلك و قيل إن موسى و هارون سجدا لله تعالى شكرا له على ظهور الحق فاقتدوا بهما فسجدوا معهما و إنما قال ألقي على ما لم يسم فاعله ليكون فيه معنى إلقائهم ما رأوا من عظيم آيات الله بأن دعاهم إلى السجود لله و الخضوع له عزت‏

712
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأعراف(7): الآيات 123 الى 126] ص : 713

 

قدرته و أنهم لم يتمالكوا أنفسهم عند ذلك بأن وقعوا ساجدين و هذا كما يقال أعجب فلان بنفسه و إن كان أتى من قبله و ليس يفعل ذلك به غيره‏ «قالُوا آمَنَّا» أي صدقنا «بِرَبِّ الْعالَمِينَ» الذي خلق السماوات و الأرض و ما بينهما «رَبِّ مُوسى‏ وَ هارُونَ» خصوهما بالذكر بعد دخولهما في جملة العلمين لأنهما دعوا إلى الإيمان بالله تعالى و لشريف ذكرهما و لتفضيلهما على غيرهما على طريق المدحة و التعظيم لهما و قيل إنهم فسروا سجودهم بأن قالوا آمنا برب العالمين لئلا يتوهم متوهم أنهم سجدوا لفرعون ثم قالوا رب موسى و هارون لأن فرعون كان يدعي أنه رب العالمين فأزالوا به الإبهام لئلا يتوهم الجهال أنهم عنوا بقولهم رب العالمين فرعون و قال علي بن عيسى يجوز أن يقال إن الله سبحانه لم يزل ربا و لا مربوب كما جاز لم يزل سميعا و لا مسموع لأنها صفة غير جارية على الفعل كما جرى صفة مالك على ملك يملك فالمقدور هو المملوك و لا يطلق الرب إلا على الله تعالى لأنه يقتضي أنه رب كل شي‏ء يصح ملكه و يقال في غيره رب الدار و رب الفرس و مثله خالق لا يطلق إلا عليه سبحانه و يقال في غيره خالق الأديم.

 [سورة الأعراف (7): الآيات 123 الى 126]

قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) قالُوا إِنَّا إِلى‏ رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (125) وَ ما تَنْقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَ تَوَفَّنا مُسْلِمِينَ (126)

القراءة

قرأ حفص عن عاصم آمنتم بهمزة واحدة على الخبر حيث كان و الباقون بهمزتين على الاستفهام إلا أن أهل الكوفة إلا حفصا يحققون الهمزتين و غيرهم حققوا الأولى و لينوا الثانية و لم يفصل أحد بين الهمزتين بألف.

الحجة

وجه الخبر فيه أنه يخبرهم بإيمانهم على وجه التقريع لهم بإيمانهم و الإنكار

 

713
مجمع البیان في تفسير القرآن4

اللغة ص : 714

عليهم و وجه الاستفهام أنه على جهة التقريع و التوبيخ أيضا و من حقق الهمزتين فإنه على ما يراه من تحقيقهما و الهمزة الثانية ممدودة لأن الألف المنقلبة عن الهمزة التي هي فاء من الأمن يتصل بها و من خفف الهمزة الثانية فتخفيفها أن يجعلها بين بين.

اللغة

الصلب الشد على الخشبة و غيرها و أصله من صلابة الشي‏ء و القراء كلهم على تشديد اللام من التصليب. الأزهري يقال نقمت على الرجل أنقم و نقمت و الفصيح نقمت. ابن الأعرابي النقمة العقوبة و الإنكار قال علي بن عيسى النقمة ضد النعمة و الفرق بين النقمة و الإساءة أن النقمة قد تكون بحق جزاء على كفر النعمة و الإساءة لا تكون إلا قبيحة و المسي‏ء مذموم لا محالة و الإفراغ صب ما في الإناء أجمع حتى يخلو مشتق من الفراغ و الصبر حبس النفس عن إظهار الجزع و الصبر على الحق عز كما أن الصبر على الباطل ذل.

المعنى‏

ثم حكى سبحانه ما صدر عن فرعون عند إيمان السحرة فقال سبحانه‏ «قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ» أي أقررتم له بالصدق من‏ «قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ» أي من قبل أن آمركم بإيمان و آذن لكم في ذلك‏ «إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها» أراد فرعون بهذا القول التلبيس على الناس و إيهامهم أن إيمان السحرة لم يكن عن علم و لكن لتواطؤ منهم ليذهبوا مالكم و ملككم و قيل معناه إن هذا لصنيع صنعتموه فيما بينكم و بين موسى في مصر قبل خروجكم إلى هذا الموضع لتستولوا على مصر فتخرجوا منها أهلها «فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ» عاقبة أمركم و هذا وعيد لهم ثم بين الوعيد فقال‏ «لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ» أي من كل شق طرفا قال الحسن هو أن يقطع اليد اليمني مع الرجل اليسرى و كذلك اليد اليسرى مع الرجل اليمني‏ «ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ» أي لا أدع واحدا منكم إلا صلبته و قيل إن أول من قطع الرجل و صلب فرعون صلبهم في جذوع النخل على شاطئ نهر مصر «قالُوا» يعني السحرة جوابا لفرعون‏ «إِنَّا إِلى‏ رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ» أي راجعون إلى ربنا بالتوحيد و الإخلاص عن ابن عباس و الانقلاب إلى الله تعالى هو الانقلاب إلى جزائه و غرضهم بهذا القول التسلي في الصبر على الشدة لما فيه من المثوبة مع مقابلة وعيده بوعيد أشد منه و هو عقاب الله‏ «وَ ما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا» معناه و ما تطعن علينا و ما تكره منا

714
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأعراف(7): آية 127] ص : 715

 

إلا إيماننا بالله و تصديقنا بآياته التي جاءتنا قال ابن عباس معناه ما لنا عندك من ذنب و لا ركبنا منك مكروها تعذبنا عليه إلا إيماننا بآيات ربنا و هي ما أتي به موسى (ع) آمنوا بها أنها من عند الله لا يقدر على مثلها إلا هو «رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً» أي اصبب علينا الصبر عند القطع و الصلب حتى لا نرجع كفارا و المراد الطف لنا حتى نتصبر على عذاب فرعون و نتشجع عليه و لا نفزع منه‏ «وَ تَوَفَّنا مُسْلِمِينَ» أي وفقنا للثبات على الإيمان و الإسلام إلى وقت الوفاة و قيل مسلمين مخلصين لله حتى لا يردنا البلاء عن ديننا قالوا فصلبهم فرعون من يومه فكانوا أول النهار كفارا سحرة و آخر النهار شهداء بررة و قيل أيضا إنه لم يصل إليهم و عصمهم الله منه.

 [سورة الأعراف (7): آية 127]

وَ قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَ تَذَرُ مُوسى‏ وَ قَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَ يَذَرَكَ وَ آلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَ نَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَ إِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ (127)

القراءة

روي عن علي بن أبي طالب ع‏ و ابن عباس و ابن مسعود و أنس بن مالك و علقمة و غيرهم و يذرك و آلهتك‏

و عن نعيم بن ميسرة و الحسن بخلاف و يذرك بالرفع و عن الأشهب و يذرك بسكون الراء و القراءة المشهورة «وَ يَذَرَكَ وَ آلِهَتَكَ» و قرأ أهل الحجاز سنقتل أبناءهم بالتخفيف و الباقون‏ «سَنُقَتِّلُ» بالتشديد.

الحجة

أما الإلاهة فإنه الربوبية و العبادة فمن قرأ و إلهتك فمعناه و يذرك و ربوبيتك عن الزجاج و قيل عبادتك عن ابن جني قال و منه سميت الشمس الآلهة و الإلهة لأنهم كانوا يعبدونها و من قرأ و يذرك بالرفع فإنه على الاستئناف أي و هو يذرك و أما من أسكن فقال و يذرك فإنه كقراءة أبي عمرو و إن الله يأمركم و قد مضى الكلام في ذلك و من نصب‏ «وَ يَذَرَكَ» فإنه على جواب الاستفهام بالواو فيكون المعنى أ يكون منك أن تذر موسى و أن يذرك و يجوز أن يكون عطفا على‏ «لِيُفْسِدُوا» و من قرأ سنقتل بالتخفيف فإنه قد يقع ذلك على التكثير و غير التكثير و التثقيل بهذا المعنى أخص و بالموضع أليق.

المعنى‏

ثم أخبر سبحانه عن قوم فرعون فقال سبحانه‏ «وَ قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ» لما أسلم السحرة تحريضا له على موسى‏ «أَ تَذَرُ مُوسى‏ وَ قَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ»

 

715
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأعراف(7): الآيات 128 الى 129] ص : 716

 

أي أ تتركهم أحياء ليظهروا خلافك و يدعوا الناس إلى مخالفتك ليغلبوا عليك فيفسد به ملكك و أمرك و قيل ليفسدوا في الأرض بعبادة غيرك و الدعاء إلى خلاف دينك و قيل ليفسدوا فيها بالغلبة عليها و أخذ موسى قومه منها و روي عن ابن عباس أنه لما آمن السحرة أسلم من بني إسرائيل ستمائة ألف نفس و اتبعوه‏ «وَ يَذَرَكَ وَ آلِهَتَكَ» قال الحسن كان فرعون يستعبد الناس و يعبد الأصنام بنفسه و كان الناس يعبدونها تقربا إليه و قال السدي كان يعبد ما يستحسن من البقر و روي أنه كان يأمرهم أيضا بعبادة البقر و لذلك أخرج السامري لهم‏ عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ و قال‏ هذا إِلهُكُمْ وَ إِلهُ مُوسى‏ و قال الزجاج كانت له أصنام يعبدها قومه تقربا إليه و من قرأ و آلهتك قال كان فرعون يستعبد الناس بنفسه و لا يعبد شيئا و روي عن مجاهد أنه قال كان فرعون يعبد و لا يعبد «قالَ» فرعون‏ «سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ» الذين يكون فيهم النجدة و القوة و يصلحون للقتال‏ «وَ نَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ» أي بناتهم نستبقيهن إذا لا يكون فيهن نجدة و قوة للمهنة و الخدمة استذلالا لهن و إن كان فرعون قد انقطع طمعه عن قتل موسى و قومه فلم يقل سأقتل موسى و قومه لما رأى من علو أمره و عظم شأنه فانتقل إلى عذاب المستضعفين منهم و هم أبناء بني إسرائيل و بناتهم ليوهم أنه يتم له ذلك فيهم أيضا «وَ إِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ» ظاهر المعنى.

 [سورة الأعراف (7): الآيات 128 الى 129]

قالَ مُوسى‏ لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَ اصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَ مِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا قالَ عَسى‏ رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَ يَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129)

المعنى‏

قال ابن عباس كان فرعون يقتل أبناء بني إسرائيل فلما كان من أمر موسى ما كان أمر بإعادة القتل عليهم فشكا ذلك بنو إسرائيل إلى موسى فعند ذلك‏ «قالَ مُوسى‏ لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ» في دفع بلاء فرعون عنكم‏ «وَ اصْبِرُوا» على دينكم و على أذى فرعون‏ «إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ» أي ينقلها إلى من يشاء نقل المواريث فيورثكن‏

 

716
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأعراف(7): الآيات 130 الى 131] ص : 717

 

بعد إهلاك فرعون كما أورثها فرعون و هذا وعد لهم بحسن العاقبة ليكون داعيا لهم إلى الصبر «وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ» معناه تمسكوا بالتقوى في الدنيا فإن حسن العاقبة في الدارين للمتقين و العاقبة ما يؤدي إليه البادئة إلا أنه إذا قيل العاقبة له فهو في الخير و إذا قيل العاقبة عليه فهو في الشر كما يقال الدائرة له و عليه و الدبرة له و عليه‏ «قالُوا» أي قال بنو إسرائيل لموسى‏ «أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا» أي عذبنا فرعون بقتل الأبناء و استخدام النساء قبل أن تأتينا بالرسالة و قيل قبل أن جئتنا «وَ مِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا» أيضا و يتوعدنا و يأخذ أموالنا و يكلفنا الأعمال الشاقة فلم ننتفع بمجيئك و هذا يدل على أنه قد جرى فيهم القتل و التعذيب مرتين قال الحسن كان فرعون يأخذ الجزية قبل مجي‏ء موسى و بعده من بني إسرائيل فلهذا «قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَ مِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا» و هذا الذي قالوه إنما هو استبطاء منهم لما وعدهم موسى (ع) من النجاة من فرعون و قومه فجدد (ع) لهم الوعد عن الله تعالى ليتقوا به‏ «قالَ عَسى‏ رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ» قال الزجاج عسى طمع و إشفاق إلا أن ما يطمع الله فيه فهو واجب و هو معنى قول المفسرين عسى من الله واجب و معناه أوجب ربكم على نفسه أن يهلك عدوكم فرعون و قومه‏ «وَ يَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ» أي يملككم ما كانوا يملكونه في الأرض من بعدهم‏ «فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ» أي فيرى ذلك بوقوعه منكم لأن الله تعالى لا يجازي عباده على ما يعلمه منهم إنما يجازيهم على ما يقع منهم عن الزجاج و قيل يعلم ذلك و معناه فيظهر معلومه أي يبتليكم بالنعمة ليظهر شكركم كما ابتلاكم بالمحنة ليظهر صبركم و مثله‏ وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَ الصَّابِرِينَ‏ و موضع كيف نصب و تقديره أ عملا حسنا تعملون أم قبيحا أي شاكرين كنتم لنعمته أم كافرين و قد حقق الله سبحانه هذا الوعد فأورث بني إسرائيل أرض مصر و نواحيها بعد أن أهلك عدوهم.

 [سورة الأعراف (7): الآيات 130 الى 131]

وَ لَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَ نَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى‏ وَ مَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (131)

القراءة

في الشواذ قراءة الحسن ألا إنما طيرهم عند الله بغير ألف.

 

717
مجمع البیان في تفسير القرآن4

الحجة ص : 718

 

الحجة

الطير جمع طائر في قول أبي الحسن و في قول صاحب الكتاب الطائر اسم للجمع بمنزلة الجامل و الباقر غير مكسر و روي عن قطرب أن الطير قد يكون واحدا كما أن الطائر واحد و يجوز أن يكون الطائر جمعا كالجامل أنشد ابن الأعرابي:

كأنه تهتان يوم ماطر

 

 على رءوس كرؤوس الطائر.

 

اللغة

العرب تقول أخذتهم السنة إذا كانت قحطة و يقال أسنت القوم إذا أجدبوا و إنما قيل للسنة المجدبة السنة و لم يقل للمخصبة لأنها نادرة في الانفراد بالجدب و النادر أحق بالانفراد بالذكر لانفراده بالمعنى الذي ندر به قالوا وجدنا البلاد سنين أي جدوبا قال:

و أموال اللئام بكل أرض‏

 

 تجحفها الجوائح و السنون‏

 

و قال آخر:

كان الناس إذ فقدوا عليا

 

 نعام جال في بلد سنينا

 

أي في بلد جدب و التطير الطيرة من الشي‏ء و هو التشاؤم به و اشتقاقه من الطير و طائر الإنسان عمله أخذ من ذلك لأن العرب كانت تزجر الطير فتتشام بالبارح و هو الذي يأتي من جهة الشمال و تتبرك بالسانح و هو الذي يأتي من قبل اليمين قال الشاعر:

زجرت لها طير الشمال فإن يكن‏

 

 هواك الذي تهوي يصبك اجتنابها

 

ثم كثر ذلك فسمي نصيب الإنسان طائره و يقال طار له من القسم كذا و كذا و أنشد ابن الأعرابي:

فإني لست منك و لست مني‏

 

 إذا ما طار من مالي الثمين‏

 

يريد الزوجة إذا أخذ ثمنها من ماله.

المعنى‏

ثم بين سبحانه ما فعله بآل فرعون و أقسم عليه فقال‏ «وَ لَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ» اللام للقسم و قد يقرب الماضي من الحال لأنه إذا توقع كون أمر فقيل قد

 

718
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأعراف(7): الآيات 132 الى 133] ص : 719

 

كان دل على قربه من الحال و آل الرجل خاصته الذين يؤول أمره إليهم و أمرهم إليه و معناه و لقد عاقبنا قوم فرعون بالجدوب و القحوط «وَ نَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ» أي و أخذناهم مع القحط و أجداب الأرض بنقصان من الثمرات‏ «لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ» أي يخافون فيوحدون الله فلم يتذكروا و قيل لكي يتفكروا في ذلك و يرجعوا إلى الحق قال الزجاج إنما أخذوا بالضراء لأن أحوال الشدة ترق القلوب و ترغب فيما عند الله أ لا ترى إلى قوله‏ وَ إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ‏ و قيل معناه لكي تتذكروا أن فرعون لو كان إلها لما كان يستسلم لذلك الضر و في هذه الآية دلالة على بطلان مذهب المجبرة في أنه سبحانه يريد الكفر فإنه بين أنه أراد منهم التذكر و الرجوع إلى الله‏ «فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ» يعني الخصب و النعمة و السعة في الرزق و السلامة و العافية «قالُوا لَنا هذِهِ» أي إنا نستحق ذلك على العادة الجارية لنا من نعمنا و سعة أرزاقنا في بلادنا و لم يعلموا أنه من عند الله سبحانه فيشكروه عليه و يؤدوا شكر النعمة فيه‏ «وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ» أي جوع و بلاء و قحط المطر و ضيق الرزق و هلاك الثمر و المواشي‏ «يَطَّيَّرُوا بِمُوسى‏ وَ مَنْ مَعَهُ» أي يتطيروا فأدغمت التاء في الطاء و تفسيره يتشاءموا بهم عن الحسن و مجاهد و ابن زيد و قالوا ما رأينا شرا و لا أصابنا بلاء حتى رأيناكم‏ «أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ» معناه ألا إنما الشؤم الذي يلحقهم هو الذي وعدوا به من العقاب عند الله يفعل بهم في الآخرة لا ما ينالهم في الدنيا عن الزجاج و قيل إن معناه إن الله تعالى هو الذي يأتي بطائر البركة و طائر الشؤم من الخير و الشر و النفع و الضر فلو عقلوا لطلبوا الخير و السلامة من الشر من قبله و قال الحسن معناه ألا إن ما تشاءموا به محفوظ عليهم حتى يجازيهم الله يوم القيامة «وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ» و لا يتفكرون ليعلموا.

 [سورة الأعراف (7): الآيات 132 الى 133]

وَ قالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَ الْجَرادَ وَ الْقُمَّلَ وَ الضَّفادِعَ وَ الدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَ كانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (133)

القراءة

في الشواذ قراءة الحسن القمل بفتح القاف و سكون الميم و هو المعروف.

اللغة

الطوفان السيل الذي يعم بتعريفه الأرض و هو مأخوذ من الطوف فيها و قيل هو مصدر كالرجحان و النقصان قال الأخفش واحده طوفانة قال أبو عبيدة الطوفان من السيل‏

 

719
مجمع البیان في تفسير القرآن4

الإعراب ص : 720

البعاق و من الموت الذريع و القمل كبار القردان قال أبو عبيدة هو الحمنان واحدته حمنة و حمنانة.

الإعراب‏

مهما قال الخليل مه أصلها ما إلا أنهم أدخلوا عليها ما كما يدخلونها على حروف الجزاء يقولون أما و متى و ما فغيروا ألفها بأن أبدلوها هاء لئلا يوهم التكرير و صار ما فيها مبالغة في معنى العموم و قال غيره أصلها مه بمعنى اكفف دخلت على ما التي للجزاء و الفرق بين مهما و ما أن مهما خالصة للجزاء و في ما الاشتراك لأنه قد يكون استفهاما تارة و بمعنى الذي أخرى و بمعان أخر و تأتنا مجزوم و علامة الجزم فيه الياء و إنما حذف الياء للجزم لأنه من حروف المد و اللين و هي مجانسة لحركات الإعراب و من شأن الجازم أن يحذف حركة فإذا لم يصادف حركة عمل في نفس الحرف لئلا يتعطل من العمل و الضمير في به يعود إلى مهما و تقديره أي شي‏ء تأتنا به و الضمير في بها يعود إلى آية «آياتٍ مُفَصَّلاتٍ» نصب على الحال.

المعنى‏

 «وَ قالُوا» أي قال قوم فرعون لموسى‏ «مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ» أي أي شي‏ء تأتنا به من المعجزات‏ «لِتَسْحَرَنا بِها» أي لتموه علينا بها حتى تنقلنا عن دين فرعون‏ «فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ» أي مصدقين أشاروا بهذا القول إلى إصرارهم على الكفر و أنهم لا يصدقونه و إن أتى بجميع الآيات ثم زاد الله سبحانه في الآيات تأكيدا لأمر موسى (ع) كما قال‏ «فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ» اختلف فيه فقيل هو الماء الغالب الخارج عن العادة الهادم للبنيان و القالع للأشجار و الزروع عن ابن عباس و قيل هو الموت الذريع الجارف عن مجاهد و عطاء و قيل هو الطاعون بلغة أهل اليمن أرسل الله ذلك على أبكار آل فرعون في ليلة فأقعصهن فلم يبق منهن إنسان و لا دابة عن وهب بن منبه و قيل هو الجدري و هم أول من عذبوا به و بقي في الأرض عن أبي قلابة و قيل هو أمر من الله تعالى طاف بهم عن ابن عباس رواه أبو ظبيان عنه ثم قرأ فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَ هُمْ نائِمُونَ‏ «وَ الْجَرادَ» هو المعروف‏ «وَ الْقُمَّلَ» اختلف فيه فقيل هو الدبى و هو صغار الجراد الذي لا أجنحة له و الجراد الطيارة التي لها أجنحة عن ابن عباس و مجاهد و السدي و قتادة و الكلبي و قيل القمل بنات الجراد عن عكرمة و قيل القمل البراغيث و قيل دواب سود صغار عن سعيد بن جبير و الحسن و عطاء

720
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[القصة] ص : 721

الخراساني و لذلك قرأ الحسن و القمل و قيل هو السوس الذي يخرج من الحنطة عن سعيد بن جبير «وَ الضَّفادِعَ وَ الدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ» أي معجزات مبينات ظاهرات و أدلة واضحات عن مجاهد و قيل مفصلات أي بعضها منفصل عن بعض‏ «فَاسْتَكْبَرُوا» أي تكبروا عن قبول الحق و الإيمان بالله‏ «وَ كانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ» عاصين كافرين.

 [القصة]

قال ابن عباس و سعيد بن جبير و قتادة و محمد بن إسحاق بن يسار و

رواه علي بن إبراهيم بإسناده عن أبي جعفر و أبي عبد الله (ع) دخل حديث بعضهم في بعض قالوا لما آمنت السحرة و رجع فرعون مغلوبا و أبى هو و قومه إلا الإقامة على الكفر قال هامان لفرعون إن الناس قد آمنوا بموسى فانظر من دخل في دينه فاحبسه فحبس كل من آمن به من بني إسرائيل فتابع الله عليهم بالآيات و أخذهم بالسنين و نقص من الثمرات ثم بعث عليهم الطوفان فضرب دورهم و مساكنهم حتى خرجوا إلى البرية و ضربوا الخيام و امتلأت بيوت القبط ماء و لم يدخل بيوت بني إسرائيل من الماء قطرة و أقام الماء على وجه أرضيهم لا يقدرون على أن يحرثوا فقالوا لموسى ادع لنا ربك أن يكشف عنا المطر فنؤمن لك و نرسل معك بني إسرائيل فدعا ربه فكشف عنهم الطوفان فلم يؤمنوا و قال هامان لفرعون لئن خليت بني إسرائيل غلبك موسى و أزال ملكك و أنبت الله لهم في تلك السنة من الكلأ و الزرع و الثمر ما أعشبت به بلادهم و أخصبت فقالوا ما كان هذا الماء إلا نعمة علينا و خصبا فأنزل الله عليهم في السنة الثانية عن علي بن إبراهيم و في الشهر الثاني عن غيره من المفسرين الجراد فجردت زروعهم و أشجارهم حتى كانت تجرد شعورهم و لحاهم و تأكل الأبواب و الثياب و الأمتعة و كانت لا تدخل بيوت بني إسرائيل و لا يصيبهم من ذلك شي‏ء فعجوا و ضجوا و جزع فرعون من ذلك جزعا شديدا و قال يا موسى ادع لنا ربك أن يكشف عنا الجراد حتى أخلي عن بني إسرائيل فدعا موسى ربه فكشف عنه الجراد بعد ما أقام عليهم سبعة أيام من السبت إلى السبت و قيل إن موسى (ع) برز إلى الفضاء فأشار بعصاه نحو المشرق و المغرب فرجعت الجراد من حيث جاءت حتى كأن لم يكن قط و لم يدع هامان فرعون أن يخلي عن بني إسرائيل فأنزل الله عليهم في السنة الثالثة في رواية علي بن إبراهيم و في الشهر الثالث عن غيره من المفسرين القمل و هو الجراد الصغار الذي لا أجنحة له و هو شر ما يكون و أخبثه فأتى على زروعهم كلها و اجتثها من أصلها فذهبت زروعهم و لحس الأرض كلها و قيل أمر موسى أن يمشي إلى كثيب أعفر بقرية من قرى مصر تدعى عين الشمس فأتاه فضربه بعصاه فانثال‏

721
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[القصة] ص : 721

عليهم قملا فكان يدخل بين ثوب أحدهم فيعضه و كان يأكل أحدهم الطعام فيمتلئ قملا قال سعيد بن جبير القمل السوس الذي يخرج من الحبوب فكان الرجل يخرج عشرة أجربة إلى الرحى فلم يرد منها ثلاثة أقفزة فلم يصابوا ببلاء كان أشد عليهم من القمل و أخذت أشعارهم و أبشارهم و أشفار عيونهم و حواجبهم و لزمت جلودهم كأنه الجدري عليهم و منعتهم النوم و القرار فصرخوا و صاحوا فقال فرعون لموسى ادع لنا ربك لئن كشفت عنا القمل لأكفن عن بني إسرائيل فدعا موسى حتى ذهب القمل بعد ما قام عددهم سبعة أيام من السبت إلى السبت فنكثوا فأنزل الله عليهم في السنة الرابعة و قيل في الشهر الرابع الضفادع فكانت تكون في طعامهم و شرابهم و امتلأت منها بيوتهم و أبنيتهم فلا يكشف أحد ثوبا و لا إناء و لا طعاما و لا شرابا إلا وجد فيه الضفادع و كانت تثب في قدورهم فتفسد عليهم ما فيها و كان الرجل يجلس إلى ذقنه في الضفادع و يهم أن يتكلم فيثب الضفدع في فيه و يفتح فاه لأكلته فيسبق الضفدع أكلته إلى فيه فلقوا منها أذى شديدا فلما رأوا ذلك بكوا و شكوا إلى موسى و قالوا هذه المرة نتوب و لا نعود فادع الله أن يذهب عنا الضفادع فإنا نؤمن بك و نرسل معك بني إسرائيل فأخذ عهودهم و مواثيقهم ثم دعا ربه فكشف عنهم الضفادع بعد ما أقام عليهم سبعا من السبت إلى السبت ثم نقضوا العهد و عادوا لكفرهم فلما كانت السنة الخامسة أرسل الله عليهم الدم فسال ماء النيل عليهم دما فكان القبطي يراه دما و الإسرائيلي يراه ماء فإذا شربه الإسرائيلي كان ماء و إذا شربه القبطي كان دما و كان القبطي يقول للإسرائيلي خذ الماء في فيك و صبه في في فكان إذا صبه في فم القبطي تحول دما و أن فرعون اعتراه العطش حتى أنه ليضطر إلى مضغ الأشجار الرطبة فإذا مضغها يصير ماؤها في فيه دما فمكثوا في ذلك سبعة أيام لا يأكلون إلا الدم و لا يشربون إلا الدم قال زيد بن أسلم الدم الذي سلط عليهم كان الرعاف فأتوا موسى فقالوا ادع لنا ربك يكشف عنا هذا الدم فنؤمن لك و نرسل معك بني إسرائيل فلما دفع الله عنهم الدم لم يؤمنوا و لم يخلوا عن بني إسرائيل.

722
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأعراف(7): الآيات 134 الى 136] ص : 723

 

 [سورة الأعراف (7): الآيات 134 الى 136]

وَ لَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَ لَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى‏ أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ كانُوا عَنْها غافِلِينَ (136)

اللغة

أصل الرجز الميل عن الحق و منه‏ «وَ الرُّجْزَ فَاهْجُرْ» يعني عبادة الوثن و العذاب رجز لأنه عقوبة على الميل عن الحق و الرجز رعدة في رجل الناقة لداء يلحقها تعدل به عن حق سيرها و الرجز ضرب من الشعر أخذ من رجز الناقة لأنه متحرك و ساكن ثم متحرك و ساكن في كل أجزائه فهو كالرعدة في رجل الناقة يتحرك بها ثم يسكن ثم يستمر على ذلك و النكث نقض العهد الذي يلزم الوفاء به و اليم البحر قال ذو الرمة:

دوية و دجى ليل كأنهما

 

 يم تراطن في حافاته الروم‏

 

و الغفلة حال تعتري النفس تنافي الفطنة و اليقظة.

الإعراب‏

إذا ظرف المفاجاة على ما تقدم بيانه و ليست مضافة إلى الجملة بل هي بمنزلة هناك و قد يكتفي بالاسم كما تقول خرجت فإذا زيد و فيه وقوع خلاف المتوقع منهم لأنه أتى منهم نقض العهد بدلا من الوفاء فكأنه فاجأ الرأي عجب من نكثهم و إذا هذه جواب لما و مثله قوله‏ وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ‏ و لا يجوز أن يجاب الشرط بإذ لأن إذ لا يكون إلا للوقت الماضي و الجواب إنما يكون بعد الأول و لذلك يصلح فيه الفاء و لا يصلح الواو و حرف الجزاء إنما يقلب الفعل إلى الاستقبال دون الوقت.

المعنى‏

ثم أخبر سبحانه عنهم أيضا فقال‏ «وَ لَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ» أي العذاب عن الحسن و قتادة و مجاهد و هو ما نزل بهم من الطوفان و غيره و قيل هو الطاعون أصابهم فمات من القبط سبعون ألف إنسان و هو العذاب السادس عن سعيد بن جبير و مثله‏

ما روي عن أبي عبد الله (ع) أنه أصابهم ثلج أحمر و لم يروه قبل ذلك فماتوا فيه و جزعوا و أصابهم ما لم يعهدوه قبله‏

 «قالُوا» يعني فرعون و قومه‏ «يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ» أي‏

 

723
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأعراف(7): آية 137] ص : 724

 

بما تقدم إليك أن تدعوه به فإنه يجيبك كما أجابك في آياتك و قيل بما عهد عندك أنا لو آمنا لرفع عنا العذاب و قيل بما عهد عندك من النبوة عن أبي مسلم فعلى هذا يكون الباء باء القسم و المعنى بحق ما آتاك الله من النبوة لما دعوت الله ليكشف هذا عنا «لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ» أي العذاب‏ «لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ» أي نصدقك في أنك نبي أرسلك الله‏ «وَ لَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ» أي نطلقهم من الاستخدام و تكليف الأعمال الشاقة «فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ» أي فلما رفعنا عنهم العذاب‏ «إِلى‏ أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ» يعني الأجل الذي عرفهم الله فيه و قيل هو الأجل المقدر عن الحسن‏ «إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ» أي ينقضون العهد «فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ» أي فجزيناهم على سوء صنيعتهم بالعذاب ثم فسر ذلك العذاب فقال‏ «فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ» أي البحر «بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا» أي فعلنا ذلك بهم جزاء بتكذيبهم آياتنا و حججنا و براهيننا الدالة على صدق موسى و صحة نبوته و جحودهم لها «وَ كانُوا عَنْها غافِلِينَ» معناه أنه أنزل عليهم العذاب و كانوا غافلين عن نزول ذلك بهم و قيل معناه إنا عاقبناهم بتكذيبهم و تعرضهم لأسباب الغفلة و عملهم عمل الغافل عنها فيكون وعيدا لهم على الإعراض عن الآيات.

 [سورة الأعراف (7): آية 137]

وَ أَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَ مَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَ تَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى‏ عَلى‏ بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَ دَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَ قَوْمُهُ وَ ما كانُوا يَعْرِشُونَ (137)

القراءة

قرأ ابن عامر و أبو بكر يعرشون بضم الراء و الباقون بكسرها.

الحجة

هما لغتان فصيحتان و الكسر أفصح.

اللغة

قال أبو عبيدة يعرشون يبنون يقال عرش مكة أي بناؤها.

الإعراب‏

يجوز أن يكون مشارق الأرض و مغاربها إنما انتصب بأنه مفعول أورثنا و يجوز أن يكون ظرفا على تقدير و أورثناهم الأرض في مشارقها و مغاربها و قيل إنما انتصب مشارق الأرض و مغاربها على الظرف للاستضعاف و التقدير و أورثنا القوم الذين كانوا

 

724
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 725

يستضعفون في مشارق الأرض و مغاربها التي باركنا فيها و على هذا فالهاء في فيها يعود إلى التي و التي صفة للأرض المحذوفة و موضعها نصب بأورثنا.

المعنى‏

ثم عطف سبحانه على ما تقدم فقال‏ «وَ أَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ» يعني بني إسرائيل فإن القبط كانوا يستضعفونهم فأورثهم الله بأن مكنهم و حكم لهم بالتصرف و أباح لهم ذلك بعد إهلاك فرعون و قومه القبط فكأنهم ورثوا منهم‏ «مَشارِقَ الْأَرْضِ وَ مَغارِبَهَا» التي كانوا فيها يعني جنات الأرض الشرق و الغرب منها يريد به ملك فرعون من أدناه إلى أقصاه و قيل هي أرض الشام و مصر عن الحسن و قيل هي أرض الشام و شرقها و غربها عن قتادة و قيل هي أرض مصر عن الجبائي قال الزجاج كان من بني إسرائيل داود و سليمان ملكوا الأرض‏ «الَّتِي بارَكْنا فِيها» بإخراج الزروع و الثمار و سائر صنوف النبات و الأشجار إلى غير ذلك من العيون و الأنهار و ضروب المنافع‏ «وَ تَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى‏ عَلى‏ بَنِي إِسْرائِيلَ» معناه صح كلام ربك بإنجاز الوعد بإهلاك عدوهم و استخلافهم في الأرض و إنما كان الإنجاز تماما للكلام بتمام النعمة به و قيل إن الكلمة الحسنى قوله سبحانه‏ «وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ» إلى قوله‏ «يَحْذَرُونَ» و قال الحسن و إن كانت كلمات الله سبحانه كلها حسنة لأنها وعد بما يحبون و قال الحسن أراد وعد الله لهم بالجنة «بِما صَبَرُوا» على أذى فرعون و قومه و تكليفهم إياهم ما لا يطيقونه من الاستعباد و الأعمال الشاقة «وَ دَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَ قَوْمُهُ» أي أهلكنا ما كانوا يبنون من الأبنية و القصور و الديار «وَ ما كانُوا يَعْرِشُونَ» من الأشجار و الأعناب و الثمار و قيل يعرشون يسقفون من القصور و البيوت عن ابن عباس.

725
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأعراف(7): الآيات 138 الى 140] ص : 726

 

 [سورة الأعراف (7): الآيات 138 الى 140]

وَ جاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى‏ قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى‏ أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَ باطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (139) قالَ أَ غَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَ هُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (140)

القراءة

يعكفون بكسر الكاف كوفي غير عاصم و الباقون بضم الكاف و هما لغتان.

اللغة

المجاوزة الإخراج عن الحد و جاز الوادي يجوز جوازا إذا قطعه و خلفه وراءه و جاوزه مجاوزة و اجتيازا و أصل البحر من السعة و منه البحيرة لسعة شق أذنها و تبحر في العلم إذا اتسع فيه و قوي تصرفه و عكف على الشي‏ء واظب عليه و لزمه و منه الاعتكاف و هو لزوم المسجد للعبادة فيه و المتبر من التبار و هو الهلاك و منه التبر للذهب و سمي بذلك لأمرين (أحدهما) أن معدنه مهلكة (و الآخر) ما قاله الزجاج إنه يقال لكل إناء مكسر متبر و كسارته تبره.

الإعراب‏

 «كَما لَهُمْ آلِهَةٌ» ما هذه كافة للكاف لأن ما بعدها جملة و قال البصير و هو واحد زماننا في هذا الفن ما هاهنا مصدرية أي كما ثبت لهم آلهة وصلت بالظرف و ما ارتفع به كما يوصل بالمبتدإ و الخبر في قوله:

" كما سيف عمرو لم تخنه مضاربه"

 

 

 

و يجوز أن يكون بمعنى الذي و في لهم ضمير يعود إليه و آلهة بدل من ذلك الضمير أو يرتفع بإضمار هي أي هي آلهة فحذف هي، و ما هم فيه موصول و صلة في موضع رفع بقيامه مقام الفاعل لقوله‏ «مُتَبَّرٌ» و كذلك‏ «ما كانُوا يَعْمَلُونَ» فاعل الباطل، «أَ غَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً» بغى يتعدى إلى مفعولين و طلب يتعدى إلى مفعول واحد لأن معنى قولك بغاة الخير أعطاه الخير و ليس كذلك طلب لأنه غير مضمر بالمطلوب و على هذا فيكون إلها مفعولا به ثانيا و يكون غير منصوبا على الحال التي لو تأخرت كانت صفة للنكرة و تقديره أبغيكم إلها غير الله و قد يجوز أن يكون بمعنى أبغي لكم و يكون غير الله منصوبا بأنه مفعول أبغي و تقديره أطلب غير الله لكم معبودا فيكون إلها منصوبا على الحال.

المعنى‏

ثم أخبر الله سبحانه عن أحوال بني إسرائيل فقال‏ «وَ جاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ» أي قطعنا بهم‏ «الْبَحْرَ» يعني النيل نهر مصر بأن جعلنا لهم فيه طرقا يابسة حتى عبروا ثم أغرقنا فرعون و قومه فيه‏ «فَأَتَوْا» أي فمروا «عَلى‏ قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى‏ أَصْنامٍ لَهُمْ» أي يقبلون عليها ملازمين لها مقيمين عندها يعبدونها قال قتادة كان أولئك القوم من لخم و كانوا نزولا بالرقة و قال ابن جريج كانت تماثيل بقر و ذلك أول شأن العجل‏ «قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ» أي أنصب لنا شيئا نعبده كما لهم أوثان يعبدونها و هذا كفر ربما قاله الجهال من قومه دون المؤمنين الأخيار و إنما قالوا ذلك لأن الإنسان يحن إلى ما يراه لغيره فيحب أن يكون له مثل ما لغيره و في هذا دلالة على عظيم جهلهم بعد ما رأوا الآيات المترادفة

 

726
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأعراف(7): آية 141] ص : 727

 

و المعجزات من حيث توهموا أنه يجوز عبادة غير الله تعالى و لم يعرفوا أن المجهول لا يكون إلها و أن الأصنام لا تكون آلهة و يمكن أن يكونوا قد ظنوا أنه يجوز أن يتقرب إلى الله تعالى بعبادة غيره و إن اعتقدوا أنه لا يشبه الأشياء و لا تشبهه و لم يكونوا مشبهة كما حكى الله سبحانه عن المشركين أنهم قالوا ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى‏ «قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ» هذه حكاية عما أجابهم به موسى (ع) أي تجهلون ربكم و عظمته و صفاته و لو عرفتموه حق معرفته لما قلتم هذا القول عن الجبائي و قيل تجهلون نعمة ربكم فيما صنع بكم عن ابن عباس‏ «إِنَّ هؤُلاءِ» يعني القوم الذين عبدوا الأصنام‏ «مُتَبَّرٌ» أي مدمر مهلك‏ «ما هُمْ فِيهِ» من عبادة الأصنام‏ «وَ باطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» أي باطل عملهم لا يجدي عليهم نفعا و لا يدفع عنهم ضرا فكأنه بمنزلة من لم يكن من هذا الوجه فالبطلان انتفاء المعنى بعدمه أو بأنه لا يصح معتقده فالأول كبطلان البناء بالهدم و الثاني كبطلان إله آخر مع الله لأنه لا يصح في عدم و لا وجود «قالَ» يعني قال موسى لقومه بعد إزرائه على الأصنام و على من كان يعبدها «أَ غَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ» أي ألتمس و أطلب غير الله لكم فحذف حرف الجر فوصل الفعل بقوله‏ وَ اخْتارَ مُوسى‏ قَوْمَهُ‏ أي من قومه‏ «إِلهاً» أي معبودا تعبدونه سوى الله‏ «وَ هُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ» أي على عالمي زمانكم عن الحسن و الجبائي و قيل معناه و هو سبحانه خصكم بفضائل لم يعطها أحدا غيركم و هو أن أرسل إليكم رجلين منكم لتكونوا أقرب إلى القبول و خلصكم من أذى فرعون و قومه على أعجب وجه و أورثكم أرضهم و ديارهم و أموالهم.

 [سورة الأعراف (7): آية 141]

وَ إِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَ يَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَ فِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141)

القراءة

قرأ ابن عامر أنجاكم على لفظ الماضي و الباقون أنجيناكم و قرأ نافع وحده يقتلون بالتخفيف و الباقون‏ «يُقَتِّلُونَ» بالتشديد.

الحجة

قد مضى الكلام في أمثال ذلك مرة بعد أخرى فلا وجه للإطالة بإعادته.

المعنى‏

ثم خاطب الله سبحانه بني إسرائيل الذين كانوا في زمن النبي ص فقال لهم على وجه الامتنان عليهم بما أنعمه على أسلافهم‏ «وَ إِذْ أَنْجَيْناكُمْ») أي و اذكروا إذ خلصناكم‏

 

727
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأعراف(7): آية 142] ص : 728

 

 «مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ» أي يولونكم إكراها و يحملونكم إذلالا «سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ» أي يكثرون قتل أبنائكم‏ «وَ يَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ» أي يستبقونهم للخدمة و المهنة «وَ فِي ذلِكُمْ» أي و في ما فعل بكم من النجاة «بَلاءٌ» أي نعمة «مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ» قدرها و قيل معناه في تخليته إياكم و قوم فرعون ابتلاء عظيم و قد مضى تفسير هذه الآية في سورة البقرة.

 [سورة الأعراف (7): آية 142]

وَ واعَدْنا مُوسى‏ ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَ أَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَ قالَ مُوسى‏ لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَ أَصْلِحْ وَ لا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142)

اللغة

الفرق بين الميقات و الوقت أن الميقات ما قدر ليعمل فيه عمل من الأعمال و الوقت وقت الشي‏ء قدره و لذلك قيل مواقيت الحج و هي المواضع التي قدرت للإحرام فيها.

المعنى‏

ثم بين سبحانه تمام نعمته على بني إسرائيل فقال‏ «وَ واعَدْنا مُوسى‏ ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَ أَتْمَمْناها بِعَشْرٍ» و لم يقل أربعين ليلة كما قاله في سورة البقرة لفائدة زائدة ذكر فيها وجوه (أحدها) أن العدة كانت ذا القعدة و عشر ذي الحجة و لو قال أربعين ليلة لم يعلم أنه كان الابتداء أول الشهر و لا أن الأيام كانت متوالية و لا أن الشهر شهر بعينه قاله الفراء و هو معنى قول مجاهد و ابن عباس و ابن جريج و مسروق و أكثر المفسرين (و ثانيها) أنه سبحانه واعد موسى ثلاثين ليلة ليصوم فيها و يتقرب بالعبادة ثم أتمت بعشر إلى وقت المناجاة و قيل هي العشر التي نزلت التوراة فيها و لذلك أفردت بالذكر (و ثالثها)

أن موسى (ع) قال لقومه إني أتأخر عنكم ثلاثين يوما ليتسهل عليهم ثم زاد عليهم عشرا و ليس في ذلك خلف لأنه إذا تأخر عنهم أربعين ليلة فقد تأخر ثلاثين ليلة قبلها عن أبي جعفر الباقر (ع)

و قريب منه ما روي عن الحسن أن الموعد كان أربعين ليلة في الأصل فأجمل هناك و فصل هاهنا على وجه التأكيد «فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً» إنما قال هذا مع أن ما تقدمه دل على هذه العدة للبيان‏

 

728
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأعراف(7): آية 143] ص : 729

 

و التفصيل الذي تسميه الكتاب الفذلكة و لو لم يذكره لجاز أن يتوهم أنه أتم الثلاثين بعشر منها على معنى كملنا الثلاثين بعشر حتى كملت ثلاثين كما يقال كملت العشرة بدرهمين و قد مر معنى المواعدة و الوعد في سورة البقرة و قلنا أن أربعين هنا منصوب على الحال و تقديره معدودة أربعين ليلة «وَ قالَ مُوسى‏» وقت خروجه إلى الميقات‏ «لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي» أي كن خليفتي‏ «فِي قَوْمِي وَ أَصْلِحْ» فيما بينهم و أجر على طريقتك في الصلاح و قيل معناه و أصلح فاسدهم في حال غيبتي و قيل أصلحهم أي أحملهم على الطاعة «وَ لا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ» أي لا تسلك طريقة العاصين و لا تكن عونا للظالمين و إنما أراد بذلك إصلاح قومه و إن كان المخاطب به أخاه و إنما أمر موسى (ع) أخاه هارون بأن يخلفه و ينوب عنه في قومه مع أن هارون كان نبيا مرسلا لأن الرئاسة كانت لموسى (ع) عليه و على أمته و لم يكن يجوز أن يقول هارون لموسى مثل ذلك و في هذا دلالة على أن منزلة الإمامة منفصلة من النبوة و غير داخلة فيها و إنما اجتمع الأمران لأنبياء مخصوصين لأن هارون لو كان له القيام بأمر الأمة من حيث كان نبيا لما احتاج فيه إلى استخلاف موسى إياه و إقامته مقامه.

 [سورة الأعراف (7): آية 143]

وَ لَمَّا جاءَ مُوسى‏ لِمِيقاتِنا وَ كَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَ لكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَ خَرَّ مُوسى‏ صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَ أَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143)

القراءة

جعله دكا بالمد هاهنا و في الكهف كوفي غير عاصم و وافقهم عاصم في الكهف و الباقون‏ «دَكًّا» بالقصر و التنوين في الموضعين.

الحجة

قال الزجاج‏ «جَعَلَهُ دَكًّا» بالتنوين معناه جعله مدقوقا مع الأرض و الدكاء و الدكاوات الروابي التي مع الأرض ناشزة عنها لا تبلغ أن تكون جبلا قال أبو الحسن لما قال جعله فكأنه قال دكه و أراد جعله ذا دك و قال أبو عبيدة «جَعَلَهُ دَكًّا» أي مندكا و ناقة دكاء ذاهبة

 

729
مجمع البیان في تفسير القرآن4

اللغة ص : 730

السنام كأنه جعله كالناقة الدكاء فبقي أكثره و الدك المستوي و أنشد للأغلب:

" هل غير غار دك غارا فانهدم"

 

 

 

و قال علي بن عيسى دكا مستويا بالأرض يقال دكه يدكه دكا أي سحقه سحقا.

اللغة

التجلي الظهور و يكون تارة بالظهور و تارة بالدلالة قال الشاعر:

تجلى لنا بالمشرفية و القنا

 

 و قد كان عن وقع الأسنة نائيا

 

أراد الشاعر أن تدبيره دل عليه و يقال للسيد هو ابن جلا أي لا يخفى أمره لشهرته و في خطبة الحجاج (أنا ابن جلا و طلاع الثنايا متى أضع العمامة تعرفوني) قال سيبويه جلا فعل ماض فكأنه قال أنا ابن الذي جلا أي أوضح و كشف.

المعنى‏

ثم ذكر سبحانه حديث الميقات فقال‏ «وَ لَمَّا جاءَ مُوسى‏ لِمِيقاتِنا» معناه و لما انتهى موسى إلى المكان الذي وقتناه له و أمرناه بالمصير إليه لنكلمه و ننزل عليه التوراة و يمكن أن يكون المراد بالميقات الزمان الذي وقته الله تعالى له أن يأتي ذلك المكان فيه فإن لفظ الميقات كما يقع على الزمان يقع على المكان كمواقيت الإحرام فإنها للأمكنة التي لا يجوز مجاوزتها لأهل الآفاق إلا و هم محرمون‏ «وَ كَلَّمَهُ رَبُّهُ» من غير سفير أو وحي كما كان يكلم الأنبياء على ألسنة الملائكة و لم يذكر من أي موضع أسمعه كلامه و ذكر في موضع آخر أنه أسمعه كلامه من الشجرة فجعل الشجرة محلا للكلام لأن الكلام عرض لا يقوم إلا بجسم و قيل إنه في هذا الموضع أسمعه كلامه من الغمام‏ «قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ» أي أرني نفسك أنظر إليك اختلف العلماء في وجه مسألته (ع) الرؤية مع علمه بأنه سبحانه لا يدرك بالحواس على أقوال (أحدها) ما قاله الجمهور و هو الأقوى إنه لم يسأل الرؤية لنفسه و إنما سألها لقومه حين قالوا له‏ لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً و لذلك قال (ع) لما أخذتهم الرجفة تُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا فأضاف ذلك إلى السفهاء و يسأل على هذا فيقال لو جاز أن يسأل الرؤية لقومه مع علمه باستحالة الرؤية عليه تعالى لجاز أن يسأل لقومه سائر ما يستحيل عليه من كونه جسما و ما أشبه ذلك متى شكوا فيه و الجواب إنما صح السؤال في الرؤية لأن الشك في جواز الرؤية التي تقتضي كونه جسما يمكن معه معرفة السمع و أنه سبحانه حكيم صادق في إخباره فيصح أن يعرفوا بالجواب الوارد من جهته تعالى استحالة ما شكوا في صحته و جوازه و مع الشك في كونه جسما لا يصح معرفة السمع من حيث إن‏

730
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 730

الجسم لا يجوز أن يكون غنيا و لا عالما بجميع المعلومات لا بد في العلم بصحة السمع من ذلك فلا يقع بجوابه انتفاع و لا علم و قال بعض العلماء إنه كان يجوز أن يسأل موسى لقومه ما يعلم استحالته أيضا و إن كان دلالة السمع لا تثبت قبل معرفته متى كان في المعلوم أن في ذلك صلاحا للمكلفين في دينهم غير أنه شرط أن يبين النبي في مسألته ذلك علمه باستحالة ما سأل عنه و أن غرضه في السؤال ورود الجواب ليكون لطفا (و ثانيها) أنه (ع) لم يسأل الرؤية بالبصر و لكن سأله أن يعلمه نفسه ضرورة بإظهار بعض أعلام الآخرة التي تضطره إلى المعرفة فتزول عنه الدواعي و الشكوك و يستغني عن الاستدلال فخفف المحنة عليه بذلك كما سأل إبراهيم (ع) رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى‏ طلبا لتخفيف المحنة و قد كان عرف ذلك بالاستدلال و السؤال و إن وقع بلفظ الرؤية فإن الرؤية يفيد العلم كما تفيد العلم الإدراك بالبصر فبين الله سبحانه له أن ذلك لا يكون في الدنيا عن أبي القاسم البلخي (و ثالثها) أنه سأله الرؤية بالبصر على غير وجه التشبيه عن الحسن و الربيع و السدي و ذلك لأن معرفة التوحيد تصح مع الجهل بمسألة الرؤية و معرفة السمع تصح أيضا معه و هذا ضعيف لأن الأمر و إن كان على ما ذكروه فإن الأنبياء لا يجوز أن يخفى عليهم مثل هذا مع جلالة رتبتهم و علو درجتهم‏ «قالَ لَنْ تَرانِي» هذا جواب من الله تعالى و معناه لا تراني أبدا لأن لن ينفي على وجه التأبيد كما قال‏ وَ لَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً و قال‏ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَ لَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ‏ «وَ لكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي» علق رؤيته باستقرار الجبل الذي علمنا أنه لم يستقر و هذه طريقة معروفة في استبعاد الشي‏ء لأنهم يعلقونه مما يعلم أنه لا يكون و متى قيل إنه لو كان الغرض بذلك التبعيد لعلقه سبحانه بأمر يستحيل كما علق دخول الجنة بأمر مستحيل من ولوج الجمل في سم الخياط فجوابه أنه سبحانه علق جواز الرؤية باستقرار الجبل في تلك الحال التي جعله فيها دكا و ذلك مستحيل لما فيه من اجتماع الضدين‏ «فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ» أي ظهر أمر ربه لأهل الجبل فحذف و المعنى أنه سبحانه أظهر من الآيات ما استدل به من كان عند الجبل على أن رؤيته غير جائزة و قيل معناه ظهر ربه بآياته التي أحدثها في الجبل لأهل الجبل كما يقال الحمد لله الذي تجلى لنا بقدرته فكل آية يجددها الله سبحانه فكأنه يتجلى للعباد بها فلما أظهر الآية العجيبة في الجبل صار كأنه ظهر لأهله و قيل أن تجلى بمعنى جلى كقولهم حدث و تحدث و تقديره جلى ربه أمره للجبل أي أبرز في ملكوته للجبل ما تدكدك به و يؤيده‏

ما جاء في الخبر أن الله تعالى أبرز من العرش مقدار الخنصر فتدكدك به‏

731
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 730

الجبل‏

و قال ابن عباس معناه ظهر نور ربه للجبل و قال الحسن لما ظهر وحي ربه للجبل‏ «جَعَلَهُ دَكًّا» أي مستويا بالأرض و قيل ترابا عن ابن عباس و قيل ساخ في الأرض حتى فني عن الحسن و قيل تقطع أربع قطع قطعة ذهبت نحو المشرق و قطعة ذهبت نحو المغرب و قطعة سقطت في البحر و قطعة صارت رملا و قيل‏

صار الجبل ستة أجبل وقعت ثلاثة بالمدينة و ثلاثة بمكة فالتي بالمدينة أحد و ورقان و رضوى و التي بمكة ثور و ثبير و حراء و روي ذلك عن النبي ص‏

 «وَ خَرَّ مُوسى‏ صَعِقاً» أي سقط مغشيا عليه عن ابن عباس و الحسن و ابن زيد و لم يمت بدلالة قوله‏ «فَلَمَّا أَفاقَ» و لا يقال أفاق الميت و إنما عاش أو حيي و أما السبعون الذين كانوا معه فقد ماتوا كلهم لقوله‏ ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ‏ و روي عن ابن عباس أنه قال أخذته الغشية عشية الخميس يوم عرفة و أفاق عشية يوم الجمعة و فيه نزلت عليه التوراة و قيل معناه خر ميتا عن قتادة «فَلَمَّا أَفاقَ» من صعقته و رجع إليه عقله‏ «قالَ سُبْحانَكَ» أي تنزيها لك عن أن يجوز عليك ما لا يليق بك و قيل تنزيها لك من أن تأخذني بما فعل السفهاء من سؤال الرؤية «تُبْتُ إِلَيْكَ» من التقدم في المسألة قبل الأذن فيها و قيل إنه قاله على وجه الانقطاع إلى الله سبحانه كما يذكر التسبيح و التهليل و نحو ذلك من الألفاظ عند ظهور الأمور الجليلة «وَ أَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ» بأنه لا يراك أحد من خلقك عن ابن عباس و الحسن‏

و روي مثله عن أبي عبد الله (ع) قال‏ معناه أنا أول من آمن و صدق بأنك لا ترى‏

و قيل معناه أنا أول المؤمنين من قومي باستعظام سؤال الرؤية عن الجبائي و قيل أول المؤمنين بك من بني إسرائيل عن مجاهد و السدي.

732
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأعراف(7): الآيات 144 الى 145] ص : 733

 

 [سورة الأعراف (7): الآيات 144 الى 145]

قالَ يا مُوسى‏ إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَ بِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَ كُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144) وَ كَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْ‏ءٍ مَوْعِظَةً وَ تَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَ أْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ (145)

القراءة

قرأ أهل الحجاز و روح برسالتي على التوحيد و الباقون‏ «بِرِسالاتِي» على الجمع و قد مضى الكلام فيه.

اللغة

اللوح صحيفة مهياة للكتابة فيها و أصله من اللوح و هو اللمع يقال لاح يلوح إذا لمع و تلألأ و التلويح التضمير و لوحه السفر غيره تغييرا تبين عليه أثره لأن حاله يلوح بما نزل به و اللوح الهواء لأنه كاللامع في هبوبه فاللوح تلوح المعاني بالكتابة فيه و الموعظة التحذير بما يزجر عن القبيح و يبصر مواقع المخوف.

المعنى‏

ثم أخبر سبحانه عن عظيم نعمته على موسى بالاصطفاء و إجلال القدر و أمره إياه بالشكر بقوله‏ «قالَ» أي قال الله سبحانه‏ «يا مُوسى‏ إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ» أي اخترتك و اتخذتك صفوة و فضلتك‏ «عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي» من غير كلام‏ «وَ بِكَلامِي» من غير رسالة و خص الناس لأنه كلم الملائكة و لم يكلم أحدا من الناس بلا واسطة سوى موسى (ع) و قيل أنه سبحانه كلم موسى على الطور و كلم نبينا محمدا ص عند سدرة المنتهى‏ «فَخُذْ ما آتَيْتُكَ» أي تناول ما أعطيتك من التوراة و تمسك بما أمرتك‏ «وَ كُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ» أي من المعترفين بنعمتي القائمين بشكرها على حسب مرتبتها فكلما كانت النعمة أعظم و أجل وجب أن تقابل من الشكر بما يكون أتم و أكمل الوجه و في تشريف موسى (ع) بالاختصاص بالكلام إن ذلك نعمة عظيمة و منة جسيمة منه تعالى عليه لأنه كلمه و علمه الحكمة من غير واسطة بينه و بينه و من أخذ العلم من العالم المعظم كان أجل رتبة ممن أخذه ممن هو دونه‏ «وَ كَتَبْنا لَهُ» يعني لموسى (ع) «فِي الْأَلْواحِ» يريد ألواح التوراة عن ابن عباس و قيل كانت من خشب نزلت من السماء عن الحسن و قيل كانت من زمرد و طولها عشرة أذرع عن ابن جريج و قيل كانت من زبرجدة خضراء و ياقوتة حمراء عن الكلبي و قيل إنهما كانا لوحين قال الزجاج و يجوز في اللغة أن يقال للوحين ألواح و يجوز أن يكون ألواح و يجوز أن يكون ألواحا جمع أكثر من اثنين‏ «مِنْ كُلِّ شَيْ‏ءٍ» قال الزجاج أعلم الله سبحانه أنه أعطاه من كل شي‏ء يحتاج إليه من أمر الدين مع ما أراه من الآيات‏ «مَوْعِظَةً» هذا تفسير لقوله‏ «كُلِّ شَيْ‏ءٍ» و بيان لبعض ما دخل تحته‏ «وَ تَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ» يحتاج إليه في الدين من الأوامر و النواهي و الحلال و الحرام و ذكر الجنة و النار و غير ذلك من العبر و الأخبار و تفصيلا أيضا تفسير لقوله‏ «كُلِّ شَيْ‏ءٍ» «فَخُذْها بِقُوَّةٍ» أي بجد و اجتهاد و قيل بصحة عزيمة و قوة قلب‏ «وَ أْمُرْ قَوْمَكَ‏

 

733
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأعراف(7): الآيات 146 الى 147] ص : 734

 

يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها» أي بما فيها من أحسن المحاسن و هي الفرائض و النوافل فإنها أحسن من المباحات و قيل معناه يأخذ بالناسخ دون المنسوخ عن الجبائي و هذا ضعيف لأن المنسوخ قد خرج من أن يكون حسنا و قيل إن المراد بالأحسن الحسن و كلها حسن كقوله سبحانه‏ وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ‏ و كقوله‏ وَ لَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ عن قطرب‏ «سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ» يعني سأريكم جهنم عن الحسن و مجاهد و الجبائي و المراد فليكن منكم على ذكر لتحذروا أن تكونوا منهم و هذا تهديد لمن خالف أمر الله و قيل يريد ديار فرعون بمصر عن عطية العوفي و قيل معناه سأدخلكم الشام فأريكم منازل القرون الماضية ممن خالفوا أمر الله لتعتبروا بها عن قتادة و في تفسير علي بن إبراهيم أن معناه يجيئكم قوم فساق يكون الدولة لهم.

 [سورة الأعراف (7): الآيات 146 الى 147]

سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَ إِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَ إِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَ إِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ كانُوا عَنْها غافِلِينَ (146) وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ لِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (147)

القراءة

قرأ أهل الكوفة غير عاصم الرشد بفتح الراء و الشين و الباقون‏ «الرُّشْدِ» بضم الراء و سكون الشين.

الحجة

هما لغتان و يحكى أن أبا عمرو فرق بينهما فقال الرشد الصلاح و الرشد في الدين مثل قوله‏ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً و تَحَرَّوْا رَشَداً فهذا في الدين و قوله‏ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً و هو في إصلاح المال و الحفظ له و قد جاء الرشد في غير الدين قال:

حنت إلى نعم الدهناء فقلت لها

 

 أمي بلالا على التوفيق و الرشد.

 

 

734
مجمع البیان في تفسير القرآن4

اللغة ص : 735

اللغة

الرشد سلوك طريق الحق يقال رشد يرشد رشادا و رشد يرشد رشدا و رشدا و ضده الغي غوي يغوى غيا و غواية و الحبوط سقوط العمل حتى يصير بمنزلة ما لم يعمل و أصله الفساد من الحبط و هو داء يأخذ البعير في بطنه من فساد الكلأ عليه و يقال حبطت الإبل تحبط حبطا إذا أصابها ذلك و إذا عمل الإنسان عملا على خلاف الوجه الذي أمر به يقال أحبطه.

المعنى‏

 «سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ» ذكر في معناه وجوه (أحدها) أنه أراد سأصرف عن نيل الكرامة المتعلقة بآياتي و الاعتزاز بها كما يناله المؤمنون في الدنيا و الآخرة المستكبرين في الأرض بغير الحق كما فعل بقوم موسى و فرعون فإن موسى كان يقتل من القبط و كان أحد منهم لا يجسر أن يناله بمكروه خوفا من الثعبان و عبر ببني إسرائيل البحر و غرق فيه فرعون و قومه عن أبي علي الجبائي و الآيات على هذا التأويل يحتمل أن تكون سائر الأدلة و يحتمل أن تكون معجزات الأنبياء و في قوله‏ «ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا» بيان أن صرفهم عن الآيات مستحق بتكذيبهم (و ثانيها) أن معناه سأصرفهم عن زيادة المعجزات التي أظهرها على الأنبياء (ع) بعد قيام الحجة بما تقدم من المعجزات التي ثبتت بها النبوة لأن هذا الضرب من المعجزات إنما يظهر إذا كان في المعلوم أنه يؤمن عنده من لا يؤمن بما تقدم من المعجزات فيكون الصرف بأن لا يظهرها جملة أو بأن يصرفهم عن مشاهدتها و يظهرها بحيث ينتفع بها غيرهم و هذا الوجه اختاره القاضي لأن ما بعده يليق به من قوله‏ «وَ إِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ» إلى آخر الآية (و ثالثها) أن معناه سأمنع الكذابين و المتكبرين آياتي و معجزاتي و أصرفهم عنها و أخص بها الأنبياء فلا أظهرها إلا عليهم و إذا صرفهم عنها فقد صرفها عنهم و كلا اللفظين يفيد معنى واحدا فليس لأحد أن يقول هلا قال سأصرف آياتي عن الذين يتكبرون و هذا يبطل قول من قال أن الله تعالى جعل النيل في أمر فرعون فكان يجري بأمره و يقف و ما شاكل ذلك (و رابعها) أن يكون الصرف معناه المنع من إبطال الآيات و الحجج و القدح فيها بما يخرجها عن كونها أدلة و حججا و يكون تقدير الآية إني أصرف المبطلين و المكذبين عن القدح في دلالاتي بما أؤيدها و أحكمها من الحجج و البينات و يجري ذلك مجرى قول أحدنا إن فلانا منع أعدائه بأفعاله الحميدة و أخلاقه الكريمة من ذمه و تهجينه و أخرس ألسنتهم عن الطعن فيه و إنما يريد المعنى الذي ذكرناه و يكون على هذا قوله‏ «ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا» راجعا إلى ما قبله بلا فصل من قوله‏ «وَ إِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا» و لا يرجع إلى قوله‏ «سَأَصْرِفُ» (و خامسها) أن‏

735
مجمع البیان في تفسير القرآن4

النظم ص : 736

المراد سأصرف عن إبطال آياتي و المنع من تبليغها هؤلاء المتكبرين بالإهلاك أو المنع من غير إهلاك فلا يقدرون على القدح فيها و لا على قهر مبلغيها و لا على منع المؤمنين من اتباعها و الإيمان بها و هو نظير قوله‏ «وَ اللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ» و يكون الآيات في هذا الوجه القرآن و ما جرى مجراه من كتب الله التي تحملتها الأنبياء ع و يكون قوله‏ «ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا» على هذا متعلقا أيضا بقوله‏ «وَ إِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ» إلى ما بعده و معنى قوله‏ «الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ» أي يرون لأنفسهم فضلا على الناس و حقا ليس لغيرهم مثله فيحملهم ذلك على ترك اتباع الأنبياء أنفة من الانقياد لهم و القبول منهم و قوله‏ «بِغَيْرِ الْحَقِّ» تأكيد و بيان أن التكبر لا يكون إلا بغير الحق كقوله‏ «وَ يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِ‏ و قد مضى ذكر أمثاله‏ «وَ إِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ» أي كل حجة و دلالة تدل على توحيد الله و صحة نبوة أنبيائه‏ «لا يُؤْمِنُوا بِها» هذا إخبار من الله تعالى عن هؤلاء بعلمه فيهم أنهم لا يؤمنون به و بكتبه و رسله و بيان أنه إنما صرفهم عن آياته لذلك‏ «وَ إِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا» يعني إن يروا طريق الهدى و الحق لا يتخذوه طريقا لأنفسهم‏ «وَ إِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ» أي طريق الضلال‏ «يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا» أي طريقا لأنفسهم و يميلون إليه و قيل الرشد الإيمان و الغي الكفر و قيل الرشد كل أمر محمود و الغي كل أمر قبيح مذموم‏ «ذلِكَ» إشارة إلى صرفهم عن الآيات و قيل إشارة إلى اتخاذهم طريق الغي و ترك طريق الرشد و تقديره أمرهم ذلك‏ «بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا» أي بحججنا و معجزات رسلنا «وَ كانُوا عَنْها غافِلِينَ» أي لا يتفكرون فيها و لا يتعظون بها و المراد بالغفلة هنا التشبيه لا الحقيقة مثل قوله سبحانه‏ «صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ‏ و ذلك أنهم لما أعرضوا عن الانتفاع بالآيات و التأمل فيها أشبهت حالهم حال من كان غافلا ساهيا عنها ثم بين سبحانه وعيد المكذبين فقال‏ «وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ لِقاءِ الْآخِرَةِ» يعني القيامة و البعث و النشور «حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ» التي عملوها و لا يستحقون بها مدحا و لا ثوابا لأنها وقعت على خلاف الوجه المأمور به فصارت بمنزلة ما لم يعمل‏ «هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ» صورته صورة الاستفهام و المراد به الإنكار و التوبيخ و معناه ليس يجزون إلا ما عملوه إن خيرا فخيرا و إن شرا فشرا.

النظم‏

قيل في وجه اتصال الآية بما قبلها وجوه (أحدها) أنه تقدم ذكر المعجزات و ما رام فرعون من إبطالها فبين سبحانه بقوله‏ «سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ» أنه يمنع عن إبطال المعجزات فيتصل بما تقدم من قصة موسى و فرعون (و ثانيها) أنه لما تقدم ذكر معجزات‏

736
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأعراف(7): آية 148] ص : 737

 

موسى نبه عقيبه على أنه سبحانه لا يظهر المعجزات على يد من ليس بنبي و أبان عن صدق موسى و محمد ع لمكان المعجزة (و ثالثها) أنه خطاب لموسى و زيادة في البيان عن إتمام ما وعده في إهلاك أعدائه و صرفهم عن الاعتراض على آياته و معناه خذها آمنا من طعن الطاعنين فإني سأصرف (و رابعها) أن الآيتين اعتراض بين قصة موسى و الخطاب لنبينا محمد ص و المراد أنه يصرف المتكبرين عن آياته كما صرف فرعون عن موسى.

 [سورة الأعراف (7): آية 148]

وَ اتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى‏ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَ لَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَ لا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَ كانُوا ظالِمِينَ (148)

القراءة

قرأ حمزة و الكسائي حليهم بكسر الحاء و اللام و قرأ يعقوب حليهم بفتح الحاء و سكون اللام و قرأ الباقون‏ «حُلِيِّهِمْ» بضم الحاء و كسر اللام.

الحجة

من قرأ بضم الحاء فإنه جمع حلي نحو ثدي و ثدي و جمعه لأنه أضافه إلى جمع و من قرأ بكسر الحاء أتبع الكسرة الكسرة و كره الخروج من الضمة إلى الكسرة و أجري مجراه في قسي و نحوه و من قرأ حليهم فلأنه اسم جنس يقع على القليل و الكثير.

اللغة

الاتخاذ اجتباء الشي‏ء لأمر من الأمور فهؤلاء: اتخذوا العجل للعبادة و الحلي ما اتخذ للزينة من الذهب و الفضة و يقال حلي الشي‏ء في عيني يحلي حلي و حلا في فمي يحلو حلاوة. و حليت الرجل تحلية إذا وصفته بما ترى منه و تحلى بكذا تزين به و تحسن و الجسد جسم الحيوان مثل البدن و هو روح و جسد فالروح ما لطف و الجسد ما كثف و الجسم يقع على جسد الحيوان و غيره من الجمادات و الخوار صوت الثور و هو صوت غليظ و بناء فعال يدل على الآفة نحو الصراخ و السكات و العطاس.

الإعراب‏

موضع من حليهم نصب تقديره اتخذوا حليهم عجلا و جسدا بدل من عجل.

المعنى‏

ثم عاد الكلام إلى قصة بني إسرائيل و ما أحدثوه عند خروج موسى (ع) إلى ميقات ربه فقال سبحانه‏ «وَ اتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى‏» يعني السامري و من جرى على طريقته و قيل يعني جميعهم لأن منهم من ساق العجل و منهم من عبده و منهم من لم ينكر و إنما أنكر

 

737
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأعراف(7): آية 149] ص : 738

 

ذلك القليل منهم فخرج الكلام على الغالب‏ «مِنْ بَعْدِهِ» أي من بعد خروج موسى إلى الميقات عن الجبائي و غيره‏ «مِنْ حُلِيِّهِمْ» التي استعاروها من قوم فرعون و كانت بنو إسرائيل بمنزلة أهل الجزية في القبط و كان لهم يوم عيد يتزينون فيه و يستعيرون من القبط الحلي فوافق ذلك عيدهم فاستعاروا حلي القبط فلما أخرجهم الله من مصر و غرق فرعون بقيت تلك الحلي في أيديهم فاتخذ السامري منها «عِجْلًا» و هو ولد البقرة «جَسَداً» أي مجسدا لا روح فيه و قيل لحما و دما عن وهب‏ «لَهُ خُوارٌ» أي صوت و

روي في الشواذ عن علي (ع) جؤار بالجيم و الهمزة

و هو الصوت أيضا و في كيفية خوار العجل مع أنه مصوغ من ذهب خلاف فقيل أخذ السامري قبضة من تراب أثر فرس جبرائيل (ع) يوم قطع البحر فقذف ذلك التراب في فم العجل فتحول لحما و دما و كان ذلك معتادا غير خارق للعادة و جاز أن يفعل الله تعالى ذلك بمجرى العادة عن الحسن و قيل أنه احتال بإدخال الريح كما يعمل هذه الآلات التي تصوت بالحيل عن الزجاج و الجبائي و البلخي و إنما أضاف سبحانه الصوت إليه لأنه كان محله عند دخول الريح جوفه و كان السامري عندهم مهيبا مطاعا فيما بينهم فأرجف أن موسى (ع) قد مات لما لم يرجع على رأس الثلاثين فدعاهم إلى عبادة العجل فأطاعوه و لم يطيعوا هارون و عبدوا العجل على ما مر ذكره في سورة البقرة ثم أنكر سبحانه ذلك عليهم فقال‏ «أَ لَمْ يَرَوْا» أي أ لم يعلموا «أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ» بما يجدي عليهم نفعا أو يدفع عنهم ضررا «وَ لا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا» أي لا يهديهم إلى خير ليأتوه و لا إلى شر ليجتنبوه دل سبحانه بهذا على فساد ما ذهبوا إليه فإن من لا يتكلم في خير و شر و لا يهدي إلى طريق فهو جماد لا ينفع و لا يضر فكيف يكون إلها معبودا «اتَّخَذُوهُ» أي اتخذوه إلها و عبدوه‏ «وَ كانُوا ظالِمِينَ» باتخاذهم له إلها واضعين للعبادة في غير موضعها.

 [سورة الأعراف (7): آية 149]

وَ لَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَ رَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَ يَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (149)

القراءة

لئن لم ترحمنا بالتاء ربنا بالنصب و تغفر لنا بالتاء كوفي غير عاصم و الباقون‏ «يَرْحَمْنا» «وَ يَغْفِرْ لَنا» بالياء «رَبُّنا» بالرفع.

الحجة

من قرأ بالياء جعل الفعل للغيبة و ارتفع ربنا به و يغفر لنا فيه ضمير ربنا و من‏

 

738
مجمع البیان في تفسير القرآن4

اللغة ص : 739

 

قرأ بالتاء ففيه ضمير الخطاب و ربنا نداء و حذف حرف التنبيه معه لأن عامة ما في التنزيل حذف حرف التنبيه معه نحو قوله‏ «رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي‏، رَبَّنا وَ آتِنا ما وَعَدْتَنا».

اللغة

معنى سقط في أيديهم وقع البلاء في أيديهم أي وجدوه وجدان من يده فيه يقال ذلك للنادم عند ما يجده مما كان خفي عليه و يقال سقط في يده و أسقط في يده و بغير ألف أفصح و قيل معناه صار الذي كان يضربه ملقى في يده.

المعنى‏

ثم أخبر سبحانه أنهم ندموا على عبادة العجل فقال‏ «وَ لَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ» أي فلما لحقتهم الندامة «وَ رَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا» أي علموا ضلالهم عن الصواب و طريق الحق بعبادة العجل حين رجع إليهم موسى و بين لهم ذلك‏ «قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا» بقبول توبتنا «وَ يَغْفِرْ لَنا» ما قدمناه من عبادة العجل‏ «لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ» باستحقاق العقاب قال الحسن إن كلهم عبدوا العجل إلا هارون بدلالة قول موسى‏ «رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ لِأَخِي» و لو كان هناك مؤمن غيرهما لدعا له و قال غيره إنما عبده بعضهم.

 [سورة الأعراف (7): الآيات 150 الى 151]

وَ لَمَّا رَجَعَ مُوسى‏ إِلى‏ قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَ عَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَ أَلْقَى الْأَلْواحَ وَ أَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَ كادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَ لا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ لِأَخِي وَ أَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَ أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151)

القراءة

قرأ ابن عامر و أهل الكوفة عن عاصم ابن أم بالكسر هاهنا و في طه و قرأ الباقون‏ «ابْنَ أُمَّ» نصبا في الموضعين و روي في الشواذ عن مجاهد فلا تشمت بفتح التاء و الميم، الأعداء بالنصب و روي عن مجاهد أيضا فلا يشمت بالياء.

الحجة

من قرأ «ابْنَ أُمَّ» بالفتح فلكثرة استعمالهم هذا الاسم قالوا يا ابن أم و يا ابن‏

 

739
مجمع البیان في تفسير القرآن4

اللغة ص : 740

عم جعلوهما اسما واحدا نحو خمسة عشر قال سيبويه قالوا يا ابن أم و يا ابن عم فجعلوا ذلك بمنزلة اسم لأن هذا أكثر في كلامهم من يا ابن أبي و يا غلام غلامي و من العرب من يقول يا ابن أمي بإثبات الياء قال الشاعر:

يا ابن أمي و يا شقيق نفسي‏

 

 أنت خليتني لدهر شديد

 

و لأمر شديد قال أبو علي بني الاسمان على الفتح و الفتحة في ابن ليست النصبة التي كانت تكون في الاسم المضاف المنادى لكن بني على الحركة التي كانت تكون للإعراب كما أن قولهم لا رجل كذلك و كما أن مكانك إذا أردت به الأمر لا تكون الفتحة فيه الفتحة التي كانت فيه و هو ظرف و لكنه على حد الفتحة في رويدك فإن قال قائل فلم لا تقول أنها نصبته و المراد يا ابن أما فحذفت الألف كما حذفت ياء الإضافة في غلامي قيل له ليس هذا مثله أ لا ترى أن من حذف الياء من يا غلام أثبتها في يا غلام غلامي فلو كانت الألف مقدرة في يا ابن أم لم يكن تحذف كما لم تحذف في قوله:

" يا بنت عما لا تلومي و اهجعي"

 

 

 

فالألف لا يحذف حيث يحذف الياء أ لا ترى أن من قال ما كنا نبغ و الليل إذا يسر فحذف الياء من الفواصل و ما أشبه الفواصل من الكلام التام لم يكن عنده في نحو قوله‏ «وَ اللَّيْلِ إِذا يَغْشى‏ وَ النَّهارِ إِذا تَجَلَّى» إلا الإثبات فإن قلت فقد حذف الألف في نحو قوله:

" رهط ابن مرحوم و رهط ابن المعل"

 

 

 

يريد المعلى و أنشد أبو الحسن:

فلست بمدرك ما فأت مني‏

 

 بلهف و لا بليت و لا لو أني‏

 

يريد بلهفى فحذف الألف فالقول فيه أن ذلك في الشعر و لا يكون في الاختيار و حال السعة و لا ينبغي أن يحمل قوله‏ «ابْنَ أُمَّ» على هذا و قياس من أجاز ذلك أن تكون فتحة الابن نصبة و الفتحة في أم ليست كالتي في عشر من خمسة عشر و لكن مثل الفتحة التي في الميم من يا بنت عما قال الزجاج و من قرأ ابن أم بالكسر فإنه أضافه إلى نفسه بعد أن جعله اسما واحدا.

اللغة

الأسف الغضب الذي فيه تأسف على فوت ما سلف و الأسف الحزن و التلهف أيضا و يقال خلفه يخلفه بما يجب و بما يكره إذا عمل خلفه ذلك العمل و العجلة التقدم بالشي‏ء قبل وقته و السرعة عمله في أول وقته و لذلك صارت العجلة مذمومة و يقال عجلته أي سبقته و أعجلته استحثثته و الشماتة سرور العدو بسوء العاقبة يقال شمت به شماتة

740
مجمع البیان في تفسير القرآن4

الإعراب ص : 741

و أشمته إشماتا. عرضه لتلك الحال.

الإعراب‏

غضبان منصوب على الحال و هو فعلان مؤنثه فعلى نحو غضبان و غضبى و لا ينصرف لأن فيه الألف و النون المضارعتين لألفي التأنيث في حمراء.

المعنى‏

ثم أخبر سبحانه عما فعله موسى (ع) حين رجع من مناجاة ربه و رأى عكوف قومه على عبادة العجل فقال‏ «وَ لَمَّا رَجَعَ مُوسى‏ إِلى‏ قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً» أي حزينا عن ابن عباس و قيل الأسف الشديد الغضب عن أبي الدرداء و قيل معنى الغضب و الأسف واحد و إنما كررها للتأكيد و اختلاف اللفظين كما قال الشاعر:

" متى أدن منه ينأ عني و يبعد"

 

 

 

عن أبي مسلم و قيل معناه غضبان على قومه إذ عبدوا العجل أسفا حزينا متلهفا على ما فاته من مناجاة ربه‏ «قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي» أي بئسما عملتم خلفي و بئس الفعل فعلكم بعد ذهابي إلى ميقات ربي‏ «أَ عَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ» أي ميعاد ربكم فلم تصبروا له عن ابن عباس و نحو هذا قال الحسن وعد ربكم الذي وعدني من الأربعين ليلة و ذلك أنهم قدروا أنه قد مات لما لم يأت على رأس ثلاثين ليلة و قيل أ عجلتم بعبادة العجل قبل أن يأتيكم أمر من ربكم عن الكلبي و قيل معناه استعجلتم وعد الله و ثوابه على عبادته فلما لم تنالوه عدلتم إلى عبادة غيره عن أبي علي الجبائي‏ «وَ أَلْقَى الْأَلْواحَ» معناه أنه ألقاها لما دخله من شدة الغضب و الجزع على عبادة قومه العجل عن ابن عباس و

روي عن النبي ص أنه قال‏ يرحم الله أخي موسى (ع) ليس المخبر كالمعاين لقد أخبره الله بفتنة قومه و قد عرف أن ما أخبره ربه حق و أنه على ذلك لمتمسك بما في يديه فرجع إلى قومه و رآهم فغضب و ألقى الألواح‏

و قد تقدم ذكر ما قيل في الألواح‏ «وَ أَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ» يعني هارون‏ «يَجُرُّهُ إِلَيْهِ» قيل في معناه وجوه (أحدها) أن موسى (ع) إنما فعل ذلك مستعظما لفعلهم مفكرا فيما كان منهم كما يفعل الإنسان بنفسه مثل ذلك عند الغضب و شدة الفكر فيقبض على لحيته و يعض على شفته فأجرى موسى (ع) أخاه هارون مجرى نفسه فصنع به ما يصنع الإنسان بنفسه عند حالة الغضب و الفكر عن أبي علي الجبائي و هذا من الأمور التي تختلف أحكامها بالعادات فيكون ما هو إكرام في موضع استخفافا في غيره و يكون ما هو استخفاف في موضع إكراما في آخر (و ثانيها) أنه (ع) أراد أن يظهر ما اعتراه من الغضب على قومه لإكباره منهم ما صاروا إليه من الكفر و الارتداد فصدر ذلك منه للتألم بضلالهم و إعلامهم عظم الحال عنده لينزجروا عن مثله في مستقبل الأحوال ذكره الشيخ المفيد أبو عبد الله بن النعمان (و ثالثها) أنه إنما جره إلى نفسه ليناجيه و يستبرئ حال القوم منه و لهذا أظهر هارون براءة نفسه و لما أظهر

741
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأعراف(7): الآيات 152 الى 154] ص : 742

هارون براءته دعا له و لنفسه (و رابعها) أنه لما رأى بهارون مثل ما به من الجزع و القلق أخذ برأسه متوجعا له مسكنا فكرة هارون أن يظن الجهال ذلك استخفافا فأظهر براءته و دعا له موسى إزالة للتهمة (و خامسها) أنه أنكر على هارون ما بينه في طه من قوله‏ «ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ» الآية عن أبي مسلم‏ «قالَ» يعني قال هارون‏ «ابْنَ أُمَّ» قال الحسن و الله لقد كان أخاه لأبيه و أمه إلا أنه إنما نسبه إلى الأم لأن ذكر الأم أبلغ في الاستعطاف‏ «إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي» يعني أن القوم الذين تركتني بين أظهرهم اتخذوني ضعيفا «وَ كادُوا يَقْتُلُونَنِي» أي هموا بقتلي و قرب أن يقتلوني لشدة إنكاري عليهم‏ «فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ» أي لا تسرهم بأن تفعل ما يوهم ظاهره خلاف التعظيم‏ «وَ لا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» أي لا تجعلني مع عبدة العجل و من جملتهم في إظهار الغضب و الموجدة علي‏ «قالَ» موسى حين تبين له ما نبهه هارون عليه من خوف التهمة و دخول الشبهة على القوم‏ «رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ لِأَخِي» و هذا على وجه الانقطاع إلى الله سبحانه و التقرب إليه لا أنه كان وقع منه أو من أخيه قبيح كبير أو صغير يحتاج أن يستغفر منه فإن الدليل قد دل على أن الأنبياء لا يجوز أن يقع منهم شي‏ء من القبيح و قيل أنه (ع) بين بهذا لبني إسرائيل أنه لم يجر رأسه إليه لعصيان وجد منه و إنما فعله كما يفعل الإنسان بنفسه عند شدة غضبه على غيره عن الجبائي‏ «وَ أَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ» أي نعمتك و جنتك‏ «وَ أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ» ظاهر المعنى و إنما يذكر في آخر الدعاء لبيان شدة الرجاء من جهته فإن الابتداء بالنعمة يوجب الإتمام و سعة الرحمة تقتضي الزيادة فيها فيقال أرحم الراحمين لاستدعاء الرحمة من جهته كما يقال أجود الأجودين لاستدعاء الجود من قبله.

 [سورة الأعراف (7): الآيات 152 الى 154]

إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ ذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152) وَ الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَ آمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153) وَ لَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَ فِي نُسْخَتِها هُدىً وَ رَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154)

742
مجمع البیان في تفسير القرآن4

اللغة ص : 743

 

اللغة

النول اللحوق و أصله مد اليد إلى الشي‏ء الذي يبلغه و منه قولهم نولك أن تفعل كذا أي ينبغي أن تفعله فإنه يلحقك خيره و سكت أي سكن و السكوت هو الإمساك عن الكلام بهيئة منافية بسببه و هو تسكين آلة الكلام و إنما قيل سكت الغضب توسعا و مجازا لأنه لما كان بفورته دالا على ما في نفس المغضوب عليه كان بمنزلة الناطق بذلك فإذا سكنت تلك الفورة كان بمنزلة الساكت عما كان متكلما به فالسكوت في هذا الموضع أحسن من السكون لتضمنه معنى سكوته عن المعاتبة مع سكون غضبه.

الإعراب‏

قال‏ «لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ» و لا يجوز يرهبون لربهم لأنه إذا تقدم المفعول ضعف عمل الفعل فيه فصار بمنزلة ما لا يتعدى في دخول اللام عليه و قيل أنه إذا كان بمعنى من أجله جاز دخول اللام عليه تقدم أو تأخر كما قال تعالى‏ «رَدِفَ لَكُمْ».

المعنى‏

ثم أوعدهم سبحانه فقال‏ «إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ» فيه حذف أي اتخذوه إلها أو معبودا من دون الله‏ «سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ» أي سيلحقهم على عبادتهم إياه عقوبة «مِنْ رَبِّهِمْ» و إنما ذكر الغضب مع الوعيد بالنار لأنه أبلغ في الزجر عن القبيح‏ «وَ ذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا» يعني صغر النفس و المهانة قال الزجاج و الذلة ما أمروا به من قتل أنفسهم و قيل أن الذلة أخذ الجزية و أخذ الجزية لم يقع فيمن عبد العجل و إنما أراد استسلامهم للقتل‏ «وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ» أي مثل هذا الوعيد و العذاب و الغضب نجزي الكاذبين و المتخرصين و إنما سموا مفترين لأنهم عبدوا عجلا و قالوا أنه إله فكانوا كاذبين ثم عطف سبحانه على ذلك بقوله‏ «وَ الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ» أي الشرك و المعاصي‏ «ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَ آمَنُوا» أي و استأنفوا عمل الإيمان و قيل معناه تابوا و آمنوا بأن الله قابل للتوبة «إِنَّ رَبَّكَ» يا محمد «مِنْ بَعْدِها» أي من بعد التوبة و قيل من بعد السيئات‏ «لَغَفُورٌ» لذنوبهم‏ «رَحِيمٌ» بهم‏ «وَ لَمَّا سَكَتَ» أي سكن‏ «عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ» و قيل في معناه زالت فورة غضبه و لم يزل الغضب لأن توبتهم لم تخلص و قيل معناه زال غضبه لأنهم تابوا «أَخَذَ الْأَلْواحَ» التي كانت فيها التوراة «وَ فِي نُسْخَتِها» أي و فيما نسخ فيها و كتب عن الجبائي و أبي مسلم و قيل و في نسختها التي كتبت و نسخت منها «هُدىً» أي دلالة و بيان لما يحتاج إليه من أمور الدين‏ «وَ رَحْمَةٌ» أي نعمة و منفعة «لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ» أي يخشون ربهم فلا يعصونه و يعملون بما فيها و في الآية دلالة على أنه يجوز

 

743
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأعراف(7): آية 155] ص : 744

 

إلقاء التوراة للغضب الذي يظهر بإلقائها ثم أخذها للحكمة التي فيها من غير أن يكون إلقاؤها رغبة عنها.

 [سورة الأعراف (7): آية 155]

وَ اخْتارَ مُوسى‏ قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَ إِيَّايَ أَ تُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَ تَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَ ارْحَمْنا وَ أَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ (155)

اللغة

الاختيار إرادة ما هو خير يقال خيره بين أمرين فاختار أحدهما و الاختيار و الإيثار بمعنى واحد و الفتنة الكشف و الاختيار و قال المسيب بن علس:

إذ تستبيك بأصلتي ناعم‏

 

 قامت لتفتنه بغير قناع‏

 

أي لتكشفه و تبرزه.

الإعراب‏

و اختار موسى تقديره اختار موسى من قومه فحذف من فوصل الفعل فنصبه و إنما حذف من لدلالة الفعل عليه مع إيجاز اللفظ قال الفرزدق:

و منا الذي اختير الرجال سماحة

 

 وجودا إذا هب الرياح الزعازع‏

 

و قال غيلان:

و أنت الذي اخترت المذاهب كلها

 

 بوهبين إذ ردت علي الأباعر

 

و قال آخر:

فقلت له اخترها قلوصا سمينة

 

 و نابا علينا مثل نابك في الحيا.

 

 

744
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 745

المعنى‏

ثم أخبر تعالى عن اختيار موسى من قومه عند خروجه إلى ميقات ربه فقال‏ «وَ اخْتارَ مُوسى‏ قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقاتِنا» و اختلف في سبب اختياره إياهم و وقته فقيل أنه اختارهم حين خرج إلى الميقات ليكلمه الله سبحانه بحضرتهم و يعطيه التوراة فيكونوا شهداء له عند بني إسرائيل لما لم يثقوا بخبره أن الله سبحانه يكلمه فلما حضروا الميقات و سمعوا كلامه تعالى سألوا الرؤية فأصابتهم الصاعقة ثم أحياهم الله تعالى فابتدأ سبحانه بحديث الميقات ثم اعترض حديث العجل فلما تم عاد إلى بقية القصة و هذا الميقات هو الميعاد الأول الذي تقدم ذكره عن أبي علي الجبائي و أبي مسلم و جماعة من المفسرين و هو الصحيح و رواه علي بن إبراهيم في تفسيره و قيل أنه اختارهم بعد الميقات الأول للميقات الثاني بعد عبادة العجل ليعتذروا من ذلك‏ «فَلَمَّا» سمعوا كلام الله قالوا أرنا الله جهرة ف «أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ» و هي الرعدة و الحركة الشديدة حتى كادت أن تبين مفاصلهم و خاف موسى عليهم الموت فبكى و دعا و خاف أن يتهمه بنو إسرائيل على السبعين إذا عاد إليهم و لم يصدقوه بأنهم ماتوا عن السدي و الحسن و قال ابن عباس أن السبعين الذين قالوا لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتهم الصاعقة كانوا قبل السبعين الذين أخذتهم الرجفة و إنما أمر الله تعالى موسى أن يختار من قومه سبعين رجلا فاختارهم و برز بهم ليدعو ربهم فكان فيما دعوا أن قالوا اللهم أعطنا ما لم تعط أحد قبلنا و لا تعطيه أحدا بعدنا فكره الله ذلك من دعائهم فأخذتهم الرجفة و

رووا عن علي بن أبي طالب (ع) أنه قال‏ إنما أخذتهم الرجفة من أجل دعواهم على موسى قتل أخيه هارون و ذلك أن موسى و هارون و شبر و شبير ابني هارون انطلقوا إلى سفح جبل فنام هارون على سرير فتوفاه الله فلما مات دفنه موسى (ع) فلما رجع إلى بني إسرائيل قالوا له أين هارون قال توفاه الله فقالوا لا بل أنت قتلته حسدتنا على خلقه و لينه قال فاختاروا من شئتم فاختاروا منهم سبعين رجلا و ذهب بهم فلما انتهوا إلى القبر قال موسى يا هارون أ قتلت أم مت فقال هارون ما قتلني أحد و لكن توفاني الله فقالوا لن نعصي بعد اليوم فأخذتهم الرجفة و صعقوا

و قيل أنهم ماتوا ثم أحياهم الله و جعلهم أنبياء و قال وهب لم تكن تلك الرجفة موتا و لكن القوم لما رأوا تلك الهيأة أخذتهم الرعدة فقلقلوا و رجفوا حتى كادت تبين منه مفاصلهم و تنقض ظهورهم فلما رأى ذلك موسى رحمهم و خاف عليهم الموت و اشتد عليه فقدهم و كانوا وزراءه على الخير سامعين له مطيعين فعند ذلك دعا و بكى و ناشد ربه فكشف الله عنهم تلك الرجفة و الرعدة فسكنوا و اطمأنوا و سمعوا كلام ربهم‏ «قالَ» أي قال موسى‏ «رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَ إِيَّايَ» أي لو شئت أهلكت هؤلاء السبعين من قبل هذا الموقف و أهلكتني‏

745
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأعراف(7): آية 156] ص : 746

 

معهم فالآن ما ذا أقول لبني إسرائيل إذا رجعت إليهم‏ «أَ تُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا» معناه النفي و إن كان بصورة الإنكار و المعنى أنك لا تهلكنا بما فعل السفهاء منا فبهذا نسألك رفع المحنة بالإهلاك عنا و ما فعله السفهاء هو عبادة العجل ظن موسى أنهم أهلكوا لأجل عبادة بني إسرائيل العجل فهم السفهاء و قيل هو سؤال الرؤية عن جماعة من المفسرين‏ «إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ» معناه إن الرجفة إلا اختبارك و ابتلاؤك و محنتك أي تشديدك التعبد و التكليف علينا بالصبر على ما أنزلته بنا عن سعيد بن جبير و أبي العالية و الربيع و مثله قوله‏ «أَ وَ لا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ» يعني بذلك الأمراض و الأسقام التي شدد الله بها التعبد على عباده و إنما سمي ذلك فتنة لأنه يشتد الصبر عليها و مثله‏ «الم أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَ هُمْ لا يُفْتَنُونَ» أي لا ينالهم شدائد الدنيا و قيل أن المراد إن هي إلا عذابك عن ابن عباس و قد سمى الله العذاب فتنة في قوله‏ «يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ» أي يعذبون فكأنه قال ليس هذا الإهلاك إلا عذابك لهم بما فعلوه من الكفر و عبادة العجل أو سؤالهم الرؤية «تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَ تَهْدِي مَنْ تَشاءُ» أي تصيب بهذه الرجفة من تشاء و تصرفها عمن تشاء عن ابن عباس و تقديره تهلك بها من تشاء و تنجي من تشاء و قيل معناه تضل بترك الصبر على فتنتك و ترك الرضا بها من تشاء عن نيل ثوابك و دخول جنتك و تهدي بالرضا بها و الصبر عليها من تشاء «أَنْتَ وَلِيُّنا» معناه أنت ناصرنا و الأولى بنا تحوطنا و تحفظنا «فَاغْفِرْ لَنا وَ ارْحَمْنا وَ أَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ» أي خير الساترين على عباده و المتجاوزين لهم عن جرمهم.

 [سورة الأعراف (7): آية 156]

وَ اكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَ فِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ‏ءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ الَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ (156)

القراءة

في الشواذ قراءة الحسن و عمرو الأسواري من أساء و القراءة المشهورة من‏

 

746
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 747

 «أَشاءُ» و الوجه فيه ظاهر.

المعنى‏

هذا تمام ما قاله موسى في دعائه‏ «وَ اكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً» سأل الله سبحانه أن يكتب لهم الحسنة في الدنيا و هي النعمة و إنما سميت النعمة حسنة و إن كانت الحسنة اسم الطاعة لله لأمرين (أحدهما) أن النعمة تتقبلها النفس كما أن الطاعة يتقبلها العقل و الآخر أنها ثمرة الطاعة لله و إنما ذكر بلفظ الكتابة و لم يقل و اجعل لنا أو أوجب لنا لأن الكتابة أثبت و أدوم يقال كتب رزق فلان في الديوان فيدل ذلك على دوامه و ثبوته على مرور الأزمان‏ «وَ فِي الْآخِرَةِ» معناه و اكتب لنا في الآخرة حسنة أيضا كما في قوله‏ «رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَ فِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً» و قيل الحسنة في الدنيا الثناء الجميل و في الآخرة الرفعة و قيل هي في الدنيا التوفيق للأعمال الصالحة و في الآخرة المغفرة و الجنة «إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ» أي رجعنا بتوبتنا إليك و الهود الرجوع‏ «قالَ» الله تعالى مجيبا لموسى (ع) «عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ» ممن عصاني و استحقه بعصيانه و إنما علقه بالمشيئة لجواز الغفران في العقل‏ «وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ‏ءٍ» قال الحسن و قتادة إن رحمته في الدنيا وسعت البر و الفاجر و هي يوم القيامة للمتقين خاصة و قال عطية العوفي وسعت كل شي‏ء و لكن لا تجب إلا للذين يتقون و ذلك أن الكافر يرزق و يدفع عنه بالمؤمن لسعة رحمة الله للمؤمن فيعيش فيها فإذا صار في الآخرة وجبت للمؤمنين خاصة كالمستضي‏ء بنار غيره إذا ذهب صاحب السراج بسراجه و قيل معناه أنها تسع كل شي‏ء إن دخلوها فلو دخل الجميع فيها لوسعتهم إلا أن فيهم من لا يدخل فيها لضلالة و

في الحديث‏ إن النبي ص قام في الصلاة فقال أعرابي و هو في الصلاة اللهم ارحمني و محمدا و لا ترحم معنا أحدا فلما سلم رسول الله ص قال للأعرابي لقد تحجرت واسعا يريد رحمة الله عز و جل‏ أورده البخاري في الصحيح‏

 «فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ» أي فسأوجب رحمتي للذين يتقون الشرك أي يجتنبونه و قيل يجتنبون الكبائر و المعاصي‏ «وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ» أي يخرجون زكاة أموالهم لأنهم من أشق الفرائض و قيل معناه و يطيعون الله و رسوله عن ابن عباس و الحسن و إنما ذهبا إلى تزكية النفس و تطهيرها «وَ الَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ» أي بحججنا و بيناتنا يصدقون و روي عن ابن عباس و قتادة و ابن جريج إنها لما نزلت‏ «وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ‏ءٍ» قال إبليس أنا من ذلك الشي‏ء فنزعها الله من إبليس بقوله‏ «فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ» إلى آخر الآية فقال اليهود و النصارى نحن نتقي و نؤتي الزكاة و نؤمن بآيات ربنا فنزعها منهم و جعلها لهذه الأمة بقوله‏ «الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ» الآية.

747
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأعراف(7): آية 157] ص : 748

 

 [سورة الأعراف (7): آية 157]

الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ الْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَ عَزَّرُوهُ وَ نَصَرُوهُ وَ اتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)

القراءة

قرأ ابن عامر وحده آصارهم على الجمع و الباقون‏ «إِصْرَهُمْ» على التوحيد.

الحجة

قال أبو علي الأصر مصدر يقع على الكثير مع إفراد لفظه يدل على ذلك قوله‏ «إِصْرَهُمْ» فأضيف و هو مفرد إلى الكثرة و لا يجمع و قال‏ رَبَّنا وَ لا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً و قال‏ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍ‏ و لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ‏ فالوجه الإفراد كما أفرد في غير هذا الموضع و جمعه ابن عامر كأنه أراد ضروبا من المأثم مختلفة فجمع لاختلافها و المصادر تجمع إذا اختلف ضروبها و إذا كانوا قد جمعوا ما يكون ضربا واحدا كقوله:

هل من حلوم لأقوام فينذرهم‏

 

 ما جرب الناس من عضي و تضريسي‏

 

فأن يجمع ما يختلف من المأثم أجدر و يقوي ذلك قوله‏ «وَ لَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَ أَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ» و الثقل مصدر كالشبع و الصغر و الكبر.

اللغة

قال الزجاج اختلف أهل اللغة في معنى قوله‏ «عَزَّرُوهُ» و في قولهم عزرت فلانا أعزره و أعزره عزرا فقيل معناه رددته و قيل معناه أعنته و قيل معناه لمته و يقال عزرته بالتشديد نصرته و يقال منعت منه فمعنى عزروه منعوا أعداءه من الكفر به و قيل نصروه و المعنى قريب لأن منع الأعداء منه نصرته و معنى عزرت فلانا إذا ضربته ضربا دون الحد أنه يمنعه بضربه إياه من معاودته مثل عمله و يجوز أن يكون من عزرته أي رددته معناه فعلت به ما يرده عن المعصية.

 

748
مجمع البیان في تفسير القرآن4

الإعراب ص : 749

الإعراب‏

قال الزجاج قوله‏ «يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ» يجوز أن يكون على تقدير يجدونه مكتوبا عندهم أنه يأمرهم بالمعروف و يجوز أن يكون يأمرهم بالمعروف مستأنفا قال أبو علي لا وجه لقوله‏ «يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً» أنه يأمرهم إن كان يعني أن ذلك مراد لأنه لا شي‏ء يدل على حذفه و لأنا لم نعلمهم حذفوا هذا في شي‏ء و تفسيره أن وجدت هنا هو المتعدي إلى مفعولين و مكتوبا مفعول ثان و المعنى يجدون ذكره مكتوبا عندهم في التوراة أو اسمه فالمفعول الأول قام مقام المضاف إليه و إنما قلنا ذلك لأن المكتوب هو الاسم أو الذكر و المفعول الثاني في هذا الباب يجب أن يكون الأول في المعنى قال فأما قوله‏ «يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ» فهو عندي تفسير لما كتب كما أن قوله‏ «لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ عَظِيمٌ»+ تفسير لوعدهم و كما أن قوله‏ «خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ» تفسير للمثل فإن قلت لم لا تجعله حالا من المفعول الأول فلأن ذلك ممتنع في المعنى أ لا ترى أن المعنى إذا كان يجدون ذكره أو اسمه مكتوبا لم يجز أن يكون يأمرهم حالا منه لأن الاسم و الذكر لا يأمران إنما يأمر المذكور و المسمى و لا يجوز أن يكون مما في مكتوب من الضمير لأن الضمير هو المفعول الأول في المعنى.

المعنى‏

ثم وصف سبحانه الذين يتقون بصفة أخرى فقال‏ «الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ» أي يؤمنون به و يعتقدون بنبوته يعني نبينا محمد ص‏ «الْأُمِّيَّ» ذكر في معناه أقوال (أحدها) أنه الذي لا يكتب و لا يقرأ (و ثانيها) أنه منسوب إلى الأمة و المعنى أنه على جبلة الأمة قبل استفادة الكتابة و قيل أن المراد بالأمة العرب لأنها لم تكن تحسن الكتابة (و ثالثها) أنه منسوب إلى الأم و المعنى أنه على ما ولدته أمه قبل تعلم الكتابة (و رابعها)

أنه منسوب إلى أم القرى و هي مكة و هو المروي عن أبي جعفر الباقر (ع)

 «الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ» معناه يجدون نعته و صفته و نبوته مكتوبا في الكتابين لأنه مكتوب في التوراة في السفر الخامس إني سأقيم لهم نبيا من إخوتهم مثلك و أجعل كلامي في فيه فيقول لهم كل ما أوصيه به و فيها أيضا مكتوب و أما ابن الأمة فقد باركت عليه جدا جدا و سيلد اثني عشر عظيما و أؤخره لأمة عظيمة و فيها أيضا أتانا الله من سيناء و أشرق من ساعير و استعلن من جبال فاران و في الإنجيل بشارة بالفارقليط في مواضع منها نعطيكم فارقليط آخر يكون معكم آخر الدهر كله و فيه أيضا قول المسيح للحواريين أنا أذهب و سيأتيكم الفارقليط روح الحق الذي لا يتكلم من قبل نفسه أنه نذيركم بجميع الحق و يخبركم بالأمور المزمعة و يمدحني و يشهد لي و فيه أيضا أنه إذا جاء فند أهل العالم‏ «يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهاهُمْ‏

749
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 749

عَنِ الْمُنْكَرِ» يجوز أن يكون هذا مكتوبا في التوراة و الإنجيل و يكون موصولا بما قبله و بيانا لمن يكتب له رحمة الولاية و المحبة و يجوز أن يكون ابتداء من قول الله تعالى مدحا للنبي ص و المعروف الحق و المنكر الباطل لأن الحق معروف الصحة في العقول و الباطل منكر الصحة في العقول و قيل المعروف مكارم الأخلاق و صلة الأرحام و المنكر عبادة الأوثان و قطع الأرحام عن ابن عباس و هذا القول داخل في القول الأول‏ «وَ يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ» معناه يبيح لهم المستلذات الحسنة و يحرم عليهم القبائح و ما تعافه الأنفس و قيل يحل لهم ما اكتسبوه من وجه طيب و يحرم عليهم ما اكتسبوه من وجه خبيث و قيل يحل لهم ما حرمه عليهم رهابينهم و أحبارهم و ما كان يحرمه أهل الجاهلية من البحائر و السوائب و غيرها و يحرم عليهم الميتة و الدم و لحم الخنزير و ما ذكر معها «وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ» أي ثقلهم شبه ما كان على بني إسرائيل من التكليف الشديد بالثقل و ذلك أن الله سبحانه جعل توبتهم أن يقتل بعضهم بعضا و جعل توبة هذه الأمة الندم بالقلب حرمة للنبي ص عن الحسن و قيل الإصر هو العهد الذي كان الله سبحانه أخذه على بني إسرائيل أن يعملوا بما في التوراة عن ابن عباس و الضحاك و السدي و يجمع المعنيين قول الزجاج الإصر ما عقدته من عقد ثقيل‏ «وَ الْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ» معناه و يضع عنهم العهود التي كانت في ذمتهم و جعل تلك العهود بمنزلة الأغلال التي تكون في الأعناق للزومها كما يقال هذا طوق في عنقك و قيل يريد بالأغلال ما امتحنوا به من قتل نفوسهم في التوبة و قرض ما يصيبه البول من أجسادهم و ما أشبه ذلك من تحريم السبت و تحريم العروق و الشحوم و قطع الأعضاء الخاطئة و وجوب القصاص دون الدية عن أكثر المفسرين‏ «فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ» أي بهذا النبي و صدقوه في نبوته‏ «وَ عَزَّرُوهُ» أي عظموه و وقروه و منعوا عنه أعداءه‏ «وَ نَصَرُوهُ» عليهم‏ «وَ اتَّبَعُوا النُّورَ» معناه القرآن الذي هو نور في القلوب كما أن الضياء نور في العيون و يهتدي به الخلق في أمور الدين كما يهتدون بالنور في أمور الدنيا «الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ» أي أنزل عليه و قد يقوم مع مقام على كما يقوم على مقام مع و قيل معناه أنزل في زمانه و على عهده و

يروى أن النبي ص قال لأصحابه‏ أي الخلق أعجب إيمانا قالوا الملائكة فقال الملائكة عند ربهم فما لهم لا يؤمنون قالوا فالنبيون قال النبيون يوحى إليهم فما لهم لا يؤمنون قالوا فنحن يا نبي الله قال أنا فيكم فما لكم لا تؤمنون إنما هم قوم يكونون بعدكم يجدون كتابا في ورق فيؤمنون به فهو معنى قوله‏ «وَ اتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ»

 «أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» أي الظافرون بالمراد الناجون من العقاب الفائزون بالثواب.

750
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأعراف(7): آية 158] ص : 751

 [سورة الأعراف (7): آية 158]

قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحيِي وَ يُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ كَلِماتِهِ وَ اتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)

الإعراب‏

جميعا نصب على الحال من ضمير المخاطب الذي عمل حرف الإضافة فيه و العامل في الحال معنى الفعل في رسول الله إلا أنه لا يجوز أن يتقدم على حرف الإضافة لأنه قد صار بمنزلة العامل.

المعنى‏

ثم أمر الله سبحانه نبينا أن يخاطب جميع الخلق من العرب و العجم فقال‏ «قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ» أرسلني‏ «إِلَيْكُمْ جَمِيعاً» أدعوكم إلى توحيده و طاعته و اتباعي فيما أؤديه إليكم و إنما ذكر جميعا للتأكيد و ليعلم أنه مبعوث إلى الكافة «الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ» معناه الذي له التصرف في السماوات و الأرض من غير دافع و منازع‏ «لا إِلهَ» أي لا معبود «إِلَّا هُوَ» و لا شريك له في الإلهية «يُحيِي» الأموات‏ «وَ يُمِيتُ» الأحياء لا يقدر أحد على الإحياء و الإماتة سواه لأنه لو قدر أحد على الإماتة لقدر على الإحياء فإن من شأن القادر على الشي‏ء أن يكون قادرا على ضده‏ «فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ» يعني لم يأمركم بالإيمان حتى آمن هو أولا و عليه زيادة التكليف من أداء الرسالة و بيان الشرائع و القيام بالدعوة «وَ كَلِماتِهِ» أي يؤمن بكلماته من الكتب المتقدمة و الوحي و القرآن‏ «وَ اتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ» أي لكي تهتدوا إلى الثواب و الجنة.

751
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأعراف(7): الآيات 159 الى 160] ص : 752

 

 [سورة الأعراف (7): الآيات 159 الى 160]

وَ مِنْ قَوْمِ مُوسى‏ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَ بِهِ يَعْدِلُونَ (159) وَ قَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً وَ أَوْحَيْنا إِلى‏ مُوسى‏ إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ وَ ظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَ السَّلْوى‏ كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَ ما ظَلَمُونا وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160)

اللغة

قال الأزهري السبط الفرقة لا يثنى و لا يجمع و لا يؤنث و قد جمع فقيل أسباط و اشتقاقها من سبط و هو شجر و الواحدة سبطة و رجل سبط الشعر و امرأة سبطة و قد سبط شعره سبوطة و هو الذي لا جعودة فيه و رجل سبط الأصابع طويلها و سبط الكف سمحها و مطر سبط و سبط متدارك و سباطته سعته و السبط في كلام العرب خاصة الأولاد قال الزجاج قال بعضهم السبط القرن الذي يجي‏ء بعد قرن و الصحيح أن الأسباط في ولد إسحاق بمنزلة القبائل في ولد إسماعيل فولد كل ولد من أولاد يعقوب سبط و ولد كل ولد من أولاد إسماعيل قبيلة و إنما سموا هؤلاء بالقبائل و هؤلاء بالأسباط ليفصل بين ولد إسماعيل و ولد إسحاق (ع) و معنى القبيلة الجماعة و يقال للشجرة لها قبائل و كذلك الأسباط من السبط كأنه جعل إسحاق بمنزلة شجرة و جعل إسماعيل بمنزلة شجرة و كذلك يفعل النسابون في النسب يجعلون الوالد بمنزلة شجرة و أولاده بمنزلة أغصانها و يقال طوبى لفرع فلان و فلان من شجرة صالحة فهذا معنى الأسباط و السبط.

الإعراب‏

 «اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً» يعني اثنتي عشرة فرقة فحذف المميز و لذلك أنث و أسباطا بدل من اثنتي عشرة تقديره و فرقناهم أسباطا و جعلناهم أسباطا و يجوز كسر الشين في عشرة و هو قراءة الأعمش و يحيى بن وثاب و أمما نعت الأسباط.

المعنى‏

ثم عاد الكلام إلى قصة بني إسرائيل فقال سبحانه‏ «وَ مِنْ قَوْمِ مُوسى‏ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ» أي جماعة يدعون إلى الحق و يرشدون إليه‏ «وَ بِهِ يَعْدِلُونَ» أي و بالحق يحكمون و يعدلون في حكمهم و اختلف في هذه الأمة من هم على أقوال (أحدها)

أنهم قوم من وراء الصين و بينهم و بين الصين واد جار من الرمل لم يغيروا و لم يبدلوا عن ابن عباس و السدي و الربيع و الضحاك و عطاء و هو المروي عن أبي جعفر الباقر (ع)

قالوا و ليس لأحد منهم مال دون صاحبه يمطرون بالليل و يضحون بالنهار و يزرعون لا يصل إليهم منا أحد و لا منهم إلينا و هم على الحق قال ابن جريج بلغني أن بني إسرائيل لما قتلوا أنبياءهم و كفروا

 

752
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 752

و كانوا اثنتي عشرة سبطا تبرأ سبط منهم مما صنعوا و اعتذروا و سألوا الله أن يفرق بينهم و بينهم ففتح الله لهم نفقا من الأرض فساروا فيه سنة و نصف سنة حتى خرجوا من وراء الصين فهم هناك حنفاء مسلمون يستقبلون قبلتنا و قيل إن جبرائيل انطلق بالنبي ص ليلة المعراج إليهم فقرأ عليهم من القرآن عشر سور نزلت بمكة فآمنوا به و صدقوه و أمرهم أن يقيموا مكانهم و يتركوا السبت و أمرهم بالصلاة و الزكاة و لم يكن نزلت فريضة غيرهما ففعلوا قال ابن عباس و ذلك قوله‏ وَ قُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً يعني عيسى بن مريم يخرجون معه و روى أصحابنا أنهم يخرجون مع قائم آل محمد و روي أن ذا القرنين رآهم و قال لو أمرت بالمقام لسرني أن أقيم بين أظهركم (و ثانيها) أنهم قوم من بني إسرائيل تمسكوا بالحق و بشريعة موسى (ع) في وقت ضلالة القوم و قتلهم أنبياءهم و كان ذلك قبل نسخ شريعتهم بشريعة عيسى (ع) فيكون تقدير الآية و من قوم موسى أمة كانوا يهدون بالحق عن أبي علي الجبائي و أنكر القول الأول و قال لو كانوا باقين لكانوا كافرين بجحد نبوة محمد ص و ليس هذا بشي‏ء لأنه لا يمتنع أن يكون قوم لم يبلغهم دعوة النبي ص فلا يحكم بكفرهم و يمكن أن يكون بلغهم خبر النبوة و آمنوا (و ثالثها) أنهم الذين آمنوا بالنبي ص مثل عبد الله بن سلاء و ابن صوريا و غيرهما و

في حديث أبي حمزة الثمالي و الحكم بن ظهير أن موسى (ع) لما أخذ الألواح قال رب إني لأجد في الألواح أمة هي خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف و ينهون عن المنكر فاجعلهم أمتي قال تلك أمة أحمد قال رب إني لأجد في الألواح أمة هم الآخرون في الخلق السابقون في دخول الجنة فاجعلهم أمتي قال تلك أمة أحمد قال رب إني لأجد في الألواح أمة كتبهم في صدورهم يقرءونها فاجعلهم أمتي قال تلك أمة أحمد قال رب إني لأجد في الألواح أمة يؤمنون بالكتاب الأول و بالكتاب الآخر و يقاتلون الأعور الكذاب فاجعلهم أمتي قال تلك أمة أحمد قال رب إني أجد في الألواح أمة إذا هم أحدهم بحسنة ثم لم يعملها كتبت له حسنة و إن عملها كتبت له عشرة أمثالها و إن هم بسيئة و لم يعملها لم يكتب عليه و إن عملها كتبت عليه سيئة واحدة فاجعلهم أمتي قال تلك أمة أحمد قال رب إني أجد في الألواح أمة هم الشافعون و هم المشفوع لهم فاجعلهم أمتي قال تلك أمة أحمد قال موسى رب اجعلني من أمة أحمد ص قال أبو حمزة فأعطي موسى آيتين لم يعطوها يعني أمة أحمد قال الله‏ يا مُوسى‏ إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي‏

753
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأعراف(7): الآيات 161 الى 162] ص : 754

 

وَ بِكَلامِي‏ و قال‏ «وَ مِنْ قَوْمِ مُوسى‏ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَ بِهِ يَعْدِلُونَ» قال فرضي موسى (ع) كل الرضا

و

في حديث غير أبي حمزة قال‏ إن النبي ص لما قرأ «وَ مِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَ بِهِ يَعْدِلُونَ» هذه لكم و قد أعطى الله قوم موسى مثلها

 «وَ قَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً» أي و فرقنا بني إسرائيل اثنتي عشرة فرقة أسباطا يعني أولاد يعقوب (ع) فإنهم كانوا اثني عشر و كان لكل واحد منهم أولاد و نسل فصار كل فرقة منهم سبطا و أمة و إنما جعلهم سبحانه أمما ليتميزوا في مشربهم و مطعمهم و يرجع كل أمة منهم إلى رئيسهم فيخف الأمر على موسى (ع) و لا يقع بينهم اختلاف و تباغض‏ «وَ أَوْحَيْنا إِلى‏ مُوسى‏ إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ» أي طلبوا منه السقيا «أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ» الانبجاس خروج الماء الجاري بقلة و الانفجار خروجه بكثرة و كان يبتدئ الماء من الحجر بقلة ثم يتسع حتى يصير إلى الكثرة فلذلك ذكر هاهنا الانبجاس و في سورة البقرة الانفجار و الآية إلى آخرها مفسرة هناك فلا معنى لإعادته.

 [سورة الأعراف (7): الآيات 161 الى 162]

وَ إِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَ كُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَ قُولُوا حِطَّةٌ وَ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ (162)

القراءة

قرأ أهل المدينة و ابن عامر و يعقوب و سهل تغفر بالتاء و ضمها و فتح الفاء و الباقون‏ «نَغْفِرْ» بالنون و كسر الفاء و قرأ أهل المدينة و يعقوب و سهل خطيئاتكم على جمع السلامة و رفع التاء و قرأ ابن عامر خطيئتكم بالتوحيد و رفع التاء و قرأ أبو عمرو خطاياكم بغير همز و على جمع التكسير و الباقون‏ «خَطِيئاتِكُمْ» على جمع السلامة و كسر التاء.

الحجة

من قرأ «نَغْفِرْ» بالنون فهو على و إذ قيل لهم ادخلوا نغفر لكم أي إن دخلتم غفرنا و التي في البقرة نَغْفِرْ و النون هناك أحسن لقوله‏ وَ إِذْ قُلْنَا و أما قراءة من قرأ تغفر بالتاء مضمومة فلأنه قد استند إليها خطيئاتكم و هو مؤنث فأنث و بني الفعل للمفعول و هو أشبه بقوله‏ «وَ إِذْ قِيلَ لَهُمُ» و قد مضى تفسير مثل هاتين الآيتين في سورة البقرة فلا وجه لإعادته.

 

754
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأعراف(7): الآيات 163 الى 164] ص : 755

 

 [سورة الأعراف (7): الآيات 163 الى 164]

وَ سْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَ يَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (163) وَ إِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى‏ رَبِّكُمْ وَ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164)

القراءة

قرأ حفص‏ «مَعْذِرَةً» بالنصب و الباقون بالرفع و روي في الشواذ عن شهر ابن حوشب و أبي نهيك يعدون عن الحسن يسبتون بضم الياء.

الحجة

من قرأ معذرة بالرفع فتقديره موعظتنا معذرة فيكون خبر مبتدإ محذوف و من قرأ بالنصب فعلى معنى نعتذر معذرة و قال سيبويه لو قال رجل لرجل معذرة إلى الله و إليك من كذا و كذا لنصب إلى معنى نعتذر و من قرأ يعدون أراد يعتدون فأسكن التاء ليدغمها في الدال و نقل فتحها إلى العين فصار يعدون و من قرأ يسبتون فمعناه يدخلون في السبت كما يقال أشهرنا دخلنا في الشهر و أجمعنا دخلنا في الجمعة و من فتح الياء أراد يفعلون السبت و يقيمون عمل يوم السبت فالسبت على هذا فعلهم يقول سبت يسبت سبتا إذا عظم يوم السبت.

اللغة

حيتان جمع حوت و أكثر ما يسمي العرب السمك الحيتان و النينان و عدا فلان يعدو عدوانا و عداء و عدوا و عدوا ظلم و أصله مجاوزة الحد و الشرع أصله الظهور و منه الشرعة و الشريعة و هو الظاهر المستقيم من المذاهب و منه المشرعة و الشريعة لكونهما في مكان ظاهر من النهر و منه شراع السفينة لظهورها و المعذرة و العذرى و العذرة واحد مصدر عذرته أعذره و المعذر الذي له عذر صحيح و المعذر بالتشديد الذي لا عذر له و هو يريك أنه معذور و هو المقصر و المعتذر يقال لمن له عذر و لمن لا عذر له و قولهم من يعذرني معناه من يقوم بعذري.

الإعراب‏

 «إِذْ يَعْدُونَ» موضع إذ نصب على معنى سلهم عن عدوهم أي عن وقت ذلك‏ «إِذْ تَأْتِيهِمْ» في موضع نصب أيضا يعدون المعنى سلهم إذ عدوا في وقت الإتيان شرعا

 

755
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 756

نصب على الحال من الحيتان و موضع الكاف من‏ «كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ» نصب بنبلوهم و يحتمل أن يكون على‏ «وَ يَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ» أي لا تأتيهم شرعا فيكون الكاف في موضع نصب على الحال من تأتيهم و يكون نبلوهم مستأنفا و القول الأول أجود و «لِمَ تَعِظُونَ» أصله لما و لكن هذه الألف تحذف مع حرف الجر يقول مم و فيم و علام و عم.

المعنى‏

ثم ابتدأ سبحانه بخبر آخر من أخبار بني إسرائيل فقال مخاطبا لنبيه‏ «وَ سْئَلْهُمْ» أي استخبرهم يا محمد و هو سؤال توبيخ و تقريع لا سؤال استفهام‏ «عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ» أي مجاورة البحر و قريبة من البحر على شاطئ البحر و هي إيلة عن ابن عباس و قيل هي مدين عنه أيضا و قيل طبرية عن الزهري‏ «إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ» أي يظلمون فيه بصيد السمك و يتجاوزون الحد في أمر السبت‏ «إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً» أي ظاهرة على وجه الماء عن ابن عباس و قيل متتابعة عن الضحاك و قيل رافعة رءوسها قال الحسن كانت تشرع إلى أبوابها مثل الكباش البيض لأنها كانت آمنة يومئذ «وَ يَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ» أي و يوم لا يكون السبت كانت تغوص في الماء و اختلف في أنهم كيف اصطادوا فقيل إنهم ألقوا الشبكة في الماء يوم السبت حتى كان يقع فيها السمك ثم كانوا لا يخرجون الشبكة من الماء إلى يوم الأحد و هذا تسبب محظورة و في رواية عكرمة عن ابن عباس اتخذوا الحياض فكانوا يسوقون الحيتان إليها و لا يمكنها الخروج منها فيأخذونها يوم الأحد و قيل إنهم اصطادوها و تناولوها باليد في يوم السبت عن الحسن‏ «كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ» أي مثل ذلك الاختبار الشديد نختبرهم‏ «بِما كانُوا يَفْسُقُونَ» أي بفسقهم و عصيانهم و على المعنى الآخر لا تأتيهم الحيتان مثل ذلك الإتيان الذي كان منها يوم السبت ثم استأنف فقال نبلوهم‏ «وَ إِذْ قالَتْ أُمَّةٌ» أي جماعة «مِنْهُمْ» أي من بني إسرائيل الذين لم يصطادوا و كانوا ثلاثة فرق فرقة قانصة و فرقة ساكتة واعظة فقال الساكتون للواعظين و الناهين‏ «لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ» أي يهلكهم الله و لم يقولوا ذلك كراهية لوعظهم و لكن لإياسهم عن أن يقبل أولئك القوم الوعظ فإن الأمر بالمعروف إنما يجب عند عدم الإياس من القبول عن الجبائي و معناه ما ينفع الوعظ ممن لا يقبل و الله مهلكهم في الدنيا بمعصيتهم‏ «أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً» في الآخرة «قالُوا» أي قال الواعظون في جوابهم‏ «مَعْذِرَةً إِلى‏ رَبِّكُمْ» معناه موعظتنا إياهم معذرة إلى الله و تأدية لفرضه في النهي عن المنكر لئلا يقول لنا

756
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأعراف(7): الآيات 165 الى 166] ص : 757

 

لم لم تعظوهم‏ «وَ لَعَلَّهُمْ» بالوعظ «يَتَّقُونَ» و يرجعون.

 [سورة الأعراف (7): الآيات 165 الى 166]

فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَ أَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (166)

القراءة

قرأ أهل المدينة بعذاب بيس بكسر الباء غير مهموز على وزن فعل و قرأ ابن عامر بئس مهموز على وزن فعل أيضا و قرأ أبو بكر غير حماد بيئس على وزن فيعل و الباقون‏ «بَئِيسٍ» على وزن فعيل و روي في الشواذ عن ابن عباس بيئس على وزن فيعل و عن زيد بن ثابت بئس على وزن فعل و عن يحيى و السلمي بخلاف بئس و عن طلحة بن مصرف بيس و روي أيضا عن نافع و روي عن مجاهد بائس على وزن فاعل و عن الحسن بئس بكسر الباء و فتح السين.

الحجة

قال أبو علي من قرأ «بَئِيسٍ» فإنه يحتمل أمرين أن يكون فعيلا من بؤس يبؤس إذا كان شديد البأس فيكون مثل بعذاب شديد و أن يكون مصدرا على فعيل نحو النذير و النكير و قولهم:

" عذير الحي من عدوان كانوا جبة الأرض"

 

 

 

فوصف بالمصدر و التقدير بعذاب ذي بئيس أي ذي بؤس و من قرأ بعذاب بئس فإنه جعل بئس الذي هو فعل اسما فوصف به و مثل ذلك‏

قوله‏ إن الله ينهى عن قيل و قال‏

و مثله مذ شب إلى دب و مذ شب إلى دب فلما استعملت هذه الألفاظ أسماء و أفعالا فكذلك بئس جعله اسما بعد أن كان فعلا فصار وصفا و من قرأ بيئس فإنه يكون وصفا مثل ضيغم و حيدر و قال و لا يجوز كسر العين منه لأن فيعل بناء اختص به ما كان عينه ياء أو واوا مثل طيب و سيد و لم يجي‏ء مثل ضيغم و قد جاء في المعتل فيعل أنشد سيبويه:

" ما بال عينك كالشعيب العين"

 

 

 

فينبغي أن يحمل بيئس ممن رواه على الوهم قال ابن جني و إنما جاء في الهمز لمشابهتها حرفي العلة و أما

 

757
مجمع البیان في تفسير القرآن4

اللغة ص : 758

بئس على فعل فإنه جاء على بئس الرجل بأسة إذا شجع فكأنه عذاب مقدم عليهم غير متأخر عنهم و يجوز أن يكون مقصورا من بئيس فيكون مثل أنق من أنيق و أما بيس في وزن جيش فكأنه أراد بئس فخفف الهمزة فصارت بين بين فلما قاربت الياء أسكنها طلبا للخفة فصارت في اللفظ ياء و نحو من ذلك قول ابن ميادة:

" و كان يومئذ لها حكمها"

 

 

 

أراد يومئذ فخفف و أما بائس فاسم الفاعل من بئس و أنكر أبو حاتم قراءة الحسن بئس و قال لو كان كذا لما كان بد معها من ماء بئس ما، كنعم ما.

اللغة

قال أبو زيد يقال بؤس الرجل يبؤس بأسا إذا كان شديد البأس و في البؤس و هو الفقر بئس الرجل يبأس بؤسا و بأسا و البأساء الاسم و العتو الخروج إلى أفحش الذنوب و العاتي المبالغ في المعاصي و الليل العاتي الشديد الظلمة و الخاسئ المطرود المبعد عن الخير من خسأت الكلب إذا أقصيته فخسأ أي بعد.

المعنى‏

 «فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ» أي فلما ترك أهل هذه القرية ما ذكرهم الواعظون به و لم ينتهوا عن ارتكاب المعصية بصيد السمك‏ «أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ» أي خلصنا الذين ينهون عن المعصية «وَ أَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا» أنفسهم‏ «بِعَذابٍ بَئِيسٍ» أي شديد «بِما كانُوا يَفْسُقُونَ» أي بفسقهم و ذلك العذاب لحقهم قبل أن مسخوا قردة عن الجبائي و لم يذكر حال الفرقة الثالثة هل كانت من الناجية أم من الهالكة و روي عن ابن عباس فيهم ثلاثة أقوال (أحدها) أنه نجت الفرقتان و هلكت الثالثة و به قال السدي (و الثاني)

أنه هلكت الفرقتان و نجت الفرقة الناهية و به قال ابن زيد و روي ذلك عن أبي عبد الله (ع)

 (و الثالث) التوقيف فيه روي عن عكرمة قال دخلت على ابن عباس و بين يديه المصحف و هو يبكي و يقرأ هذه الآية ثم قال قد علمت أن الله تعالى أهلك الذين أخذوا الحيتان و أنجى الذين نهوهم و لا أدري ما صنع بالذين لم ينهوهم و لم يواقعوا المعصية و هذه حالنا و اختاره الجبائي و قال الحسن إنه نجا الفرقة الثالثة لأنه ليس شي‏ء أبلغ في الأمر بالمعروف و الوعظ من ذكر الوعيد و هم قد ذكروا الوعيد فقالوا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً و قال قتل المؤمن أعظم و الله من أكل الحيتان‏ «فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ» أي عن ترك ما نهوا عنه يعني لم يتركوا ما نهوا عنه و تمردوا في الفساد و الجرأة على المعصية و أبوا أن‏

758
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[القصة] ص : 759

يرجعوا عنها «قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً» أي جعلناهم قردة «خاسِئِينَ» مبعدين مطرودين و إنما ذكر كن ليدل على أنه سبحانه لا يمتنع عليه شي‏ء و أجاز الزجاج أن يكون قيل لهم ذلك بكلام سمعوه فيكون ذلك أبلغ في الآية النازلة بهم و حكي ذلك عن أبي الهذيل قال قتادة صاروا قردة لها أذناب تعاوى بعد أن كانوا رجالا و نساء و قيل أنهم بقوا ثلاثة أيام ينظر إليهم الناس ثم هلكوا و لم يتناسلوا عن ابن عباس قال و لم يمكث مسخ فوق ثلاثة أيام و قيل عاشوا سبعة أيام ثم ماتوا عن مقاتل و قيل أنهم توالدوا عن الحسن و ليس بالوجه لأن من المعلوم أن القردة ليست من أولاد آدم كما أن الكلاب ليست منهم و

وردت الرواية عن ابن مسعود قال قال رسول الله ص‏ إن الله تعالى لم يمسخ شيئا فجعل له نسلا و عقبا.

 [القصة]

قيل كانت هذه القصة في زمن داود (ع) و عن ابن عباس قال أمروا باليوم الذي أمرتم به يوم الجمعة فتركوه و اختاروا يوم السبت فابتلوا به و حرم عليهم فيه الصيد و أمروا بتعظيمه فكانت الحيتان تأتيهم يوم السبت شرعا بيضا سمانا حتى لا يرى الماء من كثرتها فمكثوا كذلك ما شاء الله لا يصيدون ثم أتاهم الشيطان و قال إنما نهيتهم عن أخذها يوم السبت فاتخذوا الحياض و الشبكات فكانوا يسوقون الحيتان إليها يوم السبت ثم يأخذونها يوم الأحد و عن ابن زيد قال أخذ رجل منهم حوتا و ربط في ذنبه خيطا و شدة إلى الساحل ثم أخذه يوم الأحد و شواه فلاموه على ذلك فلما لم يأته العذاب أخذوا ذلك و أكلوه و باعوه و كانوا نحوا من اثني عشر ألفا فصار الناس ثلاث فرق على ما تقدم ذكره فاعتزلتهم الفرقة الناهية و لم تساكنهم فأصبحوا يوما و لم يخرج من العاصية أحد فنظروا فإذا هم قردة ففتحوا الباب و دخلوا فكانت القردة تعرفهم و هم لا يعرفونها فجعلت تبكي فإذا قالوا لهم أ لم ننهكم قالت برءوسها أن نعم قال قتادة صارت الشبان قردة و الشيوخ خنازير.

759
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأعراف(7): الآيات 167 الى 168] ص : 760

 

 [سورة الأعراف (7): الآيات 167 الى 168]

وَ إِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى‏ يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَ إِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167) وَ قَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَ مِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ وَ بَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَ السَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168)

الإعراب‏

 «وَ مِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ» دون في موضع الرفع بالابتداء و لكنه جاء منصوبا لتمكنه في الظرفية و مثله على قول أبي الحسن‏ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ‏ هو في موضع الرفع فجاء منصوبا لهذا المعنى و كذلك في قوله‏ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ‏ بين في موضع رفع لقيامه مقام الفاعل و إن شئت كان التقدير و منهم جماعة دون ذلك فحذف الموصوف و قامت صفته مقامه.

المعنى‏

ثم خاطب سبحانه النبي فقال‏ «وَ إِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ» معناه و اذكر يا محمد إذ أذن و أعلم ربك فإن تأذن و أذن بمعنى و قيل معناه تألى ربك أي أقسم القسم الذي يسمع بالأذن و قيل معناه قال ربك عن ابن عباس‏ «لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ» أي على اليهود «إِلى‏ يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ» أي من يذيقهم و يوليهم شدة العذاب بالقتل و أخذ الجزية منهم و

المعني به أمة محمد ص عند جميع المفسرين‏ و هو المروي عن أبي جعفر (ع)

و هذا يدل على أن اليهود لا تكون لهم دولة إلى يوم القيامة و لا عز و أما معنى البعث هاهنا فهو الأمر و الإطلاق و المعونة و قيل معناه التخلية و إن وقع على وجه المعصية كقوله سبحانه‏ «أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا» «إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ» لمن يستوجبه على الكفر و المعصية «وَ إِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ» ظاهر المعنى و إنما قال سريع العقاب و إن كان العقاب مؤخرا إلى يوم القيامة لأن كل آت فهو قريب و قيل معناه سريع العقاب لمن شاء أن يعاقبه في الدنيا «وَ قَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً» معناه و فرقناهم في البلاد فرقا مختلفة و جماعات شتى يعني اليهود عن ابن عباس و مجاهد و إنما فرقهم بأن فرق دواعيهم حتى افترقوا في البلاد و تفرقهم ذل لهم بمنزلة أخذ الجزية لأنهم لا يتعاونون و لا يتناصرون و قيل إنه فرقهم لما علم سبحانه من الصلاح لهم في دينهم فصلح فريق و عصى فريق ثم أخبر سبحانه عنهم فقال‏ «مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ» أي من هؤلاء الصالحون يعني من بني إسرائيل و هم الذين يؤمنون بالله و رسله و يطيعونه‏ «وَ مِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ» أي دون الصالح في الدرجة و المنزلة و هم الذين امتثلوا بعض الأوامر دون بعض و عملوا بعض المعاصي و إنما وصفهم بما كانوا عليه قبل ارتدادهم و كفرهم و ذلك قبل أن يبعث فيهم عيسى (ع) و قيل معناه منهم المؤمنون بمحمد و عيسى ع و منهم الكافرون عن عطاء و مجاهد «وَ بَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَ السَّيِّئاتِ» معناه اختبرناهم بالرخاء في العيش و الخفض في الدنيا و الدعة و السعة في الرزق بالشدائد في العيش و المصائب في الأنفس و الأموال فكأنه قال بلوناهم بالنعم و النقم و الرخاء و الشدة فإن‏

 

760
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأعراف(7): الآيات 169 الى 170] ص : 761

 

فعل النعم يقتضي الرغبة إلى الله تعالى في ارتباطها و فعل النقم يقتضي الرغبة إلى الله تعالى في كشفها «لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» أي لكي يرجعوا إلى الله تعالى و ينيبوا إلى طاعته و امتثال أمره و متى قيل كيف يصح الرجوع إلى أمر لم يكونوا عليه قط فالقول فيه أن الذاهب عن الشي‏ء قد يقال له ارجع إليه أصر أي صر إليه كما أن من رأى غيره سالكا في المهالك قد يقول له ارجع إلى الطريق المستقيم يريد به إخراجه عن المهالك و قيل إن معناه لعلهم يرجعون إلى ما عليه أصل الفطرة.

 [سورة الأعراف (7): الآيات 169 الى 170]

فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى‏ وَ يَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَ إِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَ لَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَ دَرَسُوا ما فِيهِ وَ الدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (169) وَ الَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَ أَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170)

القراءة

قرأ أبو بكر يمسكون بتسكين الميم و الباقون بفتحها و تشديد السين و هما بمعنى واحد و في الشواذ قراءة السلمي و ادارسوا ما فيه أراد تدارسوا فأدغم.

اللغة

قال الزجاج يقال للقرن الذي يجي‏ء في إثر قرن خلف و الخلف ما أخلف عليك بدلا مما ذهب منك قال الفراء يقال هو خلف صدق و خلف سوء قال لبيد:

ذهب الذين يعاش في أكنافهم‏

 

 و بقيت في خلف كجلد الأجرب‏

 

قال علي بن عيسى و قد يوضع أحدهما مكان الآخر قال حسان:

لنا القدم الأولى إليك و خلفنا

 

 لأولنا في طاعة الله تابع‏

 

 

761
مجمع البیان في تفسير القرآن4

الإعراب ص : 762

و الأغلب في الفتح أن يستعمل في المدح. و العرض ما يعرض و يقل لبثه و منه سمي العرض القائم بالجسم عرضا لأنه يعرض في الوجود و لا يجب له من اللبث ما يجب للأجسام و الدرس تكرير الشي‏ء و يقال درس الكتاب إذا كرر قراءته و درس المنزل إذا تكرر عليه مرور الأمطار و الرياح حتى انمحى أثره و أمسك و مسك و تمسك و استمسك بالشي‏ء بمعنى واحد أي اعتصم به.

الإعراب‏

 «يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى‏» في موضع النصب على الحال من الضمير في ورثوا و قوله‏ «وَرِثُوا الْكِتابَ» صفة لخلف‏ «وَ دَرَسُوا ما فِيهِ» عطف على ورثوا و قوله‏ «أَ لَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ» إلى قوله‏ «إِلَّا الْحَقَّ» اعتراض بين ورثوا و درسوا و لا يجوز الوقف من أول الآية إلا على قوله‏ «ما فِيهِ» و خبر «الَّذِينَ يُمَسِّكُونَ» قوله‏ «إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ» منهم فحذف منهم لدلالة الكلام عليه كما في قوله السمن منوان بدرهم و يحتمل أن يكون التقدير لا نضيع أجرهم لأن المصلحين هم الذين يمسكون بالكتاب في المعنى و يجوز أن يكون الخبر محذوفا و تقديره نعطيهم أجرهم لأنا لا نضيع أجر المصلحين فاستغنى بذكر العلة عن ذكر المعلول.

المعنى‏

ثم ذكر سبحانه الأخلاف بعد ذكر الأسلاف فقال‏ «فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ» معناه فذهب أولئك و قام مقامهم قوم آخرون‏ «وَرِثُوا الْكِتابَ» يعني التوراة فإن الميراث ما صار للباقي من جهة البادي‏ «يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى‏» معناه ما أشرف لهم من الدنيا أخذوه عن ابن عباس يقال الدنيا عرض حاضر يأكل منه البر و الفاجر و جميع متاع الدنيا عرض و قيل إنهم كانوا يرتشون و يحكمون بجور و قيل إنهم كانوا يرتشون و يحكمون بحق و كل ذلك عرض خسيس و أراد بقوله‏ «هذَا الْأَدْنى‏» هذا العاجل و قيل أراد عرض هذا العالم الأدنى و هو الدار الفانية «وَ يَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا» و هذا إخبار عن حرصهم على الدنيا و إصرارهم على الذنوب إذا أشرف لهم شي‏ء من الدنيا أخذوه حلالا كان أو حراما و يتمنون على الله المغفرة «وَ إِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ» أي و إن وجدوا من الغد مثله أخذوه و هذا دليل على إصرارهم و أنهم تمنوا المغفرة مع الإصرار و قيل معناه و إن جاءهم حرام من الرشوة و غيرها بعد ذلك أخذوه و استحلوه و لم يرتدعوا عنه عن ابن عباس و سعيد بن جبير و مجاهد و قيل معناه لا يشبعهم شي‏ء عن الحسن‏ «أَ لَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ» معناه أ لم يؤخذ على هؤلاء المرتشين في الأحكام القائلين سيغفر لنا إذا عوتبوا على ذلك الميثاق في التوراة أن لا يكذبوا على الله تعالى و لا يضيفوا إليه إلا ما أنزله على رسوله‏

762
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأعراف(7): آية 171] ص : 763

 

موسى (ع) في التوراة من الوعد و الوعيد و غير ذلك و ليس فيها ميعاد المغفرة مع الإصرار «وَ دَرَسُوا ما فِيهِ» أي و قرءوا ما فيه فهم ذاكرون لذلك و قيل إنه معطوف على قوله‏ «وَرِثُوا الْكِتابَ» و المعنى فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب و درسوا ما فيه فضيعوه و تركوا العمل به‏ «وَ الدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ» معناه ما أعده الله لأوليائه في الدار الآخرة من النعيم و الثواب للعاملين بطاعته خير للذين يجتنبون معاصي الله‏ «أَ فَلا تَعْقِلُونَ» من قرأ بالياء فمعناه أ فلا يعقل هذه الطائفة و من قرأ بالتاء فمعناه قل لهم أ فلا تعقلون إن الأمر على ما أخبر الله به‏ «وَ الَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ» أي يتمسكون به و الكتاب التوراة أي لا يحرفونه و لا يكتمونه عن مجاهد و ابن زيد و قيل الكتاب القرآن و المتمسك به أمة محمد ص عن عطا «وَ أَقامُوا الصَّلاةَ» إنما خص الصلاة بالذكر لجلالة موقعها أو شدة تأكدها «إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ» أي لا نضيع جزاء عملهم و نثيبهم على ما يستحقونه.

 [سورة الأعراف (7): آية 171]

وَ إِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَ ظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَ اذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171)

اللغة

النتق قلع الشي‏ء من الأصل و كل شي‏ء قلعته ثم رميت به فقد نتقته و منه قيل للمرأة الكثيرة الأولاد ناتق لأنها ترمي بالأولاد رميا هذا قول أبي عبيدة و قيل أصل النتق الرفع و منه امرأة ناتق لرفعها الأولاد و نتقت المرأة فهي ناتق و منتاق إذا كثر ولدها و هو قول ابن الأعرابي و قيل أصله الجذب يقال نتقت الغرب من البئر جذبته عن أبي مسلم و الظلة كلما أظلك أي سترك من سقف أو سحابة أو جناح حائط.

المعنى‏

عاد الكلام إلى قوم موسى (ع) فقال سبحانه‏ «وَ إِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ» معناه و اذكر يا محمد إذ قلعنا الجبل من صلة فرفعناه فوق بني إسرائيل و كان عسكر موسى (ع) فرسخا في فرسخ فرفع الله الجبل فوق جميعهم‏ «كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ» أي غمامة و قيل سقيفة عن عطا «وَ ظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ» أي علموا و أيقنوا عن الحسن و قيل معناه على ظاهره من الظن أي قوي في نفوسهم ذلك عن الرماني و الجبائي‏ «خُذُوا» أي و قلنا لهم خذوا «ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ» أي خذوا ما ألزمناكم من أحكام كتابنا و فرائضه فاقبلوه بجد و اجتهاد منكم في‏

 

763
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأعراف(7): الآيات 172 الى 174] ص : 764

 

كل أوان من غير تقصير و لا توان‏ «وَ اذْكُرُوا ما فِيهِ» من العهود و المواثيق التي أخذناها عليكم بالعمل بما فيه‏ «لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» أي لكي تتقوا ربكم و تخافوا عقابه و قد مضى تفسير هذه الآية في سورة البقرة مشروحا.

 [سورة الأعراف (7): الآيات 172 الى 174]

وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ أَشْهَدَهُمْ عَلى‏ أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى‏ شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَ كُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَ فَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174)

القراءة

قرأ ابن كثير و أهل الكوفة «ذُرِّيَّتَهُمْ» على التوحيد و الباقون ذرياتهم على الجمع و قرأ أبو عمرو أن يقولوا أو يقولوا بالياء و الباقون بالتاء.

الحجة

قال أبو علي الذرية قد يكون جمعا و قد يكون واحدا فمما جاء فيه جمعا قوله‏ «وَ كُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ» و ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ‏ فمن أفرد جعله جمعا فاستغنى عن جمعه لوقوعه على الجمع و مما جاء فيه واحدا قوله‏ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ثم قال‏ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى‏ و هذا مثل قوله‏ فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ‏ و أما قراءة أبي عمرو أن يقولوا بالياء فلأن الذي تقدم من الكلام على الغيبة و من قرأ بالتاء فلأنه جرى في الكلام خطاب أيضا فقال‏ «أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ» و كلا الوجهين حسن لأن الغيب هم المخاطبون في المعنى.

الإعراب‏

 «مِنْ ظُهُورِهِمْ» بدل من قوله‏ «مِنْ بَنِي آدَمَ» و المعنى أخذ ربك من ظهور بني آدم ذريتهم و قد ذكرنا الذرية و ما قيل في تقدير وزنها و اشتقاقها فيما تقدم و قوله‏ «أَنْ تَقُولُوا» تقديره كراهة أن تقولوا أو لئلا تقولوا و قد مضى الكلام في أمثاله.

 

764
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 765

المعنى‏

ثم ذكر سبحانه ما أخذ على الخلق من المواثيق بعقولهم عقيب ما ذكره من المواثيق التي في الكتب جمعا بين دلائل السمع و العقل و إبلاغا في إقامة الحجة فقال‏ «وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ» أي و اذكر لهم يا محمد إذ أخرج ربك‏ «مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ» أي من ظهور بني آدم‏ «ذُرِّيَّتَهُمْ وَ أَشْهَدَهُمْ عَلى‏ أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى‏» اختلف العلماء من العام و الخاص في معنى هذه الآية و في هذا الإخراج و الإشهاد على وجوه (أحدها) أن الله تعالى أخرج ذرية آدم من صلبه كهيئة الذر فعرضهم على آدم و قال إني آخذ على ذريتك ميثاقهم أن يعبدوني و لا يشركوا بي شيئا و علي أرزاقهم ثم قال لهم أ لست بربكم قالوا بلى شهدنا أنك ربنا فقال للملائكة اشهدوا فقالوا شهدنا و قيل إن الله تعالى جعلهم فهماء عقلاء يسمعون خطابه و يفهمونه ثم ردهم إلى صلب آدم و الناس محبوسون بأجمعهم حتى يخرج كل من أخرجه الله في ذلك الوقت و كل من ثبت على الإسلام فهو على الفطرة الأولى و من كفر و جحد فقد تغير عن الفطرة الأولى عن جماعة من المفسرين و رووا في ذلك آثارا بعضها مرفوعة و بعضها موقوفة يجعلونها تأويلا للآية و رد المحققون هذا التأويل و قالوا إنه مما يشهد ظاهر القرآن بخلافه لأنه تعالى قال‏ «وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ» و لم يقل من آدم و قال‏ «مِنْ ظُهُورِهِمْ» و لم يقل من ظهره و قال‏ «ذُرِّيَّتَهُمْ» و لم يقل ذريته ثم أخبر تعالى بأنه فعل ذلك لئلا يقولوا إنهم كانوا عن ذلك غافلين أو يعتذروا بشرك آبائهم و إنهم نشأوا على دينهم و هذا يقتضي أن يكون لهم آباء مشركون فلا يتناول الظاهر ولد آدم لصلبه و أيضا فإن هذه الذرية المستخرجة من صلب آدم لا يخلو إما أن جعلهم الله عقلاء أو لم يجعلهم كذلك فإن لم يجعلهم عقلاء فلا يصح أن يعرفوا التوحيد و أن يفهموا خطاب الله تعالى و إن جعلهم عقلاء و أخذ عليهم الميثاق فيجب أن يتذكروا ذلك و لا ينسوه لأن أخذ الميثاق لا يكون حجة على المأخوذ عليه إلا أن يكون ذاكرا له فيجب أن نذكر نحن الميثاق و لأنه لا يجوز أن ينسى الجمع الكثير و الجم الغفير من العقلاء شيئا كانوا عرفوه و ميزوه حتى لا يذكره واحد منهم و إن طال العهد أ لا ترى أن أهل الآخرة يعرفون كثيرا من أحوال الدنيا حتى يقول أهل الجنة لأهل النار أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا و لو جاز أن ينسوا ذلك مع هذا الكثرة لجاز أن يكون الله تعالى قد كلف الخلق فيما مضى ثم أعادهم إما ليثيبهم و إما ليعاقبهم و نسوا ذلك و ذلك يؤدي إلى التجاهل و إلى صحة مذهب التناسخية و حكي عن علي بن عيسى عن أبي بكر بن الإخشيد أنه جوز أن يكون خبر الذر صحيحا غير أنه قال ليس تأويل الآية على ذلك و يكون فائدته أنه إنما فعل ذلك ليجروا على الأعراق الكريمة في شكر النعمة و الإقرار لله تعالى‏

765
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 765

بالربوبية كما

روي‏ أنهم ولدوا على الفطرة

و حكى أبو الهذيل في كتاب الحجة أن الحسن البصري و أصحابه كانوا يذهبون إلى أن نعيم الأطفال في الجنة ثواب عن الإيمان في الذر (و ثانيها) أن المراد بالآية أن الله سبحانه أخرج بني آدم من أصلاب آبائهم إلى أرحام أمهاتهم ثم رقاهم درجة بعد درجة و علقة ثم مضغة ثم أنشأ كلا منهم بشرا سويا ثم حيا مكلفا و أراهم آثار صنعه و مكنهم من معرفة دلائله حتى كأنه أشهدهم و قال لهم أ لست بربكم فقالوا بلى هذا يكون معنى أشهدهم على أنفسهم دلهم بخلقه على توحيده و إنما أشهدهم على أنفسهم بذلك لما جعل في عقولهم من الأدلة الدالة على وحدانيته و ركب فيهم من عجائب خلقه و غرائب صنعته و في غيرهم فكأنه سبحانه بمنزلة المشهد لهم على أنفسهم فكانوا في مشاهدة ذلك و ظهوره فيهم على الوجه الذي أراده الله و تعذر امتناعهم منه بمنزلة المعترف المقر و إن لم يكن هناك إشهاد صورة و حقيقة و نظير ذلك قوله تعالى‏ فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ‏ و إن لم يكن منه سبحانه قول و لا منهما جواب و مثله قوله تعالى‏ شاهِدِينَ عَلى‏ أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ و معلوم أن الكفار لم يعترفوا بالكفر بألسنتهم لكنه لما ظهر منهم ظهورا لا يتمكنون من دفعه فكأنهم اعترفوا به و مثله في الشعر:

و قالت له العينان سمعا و طاعة

 

 و حدرتا كالدر لما يثقب‏

 

و كما يقول القائل جوارحي تشهد بنعمتك و كما روي عن بعض الخطباء من قوله سل الأرض من شق أنهارك و غرس أشجارك و أينع ثمارك فإن لم تجبك حوارا أجابتك اعتبارا و مثله كثير في كلام العرب و أشعارهم و نظمهم و نثرهم و هو قول الرماني و أبي مسلم و ابن الإخشيد (و ثالثها) أنه تعالى إنما عنى بذلك جماعة من ذرية آدم خلقهم و أكمل عقولهم و قررهم على ألسن رسله (ع) بمعرفته و بما يجب من طاعته فأقروا بذلك و أشهدهم على أنفسهم به لئلا يقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين أو يقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل فقلدناهم في ذلك فنبه سبحانه على أنه لا يعاقب من له عذر رحمة منه لخلقه و كرما و هذا يكون في قوم خاص من بني آدم و لا يدخل جميعهم فيه لأن المؤمن لا يدخل فيه لأنه بين أن هؤلاء المأخوذ ميثاقهم كان لهم سلف في الشرك و لأن ولد آدم لصلبه لم يؤخذوا من ظهور بني آدم فقد خرجوا من ذلك و هذا اختيار الجبائي و القاضي و قوله‏ «شَهِدْنا» حكاية عن قول‏

766
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 765

الملائكة أنهم يقولون ذلك أي شهدنا لئلا تقولوا ذكره الأزهري عن بعضهم و قال إن قوله‏ «قالُوا بَلى‏» تمام الكلام و هذا خلاف الظاهر و ما عليه المفسرون لأن الكل قالوا شهدنا من قول من قال بلى و إن اختلفوا في كيفية الشهادة على أن الملائكة لم يجر لها ذكر في الآية فيبعد أن يكون إخبارا عنهم‏ «أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ» معناه لئلا يقولوا إذا صاروا إلى العذاب يوم القيامة «إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ» لم نتنبه عليه و لم تقم لنا حجة به و لم تكمل عقولنا فنفكر فيه‏ «أَوْ تَقُولُوا» أي أو تقول قوم منهم‏ «إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ» حين بلغوا و عقلوا «وَ كُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ» أي أطفالا لا نعقل و لا نصلح للفكرة و النظر و التدبر و على التأويل الأخير فمعناه أني إنما قررتكم بهذا لتواظبوا على طاعتي و تشكروا نعمتي و لا تقولوا يوم القيامة إنا كنا غافلين عما أخذ الله من الميثاق على لسان الأنبياء و تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل فنشؤنا على شركهم احتجاجا بالتقليد و تعويلا عليه أي فقد قطعت حجتكم هذه بما قررتكم به من معرفتي و أشهدتكم على أنفسكم بإقراركم بمعرفتكم إياي‏ «أَ فَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ» و معناه و لأن لا تقولوا أ فتهلكنا بما فعل آباؤنا من الشرك و تقديره إنا لا نهلككم بما فعلوه و إنما نهلككم بفعلكم أنتم‏ «وَ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ» معناه إنا كما بينا لكم هذه الآيات كذلك نفصلها للعباد و نبينها لهم و تفضيل الآيات تمييزها ليتمكن من الاستدلال بكل واحدة منها «وَ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» أي ليرجعوا إلى الحق من الباطل.

767
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأعراف(7): الآيات 175 الى 178] ص : 768

 

 [سورة الأعراف (7): الآيات 175 الى 178]

وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ (175) وَ لَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَ لكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَ اتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ أَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ (177) مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَ مَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (178)

اللغة

النبأ الخبر عن الأمر العظيم و منه اشتقاق النبوة نبأه الله أي جعله نبيا و أخلد إلى كذا و خلد إليه سكن إليه و أخلد أكثر و أصله اللزوم على الدوام و رجل مخلد إذا أبطأ عنه الشيب و أخلد إلى الأرض لصق بها قال مالك بن نويرة:

بانباء حق من قبائل مالك‏

 

 و عمرو بن يربوع أقاموا فأخلدوا

 

اللهث أن يدلع الكلب لسانه من العطش و اللهاث حر العطش و في حديث سعيد بن جبير في المرأة اللهثى إنما تفطر في رمضان و قيل هو النفس الشديد من شدة الإعياء.

الإعراب‏

نصب مثلا لأنه تفسير الضمير في ساء التي هي بمعنى بئس فيكون فعلا ماضيا غير متصرف و تقديره ساء المثل مثلا و في الكلام حذف آخر و تقديره ساء المثل مثلا مثل القوم ثم حذف المثل الأول لدلالة المنصوب عليه و حذف الثاني لقيام المضاف إليه مقامه و لأن المعنى مفهوم.

المعنى‏

ثم أمر سبحانه نبيه ص أن يقرأ عليهم قصة أخرى من أخبار بني إسرائيل فقال‏ «وَ اتْلُ» أي و اقرأ «عَلَيْهِمْ» يا محمد «نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ» أي خبر الذي أعطيناه‏ «آياتِنا» أي حججنا و بيناتنا «فَانْسَلَخَ مِنْها» أي فخرج من العلم بها بالجهل كالشي‏ء الذي ينسلخ من جلده‏ «فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ» أي تبعه و تبع و أتبع و اتبع بمعنى و قيل معناه لحقه الشيطان و أدركه حتى أضله‏ «فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ» أي من الهالكين و قيل من الخائبين عن الجبائي و اختلف في المعنى به فقيل هو بلعام بن باعور عن ابن عباس و ابن مسعود و كان رجلا على دين موسى (ع) و كان في المدينة التي قصدها موسى و كانوا كفارا و كان عنده اسم الله الأعظم و كان إذا دعا الله تعالى به أجابه و قيل هو بلعم بن باعورا من بني هاب بن لوط عن أبي حمزة الثمالي و مسروق قال أبو حمزة و بلغنا أيضا و الله أعلم أنه أمية بن أبي الصلت الثقفي الشاعر و روي ذلك عن عبد الله بن عمر و سعيد بن المسيب و زيد بن أسلم و أبي روق و كانت قصته أنه قرأ الكتب و علم أن الله سبحانه مرسل رسولا في ذلك الوقت و رجا أن يكون هو ذلك الرسول فلما أرسل محمد ص حسده و مر على قتلي بدر فسأل عنهم فقيل قتلهم محمد فقال لو كان نبيا ما قتل أقرباءه و استنشد رسول الله أخته شعره بعد موته فأنشدته:

لك الحمد و النعماء و الفضل ربنا

 

 و لا شي‏ء أعلى منك جدا و أمجد

 

 

768
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 768

مليك على عرش السماء مهيمن‏

 

 لعزته تعنو الوجوه و تسجد

 

و هي قصيدة طويلة حتى أتت على آخرها ثم أنشدته قصيدته التي فيها:

وقف الناس للحساب جميعا

 

 فشقي معذب و سعيد

 

و التي فيها:

عند ذي العرش تعرضون عليه‏

 

 يعلم الجهر و السرار الخفيا

 

يوم يأتي الرحمن و هو رحيم‏

 

 إنه كان وعده مأتيا

 

رب إن تعف فالمعافاة ظني‏

 

 أو تعاقب فلم تعاقب بريا

 

فقال رسول الله ص آمن شعره و كفر قلبه و أنزل الله فيه قوله‏ «وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ» الآية و قيل إنه أبو عامر بن النعمان بن صيفي الراهب الذي سماه النبي الفاسق و كان قد ترهب في الجاهلية و لبس المسوخ فقدم المدينة فقال للنبي ص ما هذا الذي جئت به قال جئت بالحنيفية دين إبراهيم قال فأنا عليها فقال ص لست عليها و لكنك أدخلت فيها ما ليس منها فقال أبو عامر أمات الله الكاذب منا طريدا وحيدا فخرج إلى أهل الشام و أرسل إلى المنافقين أن استعدوا السلاح ثم أتى قيصر و أتى بجند ليخرج النبي ص من المدينة فمات بالشام طريدا وحيدا عن سعيد بن المسيب و قيل المعني به منافقوا أهل الكتاب الذين كانوا يعرفون النبي ص كما يعرفون أبناءهم و يكون معنى فانسلخ منها أعرض عن آيات الله و تركها فأتبعه الشيطان أي خذله الله و خلى بينه و بين الشيطان عن الحسن و ابن كيسان و قيل إنه مثل ضربه الله لمن عرض عليه الهدى فأبى أن يقبله عن قتادة و

قال أبو جعفر (ع) الأصل في ذلك بلعم ثم ضربه الله مثلا لكل مؤثر هواه على هدى الله من أهل القبلة

و قيل أيضا في الآيات التي أوتيها أقوال أخر منها أن المراد بها المعجزات الدالة على صدق الأنبياء فلم يقبلها و عري عنها يعني فرعون عن أبي مسلم فكأنه قال اتل عليهم نبأ فرعون إذ آتيناه الحجج الدالة على صدق موسى فلم يقبلها و منها أن الآيات الإيمان و الهدى و الدين عن الحسن و منها أنها النبوة عن مجاهد و هذا لا يجوز لأن الأنبياء منزهون عن ذلك فإنهم حجج الله على خلقه‏ «وَ لَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها» أي بتلك الآيات و الهاء في رفعناه يعود إلى الذي أتاه الله بآياته فانسلخ منها معناه و لو شئنا لرفعنا منزلته بإيمانه و معرفته قبل أن يكفر و لكن بقيناه ليزداد الإيمان فكفر عن الجبائي و قيل معناه و لو شئنا لحلنا بينه و بين ما اختاره من المعصية و هذا إخبار عن كمال‏

769
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 768

قدرته عن البلخي و الزجاج‏ «وَ لكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ» أي ركن إلى الدنيا و مال إليها عن سعيد بن جبير و السدي و معناه و لكنه مال إلى الدنيا بإيثار الراحة و الدعة في لذة «وَ اتَّبَعَ هَواهُ» أي و انقاد لهواه في الركون إلى الدنيا و اختيارها على الآخرة ثم ضرب له مثلا فقال‏ «فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ» معناه فصفته كصفة الكلب أن طردته و شددت عليه يخرج لسانه من فمه و إن تركته و لم تطرده يخرج لسانه من فمه أيضا و تحمل عليه من الحملة لا من الحمل و المعنى إن واعظته فهو ضال و إن لم تعظه فهو ضال في كل حال كما أن كل شي‏ء يلهث فإنما يلهث في حال الإعياء و الكلال إلا الكلب فإنه يلهث في كل حال و مثله قوله سبحانه‏ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَ دَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ‏ و قيل إنما شبهه بالكلب في الخسة و قصور الهمة و سقوط المنزلة ثم وصف الكلب باللهث على عادة العرب في تشبيههم الشي‏ء بالشي‏ء ثم يأخذون في وصف المشبه به و إن لم يكن ذلك الوصف في المشبه و ذلك يكثر في كلامهم عن أبي مسلم و قيل شبهه بالكلب إذا أخرج لسانه لإيذائه الناس بلهاثه حملت عليه أو تركته يقال لمن آذى الناس بلسانه فلان أخرج لسانه من الفم مثل الكلب و لهثه في هذا الموضع صياحه و نباحه و قيل إن هذا مثل للذي يقرأ القرآن فلا يعمل به عن مجاهد «ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا» معناه ذلك صفة الذين يكذبون بآيات الله قال ابن عباس يريد أهل مكة كانوا يتمنون هاديا يهديهم و يدعوهم إلى طاعة الله فلما جاءهم من لا يشكون في صدقه كذبوه فلم يهتدوا لما تركوا و لم يهتدوا لما دعوا بالرسول و الكتاب‏ «فَاقْصُصِ الْقَصَصَ» أي فاقصص عليهم أخبار الماضين‏ «لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ» فيعتبرون و لا يفعلون مثل فعلهم حتى لا يحل بهم ما حل بهم ثم وصف الله تعالى بهذا المثل الذي ضربه و ذكره بأنه‏ «ساءَ مَثَلًا» أي بئس مثلا «الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا» و معناه بئست الصفة المضروب فيها المثل أو قبح حال المضروب فيه لأن المثل حسن و حكمة و صواب و إنما القبيح صفتهم‏ «وَ أَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ» أي و إنما نقصوا بذلك أنفسهم و لم ينقصوا شيئا لأن عقاب ما يفعلونه من المعاصي يحل بهم و الله سبحانه لا يضره كفرهم و معصيتهم كما لا ينفعه إيمانهم و طاعتهم‏ «مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي» كتبت هاهنا بالياء ليس في القرآن غيره بالياء و أثبت الياء هاهنا في اللفظ جميع القراء و معناه من يهده الله إلى نيل الثواب كما يهدي المؤمن إلى ذلك و إلى دخول الجنة فهو المهتدي للإيمان و الخير عن الجبائي‏ «وَ مَنْ يُضْلِلْ» أي و من يضلله الله عن طريق الجنة و عن نيل الثواب عقوبة على كفره و فسقه‏ «فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ» خسروا الجنة و نعيمها و خسروا أنفسهم و الانتفاع بها و قيل‏

770
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأعراف(7): الآيات 179 الى 181] ص : 771

 

المهتدي هو الذي هداه الله فقبل الهداية و أجاب إليها و الذي أضله الله هو الذي اختار الضلالة فخلى الله بينه و بين ما اختاره و لم يمنعه منه بالجبر عن البلخي.

 [سورة الأعراف (7): الآيات 179 الى 181]

وَ لَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَ لَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَ لَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (179) وَ لِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى‏ فَادْعُوهُ بِها وَ ذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (180) وَ مِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَ بِهِ يَعْدِلُونَ (181)

القراءة

قرأ حمزة يلحدون بفتح الياء و الحاء حيث كان و وافقه الكسائي و خلف في النحل و الباقون‏ «يُلْحِدُونَ» بضم الياء و كسر الحاء.

الحجة

قال أبو الحسن لحدوا لحد لغتان و ألحد في الكلام أكثر قال الشاعر:

" ليس الإمام بالشحيح الملحد"

 

 

 

و في القرآن‏ وَ مَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ.

اللغة

الذرء و الإنشاء و الإحداث و الخلق نظائر قال علي بن عيسى الاسم كلمة تدل على المعنى دلالة الإشارة و الفعل كلمة تدل على المعنى دلالة الإفادة و الصفة كلمة مأخوذة للمذكور من أصل من الأصول لتجري عليه تابعة له و الإلحاد العدول عن الاستقامة و الانحراف عنها و منه اللحد الذي يحفر في جانب القبر خلاف الضريح الذي يحفر في وسطه و روي أبو عبيدة عن الأحمر لحدت جزت و ملت و ألحدت ماريت و جادلت أبو عبيدة لحدت للميت و ألحدت بمعنى واحد.

الإعراب‏

اللام في قوله‏ «لِجَهَنَّمَ» لام العاقبة كما في قوله‏ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ‏

 

771
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 772

لَهُمْ عَدُوًّا و إنما التقطوه ليكون لهم قرة عين كما قالت امرأة فرعون‏ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَ لَكَ‏ و مثله قول الشاعر:

و أم سماك فلا تجزعي‏

 

 فللموت ما تلد الوالدة

 

و قول الآخر:

و للموت تغذو الوالدات سخالها

 

 كما لخراب الدهر تبنى المساكن‏

 

و قول الآخر:

أموالنا لذوي الميراث نجمعها

 

 و دورنا لخراب الدهر نبنيها

 

و قول الآخر:

يا أم وجرة بعد الوجد و اعترفي‏

 

 فكل والدة للموت ما تلد

 

قال علي بن عيسى هي لام الإضافة تذكر مرة على معنى العلة و مرة على معنى شبه العلة.

المعنى‏

لما بين سبحانه أمر الكفار و ضرب لهم الأمثال عقبه ببيان حالهم في المصير و المال فقال‏ «وَ لَقَدْ ذَرَأْنا» أي خلقنا «لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ» يعني خلقناهم على أن عاقبتهم المصير إلى جهنم بكفرهم و إنكارهم و سوء اختيارهم و يدل على هذا المعنى قوله سبحانه‏ وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ‏ فأخبر أنه خلقهم للعبادة فلا يجوز أن يكون خلقهم للنار و قوله‏ وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ‏ وَ لَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا في نظائر لذلك لا تحصى و المراد في الآية كل من علم الله تعالى أنه لا يؤمن و يصير إلى النار «لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها» الحق لأنهم لا يتدبرون أدلة الله تعالى و بيناته‏ «وَ لَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها» الرشد «وَ لَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها» الوعظ لأنهم يعرضون عن جميع ذلك إعراض من ليست له آلة الإدراك و قد مر تفسيره في سورة البقرة عند قوله‏ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ‏ الآية «أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ» أي هؤلاء الذين لا يتدبرون آيات الله و لا يستدلون بها على وحدانيته و صدق أنبيائه أشباه الأنعام و البهائم التي لا تفقه و لا تعلم‏ «بَلْ هُمْ أَضَلُّ» من البهائم فإنها إذا زجرت انزجرت و إذا أرشدت إلى طريق اهتدت و هؤلاء لكفرهم و عتوهم لا يهتدون إلى شي‏ء من الخيرات مع ما ركب الله فيهم من العقول الدالة على الرشاد الصارفة عن الفساد و لم يذكر بل هاهنا للرجوع عن الأول و لكن للإضراب عنه مع بقائه و قيل إنما قال بل هم أضل من الأنعام لأن الأنعام لم تعط آلة المعرفة و التمييز فلا تلحقها المذمة و هؤلاء أعطوا آلة المعرفة و التمييز فضيعوها و لم ينتفعوا بها و لأن الأنعام و إن لم تكن مطيعة لم تكن عاصية

772
مجمع البیان في تفسير القرآن4

النظم ص : 773

و هؤلاء عصاة فهم أسوأ حالا منها «أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ» عن آياتي و حججي و عن الاستدلال و الاعتبار بتدبرها و التفكر فيها دون البهائم التي هي مسخرة مصرفة و قيل الغافلون عما يحل بهم في الآخرة من العذاب‏ «وَ لِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى‏» أخبر سبحانه أن له الأسماء الحسنى لحسن معانيها مثل الجواد و الرحيم و الرازق و الكريم و يقال إن جميع أسمائه داخلة فيه و إنها كلها حسنة متضمنة لمعان حسنة فمنها ما يرجع إلى صفات ذاته كالعالم و القادر و الحي و الآلة و القديم و السميع و البصير و منها ما هي صفات فعله كالخالق و الرزاق و المبدع و المحيي و المميت و منها ما يفيد التنزيه و نفي صفات النقص عنه كالغني و الواحد و القدوس و نحو ذلك و قيل المراد بالحسنى ما مالت إليه النفوس من ذكر العفو و الرحمة دون السخط و النقمة «فَادْعُوهُ بِها» أي بهذه الأسماء الحسنى و دعاؤه بها أن يقال يا الله يا رحمن يا رحيم يا خالق السموات و الأرض و كل اسم لله سبحانه فهو صفة مفيدة لأن اللقب لا يجوز عليه فإنه بمنزلة الإشارة إلى الحاضر و

قد ورد في الحديث‏ أن لله تسعة و تسعين اسما مائة إلا واحدة من أحصاها دخل الجنة إنه وتر يحب الوتر أورده مسلم في الصحيح‏

 «وَ ذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ» أي دعوا الذين يعدلون بأسماء الله تعالى عما هي عليه فيسمون بها أصنامهم و يغيرونها بالزيادة و النقصان فاشتقوا اللات من الله و العزى من العزيز و منات من المنان عن ابن عباس و مجاهد و قيل إن معنى يلحدون في أسمائه يصفونه بما لا يليق به و يسمونه بما لا يجوز تسميته به و هذا الوجه أعم فائدة و يدخل فيه قول الجبائي أراد تسميتهم المسيح بأنه ابن الله و في هذا دلالة على أنه لا يجوز أن يسمى الله تعالى إلا بما سمى به نفسه‏ «سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» في الآخرة و قيل في الدنيا و الآخرة «وَ مِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ» أخبر سبحانه من جملة من خلقه جماعة و عصبة يدعون الناس إلى توحيد الله تعالى و إلى دينه و هو الحق يرشدونهم إليه‏ «وَ بِهِ يَعْدِلُونَ» أي و بالحق يحكمون و

روى ابن جريج عن النبي ص أنه قال‏ هي لأمتي بالحق يأخذون و بالحق يعطون و قد أعطي القوم بين أيديكم مثلها

 «وَ مِنْ قَوْمِ مُوسى‏ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَ بِهِ يَعْدِلُونَ» و

قال الربيع بن أنس‏ قرأ النبي ص هذه الآية فقال إن من أمتي قوما على الحق حتى ينزل عيسى بن مريم‏

و

روى العياشي بإسناده عن أمير المؤمنين علي (ع) أنه قال‏ و الذي نفسي بيده لتفترقن هذه الأمة على ثلاث و سبعين فرقة كلها في النار إلا فرقة واحدة «وَ مِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَ بِهِ يَعْدِلُونَ» فهذه التي تنجو

و

روي عن أبي جعفر و أبي عبد الله (ع) أنهما قالا نحن هم.

النظم‏

قيل في وجه اتصال هذه الآية بما قبلها وجهان (أحدهما) أنه لما بين في‏

773
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأعراف(7): الآيات 182 الى 186] ص : 774

 

الآية المتقدمة حال قوم من الكفار يغفلون عن الحق بين في هذه الآية أن من جملة ما خلق من يهدي إلى دينه بالحق و يحكم بالعدل و الآخر أنه يتصل بقوله‏ «ذَرَأْنا» فكأنه قال خلقنا قوما صفتهم كذا و كذا و قوما صفتهم كذا.

 [سورة الأعراف (7): الآيات 182 الى 186]

وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (182) وَ أُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183) أَ وَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (184) أَ وَ لَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْ‏ءٍ وَ أَنْ عَسى‏ أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185) مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَ يَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186)

القراءة

قرأ أهل العراق‏ «وَ يَذَرُهُمْ» بالياء و الجزم كوفي غير عاصم و الباقون و نذرهم بالنون و الرفع.

الحجة

من قرأ بالنون فالتقدير و إنا نذرهم و من قرأ بالياء رده إلى اسم الله تعالى أي و هو يذرهم و يكون مقطوعا عن الأول على الوجهين و لم يكن جوابا و من جزمه فإنه عطفه على موضع الفاء و ما بعده من قوله‏ «فَلا هادِيَ لَهُ» و مثله في الحمل على الموضع قوله‏ فَأَصَّدَّقَ وَ أَكُنْ‏ لأنه لو لم يلحق الفاء لقيل لو لا أخرتني أصدق لأن معنى لو لا أخرتني أخرني أصدق و مثله قول الشاعر:

إني سلكت فإنني لك ناصح‏

 

 و على انتقاصك في الحياة و ازدد

 

و قول أبي داود:

فأبلوني بليتكم لعلي‏

 

 أصالحكم و أستدرج نويا

 

 

774
مجمع البیان في تفسير القرآن4

اللغة ص : 775

حمل أستدرج على موضع الفاء المحذوفة من قوله فلعلي أصالحكم و موضعه جزم.

اللغة

الاستدراج أصله من الدرجة و هو أن يؤخذ قليلا قليلا و لا يباغت كما يرتقي الراقي الدرجة فيتدرج شيئا بعد شي‏ء حتى يصل إلى العلو و قيل أصله من الدرج الذي يطوي فكأنه يطوي منزلة بعد منزلة كما يطوي الدرج و يقال درج القوم إذا مات بعضهم في إثر بعض و الإملاء التأخير و الإمهال من الملي يقال مضى عليه ملي من الدهر و ملاوة من الدهر بضم الميم و فتحها و كسرها أي قطعة منه و أصل الإملاء الاستمرار على العمل من غير لبث من أمليت الكتاب و منه الملاة للفلاة ذات الحر و السراب لاستطالة المكث فيه و المتين القوي و الشديد و أصله من المتن و هو اللحم الغليظ الذي عن جانب الصلب و هما متنان و الكيد و المكر واحد و الجنة الجنون و أصله الستر و الملكوت هو الملك الأعظم للمالك الذي ليس بمملوك.

المعنى‏

لما ذكر سبحانه المؤمنين بمحمد ص الهادين بالحق ذكر بعده المكذبين بآياته فقال‏ «وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا» التي هي القرآن و المعجزات الدالة على صدق النبي ص و كفروا بها «سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ» إلى الهلكة حتى يقعوا فيه بغتة كما قال سبحانه‏ بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها و قال‏ فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ‏ و قيل يجوز أن يريد عذاب الآخرة أي نقربهم إليه درجة درجة إلى أن يقعوا فيه و قيل هو من المدرجة و هي الطريق و درج إذا مشى سريعا أي سنأخذهم من حيث لا يعلمون أي طريق سلكوا فإن الطريق كلها علي و مرجع الجميع إلي و لا يغبني غالب و لا يسبقني سابق و لا يفوتني هارب و قيل أنه من الدرج أي سنطويهم في الهلاك و نرفعهم عن وجه الأرض يقال طويت فلانا و طويت أمر فلان إذا تركته و هجرته و قيل معناه كلما جددوا خطيئة جددنا لهم نعمة عن الضحاك و لا يصح قول من قال إن معناه نستدرجهم إلى الكفر و الضلال لأن الآية وردت في الكفار و تضمنت أنه يستدرجهم في المستقبل فإن السين تختص المستقبل و لأنه جعل الاستدراج جزاء على كفرهم و عقوبة فلا بد من أن يريد معنى آخر غير الكفر و قوله‏ «وَ أُمْلِي لَهُمْ» معناه و أمهلهم و لا أعاجلهم بالعقوبة فإنهم لا يفوتونني و لا يفوتني عذابهم‏ «إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ» أي عذابي قوي منيع لا يمنعه مانع و لا يدفعه دافع و سماه كيدا لنزوله بهم من حيث لا يشعرون و قيل أراد أن جزاء كيدهم متين و القول هو الأول‏ «أَ وَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ» معناه أ و لم يتفكروا هؤلاء الكفار المكذبون بمحمد ص و بنبوته في‏

775
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأعراف(7): آية 187] ص : 776

 

أقواله و أفعاله فيعلموا أنه ص ليس بمجنون إذ ليس في أقواله و أفعاله ما يدل على الجنون و تم الكلام عند قوله‏ «أَ وَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا» ثم ابتدأ فقال‏ «ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ» أي ليس به جنون و ذلك‏

أن رسول الله ص صعد الصفا و كان يدعو قريشا فخذا فخذا إلى توحيد الله و يخوفهم عذاب الله‏

فقال المشركون إن صاحبهم قد جن بات ليلا يصوت إلى الصباح فأنزل الله هذه الآية عن الحسن و قتادة «إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ» أي ما هو إلا معلم موضع المخافة ليتقى و لموضع الأمن ليجتبى و معنى مبين بين أمره و قيل مبين لهم عن الله أمره فيهم ثم قال‏ «أَ وَ لَمْ يَنْظُرُوا» معناه أ و لم يتفكروا «فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ» و عجيب صنعهما فينظروا فيها نظر المستدل المعتبر فيعترفوا بأن لهما خالقا مالكا و يستدلوا بذلك عليه‏ «وَ ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْ‏ءٍ» أي و ينظروا فيما خلق الله من أصناف خلقه فيعلموا بذلك أنه سبحانه خالق جميع الأجسام فإن في كل شي‏ء خلق الله عز و جل دلالة واضحة على إثباته و توحيده‏ «وَ أَنْ عَسى‏ أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ» أي أو لم يتفكروا و ينظروا في أن عسى أن يكون قد قرب أجلهم و هو أجل موتهم فيدعوهم ذلك إلى أن يحتاطوا لدينهم و لأنفسهم مما يصيرون إليه بعد الموت من أمور الآخرة و يزهدوا في الدنيا و فيما يطلبونه من فخرها و شرفها و عزها و معناه لعل أجلهم قريب و هم لا يعلمون‏ «فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ» أي بعد القرآن‏ «يُؤْمِنُونَ» مع وضوح الدلالة على أنه كلام الله المعجز إذ لم يقدر أحد منهم أن يأتي بسورة مثله و سماه حديثا لأنه محدث غير قديم‏ «مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ» قد ذكرنا معناه «و نذرهم في طغيانهم يعمهون» معناه و نتركهم في ضلالتهم يتحيرون و العمة في القلب كالعمى في العين.

 [سورة الأعراف (7): آية 187]

يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (187)

اللغة

أيان معناه متى و هو سؤال عن الزمان على وجه الظرف للفعل قال الشاعر:

 

776
مجمع البیان في تفسير القرآن4

الإعراب ص : 777

 

أيان تقضي حاجتي إيانا

 

 أ ما ترى لنجحها إبانا

 

و الساعة هاهنا الساعة التي يموت فيها الخلق و الإرساء الإثبات و مرسيها مثبتها و رسا الشي‏ء يرسو فهو رأس إذا ثبت و أرساه غيره و الحفي المستقصي في السؤال و أحفى فلان بفلان في المسألة إذا أكثر عليه و ألح قال الأعشى:

فإن تسألي عني فيا رب سائل‏

 

 حفي عن الأعشى به حيث أصعدا

 

و منه أحفى شاربه إذا استقصى أخذه و حفيت الدابة تحفى حفى مقصورا إذا كثر عليها ألم المشي و الحفاء ممدودا المشي بغير نعل.

الإعراب‏

الكاف في‏ «يَسْئَلُونَكَ» المفعول الأول و «عَنِ السَّاعَةِ» في موضع المفعول الثاني و «أَيَّانَ مُرْساها» يتعلق بمدلول السؤال و التقدير قائلين أيان مرساها. مرساها في موضع رفع بالابتداء و أيان خبره و بغتة مصدر في موضع الحال من الضمير في تأتيكم.

النزول‏

قيل جاء قوم من اليهود فقالوا يا محمد أخبرنا عن الساعة متى هي إن كنت نبيا فنزلت الآية عن ابن عباس و قيل قالت قريش يا محمد متى الساعة فنزلت الآية عن قتادة و الحسن.

المعنى‏

لما تقدم الوعيد بالساعة سألوا عن وقتها فقال تعالى‏ «يَسْئَلُونَكَ» يا محمد «عَنِ السَّاعَةِ» و هي الساعة التي يموت فيها الخلق عن الزجاج و قيل هي القيامة و هو وقت قيام الناس في الحشر عن أكثر المفسرين و قيل هو وقت فناء الخلق عن الجبائي‏ «أَيَّانَ مُرْساها» أي متى وقوعها و كونها عن الزجاج و قيل مرساها منتهاها عن ابن عباس و قبل قيامها عن قتادة و السدي‏ «قُلْ» يا محمد «إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي» أي إنما علم وقت قيامها و مجيئها عند الله تعالى لم يطلع عليه أحد من خلقه و إنما لم يخبر سبحانه بوقتها ليكون العباد على حذر منه فيكون ذلك أدعى لهم إلى الطاعة و أزجر عن المعصية «لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ» أي لا يظهرها و لا يكشف عن علمها و لا يبين وقتها إلا هو فلا يعلم أحد سواه متى يكون قبل وقتها و قيل معناه لا يأتي بها إلا هو عن مجاهد «ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ» ذكر فيه وجوه (أحدها) ثقل علمها على أهل السماوات و الأرض لأن من خفي عليه علم شي‏ء كان‏

 

777
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 777

ثقيلا عليه عن السدي و غيره قال أبو علي الفارسي أصل هذا قولهم أحطت به علما أي ذل لي فصرت لعلمي به غالبا عليه فخف علي و لم يثقل كما يثقل ما لا تعلمه عليك (و ثانيها) أن معناه عظمت على أهل السماوات و الأرض صفتها لما يكون فيها من انتثار النجوم و تكوير الشمس و تسيير الجبال و غير ذلك عن الحسن و ابن جريج (و ثالثها) ثقل وقوعها على أهل السماوات و الأرض لعظمها و شدتها و لما فيها من المحاسبة و المجازاة عن الجبائي و أبي مسلم و جماعة (و رابعها) أن المراد نفس السماوات و الأرض أي لا تطيق السماوات و الأرض حملها لعظمها و شدتها عن قتادة و المعنى أنها لو كانت أحياء لثقل عليها تلك الأحوال من انفطار السماوات و انكدار النجوم و تسيير الجبال و غيرها «لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً» أي فجأة لتكون أعظم و أهول‏ «يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها» معناه يسألونك عنها كأنك حفي بها أي عالم بها قد أكثرت المسألة عنها عن مجاهد و الضحاك و أصله من أحفيت في السؤال عن الشي‏ء حتى علمته أي استقصيت فيه و روي عن ابن عباس أنه قرأ كأنك حفي بها فعلى هذا يكون الجار و المجرور الذي هو عنها محذوفا لدلالة الحال عليها كما يكون في التقدير الأول يكون الجار و المجرور الذي هو بها محذوفا للدلالة عليها أيضا أ لا ترى أنه إذا كان حفيا بها فلا بد أن يسأل عنها كما أنه إذا سأل عنها فليس ذلك إلا للحفاوة بها و قيل فيه معنى آخر و هو أن يكون تقديره يسألونك عنها كأنك حفي بهم أي بار بهم فرح بسؤالهم و الحفاوة في المسألة هي البشاشة بالمسئول عنه و قيل معناه كأنك معني بالسؤال عنها فسألت عنها حتى علمتها و على هذا فإن السؤال يوصل بعن فلما وضع قوله‏ «حَفِيٌّ» موضع السؤال وصله بعن و تقديره كأنك حفي بالمسألة عنها أو تسأل عنها فتعلمها «قُلْ» يا محمد «إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ» لا يعلمها إلا هو و إنما أعاد سبحانه هذا القول لأنه وصله بقوله‏ «وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» و قيل أراد بالأول علم وقت قيامها و بالثاني علم كيفيتها و هيأتها و تفصيل ما فيها عن الجبائي قال و هذا يدل على بطلان قول الرافضة أن الأئمة منصوص عليهم بأعيانهم إمام بعد إمام إلى يوم القيامة لأنه لو كان كذلك لوجب أن يعلم آخر الأئمة أن القيامة تقوم بعده و ذلك خلاف قوله‏ «قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ» و هذا ضعيف لأنه غير ممتنع أن يعلم آخر الأئمة أنه لا إمام بعده و إن لم يعلم وقت قيام الساعة لأنه لا يعلم وقت وفاته بعينه هذا إذا قيل إن الساعة وقت فناء الخلق أو موتهم و إذا قيل إن الساعة عبارة عن وقت الحشر فقد زالت الشبهة لأنه إذا علم أنه يفنى الخلق بعده لا يجب أن يعلم متى يحشر الخلق على أنه قد

وردت الرواية أن التكليف يزول عند موت آخر الأئمة لظهور أشراط الساعة و أمارات قيامها نحو طلوع الشمس من‏

778
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأعراف(7): آية 188] ص : 779

 

مغربها و خروج الدابة و غير ذلك‏

و مع هذا فيجوز أن لا يعلم وقت قيام الساعة.

 [سورة الأعراف (7): آية 188]

قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَ لا ضَرًّا إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ وَ لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَ ما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَ بَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)

النزول‏

قيل إن أهل مكة قالوا يا محمد أ لا يخبرك ربك بالسعر الرخيص قبل أن يغلو فتشتريه فتربح فيه و بالأرض التي تريد أن تجدب فنرتحل منها إلى أرض قد أخصبت فأنزل الله هذه الآية.

المعنى‏

 «قُلْ» يا محمد «لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَ لا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ» أن يملكني إياه فأملكه بتمليكه إياي‏ «وَ لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ» و هاهنا محذوف آخر و هو قوله و لا أعلم الغيب إلا ما شاء الله أن يعلمنيه و لو كنت أعلم الغيب لادخرت من السنة المخصبة للسنة المجدبة و لاشتريت وقت الرخص لأيام الغلاء و قيل معناه لاستكثرت من الأعمال الصالحة قبل اقتراب الأجل و لم أشتغل بغيرها و لاخترت الأفضل فالأفضل عن مجاهد و ابن جريج و قيل معناه لو كنت أعلم ما أسأل عنه من الغيب لاستكثرت من الخير أي لأجبت في كل ما أسأل عنه من الغيب في أمر الساعة و غيرها عن الزجاج‏ «وَ ما مَسَّنِيَ السُّوءُ» أي و ما أصابني الضر و الفقر و قيل معناه و ما بي جنون كما تزعمون فيكون ابتداء و قيل معناه و ما مسني التكذيب منكم لأني إذا كنت عالما بكل شي‏ء أجبت عن كل ما أسأل عنه فتصدقونني و لا تكذبونني و قيل معناه و ما مسني سوء من جهة الأعداء لأني كنت أعلم ذلك فأتحرز منه‏ «إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ» مخوف بالعذاب‏ «وَ بَشِيرٌ» مبشر بالثواب‏ «لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» خصهم بالذكر لأنهم المنتفعون بذلك كقوله‏ «إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ» و إن كان ينذر غيرهم أيضا و في قوله‏ «إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ» دلالة على فساد مذهب المجبرة لأن الأفعال كلها لو كانت مخلوقة لله لما صح الاستثناء منها لأن أحدا لا يملك عندهم شيئا و في قوله‏ «وَ لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ» دلالة على أن القدرة قبل الفعل لأنها لو كانت مع الفعل لما أمكنه الاستكثار من الخير إذا علم الغيب.

 

779
مجمع البیان في تفسير القرآن4

النظم ص : 780

 

النظم‏

وجه اتصال الآية بما قبلها أنه لما تقدم إجابة القوم بأنه لا يعلم الغيب عقبه بأن علم الغيب يختص به المالك للنفع و الضر و هو الله سبحانه عن أبي مسلم و قيل إن الآية في معنى جواب سؤالهم أيضا فكأنه قال إذا أنا لا أملك أن أسوق إلى نفسي نفعا و لا أن أدفع عنها ضرا فكيف أعلم الغيب.

 [سورة الأعراف (7): الآيات 189 الى 193]

هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190) أَ يُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَ هُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَ لا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَ لا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) وَ إِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى‏ لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَ دَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ (193)

القراءة

قرأ أهل المدينة و أبو بكر شركا بكسر الشين و التنوين على المصدر لا على الجمع و هو قراءة الأعرج و عكرمة و الباقون‏ «شُرَكاءَ» بضم الشين و المد على الجمع و روي في الشواذ قراءة يحيى بن يعمر فمرت به خفيفة و قرأ نافع لا يتبعوكم و في الشعراء يتبعهم بالتخفيف و الباقون‏ «يَتَّبِعُوكُمْ» بالتشديد.

الحجة

من قرأ شركا فإنه حذف المضاف و تقديره جعلا له ذا شرك أو ذوي شرك فالقراءتان على هذا يؤولان إلى معنى واحد فإن معنى جعلا له شركاء جعلا له ذوي شرك و الضمير في له يعود إلى اسم الله و من قرأ فمرت به خفيفة فإنه ينبغي أن يكون أصله التشديد كقراءة الجماعة إلا أنه حذفه تخفيفا لثقل التضعيف قالوا مست يده أي مسستها و قال أبو زيد:

 

780
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 781

خلا إن العتاق من المطايا

 

 أحسن به فهن إليه شوس‏

 

أي أحسسن به و قيل أنه من المرية أي شكت أ حملت أم لا و عن الحسن شكت أ غلام أم جارية و روي أن عبد الله بن عمر قرأ فمارت به و هو من قولهم مار يمور إذا ذهب و جاء و قرأ ابن عباس فاستمرت به و معناه مرت به مكلفة نفسها ذلك لأن استفعل يأتي في أكثر الأمر بمعنى الطلب و من قرأ لا يتبعوكم فإنه في المعنى مثل القراءة الأخرى قال أبو زيد رأيت القوم فاتبعتهم اتباعا أي ذهبت معهم و اتبعتهم اتباعا إذا سبقوك فأسرعت نحوهم و تبعتهم مثل اتبعتهم في المعنى اتبعهم تبعا.

المعنى‏

لما تقدم ذكر الله تعالى ذكر عقيبه ما يدل على وحدانيته فقال‏ «هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ» و الخطاب لبني آدم‏ «مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ» يعني آدم (ع) «وَ جَعَلَ» أي و خلق‏ «مِنْها زَوْجَها» يعني حواء «لِيَسْكُنَ» آدم‏ «إِلَيْها» و يأنس بها «فَلَمَّا تَغَشَّاها» أي فلما أصابها كما يصيب الرجل زوجته يعني وطأها و جامعها «حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً» و هو الماء الذي حصل في رحمها و كان خفيفا «فَمَرَّتْ بِهِ» أي استمرت بالحمل على الخفة تقوم و تقعد و تجي‏ء و تذهب كما كانت من قبل لم يمنعها ذلك الحمل عن شي‏ء من التصرف‏ «فَلَمَّا أَثْقَلَتْ» أي صارت ذات ثقل كما يقال أثمرت الشجرة صارت ذات ثمر و قيل معناه دخلت في الثقل كما يقال أصاف دخل في الصيف و أشتى دخل في الشتاء المعنى لما كبر الحمل في بطنها و تحرك و صارت ثقيلة به‏ «دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما» يعني آدم و حواء سألا الله تعالى عند كبر الولد في بطنها «لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً» أي أعطيتنا ولدا صالحا عن أبي مسلم و قيل نسلا صالحا أي معافى سليما صحيح الخلقة عن الجبائي و قيل بشرا سويا عن ابن عباس و قيل غلاما ذكرا عن الحسن‏ «لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ» لنعمتك علينا قال الجبائي و إنما قالا ذلك لأنهما أرادا أن يكون لهما أولاد يؤنسونهما في الموضع الذي كانا فيه لأنهما كانا فردين مستوحشين و كان إذا غاب أحدهما عن الآخر بقي الآخر مستوحشا بلا مؤنس و يحتمل أيضا أن يكون أراد بقوله‏ «صالِحاً» مطيعا فاعلا للخير مصلحا غير مفسد «فَلَمَّا آتاهُما» الله‏ «صالِحاً» كما التمساه‏ «جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما» اختلف في من يرجع‏

781
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 781

الضمير الذي في جعلا إليه على وجوه (أحدها) أنه يرجع إلى النسل الصالح أي المعافى في الخلق و البدن لا في الدين و إنما ثني لأن حواء كانت تلد في كل بطن ذكرا و أنثى يعني أن هذا النسل الذين هم ذكر و أنثى جعلا له شركاء فيما أعطاهما من النعمة فأضافا تلك النعم إلى الذين اتخذوهم آلهة مع الله تعالى من الأصنام و الأوثان عن الجبائي- (و ثانيها)- أنه يرجع إلى النفس و زوجها من ولد آدم لا إلى آدم و حواء عن الحسن و قتادة و هو قول الأصم قال و يكون المعنى في قوله‏ «خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ» خلق كل واحد منكم من نفس واحدة و لكل نفس زوج هو منها أي من جنسها كما قال سبحانه‏ «وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها» فلما تغشى كل نفس زوجها «حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً» و هو ماء الفحل‏ «فَلَمَّا أَثْقَلَتْ» بمصير ذلك الماء لحما و دما و عظما (دعا الرجل و المرأة ربهما لئن آتيتنا صالحا) أي ذكرا سويا «لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ» و كانت عادتهم أن يئدوا البنات فلما أتاهما يعني الأب و الأم صالحا جعلا له شركاء فيما أتاهما لأنهم كانوا يسمون عبد العزى و عبد اللات و عبد مناف ثم رجعت الكناية إلى جميعهم في قوله‏ «فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ» فالكناية في جميع ذلك غير متعلقة بآدم و حواء و لو كانت متعلقة بهما لقال عما يشركان و قال أبو مسلم تقدير الآية هو الذي خلقكم و الخطاب لجميع الخلق من نفس واحدة يعني آدم و جعل من ذلك النفس زوجها و هي حواء ثم انقضى حديث آدم و حواء و خص بالذكر المشركين من أولاد آدم الذين سألوا ما سألوا و جعلوا له شركاء فيما آتاهم قال و يجوز أن يذكر العموم ثم يخص البعض بالذكر و مثله كثير في الكلام قال تعالى‏ «هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَ جَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ» فخاطب الجماعة بالتسيير ثم خص راكب البحر بالذكر و كذلك هذه الآية أخبرت عن جملة البشر بأنهم مخلوقون من آدم و حواء ثم عاد الذكر إلى الذي سأل الله تعالى ما سأل فلما أعطاه إياه ادعى له شركاء في عطيته قال و جائز أن يكون عنى بقوله‏ «هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ» المشركين خصوصا إذا كان كل واحد من بني آدم مخلوقا من نفس واحدة و زوجها و ذكر قريبا من قول الأصم قال و قد يجي‏ء مثله في التنزيل و غيره قال سبحانه‏ «وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ» و المعنى فاجلدوا كل واحد منهم (و ثالثها) إن الضمير يرجع إلى آدم و حواء ع و يكون التقدير في قوله‏ «جَعَلا لَهُ‏

782
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 781

شُرَكاءَ» جعل أولادهما له شركاء فحذف المضاف و أقيم المضاف إليه مقامه فصار جعلا و هذا مثل قوله سبحانه‏ «اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ» «وَ إِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً» و التقدير و إذ قتل أسلافكم نفسا و اتخذ أسلافكم العجل فحذف المضاف و على هذا الوجه تكون الكناية من أول الكلام إلى آخره راجعة إلى آدم و حواء و يقويه قوله سبحانه‏ «فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ» (و رابعها) ما روت العامة أنه يرجع إلى آدم و حواء و أنهما جعلا لله شريكا في التسمية و ذلك أنهما أقاما زمانا لا يولد لهما فمر بهما إبليس و لم يعرفاه فشكوا إليه فقال لهما إن أصلحت حالكما حتى يولد لكما ولد أ تسميانه باسمي قالا نعم و ما اسمك قال الحرث فولد لهم فسمياه عبد الحرث ذكره ابن فضال و قيل إن حواء حملت أول ما حملت فأتاها إبليس في غير صورته فقال لها يا حواء ما يؤمنك أن تكون في بطنك بهيمة فقالت لآدم لقد أتاني آت فأخبرني أن الذي في بطني بهيمة و إني لأجد له ثقلا فلم يزالا في هم من ذلك ثم أتاها فقال إن سألت الله أن يجعله خلقا سويا مثلك و يسهل عليك خروجه أ تسميه عبد الحرث و لم يزل بها حتى غرها فسمته عبد الحرث برضاء آدم و كان اسم إبليس عند الملائكة الحارث و هذا الوجه بعيد تأباه العقول و تنكره فإن البراهين الساطعة التي لا يصح فيها الاحتمال و لا يتطرق إليها المجاز و الاتساع قد دلت على عصمة الأنبياء ع فلا يجوز عليهم الشرك و المعاصي و طاعة الشيطان فلو لم نعلم تأويل الآية لعلمنا على الجملة أن لها وجها يطابق دلالة العقل فكيف و قد ذكرنا الوجوه الصحيحة الواضحة في ذلك على أن الرواية الواردة في ذلك قد طعن العلماء في سندها بما هو مذكور في مواضعه و لا نحتاج إلى إثباته فإن الآية تقتضي أنهم أشركوا الأصنام التي تخلق و لا تخلق لقوله‏ «أَ يُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَ هُمْ يُخْلَقُونَ» و في خبرهم أنهما أشركا إبليس اللعين فيما ولد لهما بأن سموه عبد الحرث و ليس في ظاهر الآية لإبليس ذكر و حكى البلخي عن جماعة من العلماء أنهم قالوا لو صح الخبر لم يكن في ذلك إلا إشراكا في التسمية و ليس ذلك بكفر و لا معصية و اختاره الطبري و

روي العياشي في تفسيره عنهم (ع) أنه كان شركهما شرك طاعة و لم يكن شرك عبادة

و قوله‏ «أَ يُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَ هُمْ يُخْلَقُونَ» توبيخ و تعنيف للمشركين بأنهم يعبدون مع الله تعالى جمادا لا يخلق شيئا من الأجسام و لا ما يستحق به العبادة و هم مع ذلك مخلوقون محدثون و لهم خالق خلقهم و إن خرج الكلام مخرج الاستفهام و لفظة ما إنما تستعمل فيما لا يعقل فدل ذلك على أن المراد بقوله‏ «جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ» أنهم أشركوا الأصنام مع الله تعالى لا ما ذكروه من إشراك إبليس و إنما قال و هم يخلقون على لفظ العقلاء و إن كانت الأصنام جمادا لأنه أراد به الأصنام‏

783
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأعراف(7): الآيات 194 الى 195] ص : 784

 

و العابدين لها جميعا فغلب ما يعقل على ما لا يعقل و يجوز أن يكون على أنهم يعظمونها تعظيم من يعقل و يصورونها على صورة من يعقل فكني عنهم كما يكنى عن العقلاء كقوله‏ وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ‏ «وَ لا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَ لا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ» أي و يشركون به و يعبدون من لا يستطيع نصر عابديه و لا نصر نفسه بأن يدفع عن نفسه من أراد به الضر و من هذه صورته فهو في غاية العجز فكيف يكون إلها معبودا «وَ إِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى‏ لا يَتَّبِعُوكُمْ» قيل معناه و إن دعوتم الأصنام التي عبدوها إلى الهدى فإنها لا تقبل الهدى عن أبي علي الجبائي بين بذلك ضعف أمرها بأنها لا تهدي غيرها و لا تهتدي بأنفسها و إن دعيت إلى الهدى و قيل معناه إن دعوتم المشركين الذين أصروا على الكفر إلى دين الحق لم يؤمنوا و هو نظير قوله‏ «سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ» عن الحسن‏ «سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَ دَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ» أي سواء عليكم دعاؤهم و السكوت عنهم و إنما قال‏ «أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ» و لم يقل أم صمتم فيكون في مقابل‏ «أَ دَعَوْتُمُوهُمْ» ليفيد الماضي و الحال فإن المقابلة كانت تدل على الماضي فحسب و صورة اللفظ تدل على معنى الحال و مثل قول الشاعر:

سواء عليك الفقر أم بت ليلة

 

 بأهل القباب من نمير بن عامر.

 

 [سورة الأعراف (7): الآيات 194 الى 195]

إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (194) أَ لَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ (195)

القراءة

قرأ أبو جعفر وحده يبطشون هاهنا و في القصص و الدخان بضم الطاء و الباقون بكسرها و قرأ هشام و يعقوب كيدوني بياء في الوقف و الوصل و وافقهما أبو جعفر و أبو

 

784
مجمع البیان في تفسير القرآن4

الحجة ص : 785

عمرو و إسماعيل في الوصل و الباقون بغير ياء في الحالين و قرأ تنظروني بالياء في الحالين يعقوب.

الحجة

بطش يبطش و يبطش و الكسر أفصح و قال أبو علي الفواصل من الكلام التام تجري مجرى القوافي لاجتماعهما في أن الفاصلة آخر الآية كما أن القافية آخر البيت و قد ألزموا في القوافي حذف هذه الآيات قال الأعشى:

فهل يمنعني ارتياد البلاد

 

 من حذر الموت أن يأتين‏

 

و الياء التي هي لام كذلك نحو قوله:

يلمس الأحلاس في منزله‏

 

 بيديه كاليهودي المصل‏

 

و من أثبت فلأن الأصل الإثبات.

المعنى‏

ثم أتم سبحانه الحجة على المشركين بقوله‏ «إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ» يعني الأصنام يريد تدعونهم آلهة «عِبادٌ أَمْثالُكُمْ» أي مخلوقة أمثالكم عن الحسن و قيل مملوكون أمثالكم عن الكلبي و قيل أمثالكم في التسخير أي أنهم مسخرون مذللون لأمر الله عن الأخفش و لما كانت الأصنام غير ممتنعة مما يريد الله بها كانت في معنى العباد فإن التعبيد التذليل و طريق معبد موطوء مسلوك و منه قوله‏ «وَ تِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ» أي ذللتهم و استخدمتهم ضروبا من الخدمة «فَادْعُوهُمْ» هذا الدعاء ليس الدعاء الأول و المراد به فادعوهم في مهماتكم و لكشف الأسواء عنكم‏ «فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ» هذه لام الأمر على معنى التعجيز و التهجين كما قال‏ هاتُوا بُرْهانَكُمْ‏ «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» قال ابن عباس معناه فاعبدوهم هل يثيبونكم أو يجاوزونكم إن كنتم صادقين إن لكم عندها منفعة و ثوابا أو شفاعة و نصرة ثم فضل سبحانه بني آدم عليهم فقال‏ «أَ لَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها» أي لهؤلاء الأصنام أرجل يمشون بها في مصالحكم‏ «أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها» أي يأخذون بها في الدفع عنكم و معنى البطش التناول و الأخذ بشدة «أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها» أي ليس لهم هذه الحواس و لكم هذه الحواس فأنتم أفضل منهم فلو دعوتم و عبدتم من له الحياة و منافعها للزمكم الذم و اللوم بذلك لأنها مخلوقة مربوبة فكيف تعبدون‏

785
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأعراف(7): الآيات 196 الى 198] ص : 786

 

من أنتم أفضل منه ثم زاد سبحانه في تهجينهم فقال‏ «قُلِ» يا محمد «ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ» أي هذه الأوثان التي تزعمون أنها آلهة و تشركونها في أموالكم و تجعلون لها حظا من المواشي و غيرها و توجهون عبادتكم إليها إشراكا بالله لها «ثُمَّ كِيدُونِ» بأجمعكم‏ «فَلا تُنْظِرُونِ» أي لا تؤخروني و معناه أن معبودي ينصرني و يدفع كيد الكائدين عني و معبودكم لا يقدر على نصركم فإن قدرتم على ضر فاجتمعوا أنتم مع أصنامكم و تظاهروا على كيدي و لا تمهلوني في الكيد و الإضرار فإن معبودي يدفع كيدكم عني.

 [سورة الأعراف (7): الآيات 196 الى 198]

إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَ هُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196) وَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَ لا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) وَ إِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى‏ لا يَسْمَعُوا وَ تَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَ هُمْ لا يُبْصِرُونَ (198)

المعنى‏

ثم بين سبحانه بعد أن ناصر نبيه ص و حافظه فأمره أن يقول للمشركين‏ «إِنَّ وَلِيِّيَ» أي ناصري و حافظي و دافع شركم عني‏ «اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ» أي القرآن يؤيدني بنصره كما أنزله علي‏ «وَ هُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ» أي ينصر المطيعين له المجتنبين معاصيه تارة بالدفع عنهم و أخرى بالحجة «وَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ» آلهة «لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ» أي لا يقدرون على أن ينصروكم و لا أن يدفعوا عنكم‏ «وَ لا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ» كرر هذا لأن ما تقدم فإنه على وجه التقريع و التوبيخ و ما ذكره هنا فإنه على وجه الفرق بين صفة من يجوز له العبادة و صفة من لا يجوز له العبادة فكأنه قال أن من أعبده ينصرني و من تعبدونه لا يقدر على نصركم و لا على نصر نفسه‏ «وَ إِنْ تَدْعُوهُمْ» يعني إن دعوتم هؤلاء الذين تعبدونهم من الأصنام‏ «إِلَى الْهُدى‏» أي إلى الرشد و المنافع عن الجبائي و الفراء و قيل معناه و إن دعوتم المشركين إلى الدين عن الحسن‏ «لا يَسْمَعُوا» أي لا يسمعوا دعاءكم‏ «وَ تَراهُمْ» فاتحة أعينهم نحوكم على ما صورتموهم عليه من الصور

 

786
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأعراف(7): الآيات 199 الى 200] ص : 787

 

و قال الجبائي جعل الله انفتاح عيونهم في مقابلتهم نظرا منهم إليهم مجازا لأن النظر تقليب الحدقة الصحيحة نحو المرئي طلبا لرؤيته و ذلك لا يتأتى في الجماد و يقال تناظر الحائطان إذا تقابلا و قيل معناه لا يقبلوا و منه سمع الله لمن حمده‏ «وَ تَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَ هُمْ لا يُبْصِرُونَ» الحجة يعني مشركي العرب عن الحسن و مجاهد و السدي.

 [سورة الأعراف (7): الآيات 199 الى 200]

خُذِ الْعَفْوَ وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (199) وَ إِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200)

اللغة

قد مر ما قيل في العفو عند قوله‏ «قُلِ الْعَفْوَ» في سورة البقرة و العرف ضد النكر و مثله المعروف و العارفة و هو كل خصلة حميدة تعرف صوابها العقول و تطمئن إليها النفوس قال الشاعر:

" لا يذهب العرف بين الله و الناس"

 

 

 

و النزغ الإزعاج بالإغراء و أكثر ما يكون ذلك عند الغضب و أصله الإزعاج بالحركة نزغه ينزغه نزغا و قيل النزغ الفساد و منه نزغ الشيطان بيني و بين إخوتي أي أفسد قال الزجاج النزغ أدنى حركة تكون و من الشيطان أدنى وسوسة.

المعنى‏

لما أمر الله سبحانه نبيه (ص) بالدعاء إليه و تبليغ رسالته علمه محاسن الأفعال و مكارم الأخلاق و الخصال فقال‏ «خُذِ الْعَفْوَ» أي خذ يا محمد ما عفا من أموال الناس أي ما فضل من النفقة و كان رسول الله (ص) يأخذ الفضل من أموالهم ليس فيها شي‏ء موقت ثم نزلت آية الزكاة فصار منسوخا بها فإن هذه السورة مكية عن ابن عباس و السدي و الضحاك و قيل معناه خذ العفو من أخلاق الناس و أقبل الميسور منها عن مجاهد و الحسن و معناه أنه أمره بالتساهل و ترك الاستقصاء في القضاء و الاقتضاء و هذا يكون في الحقوق الواجبة لله و للناس و في غيرها و هو في معنى‏

الخبر المرفوع‏ أحب الله عبدا سمحا بائعا و مشتريا قاضيا و مقتضيا

و قيل هو العفو في قبول العذر من المعتذر و ترك المؤاخذة بالإساءة و

روي‏ أنه لما نزلت هذه الآية سأل رسول الله ص جبرائيل عن ذلك فقال لا أدري حتى أسأل العالم ثم أتاه فقال يا محمد إن الله يأمرك أن تعفو عمن ظلمك و تعطي من حرمك و تصل من قطعك‏

 «وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ» يعني بالمعروف و هو كل ما حسن في العقل فعله أو في الشرع و لم يكن منكرا و لا قبيحا عند العقلاء و قيل بكل خصلة

 

787
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأعراف(7): الآيات 201 الى 203] ص : 788

 

حميدة «وَ أَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ» معناه و أعرض عنهم عند قيام الحجة عليهم و الإياس من قبولهم و لا تقابلهم بالسفه صيانة لقدرك فإن مجاوبة السفيه تضع عن القدر و لا يقال هذه الآية منسوخة بآية القتال لأنها عامة خص عنها الكافر الذي يحب قتله بدليل.

قال ابن زيد لما نزلت هذه الآية قال النبي ص كيف يا رب و الغضب فنزل قوله‏ «وَ إِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ»

و معناه يا محمد إن نالك من الشيطان وسوسة و نسخة في القلب بما يسول للإنسان معناه إن عرض لك من الشيطان عارض عن ابن عباس و قيل معناه و إن منعك الشيطان عن شي‏ء مما أمرتك من هذه الأشياء «فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ» أي سل الله عز اسمه أن يعيذك منه‏ «إِنَّهُ سَمِيعٌ» للمسموعات‏ «عَلِيمٌ» بالخفيات و قيل سميع لدعائك عليم بما عرض لك و قيل أن النزغ أول الوسوسة و المس لا يكون إلا بعد التمكن و لذلك فصل الله سبحانه بين النبي ص و غيره فقال للنبي ص‏ «وَ إِمَّا يَنْزَغَنَّكَ» و قال للناس‏ إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ‏.

 [سورة الأعراف (7): الآيات 201 الى 203]

إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَ إِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ (202) وَ إِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْ لا اجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى‏ إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَ هُدىً وَ رَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203)

القراءة

قرأ أهل البصرة و ابن كثير و الكسائي طيف بغير ألف و هو قراءة النخعي و الأسود بن زيد و قرأ الباقون‏ «طائِفٌ» بالألف و قرأ أهل المدينة يمدونهم بضم الياء و كسر الميم و الباقون بفتح الياء و ضم الميم و في الشواذ عن الجحدري يمادونهم و عن عيسى بن عمر يقصرون بفتح الياء و ضم الصاد.

الحجة

الطيف مصدر طاف الخيال يطيف طيفا إذا ألم به في المنام فمعناه إذا مسهم خطرة من الشيطان و يكون الطائف بمعناه فطيف كالخطرة و طائف كالخاطر و الطيف‏

 

788
مجمع البیان في تفسير القرآن4

اللغة ص : 789

 

أكثر قال:

ألا يا لقومي لطيف الخيال‏

 

 أرق من نازح ذي دلال‏

 

و قال الأعشى:

و تصبح عن غب السري و كأنما

 

 ألم بها من طائف الجن أولق‏

 

و قال أبو علي عامة ما جاء في التنزيل فيما يحمد و يستحب أمددت على أفعلت كقوله‏ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَ بَنِينَ‏ وَ أَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ و أَ تُمِدُّونَنِ بِمالٍ‏ و ما كان بخلافه على مددت قال‏ وَ يَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ‏ فهذا يدل على أن الوجه فتح الياء كما ذهب إليه الأكثر و الوجه في قراءة من قرأ يمدونهم أنه مثل‏ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ+ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى‏ و الله أعلم و يمادونهم يفاعلونهم منه أي يعاونونهم و قصر يقصر لغة في أقصر يقصر و يقال أقصر عنه إذا تركه عن قدرة و قصر عنه إذا ضعف عنه.

اللغة

الممسوس الذي به مس جن و الممسوس من المياه ما نالته الأيدي و الاجتباء افتعال من الجباية و نظيره الاصطفاء و هو استخلاص الشي‏ء للنفس قال علي بن عيسى أصله الاستخراج و منه الجباية الخراج و قيل أصله الجمع من جبيت الماء في الحوض و الحوض جابية لجمعها الماء قال الفراء اجتبيت الكلام و اختلقته و ارتجلته إذا افتعلته من قبل نفسك قال أبو عبيدة و اخترعته مثل ذلك قال أبو زيد هذه الحروف تقولها العرب للكلام يبتدؤه الرجل لم يكن أعده قبل ذلك في نفسه و البصائر البراهين و الحجج جمع بصيرة و البصائر أيضا طرائق الدم قال الأشعر الجعفي:

راحوا بصائرهم على أكتافهم‏

 

 و بصيرتي يعدو بها عتد و أي‏

 

أو البصيرة الترس و جمعها بصائر قال الزجاج و جميع هذا معناه ظهور الشي‏ء و تبيانه.

الإعراب‏

إذا الأولى ظرف زمان و يكون لها جواب بمنزلة الجزاء و إذا الثانية ظرف مكان بمعنى المفاجاة كقولك خرجت فإذا زيد.

المعنى‏

ثم ذكر سبحانه طريقة المتقين إذا عرضت لهم وساوس الشياطين فقال‏

 

789
مجمع البیان في تفسير القرآن4

النظم ص : 790

 «إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا» الله باجتناب معاصيه‏ «إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا» قيل معناه إذا وسوس إليهم الشيطان و أغراهم بمعصيته تذكروا ما عليهم من العقاب بذلك فيجتنبونه و يتركونه و هو معنى قول ابن عباس و السدي و قال الحسن يعني إذا طاف عليهم الشيطان بوساوسه و قال سعيد بن جبير هو الرجل الذي يغضب الغضبة فيتذكر فيكظم غيظه و به قال مجاهد و روي عنه أيضا أنه قال هو الرجل يهم بالذنب فيذكر الله فيتركه و قيل طائف غضب و طيف جنون و قيل معناهما واحد «فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ» للرشد «وَ إِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ» معناه و إخوان المشركين من شياطين الجن و الإنس يمدونهم في الضلال و المعاصي أي يزيدونهم فيه و يزينون لهم ما هم فيه‏ «ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ» ثم لا يكفون يعني الشيطان عن استغوائهم و لا يرحمونهم عن مجاهد و قتادة و قيل معناه و إخوان الشياطين من الكفار يمدهم الشياطين في الغي ثم لا يقصر هؤلاء مع ذلك كما يقصر الذين اتقوا عن ابن عباس و السدي و الجبائي و قيل معناه ثم لا يقصر الشياطين عن إغوائهم و لا يقصرونهم عن ارتكاب الفواحش‏ «وَ إِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْ لا اجْتَبَيْتَها» معناه أنك يا محمد إذا جئتهم بآية كذبوا بها و إذا أبطأت عنهم يقترحونها و يقولون هلا جئتنا به من قبل نفسك فليس كل ما تقوله وحي من السماء عن قتادة و مجاهد و الزجاج و قيل معناه إذا لم تأتهم بآية مقترحة قالوا هلا اخترتها من قبل نفسك فتسأل ربك أن يأتيك بها عن ابن عباس و الجبائي و أبي مسلم‏ «قُلْ» يا محمد لهم‏ «إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى‏ إِلَيَّ مِنْ رَبِّي» أي لست آتي بالآيات من عندي و إنما يفعلها الله تعالى و يظهرها على حسب ما يعلم من المصلحة في ذلك لا بحسب اقتراح الخلق و إنما أتبع الوحي و لا أتعداه و ليس لي أن أسأله إنزال الآيات إلا بعد إذنه في السؤال‏ «هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ» هذا القرآن دلائل ظاهرة و حجج واضحة و براهين ساطعة من ربكم يبصر الإنسان بها أمور دينه‏ «وَ هُدىً وَ رَحْمَةٌ» أي و دلالة تهدي إلى الرشد و نعمة في الدين و الدنيا «لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» خص المؤمنين بالذكر لأنهم المنتفعون بها دون غيرهم من الكفار و في هذه الآية دلالة على أن أفعال النبي ص و أقواله تابعة للوحي و أنه لا يجوز أن يعمل بالرأي و القياس.

النظم‏

قيل إن هذه الآية اتصلت بقوله‏ «يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ» و تقديره و يسألونك عن الآيات فإذا لم تأتهم بها قالوا لو لا اجتبيتها عن أبي مسلم و قيل اتصلت بما قبلها من قوله‏ «وَ إِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ» و معناه يبقون في الضلالة و إذا لم تأتهم بآية يسألون عنها فقالوا كذا.

790
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأعراف(7): الآيات 204 الى 206] ص : 791

 

 [سورة الأعراف (7): الآيات 204 الى 206]

وَ إِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَ أَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) وَ اذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَ خِيفَةً وَ دُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ وَ لا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ (205) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَ يُسَبِّحُونَهُ وَ لَهُ يَسْجُدُونَ (206)

اللغة

الإنصات السكوت مع استماع قال ابن الأعرابي نصت و أنصت و انتصت استمع الحديث و سكت و أنصته و أنصت له و أنصت الرجل سكت و أنصته غيره عن الأزهري و الآصال جمع أصل و أصل جمع أصيل فالآصال جمع الجمع و تصغيره أصيلان على إبدال النون و معناه العشيات و هو ما بين العصر إلى غروب الشمس.

الإعراب‏

 «تَضَرُّعاً وَ خِيفَةً» مصدران وضعا موضع الحال أي متضرعين و خائفين و «دُونَ الْجَهْرِ» عطف عليه فيجب أن يكون في موضع الحال أي و غير رافعين أصواتكم حتى يبلغ حد الجهر.

المعنى‏

ثم أمر سبحانه بالاستماع للقرآن عند قراءته فقال‏ «وَ إِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَ أَنْصِتُوا» اختلف في الوقت المأمور بالإنصات للقرآن و الاستماع له‏

فقيل‏ إنه في الصلاة خاصة خلف الإمام الذي يؤتم به إذا سمعت قراءته عن ابن عباس و ابن مسعود و سعيد بن جبير و سعيد بن المسيب و مجاهد و الزهري‏ و روي ذلك عن أبي جعفر (ع)

قالوا و كان المسلمون يتكلمون في صلاتهم و يسلم بعضهم على بعض و إذا دخل داخل فقال لهم كم صليتم أجابوه فنهوا عن ذلك و أمروا بالاستماع و قيل أنه في الخطبة أمروا بالإنصات و الاستماع إلى الإمام يوم الجمعة عن عطا و عمرو بن دينار و زيد بن أسلم و قيل أنه في الخطبة و الصلاة جميعا عن الحسن و جماعة قال الشيخ أبو جعفر قدس الله روحه و أقوى الأقوال الأول لأنه لا حال يجب فيها الإنصات لقراءة القرآن إلا حالة قراءة الإمام في الصلاة فإن على المأموم الإنصات و الاستماع فأما خارج الصلاة فلا خلاف أن الإنصات و الاستماع غير واجب و

روي عن أبي عبد الله (ع) أنه قال‏ يجب الإنصات للقرآن في الصلاة و غيرها

 

791
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 791

قال و ذلك على وجه الاستحباب‏

و

في كتاب العياشي بإسناده عن أبي عبد الله (ع) قال‏ قرأ ابن الكوا خلف أمير المؤمنين (ع) لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ‏ فأنصت له أمير المؤمنين (ع)

و

عن عبد الله بن أبي يعفور عن أبي عبد الله (ع) قال‏ قلت له الرجل يقرأ القرآن أ يجب على من سمعه الإنصات له و الاستماع قال نعم إذا قرئ عندك القرآن وجب عليك الإنصات و الاستماع‏

قال الزجاج و يجوز أن يكون فاستمعوا له و أنصتوا أي اعملوا بما فيه و لا تجاوزوا لأن معنى قول القائل سمع الله دعاءك أجاب الله دعاءك لأن الله سميع عليم و قال الجبائي أنها نزلت في ابتداء التبليغ ليعلموا أو يتفهموا و قال أحمد بن حنبل أجمعت الأمة على أنها نزلت في الصلاة «لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ» أي لترحموا بذلك و باعتباركم به و اتعاظكم بمواعظه‏ «وَ اذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ» خطاب للنبي ع و المراد به عام و قيل هو خطاب لمستمع القرآن و المعنى و اذكر ربك في نفسك بالكلام من التسبيح و التهليل و التحميد و

روى زرارة عن أحدهما (ع) قال‏ معناه إذا كنت خلف الإمام تأتم به فأنصت و سبح في نفسك يعني فيما لا يجهر الإمام فيه بالقراءة

و قيل معناه و اذكر نعمة ربك بالتفكر في نفسك و قيل أراد أذكره في نفسك بصفاته العليا و أسمائه الحسنى‏ «تَضَرُّعاً وَ خِيفَةً» يعني بتضرع و خوف يعني في الدعاء فإن الدعاء بالتضرع و الخوف من الله تعالى أقرب إلى الإجابة و إنما خص الذكر بالنفس لأنه أبعد من الرياء عن الجبائي‏ «وَ دُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ» معناه ارفعوا أصواتكم قليلا و لا تجهروا بها جهارا بليغا حتى يكون عدلا بين ذلك كما قال‏ وَ لا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَ لا تُخافِتْ بِها و قيل أنه أمر للإمام أن يرفع صوته في الصلاة بالقراءة مقدار ما يسمع من خلفه عن ابن عباس‏ «بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ» أي بالغدوات و العشيات عن قتادة و المراد به دوام الذكر و اتصاله و قيل إنما خص هذين الوقتين لأنهما حال فراغ القلب عن طلب المعاش فيكون الذكر فيهما ألصق بالقلب‏ «وَ لا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ» عما أمرتك به من الدعاء و الذكر و قيل إن الآية متوجهة إلى من أمر بالاستماع للقرآن و الإنصات و كانوا إذا سمعوا القرآن رفعوا أصواتهم بالدعاء عند ذكر الجنة أو النار عن ابن زيد و مجاهد و ابن جريج قال الجبائي و في الآية دليل على أن الذين يرفعون أصواتهم عند الدعاء و يجهرون به مخطئون و على خلاف الصواب ثم ذكر سبحانه ما يبعث إلى الذكر و يدعو إليه فقال‏ «إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ» و هم الملائكة عن الحسن و غيره‏ «لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ» معناه أنهم مع جلالة قدرهم و علو أمرهم يعبدون الله و يذكرونه و فائدته أنكم إن استكبرتم عن عبادته فمن هو أعظم حالا منكم‏

792
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 791

لا يستكبر عنها و إنما قال عند ربك تشريفا للملائكة بإضافتهم إلى نفسه و لم يرد به قرب المكان تعالى الله عن ذلك و تقدس و قيل معناه أنهم في المكان الذي شرفه الله تعالى و لا يملك عليهم الحكم إلا الله تعالى بخلاف البشر كما يقال عند الأمير كذا و كذا من الجند و المراد أنهم في حكمه و تحت أمره و عند فلان كذا من المال و لا يراد به أن ذلك بحضرته و قال الزجاج من قرب من رحمة الله و فضله فهو عند الله أي هو قريب من فضله و إحسانه‏ «وَ يُسَبِّحُونَهُ» أي ينزهونه عما لا يليق به‏ «وَ لَهُ يَسْجُدُونَ» أي يخضعون و قيل يصلون و قيل يسجدون في الصلاة عن الحسن و لا خلاف أن هاهنا سجدة و هي أول سجدات القرآن و اختلف في سجدة التلاوة هل هي واجبة فعند أبي حنيفة واجبة و عند الشافعي سنة مؤكدة و إليه ذهب أصحابنا.

793
مجمع البیان في تفسير القرآن4

(8) سورة الأنفال مدنية و آياتها خمس و سبعون(75) ص : 794

 

 (8) سورة الأنفال مدنية و آياتها خمس و سبعون (75)

 [توضيح‏]

هي مدنية عن ابن عباس و قتادة غير سبع آيات نزلت بمكة «وَ إِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا» إلى آخرهن و قيل نزلت بأسرها في غزاة بدر عن الحسن و عكرمة.

عدد آيها

هي سبعون و سبع آيات شامي و ست حجازي بصري و خمس كوفي‏

اختلافها

ثلاث آيات‏ «ثُمَّ يُغْلَبُونَ» بصري شامي‏ «مَفْعُولًا» الأول غير الكوفي‏ «بِنَصْرِهِ وَ بِالْمُؤْمِنِينَ» غير البصري.

فضلها

أبي بن كعب عن النبي ص أنه قال‏ من قرأ سورة الأنفال و براءة فأنا شفيع له و شاهد يوم القيامة أنه بري‏ء من النفاق و أعطي من الأجر بعدد كل منافق و منافقة في دار الدنيا عشر حسنات و محي عنه عشر سيئات و رفع له عشر درجات و كان العرش و حملته يصلون عليه أيام حياته في الدنيا

و

روى العياشي بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله (ع) قال‏ من قرأ الأنفال و براءة في كل شهر لم يدخله نفاق أبدا و كان من شيعة أمير المؤمنين (ع) حقا و يأكل يوم القيامة من موائد الجنة معهم حتى يفرغ الناس من الحساب‏

و

عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (ع) قال‏ في سورة الأنفال جدع الأنوف‏

تفسيرها

لما قص الله سبحانه في سورة الأعراف قصص الأنبياء و ختمها بذكر نبينا ص افتتح سورة الأنفال بذكره ثم ذكر ما جرى بينه و بين قومه فقال:

 

794
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأنفال(8): آية 1] ص : 795

 

 [سورة الأنفال (8): آية 1]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏

يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَ الرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1)

القراءة

قرأ ابن مسعود و سعد بن أبي وقاص و علي بن الحسين و أبو جعفر بن محمد بن علي الباقر و زيد بن علي و جعفر بن محمد الصادق ع و طلحة بن مصرف يسألونك الأنفال ..

الحجة

قال ابن جني هذه القراءة بالنصب مؤدية عن السبب للقراءة الأخرى التي هي‏ «عَنِ الْأَنْفالِ» و ذلك أنهم إنما سألوه عنها تعرضا لطلبها و استعلاما لحالها هل يسوغ طلبها و هذه القراءة بالنصب أصرح بالتماس الأنفال و بيان عن الغرض في السؤال عنها فإن قلت هل يحسن حملها على حذف حرف الجر كأنه قال يسألونك عن الأنفال فلما حذف عن نصب المفعول كقوله:

" أمرتك الخير فافعل ما أمرت به"

 

 

 

قيل هذا شاذ إنما يحمله الشعر فأما القرآن فيختار له أفصح اللغات و إن كان قد جاء وَ اخْتارَ مُوسى‏ قَوْمَهُ‏ و اقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فإن الأظهر ما قدمناه.

اللغة

الأنفال جمع نفل و النفل الزيادة على الشي‏ء يقال نفلتك كذا إذا زدته قال لبيد:

إن تقوى ربنا خير نفل‏

 

 و بإذن الله ريثي و عجل‏

 

و قيل النفل العطية و نفلتك أعطيتك و النافلة عطية التطوع من حيث لا يجب و منه نوافل الصلاة و النوفل الرجل الكثير العطية.

المعنى‏

 «يَسْئَلُونَكَ» أي يسألك يا محمد جماعة من أصحابك‏ «عَنِ الْأَنْفالِ» اختلف المفسرون في الأنفال هاهنا فقيل هي الغنائم التي غنمها النبي ص يوم بدر و هو المروي عن عكرمة عن ابن عباس و مجاهد و قتادة و الضحاك و ابن زيد

 

795
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 795

و قيل هي أنفال السرايا عن الحسن بن صالح بن حي و قيل هي ما شذ عن المشركين إلى المسلمين من عبد أو جارية من غير قتال أو ما أشبه ذلك عن عطا و قيل هو للنبي ص خاصة يعمل به ما شاء و قيل هو ما سقط من المتاع بعد قسمته الغنائم من الغرس و الزرع و الرمح عن ابن عباس في رواية أخرى و روي عنه أيضا أنه سلب الرجل و فرسه ينفل النبي ص من شاء و قيل هي الخمس الذي جعله الله لأهل الخمس عن مجاهد في رواية أخرى و

صحت الرواية عن أبي جعفر و أبي عبد الله ع أنهما قالا إن الأنفال كل ما أخذ من دار الحرب بغير قتال و كل أرض انجلى أهلها عنها بغير قتال و يسميها الفقهاء فيئا و ميراث من لا وارث له و قطائع الملوك إذا كانت في أيديهم من غير غصب و الآجام و بطون الأودية و الأرضون الموات و غير ذلك مما هو مذكور في مواضعه و قالا هي لله و للرسول و بعده لمن قام مقامه فيصرفه حيث شاء من مصالح نفسه ليس لأحد فيه شي‏ء و قالا أن غنائم بدر كانت للنبي ص خاصة فسألوه أن يعطيهم‏

و

قد صح‏ أن قراءة أهل البيت (ع) يسألونك الأنفال‏

فقال الله تعالى‏ «قُلِ» يا محمد «الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَ الرَّسُولِ» و كذلك ابن مسعود و غيره إنما قرءوا كذلك على هذا التأويل فعلى هذا فقد اختلفوا في كيفية سؤالهم النبي ص فقال هؤلاء إن أصحابه سألوه أن يقسم غنيمة بدر بينهم فأعلمهم الله سبحانه أن ذلك لله و لرسوله دونهم و ليس لهم في ذلك شي‏ء و روي ذلك أيضا عن ابن عباس و ابن جريج و الضحاك و عكرمة و الحسن و اختاره الطبري و قالوا أن عن صلة و معناه يسألونك الأنفال أن تعطيهم و يؤيد هذا القول قوله‏ «فَاتَّقُوا اللَّهَ» إلى آخر الآية ثم اختلف هؤلاء فقال بعضهم هي منسوخة بآية الغنيمة و هي قوله‏ «وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ» و قال بعضهم ليست بمنسوخة و هو الصحيح لأن النسخ يحتاج إلى دليل و لا تنافي بين هذه الآية و آية الخمس و قال آخرون أنهم سألوا النبي ص عن حكم الأنفال و علمها فقالوا لمن الأنفال و تقديره يسألونك عن الأنفال لمن هي و لهذا جاء الجواب بقوله‏ «قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَ الرَّسُولِ» و قال آخرون أنهم سألوه عن حال الغنائم و قسمتها و أنها حلال أم حرام كما كانت حراما على من قبلهم فبين لهم أنها حلال و اختلفوا أيضا في سبب سؤالهم فقال ابن عباس أن النبي ص قال يوم بدر من جاء بكذا فله كذا و من جاء بأسير فله كذا فتسارع الشبان و بقي الشيوخ‏

796
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 795

تحت الرايات فلما انقضى الحرب طلب الشبان ما كان قد نفلهم النبي ص به فقال الشيوخ كنا ردءا لكم و لو وقعت عليكم الهزيمة لرجعتم إلينا و جرى بين أبي اليسر بن عمرو الأنصاري أخي بني سلمة و بين سعد بن معاذ كلام فنزع الله تعالى الغنائم منهم و جعلها لرسوله يفعل بها ما يشاء فقسمها بينهم بالسوية و قال عبادة بن الصامت اختلفنا في النفل و ساءت فيه أخلاقنا فنزعه الله من أيدينا فجعله إلى رسوله فقسمه بيننا على السواء و كان ذلك في تقوى الله و طاعته و صلاح ذات البين و

قال سعد بن أبي وقاص‏ قتل أخي عمير يوم بدر فقتلت سعيد بن العاص بن أمية و أخذت سيفه و كان يسمى ذا الكتيفة فجئت به إلى النبي ص و استوهبته منه فقال ليس هذا لي و لا لك اذهب فاطرحه في القبض فطرحت و رجعت و بي ما لا يعلمه إلا الله من قتل أخي و أخذ سلبي و قلت عسى أن يعطي هذا لمن لم يبل بلائي فما جاوزت إلا قليلا حتى جاءني الرسول و قد أنزل الله‏ «يَسْئَلُونَكَ» الآية فخفت أن يكون قد نزل في شي‏ء فلما انتهيت إلى رسول الله ص قال يا سعد إنك سألتني السيف و ليس لي و أنه قد صار لي فاذهب فخذه فهو لك‏

و قال علي بن طلحة عن ابن عباس كانت الغنائم لرسول الله ص خاصة ليس لأحد فيها شي‏ء و ما أصاب سرايا المسلمين من شي‏ء أتوه به فمن حبس منه إبرة أو سلكا فهو غلول فسألوا رسول الله أن يعطيهم منها فنزلت الآية و قال ابن جريج اختلف من شهد بدرا من المهاجرين و الأنصار في الغنيمة فكانوا ثلاثا فنزلت الآية و ملكها الله رسوله يقسمها كما أراه الله و قال مجاهد هي الخمس و ذلك أن المهاجرين قالوا لم يرفع منا هذا الخمس و لم يخرج منا فقال الله تعالى‏ «قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَ الرَّسُولِ» يقسمانها كما شاءا أو ينفلان منها ما شاءا أو يرضخان منها ما شاءا فاتقوا الله باتقاء معاصيه و اتباع ما يأمركم به و ما يأمركم به رسوله و احذروا مخالفة أمرهما «وَ أَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ» و أي أصلحوا ما بينكم من الخصومة و المنازعة و قوله‏ «ذاتَ بَيْنِكُمْ» كناية عن المنازعة و الخصومة و الذات هي الخلقة و البنية يقال فلان في ذاته صالح أي في خلقته و بنيته يعني أصلحوا نفس كل شي‏ء بينكم أو أصلحوا حال كل نفس بينكم و قيل معناه و أصلحوا حقيقة وصلكم كقوله‏ «لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ» أي وصلكم و المراد كونوا مجتمعين على ما أمر الله و رسوله و كذلك معنى اللهم أصلح ذات البين أي أصلح الحال التي بها يجتمع المسلمون عن الزجاج و هذا نهي من الله تعالى عن الاختلاف فيما اختلفوا فيه من أمر الغنيمة يوم بدر عن ابن عباس و مجاهد و السدي‏ «وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ» أي أقبلوا ما أمرتم به في الغنائم و غيرها عن الزجاج و معناه و أطيعوهما فيما يأمرانكم به‏

797
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأنفال(8): الآيات 2 الى 4] ص : 798

 

و ينهيانكم عنه‏ «إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» مصدقين للرسول فيما يأتيكم به من قبل الله كما تدعون و في تفسير الكلبي أن الخمس لم يكن مشروعا يومئذ و إنما شرع يوم أحد و فيه أنه لما نزلت هذه الآية عرف المسلمين أنه لا حق لهم في الغنيمة و أنها لرسول الله فقالوا يا رسول الله سمعا و طاعة فاصنع ما شئت فنزل قوله‏ «وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ» أي ما غنمتم بعد بدر و

روي‏ أن رسول الله قسم غنائم بدر عن بواء أي على سواء و لم يخمس.

 [سورة الأنفال (8): الآيات 2 الى 4]

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَ إِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَ عَلى‏ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ (4)

اللغة

الوجل و الخوف و الفزع واحد يقال وجل يوجل و ييجل و يأجل بالألف و ييجل أربع لغات حكاها سيبويه و أجودها يوجل قال الشاعر:

لعمرك ما أدري و إني لأوجل‏

 

 على أينا تغدو المنية أول‏

 

و التوكل هو الثقة بالله في كل ما يحتاج إليه يقال وكلت الأمر إلى فلان إذا جعلت إليه القيام به و الوكيل القائم بالأمر لغيره.

الإعراب‏

حقا منصوب بما دلت عليه الجملة التي هي قوله‏ «أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ» و المعنى أحق ذلك حقا.

المعنى‏

لما قال سبحانه‏ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ‏ بين صفة المؤمنين بقوله‏ «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ» أي خافت تعظيما له و ذلك إذا ذكر عندهم عقوبته و عدله و وعيده على المعاصي بالعقاب و اقتداره عليه فأما إذا ذكرت نعمة الله على عباده و إحسانه إليهم و فضله و رحمته عليهم و ثوابه على الطاعات اطمأنت قلوبهم و سكنت نفوسهم إلى عفو الله تعالى كما قال سبحانه‏ «أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ» فلا تنافي بين الآيتين إذ وردتا في حالتين و وجه آخر و هو أن المؤمن ينبغي أن يكون من صفته أنه إذا نظر في نعم الله عليه و مننه لديه و عظيم مغفرته و رحمته اطمأن قلبه و حسن بالله ظنه و إذا ذكر عظيم معاصيه‏

 

798
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 798

بترك أوامره و ارتكاب نواهيه وجل قلبه و اضطربت نفسه و الوجل الخوف مع شدة الحزن و إنما يستعمل على الغالب في القلب‏ «وَ إِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً» معناه و إذا قرئ عليهم القرآن زادتهم آياته تبصرة و يقينا على يقين عن الضحاك و قيل زادتهم تصديقا مع تصديقهم بما أنزل الله إليهم قبل ذلك عن ابن عباس و المعنى أنهم يصدقون بالأولى و الثانية و الثالثة و كل ما يأتي من عند الله فيزداد تصديقهم‏ «وَ عَلى‏ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» أي يفوضون أمورهم إلى الله فيما يخافونه من السوء في الدنيا و قيل فيما يرجونه من قبول أعمالهم في الآخرة «الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ» قد مر تفسيره في سورة البقرة و إنما خص الصلاة و الزكاة بالذكر لعظم شأنهما و تأكد أمرهما و ليكون داعيا إلى المواظبة على فعلهما «أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا» أي هؤلاء المستجمعون لهذه الخصال و الحائزون لهذه الصفات هم الذين استحقوا هذا الاسم على الحقيقة «لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ» يعني درجات الجنة يرتقونها بأعمالهم عن عطاء و قيل لهم أعمال رفيعة و فضائل استحقوها في أيام حياتهم عن مجاهد «وَ مَغْفِرَةٌ» لذنوبهم‏ «وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ» أي خطير كبير في الجنة و قيل كريم دائم كثير لا يشوبه ضرر و لا يعتريه كدر و لا يخاف عليه فناء و لا نقصان و لا حساب من قولهم فلان كريم إذا كانت أخلاقه محمودة و استدل من قال أن الإيمان يزيد و ينقص و أن أفعال الجوارح من الإيمان بهذه الآيات فقال أن الله تعالى نفى أن يكون المؤمن غير متصف بهذه الصفات بلفظة إنما فكأنه قال لا يكون أحد مؤمنا إلا أن يكون بهذه الصفات و الجواب عنه أن هذه الصفات خيار المؤمنين و أفاضلهم فكأنه قال إنما خيار المؤمنين من له هذه الأوصاف و ليس يمتنع أن يتفاضل المؤمنون في الطاعات و إن لم يتفاضلوا في الإيمان يدل على ذلك أن الإجماع حاصل على أن وجل القلب ليس بواجب و إنما هو من المندوبات و إن الصلاة قد تدخل فيها الفرائض و النوافل. و الإنفاق كذلك فعلمنا أن الإشارة بالآية إلى خيار المؤمنين و أماثلهم فلا تدل إذا على أن من كان دونهم في المنزلة خارج عن الإيمان و قد قال ابن عباس أنه سبحانه أراد بذلك أن المنافق لا يدخل قلبه خشية الله عند ذكره و إن هذه الأوصاف المذكورة منتفية عنه.

799
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأنفال(8): الآيات 5 الى 8] ص : 800

 

 [سورة الأنفال (8): الآيات 5 الى 8]

كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَ إِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (5) يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَ هُمْ يَنْظُرُونَ (6) وَ إِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَ تَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَ يَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَ يُبْطِلَ الْباطِلَ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8)

اللغة

المجادلة المنازعة الذي يفتل بها عن مذهب إلى مذهب سميت بذلك لشدته و أصل الجدل شدة الفتل و منه الأجدل الصقر لشدته و زمام جديل شديد الفتل و قيل أصله من الجدالة و هي الأرض يقال طعنه فجدله أي أوقعه على الأرض فكان المتجادلين يريد كل واحد منهما أن يرمي بخصمه إلى الأرض و السوق الحث على المسير و الشوكة الحد يقال ما أشد شوكة بني فلان و فلان شاك في السلاح و شائك و شاك من الشكة و شاك مخفف مثل قولهم كبش صاف كثير الصوف مثل صائف قال الشاعر:

فتوهموني أنني أنا ذاكم‏

 

 شاك سلاحي في الحوادث معلم‏

 

و أصله من الشوك و دابر الأمر آخره و دابر الرجل عقبه و الحق وقوع الشي‏ء في موضعه الذي هو له فإذا اعتقد شي‏ء بضرورة أو حجة فهو حق لأنه وقع موقعه الذي هو له و عكسه الباطل.

الإعراب‏

الكاف في قوله‏ «كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ» يتعلق بما دل عليه قوله‏ «قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَ الرَّسُولِ» لأن في هذا معنى نزعها من أيديهم بالحق كما أخرجك ربك من بيتك بالحق و قيل تقديره قل الأنفال ثابت لله و الرسول ثبوتا مثل ما أخرجك ربك أي هذا كائن لا محالة كما أن ذلك كان لا محالة و قيل إنه يتعلق بيجادلونك و تقديره يجادلونك بالحق كما كرهوا إخراجك من بيتك بالحق و قيل أنه يعمل فيه معنى الحق بتقدير هذا الذكر الحق كما أخرجك ربك من بيتك بالحق و قوله‏ «أَنَّها لَكُمْ» في موضع نصب على البدل من إحدى الطائفتين و تقديره يعدكم أن إحدى الطائفتين لكم و نظيره قوله‏ «هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا

 

800
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 801

السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ»+.

المعنى‏

 «كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ» يا محمد على التقدير الأول قل الأنفال لله ينزعها عنكم مع كراهتكم و مشقة ذلك عليكم لأنه أصلح لكم كما أخرجك ربك من بيتك مع كراهة فريق من المؤمنين ذلك لأن الخروج كان أصلح لكم من كونكم في بيتكم و المراد بالبيت هنا المدينة يعني خروج النبي ص منها إلى بدر و يكون معنى أخرجك ربك دعاك إلى الخروج و أمرك به و حملك عليه كما يقال أضربت زيدا عمرا فضربه و أما على التقدير الثاني و هو أن يكون اتصاله بما بعده فيكون معناه يجادلونك في الحق كارهين له كما جادلوك يا محمد حين أخرجك ربك كارهين للخروج كرهوه كراهية طباع فقال بعضهم كيف نخرج و نحن قليل و العدو كثير و قال بعضهم كيف نخرج على عمياء لا ندري إلى العير نخرج أم إلى القتال فشبه جدالهم بخروجهم لأن القوم جادلوه بعد خروجهم كما جادلوه عند الخروج فقالوا هلا أخبرتنا بالقتال فكنا نستعد لذلك فهذا هو جدالهم على تأويل مجاهد و أما على التقدير الثالث فمعناه أن هذا خير لكم كما أن إخراجك من بيتك على كراهية جماعة منكم خير لكم و قريب منه ما

جاء في حديث أبي حمزة الثمالي‏ فالله ناصرك كما أخرجك من بيتك‏

و قوله‏ «بِالْحَقِّ» أي بالوحي و ذلك أن جبرائيل (ع) أتاه و أمره بالخروج و قيل معناه أخرجك و معك الحق و قيل معناه أخرجك بالحق الذي وجب عليك و هو الجهاد «وَ إِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» أي طائفة منهم‏ «لَكارِهُونَ» لذلك للمشقة التي لحقتهم‏ «يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ» معناه يجادلونك فيما دعوتهم إليه بعد ما عرفوا صحته و صدقك بما ظهر عليك من المعجزات و مجادلتهم قولهم هلا أخبرتنا بذلك و هم يعلمون أنك لا تأمرهم عن الله إلا بما هو حق و صواب و كانوا يجادلون فيه لشدته عليهم يطلبون بذلك رخصة لهم في التخلف عنه أو في تأخير الخروج إلى وقت آخر و قيل معناه يجادلونك في القتال يوم بدر بعد ما تبين صوابه و أنه مأمور به عن ابن عباس و قيل بعد ما تبين أنك يا محمد لا تصنع إلا ما أمرك الله به‏ «كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَ هُمْ يَنْظُرُونَ» معناه كان هؤلاء الذين يجادلونك في لقاء العدو لشدة القتال عليهم حيث لم يكونوا مستعدين له و لكراهتهم له من حيث الطبع كانوا بمنزلة من يساق إلى الموت و هم يرونه عيانا و ينظرون إليه و إلى أسبابه‏ «وَ إِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ» يعني و اذكروا و اشكروا الله إذ يعدكم الله إن إحدى الطائفتين لكم إما العير و إما النفير «وَ تَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ» أي تودون أن يكون لكم العير

801
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[قصة غزاة بدر] ص : 802

و صاحبها أبو سفيان بن حرب لئلا تلحقكم مشقة دون النفير و هو الجيش من قريش قال الحسن كان المسلمون يريدون العير و رسول الله يريد ذات الشوكة كنى بالشوكة عن الحرب لما في الحرب من الشدة عن قطرب و قيل ذات الشوكة ذات السلاح‏ «وَ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ» معناه و الله أعلم بالمصالح منكم فأراد أن يظهر الحق بلطفه و يعز الإسلام و يظفركم على وجوه قريش و يهلكهم على أيديكم بكلماته السابقة و عداته في قوله‏ وَ لَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَ إِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ‏ و قوله‏ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ‏ و قيل بكلماته أي بأمره لكم بالقتال‏ «وَ يَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ» أي يستأصلهم فلا يبقي منهم أحدا يعني كفار العرب‏ «لِيُحِقَّ الْحَقَّ» أي إنما يفعل ذلك ليظهر الإسلام‏ «وَ يُبْطِلَ الْباطِلَ» أي الكفر بإهلاك أهله‏ «وَ لَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ» أي الكافرون و ذكر البلخي عن الحسن أن قوله‏ «وَ إِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ» الآية نزلت قبل قوله‏ «كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ» و هي في القراءة بعدها.

 [قصة غزاة بدر]

قال أصحاب السير و ذكر أبو حمزة و علي بن إبراهيم في تفسيرهما دخل حديث بعضهم في بعض أقبل أبو سفيان بعير قريش من الشام و فيها أموالهم و هي اللطيمة و فيها أربعون راكبا من قريش فندب النبي ص أصحابه للخروج إليها ليأخذوها و قال لعل الله أن ينفلكموها فانتدب الناس فخف بعضهم و ثقل بعضهم و لم يظنوا أن رسول الله ص يلقي كيدا و لا حربا فخرجوا لا يريدون إلا أبا سفيان و الركب لا يرونها إلا غنيمة لهم فلما سمع أبو سفيان بمسير النبي ص استأجر ضمضم بن عمرو الغفاري فبعثه إلى مكة و أمره أن يأتي قريشا فيستنفرهم و يخبرهم أن محمدا ص قد تعرض لغيرهم في أصحابه فخرج ضمضم سريعا إلى مكة و كانت عاتكة بنت عبد المطلب رأت فيما يرى النائم قبل مقدم ضمضم بن عمرو بثلاث ليال أن رجلا أقبل على بعير له ينادي يا آل غالب اغدوا إلى مصارعكم ثم وافى بجمله على أبي قبيس فأخذ حجرا فدهدهه من الجبل فما ترك دارا من دور قريش إلا أصابته منه فلذة فانتبهت فزعة من ذلك و أخبرت العباس بذلك فأخبر العباس عتبة بن ربيعة فقال عتبة هذه مصيبة تحدث في قريش و فشت الرؤيا فيهم و بلغ ذلك أبا جهل فقال هذه نبية ثانية في بني عبد المطلب و اللات و العزى لننظرن ثلاثة أيام فإن كان ما رأت حقا و إلا لنكتبن كتابا بيننا أنه ما من أهل بيت من العرب أكذب رجالا و نساء من بني هاشم فلما كان اليوم الثالث أتاهم ضمضم يناديهم بأعلى الصوت يا آل غالب يا آل غالب اللطيمة اللطيمة العير العير أدركوا و ما أراكم تدركون أن محمدا و الصباة من أهل يثرب قد خرجوا

802
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[قصة غزاة بدر] ص : 802

يتعرضون لعيركم فتهيئوا للخروج و ما بقي أحد من عظماء قريش إلا أخرج مالا لتجهيز الجيش و قالوا من لم يخرج نهدم داره و خرج معهم العباس بن عبد المطلب و نوفل بن الحرث بن عبد المطلب و عقيل بن أبي طالب و أخرجوا معهم القيان يضربون الدفوف و خرج رسول الله ص في ثلاثمائة و ثلاثة عشر رجلا فلما كان بقرب بدر أخذ عينا للقوم فأخبره بهم و في حديث أبي حمزة بعث رسول الله ص أيضا عينا له على العير اسمه عدي فلما قدم على رسول الله ص فأخبره أين فارق العير نزل جبرائيل على رسول الله ص فأخبره بنفير المشركين من مكة فاستشار أصحابه في طلب العير و حرب النفير فقام أبو بكر فقال يا رسول الله إنها قريش و خيلاؤها ما آمنت منذ كفرت و لا ذلت منذ عزت و لم تخرج على هيئة الحرب و في حديث أبي حمزة قال أبو بكر أنا عالم بهذا الطريق فارق عدي العير بكذا و كذا و ساروا و سرنا فنحن و القوم على ماء بدر يوم كذا و كذا كانا فرسا رهان فقال ص اجلس فجلس ثم قام عمر بن الخطاب فقال مثل ذلك فقال ص اجلس فجلس ثم قام المقداد فقال يا رسول الله إنها قريش و خيلاؤها و قد آمنا بك و صدقنا و شهدنا أن ما جئت به حق و الله لو أمرتنا أن نخوض جمر الغضا و شوك الهراس لخضناه معك و الله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى (ع) فَاذْهَبْ أَنْتَ وَ رَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ‏ و لكنا نقول امض لأمر ربك فأنا معك مقاتلون فجزاه رسول الله ص خيرا على قوله ذاك ثم قال أشيروا علي أيها الناس و إنما يريد الأنصار لأن أكثر الناس منهم و لأنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا إنا براء من ذمتك حتى تصل إلى دارنا ثم أنت في ذمتنا نمنعك مما نمنع أبناءنا و نساءنا فكان ص يتخوف أن لا يكون الأنصار ترى عليها نصرته إلا على من دهمه بالمدينة من عدو أن ليس عليهم أن ينصروه خارج المدينة فقام سعد بن معاذ فقال بأبي أنت و أمي يا رسول الله كأنك أردتنا فقال نعم قال بأبي أنت و أمي يا رسول الله إنا قد آمنا بك و صدقناك و شهدنا أن ما جئت به حق من عند الله فمرنا بما شئت و خذ من أموالنا ما شئت و اترك منها ما شئت و الله لو أمرتنا أن نخوض هذا البحر لخضناه معك و لعل الله عز و جل أن يريك منا ما تقر به عينك فسر بنا على بركة الله ففرح بذلك رسول الله ص و قال سيروا على بركة الله فإن الله عز و جل قد وعدني إحدى الطائفتين و لن يخلف الله وعده و الله لكأني أنظر إلى مصرع أبي جهل بن هشام و عتبة بن ربيعة و شيبة بن ربيعة و فلان‏

803
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[قصة غزاة بدر] ص : 802

و فلان و أمر رسول الله ص بالرحيل و خرج إلى بدر و هو بئر و في حديث أبي حمزة الثمالي بدر رجل من جهينة و الماء ماؤه فإنما سمي الماء باسمه و أقبلت قريش و بعثوا عبيدها ليستقوا من الماء فأخذهم أصحاب رسول الله ص و قالوا لهم من أنتم قالوا نحن عبيد قريش قالوا فأين العير قالوا لا علم لنا بالعير فأقبلوا يضربونهم و كان رسول الله ص يصلي فانفتل من صلاته و قال إن صدقوكم ضربتموهم و إن كذبوكم تركتموهم فأتوه بهم فقال لهم من أنتم قالوا يا محمد نحن عبيد قريش قال كم القوم قالوا لا علم لنا بعددهم قال كم ينحرون في كل يوم من جزور قالوا تسعة إلى عشرة فقال رسول الله ص القوم تسعمائة إلى ألف رجل و أمر ص بهم فحبسوا و بلغ ذلك قريشا ففزعوا و ندموا على مسيرهم و لقي عتبة بن ربيعة أبا البختري بن هشام فقال أ ما ترى هذا البغي و الله ما أبصر موضع قدمي خرجنا لنمنع عيرنا و قد أفلتت فجئنا بغيا و عدوانا و الله ما أفلح قوم بغوا قط و لوددت أن ما في العير من أموال بني عبد مناف ذهبت و لم نسر هذا المسير فقال له أبو البختري إنك سيد من سادات قريش فسر في الناس و تحمل العير التي أصابها محمد ص و أصحابه بنخلة و دم ابن الحضرمي فإنه حليفك فقال له علي ذلك و ما على أحد منا خلاف إلا ابن الحنظلية يعني أبا جهل فصر إليه و أعلمه أني حملت العير و دم ابن الحضرمي و هو حليفي و علي عقله قال فقصدت خباءه و أبلغته ذلك فقال أن عتبة يتعصب لمحمد فإنه من بني عبد مناف و ابنه معه يريد أن يخذل بين الناس لا و اللات و العزى حتى نقحم عليهم يثرب أو نأخذهم أسارى فندخلهم مكة و تتسامع العرب بذلك و كان أبو حذيفة بن عتبة مع رسول الله ص و كان أبو سفيان لما جاز بالعير بعث إلى قريش قد نجى الله عيركم فارجعوا و دعوا محمدا و العرب و ادفعوه بالراح ما اندفع و إن لم ترجعوا فردوا القيان فلحقهم الرسول في الجحفة فأراد عتبة أن يرجع فأبى أبو جهل و بنو مخزوم و ردوا القيان من الجحفة قال و فزع أصحاب رسول الله ص لما بلغهم كثرة قريش و استغاثوا و تضرعوا فأنزل الله سبحانه‏ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ‏ و ما بعده.

804
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأنفال(8): الآيات 9 الى 14] ص : 805

 

 [سورة الأنفال (8): الآيات 9 الى 14]

إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَ ما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى‏ وَ لِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَ مَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10) إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَ يُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَ يُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَ لِيَرْبِطَ عَلى‏ قُلُوبِكُمْ وَ يُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ (11) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَ اضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ (12) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ مَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (13)

ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَ أَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ (14)

القراءة

قرأ أهل المدينة و يعقوب مردفين بفتح الدال و الباقون‏ «مُرْدِفِينَ» بكسر الدال و قرأ أهل المدينة يغشيكم بضم الياء و سكون الغين‏ «النُّعاسَ» بالنصب و قرأ ابن كثير و أبو عمرو يغشاكم بالألف و فتح الياء النعاس بالرفع و الباقون‏ «يُغَشِّيكُمُ» بضم الياء و فتح الغين و التشديد «النُّعاسَ» بالنصب و في الشواذ قراءة الشعبي ما ليطهركم به ما بمعنى الذي.

الحجة

قال أبو علي مردفين يحتمل وجهين (أحدهما) أن يكون مردفين مثلهم كما قالوا أردفت زيدا خلفي فيكون في الآية المفعول الثاني محذوفا (و الآخر) أن يكونوا جاءوا خلفهم تقول العرب بنو فلان يردفوننا أي يجيؤون بعدنا و قال أبو عبيدة مردفين جاءوا بعد، و ردفني و أردفني واحد قال الشاعر:

إذا الجوزاء أردفت الثريا

 

 ظننت بآل فاطمة الظنونا

 

و هذا الوجه كأنه أبين لقوله‏ «إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ» إلى قوله‏ «مُرْدِفِينَ» أي جائين بعد استغاثتكم ربكم و إمداده إياكم بهم فمردفين على هذا صفة لألف و قال الزجاج معناه يأتون فرقة بعد فرقة و مردفين على أردفوا الناس أي أنزلوا بعدهم فيجوز على هذا أن يكون حالا من الضمير المنصوب في ممدكم مردفين بألف من الملائكة و قرأ في الشواذ مردفين‏

 

805
مجمع البیان في تفسير القرآن4

اللغة ص : 806

و مردفين و الأصل فيهما مرتدفين فأدغم التاء في الدال فلما التقى ساكنان حرك الراء لالتقاء الساكنين فضمت تارة اتباعا لضمة الميم و كسرت تارة لأن الساكن يحرك بالكسر و من قرأ يغشيكم و «يُغَشِّيكُمُ» فلأنه أشبه بما بعده من قوله‏ «وَ يُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ» فكما أنه مسند إلى اسم الله فكذلك يغشى و يغشى و من قرأ يغشاكم فإنه أسند الفعل إلى النعاس كما في قوله‏ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى‏، و أغشى و غشى معناهما واحد و قد جاء بهما التنزيل قال سبحانه‏ «فَأَغْشَيْناهُمْ» و قال‏ فَغَشَّاها ما غَشَّى‏ و من قرأ ما ليطهركم به فإن ما هاهنا موصولة و صلتها حرف الجر بما بعده فكأنه قال ما للطهور كقولك كسوت الثوب الذي لدفع البرد و هذه اللام في قراءة الجماعة «ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ» هي لام المفعول له و هي كقوله‏ «إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ» و يتعلق بنفس الفعل و اللام التي في قراءة من قرأ ما ليطهركم به أي الذي للطهارة به فمتعلقة بمحذوف و فيها ضمير لتعلقها بالمحذوف.

اللغة

الرعب الخوف يقال رعبته أرعبته رعبا و رعبا و الرعب انزعاج النفس بتوقع المكروه و أصله التقطيع من قولهم رعبت السنام ترعيبا إذا قطعته مستطيلا فالرعب تقطع حال السرور بضده من انزعاج النفس بتوقع المكروه و رعب السيل فهو راعب إذا امتلأ منه الوادي لأنه انقطع إليه من كل جهة و البنان الأطراف من اليدين و الرجلين و الواحد بنانة و يقال للإصبع بنانة و أصله اللزوم و أصله من أبنت السحابة إبنانا إذا لزمت قال الشاعر:

ألا ليتني قطعت منه بنانه‏

 

 و لاقيته في البيت يقظان خادرا

 

الشقاق العصيان و أصله الانفصال يقال شقه فانشق و شاقه شقاقا إذا صار في شق عدوه عليه و منه اشتقاق الكلام لأنه انفصال الكلمة عما تحتمل في الأصل.

الإعراب‏

العامل في إذ من قوله‏ «إِذْ تَسْتَغِيثُونَ» قوله‏ وَ يُبْطِلَ الْباطِلَ‏ و قيل محذوف و تقديره و اذكروا إذ فعلى الوجه الأول يكون متصلا بما قبله و على الوجه الثاني يكون مستأنفا و الهاء في جعله عائدة إلى الأمداد لأنه معتمد الكلام و قيل عائدة إلى الخبر بالمدد لأن تقديم ذلك إليهم بشارة على الحقيقة و قيل عائدة إلى الإرداف و «أَمَنَةً» انتصب بأنه مفعول له و العامل فيه يغشى‏ «إِذْ يُوحِي» في موضع نصب على معنى و ما جعله الله إلا بشرى في ذلك الوقت و يجوز أن يكون ذلك على تقدير و اذكروا إذ يغشيكم النعاس و إذ يوحي، «ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ» تقديره‏

806
مجمع البیان في تفسير القرآن4

النزول ص : 807

لأمر ذلكم فيكون خبر مبتدإ محذوف فيكون كما قال الشاعر:

و قائلة خولان فانكح فتاتهم‏

 

 و أكرومة الحيين خلو كما هيأ

 

أي هذه خولان و يجوز أن يكون ذلكم منصوب الموضع فيكون مثل قولهم زيدا فاضربه منصوبا بفعل مضمر يفسره الظاهر و كم في ذلكم لا موضع له من الإعراب لأنه حرف الخطاب و «أَنَّ لِلْكافِرِينَ» يحتمل أن يكون موضعه نصبا و جرا و رفعا فالرفع بالعطف على ذلكم فكأنه قال الأمر ذلكم و أن للكافرين عذاب النار مع ذا و النصب بالعطف على قوله‏ أَنِّي مَعَكُمْ‏ و معناه إذ يوحي ربكم أن للكافرين و الجر على أن يكون معطوفا على قوله‏ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ‏ و الرفع أليق بالظاهر و يشاقق بإظهار التضعيف مع الجزم لغة أهل الحجاز و غيرهم يدغم.

النزول‏

قال ابن عباس لما كان يوم بدر و اصطف القوم للقتال قال أبو جهل اللهم أولانا بالنصر فانصره و استغاث المسلمون فنزلت الملائكة و نزل قوله‏ «إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ» إلى آخره و

قيل إن النبي ص لما نظر إلى كثرة عدد المشركين و قلة عدد المسلمين استقبل القبلة و قال اللهم أنجز لي ما وعدتني اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض فما زال يهتف ربه مادا يديه حتى سقط رداؤه من منكبيه فأنزل الله تعالى‏ «إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ» الآية عن عمر بن الخطاب و السدي و أبي صالح‏ و هو المروي عن أبي جعفر (ع) قال‏ و لما أمسى رسول الله ص و جنه الليل ألقى الله على أصحابه النعاس و كانوا قد نزلوا في موضع كثير الرمل لا يثبت فيه قدم فأنزل الله عليهم المطر رذاذا حتى لبد الأرض و ثبت أقدامهم و كان المطر على قريش مثل العزالي و ألقى الله في قلوبهم الرعب كما قال الله تعالى‏ «سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ».

المعنى‏

ثم ذكر سبحانه ما آتى المسلمين من النصر فقال‏ «إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ» أي تستجيرون بربكم يوم بدر من أعدائكم و تسألونه النصر عليهم لقلتكم و كثرتهم فلم يكن لكم مفزع إلا التضرع إليه و الدعاء له في كشف الضر عنكم و الاستغاثة طلب المعونة و الغوث و قيل معناه تستنصرونه و الفرق بين المستنصر و المستجير أن المستنصر طالب الظفر

807
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 807

و المستجير طالب الخلاص‏ «فَاسْتَجابَ لَكُمْ» و الاستجابة هي العطية على موافقة المسألة فمعناه فأغاثكم و أجاب دعاءكم‏ «أَنِّي مُمِدُّكُمْ» أي مرسل إليكم مددا لكم‏ «بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ» أي متبعين ألفا آخر من الملائكة لأن مع كل واحد منهم ردفا له عن الجبائي و قيل معناه مترادفين متتابعين و كانوا ألفا بعضهم في إثر بعض عن ابن عباس و قتادة و السدي و قيل معناه بألف من الملائكة جاءوا على إثر المسلمين عن أبي حاتم‏ «إِلَّا بُشْرى‏ وَ لِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ» معناه و ما جعله الله الأمداد بالملائكة إلا بشرى لكم بالنصر و لتسكن به قلوبكم و تزول الوسوسة عنها و إلا فملك واحد كاف للتدمير عليهم كما فعل جبريل (ع) بقوم لوط فأهلكهم بريشة واحدة و اختلف في أن الملائكة هل قاتلت يوم بدر أم لا فقيل ما قاتلت و لكن شجعت و كثرت سواد المسلمين و بشرت بالنصر عن الجبائي و قيل إنها قاتلت قال مجاهد إنما أمدهم بألف مقاتل من الملائكة فأما ما قاله سبحانه في آل عمران‏ بِثَلاثَةِ آلافٍ‏ و بِخَمْسَةِ آلافٍ‏ فإنه للبشارة و قد ذكرنا هناك ما قيل فيه و روي عن ابن مسعود أنه سأله أبو جهل من أين كان يأتينا الضرب و لا نرى الشخص قال من قبل الملائكة فقال هم غلبونا لا أنتم و عن ابن عباس أن الملائكة قاتلت يوم بدر و قتلت‏ «وَ مَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» معناه أنه لم يكن النصر من قبل الملائكة و إنما كان من قبل الله لأنهم عباده ينصر بهم من يشاء كما ينصر بغيرهم و يحتمل أن يكون المعنى ما النصر بكثرة العدد و لكن النصر من عند الله ينصر من يشاء قل العدد أم كثر «إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ» لا يمنع عن مراده‏ «حَكِيمٌ» في أفعاله يجريها على ما تقتضيه الحكمة «إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ» قد ذكرنا تفسيره عند قوله‏ ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً و النعاس أول النوم قبل أن يثقل‏ «أَمَنَةً» أي أمانا «مِنْهُ» أي من العدو و قيل من الله فإن الإنسان لا يأخذه النوم في حال الخوف فآمنهم الله تعالى بزوال الرعب عن قلوبهم كما يقال الخوف مسهر و الأمن منيم و الأمنة الدعة التي تنافي المخافة و أيضا فإنه قواهم بالاستراحة على القتال من العدو «وَ يُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً» أي مطرا «لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ» و ذلك لأن المسلمين قد سبقهم الكفار إلى الماء فنزلوا على كثيب رمل و أصبحوا محدثين و مجنبين و أصابهم الظمأ و وسوس إليهم الشيطان فقال إن عدوكم قد سبقكم إلى الماء و أنتم تصلون مع الجنابة و الحدث و تسوخ أقدامكم في الرمل فمطرهم الله حتى اغتسلوا به من الجنابة و تطهروا به من الحدث و تلبدت به أرضهم و أوحلت أرض عدوهم‏ «وَ يُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ» أي وسوسته بما مضى ذكره عن ابن عباس و قيل معناه و يذهب عنكم وسوسته بقوله ليس لكم بهؤلاء طاقة عن ابن زيد و قيل معناه و يذهب عنكم‏

808
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[تمام القصة] ص : 809

الجنابة التي أصابتكم بالاحتلام‏ «وَ لِيَرْبِطَ عَلى‏ قُلُوبِكُمْ» أي و ليشد على قلوبكم و معناه يشجع قلوبكم و يزيدكم قوة قلب و سكون نفس و ثقة بالنصر «وَ يُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ» أي أقدامكم في الحرب بتلبد الرمل عن ابن عباس و مجاهد و جماعة و قيل بالصبر و قوة القلب عن أبي عبيدة و الهاء في به ترجع إلى الماء المنزل و قيل إلى ما تقدم من الربط على القلوب‏ «إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ» يعني الملائكة الذين أمد بهم المسلمين أي أني معكم بالمعونة و النصرة كما يقال فلان مع فلان على فلان و الإيحاء إلقاء المعنى على النفس من وجه يخفى و قد يكون بنصب دليل يخفى إلا على من ألقى إليه من الملائكة «فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا» يعني بشروهم بالنصر و كان الملك يسير أمام الصف في صورة الرجل و يقول أبشروا فإن الله ناصركم عن مقاتل و قيل معناه قاتلوا معهم المشركين عن الحسن و قبل ثبتوهم بأشياء تلقونها في قلوبهم يقوون بها عن الزجاج‏ «سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ» أي الخوف من أوليائي‏ «فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ» يعني الرؤوس لأنها فوق الأعناق قال عطا يريد كل هامة و جمجمة و جائز أن يكون هذا أمرا للمؤمنين و جائز أن يكون أمرا للملائكة و هو الظاهر قال ابن الأنباري إن الملائكة حين أمرت بالقتال لم تعلم أين تقصد بالضرب من الناس فعلمهم الله تعالى‏ «وَ اضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ» يعني الأطراف من اليدين و الرجلين عن ابن عباس و ابن جريج و السدي و قيل يعني أطراف الأصابع اكتفى الله به عن جملة اليد و الرجل عن ابن الأنباري‏ «ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ» معناه ذلك العذاب لهم و الأمر بضرب الأعناق و الأطراف و تمكين المسلمين منهم بسبب أنهم خالفوا الله و رسوله قال ابن عباس معناه حاربوا الله و رسوله ثم أوعد المخالف فقال‏ «وَ مَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ» في الدنيا بالإهلاك و في الآخرة بالتخليد في النار «ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ» أي هذا الذي أعددت لكم من الأمر و القتل في الدنيا فذوقوه عاجلا «وَ أَنَّ لِلْكافِرِينَ» آجلا في المعاد «عَذابَ النَّارِ» قال الحسن ذلكم حكم الله فذوقوه في الدنيا و أن لكم و لسائر الكافرين في الآخرة عذاب النار و معناه كونوا للعذاب كالذائق للطعام و هو طالب إدراك الطعم بتناول السير بالفم لأن معظم العذاب بعده.

 [تمام القصة]

و لما أصبح رسول الله ص يوم بدر عبا أصحابه فكان في عسكره فرسان فرس للزبير بن‏

809
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[تمام القصة] ص : 809

العوام و فرس للمقداد بن الأسود و كان في عسكره سبعون جملا كانوا يتعاقبون عليها و كان رسول الله ص و علي بن أبي طالب (ع) و مرثد بن أبي مرثد الغنوي يتعاقبون على جمل لمرثد بن أبي مرثد و كان في عسكر قريش أربعمائة فرس و قيل مائتا فرس فلما نظرت قريش إلى قلة أصحاب رسول الله ص قال أبو جهل ما هم إلا أكلة رأس لو بعثنا إليهم عبيدنا لأخذوهم أخذا باليد فقال عتبة بن ربيعة أ ترى لهم كمينا أو مددا فبعثوا عمير بن وهب الجمحي و كان فارسا شجاعا فجال بفرسه حتى طاف على عسكر رسول الله ص ثم رجع فقال ليس لهم كمين و لا مدد و لكن نواضح يثرب قد حملت الموت الناقع أ ما ترونهم خرسا لا يتكلمون و يتلمظون تلمظ الأفاعي ما لهم ملجأ إلا سيوفهم و ما أراهم يولون حتى يقتلوا و لا يقتلون حتى يقتلوا بعددهم فارتئوا رأيكم فقال له أبو جهل كذبت و جنبت فأنزل الله تعالى‏ «وَ إِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها» فبعث إليهم رسول الله ص فقال يا معشر قريش إني أكره أن أبدأ بكم فخلوني و العرب و ارجعوا فقال عتبة ما رد هذا قوم قط فأفلحوا ثم ركب جملا له أحمر فنظر إليه رسول الله ص و هو يجول بين العسكرين و ينهى عن القتال فقال ص إن يك عند أحد خير فعند صاحب الجمل الأحمر و إن يطيعوه يرشدوا و خطب عتبة فقال في خطبته يا معشر قريش أطيعوني اليوم و اعصوني الدهر إن محمدا له إل و ذمة و هو ابن عمكم فخلوه و العرب فإن يك صادقا فأنتم أعلى عينا به و إن يك كاذبا كفتكم ذؤبان العرب أمره فغاظ أبا جهل قوله و قال له جنبت و انتفخ سحرك فقال يا مصفر استه مثلي يجبن و ستعلم قريش أينا ألأم و أجبن و أينا المفسد لقومه و لبس درعه و تقدم هو و أخوه شيبة و ابنه الوليد و قال يا محمد أخرج إلينا أكفاءنا من قريش فبرز إليهم ثلاثة نفر من الأنصار و انتسبوا لهم فقالوا ارجعوا إنما نريد الأكفاء من قريش فنظر رسول الله ص إلى عبيدة بن الحرث بن عبد المطلب و كان له يومئذ سبعون سنة فقال قم يا عبيدة و نظر إلى حمزة فقال قم يا عم ثم نظر إلى علي بن أبي طالب (ع) فقال قم يا علي و كان أصغر القوم فاطلبوا بحقكم الذي جعله الله لكم فقد جاءت قريش بخيلائها و فخرها تريد أن تطفئ نور الله و يأبى الله إلا أن يتم نوره ثم قال يا عبيدة عليك بعتبة بن ربيعة و قال لحمزة عليك بشيبة و قال لعلي (ع) عليك بالوليد فمروا حتى انتهوا إلى القوم فقالوا أكفاء كرام فحمل عبيدة على عتبة فضربه على رأسه ضربة فلقت هامته و ضرب عتبة عبيدة على ساقه فأطنها فسقطا جميعا و حمل شيبة على حمزة فتضاربا بالسيفين حتى انثلما

810
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[تمام القصة] ص : 809

و حمل أمير المؤمنين علي (ع) على الوليد فضربه على حبل عاتقه فأخرج السيف من إبطه قال علي لقد أخذ الوليد يمينه بيساره فضرب بها هامتي فظننت أن السماء وقعت على الأرض ثم اعتنق حمزة و شيبة فقال المسلمون يا علي أ ما ترى أن الكلب قد نهز عمك فحمل عليه علي (ع) ثم قال يا عم طأطئ رأسك و كان حمزة أطول من شيبة فأدخل حمزة رأسه في صدره فضربه علي فطرح نصفه ثم جاء إلى عتبة و به رمق فأجهز عليه و في رواية أخرى أنه برز حمزة لعتبة و برز عبيدة لشيبة و برز علي (ع) للوليد فقتل حمزة عتبة و قتل عبيدة شيبة و قتل علي (ع) الوليد فضرب شيبة رجل عبيدة فقطعها فاستنفذه حمزة و علي و حمل عبيدة حمزة و علي حتى أتيا به رسول الله ص فاستعبر فقال يا رسول الله أ لست شهيدا قال بلى أنت أول شهيد من أهل بيتي و قال أبو جهل لقريش لا تعجلوا و لا تبطروا كما بطر أبناء ربيعة عليكم بأهل يثرب فاجزروهم جزرا و عليكم بقريش فخذوهم أخذا حتى ندخلهم مكة فنعرفهم ضلالتهم التي هم عليها و جاء إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جشعم فقال لهم أنا جار لكم ادفعوا إلي رايتكم فدفعوا إليه راية الميسرة و كانت الراية مع بني عبد الدار فنظر إليه رسول الله ص فقال لأصحابه غضوا أبصاركم و عضوا على النواجذ و رفع يده فقال يا رب إن تهلك هذه العصابة لا تعبد ثم أصابه الغشي فسري عنه و هو يسلت العرق عن وجهه فقال هذا جبرائيل قد أتاكم بألف من الملائكة مردفين و روى أبو أمامة بن سهل بن حنيف عن أبيه قال لقد رأينا يوم بدر أن أحدنا يشير بسيفه إلى المشرك فيقع رأسه من جسده قبل أن يصل إليه السيف قال ابن عباس حدثني رجل من بني غفار قال أقبلت أنا و ابن عم لي حتى أصعدنا في جبل يشرف بنا على بدر و نحن مشركان ننتظر الوقعة على من تكون الدبرة فبينا نحن هناك إذ دنت منا سحابة فسمعنا فيها جمجمة الخيل فسمعت قائلا يقول أقدم حيزوم ثم قال فأما ابن عمي فانكشف قناع قلبه فمات مكانه و أما أنا فكدت أهلك ثم تماسكت و

روى عكرمة عن ابن عباس أن النبي ص قال يوم بدر هذا جبرائيل آخذ برأس فرسه عليه أداة الحرب‏ أورده البخاري في الصحيح‏

قال عكرمة قال أبو رافع مولى رسول الله ص كنت غلاما للعباس بن عبد المطلب و كان الإسلام قد دخلنا أهل البيت و أسلمت أم الفضل و أسلمت و كان العباس يهاب قومه و يكره أن يخالفهم و كان يكتم إسلامه و كان ذا مال كثير متفرق في قومه و كان أبو لهب عدو الله قد تخلف عن بدر و بعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة و كذلك صنعوا لم‏

811
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[تمام القصة] ص : 809

يتخلف رجل إلا بعث مكانه رجلا فلما جاء الخبر عن مصاب أصحاب بدر من قريش كتبه الله و أخزاه و وجدنا في أنفسنا قوة و عزا قال و كنت رجلا ضعيفا و كنت أعمل القداح أنحتها في حجرة زمزم فو الله إني لجالس فيها أنحت القداح و عندي أم الفضل جالسة و قد سرنا ما جاءنا من الخبر إذا أقبل الفاسق أبو لهب يجر رجليه حتى جلس على طنب الحجرة فكان ظهره إلى ظهري فبينا هو جالس إذ قال الناس هذا أبو سفيان بن حرث بن عبد المطلب و قد قدم فقال أبو لهب هلم إلي يا ابن أخي فعندك الخبر فجلس إليه و الناس قيام عليه فقال يا ابن أخي أخبرني كيف كان أمر الناس قال لا شي‏ء و لله إن كان إلا أن لقيناهم فمنحناهم أكتافنا يقتلوننا و يأسروننا كيف شاءوا و أيم الله مع ذلك ما لمت الناس لقينا رجالا بيضا على خيل بلق بين السماء و الأرض ما تليق شيئا و لا يقوم لها شي‏ء قال أبو رافع فرفعت طرف الحجرة بيدي ثم قلت تلك الملائكة قال فرفع أبو لهب يده و ضرب وجهي ضربة شديدة فثاورته و احتملني فضرب بي الأرض ثم برك علي يضربني و كنت رجلا ضعيفا فقامت أم الفضل إلى عمود من عمد الحجرة فأخذته فضربته ضربة فلقت رأسه شجة منكرة و قالت تستضعفه إن غاب عنه سيده فقام موليا ذليلا فو الله ما عاش إلا سبع ليال حتى رماه الله بالعدسة فقتله و لقد تركه ابناه ليلتين أو ثلاثا ما يدفنانه حتى أنتن في بيته و كانت قريش تتقي العدسة كما يتقي الناس الطاعون حتى قال لهما رجل من قريش ويحكما أ لا تستحيان أن أباكما قد أنتن في بيته لا تغيبانه فقالا إنا نخشى هذه القرحة قال فانطلقا فإنا معكما فما غسلوه إلا قذفا بالماء عليه من بعيد ما يمسونه ثم احتملوه فدفنوه بأعلى مكة إلى جدار و قذفوا عليه بالحجارة حتى واروه و روى مقسم عن ابن عباس قال كان الذي أسر العباس أبا اليسر كعب بن عمرو أخا بني سلمة و كان أبو اليسر رجلا مجموعا و كان العباس رجلا جسيما فقال رسول الله ص لأبي اليسر كيف أسرت العباس يا أبا اليسر فقال يا رسول الله لقد أعانني عليه رجل ما رأيته قبل ذلك و لا بعده هيأته كذا و كذا فقال ص لقد أعانك عليه ملك كريم.

812
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأنفال(8): الآيات 15 الى 17] ص : 813

 

 [سورة الأنفال (8): الآيات 15 الى 17]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (15) وَ مَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى‏ فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَ مَأْواهُ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ (16) فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَ لكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَ ما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لكِنَّ اللَّهَ رَمى‏ وَ لِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17)

اللغة

اللقاء الاجتماع على وجه المقاربة لأن الاجتماع قد يكون على غير وجه المقاربة فلا يكون لقاء كاجتماع الأعراض في المحل الواحد و الزحف الدنو قليلا قليلا و التزاحف التداني يقال زحف يزحف زحفا و أزحفت للقوم إذا دنوت لقتالهم و ثبت لهم قال الليث الزحف جماعة يزحفون إلى عدو لهم بمرة و جمعه زحوف و التولية جعل الشي‏ء يلي غيره يقال ولاه دبره إذا جعله يليه فهو يتعدى إلى مفعولين و منه ولاه البلد من ولاية الإمارة و تولى هو إذا قبل الولاية و أولاه نعمة لأنه جعلها تليه و التحرف الزوال عن جهة الاستواء إلى جهة الحرف و منه الاحتراف و هو أن يقصد جهة الحرف لطلب الرزق و المحارف المحدود عن جهة الرزق إلى جهة الحرف و منه حروف الهجاء لأنها أطراف الكلمة كحرف الجبل و نحوه و التحيز طلب حيز يتمكن فيه و الحيز المكان الذي فيه الجوهر و الفئة القطعة من الناس و هي جماعة منقطعة عن غيرها و ذكر الفئة في هذا الموضع حسن جدا و هو من فأوت رأسه بالسيف إذا قطعته.

الإعراب‏

زحفا نصب على المصدر و هو في موضع الحال لأن معناه متزاحفين مجتمعين و متحرفا متحيزا منصوبان على الحال أيضا و يجوز أن يكون النصب فيهما على الاستثناء أي إلا أن يكون رجلا متحيزا أو أن يكون منفردا فينحاز ليكون مع المقاتلة و يومئذ يجوز إعرابه و بناؤه فالأعراب لأنه متمكن أضيف على تقدير الإضافة الحقيقية كقولك هذا يوم ذاك و أما البناء فلأنه أضيف إلى مبني إضافة غير حقيقية فأشبه الأسماء المركبة.

المعنى‏

لما أمد الله سبحانه المسلمين بالملائكة و وعدهم النصر و الظفر بالكفار نهاهم عقبيه عن الفرار فقال سبحانه‏ «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» قيل أنه خطاب لأهل بدر و قيل هو عام‏ «إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً» أي متدانين لقتالكم قال الزجاج معناه إذا واقفتموهم للقتال‏ «فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ» يعني فلا تجعلوا ظهوركم مما يليهم أي فلا تنهزموا «وَ مَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ» أي و من يجعل ظهره إليهم يوم القتال و وجهه إلى جهة الانهزام و أراد بقوله‏ «يَوْمَئِذٍ» ذلك الوقت و لم يرد به بياض النهار خاصة دون الليل‏ «إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ» أي إلا تاركا موقفا إلى موقف آخر أصلح للقتال من الأول عن الحسن و قيل معناه إلا منعطفا مستطردا كأنه‏

 

813
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 813

يطلب عورة يمكنه أصابتها فيتحرف عن وجهه و يرى أنه يفر ثم يكر و الحرب كر و فر المسلمين يريدون العود إلى القتال ليستعين بهم‏ «فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ» أي احتمل غضب الله و استحقه و قيل رجع بغضب من الله‏ «وَ مَأْواهُ جَهَنَّمُ» أي مرجعه إلى جهنم‏ «وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ» و أكثر المفسرين على أن هذا الوعيد خاص بيوم بدر خاصة و لم يكن لهم يومئذ أن ينحازوا لأنه لم يكن يومئذ في الأرض فئة للمسلمين فأما بعد ذلك فإن المسلمين بعضهم فئة لبعض و هو قول أبي سعيد الخدري و ابن عباس في رواية الكلبي و الحسن و قتادة و الضحاك و

وردت الرواية عن ابن عمر قال‏ بعثنا رسول الله ص في سرية فلقوا العدو فجاض الناس جيضة و أتينا المدينة فتخبانا بها و قلنا يا رسول الله نحن الفرارون فقال بل أنتم العكارون و أنا فئتكم‏

و قيل إنه عام في جميع الأوقات و إن من فر من الزحف إذا لم يزيدوا على ضعفي المسلمين لحقه الوعيد عن ابن عباس في رواية أخرى و هو قول الجبائي و أبي مسلم ثم نفى سبحانه أن يكون المسلمون قتلوا المشركين يوم بدر فقال‏ «فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَ لكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ» و إنما نفى الفعل عمن هو فعله على الحقيقة و نسبه إلى نفسه و ليس بفعل له من حيث كانت أفعاله تعالى كالسبب لهذا الفعل و المؤدي إليه من إقداره إياهم و معونته لهم و تشجيع قلوبهم و إلقاء الرعب في قلوب أعدائهم و المشركين حتى قتلوا «وَ ما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لكِنَّ اللَّهَ رَمى‏» خطاب للنبي ذكر جماعة من المفسرين كابن عباس و غيره أن جبرائيل (ع) قال للنبي ص يوم بدر خذ قبضة من تراب فارمهم بها فقال رسول الله ص لما التقى الجمعان لعلي أعطني قبضة من حصا الوادي فناوله كفا من حصا عليه تراب فرمى به في وجوه القوم و قال شاهت الوجوه فلم يبق مشرك إلا دخل في عينه و فمه و منخريه منها شي‏ء ثم ردفهم المؤمنون يقتلونهم و يأسرونهم و كانت تلك الرمية سبب هزيمة القوم و قال قتادة و أنس ذكر لنا أن رسول الله ص أخذ يوم بدر ثلاث حصيات فرمى بحصاة في ميمنة القوم و حصاة في ميسرة القوم و حصاة بين أظهرهم و قال شاهت الوجوه فانهزموا فعلى هذا إنما أضاف الرمي إلى نفسه لأنه لا يقدر أحد غيره على مثله فإنه من عجائب المعجزات‏ «وَ لِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً» أي و لينعم عليهم به نعمة حسنة أي فعل ذلك إنعاما على المؤمنين و الضمير في منه راجع إلى النصر أي من ذلك النصر و يجوز أن يكون راجعا إلى الله تعالى‏ «إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ» لدعائكم‏ «عَلِيمٌ» بأفعالكم و ضمائركم و إنما

814
مجمع البیان في تفسير القرآن4

النظم ص : 815

 

يقال للنعمة بلاء كما يقال للمضرة بلاء لأن أصل البلاء ما يظهر به الأمر من الشكر و الصبر فيبتلي سبحانه عباده أي يختبرهم بالنعم ليظهر شكرهم عليها و بالمحن و الشدائد ليظهر عندها الصبر الموجب للأجر و البلاء الحسن هاهنا هو النصر و الغنيمة و الأجر و المثوبة.

النظم‏

و قيل في وجه اتصال هذه الآية بما قبلها وجهان (أحدهما) أنه سبحانه لما أمرهم بالقتال في الآية المتقدمة ذكر عقبيها أن ما كان من الفتح يوم بدر و قهر المشركين إنما كان بنصرته و معونته تذكير للنعمة عن أبي مسلم (و الآخر) أنهم لما أمروا بالقتال ثم كان بعضهم يقول أنا قتلت فلانا و أنا فعلت كذا نزلت الآية على وجه التنبيه لهم لئلا يعجبوا بأعمالهم.

 [سورة الأنفال (8): الآيات 18 الى 21]

ذلِكُمْ وَ أَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ (18) إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَ إِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ إِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَ لَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَ لَوْ كَثُرَتْ وَ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ لا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَ أَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20) وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَ هُمْ لا يَسْمَعُونَ (21)

القراءة

قرأ أهل الحجاز و أبو عمرو و يعقوب برواية روح موهن بالتشديد غير منون، «كَيْدِ» بالجر على الإضافة و قرأ الباقون موهن بالتنوين و التخفيف، كيد بالنصب و قرأ حفص عن عاصم‏ «مُوهِنُ» بالتخفيف، كيد بالنصب و قرأ أهل المدينة و ابن عامر و حفص‏ «وَ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ» بفتح الألف و الباقون بكسر الألف.

الحجة

من قرأ «مُوهِنُ» فإنه من أوهنته أي جعلته واهنا و من شدد فإنه من وهنته كما يقال فرح و فرحته و كلاهما حسن و من قرأ و إن الله بكسر الهمزة فإنه قطعه مما قبله و يقويه‏

 

815
مجمع البیان في تفسير القرآن4

اللغة ص : 816

 

أنهم زعموا أن في حرف عبد الله و الله مع المؤمنين و من فتح الهمزة فوجهه أن يكون على تقدير و لأن الله مع المؤمنين أي لذلك لن تغني عنكم فئتكم.

اللغة

الاستفتاح طلب الفتح و هو النصر الذي تفتح به بلاد العدو و الفتح أيضا الحكم و يقال للقاضي الفتاح و أصل الباب من الفتح الذي هو ضد الأغلاق و الانتهاء ترك الفعل لأجل النهي عنه يقال نهيته فانتهى و أمرته فائتمر.

الإعراب‏

ذلكم موضعه رفع و كذلك أن الله في موضع رفع و التقدير الأمر ذلكم و الأمر أن الله موهن و كذلك الوجه فيما تقدم من قوله‏ «ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَ أَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ» و من قال أن ذلكم مبتدأ و فذوقوه خبره فقد أخطأ لأن ما بعد الفاء لا يكون خبر المبتدأ و لا يجوز زيد فمنطلق و لا زيد فاضربه إلا أن تضمر هذا، تريد هذا زيد فاضربه.

المعنى‏

 «ذلِكُمْ» إشارة إلى بلاء المؤمنين خاطبهم سبحانه بعد أن أخبر عنهم و معناه الأمر ذلكم الإنعام أو ذلكم الذي ذكرت‏ «وَ أَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ» بإلقاء الرعب في قلوبهم و تفريق كلمتهم قال ابن عباس يقول إني قد أوهنت كيد عدوكم حتى قتلت جبابرتهم و أسرت أشرافهم‏ «إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ» قيل أنه خطاب للمشركين فإن أبا جهل قال يوم بدر حين التقى الفئتان اللهم أقطعنا للرحم و أتانا بما لا نعرف فانصر عليه عن الحسن و مجاهد و الزهري و الضحاك و السدي و في حديث أبي حمزة قال أبو جهل اللهم ربنا ديننا القديم و دين محمد الحديث فأي الدينين كان أحب إليك و أرضى عندك فانصر أهله اليوم و على هذا فيكون معناه إن تستنصروا لأهدى الفئتين فقد جاءكم النصر أي نصر محمد و أصحابه و قيل أنه خطاب للمؤمنين عن عطا و أبي علي الجبائي و معناه أن تستنصروا على أعدائكم فقد جاءكم النصر بالنبي ص قال الزجاج و يجوز أن يكون معناه أن تستحكموا و تستقضوا فقد جاءكم القضاء و الحكم من الله‏ «وَ إِنْ تَنْتَهُوا» أي تمتنعوا من الكفر و قتال الرسول و المؤمنين‏ «فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ إِنْ تَعُودُوا نَعُدْ» معناه و أن تعودوا أيها المشركون إلى قتال المسلمين نعد بأن ننصرهم عليكم و نأمرهم بقتالكم‏ «وَ لَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً» أي و لن تدفع عنكم جماعتكم شيئا «وَ لَوْ كَثُرَتْ وَ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ» بالنصر و الحفظ يمكنهم منكم و ينصرهم عليكم عن جماعة من المفسرين‏

 

816
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأنفال(8): الآيات 22 الى 23] ص : 817

 

و قيل معناه و إن تنتهوا أيها المسلمون عما كان منكم في الغنائم و في الأسارى من مخالفة الرسول فهو خير لكم و إن تعودوا إلى ذلك الصنيع نعد إلى الإنكار عليكم و ترك نصرتكم و لن يغني عنكم حينئذ جمعكم شيئا إذ منعناكم النصر عن عطا و الجبائي ثم أمر سبحانه بالطاعة التي هي سبب النصرة فقال‏ «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ» خص المؤمنين بطاعة الله و رسوله و إن كانت واجبة على غيرهم أيضا لأنه لم يعتد بغيرهم لإعراضهم عما وجب عليهم و يجوز أن يكون إنما خصهم إجلالا لقدرهم و يدخل غيرهم فيه على طريق التبع‏ «وَ لا تَوَلَّوْا عَنْهُ» أي و لا تعرضوا عن رسول الله ص‏ «وَ أَنْتُمْ تَسْمَعُونَ» دعاءه لكم و أمره و نهيه إياكم عن ابن عباس و قيل معناه و أنتم تسمعون الحجة الموجبة لطاعة الله و طاعة الرسول عن الحسن‏ «وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَ هُمْ لا يَسْمَعُونَ» في الكلام حذف و معناه و لا تكونوا كهم في قولهم هذا المنكر فحذف المنهي عنه لدلالة الحال عليه و في ذلك غاية البلاغة و معنى قولهم سمعنا و هم لا يسمعون أنهم سمعوه سماع عالم قابل له و ليسوا كذلك و السماع بمعنى القبول كما في قوله سمع الله لمن حمده و هؤلاء الكفار هم المنافقون عن ابن إسحاق و مقاتل و ابن جريج و الجبائي و قيل هم أهل الكتاب من اليهود و قريظة و النظير عن ابن عباس و الحسن و قيل أنهم مشركو العرب لأنهم قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا عن ابن زيد.

 [سورة الأنفال (8): الآيات 22 الى 23]

إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (22) وَ لَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَ لَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَ هُمْ مُعْرِضُونَ (23)

اللغة

الشر إظهار السوء الذي يبلغ من صاحبه و هو نقيض الخير و قيل الشر الضرر القبيح و الخير النفع الحسن و قيل الشر الضرر الشديد و الخير النفع الكثير و هذا ليس بالوجه لأنه قد يكون ضررا ما لا يكون شرا بأن يعقب خيرا و أصل الشر الإظهار من قوله:

إذا قيل أي الناس شر قبيلة

 

 أشارت كليب بالأكف الأصابع‏

 

 

817
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 818

 

و الدواب جمع دابة و هي ما دب على وجه الأرض إلا أنه تختص في العرف بالخيل.

المعنى‏

ثم ذم سبحانه الكفار فقال‏ «إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ» أي شر من دب على وجه الأرض من الحيوان‏ «عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ» يعني هؤلاء المشركين الذين لم ينتفعوا بما يسمعون من الحق و لا يتكلمون به و لا يعتقدونه و لا يقرون به فكأنهم صم بكم لا يتفكرون أيضا فيما يسمعون فكأنهم لم ينتفعوا بعقولهم أيضا و صاروا كالدواب و

قال الباقر (ع) نزلت الآية في بني عبد الدار لم يكن أسلم منهم غير مصعب بن عمير و حليف لهم يقال له سويبط

و قيل نزلت الآية في النضر بن الحارث بن كلدة من بني عبد الدار بن قصي‏ «وَ لَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ» معناه و لو علم الله فيهم قبولا للهدى و إقبالا على طلب الحق لأسمعهم ما يذهبون عن استماعه عن الحسن و قيل معناه لأسمعهم الجواب عن كل ما سألوا عنه عن الزجاج و قيل معناه لأسمعهم قول قصي بن كلاب فإنهم قالوا أحي لنا قصي إن كلاب ليشهد بنبوتك عن الجبائي‏ «وَ لَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَ هُمْ مُعْرِضُونَ» أي لأعرضوا و في هذا دلالة على أن الله تعالى لا يمنع أحدا من المكلفين اللطف و إنما لا يلطف لمن يعلم أنه لا ينتفع به.

 [سورة الأنفال (8): الآيات 24 الى 25]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَ قَلْبِهِ وَ أَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَ اتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (25)

القراءة

قرأ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) و زيد بن ثابت و أبو جعفر الباقر (ع) و الربيع بن أنس و أبو العالية لتصبن‏

و القراءة المشهورة «لا تُصِيبَنَّ».

الحجة

قال ابن جني معنى هاتين القراءتين ضدان كما ترى لأن إحداهما لتصيبن الذين ظلموا خاصة و الأخرى لا تصيبنهم و يمكن أن يكون حذفت الألف من لا تصيبن تخفيفا و اكتفي بالفتحة منها كما قالوا أم و الله ليكونن كذا فحذفوا ألف أما و ذهب أبو عثمان في قوله‏

 

818
مجمع البیان في تفسير القرآن4

الحجة ص : 818

يا أبت بفتح التاء أنه أراد يا أبتا فحذف الألف تخفيفا فإن قلت فهل يجوز أن نحمله على أنه أراد لتصيبن ثم أشبع الفتحة فأنشأ عنها ألفا كقول عنترة:

" ينباع من ذفري غضوب جسرة"

 

 

 

أراد ينبع و مثله قول ابن هرمة:

فأنت من الغوائل حين ترمي‏

 

 و من ذم الرجال بمنتزاح‏

 

أي بمنتزح قيل قوله تعالى فيما يليه‏ «وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ» أشبه بما ذكرناه و أما الوجه في قوله‏ «لا تُصِيبَنَّ» فقد قال الزجاج زعم بعض النحويين إن هذا الكلام جزاء خبر و فيه طرف من النهي فإذا قلت أنزل عن الدابة لا تطرحك أو لا تطرحنك فهذا جواب الأمر بلفظ النهي و المعنى أنزل أن تنزل عنه لا تطرحك فإذا أتيت بالنون الخفيفة أو الثقيلة كان أوكد للكلام و مثله قوله تعالى‏ «يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ» و المعنى إن تدخلوا لا يحطمنكم و يجوز أن يكون نهيا بعد أمر فيكون المعنى اتقوا فتنة ثم نهى بعده فقال‏ «لا تُصِيبَنَّ» الفتنة «الَّذِينَ ظَلَمُوا» أي لا تتعرضن الذين ظلموا لما ينزل بهم معه العذاب و يكون بمعنى يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم أنها أمرت بالدخول ثم نهتهم أن يحطمنهم سليمان فقالت لا يحطمنكم سليمان و جنوده فلفظ النهي لسليمان و معناه للنمل كما تقول لا أرينك هاهنا قال أبو علي أنه حكى القول الأول على جهة احتمال الآية كاحتمالها للقول الثاني فأما القول الثاني فقول أبي الحسن و لا يصح عندنا إلا قول أبي الحسن لأن قوله‏ «لا تُصِيبَنَّ» لا يخلو إما أن يكون جواب شرط و لا يجوز ذلك لأن دخول النون فيه يكون لضرورة الشعر كما أنشده سيبويه:

" و مهما تشأ منه فزارة تمنعن"

 

 

 

و أما أن يكون نهيا بعد أمر فاستغنى عن استعمال حرف العطف معه لاتصال الجملة الثانية بالأولى كما مضى ذكر أمثاله من قوله‏ «ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ‏ و أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ»+ و هذا هو الصحيح دون الأول قال و محال أن يكون جواب الأمر بلفظ النهي كما يستحيل أن يكون جواب الشرط بلفظ النهي لأن جواب الأمر في الحقيقة جواب الشرط و لا يجوز أيضا أن يكون اللفظ لفظ النهي و المعنى معنى الجزاء لأن الجزاء خبر فحكمه أن يكون على ألفاظ الأخبار و ألفاظ الأخبار لا تجي‏ء على لفظ الأمر إلا فيما علمته من قولهم أكرم به و مما يدل على أنه ليس‏

819
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 820

بجزاء دخول النون فيه و النون لا تدخل في الجزاء لما ذكرنا أنه خبر و لا يجوز دخول النون في الخبر إلا في ضرورة الشعر نحو:

ربما أوفيت في علم‏

 

 ترفعن ثوبي شمالات.

 

المعنى‏

ثم أمر سبحانه بطاعة الرسول ص فقال‏ «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ» أي أجيبوا الله و الرسول فيما يأمرانكم به فإجابة الله و الرسول طاعتهما فيما يدعوان إليه‏ «إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ» قيل فيه أقوال (أحدها) إن معناه إذا دعاكم إلى الجهاد و اللام في معنى إلى قال القتيبي هو الشهادة فإن الشهداء أحياء عند الله تعالى و قال الجبائي أي دعاكم إلى إحياء أمركم و إعزاز دينكم بجهاد عدوكم مع نصر الله إياكم و هو معنى قول الفراء (و ثانيها) إن معناه إذا دعاكم إلى الإيمان فإنه حياة القلب و الكفر موته عن السدي و قيل إلى الحق عن مجاهد (و ثالثها) إن معناه إذا دعاكم إلى القرآن و العلم في الدين لأن الجهل موت و العلم حياة و القرآن سبب الحياة بالعلم و فيه النجاة و العصمة عن قتادة (و رابعها) إن معناه إذا دعاكم إلى الجنة لما فيها من الحياة الدائمة و نعيم الأبد عن أبي مسلم‏ «وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَ قَلْبِهِ» أي يحول بين المرء و بين الانتفاع بقلبه بالموت فلا يمكنه استدراك ما فأت فبادروا إلى الطاعات قبل الحيلولة و دعوا التسويف عن الجبائي قال و فيه حث على الطاعة قبل حلول المانع و قيل معناه أنه سبحانه أقرب إليه من قلبه و هو نظير قوله‏ وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ فإن الحائل بين الشي‏ء و غيره أقرب إلى ذلك الشي‏ء من ذلك الغير عن الحسن و قتادة قالا و فيه تحذير شديد و قيل معناه أنه سبحانه يملك تقليب القلوب من حال إلى حال كما

جاء في الدعاء يا مقلب القلوب و الأبصار

فكأنهم خافوا من القتال فأعلمهم سبحانه أنه يبدل خوفهم أمنا بأن يحول بينهم و بين ما يتفكرون فيه من أسباب الخوف و

روى يونس بن عمار عن أبي عبد الله (ع) قال‏ أنه يحول بين المرء و قلبه معناه لا يستيقن القلب أن الحق باطل أبدا و لا يستيقن القلب أن الباطل حق أبدا و روى هشام بن سالم عنه ص قال‏ معناه يحول بينه و بين أن يعلم أن الباطل حق‏ أوردهما العياشي في تفسيره‏

و قال محمد بن إسحاق معناه لا يستطيع القلب أن يكتم الله شيئا و هذا في معنى قول الحسن‏ «وَ أَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ» معناه و اعلموا

820
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 820

أنكم تحشرون أي تجمعون للجزاء على أعمالكم يوم القيامة إن خيرا فخير و إن شرا فشر «وَ اتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً» حذرهم الله تعالى من هذه الفتنة و أمرهم أن يتقوها فكأنه قال اتقوا فتنة لا تقربوها فتصيبنكم لأن قوله‏ «لا تُصِيبَنَّ» نهي مسوق على الأمر و لفظ النهي واقع على الفتنة و هو في المعنى للمأمورين بالاتقاء كقوله‏ «وَ لا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ» أي احذروا أن يدرككم الموت قبل أن تسلموا و اختلف في معنى الفتنة هاهنا فقيل هي العذاب أمر الله المؤمنين أن لا يقربوا المنكر بين أظهرهم فيعمهم الله بالعذاب و الخطاب لأصحاب النبي ص خاصة عن ابن عباس و الجبائي و قيل هي البلية التي يظهر باطن أمر الإنسان فيها عن الحسن قال و نزلت في علي و عمار و طلحة و الزبير و قد قال الزبير لقد قرأنا هذه الآية زمانا و ما أرانا من أهلها فإذا نحن المعنيون بها فخالفنا حتى أصابتنا خاصة و قيل نزلت في أهل بدر خاصة فأصابتهم يوم الجمل فاقتتلوا عن السدي و قيل هي الضلالة و افتراق الكلمة و مخالفة بعضهم بعضا عن ابن زيد و قيل هي الهرج الذي يركب الناس فيه بالظلم و يدخل ضرره على كل أحد ثم اختلف في إصابة هذه الفتنة على قولين (أحدهما) أنها جارية على العموم فتصيب الظالم و غير الظالم أما الظالمون فمعذبون و أما المؤمنون فممتحنون ممحصون عن ابن عباس و روي أنه سئل عنها فقال أبهموا ما أبهم الله (و الثاني) أنها تخص الظالم لأن الغرض منع الناس عن الظلم و تقديره و اتقوا عذابا يصيب الظلمة خاصة. و يقويه قراءة من قرأ لتصيبن الذين ظلموا منكم خاصة باللام فإنه تفسيره على هذا المعنى و قيل إن لا في قوله‏ «لا تُصِيبَنَّ» زائدة و يجوز أن يقال إن الألف في لا لإشباع الفتحة على ما تقدم ذكره قال أبو مسلم تقديره احذروا أن يخص الظالم منكم بعذاب أي لا تظلموا فيأتيكم عذاب لا ينجو منه إلا من زال عنه اسم الظلم‏ «وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ» لمن لم يتق المعاصي و روى الثعلبي بإسناده عن حذيفة أنه قال أتتكم فتن كقطع الليل المظلم يهلك فيها كل شجاع بطل و كل راكب موضع و كل خطيب مصقع و في‏

حديث أبي أيوب الأنصاري أن النبي ص قال لعمار يا عمار أنه سيكون بعدي هنأت حتى يختلف السيف فيما بينهم و حتى يقتل بعضهم بعضا و حتى يبرأ بعضهم من بعض فإذا رأيت ذلك فعليك بهذا الأصلع عن يميني علي بن أبي طالب (ع) فإن سلك‏

821
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأنفال(8): آية 26] ص : 822

 

الناس كلهم واديا و سلك علي واديا فاسلك وادي علي و خل عن الناس يا عمار أن عليا لا يردك عن هدى و لا يدلك على ردى يا عمار طاعة علي طاعتي و طاعتي طاعة الله‏ رواه السيد أبو طالب الهروي بإسناده عن علقمة و الأسود قالا أتينا أبا أيوب الأنصاري الخبر بطوله‏

و

في كتاب شواهد التنزيل للحاكم أبي القاسم الحسكاني و حدثنا عنه أبو الحمد مهدي بن نزار الحسني حدثني محمد بن القاسم بن أحمد قال حدثنا أبو سعيد محمد بن الفضيل بن محمد قال حدثنا محمد بن صالح العرزمي قال حدثنا عبد الرحمن بن أبي حاتم قال حدثنا أبو سعيد الأشج عن أبي خلف الأحمر عن إبراهيم بن طهمان عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن ابن عباس قال‏ لما نزلت هذه الآية «وَ اتَّقُوا فِتْنَةً» قال قال النبي ص من ظلم عليا مقعدي هذا بعد وفاتي فكأنما جحد بنبوتي و نبوة الأنبياء قبلي.

 [سورة الأنفال (8): آية 26]

وَ اذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَ أَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَ رَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26)

اللغة

الذكر ضد السهو و هو إحضار المعنى للنفس و الاستضعاف طلب ضعف الشي‏ء بتهوين حاله و التخطف الأخذ بسرعة انتزاع يقال تخطف و خطف و اختطف.

المعنى‏

ثم ذكر سبحانه حالتهم السالفة في القلة و الضعف و إنعامه عليهم بالنصر و التأييد و التكثير فقال‏ «وَ اذْكُرُوا» معشر المهاجرين‏ «إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ» في العدد و كانوا كذلك قبل الهجرة في ابتداء الإسلام‏ «مُسْتَضْعَفُونَ» يطلب ضعفكم بتوهين أمركم‏ «فِي الْأَرْضِ» أي في مكة عن ابن عباس و الحسن‏ «تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ» أي يستلبكم المشركون من العرب إن خرجتم منها و قيل أنه يعني بالناس كفار قريش عن قتادة و عكرمة و قيل فارس و الروم عن وهب‏ «فَآواكُمْ» أي جعل لكم مأوى ترجعون إليه يعني المدينة دار الهجرة «وَ أَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ» أي قواكم‏ «وَ رَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ» يعني الغنائم أحلها لكم و لم يحلها لأحد قبلكم و قيل هي عامة في جميع ما أعطاهم من الأطعمة اللذيذة «لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» أي لكي تشكروا و المعنى قابلوا حالكم التي أنتم عليها الآن بتلك الحال المتقدمة ليتبين لكم موضع النعمة فتشكروا عليها.

 

822
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأنفال(8): الآيات 27 الى 28] ص : 823

 

 [سورة الأنفال (8): الآيات 27 الى 28]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَ الرَّسُولَ وَ تَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَ اعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَ أَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَ أَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28)

اللغة

الخيانة منع الحق الذي قد ضمن التأدية فيه و هي ضد الأمانة و أصلها أن تنقص من ائتمنك أمانته قال زهير:

بارزة الفقارة لم يخنها

 

 قطاف في الركاب و لا خلاء

 

أي لم ينقص من فراهتها.

الإعراب‏

و تخونوا مجزوم على النهي و تقديره و لا تخونوا عن الأخفش و هو في معنى قول ابن عباس و قيل أنه نصب على الظرف مثل قول الشاعر:

لا تنه عن خلق و تأتي مثله‏

 

 عار عليك إذا فعلت عظيم‏

 

و هو في معنى قول السدي.

النزول‏

قال عطا سمعت جابر بن عبد الله يقول أن أبا سفيان خرج من مكة فأتى جبرائيل (ع) النبي ص فقال أن أبا سفيان في مكان كذا و كذا فاخرجوا إليه و اكتموا قال فكتب إليه رجل من المنافقين أن محمدا يريدكم فخذوا حذركم فأنزل الله هذه الآية و قال السدي كانوا يسمعون الشي‏ء من النبي ص فيفشونه حتى يبلغ المشركين و

قال الكلبي و الزهري‏ نزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر الأنصاري و ذلك أن رسول الله ص حاصر يهود قريظة إحدى و عشرين ليلة فسألوا رسول الله ص الصلح على ما صالح عليه إخوانهم من بني النضير على أن يسيروا إلى إخوانهم إلى أذرعات و أريحا من أرض الشام فأبى أن يعطيهم ذلك رسول الله ص إلا أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ فقالوا أرسل إلينا أبا لبابة و كان مناصحا لهم لأن عياله و ماله و ولده كانت عندهم فبعثه رسول الله ص‏

 

823
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 824

فأتاهم فقالوا ما ترى يا أبا لبابة أ تنزل على حكم سعد بن معاذ فأشار أبو لبابة بيده إلى حلقه أنه الذبح فلا تفعلوا فأتاه جبرائيل (ع) فأخبره بذلك قال أبو لبابة فو الله ما زالت قدماي من مكانهما حتى عرفت أني قد خنت الله و رسوله فنزلت الآية فيه فلما نزلت شد نفسه على سارية من سواري المسجد و قال و الله لا أذوق طعاما و لا شرابا حتى أموت أو يتوب الله علي فمكث سبعة أيام لا يذوق فيها طعاما و لا شرابا حتى خر مغشيا عليه ثم تاب الله عليه فقيل له يا أبا لبابة قد تيب عليك فقال لا و الله لا أحل نفسي حتى يكون رسول الله ص هو الذي يحلني فجاءه فحله بيده ثم قال أبو لبابة أن من تمام توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب و إن انخلع من مالي فقال النبي ص يجزئك الثلث أن تصدق به و هو المروي عن أبي جعفر و أبي عبد الله ع.

المعنى‏

ثم أمرهم الله سبحانه بترك الخيانة فقال‏ «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَ الرَّسُولَ» أي لا تخونوا الله بترك فرائضه و الرسول بترك سننه و شرائعه عن ابن عباس و قيل إن من ترك شيئا من الدين و ضيعه فقد خان الله و رسوله عن الحسن‏ «وَ تَخُونُوا أَماناتِكُمْ» يعني الأعمال التي ائتمن الله عليها العباد يعني الفرائض التي يقول لا تنقصوها عن ابن عباس و قيل أنهم إذا خانوا الله و الرسول فقد خانوا أماناتهم عن السدي‏ «وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ» ما في الخيانة من الذم و العقاب و قيل و أنتم تعلمون أنها أمانة من غير شبهة «وَ اعْلَمُوا» أي و تحققوا و أيقنوا «أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَ أَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ» أي بلية عليكم ابتلاكم الله تعالى بها فإن أبا لبابة حمله على ما فعله ماله الذي كان في أيديهم و أولاده الذين كانوا بين ظهرانيهم‏ «وَ أَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ» لمن أطاعه و خرج إلى الجهاد و لم يخن الله و رسوله و ذلك خير من الأموال و الأولاد بين سبحانه بهذه الآية أنه يختبر خلقه بالأموال و الأولاد ليتبين الراضي بقسمه ممن لا يرضى به و إن كان سبحانه أعلم بهم من أنفسهم و لكن ليظهر الأفعال التي بها يستحق الثواب و العقاب و إلى هذا

أشار أمير المؤمنين علي (ع) في قوله‏ لا يقولن أحدكم اللهم إني أعوذ بك من الفتنة لأنه ليس أحد إلا و هو مشتمل على فتنة و لكن من استعاذ فليستعذ من مضلات الفتن فإن الله تعالى يقول‏ «وَ اعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَ أَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ»

و قد روي هذا المعنى عن ابن مسعود أيضا.

824
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأنفال(8): آية 29] ص : 825

 

 [سورة الأنفال (8): آية 29]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَ يُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)

المعنى‏

 «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» أي يا أيها المؤمنون‏ «إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ» أي إن تتقوا عقاب الله باتقاء معاصيه و أداء فرائضه‏ «يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً» أي هداية و نورا في قلوبكم تفرقون بها بين الحق و الباطل عن ابن جريج و ابن زيد و قيل معناه يجعل لكم مخرجا في الدنيا و الآخرة عن مجاهد و قيل يجعل لكم نجاة عن السدي و قيل يجعل لكم فتحا و نصرا كما قال‏ يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ‏ عن الفراء و قيل يجعل لكم عزا في الدنيا و ثوابا في الآخرة و عقوبة و خذلانا لأعدائكم و ذلا و عقابا كل ذلك يفرق بينكم و بينهم في الدنيا و الآخرة عن الجبائي‏ «وَ يُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ» التي عملتموها «وَ يَغْفِرْ لَكُمْ» ذنوبكم‏ «وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ» على خلقه بما أنعم عليهم من أنواع النعم فإذا ابتدأهم بالفضل العظيم من غير استحقاق كرما منه و جودا فإنه لا يمنعهم ما استحقوه بطاعاتهم له و قيل معناه إذا ابتدأ بنعيم الدنيا من غير استحقاق فعليه إتمام ذلك بنعيم الآخرة باستحقاق و غير استحقاق.

النظم‏

قيل اتصلت الآية بأول السورة من الأمر بالجهاد و تقديره أن تتقوا الله و لم تخالفوه فيما أمركم به من الجهاد يجعل لكم فرقانا و قيل أنه لم أمر بالطاعة و ترك الخيانة بين بعده ما أعده لمن امتثل أمره في الدنيا و الآخرة.

 [سورة الأنفال (8): آية 30]

وَ إِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَ يَمْكُرُونَ وَ يَمْكُرُ اللَّهُ وَ اللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (30)

اللغة

المكر الميل إلى جهة الشر في خفية قال الأزهري المكر من الناس خب و خداع و من الله جزاء و أصل المكر الالتفاف من قولهم جارية ممكورة قال ذو الرمة:

عجزاء ممكورة خمصانة قلق‏

 

 عنها الوشاح و تم الجسم و القصب‏

 

أي ملتفة و الفرق بين المكر و الغدر أن الغدر نقض العهد الذي يجب الوفاء به و المكر قد يكون ابتداء من غير عقد و الإثبات الحبس يقال رماه فأثبته أي حبسه مكانه و أثبته في‏

 

825
مجمع البیان في تفسير القرآن4

النزول ص : 826

الحرب إذا جرحه جراحة مثقلة.

النزول‏

قال المفسرون أنها نزلت في قصة دار الندوة و ذلك أن نفرا من قريش اجتمعوا فيها و هي دار قصي بن كلاب و تأمروا في أمر النبي ص فقال عروة بن هشام نتربص به ريب المنون و قال أبو البختري أخرجوه عنكم تستريحوا من أذاه و قال أبو جهل ما هذا برأي و لكن اقتلوه بأن يجتمع عليه من كل بطن رجل فيضربوه بأسيافهم ضربة رجل واحد فيرضى حينئذ بنو هاشم بالدية فصوب إبليس هذا الرأي و كان قد جاءهم في صورة شيخ كبير من أهل نجد و خطأ الأولين فاتفقوا على هذا الرأي و أعدوا الرجال و السلاح و جاء جبرائيل (ع) فأخبر رسول الله ص فخرج إلى الغار و أمر عليا (ع) فبات على فراشه فلما أصبحوا و فتشوا عن الفراش وجدوا عليا و قد رد الله مكرهم فقالوا أين محمد فقال لا أدري فاقتصوا أثره و أرسلوا في طلبه فلما بلغوا الجبل و مروا بالغار رأوا على بابه نسج العنكبوت فقالوا لو كان هاهنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه فمكث فيه ثلاثا ثم قدم المدينة.

المعنى‏

 «وَ إِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا» أي و أذكره إذ يحتال الكفار في إبطال أمرك و يدبرون في هلاكك و هم مشركو العرب منهم عتبة و شيبة ابنا ربيعة و النضر بن الحارث و أبو جهل بن هشام و أبو البختري بن هشام و زمعة بن الأسود و حكيم بن حزام و أمية بن خلف و غيره‏ «لِيُثْبِتُوكَ» أي ليقيدوك و يثبتوك في الوثاق عن ابن عباس و الحسن و مجاهد و قتادة و قيل ليثبتوك في الحبس و يسجنوك في بيت عن عطا و السدي و قيل معناه ليثخنوك بالجراحة و الضرب عن أبان بن تغلب و الجبائي و أبو حاتم و أنشد:

فقلت ويحك ما ذا في صحيفتكم‏

 

 قالوا الخليفة أمسى مثبتا وجعا

 

 «أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ» من مكة إلى طرف من أطراف الأرض و قيل أو يخرجوك على بعير و يطردونه حتى يذهب في وجهه‏ «وَ يَمْكُرُونَ وَ يَمْكُرُ اللَّهُ» أي و يدبرون في أمرك و يدبر الله في أمرهم عن أبي مسلم و قيل و يحتالون في أمرك من حيث لا تشعر فأحل الله بهم ما أراد من عذابه من حيث لا يشعرون عن الجبائي و قيل يمكرون و الله تعالى يجازيهم على مكرهم كما قال سبحانه‏ وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها «وَ اللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ» لأنه لا يمكر إلا ما هو حق و صواب و هو إنزال المكروه بمن يستحقه و العباد قد يمكرون مكرا هو ظلم و باطل‏

826
مجمع البیان في تفسير القرآن4

النظم ص : 827

 

و مكرهم الذي هو عدل لا يبلغ في المنفعة للمؤمنين مبلغ مكر الله فلذلك قال خير الماكرين و قيل معناه خير المجازين على المكر.

النظم‏

الآية اتصلت بقوله‏ «وَ اذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ» فتقديره و اذكروا تلك الحال و اذكروا ما مكر الكفار بمكة عن أبي مسلم و غيره و قيل إنها يتصل بما قبلها من قوله‏ «إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً» يعني يجعل لكم نجاة كما جعل للنبي ص و أصحابه النجاة من مكر مشركي قريش فاذكروا ذلك.

 [سورة الأنفال (8): الآيات 31 الى 34]

وَ إِذا تُتْلى‏ عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31) وَ إِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (32) وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ وَ ما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) وَ ما لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَ هُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ ما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (34)

الإعراب‏

 «هُوَ الْحَقَّ» هو فصل لا محل له من الإعراب و يسميه الكوفيون عمادا و الحق منصوب بأنه خبر كان و يجوز فيه الرفع و لكن لم يقرأ به و اللام في قوله‏ «لِيُعَذِّبَهُمْ» لام الجحد و أصلها لام الإضافة و إنما دخلت في النفي و لم تدخل في الإيجاب لتعلق الخبر بحرف النفي كما دخلت الباء في خبر ما و لم تدخل في الإيجاب و موضع أن من قوله‏ «أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ» نصب لأن تقديره و ما لهم في أن لا يعذبهم الله أي شي‏ء لهم في ذلك لكن لما حذف الجار عمل معنى الفعل الذي هو الاستقرار و نحوه و إنما جاز الحذف مع إن و لم يجز

 

827
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 828

مع المصدر لطول الكلام بالصلة اللازمة من الفعل و الفاعل و ليس كذلك المصدر.

المعنى‏

ثم أخبر سبحانه عن عناد هؤلاء الكفار و مباهتتهم للحق فقال‏ «وَ إِذا تُتْلى‏ عَلَيْهِمْ آياتُنا» من القرآن‏ «قالُوا قَدْ سَمِعْنا» أي أدركنا بآذاننا فإن السماع إدراك الصوت بحاسة الأذن‏ «لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا» إنما قالوا ذلك مع ظهور عجزهم عن الإتيان بسورة مثله بعد التحدي عداوة و عنادا و قد تحمل الإنسان شدة العداوة على أن يقول ما لا يعلم و قيل إنما قالوا ذلك لأنه لم ينقطع طمعهم من القدرة عليه في المستقبل إذ القرآن كان مركبا من كلمات جارية على ألسنتهم فطمعوا أن يتأتى لهم في ذلك المستقبل بخلاف صيرورة العصا حية في أنه قد انقطع طمعهم عن الإتيان بمثله إذ جنس ذلك لم يكن في مقدورهم‏ «إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ» معناه ما هذه إلا أحاديث الأولين تتلوها علينا و كان قائل هذا النضر بن الحارث بن كلدة و أسر يوم بدر فقتله رسول الله ص و عقبة بن أبي معيط قال يا علي علي بالنضر أبغيه فأخذ علي بشعره و كان رجلا جميلا له شعر فجاء به إلى النبي ص فقال يا محمد أسألك بالرحم بيني و بينك إلا أجريتني كرجل من قريش إن قتلتهم قتلتني و إن فاديتهم فاديتني فقال ص لا رحم بيني و بينك قطع الله الرحم بالإسلام قدمه يا علي فاضرب عنقه فضرب عنقه ثم قال يا علي علي بعقبة فأحضر فقال يا محمد أ لم تقل لا تصبر قريش أي لا يقتلون صبرا فقال ص و أنت من قريش إنما أنت علج من أهل صفورية و الله لأنت في الميلاد أكبر من أبيك الذي تدعى له قال فمن للصبية قال ص النار ثم قال حن قدح ليس منها قال سعيد بن جبير قتل رسول الله ص يوم بدر ثلاثة نفر من قريش صبرا المطعم بن عدي و النضر بن الحارث و عقبة بن أبي معيط «وَ إِذْ قالُوا» أي و اذكر يا محمد إذ قالوا أي قال هؤلاء الكفار «اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا» الذي جاء به محمد «هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ» دون ما نحن عليه‏ «فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ» كما أمطرته على قوم لوط «أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ» أي شديد مؤلم و القائل لذلك النضر بن الحارث أيضا عن سعيد بن جبير و مجاهد و روي في الصحيحين أن هذا من قول أبي جهل و يسأل هاهنا فيقال لم طلبوا العذاب من الله بالحق و إنما يطلب بالحق الخير و الثواب و الأجر و الجواب أنهم كانوا يعتقدون أن ما جاء به النبي ص ليس بحق من الله و إذا لم يكن حقا لم يصبهم شي‏ء و يقال لم قال أمطر من السماء و الأمطار لا يكون إلا من السماء و في هذا جوابان (أحدهما) أنه يجوز أن يكون أمطار الحجارة من مكان عال غير السماء (و الثاني) أنه على طريق البيان بمن ثم قال سبحانه‏

828
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 828

 «وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ» ذكر سبحانه سبب إمهالهم و معناه و ما كان الله يعذب أهل مكة بعذاب الاستئصال و أنت مقيم بين أظهرهم لفضلك و حرمتك يا محمد فإن الله تعالى بعثك رحمة للعالمين فلا يعذبهم إلا بعد أن يفعلوا ما يستحقون به سلب النعمة بإخراجك عنهم قال ابن عباس إن الله سبحانه لم يعذب قومه حتى أخرجوه منها «وَ ما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ» معناه و ما كان الله يعذبهم و فيهم بقية من المؤمنين بعد خروجك من مكة و ذلك أن النبي ص لما خرج من مكة بقيت فيها بقية من المؤمنين لم يهاجروا بعذر و كانوا على عزم الهجرة فرفع الله العذاب عن مشركي مكة لحرمة استغفارهم فلما خرجوا أذن الله في فتح مكة عن ابن عباس و عطية و الضحاك و اختاره الجبائي و قيل معناه و ما يعذبهم الله بعذاب الاستئصال في الدنيا و هم يقولون غفرانك ربنا و إنما يعذبهم على شركهم في الآخرة عن ابن عباس في رواية أخرى و يزيد بن رومان و أبي موسى و محمد بن مبشر و في تفسير علي بن إبراهيم لما

قال النبي ص لقريش‏ إني أقتل جميع ملوك الدنيا و أجري الملك إليكم فأجيبوني إلى ما أدعوكم إليه تملكون بها العرب و تدين لكم العجم‏

فقال أبو جهل‏ «اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ» الآية حسدا لرسول الله ص ثم قال غفرانك اللهم ربنا فأنزل الله‏ «وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ» الآية و لما هموا بقتل رسول الله و أخرجوه من مكة أنزل الله سبحانه‏ «وَ ما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَ هُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ» الآية فعذبهم الله بالسيف يوم بدر و قتلوا و قيل معناه أنهم لو استغفروا لم يعذبوا و في ذلك استدعاء إلى الاستغفار عن ابن عباس في رواية أخرى و السدي و قتادة و ابن زيد قال مجاهد و في أصلابهم من يستغفر و قال عكرمة و هم يسلمون فأراد بالاستغفار الإسلام و

قد روي عن أمير المؤمنين علي (ع) أنه قال‏ كان في الأرض أمانان من عذاب الله و قد رفع أحدهما فدونكم الآخر فتمسكوا به و قرأ هذه الآية

و روي ذلك عن قتادة أيضا «وَ ما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ» معناه و لم لا يعذبهم الله و أي أمر يوجب ترك تعذيبهم‏ «وَ هُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ» أي يمنعون عن المسجد الحرام أولياءه فحذف لأن ما بعده يدل عليه‏ «وَ ما كانُوا أَوْلِياءَهُ» أي و ما كان المشركون أولياء المسجد الحرام و إن سعوا في عمارته‏ «إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ» معناه‏

و ما أولياء المسجد الحرام إلا المتقون عن الحسن‏ و هو المروي عن أبي جعفر (ع)

و قيل معناه و ما كانوا أولياء الله إن أولياء الله إلا المتقون الذين يتركون معاصي الله و يجتنبونها و الأول أحسن و يسأل فيقال كيف يجمع بين الآيتين و في الأولى نفي تعذيبهم و في الثانية إثبات ذلك و جوابه على ثلاثة أوجه (أحدها) أن المراد

829
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأنفال(8): آية 35] ص : 830

 

بالأول عذاب الاصطلام و الاستئصال كما فعل بالأمم الماضية و بالثاني عذاب القتل بالسيف و الأسر و غير ذلك بعد خروج المؤمنين من بينهم (و الآخر) أنه أراد و ما لهم أن لا يعذبهم الله في الآخرة و يريد بالأول عذاب الدنيا عن الجبائي (و الثالث) أن الأول استدعاه للاستغفار يريد أنه لا يعذبهم بعذاب دنيا و لا آخرة إذا استغفروا و تابوا فإذا لم يفعلوا عذبوا ثم بين أن استحقاقهم العذاب بصدهم الناس عن المسجد الحرام.

 [سورة الأنفال (8): آية 35]

وَ ما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكاءً وَ تَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35)

القراءة

يروى في الشواذ عن عاصم و ما كان صلاتهم بالنصب إلا مكاء و تصدية بالرفع و روي أيضا عن أبان بن تغلب.

الحجة

قال ابن جني لسنا ندفع أن جعل اسم كان نكرة و خبرها معرفة قبيح و إنما جاءت منه أبيات شاذة لكن من وراء ذلك ما أذكره و هو أن نكرة الجنس تفيد مفاد معرفته أ لا تراك تقول خرجت فإذا أسد بالباب فتجد معناه فإذا الأسد بالباب و لا فرق بينهما و ذلك أنك في الموضعين لا تريد أسدا واحدا معينا و إنما تريد واحدا من هذا الجنس و إذا كان كذلك جاز هنا الرفع في‏ «مُكاءً وَ تَصْدِيَةً» جوازا قريبا كأنه قال و ما كان صلاتهم إلا هذا الجنس من الفعل و لا يكون مثل قولك كان قائم أخاك لأنه ليس في قائم معنى الجنسية و أيضا فإنه يجوز مع النفي ما لا يجوز مع الإيجاب أ لا تراك تقول ما كان إنسان خيرا منك و لا تجيز كان إنسان خيرا منك.

اللغة

المكاء الصفير و المكاء طائر يكون بالحجاز له صفير بالتشديد يقال مكا يمكو مكاء إذا صفر بفيه قال عنترة:

و حليل غانية تركت مجدلا

 

 تمكو فريصته كشدق الأعلم‏

 

و التصدية التصفيق و هو ضرب اليد على اليد و منه الصدى صوت الجبل و نحوه.

 

830
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 831

 

المعنى‏

ثم وصف سبحانه صلاتهم فقال‏ «وَ ما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ» يعني هؤلاء المشركين الصادين عن المسجد الحرام‏ «إِلَّا مُكاءً وَ تَصْدِيَةً» قال ابن عباس كانت قريش يطوفون بالبيت عراة يصفرون و يصفقون و صلاتهم معناه دعاؤهم أي يقيمون المكاء و التصدية مكان الدعاء و التسبيح و قيل أراد ليس لهم صلاة و لا عبادة و إنما يحصل منهم ما هو ضرب من اللهو و اللعب فالمسلمون الذين يطيعون الله و يعبدونه عند هذا البيت أحق بمنع المشركين منه و روي أن النبي ص كان إذا صلى في المسجد الحرام قام رجلان من بني عبد الدار عن يمينه فيصفران و رجلان عن يساره يصفقان بأيديهما فيخلطان عليه صلاته فقتلهم الله جميعا ببدر و لهم يقول و لبقية بني عبد الدار «فَذُوقُوا الْعَذابَ» يعني عذاب السيف يوم بدر عن الحسن و الضحاك و قيل عذاب الآخرة على هذا يكون في الكلام حذف أي يقال لهم إذا عذبوا ذوقوا العذاب‏ «بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ» بتوحيد الله.

 [سورة الأنفال (8): الآيات 36 الى 37]

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى‏ جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَ يَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى‏ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (37)

اللغة

الحسرة الغم بما انكشف من فوت استدراك الخطيئة و أصله الكشف من قولهم حسر عن ذراعه يحسر حسرا و التمييز إخراج الشي‏ء عما خالفه مما ليس منه و إلحاقه بما هو منه يقال ميزه يميزه و مازه و يميزه فامتاز و انماز الأزهري الركم جمعك شيئا فوق شي‏ء حتى تجعله ركاما مركوما مرتكما و هو المتراكب بعضه فوق بعض.

النزول‏

قيل نزلت في أبي سفيان بن حرب استأجر يوم أحد ألفين من الأحابيش يقاتل بهم النبي ص سوى من استجاشهم من العرب و فيهم يقول كعب بن مالك:

فجئنا إلى موج من البحر وسطهم‏

 

 أحابيش منهم حاسر و مقنع‏

 

 

831
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 832

ثلاثة آلاف و نحن بقية

 

 ثلاث مئين إن كثرنا فأربع‏

 

عن سعيد بن جبير و مجاهد و قيل نزلت في المطعمين يوم بدر و كانوا اثني عشر رجلا أبو جهل بن هشام و عتبة و شيبة ابنا ربيعة بن عبد شمس و نبيه و منبه ابنا الحجاج و أبو البختري بن هشام و النضر بن الحارث و حكيم بن حزام و أبي بن خلف و زمعة بن الأسود و الحرث بن عامر بن نوفل و العباس بن عبد المطلب و كلهم من قريش و كان كل يوم يطعم واحد منهم عشر جزر و كانت النوبة يوم الهزيمة للعباس عن الكلبي و الضحاك و مقاتل و قيل لما أصيبت قريش يوم بدر و رجع فلهم إلى مكة مشى صفوان بن أمية و عكرمة بن أبي جهل في رجال من قريش أصيب آباؤهم و إخوانهم ببدر فكلموا أبا سفيان بن حرب و من كانت له في تلك العير من قريش تجارة فقالوا يا معشر قريش إن محمدا قد وتركم و قتل خياركم فأعينونا بهذا المال الذي أفلت على حربه لعلنا أن ندرك منه ثارا بمن أصيب منا ففعلوا فأنزل الله فيهم هذه الآية رواه محمد بن إسحاق عن رجاله.

المعنى‏

ثم ذكر سبحانه إنفاق المشركين أموالهم في معصية الله تعالى فقال‏ «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ» في قتال الرسول و المؤمنين‏ «لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ» أي ليمنعوا بذلك الناس عن دين الله الذي أتى به محمد ص و إنما قال ليصدوا و إن كانوا لم يقصدوا ذلك من حيث لم يعلموا أن ذلك دين الله لأن فعلهم ذلك كان صدا عن دين الله و إن لم يقصدوا ذلك‏ «فَسَيُنْفِقُونَها» معناه فسيقع منهم الإنفاق لها «ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً» معناه ثم ينكشف لهم و يظهر من ذلك الإنفاق ما يكون حسرة عليهم من حيث أنهم لا ينتفعون بذلك الإنفاق لا في الدنيا و لا في الآخرة بل يكون وبالا عليهم‏ «ثُمَّ يُغْلَبُونَ» في الحرب أي يغلبهم المؤمنون و في هذا دلالة على صحة نبوة النبي ص لأنه أخبر بالشي‏ء قبل كونه فوجد على ما أخبر به‏ «وَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى‏ جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ» أي يجمعون إلى النار بعد تحسرهم في الدنيا و وقوع الظفر بهم و قتلهم و إنما أعاد قوله‏ «وَ الَّذِينَ كَفَرُوا» لأن جماعة ممن أنفقوا أسلموا بعد فخص منهم من مات على كفره بوعيد الآخرة «لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ» معناه ليميز الله نفقة الكافرين من نفقة المؤمنين‏ «وَ يَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى‏ بَعْضٍ» أي و يجعل نفقة المشركين بعضها فوق بعض‏ «فَيَرْكُمَهُ» أي فيجمعه‏ «جَمِيعاً»

832
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأنفال(8): الآيات 38 الى 40] ص : 833

 

في الآخرة «فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ» فيعاقبهم به كما قال‏ «يَوْمَ يُحْمى‏ عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ» الآية و قيل معناه ليميز الله الكافر من المؤمن في الدنيا بالغلبة و النصر و الأسماء الحسنة و الأحكام المخصوصة و في الآخرة بالثواب و الجنة عن أبي مسلم و قيل بأن يجعل الكافر في جهنم و المؤمن في الجنة و يجعل الخبيث بعضه على بعض في جهنم يضيقها عليهم فيركمه جميعا أي يجمع الخبيث حتى يصير كالسحاب المركوم بأن يكون بعضهم فوق بعض في النار مجتمعين فيها فيجعله في جهنم أي فيدخله جهنم‏ «أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ» قد خسروا أنفسهم لأنهم اشتروا بإنفاق الأموال في المعصية عذاب الله في الآخرة.

 [سورة الأنفال (8): الآيات 38 الى 40]

قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَ إِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38) وَ قاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) وَ إِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى‏ وَ نِعْمَ النَّصِيرُ (40)

اللغة

الانتهاء الإقلاع عن الشي‏ء لأجل النهي يقال نهاه عن كذا فانتهى و السنة و الطريقة و السيرة نظائر قال:

فلا تجزعن من سنة أنت سرتها

 

 فأول راضي سنة من يسيرها

 

و السلوف التقدم و التولي عن الدين الذهاب عنه إلى خلافه و التولي فيه هو الذهاب إلى جهة الحق و متابعته.

الإعراب‏

 «وَ إِنْ تَوَلَّوْا» شرط و قوله‏ «فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ» أمر في موضع الجواب و إنما جاز ذلك لأن فيه معنى الخبر فكأنه قال فواجب عليكم العلم بأن الله مولاكم.

المعنى‏

ثم أمر سبحانه نبيه ص بدعائهم إلى التوبة و الإيمان فقال‏ «قُلْ» يا محمد «لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا» أي يتوبوا عما هم عليه من الشرك و يمتنعوا منه‏ «يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ

 

833
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 833

سَلَفَ» أي ما قد مضى من ذنوبهم و قيل معناه إن ينتهوا عن المحاربة إلى الموادعة يغفر لهم ما قد سلف من المعاقبة «وَ إِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ» معناه و إن يعودوا إلى القتال و أصروا على الكفر فقد مضت سنة الله في آبائكم و عادته في نصر المؤمنين و كبت أعداء الدين و الأسر و الاسترقاق و إنما ذكر ذلك تحذيرا لهم و أضاف السنة إليهم لأنها كانت تجري عليهم و قال سنة من قد أرسلنا فأضاف السنة إلى الرسل لأنها كانت تجري على أيديهم ثم قال‏ وَ لا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلًا فأضاف إلى نفسه لأنه هو المجري لها «وَ قاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ» هذا خطاب للنبي ص و المؤمنين بأن يقاتلوا الكفار حتى لا تكون فتنة أي شرك عن ابن عباس و الحسن و معناه حتى لا يكون كافر بغير عهد لأن الكافر إذا كان بغير عهد كان عزيزا في قومه يدعو الناس إلى دينه فتكون الفتنة في الدين و قيل حتى لا يفتن مؤمن عن دينه‏ «وَ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ» أي و يجتمع أهل الحق و أهل الباطل على الدين الحق فيما يعتقدونه و يعملون به أي و يكون الدين حينئذ كله لله باجتماع الناس عليه و

روى زرارة و غيره عن أبي عبد الله (ع) أنه قال‏ لم يجي‏ء تأويل هذه الآية و لو قام قائمنا بعد سيرى من يدركه ما يكون من تأويل هذه الآية و ليبلغن دين محمد ص ما بلغ الليل حتى لا يكون مشرك على ظهر الأرض كما قال الله تعالى‏ «يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً»

 «فَإِنِ انْتَهَوْا» عن الكفر «فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» معناه فإن رجعوا عن الكفر و انتهوا عنه فإن الله يجازيهم بأعمالهم مجازاة البصير بها باطنها و ظاهرها لا يخفى عليه منها شي‏ء «وَ إِنْ تَوَلَّوْا» عن دين الله و طاعته‏ «فَاعْلَمُوا» أيها المؤمنون‏ «أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ» أي ناصركم و سيدكم و حافظكم‏ «نِعْمَ الْمَوْلى‏» أي نعم السيد و الحافظ «وَ نِعْمَ النَّصِيرُ» هو ينصر المؤمنين و يعينهم على طاعته و لا يخذل من هو ناصره.

834
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأنفال(8): آية 41] ص : 835

 

 [سورة الأنفال (8): آية 41]

وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى‏ وَ الْيَتامى‏ وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَ ما أَنْزَلْنا عَلى‏ عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَ اللَّهُ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ (41)

اللغة

الغنيمة ما أخذ من أموال أهل الحرب من الكفار بقتال و هي هبة من الله تعالى للمسلمين و الفي‏ء ما أخذ بغير قتال و هو قول عطاء و مذهب الشافعي و سفيان‏ و هو المروي عن أئمتنا (ع)

و قال قوم الغنيمة و الفي‏ء واحد و ادعوا أن هذه الآية ناسخة للتي في الحشر من قوله‏ «ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى‏ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى‏ فَلِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى‏ وَ الْيَتامى‏ وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ» الآية و اليتيم الذي مات أبوه و هو صغير قبل البلوغ و كل حيوان يتيم من قبل أمه إلا الإنسان فإنه من قبل أبيه و المسكين الذي تحل له الصدقة و هو المحتاج الذي من شأنه أن تسكنه الحاجة عما ينهض به الغني و ابن السبيل المسافر المنقطع به في سفره و إنما قيل ابن السبيل لأن السبيل أخرجه إلى هذا المستقر كما أخرجه أبوه إلى مستقره.

الإعراب‏

 «فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ» قيل في فتح أن قولان (أحدهما) أن تقديره فعلى أن لله خمسه ثم حذف حرف الجر (و الآخر) أنه عطف على أن الأولى و حذف خبر الأولى لدلالة الكلام عليه و تقديره اعلموا أنما غنمتم من شي‏ء يجب قسمته فاعلموا أن لله خمسه.

المعنى‏

ثم بين سبحانه حكم الغنيمة فقال سبحانه مخاطبا للمسلمين‏ «وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ» أي مما قل أو كثر «فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى‏» اختلف العلماء في كيفية قسمة الخمس و من يستحقه على أقوال (أحدها) ما ذهب إليه أصحابنا و هو

أن الخمس يقسم على ستة أسهم فسهم لله و سهم للرسول و هذان السهمان مع سهم ذي القربى للإمام القائم مقام الرسول ص و سهم ليتامى آل محمد و سهم لمساكينهم و سهم لأبناء سبيلهم لا يشركهم في ذلك غيرهم لأن الله سبحانه حرم عليهم الصدقات لكونها أوساخ الناس و عوضهم من ذلك الخمس و روى ذلك الطبري عن علي بن الحسين زين العابدين (ع) و محمد بن علي الباقر (ع)

و روي أيضا عن أبي العالية و الربيع أنه يقسم على ستة أسهم إلا أنهما قالا سهم الله للكعبة و الباقي لمن ذكره الله و هذا القسم مما يقتضيه ظاهر الكتاب و يقويه و الثاني أن الخمس يقسم على خمسة أسهم و إن سهم الله و الرسول واحد و يصرف هذا السهم إلى الكراع و السلاح و هو المروي عن ابن عباس و إبراهيم و قتادة و عطاء و الثالث أن يقسم على أربعة أسهم سهم ذي القربى لقرابة النبي ص و الأسهم الثلاثة لمن ذكروا بعد ذلك من سائر المسلمين و هو مذهب الشافعي و الرابع أنه يقسم على ثلاثة

 

835
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 835

أسهم لأن سهم الرسول قد سقط بوفاته عندهم لأن الأنبياء لا يورثون فيما يزعمون و سهم ذي القربى قد سقط لأن أبا بكر و عمر لم يعطيا سهم ذي القربى و لم ينكر ذلك أحد من الصحابة عليهما و هو مذهب أبي حنيفة و أهل العراق و منهم من قال لو أعطي فقراء ذوي القربى سهما و الآخرون ثلاثة أسهم جاز و لو جعل ذوو القربى أسوة الفقراء و لا يفرد لهم سهم جاز و اختلف في ذوي القربى فقيل هم بنو هاشم خاصة من ولد عبد المطلب لأن هاشما لم يعقب إلا منه عن ابن عباس و مجاهد و إليه ذهب أصحابنا و

قيل هم بنو هاشم بن عبد مناف و بنو المطلب بن عبد مناف و هو مذهب الشافعي‏ و روي ذلك عن جبير بن مطعم عن النبي ص‏

و قال أصحابنا أن الخمس واجب في كل فائدة تحصل للإنسان من المكاسب و أرباح التجارات و في الكنوز و المعادن و الغوص و غير ذلك مما هو مذكور في الكتب و يمكن أن يستدل على ذلك بهذه الآية فإن في عرف اللغة يطلق على جميع ذلك اسم الغنم و الغنيمة و نعود إلى تأويل الآية قوله‏ «فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ» قالوا افتتح الكلام بالله على جهة التيمن و التبرك لأن الأشياء كلها له عز و جل و المراد به مصروف إلى الجهات المقربة إلى الله تعالى و «لِلرَّسُولِ» قالوا كان للنبي ص سهم من خمسة أسهم يصرفه في مئونته و ما فضل من ذلك يصرفه إلى الكراع و السلاح و المصالح‏ «وَ لِذِي الْقُرْبى‏» قال بعضهم سقط هذان السهمان بموت الرسول ص على ما ذكرناه قال الشافعي يصرف سهم الرسول إلى الخيل و الكراع في سبيل الله و سهم ذي القربى لبني هاشم و بني المطلب يستحقونه بالاسم و النسب فيشترك فيه الغني و الفقير و روي عن الحسن و قتادة أن سهم الله و سهم الرسول و سهم ذي القربى للإمام القائم من بعده ينفقه على نفسه و عياله و مصالح المسلمين و هو مثل مذهبنا «وَ الْيَتامى‏ وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ» قالوا إن هذه الأسهم الثلاثة لجميع الناس و أنه يقسم على كل فريق منهم بقدر حاجتهم و قد بينا أن عندنا يختص باليتامى من بني هاشم و مساكينهم و أبناء سبيلهم‏ «إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ» قال الزجاج يجوز أن يكون إن كنتم آمنتم معلقة بقوله‏ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى‏ وَ نِعْمَ النَّصِيرُ إن كنتم آمنتم بالله‏ «وَ ما أَنْزَلْنا عَلى‏ عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ» أي فأيقنوا أن الله ناصركم إن كنتم قد شاهدتم من نصره ما قد شاهدتم و يجوز أن يكون‏ «إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ» معناه‏ «اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ» يأمران فيه بما يريدان‏ «إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ» فاقبلوا ما أمرتم به من الغنيمة و اعملوا به‏ «وَ ما أَنْزَلْنا عَلى‏ عَبْدِنا» أي و آمنتم بما أنزلنا على محمد من القرآن و قيل من النصر و قيل من الملائكة أي علمتم أن ظفركم على عدوكم كان بنا «يَوْمَ الْفُرْقانِ» يعني يوم بدر لأن الله تعالى‏

836
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 835

فرق فيه بين المسلمين و المشركين بإعزاز هؤلاء و قمع أولئك‏ «يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ» جمع المسلمين و هم ثلاثمائة و بضعة عشر رجلا و جمع الكافرين و هم بين تسعمائة إلى ألف من صناديد قريش و رؤسائهم فهزموهم و قتلوا منهم زيادة على السبعين و أسروا منهم مثل ذلك و كان يوم بدر يوم الجمعة لسبع عشرة ليلة مضت من شهر رمضان من سنة اثنتين من الهجرة على رأس ثمانية عشر شهرا و

قيل كان التاسع عشر من شهر رمضان‏ و قد روي ذلك عن أبي عبد الله (ع)

 «وَ اللَّهُ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ» قد مر تفسيره في سورة البقرة و

في تفسير الثعلبي قال المنهال بن عمرو سألت علي بن الحسين (ع) و عبد الله بن محمد بن علي عن الخمس فقالا هو لنا فقلت لعلي أن الله يقول‏ «وَ الْيَتامى‏ وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ» فقال يتامانا و مساكيننا

و

روى العياشي بإسناده عن أبي عبد الله (ع) قال‏ كتب نجدة الحروري إلى ابن عباس يسأله عن موضع الخمس فكتب إليه ابن عباس أما الخمس فإنا نزعم أنه لنا و يزعم قومنا أنه ليس لنا فصبرنا

و

عن أبي عبد الله (ع) قال‏ إن الله تعالى لما حرم علينا الصدقة أنزل لنا الخمس فالصدقة علينا حرام و الخمس لنا حلال و الكرامة لنا حلال.

837
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأنفال(8): الآيات 42 الى 44] ص : 838

 

 [سورة الأنفال (8): الآيات 42 الى 44]

إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَ هُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى‏ وَ الرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَ لَوْ تَواعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَ لكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَ يَحْيى‏ مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَ إِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42) إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَ لَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَ لَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَ لكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (43) وَ إِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَ يُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44)

القراءة

قرأ ابن كثير و أبو عمرو بالعدوة بكسر العين و الباقون بضمها و قرأ نافع و أبو بكر عن عاصم و البزي عن ابن كثير حيي بإظهار اليائين و الباقون‏ «حَيَّ» بالإدغام.

الحجة

الكسر و الضم في العدوة لغتان قال الراعي في الكسر:

و عينان حم مآقيهما

 

 كما نظر العدوة الجؤذر

 

و قال أوس بن حجر في الضم:

و فارس لا يحل الحي عدوته‏

 

 و لو سراعا و ما هموا بإقبال‏

 

و من أدغم حي فللزوم الحركة في الثاني فجرى مجرى ردوا إذا أخبروا عن جماعة قالوا حييوا فخففوا و قد جاء مدغما نحو حيوا قال:

عيوا بأمرهم كما

 

 عيت ببيضتها الحمامة

 

و من اختار الإظهار فلامتناع الإدغام في مضارعه و هو يحيا فأجري الماضي على شاكلة المستقبل.

اللغة

العدوة شفير الوادي و للوادي عدوتان و هما جانباه و الجمع عدى و عدي و الدنيا تأنيث الأدنى من دنوت و القصوى تأنيث الأقصى و ما كان من النعوت على فعلى من بنات الواو فإن العرب تحوله إلى الياء نحو الدنيا و العليا استثقلوا الواو مع ضم الأول إلا أن أهل الحجاز قالوا القصوى فأظهروا الواو و هو نادر و غيرهم يقولون القصيا و الأقصى الأبعد و القصا البعد و قصوت منه أقصو أي تباعدت و الركب جمع راكب مثل شارب و شرب و صاحب و صحب و العلو قرار تحته قرار و السفل قرار فوقه قرار و النوم ضرب من السهو يزول معه معظم الحس و المنام موضع النوم كالمضطجع موضع الاضطجاع و القلة نقصان عن عدة كما أن الكثرة زيادة على عدة و الفشل ضعف من فزع و الفعل منه فشل يفشل و التنازع الاختلاف الذي يحاول كل واحد نزع صاحبه مما هو عليه و السلامة النجاة من الآفة و أسلم الإنسان دخل في السلامة و أسلمه إسلاما دفعه عن السلامة و سلمه إذا نجاه و استلم الحجر إذا طلب‏

 

838
مجمع البیان في تفسير القرآن4

الإعراب ص : 839

لمسه على السلامة و الصدر الموضع الأجل يكون فيه القلب و صدر المجلس أجله لأنه موضع الرئيس و الالتقاء اجتماع الاتصال لأن الاجتماع قد يكون في معنى من غير اتصال كاجتماع القوم في الدار و إن لم يكن هناك اتصال و يقال للعسكرين إذا تصافا التقيا لوقوع العين على العين.

الإعراب‏

إنما نصب أسفل لأن تقديره بمكان أسفل أو في مكان أسفل فهو في موضع جر فهو غير منصرف و يجوز أن يكون منصوبا على الظرف على تقدير و الركب مكانا أسفل منكم قال الزجاج و يجوز أن ترفع أسفل على أنك تريد و الركب أسفل منكم أي أشد تسفلا.

المعنى‏

ثم بين سبحانه نصرته للمسلمين ببدر فقال سبحانه‏ «إِذْ أَنْتُمْ» أيها المسلمون‏ «بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا» قال ابن عباس يريد و الله قدير على نصركم و أنتم أذلة إذ أنتم نزول بشفير الوادي الأقرب إلى المدينة «وَ هُمْ» يعني المشركين أصحاب النفير «بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى‏» أي نزول بالشفير الأقصى من المدينة «وَ الرَّكْبُ» يعني أبا سفيان و أصحابه و هم العير «أَسْفَلَ مِنْكُمْ» أي في موضع أسفل منكم إلى ساحل البحر قال الكلبي كانوا على شط البحر بثلاثة أميال فذكر الله سبحانه مقاربة الفئتين من غير ميعاد و ما كان المسلمون فيه من قلة الماء و الرمل الذي تسوخ فيه الأرجل مع قلة العدد و العدة و ما كان المشركون فيه من كثرة العدد و العدة و نزولهم على الماء و العير أسفل منهم و فيها أموالهم ثم مع هذا كله نصر المسلمين عليهم ليعلم أن النصر من عنده سبحانه‏ «وَ لَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ» معناه لو تواعدتم أيها المسلمون للاجتماع في الموضع الذي اجتمعتم فيه ثم بلغكم كثرة عددهم مع قلة عددكم لتأخرتم فنقضتم الميعاد عن ابن إسحاق و قيل معناه لاختلفتم بما يعرض من العوائق و القواطع فذكر الميعاد لتأكيد أمره في الاتفاق و لو لا لطف الله مع ذلك لوقع على الاختلاف كما قال الشاعر:

جرت الرياح على محل ديارهم‏

 

 فكأنهم كانوا على ميعاد

 

 «وَ لكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا» معناه و لكن قدر الله تعالى التقاءكم و جمع بينكم و بينهم على غير ميعاد منكم ليقضي الله أمرا كان كائنا لا محالة و هو إعزاز الدين و أهله و إذلال‏

839
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 839

الشرك و أهله و معنى ليقضي ليظهر قضاءه إذ الله تعالى قد قضى ما هو كائن و معنى قوله‏ «مَفْعُولًا» أي واجبا كونه لا محالة يقال للأمر الكائن لا محالة هذا أمر مفروغ منه و قيل معناه ليتم أمرا كان في علمه مفعولا لا محالة من إظهار الإسلام و إعلاء كلمته على عبدة الأصنام‏ «لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَ يَحْيى‏ مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ» أي فعل ذلك ليموت من مات منهم بعد قيام الحجة عليه بما رأى من المعجزات الباهرة للنبي ص و في حروبه و غيرها و يعيش من عاش منهم بعد قيام الحجة عليه و قيل إن البينة هي ما وعد الله من النصر للمؤمنين على الكافرين صار ذلك حجة على الناس في صدق النبي ص فيما أتاهم به من عند الله و قيل معناه ليهلك من ضل بعد قيام الحجة عليه فتكون حياة الكافر و بقاؤه هلاكا له و يحيا من اهتدى بعد قيام الحجة عليه فيكون بقاء من بقي على الإيمان حياة له و قوله‏ «عَنْ بَيِّنَةٍ» يعني بعد بيان‏ «وَ إِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ» لأقوالهم‏ «عَلِيمٌ» بما في ضمائرهم فهو يجازيهم بحسب ما يكون منهم‏ «إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ» العامل في إذ ما تقدم و تقديره أتاكم النصر إذ كنتم بشفير الوادي إذ يريكهم الله و قيل العامل فيه محذوف و تقديره و اذكر يا محمد إذ يريكهم الله أي يريك الله يا محمد هؤلاء المشركين الذين قاتلوكم يوم بدر «فِي مَنامِكَ قَلِيلًا وَ لَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَ لَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ» معناه يريكهم الله في نومك قليلا لتخبر المؤمنين بذلك فيجترئ المؤمنون على قتالهم و هذا قول أكثر المفسرين و هذا جائز لأن الرؤيا في النوم هي تصور يتوهم معه الرؤية في اليقظة و لا يكون إدراكا و لا علما بل كثير مما يراه الإنسان في نومه يكون تعبيره بالعكس مما رآه كما يكون تعبير البكاء ضحكا قال الرماني و يجوز أن يري الله الشي‏ء في المنام على خلاف ما هو به لأن الرؤيا في المنام تخيل للمعنى من غير قطع و إن جامعه قطع من الإنسان على المعنى و إنما ذلك على مثل ما يخيل السراب ماء من غير قطع على أنه ماء و لا يجوز أن يلهمه اعتقادا للشي‏ء على خلاف ما هو به لأن ذلك يكون جهلا لا يجوز أن يفعله الله سبحانه و الرؤيا على أربعة أقسام رؤيا من الله عز و جل و لها تأويل و رؤيا من وساوس الشيطان و رؤيا من غلبة الأخلاط و رؤيا من الأفكار و كلها أضغاث أحلام إلا الرؤيا من قبل الله تعالى التي هي إلهام في المنام و رؤيا النبي ص هذه كانت بشارة له و للمؤمنين بالغلبة و قال الحسن معنى قوله‏ «فِي مَنامِكَ» في موضع نومك أي في عينك التي تنام بها و ليس من الرؤيا في النوم و هو قول البلخي و هذا بعيد لأنه خلاف الظاهر «وَ لَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً» على ما كانوا عليه لجبنتم عن قتالهم و ضعفتم و لتنازعتم في أمر القتال فكان يقول بعضكم نقاتلهم و بعض آخر يخالفونهم و يقول بعضكم لبعض تقدم أنت في القتال و يتأخر هو

840
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 839

بنفسه‏ «وَ لكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ» أي سلم المؤمنين عن الفشل و التنازع و اختلاف الكلمة و اضطراب الأمر بلطفه لهم و إحسانه إليهم حتى بلغوا ما أرادوه من عدوهم‏ «إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ» أي بما في قلوبكم يعلم أنكم لو علمتم كثرة عدوكم لرغبتم عن القتال‏ «وَ إِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا» الكاف و الميم كناية عن المؤمنين و الهاء و الميم كناية عن المشركين أضاف الرؤيا في النوم إلى النبي ص لأن رؤيا الأنبياء لا تكون إلا حقا و أضاف رؤية العين إليهم قلل الله المشركين في أعين المؤمنين ليشتد بذلك طمعهم فيهم و جرأتهم عليهم و قلل المؤمنين في أعين المشركين لئلا يتأهبوا لقتالهم و لا يكترثوا بهم فيظفر بهم المؤمنون و ذلك قوله تعالى‏ «وَ يُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ» و قد وردت الرواية عن ابن مسعود قال قلت لرجل بجنبي أ تراهم سبعين رجلا فقال هم قريب من مائة و قد روي أن أبا جهل كان يقول خذوهم بالأيدي أخذا و لا تقاتلوهم و متى قيل كيف قللهم الله في أعينهم مع رؤيتهم لهم قالوا فالقول إنه يجوز أن يكون ذلك لبعض الأسباب المانعة من الرؤية إما بغبار أو ما شاكله فتخيلوهم بأعينهم قليلا من غير رؤية عن الصحة لجميعهم و ذلك لطف من ألطاف الله تعالى‏ «لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا» إنما كرره سبحانه مع ذكره في الآية الأولى لتكرر الفائدة لأن المعنى في الآية الأولى جمعكم من غير ميعاد ليقضي الله أمرا مفعولا من الالتقاء على تلك الصفة و المعنى هنا أنه قلل كل فريق في عين صاحبه ليقضي أمرا كان مفعولا من إعزاز الدين بجهادكم و قيل أراد بالأول الوعد بالنصرة يوم بدر و بالثاني الاستمرار على النصر و قيل إنما كرر للتأكيد و إنما قال كان مفعولا و المعنى يكون مفعولا في المستقبل لتحقيق كونه لا محالة حتى صار بمنزلة ما قد كان لعلمه سبحانه أنه كائن لا محالة «وَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ» مر معناه.

841
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأنفال(8): الآيات 45 الى 47] ص : 842

 

 [سورة الأنفال (8): الآيات 45 الى 47]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَ اذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ لا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَ تَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَ اصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46) وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَ رِئاءَ النَّاسِ وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47)

اللغة

الريح الدولة قال عبيد بن الأبرص:

كما حميناك يوم النعف من شطب‏

 

 و الفضل للقوم من ريح و من عدد

 

أي من عزة و دولة و البطر الخروج عن موجب النعمة من شكرها و أصل البطر الشق و منه البيطار لأنه يشق اللحم بالمبضع و الرياء إظهار الجميل ليرى مع إبطان القبيح.

الإعراب‏

 «فَتَفْشَلُوا» منصوب بإضمار أن على معنى جواب النهي و لذلك عطف عليه‏ «وَ تَذْهَبَ» «وَ يَصُدُّونَ» في محل النصب بالعطف على قوله‏ «بَطَراً وَ رِئاءَ النَّاسِ» و هما مصدران وضعا موضع الحال و المعنى يبطرون و يراءون و يصدون و لا يجوز أن يكون عطفا على خرجوا إذ لا يعطف مستقبل على ماض.

المعنى‏

ثم أمر سبحانه بالقتال و الثبات في الحرب فقال‏ «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً» أي جماعة كافرة «فَاثْبُتُوا» لقتالهم و لا تنهزموا و إنما أطلق الفئة لأن من المعلوم أن المؤمن لا يقاتل الفئة الكافرة أو الباغية فحذف للإيجاز «وَ اذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً» مستعين به على قتالهم و متوقعين النصر من قبله عليهم و قيل معناه و اذكروا ما وعدكم الله تعالى من النصر على الأعداء في الدنيا و الثواب في الآخرة ليدعوكم ذلك إلى الثبات في القتال‏ «لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» أي لكي تفلحوا و تنجحوا بالنصر و الظفر بهم و بالثواب عند الله يوم القيامة «وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ» فيما يأمرانكم به‏ «وَ لا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا» أي لا تتنازعوا في لقاء العدو و لا تختلفوا فيما بينكم فتجبنوا عن عدوكم و تضعفوا عن قتالهم‏ «وَ تَذْهَبَ رِيحُكُمْ» معناه تذهب صولتكم و قوتكم و قال مجاهد نصرتكم و قال الأخفش دولتكم و الريح هاهنا كناية عن نفاذ الأمر و جريانه على المراد تقول العرب هبت ريح فلان إذا جرى أمره على ما يريد و ركدت ريحه إذا أدبر أمره و قيل إن المعنى ريح النصر التي يبعثها الله مع من ينصره على من يخذله عن قتادة و ابن زيد و منه‏

قوله ص‏ نصرت بالصبا و أهلكت عاد بالدبور

 «وَ اصْبِرُوا» على قتال الأعداء «إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ» بالنصر و المعونة «وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً» أي بطرين يعني قريشا خرجوا من مكة ليحموا غيرهم فخرجوا معهم بالقيان و المعازف يشربون الخمور و تعزف عليهم القيان‏ «وَ رِئاءَ النَّاسِ» قيل أنهم كانوا يدينون بعبادة الأصنام فلما أظهروا التقرب بذلك إلى الناس كانوا مرائين و قيل إنهم وردوا بدرا ليروا

 

842
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[القصة] ص : 843

 

الناس أنهم لا يبالون بالمسلمين و في قلوبهم من الرعب ما فيه فسمى الله سبحانه ذلك رئاء «وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ» أي و يمنعون غيرهم عن دين الله‏ «وَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ» أي عالم بأعمالهم فيجازيهم عليها و لا يخفى عليه منها شي‏ء.

 [القصة]

قال ابن عباس لما رأى أبو سفيان أنه أحرز غيره أرسل إلى قريش أن ارجعوا فقال أبو جهل و الله لا نرجع حتى نرد بدرا و كان بدر موسما من مواسم العرب يجتمع لهم بها سوق كل عام فنقيم بها ثلاثا و ننحر الجزر و نطعم الطعام و نسقي الخمور و تعزف علينا القيان و تسمع بنا العرب فلا يزالون يهابوننا أبدا فوافوها فسقوا كؤوس المنايا و ناحت عليهم النوائح.

 [سورة الأنفال (8): آية 48]

وَ إِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَ قالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَ إِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى‏ عَقِبَيْهِ وَ قالَ إِنِّي بَرِي‏ءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى‏ ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ وَ اللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (48)

المعنى‏

 «وَ إِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ» دخلت الواو عطفا على حال المشركين في خروجهم بطرا و رئاء الناس يعني و في وقت تزيين الشيطان أعمالهم و قيل أنه يعني و اذكروا إذ زين الشيطان للمشركين أعمالهم أي حسنها في نفوسهم و ذلك أن إبليس حسن لقريش مسيرهم إلى بدر لقتال النبي ص‏ «وَ قالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ» أي لا يغلبكم أحد من الناس لكثرة عددكم و قوتكم‏ «وَ إِنِّي» مع ذلك‏ «جارٌ لَكُمْ» أي ناصر لكم و دافع عنكم السوء و قيل معناه و إني عاقد لكم عقد الأمان من عدوكم من قوله‏ وَ هُوَ يُجِيرُ وَ لا يُجارُ عَلَيْهِ‏ «فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ» أي التقت الفرقتان‏ «نَكَصَ عَلى‏ عَقِبَيْهِ» أي رجع القهقرى منهزما وراءه‏ «وَ قالَ إِنِّي بَرِي‏ءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى‏ ما لا تَرَوْنَ» أي رجعت عما كنت ضمنت لكم من الأمان و السلامة لأني أرى من الملائكة الذين جاءوا لنصر المسلمين ما لا ترون و كان إبليس يعرف الملائكة و هم كانوا يعرفونه‏ «إِنِّي أَخافُ اللَّهَ» أي أخاف عذاب الله على أيدي من أراهم‏ «وَ اللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ» لا يطاق عقابه و قيل معناه إني أخاف أن يكون قد حل الوقت الذي أنظرت إليه فإن الملائكة لا ينزلون إلا لقيام الساعة أو للعقاب و قال قتادة كذب عدو الله‏

 

843
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 843

ما به من مخافة و لكنه علم أنه لا قوة له و لا منعة و ذلك عادة عدو الله لمن أطاعه حتى إذا التقى الحق و الباطل أسلمهم و تبرأ منهم و على هذا فيكون قوله‏ «أَرى‏ ما لا تَرَوْنَ» معناه أعلم ما لا تعلمون و أخاف الله أن يهلكني فيمن يهلك و اختلف في ظهور الشيطان يوم بدر كيف كان فقيل إن قريشا لما أجمعت المسير ذكرت الذي بينها و بين بني بكر بن عبد مناف بن كنانة من الحرب و كاد ذلك أن يثنيهم فجاء إبليس في جند من الشيطان فتبدي لهم في صورة سراقة بن مالك بن جشعم الكناني ثم المدلجي و كان من أشراف كنانة فقال لهم لا غالب لكم اليوم من الناس و إني جار لكم أي مجير لكم من كنانة كما قال الشاعر:

يا ظالمي أنى تروم ظلامتي‏

 

 و الله من كل الحوادث جاري‏

 

فلما رأى إبليس الملائكة نزلوا من السماء و علم أنه لا طاقة لهم بهم نكص على عقبيه عن ابن عباس و السدي و الكلبي و غيرهم و

قيل أنه لما التقوا كان إبليس في صف المشركين آخذا بيد الحارث بن هشام فنكص على عقبيه فقال له الحارث يا سراقة أين اتخذ لنا على هذه الحالة فقال له إني أرى ما لا ترون فقال و الله ما نرى إلا جعاسيس يثرب فدفع في صدر الحرث و انطلق و انهزم الناس فلما قدموا مكة قالوا هزم الناس سراقة فبلغ ذلك سراقة فقال و الله ما شعرت بمسيركم حتى بلغني هزيمتكم فقالوا إنك أتيتنا يوم كذا فحلف لهم فلما أسلموا علموا أن ذلك كان الشيطان عن الكلبي‏ و روي ذلك عن أبي جعفر و أبي عبد الله ع‏

و قيل إن إبليس لا يجوز أن يقدر على خلع صورته و لبس صورة سراقة و لكن الله تعالى جعل إبليس في صورة سراقة علما للنبي ص و إنما فعل ذلك لأنه علم أنه لو لم يدع المشركين إنسان إلى قتال المسلمين فإنهم لا يخرجون عن ديارهم حتى يقاتلهم المسلمون لخوفهم من بني كنانة فصوره بصورة سراقة حتى تم المراد في إعزاز الدين عن الجبائي و جماعة و قيل إن إبليس لم يتصور في صورة الإنسان و إنما قال ذلك لهم على وجه الوسوسة عن الحسن و اختاره البلخي و الأول هو المشهور في التفاسير و رأيت في كلام الشيخ المفيد أبي عبد الله محمد بن محمد بن النعمان (رض) أنه يجوز أن يقدر الله تعالى الجن و من جرى مجراهم على أن يجتمعوا و يعتمدوا ببعض جواهرهم على بعض حتى يتمكن الناس من رؤيتهم و يتشبهوا بغيرهم من أنواع الحيوان لأن أجسامهم من الرقة على ما يمكن ذلك فيها و قد وجدنا الإنسان يجمع الهواء و يفرقه و يغير صور الأجسام الرخوة ضروبا من التغيير و أعيانها لم تزد و لم تنقص و قد استفاض الخبر بأن إبليس تراءى لأهل دار الندوة في‏

844
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأنفال(8): الآيات 49 الى 51] ص : 845

 

صورة شيخ من أهل نجد و حضر يوم بدر في صورة سراقة و أن جبرائيل (ع) ظهر لأصحاب رسول الله ص في صورة دحية الكلبي قال غير محال أيضا أن يغير الله تعالى صورهم و يكشفها في بعض الأحوال فيراهم الناس لضرب من الامتحان.

 [سورة الأنفال (8): الآيات 49 الى 51]

إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49) وَ لَوْ تَرى‏ إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَ أَدْبارَهُمْ وَ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (50) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (51)

القراءة

قرأ ابن عامر وحده إذ تتوفى بتاءين و الباقون‏ «يَتَوَفَّى» بالياء و التاء.

الحجة

من قرأ بالتاء فلإسناد الفعل إلى الملائكة و من قرأ بالياء فلأن التأنيث غير حقيقي.

الإعراب‏

العامل في إذ يجوز أن يكون الابتداء و التقدير ذلك إذ يقول و يجوز أن يكون التقدير اذكر إذ يقول و جواب لو محذوف و تقديره لرأيت منظرا عظيما أو أمرا عجيبا و حذف الجواب هنا أوجز و أبلغ فإن ذكره يخص وجها واحدا و مع الحذف الاحتمال لوجوه كثيرة و موضع‏ «بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ» يحتمل وجهين من الإعراب (أحدهما) الرفع بكونه خبر ذلك (و الثاني) النصب بأن يكون متصلا بمحذوف و تقديره ذلك جزاؤكم بما قدمت أيديكم و أن الله ليس بظلام للعبيد يحتمل أن يكون محله نصبا بتقدير و بأن الله أو جرا على الخلاف فيه و يحتمل أن يكون محله رفعا بتقدير و ذلك أن الله كما تقول ذلك.

المعنى‏

 «إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ» هذا يتعلق بما قبله معناه و إذ زين لهم الشيطان أعمالهم إذ يقول المنافقون فلذلك حذف الواو و هم الذين يبطنون الكفر و يظهرون الإيمان‏ «وَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ» و هم الشاكون في الإسلام مع إظهارهم كلمة الإيمان و قيل إنهم‏

 

845
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 845

فتية من قريش أسلموا بمكة و احتبسهم آباؤهم فخرجوا مع قريش يوم بدر و هم قيس بن الوليد بن المغيرة و علي بن أمية بن خلف و العاص بن منبه بن الحجاج و الحارث بن زمعة و أبو قيس بن الفاكهة بن المغيرة لما رأوا قلة المسلمين قالوا «غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ» أي غر المسلمين دينهم حتى خرجوا مع قلتهم لأجل دينهم إلى قتال المشركين مع كثرتهم و لم يحسنوا النظر لأنفسهم حين اغتروا بقول رسولهم فبين الله تعالى أنهم هم المغرورون بقوله‏ «وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» معناه و من يسلم لأمر الله و يثق به و يرض بفعله و إن قل عددهم فإن الله تعالى ينصرهم على أعدائهم و هو عزيز لا يغلب فكذلك لا يغلب من توكل عليه و هو حكيم يضع الأمور مواضعها على ما تقتضيه الحكمة «وَ لَوْ تَرى‏» يا محمد «إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ» أي يقبضون أرواحهم عند الموت‏ «يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَ أَدْبارَهُمْ» يريد أستاههم و لكن الله سبحانه كنى عنها عن سعيد بن جبير و مجاهد و قيل وجوههم ما أقبل منهم و أدبارهم ما أدبر منهم و المراد يضربون أجسادهم من قدامهم و من خلفهم و المراد به قتلي بدر عن ابن عباس و مجاهد و سعيد بن جبير و أكثر المفسرين و قيل معناه سيضربهم الملائكة عند الموت قال الرماني و هذا غلط لأنه الظاهر و

روى الحسن قال‏ إن رجلا قال يا رسول الله إني رأيت بظهر أبي جهل مثل الشراك فقال ص ذاك ضرب الملائكة

و

روى مجاهد أن رجلا قال للنبي ص إني حملت على رجل من المشركين فذهبت لأضربه فندر فقال سبقك إليه الملائكة

 «وَ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ» أي و يقول الملائكة للكفار استخفافا بهم و ذوقوا عذاب الحريق بعد هذا في الآخرة و قيل إنه كان مع الملائكة يوم بدر مقامع من حديد كلما ضربوا المشركين بها التهبت النار في جراحاتهم فذلك قوله‏ «وَ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ» «ذلِكَ» أي ذلك العقاب لكم‏ «بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ» أي بما قدمتم و فعلتم و إنما أضاف إلى اليد على التغليب لأن أكثر الأفعال تكون باليد و المراد بذلك بجنايتكم الكفر و المعاصي‏ «وَ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ» أي لا يظلم عباده في عقوبتهم من حيث إنه إنما عاقبهم بجناياتهم على قدر استحقاقهم و في هذا دلالة واضحة على بطلان مذهب المجبرة في أنه يخلق الكفر ثم يعذب عليه و أنه يجوز أن يعذب من غير ذنب و أن يأخذ بذنب غيره لأن هذا غاية الظلم و قد بالغ عز اسمه في نفي الظلم عن نفسه بقوله‏ «لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ».

846
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأنفال(8): الآيات 52 الى 54] ص : 847

 

 [سورة الأنفال (8): الآيات 52 الى 54]

كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (52) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى‏ قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَ أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَ أَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَ كُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ (54)

اللغة

الدأب العادة و الطريقة يقال ما زال ذلك دأبه و دينه و ديدنه قال الزجاج الدأب إدامة الفعل دأب يدأب في كذا إذا دام عليه و هو دائب بفعل كذا أي يجزي فيه على عادة قال خداش بن زهير:

و ما زال ذاك الدأب حتى تخاذلت‏

 

 هوازن و أرفضت سليم و عامر

 

و التغيير تصيير الشي‏ء على خلاف ما كان بما لو شوهد على خلاف ما كان.

الإعراب‏

كدأب: الكاف في موضع رفع بأنه خبر المبتدأ كما يقول زيد خافك فموضع خلفك رفع بأنه خبر المبتدأ و لفظه نصب بالاستقرار و تقديره دأبهم كدأب آل فرعون لم يك أصله يكون فحذفت الواو للجزم ثم حذفت النون استخفافا لكثرة الاستعمال مع أنه لا يقع بالحذف إخلال بالمعنى لأن كان و يكون أم الأفعال أ لا ترى أن كل فعل فيه معناها لأنك إذا قلت ضرب فمعناه كان ضرب و يضرب معناه يكون يضرب فلما قويت بأنها أم الأفعال و كثر استعمالها احتمل الحذف و لم يحتمل نظائرها ذلك مثل لم يصن.

المعنى‏

ثم بين سبحانه أن حال هؤلاء الكفار كحال الذين من قبلهم فقال‏ «كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ» أي عادة هؤلاء المشركين في الكفر بمحمد ص كعادة آل فرعون‏ «وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» في الكفر بالرسل و ما أنزل إليهم و قيل معناه عقوبة الله تعالى لهؤلاء الكفار كعقوبة لآل فرعون و آل فرعون أتباعه و الفرق بين آل فرعون و أصحاب فرعون أن لأصحاب مأخوذ من‏

 

847
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأنفال(8): الآيات 55 الى 56] ص : 848

 

الصحبة و كثر في الموافقة في المذهب كما يقال أصحاب الشافعي و أبي حنيفة يراد به الموافقة في المذهب و لا يقال آل الشافعي إلا لمن يرجعون إليه بالنسب الأوكد الأقرب‏ «كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ» كما كفر هؤلاء «فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ» أي فعاقبهم الله‏ «بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ» أي قادر لا يقدر أحد على منعه عن إحلال العقاب بما يريد «شَدِيدُ الْعِقابِ» لمن استحقه و لا يوصف الله سبحانه بأنه شديد لأن الشديد هو المتداخل على صعوبة تفككه و إنما وصف العقاب بالشدة دون نفسه و شبه حال المشركين في تكذيبهم بآيات الله بحال آل فرعون لأن تعجيل العقاب لهؤلاء بالإهلاك كتعجيله لأولئك بعذاب الاستئصال‏ «ذلِكَ» أي ذلك الأخذ و العقاب لهم‏ «بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى‏ قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ» معناه بأن الله لم يكن يزيل نعمة أنعمها على قوم حتى يتغيروا هم عن أحوالهم المرضية إلى أحوال لا يجوز لهم أن يتغيروا إليها و هو أن يستبدلوا المعصية بالطاعة و كفران النعمة بشكرها و قد يسلب الله تعالى النعمة على وجه المصلحة لا على وجه العقاب امتحانا لمصلحة يعلمها في ذلك و لكن لا يسلبها بفعل النقمة على وجه العقاب إلا عمن استحق العقاب قال السدي النعمة التي أنعمها الله عليهم محمد ص أنعم الله به على قريش فكفروا به و كذبوه فنقله إلى الأنصار «وَ أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ» لأقوالهم‏ «عَلِيمٌ» بضمائرهم و بكل شي‏ء «كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» أي كعادتهم و طريقتهم في التكذيب بآيات الله عادة هؤلاء «كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ» أي بحجة و بيناته‏ «فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ» أي استأصلناهم‏ «وَ أَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَ كُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ» أي كل هؤلاء المهلكين كانوا ظالمين لأنفسهم فلم نعاقب فريقا منهم إلا عن استحقاق و إنما كرر قوله‏ «كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ» لأنه أراد بالأول بيان حالهم في استحقاق عذاب الآخرة و في الثاني بيان استحقاقهم لعذاب الدنيا و قيل إن في الأول تشبيه حالهم بحال أولئك في التكذيب و في الثاني تشبيه حالهم بحالهم في الاستئصال و قيل إن الأول في أخذهم بالعذاب و الثاني في كيفية العذاب و قيل إن آل فرعون كانوا على أحوال مختلفة في المعصية فبين مشاركة هؤلاء إياهم في تلك الأحوال.

 [سورة الأنفال (8): الآيات 55 الى 56]

إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَ هُمْ لا يَتَّقُونَ (56)

الإعراب‏

 «فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ» الفاء لعطف جملة على جملة و هو في الصلة كأنه قال‏

 

848
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 849

 

كفروا مصممين على الكفر فهم لا يؤمنون و إنما حسن عطف جملة اسمية على جملة فعلية لما فيها من التأدية إلى معنى الحال و ذلك أن صبابتهم في الكفر و إصرارهم عليه أدى إلى الحال في أنهم لا يؤمنون و قوله‏ «ثُمَّ يَنْقُضُونَ» عطف المستقبل على الماضي لأن الغرض أن من شأنهم نقض العهد بعد مرة في مستقبل أوقاتهم بعد العهد إليهم.

المعنى‏

ثم ذم سبحانه الكفار فقال‏ «إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ» أي شر من يدب على وجه الأرض في معلوم الله أو في حكم الله‏ «الَّذِينَ كَفَرُوا» و استمروا على كفرهم‏ «فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ» هذا إخبار عن قوم من المشركين أنهم لا يؤمنون أبدا فخرج المخبر على وفق الخبر فماتوا مشركين ثم وصفهم الله فقال‏ «الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ» أي من جملتهم و الضمير العائد إلى الذين محذوف أي الذين عاهدت منهم أي من المشركين و قيل إن من مزيدة و إنما دخلت لأن معنى عاهدتم أخذت العهد منهم و كما قال‏ رَدِفَ لَكُمْ‏ لأن معنى ردف قرب فعومل بما يعامل به و قيل معناه عاهدت معهم قال مجاهد أراد به يهود بني قريظة فإنهم كانوا قد عاهدوا النبي ص على أن لا يضروا به و لا يمالئوا عليه عدوا ثم مالئوا عليه الأحزاب يوم الخندق و أعانوهم عليه بالسلاح و عاهدوا مرة بعد أخرى فنقضوا فانتقم الله منهم‏ «ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ» أي كلما عاهدتهم نقضوا العهد و لم يفوا به‏ «وَ هُمْ لا يَتَّقُونَ» نقض العهد و قيل لا يتقون عذاب الله تعالى.

 [سورة الأنفال (8): الآيات 57 الى 58]

فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57) وَ إِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى‏ سَواءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ (58)

اللغة

الثقف الظفر و الإدراك بسرعة و التشريد التفريق على اضطراب و الخيانة نقض العهد فيما اوتمن عليه و النبذ إلقاء الخبر إلى من لا يعلمه و السواء العدل قال الراجز:

فاضرب وجوه الغرر الأعداء

 

 حتى يجيبوك إلى السواء

 

أي إلى العدل و منه قيل للوسط سواء لاعتداله إلى الجهات قال حسان:

يا ويح أنصار النبي و رهطه‏

 

 بعد المغيب في سواء الملحد

 

 

849
مجمع البیان في تفسير القرآن4

الإعراب ص : 850

أي في وسطه و قيل عنى بقوله‏ «عَلى‏ سَواءٍ» على استواء في العلم به.

الإعراب‏

إما تثقفن و إما تخافن دخلت نون التأكيد لما دخلت ما و لو لم يدخل ما لما حسن دخول النون لأن دخول ما كدخول القسم في أنه علامة تؤذن أنه من مواضع تأكيد المطلوب من التصديق لأن النون يدخل لتأكيد المطلوب فيما يدل على الطلب و هي في ستة مواضع النهي و الأمر و الاستفهام و العرض و القسم و الجزاء مع ما.

المعنى‏

ثم حكم سبحانه في هؤلاء الناقضين للعهود فقال لنبيه ص‏ «فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ» معناه فأما تصادفنهم في الحرب أي إن ظفرت بهم و أدركتهم‏ «فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ» أي فنكل بهم تنكيلا و أثر فيهم تأثيرا يشرد بهم من بعدهم و يطردهم و يمنعهم من نقض العهد بأن ينظروا فيهم فيعتبروا بهم فلا ينقضوا العهد و يتفرقوا في البلاد مخافة أن تعاملهم بمثل ما عاملتهم به و أن يحل بهم ما حل بهم و هذا معنى قول ابن عباس و الحسن و قتادة و سعيد بن جبير و السدي و قال الزجاج معناه افعل بهم فعلا من القتل تفرق بهم من خلفهم و قيل إن معنى شرد بهم سمع بهم بلغة قريش قال الشاعر:

أطوف في النواطح كل يوم‏

 

 مخافة أن يشرد بي حكيم‏

 

 «لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ» أي لكي يتذكروا و يتعظوا و ينزجروا عن مثل ذلك‏ «وَ إِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً» معناه و إن خفت يا محمد من قوم بينك و بينهم عهد خيانة فيه لأن الخيانة إنما تكون بعد تقدم العهد و لم يظهر منهم نقض العهد بعد «فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى‏ سَواءٍ» أي فألق إليهم ما بينك و بينهم من العهد و أعلمهم بأنك قد نقضت ما شرطت لهم لتكون أنت و هم في العلم بالنقض على استواء و لا تبدأهم بالقتال من قبل أن تعلمهم بنقض العهد حتى لا ينسبوك إلى الغدر بهم فهذا معنى قوله‏ «عَلى‏ سَواءٍ» و قيل معنى قوله‏ «عَلى‏ سَواءٍ» على عدل أي إن كان بينك و بينهم عهد بغير مال فأعلمهم بأنك قد نقضت عهدهم و إن كان العهد على مال فرد المال عليهم ثم انقض العهد «إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ» أي بنقضهم معناه فلا تخنهم بأن تبدأهم بالقتال من غير إعلامهم بنقض العهد قال الواقدي هذه الآية نزلت في بني قينقاع و بهذه الآية سار النبي ص إليهم.

850
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأنفال(8): الآيات 59 الى 61] ص : 851

 

 [سورة الأنفال (8): الآيات 59 الى 61]

وَ لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ (59) وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَ مِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَ عَدُوَّكُمْ وَ آخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْ‏ءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَ أَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (60) وَ إِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَ تَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61)

القراءة

قرأ ابن عامر و أبو جعفر و حمزة و حفص‏ «وَ لا يَحْسَبَنَّ» بالياء و الباقون بالتاء و قرأ ابن عامر إنهم لا يعجزون بالفتح و الباقون‏ «إِنَّهُمْ» بالكسر و قرأ رويس عن يعقوب ترهبون بالتشديد و الباقون‏ «تُرْهِبُونَ» بالتخفيف و قرأ أبو بكر للسلم بكسر السين و الباقون بفتح السين.

الحجة

من قرأ لا تحسبن بالتاء فالذين كفروا المفعول الأول و سبقوا جملة في موضع نصب بكونها المفعول الثاني و من قرأ «يَحْسَبَنَّ» بالياء فلا يخلو من أن يكون جعل الذين كفروا الفاعل و هذا لا يجوز لأن يحسبن لا بد له من مفعولين و لكنه محمول على أحد ثلاثة أشياء إما أن يكون فاعله النبي ص و تقديره و لا يحسبن النبي ص الذين كفروا سبقوا و إما أن يكون تقديره على حذف إن كأنه قال لا يحسبن الذين كفروا إن سبقوا فحذفت إن كما حذفتها في تأويل سيبويه في قوله‏ أَ فَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ كأنه قال أ فغير عبادته تأمروني قال الزجاج و يقوي هذا الوجه أنها في حرف ابن مسعود أنهم سبقوا و إذا كانت كذلك فهو بمنزلة قولك حسبت أن أقوم و حسبت أقوم على حذف أن و إذا وجهته على هذا فقد سد أن سبقوا مسد المفعولين كما أن قوله‏ الم أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا كذلك و إما أن يكون أضمر المفعول الأول و تقديره و لا يحسبن الذين كفروا أنفسهم سبقوا أو إياهم سبقوا و من قرأ «إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ» بكسر الألف يكون على الاستئناف كما أن قوله‏ ساءَ ما يَحْكُمُونَ‏ منقطع من الجملة التي قبلها التي هي‏ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا

 

851
مجمع البیان في تفسير القرآن4

اللغة ص : 852

 

و من قرأ أنهم لا يعجزون جعله متعلقا بالجملة الأولى و تقديره لا تحسبنهم سبقوا لأنهم لا يفوتون و من قرأ ترهبون فلأن رهب يرهب رهبة يعدى تارة بالهمزة و تارة بالتشديد فيقال رهبته و أرهبته و أما السلم و السلم فلغتان و معناهما الصلح.

اللغة

السبق تقدم الشي‏ء على طالب اللحوق به و الإعجاز إيجاد ما يعجز عنه و العجز معنى عند أبي علي الجبائي و أبي القاسم البلخي و ليس بمعنى عند أبي هاشم و أصحابه بل هو عدم القدرة و ذهب إليه المرتضى و الأعداد اتخاذ الشي‏ء لغيره مما يحتاج إليه في أمره و الاستطاعة معنى ينطاع بها الجوارح للفعل مع انتفاع المنع و الرباط شد أيسر من العقد يقال ربطه يربطه ربطا و رابطه مرابطة و رباطا و الإرهاب إزعاج النفس بالخوف و الجنوح الميل و منه جناح الطائر لأنه يميل به في أحد شقيه و لا جناح عليه أي لا ميل إلى مأثم.

الإعراب‏

 «لا يُعْجِزُونَ» فتح النون هو القراءة و يجوز كسرها على معنى لا يعجزونني و يحذف النون الأولى لاجتماع النونين كما قال الشاعر:

تراه كالثغام يعل مسكا

 

 يسوء الغاليات إذا فليني‏

 

يريد فلينني‏ «وَ آخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ» منصوب على تقدير و ترهبون آخرين و يجوز أن يكون على تقدير و أعدوا لهم الآخرين فيكون مجرورا عطفا على الهاء و الميم.

المعنى‏

لما تقدم الأمر بقتال الكفار عقبه سبحانه بوعد النصر و الأمر بالإعداد لقتالهم فقال‏ «وَ لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا» معناه و لا تحسبن يا محمد أعداءك الكافرين قد سبقوا أمر الله و أعجزوه و أنهم قد فاتوك فإن الله سبحانه يظفرك بهم كما وعدك و يظهرك عليهم و السبق و الفوت بمعنى واحد و قيل معناه لا تحسبن من أفلت من هذه الحرب إنه قد يسبق إلى الحياة عن الزجاج و الخطاب للرسول ص و المراد به غيره و قيل إنه إنما قاله تطييبا لقلبه في الهاربين كما طيب قلبه في المقتولين و المأسورين و على القراءة بالياء فالمعنى لا يحسبن الكافرون أنفسهم سابقين أو لا يحسبن الكافرون أنهم سابقون‏ «إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ» أي لا يعجزون الله و لا يفوتونه حتى لا يبعثهم الله يوم القيامة عن الحسن و قيل معناه لا يعجزونك عن الجبائي‏ «وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ» هذا أمر منه سبحانه بأن يعدوا السلاح قبل لقاء العدو و معناه و أعدوا للمشركين ما قدرتم عليه مما يتقوى به على القتال من الرجال و آلات الحرب و

روى عقبة بن عامر عن النبي ص‏ أن القوة الرمي‏

و على هذا فيكون معناه أنه من القوة

 

852
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 852

و قيل إن القوة اتفاق الكلمة و الثقة بالله تعالى و الرغبة في ثوابه و قيل القوة الحصون عن عكرمة «وَ مِنْ رِباطِ الْخَيْلِ» أي و من ربطها و اقتنائها للغزو و هي من أقوى عدد الجهاد و

روي عن النبي ص أنه قال‏ ارتبطوا الخيل فإن ظهورها لكم عز و أجوافها كنز

و قيل إن القوة ذكور الخيل و الرباط و الإناث منها عن الحسن و عكرمة «تُرْهِبُونَ بِهِ» أي تخوفون بما تعدونه لهم‏ «عَدُوَّ اللَّهِ وَ عَدُوَّكُمْ» يعني مشركي مكة و كفار العرب‏ «وَ آخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ» أي و ترهبون كفارا آخرين دون هؤلاء و اختلفوا في الآخرين فقيل أنهم بنو قريظة عن مجاهد و قيل هم أهل فارس عن السدي و قيل هم المنافقون لا يعلم المسلمون أنهم أعداؤهم و هم أعداؤهم عن الحسن و ابن زيد «لا تَعْلَمُونَهُمُ» معناه لا تعرفونهم لأنهم يصلون و يصومون و يقولون لا إله إلا الله محمد رسول الله و يختلطون بالمؤمنين‏ «اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ» أي يعرفهم لأنه المطلع على الأسرار و قيل هم الجن و هو اختيار الطبري قال لأن الأعداء دخل فيه جميع المتظاهرين بالعداوة فلم يبق إلا من لا يشاهد «وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْ‏ءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» أي في الجهاد و في طاعة الله‏ «يُوَفَّ إِلَيْكُمْ» أي يوفر عليكم ثوابه في الآخرة «وَ أَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ» أي لا تنقصون شيئا منه‏ «وَ إِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ» أي مالوا إلى الصلح و ترك الحرب‏ «فَاجْنَحْ لَها» أي مل إليها و اقبلها منهم و إنما أنث لأن السلم بمعنى المسالمة «وَ تَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ» أي فوض أمرك إلى الله‏ «إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» لا تخفى عليه خافية و قيل إن هذه الآية منسوخة بقوله‏ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ‏ و قوله‏ «قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ» الآية عن الحسن و قتادة و قيل إنها ليست بمنسوخة لأنها في الموادعة لأهل الكتاب و الأخرى لعباد الأوثان و هذا هو الصحيح لأن قوله‏ «فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ» و الآية الأخرى نزلتا في سنة تسع في سورة براءة و صالح رسول الله ص وفد نجران بعدها.

853
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأنفال(8): الآيات 62 الى 63] ص : 854

 

 [سورة الأنفال (8): الآيات 62 الى 63]

وَ إِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَ بِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَ أَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَ لكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63)

اللغة

الخدع و الخديعة إظهار المحبوب في الأمر مع إبطان المكروه و التأييد التمكين من الفعل على أتم ما يصح فيه و الأيد القوة و التأليف الجمع على تشاكل و اختلف في التأليف فأثبته بعضهم معنى و نفاه بعضهم و الصحيح أنه معنى يحل محلين و لا يحصل من فعلنا إلا متولدا.

المعنى‏

ثم خاطب الله سبحانه نبيه ص فقال‏ «وَ إِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ» معناه و إن يرد الذين يطلبون منك الصلح أن يخدعوك في الصلح بأن يقصدوا بالتماس الصلح دفع أصحابك و الكف عن القتال حتى يقووا فيبدءوكم بالقتال من غير استعداد منكم‏ «فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ» أي فإن الذي يتولى كفايتك الله‏ «هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَ بِالْمُؤْمِنِينَ» أي هو الذي قواك بالنصر من عنده و أيدك بالمؤمنين الذين ينصرونك على أعدائك‏ «وَ أَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ» و أراد بتأليف القلوب ما كان بين الأوس و الخزرج من المعاداة و القتال فإنه لم يكن حيان من العرب بينهما من العداوة مثل ما كان بين هذين الحيين فألف الله بين قلوبهم حتى صاروا متوارين متحابين ببركة نبينا ص و قيل أراد كل متحابين في الله عن مجاهد «لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ» أي لم يمكنك جمع قلوبهم على الألفة و إزالة ضغائن الجاهلية «وَ لكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ» بأن لطف لهم بحسن تدبيره و بالإسلام الذي هداهم إليه‏ «إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» لا يمتنع عليه شي‏ء يريد فعله و لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة قال الزجاج و هذا من الآيات العظام و ذلك أن النبي ص بعث إلى قوم أنفتهم شديدة بحيث لو لطم الرجل من قبيلة لطمة قاتل عنه قبيلته فألف الإيمان بين قلوبهم حتى قاتل الرجل أباه و أخاه و ابنه فأعلم الله سبحانه أن هذا ما تولاه منهم إلا هو.

 

854
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأنفال(8): الآيات 64 الى 66] ص : 855

 

 [سورة الأنفال (8): الآيات 64 الى 66]

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (65) الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَ عَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَ اللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66)

القراءة

إن يكن منكم مائة بالياء فيهما كوفي و الأول بالتاء بصري‏ «ضَعْفاً» بفتح الضاد كوفي إلا الكسائي و الباقون بضم الضاد و لكنهم سكنوا العين إلا أبا جعفر فإنه قرأ ضعفاء على وزن فعلاء.

الحجة

من قرأ بالياء فإنه أراد به المذكر يدلك على ذلك قوله تعالى‏ «يَغْلِبُوا» و قرأ أبو عمرو فإن تكن منكم مائة صابرة بالتاء كما أنث صفة المائة و هي قوله‏ «صابِرَةٌ» كذلك أنث الفعل و من قرأ الجميع بالتاء يحمله على اللفظ فاللفظ مؤنث و الضعف و الضعف لغتان كالفقر و الفقر.

اللغة

الاتباع موافقة الداعي فيما يدعو إليه من أجل دعائه و التحريض و الحض و الحث بمعنى و هو الترغيب في الفعل بما يبعث على المبادرة إليه و ضده التقتير و الصبر حبس النفس عما تنازع إليه من ضد ما ينبغي أن يكون عليه و ضده الجزع قال:

فإن تصبرا فالصبر خير مغبة

 

 و إن تجزعا فالأمر ما تريان‏

 

و التخفيف رفع المشقة بالخفة و الخفة نقيض الثقل و الخفة و السهولة بمعنى و الضعف نقصان القوة و هو من الضعف لأنه ذهاب ضعف القوة.

الإعراب‏

موضع‏ «مَنِ اتَّبَعَكَ» رفع على معنى حسبك الله و أتباعك من المؤمنين و يحتمل أن يكون نصبا بمعنى و يكفي من اتبعك على التأويل لأن الكاف في حسبك و في موضع جر بالإضافة لكنه مفعول به في المعنى فعطف على المعنى و مثله قوله تعالى‏ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَ أَهْلَكَ‏ و قال الشاعر:

إذا كانت الهيجاء و انشقت العصا

 

 فحسبك و الضحاك سيف مهند

 

 

855
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 856

الآن مبني مع الألف و اللام لأنه خرج عن التمكن بشبه الحرف قال الزجاج عشرون لا يجوز إلا بكسر العين و زعم أهل اللغة أنه كسر أوله كما كسر أول اثنين لأن عشرين من عشرة مثل اثنين من واحد و يدل عليه فتحهم ثلاثين كفتح ثلاثة و كسرهم تسعين ككسر تسعة.

المعنى‏

ثم أمر سبحانه بقتال الكفار و حث عليه بقوله‏ «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» أي كافيك الله و يكفيك متبعوك من المؤمنين و قال الحسن معناه الله حسبك و حسب من اتبعك من المؤمنين أي يكفيك و يكفيهم قال الكلبي نزلت هذه الآية بالبيداء في غزوة بدر قبل القتال‏ «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ» أي ابعث المؤمنين‏ «عَلَى الْقِتالِ» و رغبهم فيه بسائر أسباب التحريض و الترغيب من ذكر الثواب الموعود على القتال و بيان ما وعد الله لهم من النصر و الظفر و اغتنام الأموال‏ «إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ» على القتال‏ «يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ» من العدو «وَ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا» و اللفظ لفظ الخبر و المراد به الأمر و يدل على ذلك قوله فيما بعد «الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ» لأن التخفيف لا يكون إلا بعد التكليف‏ «بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ» معناه ذلك النصر من الله تعالى لكم على الكفار و الخذلان للكفار بأنكم تفقهون أمر الله تعالى و تصدقونه فيما وعدكم من الثواب فيدعوكم ذلك إلى الصبر على القتال و الجد فيه و الكفار لا يفقهون أمر الله تعالى و لا يصدقونه فيما وعدكم من الثواب و لما علم الله تعالى أن ذلك يشق عليهم تغيرت المصلحة في ذلك فقال‏ «الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ» الحكم في الجهاد من وجوب قتال العشرة على الواحد و ثبات الواحد للعشرة «وَ عَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً» أراد به ضعف البصيرة و العزيمة و لم يرد ضعف البدن فإن الذين أسلموا في الابتداء لم يكونوا كلهم أقوياء البدن بل كان فيهم القوي و الضعيف و لكن كانوا أقوياء البصيرة و اليقين و لما كثر المسلمين و اختلط بهم من كان أضعف يقينا و بصيرة نزل‏ «الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ» «فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ» على القتال‏ «يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ» من العدو «وَ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ» صابرة «يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ» منهم‏ «بِإِذْنِ اللَّهِ» أي بعلم الله و قيل بأمره فأمر الله تعالى الواحد بأن يثبت لاثنين و تضمن النصرة له عليهما و إنما لم يفصل و لم يأمر من كان قوي البصيرة بأن يثبت لعشرة و من كان ضعيف البصيرة بأن يثبت لاثنين لأنهم كانوا يشهدون القتال مختلطين فكان لا يمكن التمييز بينهم و لو نص على من كان ضعيف البصيرة كان فيه إيحاشهم و انكسار قلوبهم و زيادة ضعفهم‏ «وَ اللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ» أي معونة الله مع الصابرين و معناه و الله معين الصابرين و قيل إن هذه الآية نزلت‏

856
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأنفال(8): الآيات 67 الى 69] ص : 857

 

بعد الآية الأولى بمدة و إن قرن بينهما في المصحف و هي ناسخة للأولى و المعتبر في الناسخ و المنسوخ بالنزول دون التلاوة و قال الحسن إن التغليظ كان على أهل بدر ثم جاءت الرخصة.

 [سورة الأنفال (8): الآيات 67 الى 69]

ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى‏ حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَ اللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَ اللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (68) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69)

القراءة

قرأ أبو جعفر أن تكون له بالتاء أسارى و قرأ أهل الكوفة أن تكون له بالتاء «أَسْرى‏» و الباقون‏ «أَنْ يَكُونَ لَهُ» بالياء «أَسْرى‏».

الحجة

من قرأ بالتاء فلأن الجمع مؤنث و من قرأ بالياء فلأنهم مذكرون في المعنى و قد وقع الفصل بين الفعل و الفاعل قال أبو علي و الأسرى أقيس من الأسارى لأن أسير فعيل بمعنى مفعول و ذلك يجمع على فعلى نحو جريح و جرحى و قتيل و قتلي و استمر هذا الجمع في الباب و كثر حتى شبه به غيره مما ليس منه و لكن لموافقته مثل مرضى و هلكى و موتى و ذلك أن هذه أمور ابتلوا بها و أدخلوا فيها و هم لها كارهون فصار لذلك مشبها بفعيل في قول الخليل و إنما قالوا أسارى على التشبيه بكسالى كما قالوا كسلى على التشبيه بأسرى و قال الأزهري الأسارى جمع الأسرى فهو جمع الجمع.

اللغة

الأسر الشد على المحارب بما يصير به في قبضة الآخذ له و فلان مأسور أي مشدود و كانوا يشدون الأسير بالقد، و الإثخان في الأرض تغليظ الحال بكثرة الفتل و الثخن و الغلظ و الكثافة نظائر و قد أثخنه المرض إذا اشتدت قوته عليه و أثخنه الجراح و العرض متاع‏

 

857
مجمع البیان في تفسير القرآن4

الإعراب ص : 858

 

الدنيا سماه عرضا لقلة لبثه و الفرق بين الحلال و المباح أن الحلال من حل العقد في التحريم و المباح من التوسعة في الفعل و إن اجتمعا في الحل و الطيب المستلذ و شبه الحلال به فسمي طيبا و اللذة نيل المشتهى.

الإعراب‏

الفاء في فكلوا دخلت للجزاء المعنى لقد أحللت لكم الغذاء فكلوا و حلالا طيبا منصوب على الحال.

المعنى‏

 «ما كانَ لِنَبِيٍّ» أي ليس له و لا في عهد الله إليه‏ «أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى‏» من المشركين ليفديهم أو يمن عليهم‏ «حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ» أي حتى يبالغ في قتل المشركين و قهرهم ليرتدع بهم من وراءهم و قال أبو مسلم الإثخان الغلبة على البلدان و التذليل لأهلها يعني حتى يتمكن في الأرض‏ «تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا» هذا خطاب لمن دون النبي ص من المؤمنين الذين رغبوا في أخذ الفداء من الأسرى في أول وقته و رغبوا في الحرب للغنيمة قال الحسن و ابن عباس يريد يوم بدر و يقول أخذتم الفداء من الأسرى في أول وقعة كانت لكم من قبل أن تثخنوا في الأرض و عرض الدنيا مال الدنيا لأنه بمعرض الزوال‏ «وَ اللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ» أي تريدون عاجل الحظ من عرض الدنيا و الله يريد لكم ثواب الآخرة «وَ اللَّهُ عَزِيزٌ» لا يغلب أنصاره فاعملوا ما يريده منكم لينصركم‏ «حَكِيمٌ» يجري أفعاله على ما توجبه الحكمة فصل سبحانه بين إرادة نفسه و إرادة عباده و لو كان ما أرادوه على ما قاله المجبرة لم يصح هذا التفصيل‏ «لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ» قيل في معناه أقوال (أحدها) لو لا ما مضى من حكم الله أن لا يعذب قوما حتى يبين لهم ما يتقون و أنه لم يبين لكم أن لا تأخذوا الفداء لعذبكم بأخذ الفداء عن ابن جريج (و ثانيها) لو لا أن الله حكم لكم إباحة الغنائم و الفداء في أم الكتاب و هو اللوح المحفوظ لمسكم فيما استحللتم قبل الإباحة عذاب عظيم فإن الغنائم لم تحل لأحد قبلكم عن ابن عباس (و ثالثها) لو لا كتاب من الله سبق و هو القرآن فآمنتم به و استوجبتم بالإيمان به الغفران لمسكم العذاب عن الجبائي قال و المراد به الصغائر (و رابعها) أن الكتاب الذي سبق قوله‏ وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ‏ و المعنى لو لا ما كتب الله في القرآن أو في اللوح المحفوظ أنه لا يعذبكم و النبي بين أظهركم لعذبكم‏ «فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّباً» هذه إباحة منه سبحانه للمؤمنين أن يأكلوا مما غنموه من أموال المشركين‏ «وَ اتَّقُوا اللَّهَ» باتقاء معاصيه‏ «إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ».

 [القصة]

كان القتلى من المشركين يوم بدر سبعين قتل منهم علي بن أبي طالب ع‏

 

858
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[القصة] ص : 858

سبعة و عشرين و كان الأسرى أيضا سبعين و لم يؤسر أحد من أصحاب النبي ص فجمعوا الأسارى و قرنوهم في الحبال و ساقوهم على أقدامهم و قتل من أصحاب رسول الله تسعة رجال منهم سعد بن خيثمة و كان من النقباء من الأوس و عن محمد بن إسحاق قال استشهد من المسلمين يوم بدر أحد عشر رجلا أربعة من قريش و سبعة من الأنصار و قيل ثمانية و قتل من المشركين بضعة و أربعون رجلا و عن ابن عباس قال لما أمسى رسول الله ص يوم بدر و الناس محبوسون بالوثاق بات ساهرا أول الليلة فقال له أصحابه ما لك لا تنام فقال ص سمعت أنين عمي العباس في وثاقه فأطلقوه فسكت فنام رسول الله ص و روى عبيدة السلماني عن رسول الله ص أنه قال لأصحابه يوم بدر في أسارى إن شئتم قتلتموهم و إن شئتم فاديتموهم و استشهد منكم بعدتهم و كانت الأسارى سبعين فقالوا بل نأخذ الفداء فنستمتع به و نتقوى به على عدونا و ليستشهد منا بعدتهم قال عبيدة طلبوا الخيرتين كلتيهما فقتل منهم يوم أحد سبعون و في كتاب علي بن إبراهيم لما قتل رسول الله ص النضر بن الحارث و عقبة بن أبي معيط خافت الأنصار أن يقتل الأسارى فقالوا يا رسول الله قتلنا سبعين و هم قومك و أسرتك أ تجذا أصلهم فخذ يا رسول الله منهم الفداء و قد كانوا أخذوا ما وجدوه من الغنائم في عسكر قريش فلما طلبوا إليه و سألوه نزلت الآية «ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى‏» الآيات فأطلق لهم ذلك و كان أكثر الفداء أربعة آلاف درهم و أقله ألف درهم فبعثت قريش بالفداء أولا فأولا فبعثت زينب بنت رسول الله ص من فداء زوجها أبي العاص بن الربيع و بعثت قلائد لها كانت خديجة جهزتها بها و كان أبو العاص ابن أخت خديجة فلما رأى رسول الله ص تلك القلائد قال رحم الله خديجة هذه قلائد هي جهزتها بها فأطلقه رسول الله ص بشرط أن يبعث إليه زينب و لا يمنعها من اللحوق به فعاهده على ذلك و وفى له و روي أن النبي ص كره أخذ الفداء حتى رأى سعد بن معاذ كراهية ذلك في وجهه فقال يا رسول الله هذا أول حرب لقينا فيه المشركين و الإثخان في القتل أحب إلي من استبقاء الرجال و قال عمر بن الخطاب يا رسول الله كذبوك و أخرجوك فقدمهم و اضرب أعناقهم و مكن عليا من عقيل فيضرب عنقه و مكني من فلان أضرب عنقه فإن هؤلاء أئمة الكفر و قال أبو بكر أهلك و قومك استأن بهم و استبقهم و خذ منهم فدية فيكون لنا قوة على الكفار قال ابن زيد فقال رسول الله ص لو نزل عذاب من السماء ما نجا منكم غير عمر و سعد بن معاذ و

قال أبو جعفر

859
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأنفال(8): الآيات 70 الى 71] ص : 860

 

الباقر (ع) كان الفداء يوم بدر كل رجل من المشركين بأربعين أوقية و الأوقية أربعون مثقالا إلا العباس فإن فداءه كان مائة أوقية و كان أخذ منه حين أسر عشرون أوقية ذهبا فقال النبي ص ذلك غنيمة ففاد نفسك و ابني أخيك نوفلا و عقيلا فقال ليس معي شي‏ء فقال أين الذهب الذي سلمته إلى أم الفضل و قلت إن حدث بي حدث فهو لك و للفضل و عبد الله و قثم فقال من أخبرك بهذا قال الله تعالى فقال أشهد أنك رسول الله و الله ما أطلع على هذا أحدا إلا الله تعالى.

 [سورة الأنفال (8): الآيات 70 الى 71]

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى‏ إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70) وَ إِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71)

القراءة

قرأ أبو جعفر و أبو عمرو من الأسارى و الباقون‏ «مِنَ الْأَسْرى‏» و قد ذكرنا الفرق بين الأسرى و الأسارى فيما قبل.

المعنى‏

ثم خاطب الله سبحانه نبيه فقال‏ «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ» من الأسارى إنما ذكر الأيدي لأن من كان في وثاقهم فهو بمنزلة من يكون في أيديهم لاستيلائهم عليه‏ «مِنَ الْأَسْرى‏» يعني إسراء بدر الذين أخذ منهم الفداء «إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً» أي إسلاما و إخلاصا أو رغبة في الإيمان و صحة نية «يُؤْتِكُمْ خَيْراً» أي يعطكم خيرا «مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ» من الفداء إما في الدنيا و الآخرة و إما في الآخرة «وَ يَغْفِرْ لَكُمْ» ذنوبكم‏ «وَ اللَّهُ غَفُورٌ» للذنوب‏ «رَحِيمٌ» روي عن العباس بن عبد المطلب أنه قال نزلت هذه الآية في و في أصحابي كان معي عشرون أوقية ذهبا فأخذت مني فأعطاني الله مكانها عشرين عبدا كل منهم يضرب بمال كثير و أدناهم يضرب بعشرين ألف درهم مكان العشرين أوقية و أعطاني زمزم و ما أحب أن لي بها جميع أموال أهل مكة و أنا أنتظر المغفرة من ربي قال قتادة ذكر لنا أن نبي الله ص لما قدم عليه مال البحرين ثمانون ألفا و قد توضأ لصلاة الظهر فما صلى يومئذ حتى فرقه و أمر العباس أن يأخذ منه و يحثي فأخذ فكان العباس يقول هذا خير مما أخذ منا

 

860
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأنفال(8): آية 72] ص : 861

 

و أرجو المغفرة «وَ إِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ» معناه و إن يرد الذين أطلقتهم من الأسارى خيانتك بأن يعدوا حربا لك أو ينصروا عدوا عليك‏ «فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ» بأن خرجوا إلى بدر و قاتلوا مع المشركين و قيل بأن أشركوا بالله و أضافوا إليه ما لا يليق به‏ «فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ» أي فأمكنك منهم يوم بدر بأن غلبوا و أسروا و سيمكنك منهم ثانيا أن خانوك‏ «وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» معناه عليم بما يقولونه و بما في نفوسهم و بجميع الأشياء حكيم فيما يفعله.

 [سورة الأنفال (8): آية 72]

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ الَّذِينَ آوَوْا وَ نَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَ إِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلى‏ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72)

القراءة

قرأ حمزة ولايتهم بكسر الواو و هو قراءة الأعمش و يحيى بن وثاب و الباقون‏ «وَلايَتِهِمْ» بفتح الواو.

الحجة

قال الزجاج من قرأ بالفتح فلأن الولاية من النصرة و النسب بفتح الواو و الولاية التي بمنزلة الإمارة مكسورة ليفصل بين المعنيين و قد يجوز كسر الواو لأن في تولي بعض القوم بعضا جنسا من الصناعة و العمل و كل ما كان من جنس الصناعة فمكسور نحو الخياطة و الصياغة و قال أبو عبيدة و أبو الحسن من ولايتهم مصدر المولى و أما في السلطان فالولاية بكسر الواو و هي في الأخرى لغة.

اللغة

الهجرة و المهاجرة فراق الوطن إلى غيره من البلاد و أصله من الهجر ضد الوصل و الجهاد تحمل المشاق في قتال أعداء الدين من جهده الأمر جهدا و الإيواء ضم الإنسان غيره إليه بإنزاله عنده و تقريبه له يقال آواه يؤويه إيواء و أوى يأوي أويا و أويت معناه‏

 

861
مجمع البیان في تفسير القرآن4

النزول ص : 862

رجعت إلى المأوى و الولاية عقد النصرة للموافقة في الديانة.

النزول‏

قيل نزلت الآية في الميراث و كانوا يتوارثون بالهجرة فجعل الله الميراث للمهاجرين و الأنصار دون ذوي الأرحام و كان الذي آمن و لم يهاجر و لم يرث من أجل أنه لم يهاجر و لم ينصر و كانوا يعملون بذلك حتى أنزل الله تعالى‏ وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى‏ بِبَعْضٍ‏ فنسخت هذه الآية و صار الميراث لذوي الأرحام المؤمنين و لا يتوارث أهل ملتين عن ابن عباس و الحسن و قتادة و مجاهد و السدي.

المعنى‏

ثم ختم سبحانه السورة بإيجاب موالاة المؤمنين و قطع موالاة الكافرين فقال‏ «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا» بالله و رسوله و بما يجب الإيمان به‏ «وَ هاجَرُوا» من مكة إلى المدينة «وَ جاهَدُوا» و قاتلوا العدو «بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» أي في طاعة الله و إعزاز دينه‏ «وَ الَّذِينَ آوَوْا» الرسول و المهاجرين بالمدينة أي جعلوا لهم مأوى و أسكنوهم منازلهم يعني الأنصار «وَ نَصَرُوا» أي و نصروهم بعد الإيواء على أعدائهم و بذلوا المهج في نصرتهم‏ «أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ» أي هؤلاء بعضهم أولى ببعض في النصرة و إن لم يكن بينهم قرابة من أقربائهم من الكفار و قيل في التوارث عن ابن عباس و الحسن و مجاهد و قتادة و السدي و قيل في التناصر و التعاون و الموالاة في الدين عن الأصم و قيل في نفوذ أمان بعضهم على بعض فإن واحدا من المسلمين لو أمن إنسانا نفذ أمانه على سائر المسلمين‏ «وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يُهاجِرُوا» إلى المدينة «ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا» أي ما لكم من ميراثهم من شي‏ء حتى يهاجروا فحينئذ يحصل بينكم التوارث فإن الميراث كان منقطعا في ذلك الوقت بين المهاجرين و غير المهاجرين و

روي عن أبي جعفر (ع) أنهم كانوا يتوارثون بالمؤاخاة الأولى‏

و قيل معناه ما لكم من موالاتهم و نصرتهم من شي‏ء أي ليس عليكم نصرتهم‏ «وَ إِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ» معناه و إن طلبوا يعني المؤمنين الذين لم يهاجروا منكم النصرة لهم على الكفار و إعانتهم في الدين فعليكم النصر و المعونة لهم و ليس عليكم نصرتهم في غير الدين‏ «إِلَّا عَلى‏ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثاقٌ» معناه إلا أن يطلبوا منكم النصرة لهم على قوم من المشركين بينكم و بينهم أمان و عهد يجب الوفاء به و لا تنصروهم عليهم لما فيه من نقض العهد «وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» أي بأعمالهم عليم لا يخفى عليه شي‏ء منها.

862
مجمع البیان في تفسير القرآن4

[سورة الأنفال(8): الآيات 73 الى 75] ص : 863

 

 [سورة الأنفال (8): الآيات 73 الى 75]

وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَ فَسادٌ كَبِيرٌ (73) وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ الَّذِينَ آوَوْا وَ نَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ (74) وَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى‏ بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَلِيمٌ (75)

اللغة

الفتنة أصلها الامتحان ثم تستعمل في أشياء منها الكفر و الشرك و ذلك نحو قوله تعالى‏ وَ الْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ‏ وَ قاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ و منها العذاب نحو قوله تعالى‏ «جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ» و قوله‏ «ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ» يعني عذابكم بالتحريق بالنار و منها المعذرة في نحو قوله تعالى‏ «ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ» أي معذرتهم و منها القتل في نحو قوله‏ «إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ» أي يقتلكم و قوله‏ عَلى‏ خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَ مَلَائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ‏ و منها الهرج و الابتلاء على إثر البلاء في نحو قوله‏ وَ هُمْ لا يُفْتَنُونَ وَ لَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ‏ و هذا التفصيل مأخوذ من قول الصادق (ع). و الكريم فاعل الكرم و الكرم الجود العظيم و الشرف قال:

تلك المكارم لا قعبان من لبن‏

 

 شيبا بماء فعادا بعد أبوالا

 

و الرزق الكريم العظيم الواسع.

الإعراب‏

قوله‏ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ يجوز في العربية فعليكم النصر على قولك عليك زيدا و لم يقرأ بها.

المعنى‏

ثم ذكر سبحانه و تعالى حكم الكافرين فقال‏ «وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ

 

863
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 863

بَعْضٍ» أي بعضهم أنصار بعض عن ابن إسحاق و قتادة و قيل معناه بعضهم أولى ببعض في الميراث عن ابن عباس و أبي مالك‏ «إِلَّا تَفْعَلُوهُ» و تقديره إلا تفعلوا ما أمرتم به في الآية الأولى و الثانية و مخرجه مخرج الخبر و المراد به الأمر و تقديره إلا تفعلوا ما أمرتم به من التناصر و التعاون و التبرؤ من الكفار «تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَ فَسادٌ كَبِيرٌ» على المؤمنين الذين لم يهاجروا و يريد بالفتنة هنا المحنة بالميل إلى الضلال و بالفساد الكبير ضعف الإيمان و قيل إن الفتنة هي الكفر لأن المسلمين إذا والوهم تجرؤوا على المسلمين و دعوهم إلى الكفر و هذا يوجب التبرؤ منهم و الفساد الكبير سفك الدماء عن الحسن و قيل معناه و إن لم تعلقوا التوارث بالهجرة و لم تقطعوه بعدمها أدى إلى فتنة في الأرض باختلاف الكلمة و فساد عظيم بتقوية الخارج عن الجماعة عن ابن عباس و ابن زيد ثم عاد سبحانه إلى ذكر المهاجرين و الأنصار و مدحهم و الثناء عليهم فقال‏ «وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ» أي صدقوا الله و رسوله و هاجروا من ديارهم و أوطانهم يعني من مكة إلى المدينة و جاهدوا مع ذلك في إعلاء دين الله‏ «وَ الَّذِينَ آوَوْا وَ نَصَرُوا» أي ضموهم إليهم و نصروا النبي ص‏ «أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا» أي أولئك الذين حققوا إيمانهم بالهجرة و النصرة بخلاف من أقام بدار الشرك و قيل معناه أن الله حقق إيمانهم بالبشارة التي بشرهم بها و لم يكن لمن لم يهاجر و لم ينصر مثل هذا و اختلفوا في أن الهجرة هل تصح في هذا الزمان أم لا فقيل لا تصح لأن‏

النبي ص قال‏ لا هجرة بعد الفتح‏

و لأن الهجرة الانتقال من دار الكفر إلى دار الإسلام و ليس يقع مثل هذا في هذا الزمان لاتساع بلاد الإسلام إلا أن يكون نادرا لا يعتد به و قيل إن هجرة الأعراب إلى الأمصار باقية إلى يوم القيامة عن الحسن و الأقوى أن يكون حكم الهجرة باقيا لأن من أسلم في دار الحرب ثم هاجر إلى دار الإسلام كان مهاجرا و كان الحسن يمنع أن يتزوج المهاجر إلى أعرابية و روي عن عمر بن الخطاب أنه قال لا تنكحوا أهل مكة فإنهم أعراب و إنما سمي الجهاد سبيل الله لأنه الطريق إلى ثواب الله في دار كرامته‏ «لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ» لا يشوبه ما ينغصه و قيل الرزق الكريم هاهنا طعام الجنة لأنه لا يستحيل في أجوافهم نجوا بل يصير كالمسك ريحا «وَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ» أي من بعد فتح مكة عن الحسن و قيل معناه آمنوا من بعد إيمانكم‏ «وَ هاجَرُوا» بعد هجرتكم‏ «وَ جاهَدُوا مَعَكُمْ» أيها المؤمنون‏ «فَأُولئِكَ مِنْكُمْ» أي مؤمنون مثلكم من جملتكم و حكمهم حكمكم في وجوب موالاتهم و موارثتهم و نصرتهم و إن تأخر إيمانهم و هجرتهم‏ «وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى‏ بِبَعْضٍ» معناه و ذوو الأرحام و القرابة بعضهم أحق بميراث بعضهم من غيرهم عن ابن عباس و الحسن و جماعة

864
مجمع البیان في تفسير القرآن4

المعنى ص : 863

المفسرين و قالوا صار ذلك نسخا لما قبله من التوارث بالمعاقدة و الهجرة و غير ذلك من الأسباب فقد كانوا يتوارثون بالمؤاخاة فإن النبي ص كان آخى بين المهاجرين و الأنصار «فِي كِتابِ اللَّهِ» أي في حكم الله عن الزجاج و قيل في اللوح المحفوظ كما في قوله‏ ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها و قيل في القرآن و في قوله‏ «وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى‏ بِبَعْضٍ» دلالة على أن من كان أقرب إلى الميت في النسب كان أولى بالميراث سواء كان ذا سهم أو غير ذي سهم أو عصبة أو غير ذي عصبة و من وافقنا في توريث ذوي الأرحام يستثني أصحاب الفرائض و العصبة من الآية و ذلك خلاف الظاهر «إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَلِيمٌ» ظاهر المعنى و أكثر هذه السورة في قصة بدر.

865