مجمع البیان في تفسير القرآن4
(6) سورة الأنعام مكية و آياتها خمس و ستون و مائة(165) ص : 421
الجزء
الرابع
(6) سورة
الأنعام مكية و آياتها خمس و ستون و مائة (165)
[توضيح]
هي مكية عن
ابن عباس غير ست آيات «وَ ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ» إلى آخر
ثلاث آيات «قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ» إلى آخر
ثلاث آيات فإنهن نزلن بالمدينة و في رواية أخرى عنه غير ثلاث آيات «قُلْ
تَعالَوْا أَتْلُ» إلى آخر الثلاث و باقي السورة كلها نزلت بمكة و
روي عن أبي
بن كعب و عكرمة و قتادة أنها كلها نزلت بمكة جملة واحدة ليلا و معها سبعون ألف
ملك قد ملأوا ما بين الخافقين لهم زجل بالتسبيح و التحميد فقال النبي ص سبحان الله
العظيم و خر ساجدا ثم دعا الكتاب فكتبوها من ليلتهم و أكثرها حجاج على المشركين و
على من كذب بالبعث و النشور.
عدد آيها
هي مائة و
خمس و ستون آية كوفي ست بصري شامي سبع حجازي (خلافها) أربع آيات «وَ
جَعَلَ الظُّلُماتِ وَ النُّورَ» حجازي «لَسْتُ
عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ» كوفي «كُنْ فَيَكُونُ» و «إِلى
صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» غير الكوفي.
فضلها
أبي بن كعب
عن النبي ص قال أنزلت علي الأنعام جملة واحدة يشيعها سبعون ألف ملك لهم زجل
بالتسبيح و التحميد فمن قرأها صلى عليه أولئك السبعون ألف ملك بعدد كل آية من
الأنعام يوما و ليلة
، جابر بن
عبد الله الأنصاري عن النبي ص قال من قرأ ثلاث آيات من أول سورة الأنعام إلى
قوله «وَ يَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ» وكل الله به
أربعين ألف ملك يكتبون له مثل عبادتهم إلى يوم القيامة و ينزل ملك من السماء
السابعة و معه مرزبة من حديد فإذا أراد الشيطان أن يوسوس أو يرمي في قلبه شيئا
ضربه بها إلى آخر الخبر
و
روى
421
مجمع البیان في تفسير القرآن4
تفسيرها ص : 422
العياشي
بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله (ع) قال إن سورة الأنعام
نزلت جملة واحدة و شيعها سبعون ألف ملك فعظموها و بجلوها فإن اسم الله فيها في
سبعين موضعا و لو يعلم الناس ما في قراءتها من الفضل ما تركوها ثم قال ع من كانت
له إلى الله حاجة يريد قضاءها فليصل أربع ركعات بفاتحة الكتاب و الأنعام و ليقل في
صلاته إذا فرغ من القراءة يا كريم يا كريم يا كريم يا عظيم يا عظيم يا عظيم يا
أعظم من كل عظيم يا سميع الدعاء يا من لا تغيره الليالي و الأيام صل على محمد و آل
محمد و ارحم ضعفي و فقري و فاقتي و مسكنتي يا من رحم الشيخ يعقوب حين رد عليه يوسف
قرة عينه يا من رحم أيوب بعد طول بلائه يا من رحم محمدا و من اليتم آواه و نصره
على جبابرة قريش و طواغيتها و أمكنه منهم يا مغيث يا مغيث يا مغيث تقول ذلك مرارا
فو الذي نفسي بيده لو دعوت الله بها ثم سألت الله جميع حوائجك لأعطاك
و
روى علي بن
إبراهيم بن هاشم عن أبيه عن الحسين بن خالد عن أبي الحسن علي بن موسى الرضا (ع)
قال نزلت الأنعام جملة واحدة شيعها سبعون ألف ملك لهم زجل بالتسبيح و
التهليل و التكبير فمن قرأها سبحوا له إلى يوم القيامة
و روى أبو
صالح عن ابن عباس قال من قرأ سورة الأنعام في كل ليلة كان من الآمنين يوم القيامة
و لم ير النار بعينه أبدا.
تفسيرها
لما ختم الله
سورة المائدة بآية عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ افتتح سورة الأنعام
بما يدل على كمال قدرته من خلق السماوات و الأرض و غيره فقال.
[سورة
الأنعام (6): الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ
اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ جَعَلَ الظُّلُماتِ وَ
النُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) هُوَ الَّذِي
خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَ أَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ
أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2) وَ هُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَ فِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ
سِرَّكُمْ وَ جَهْرَكُمْ وَ يَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ (3)
422
مجمع البیان في تفسير القرآن4
اللغة ص : 423
اللغة
العدل خلاف
الجور و عدلت به غيره أي سويته به و عدلت عنه أي أعرضت و عدلت الشيء فاعتدل أي
قومته فاستقام و الأجل الوقت المضروب لانقضاء الأمد فأجل الإنسان وقت انقضاء عمره
و أجل الدين محله و هو وقت انقضاء التأخير و أصله التأخير يقال أجله تأجيلا و عجله
تعجيلا و الآجل نقيض العاجل و الامتراء الشك و أصله من مرأت الناقة إذا مسحت ضرعها
لاستخراج اللبن و منه ماراه يماريه مراء و مماراة إذا استخرج ما عنده بالمناظرة
فالامتراء استخراج الشبهة المشكلة من غير حل.
المعنى
بدأ الله
تعالى هذه السورة بالحمد لنفسه إعلاما بأنه المستحق لجميع المحامد لأن أصول النعم
و فروعها منه تعالى و لأن له الصفات العلى فقال «الْحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ» يعني اخترعهما بما
اشتملا عليه من عجائب الصنعة و بدائع الحكمة و قيل إنه في لفظ الخبر و معناه الأمر
أي احمدوا الله و إنما جاء على صيغة الخبر و إن كان فيه معنى الأمر لأنه أبلغ في
البيان من حيث أنه يجمع الأمرين و قد ذكرنا من معنى الحمد لله و تفسيره في الفاتحة
ما فيه كفاية «وَ جَعَلَ الظُّلُماتِ وَ النُّورَ» يعني الليل و النهار
عن السدي و جماعة من المفسرين و قيل الجنة و النار عن قتادة و إنما قدم ذكر
الظلمات لأنه خلق الظلمة قبل النور و كذلك خلق السماوات قبل الأرض ثم عجب سبحانه
ممن جعل له شريكا مع ما يرى من الآيات الدالة على وحدانيته فقال «ثُمَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا» أي جحدوا الحق «بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ» أي يسوون به
غيره بأن جعلوا له أندادا مأخوذ من قولهم ما أعدل بفلان أحدا أي لا نظير له عندي و
قيل معنى يعدلون يشركون به غيره عن الحسن و مجاهد و دخول ثم في قوله «ثُمَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا» دليل على معنى لطيف و هو أنه سبحانه أنكر على الكفار
العدل به و عجب المؤمنين من ذلك و مثله في المعنى قوله فيما بعد «ثُمَّ
أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ» و الوجه في التعجيب أن هؤلاء الكفار مع اعترافهم بأن أصول
النعم منه و أنه هو الخالق و الرازق عبدوا غيره و نقضوا ما اعترفوا به و أيضا
فإنهم عبدوا ما لا ينفع و لا يضر من الحجارة و الموات «هُوَ الَّذِي
خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ» يعني به آدم و المعنى أنشأ أباكم و اخترعه من طين و أنتم
من ذريته فلما كان آدم أصلنا و نحن من نسله جاز أن يقول لنا خلقكم من طين «ثُمَّ
قَضى أَجَلًا» أي كتب و قدر أجلا و القضاء يكون بمعنى الحكم و بمعنى الأمر و بمعنى
الخلق و بمعنى الإتمام و الإكمال «وَ أَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ» قيل فيه
أقوال (أحدها) أنه يعني بالأجلين أجل الحياة إلى الموت و أجل الموت إلى البعث و
قيام الساعة عن الحسن و سعيد بن المسيب و قتادة
423
مجمع البیان في تفسير القرآن4
الإعراب ص : 424
و الضحاك و
اختاره الزجاج و روى أيضا عطاء عن ابن عباس قال قضى أجلا من مولده إلى مماته و أجل
مسمى عنده من الممات إلى البعث لا يعلم ميقاته أحد سواه فإذا كان الرجل صالحا
واصلا لرحمه زاد الله له في أجل الحياة و نقص من أجل الممات إلى البعث و إذا كان
غير صالح و لا واصل نقصه الله من أجل الحياة و زاد في أجل المبعث قال و ذلك قوله وَ ما
يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَ لا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ (و ثانيها)
أنه الأجل الذي يحيا به أهل الدنيا إلى أن يموتوا و أجل مسمى عنده يعني الآخرة
لأنه أجل دائم ممدود لا آخر له و إنما قال مسمى عنده لأنه مكتوب في اللوح المحفوظ
في السماء و هو الموضع الذي لا يملك فيه الحكم على الخلق سواه عن الجبائي و هو قول
سعيد بن جبير و مجاهد (و ثالثها) أن أجلا يعني به أجل من مضى من الخلق و أجل مسمى
عنده يعني به آجال الباقين عن أبي مسلم (و رابعها) أن قوله قضى أجلا عنى به النوم
يقبض الروح فيه ثم يرجع إلى صاحبه عند اليقظة و أجل مسمى عنده هو أجل موت الإنسان
و هو المروي عن ابن عباس و يؤيده قوله وَ يُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ
مُسَمًّى و الأصل في الأجل هو الوقت فأجل الحياة هو الوقت الذي يكون فيه
الحياة و أجل الموت أو القتل هو الوقت الذي يحدث فيه الموت أو القتل و ما يعلم
الله تعالى أن المكلف يعيش إليه لو لم يقتل لا يسمى أجلا حقيقة و يجوز أن يسمى ذلك
مجازا و ما
جاء في
الأخبار من أن صلة الرحم تزيد في العمر و الصدقة تزيد في الأجل و أن الله
تعالى زاد في أجل قوم يونس
و ما أشبه
ذلك فلا مانع من ذلك و قوله «ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ» خطاب للكفار
الذين شكوا في البعث و النشور و احتجاج عليهم بأنه سبحانه خلقهم و نقلهم من حال
إلى حال و قضى عليهم الموت و هم يشاهدون ذلك و يقرون بأنه لا محيص منه ثم بعد هذا
يشكون و يكذبون بالبعث و من قدر على ابتداء الخلق فلا ينبغي أن يشك في أنه يصح منه
إعادتهم و بعثهم.
الإعراب
"
هو" الأشبه أن يكون ضمير القصة و الحديث و تقديره الأمر الله يعلم في
السماوات و في الأرض سركم و جهركم فالله مبتدأ و يعلم خبره و في السماوات و في
الأرض في موضع النصب بيعلم و سركم مفعوله أيضا و لا يكون الظرف الذي هو الجار و
المجرور منصوب الموضع بالمصدر و إن جعلنا الظرف متعلقا باسم الله جاز في قياس قول
من قال إن أصل الله الإلاه فيكون المعنى هو المعبود في السماوات و في الأرض يعلم و
تقديره الأمر المعبود في السماوات و في الأرض يعلم سركم و جهركم و من جعل اسم الله
بمنزلة أسماء
424
مجمع البیان في تفسير القرآن4
المعنى ص : 425
الأعلام فلا
يجوز أن يتعلق الظرف به إلا أن يقدر فيه ضربا من معنى الفعل و يجوز أن يكون هو
مبتدأ و الله خبره و العامل في قوله «فِي السَّماواتِ وَ فِي الْأَرْضِ» اسم الله
على ما قلناه و يجوز أن يكون خبرا بعد خبر.
المعنى
ثم عطف
سبحانه على ما تقدم فقال «وَ هُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَ فِي
الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَ جَهْرَكُمْ» فيه وجوه على ما
ذكرناه في الإعراب فعلى التقدير الأول يكون معناه الله يعلم في السماوات و في
الأرض سركم و جهركم و يكون الخطاب لجميع الخلق لأن الخلق إما أن يكونوا ملائكة فهم
في السماء أو بشرا أو جنا فهم في الأرض فهو سبحانه عالم بجميع أسرارهم و أحوالهم و
متصرفاتهم لا يخفى عليه منها شيء و يقويه قوله «وَ يَعْلَمُ ما
تَكْسِبُونَ» أي يعلم جميع ما تعلمونه من الخير و الشر فيجازيكم على حسب أعمالكم
و على التقدير الثاني يكون معناه أن المعبود في السماوات و في الأرض أو المنفرد
بالتدبير في السماوات و في الأرض يعلم سركم و جهركم فلا تخفى عليه منكم خافية و
يكون الخطاب لبني آدم و إن جعلت اسم الله علما على هذا التقدير ثم علقت به قوله «فِي
السَّماواتِ وَ فِي الْأَرْضِ» لم يجز و إن علقته بمحذوف يكون خبر الله أو
حالا عنه أوهم بأن يكون البارئ سبحانه في محل تعالى عن ذلك علوا كبيرا و قال أبو
بكر السراج أن الله و إن كان اسما علما ففيه معنى الثناء و التعظيم الذي يقرب بهما
من الفعل فيجوز أن يوصل لذلك بالمحل و تأويله و هو المعظم أو نحو ذا في السماوات و
في الأرض ثم قال يعلم سركم و جهركم و مثل ذلك قوله سبحانه وَ هُوَ الَّذِي
فِي السَّماءِ إِلهٌ وَ فِي الْأَرْضِ إِلهٌ قال الزجاج فلو قلت
هو زيد في البيت و الدار لم يجز إلا أن يكون في الكلام دليل على أن زيدا يدبر أمر
البيت و الدار فيكون المعنى هو المدبر في البيت و الدار و لو قلت هو المعتضد و
الخليفة في الشرق و الغرب أو قلت هو المعتضد في الشرق و الغرب جاز و على مقتضى ما
قاله أبو بكر و الزجاج يكون في متعلقة بما دل عليه اسم الله و يكون هو الله مبتدأ
و خبرا و المعنى و هو المنفرد بالإلهية في السماوات و في الأرض لا إله فيهما غيره
و لا مدبر لهما سواه و إن جعلت في السماوات خبرا بعد خبر فيكون التقدير و هو الله
و هو في السماوات و في الأرض يعني أنه في كل مكان فلا يكون إلى مكان أقرب منه إلى
مكان ثم أخبر سبحانه عن هذا المعنى مبينا لذلك مؤكدا له بقوله
«يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَ جَهْرَكُمْ» أي الخفي المكتوم و الظاهر المكشوف منكم «وَ
يَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ» و المعنى يعلم نياتكم و أحوالكم و أعمالكم و
هذا الترتيب الذي ذكرته في معاني هذه الآية التي استنبطتها من
425
مجمع البیان في تفسير القرآن4
[سورة الأنعام(6): الآيات 4 الى 5] ص : 426
وجوه الإعراب
مما لم أسبق إليه و هو في استقامة فصوله و مطابقة أصول الدين كما تراه لا غبار
عليه و فيه دلالة على فساد قول من يقول بأن الله تعالى في مكان دون مكان تعالى عن
ذلك و تقدس و في قوله «يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَ جَهْرَكُمْ» دلالة على
أنه عالم لنفسه لأن من كان عالما بعلم لا يصح ذلك منه.
[سورة
الأنعام (6): الآيات 4 الى 5]
وَ ما
تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ
(4) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ
ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (5)
الإعراب
من الأولى
مزيدة و هي التي تقع في النفي لاستغراق الجنس و موضعه رفع و الثانية للتبعيض.
المعنى
ثم أخبر
سبحانه عن الكفار المذكورين في أول الآية فقال «وَ ما
تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ» أي لا تأتيهم حجة «مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ» أي من حججه
و بيناته كانشقاق القمر و آيات القرآن و غير ذلك من المعجزات «إِلَّا
كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ» لا يقبلونها و لا يستدلون بها على ما دلهم
الله عليه من توحيده و صدق رسوله «فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا
جاءَهُمْ» أي بالحق الذي أتاهم به محمد ص من القرآن و سائر أمور الدين
«فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ» أي أخبار «ما كانُوا بِهِ
يَسْتَهْزِؤُنَ» و المعنى أخبار استهزائهم و جزاؤه و هو عقاب الآخرة و قيل معناه
سيعلمون ما يؤول إليه استهزاؤهم عن ابن عباس و الحسن و به قال الزجاج و معنى
الاستهزاء إيهام التفخيم في معنى التحقير.
[سورة
الأنعام (6): آية 6]
أَ لَمْ
يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ
ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَ أَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَ
جَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَ
أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (6)
426
مجمع البیان في تفسير القرآن4
اللغة ص : 427
اللغة
القرن أهل كل
عصر مأخوذ من أقرانهم في العصر قال الزجاج و القرن ثمانون سنة و قيل سبعون سنة قال
و الذي يقع عندي أن القرن أهل كل مدة كان فيها نبي أو كان فيها طبقة من أهل العلم
قلت السنون أو كثرت و الدليل عليه
قول النبي
ص خيركم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم
و التمكين
إعطاء ما به يصح الفعل كائنا ما كان من آلة و غيرها و الإقدار إعطاء القدرة خاصة و
مفعال من أسماء المبالغة يقال ديمة مدرار إذا كان مطرها غزيرا دارا و هذا كقولهم
امرأة مذكار إذا كانت كثيرة الولادة للذكور و كذلك مئناث في الإناث و أصل المدرار
من در اللبن إذا أقبل على الحالب منه شيء كثير و درت السماء إذا أمطرت و الدر
اللبن و يقال لله دره أي عمله و في الذم لا در دره أي لا كثر خيره.
الإعراب
كم نصب
بأهلكنا لا بقوله «يَرَوْا» لأن الاستفهام له صدر الكلام فلا يعمل فيه ما
قبله و هو تعليق و معنى التعليق أن الاستفهام أبطل عمل يرى في اللفظ و قد عمل في
معناه و انتقل من الخبر إلى الخطاب في قوله «ما لَمْ
نُمَكِّنْ لَكُمْ» اتساعا في الكلام و قد قال «مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ» و إنما لم
يقل ما لم نمكنكم لأن العرب تقول مكنته و مكنت له كما تقول نصحته و نصحت له.
المعنى
ثم حذرهم
سبحانه ما نزل بالأمم قبلهم فقال «أَ لَمْ يَرَوْا» أي أ لم يعلم هؤلاء
الكفار «كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ» أي من أمة و
كل طبقة مقترنين في وقت قرن «مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ
نُمَكِّنْ لَكُمْ» معناه جعلناهم ملوكا و أغنياء كأنه سبحانه أخبر النبي عنهم في صدر
الكلام ثم خاطبه معهم و قال ابن عباس يريد أعطيناهم ما لم نعطكم و المعنى وسعنا
عليهم في كثرة العبيد و الأموال و الولاية و البسطة و طول العمر و نفاذ الأمر و
أنتم تسمعون أخبارهم و ترون ديارهم و آثارهم «وَ أَرْسَلْنَا
السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً» قال ابن عباس يريد به الغيث و البركة و
السماء معناه المطر هنا «وَ جَعَلْنَا الْأَنْهارَ» أي ماء الأنهار
«تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ» و لم يغن ذلك عنهم
شيئا لما طغوا و اجترءوا علينا «وَ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً
آخَرِينَ» أي خلقنا من بعد هلاكهم جماعة أخرى و في هذه الآية دلالة على وجوب
التفكر و التدبر و احتجاج على منكري البعث بأن من أهلك من قبلهم و أنشأ قوما آخرين
قادر على أن يفني العالم و ينشئ عالما آخر و يعيد الخلق بعد الإفناء.
427
مجمع البیان في تفسير القرآن4
[سورة الأنعام(6): آية 7] ص : 428
428
[سورة الأنعام (6): آية 7]
وَ لَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (7)
النزول
نزلت في نضر بن الحرث و عبد الله بن أبي أمية و نوفل بن خويلد قالوا يا محمد لن نؤمن لك حتى تأتينا بكتاب من عند الله و معه أربعة من الملائكة يشهدون عليه أنه من عند الله و أنك رسوله عن الكلبي.
المعنى
ثم أخبر سبحانه عن عنادهم فقال «وَ لَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ» يا محمد «كِتاباً فِي قِرْطاسٍ» أي كتابة في صحيفة و أراد بالكتاب المصدر و بالقرطاس الصحيفة و قيل كتابا معلقا من السماء إلى الأرض عن ابن عباس «فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ» أي فعاينوا ذلك معاينة و مسوه بأيديهم عن قتادة و غيره قالوا اللمس باليد أبلغ في الإحساس من المعاينة و لذلك قال «فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ» دون أن يقول فعاينوه «لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ» أخبر سبحانه أنهم يدفعون الدليل حتى لو أتاهم الدليل مدركا بالحس لنسبوا ذلك إلى السحر لعظم عنادهم و قساوة قلوبهم و في هذه الآية دلالة على ما يقوله أهل العدل في اللطف لأنه تعالى بين أنه إنما لم يفعل ما سألوه حيث علم أنهم لا يؤمنون عنده.
[سورة الأنعام (6): الآيات 8 الى 10]
وَ قالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَ لَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (8) وَ لَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَ لَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (9) وَ لَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (10)
اللغة
قال الزجاج قضي في اللغة على ضروب كلها يرجع إلى معنى انقطاع الشيء و تمامه و قد ذكرنا معاني القضاء في سورة البقرة عند قوله إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ يقال لبست الأمر على القوم ألبسه لبسا إذا شبهته عليهم و جعلته مشكلا قال ابن السكيت يقال لبست عليه الأمر إذا خلطته عليه حتى لا يعرف جهته و معنى اللبس منع النفس
428
مجمع البیان في تفسير القرآن4
المعنى ص : 429
من إدراك
الشيء بما هو كالستر له و أصله من الستر بالثوب و هو لبس الثوب لأنه يستر النفس
يقال لبست الثوب ألبسه لباسا و لبسا و الحيق ما يشتمل على الإنسان من مكروه فعله
يقال حاق بهم يحيق حيقا و حيوقا و حيقانا بفتح الياء.
المعنى
ثم أخبر
سبحانه عن هؤلاء الكفار أنهم «قالُوا لَوْ لا» أي هلا
«أُنْزِلَ عَلَيْهِ» أي على محمد «مَلَكٌ» نشاهده فنصدقه ثم
أخبر تعالى عن عظم عنادهم فقال «وَ لَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً» على ما
اقترحوه لما آمنوا به و اقتضت الحكمة استئصالهم و أن لا ينظرهم و لا يمهلهم و ذلك
معنى قوله «لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ» أي لأهلكوا
بعذاب الاستئصال عن الحسن و قتادة و السدي و قيل معناه لو أنزلنا ملكا في صورته
لقامت الساعة أو وجب استئصالهم عن مجاهد ثم قال تعالى «وَ لَوْ
جَعَلْناهُ مَلَكاً» أي لو جعلنا الرسول ملكا أو الذي ينزل عليه ليشهد
بالرسالة كما يطلبون ذلك «لَجَعَلْناهُ رَجُلًا» لأنهم لا
يستطيعون أن يروا الملك في صورته لأن أعين الخلق تحار عن رؤية الملائكة إلا بعد
التجسم بالأجسام الكثيفة و لذلك كانت الملائكة تأتي الأنبياء في صورة الإنس و كان
جبرائيل يأتي النبي ص في صورة دحية الكلبي و كذلك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب و
إتيانهم إبراهيم و لوطا في صورة الضيفان من الآدميين «وَ لَلَبَسْنا
عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ» قال الزجاج كانوا هم يلبسون على ضعفتهم في
أمر النبي فيقولون إنما هذا بشر مثلكم فقال لو أنزلنا ملكا فرأوا هم الملك رجلا
لكان يلحقهم فيه من اللبس مثل ما لحق ضعفتهم منهم أي فإنما طلبوا حال لبس لا حال
بيان و هذا احتجاج عليهم بأن الذي طلبوه لا يزيدهم بيانا بل يكون الأمر في ذلك على
ما هم عليه من الحيرة و قيل معناه و لو أنزلنا ملكا لما عرفوه إلا بالتفكر و هم لا
يتفكرون فيبقون في اللبس الذي كانوا فيه فأضاف اللبس إلى نفسه لأنه يقع عند إنزاله
الملائكة ثم قال سبحانه على سبيل التسلية لنبيه من تكذيب المشركين إياه و
استهزائهم به «وَ لَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ» يقول لقد
استهزأت الأمم الماضية برسلها كما استهزأ بك قومك فلست بأول رسول استهزئ به و لا
هم أول أمة استهزأت برسولها «فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ» أي فحل
بالساخرين منهم «ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» من وعيد أنبيائهم
بعاجل العقاب في الدنيا و قيل معنى حاق بهم أحاط بهم عن الضحاك و هو اختيار الزجاج
أي أحاط بهم العذاب الذي هو جزاء استهزائهم فهو من باب حذف المضاف إذا جعلت ما في
قوله «ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» عبارة عن القرآن و
الشريعة و إن جعلت ما عبارة عن العذاب الذي كان يوعدهم به النبي إن لم يؤمنوا
استغنيت عن تقدير
429
مجمع البیان في تفسير القرآن4
[سورة الأنعام(6): الآيات 11 الى 13] ص : 430
حذف المضاف و يكون المعنى فحاق بهم العذاب الذي كانوا يسخرون من وقوعه.
[سورة الأنعام (6): الآيات 11 الى 13]
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11) قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (12) وَ لَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13)
الإعراب
قال الأخفش «الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ» بدل من الكاف و الميم في ليجمعنكم و قال الزجاج هو في موضع رفع على الابتداء و خبره «فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ» لأن ليجمعنكم مشتمل على سائر الخلق الذين خسروا أنفسهم و غيرهم قال و اللام في ليجمعنكم لام قسم فجائز أن يكون تمام الكلام كتب ربكم على نفسه الرحمة ثم استأنف فقال ليجمعنكم و المعنى و الله ليجمعنكم و جائز أن يكون ليجمعنكم بدلا من الرحمة مفسرا لها لأنه لما قال كتب ربكم على نفسه الرحمة فسر رحمته بأنه يمهلهم إلى يوم القيامة ليتوبوا.
المعنى
ثم خاطب سبحانه نبيه ص فقال «قُلْ» يا محمد لهؤلاء الكفار «سِيرُوا فِي الْأَرْضِ» أي سافروا فيها «ثُمَّ انْظُرُوا» و النظر طلب الإدراك بالبصر و بالفكر و بالاستدلال و معناه هنا فانظروا بأبصاركم و تفكروا بقلوبكم «كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ» المستهزءين و إنما أمرهم بذلك لأن ديار المكذبين من الأمم السالفة كانت باقية و أخبارهم في الخسف و الهلاك كانت شائعة فإذا سار هؤلاء في الأرض و سمعوا أخبارهم و عاينوا آثارهم دعاهم ذلك إلى الإيمان و زجرهم عن الكفر و الطغيان ثم قال «قُلْ» يا محمد لهؤلاء الكفار «لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ» الله الذي خلقهما أم الأصنام فإن أجابوك فقالوا الله و إلا ف «قُلْ» أنت «لِلَّهِ» أي ملكهما و خلقهما و التصرف فيهما كيف يشاء له «كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ» أي أوجب على نفسه الإنعام على خلقه و قيل معناه أوجب على نفسه الثواب لمن أطاعه و قيل
430
مجمع البیان في تفسير القرآن4
المعنى ص : 430
أوجب على
نفسه الرحمة بإنظاره عباده و إمهاله إياهم ليتداركوا ما فرطوا فيه و يتوبوا عن
معاصيهم و قيل أوجب على نفسه الرحمة لأمة محمد بأن لا يعذبهم عند التكذيب كما عذب
من قبلهم من الأمم الماضية و القرون الخالية عند التكذيب بل يؤخرهم إلى يوم
القيامة عن الكلبي «لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ» أي ليؤخرن
جمعكم إلى يوم القيامة فيكون تفسيرا للرحمة على ما ذكرناه أن المراد به إمهال
العاصي ليتوب و قيل إن هذا احتجاج على من أنكر البعث و النشور و يقول ليجمعنكم إلى
اليوم الذي أنكرتموه كما تقول جمعت هؤلاء إلى هؤلاء أي ضممت بينهم في الجمع يريد
بجمع آخركم إلى أولكم قرنا بعد قرن إلى يوم القيامة و هو الذي «لا
رَيْبَ فِيهِ» و قيل معناه ليجمعن هؤلاء المشركين الذين خسروا أنفسهم إلى هذا
اليوم الذي يجحدونه و يكفرون به عن الأخفش و يسأل عن هذا فيقال كيف يحذر المشركين
بالبعث و هم لا يصدقون به و الجواب أنه جار مجرى الإلزام و أيضا فإنه تعالى إنما
ذكر ذلك عقيب الدليل و يقال كيف نفى الريب مطلقا فقال لا ريب فيه و الكافر مرتاب
فيه و الجواب أن الحق حق و إن ارتاب فيه المبطل و أيضا فإن الدلائل تزيل الشك و
الريب فإن نعم الدنيا تعم المحسن و المسيء فلا بد من دار يتميز فيه المحسن من
المسيء و أيضا فقد صح أن التكليف تعريف للثواب و إذا لم يمكن إيصال الثواب في
الدنيا لأن من شأنه أن يكون صافيا من الشوائب فلا يكون مقترنا بالتكليف لأن
التكليف لا يعري من المشقة فلا بد من دار أخرى و أيضا فإن التمكين من الظلم من غير
انتصاف في العاجل و إنزال الأمراض من غير استحقاق و لا إيفاء عوض في العاجل توجب
قضية العقل في ذلك أن يكون دار أخرى توفى فيها الأعواض و ينتصف من المظلوم للظالم
«الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ» أي أهلكوها بارتكاب الكفر و العناد «فَهُمْ
لا يُؤْمِنُونَ» أي لا يصدقون بالحق و لما ذكر تعالى ملك السماوات و الأرض عقبه بذكر
ما فيهما فقال «وَ لَهُ ما سَكَنَ» أي و له كل متمكن ساكن «فِي
اللَّيْلِ وَ النَّهارِ» خلقا و ملكا و ملكا و إنما ذكر الليل و النهار هنا و ذكر
السماوات و الأرض فيما قبل لأن الأول يجمع المكان و الثاني يجمع الزمان و هما
ظرفان لكل موجود فكأنه أراد الأجسام و الأعراض و على هذا فلا يكون السكون في الآية
ما هو خلاف الحركة بل المراد به الحلول كما قال ابن الأعرابي إنه من قولهم فلان
يسكن بلد كذا أي يحله و هذا موافق لقول ابن عباس و له ما استقر في الليل و النهار
من خلق و قيل معناه ما سكن في الليل للاستراحة و تحرك في النهار للمعيشة و إنما
ذكر الساكن دون المتحرك لأنه أعم و أكثر و لأن عاقبة التحرك السكون و لأن النعمة
في السكون أكثر و الراحة فيه أعم و قيل أراد الساكن و المتحرك و تقديره
431
مجمع البیان في تفسير القرآن4
[سورة الأنعام(6): الآيات 14 الى 15] ص : 432
و له ما سكن و تحرك إلا أن العرب قد تذكر أحد وجهي الشيء و تحذف الآخر لأن المذكور ينبه على المحذوف كقوله تعالى «سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ» و المراد الحر و البرد و متى قيل لما ذا ذكر السكون و الحركة من بين سائر المخلوقات فالجواب لما في ذلك من التنبيه على حدوث العالم و إثبات الصانع لأن كل جسم لا ينفك من الحوادث التي هي الحركة و السكون فإذا لا بد من محرك و مسكن لاستواء الوجهين في الجواز و لما نبه على إثبات الصانع عقبه بذكر صفته فقال «وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» و السميع هو الذي على صفة يصح لأجلها أن يسمع المسموعات إذا وجدت و هو كونه حيا لا آفة به و لذلك يوصف به فيما لم يزل و العليم هو العالم بوجوده التدابير في خلقه و بكل ما يصح أن يعلم و إنما جعل الليل و النهار في هذه الآية كالمسكن لما اشتملا عليه لأنه ليس يخرج منهما شيء فجمع كل الأشياء بهذا اللفظ القليل الحروف و هذا من أفصح ما يمكن كما قال النابغة:
فإنك كالليل الذي هو مدركي
|
|
و إن خلت إن المنتأى عنك واسع
|
فجعل الليل مدركا له إذ كان مشتملا عليه.
[سورة الأنعام (6): الآيات 14 الى 15]
قُلْ أَ غَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ هُوَ يُطْعِمُ وَ لا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَ لا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15)
القراءة
روي في الشواذ قراءة عكرمة و الأعمش و لا يطعم بفتح الياء و معناه و لا يأكل.
اللغة
الفطرة ابتداء الخلقة قال ابن عباس ما كنت أدري معنى الفاطر حتى احتكم
432
مجمع البیان في تفسير القرآن4
الإعراب ص : 433
إلي أعرابيان في بئر فقال أحدهما أنا فطرتها أي ابتدأت حفرها و أصل الفطر الشق و منه إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ أي انشقت قال الزجاج فإن قال قائل كيف يكون الفطر في معنى الخلق و الانفطار في معنى الانشقاق قيل إنهما يرجعان إلى شيء واحد لأن معنى فطرهما خلقهما خلقا قاطعا.
الإعراب
غير نصب لأنه مفعول «أَتَّخِذُ وَلِيًّا» مفعول ثان و قوله «إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي» فيه وجهان أحدهما أنه اعتراض بين الكلام كما يكون الاعتراض بالأقسام فعلى هذا لا موضع له من الإعراب و الآخر أنه في موضع نصب على الحال فكأنه قيل إني أخاف عاصيا ربي عذاب يوم عظيم و يكون جواب الشرط محذوفا على الوجهين جميعا.
النزول
قيل إن أهل مكة قالوا لرسول الله يا محمد تركت ملة قومك و قد علمنا أنه لا يحملك على ذلك إلا الفقر فإنا نجمع لك من أموالنا حتى تكون من أغنانا فنزلت الآية.
المعنى
«قُلْ» يا محمد لهؤلاء المشركين الذين سبق ذكرهم «أَ غَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا» أي مالكا و مولى و ولي الشيء مالكه الذي هو أولى من غيره و المعنى لا أتخذ غير الله وليا إلا أن إخراجه على لفظ الاستفهام أبلغ من سائر ألفاظ النفي «فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ» أي خالقهما و منشئهما من غير احتذاء على مثال «وَ هُوَ يُطْعِمُ وَ لا يُطْعَمُ» أي يرزق و لا يرزق و المراد يرزق الخلق و لا يرزقه أحد و قيل إنما ذكر الإطعام لأن حاجة العباد إليه أشد و لأن نفيه عن الله أدل على نفي شبهه بالمخلوقين لأن الحاجة إلى الطعام لا تجوز إلا على الأجسام و احتج سبحانه بهذا على الكفار لأن من خلق السماوات و الأرض و أنشأ ما فيهما و أحكم تدبيرها و أطعم من فيهما و هم فقراء إليه معلوم أنه الذي ليس كمثله شيء و هو القادر القاهر الغني الحي فلا يجوز لمن عرف ذلك أن يعبد غيره «قُلْ» يا محمد «إِنِّي أُمِرْتُ» أي أمرني ربي «أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ» أي استسلم لأمر الله و رضي بحكمه و قيل معناه أمرت أن كون أول من أخلص العبادة من أهل هذا الزمان عن الكلبي و قيل أول من أسلم من أمتي و آمن بعد الفترة عن الحسن و إنما كان أول لأنه خص بالوحي و قيل معناه أن أكون أول من خضع و آمن و عرف الحق من قومي و أن أترك ما هم عليه من الشرك و نظيره قول موسى سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَ أَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ أي بأنك لا ترى ممن سألك أن تريه نفسك و قول السحرة إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ بأن هذا ليس بسحر و أنه
433
مجمع البیان في تفسير القرآن4
[سورة الأنعام(6): آية 16] ص : 434
الحق أي أول المؤمنين من السحرة «وَ لا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» المعنى أمرت بالأمرين جميعا أي أمرت بالإيمان و نهيت عن الشرك و تقديره و قيل لي لا تكونن من المشركين و صار أمرت بدلا من ذلك لأنه حين قال أمرت أخبر أنه قيل له ذلك فقوله «وَ لا تَكُونَنَّ» معطوف على ما قبله في المعنى «قُلْ» يا محمد «إِنِّي أَخافُ» قيل معناه أوقن و أعلم و قيل هو من الخوف «إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي» بترك أمره و ترك نهيه و قيل بعبادة غيره و قيل باتخاذ غيره وليا «عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ» يعني يوم القيامة و معنى العظيم هنا أنه شديد على العباد و عظيم في قلوبهم.
[سورة الأنعام (6): آية 16]
مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَ ذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16)
القراءة
قرأ حمزة و الكسائي و خلف و يعقوب و أبو بكر عن عاصم من يصرف بفتح الياء و كسر الراء و الباقون «يُصْرَفْ» بضم الياء و فتح الراء.
الحجة
قال أبو علي فاعل يصرف الضمير العائد إلى ربي و ينبغي أن يكون حذف الضمير العائد إلى العذاب و المعنى من يصرفه عنه و كذلك في قراءة أبي فيما زعموا و ليس حذف هذا الضمير بالسهل و ليس بمنزلة الضمير الذي يحذف من الصلة لأن من جزاء و لا يكون صلة على أن الضمير إنما يحذف من الصلة إذا عاد إلى الموصول نحو أَ هذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا و سَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى أي بعثهم و اصطفاهم و لا يعود الضمير المحذوف هنا إلى موصول و لا إلى من التي للجزاء و إنما يرجع إلى العذاب في قوله «عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ» و ليس هذا بمنزلة قوله وَ الْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَ الْحافِظاتِ لأن هذا فعل واحد قد تكرر و عدي الأول منهما إلى المفعول فعلم بتعدية الأول أن الثاني بمنزلته و أما قراءة من قرأ «يُصْرَفْ» فالمسند إليه الفعل المبني للمفعول ضمير العذاب المتقدم ذكره و الذكر العائد إلى المبتدأ الذي هو من في القراءتين جميعا الضمير الذي في عنه و مما يقوي قراءة من قرأ يصرف بفتح الياء أن ما بعده من قوله «فَقَدْ رَحِمَهُ» مسند إلى ضمير اسم الله تعالى فقد اتفق الفعلان في الإسناد إلى هذا الضمير و مما يقوي ذلك أيضا أن الهاء المحذوفة من يصرفه لما كانت في حيز الجزاء و كان ما في حيزه في أنه لا يتسلط على ما تقدمه بمنزلة ما في الصلة في أنه لا يجوز أن يتسلط على الموصول حسن حذف الهاء منه كما حسن حذفها من الصلة.
المعنى
«مَنْ يُصْرَفْ» العذاب «عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ» الله يريد من غفر له فإنه
434
مجمع البیان في تفسير القرآن4
[سورة الأنعام(6): الآيات 17 الى 18] ص : 435
يثيبه الله لا محالة و ذكر سبحانه الرحمة مع صرف العذاب لئلا يتوهم أنه ليس له إلا صرف العذاب عنه فقط «وَ ذلِكَ الْفَوْزُ» أي الظفر بالبغية «الْمُبِينُ» الظاهر البين و يحتمل أن يكون معنى الآية أنه لا يصرف العذاب عن أحد إلا برحمة الله كما
روي أن النبي ص قال و الذي نفسي بيده ما من الناس أحد يدخل الجنة بعمله قالوا و لا أنت يا رسول الله قال و لا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه و فضل و وضع يده على فوق رأسه و طول بها صوته رواه الحسن في تفسيره.
[سورة الأنعام (6): الآيات 17 الى 18]
وَ إِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَ إِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَ هُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَ هُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18)
المعنى
ثم بين سبحانه أنه لا يملك النفع و الضر إلا هو فقال «وَ إِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ» أي إن يمسك بفقر أو مرض أو مكروه «فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ» أي لا مزيل و لا مفرج له عنك إلا هو و لا يملك كشفه سواه مما يعبده المشركون «وَ إِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ» أي و إن يصبك بغنى أو سعة في الرزق أو صحة في البدن أو شيء من محاب الدنيا «فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ» من الخير و الضر «قَدِيرٌ» و لا يقدر أحد على دفع ما يريده لعباده من مكروه أو محبوب فإن قيل إن المس من صفات الأجسام فكيف قال «إِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ» قلنا الباء للتعدية و المراد أن أمسك الله ضرا أي جعل الضر يمسك فالفعل للضر و إن كان في الظاهر قد أسند إلى اسم الله تعالى و الضر اسم جامع لكل ما يتضرر به من المكاره كما أن الخير اسم جامع لكل ما ينتفع به «وَ هُوَ الْقاهِرُ» و معناه القادر على أن يقهر غيره «فَوْقَ عِبادِهِ» معنى فوق هاهنا قهره و استعلاؤه عليهم فهم تحت تسخيره و تذليله بما علاهم به من الاقتدار الذي لا ينفك منه أحد و مثله قوله تعالى يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ يريد أنه أقوى منهم «وَ هُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ» معناه أنه مع قدرته عليهم لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة و الخبير العالم بالشيء و تأويله أنه العالم بما يصح أن يخبر به و الخبر علمك بالشيء تقول لي به خبر أي علم و أصله من الخبر لأنه طريق من طرق العلم فإذا كان القاهر على ما ذكرناه بمعنى القادر صح وصفه سبحانه فيما لم يزل بأنه قاهر و قال بعضهم لا يسمى قاهرا إلا بعد أن يقهر غيره فعلى هذا
435
مجمع البیان في تفسير القرآن4
[سورة الأنعام(6): الآيات 19 الى 20] ص : 436
يكون من صفات الأفعال فلا يصح وصفه فيما لم يزل به.
[سورة الأنعام (6): الآيات 19 الى 20]
قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ أُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَ مَنْ بَلَغَ أَ إِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَ إِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20)
الإعراب
شهادة نصب على التمييز و من بلغ في محل نصب بالإنذار و العائد إلى الموصول محذوف و أ إنكم كتب بالياء لأن الهمزة التي قبلها همزة تخفف بأن تجعل بين بين فإذا كانت مكسورة تجعل بين الهمزة و الياء فكتب بالياء «الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ» رفع بالابتداء و يعرفونه خبره «الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ» رفع بكونه نعتا للذين الأولى و يجوز أن يكون رفعا بالابتداء و قوله «فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ» خبره.
النزول
قال الكلبي أتى أهل مكة رسول الله ص فقالوا أ ما وجد الله رسولا غيرك ما نرى أحدا يصدقك فيما تقول و لقد سألنا عنك اليهود و النصارى فزعموا أنه ليس لك عندهم ذكر فأرنا من يشهد أنك رسول الله كما تزعم فأنزل الله تعالى هذه الآية.
المعنى
«قُلْ» يا محمد لهؤلاء الكفار «أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ» أي أعظم «شَهادَةً» و أصدق حتى آتيكم به و أدلكم بذلك على أني صادق و قيل معناه أي شيء أكبر شهادة حتى يشهد لي بالبلاغ و عليكم بالتكذيب عن الجبائي و قيل معناه أي شيء أعظم حجة و أصدق شهادة عن ابن عباس فإن قالوا الله و إلا ف «قُلْ» لهم «اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ» يشهد لي بالرسالة و النبوة و قيل معناه يشهد لي بتبليغ الرسالة إليكم و تكذيبكم إياي «وَ أُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ» أي أنزل إلي حجة أو شهادة على صدقي «لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ» أي لأخوفكم به من عذاب الله تعالى «وَ مَنْ بَلَغَ» أي و لا خوف به من بلغه القرآن إلى يوم القيامة و
روى الحسن في تفسيره
436
مجمع البیان في تفسير القرآن4
المعنى ص : 436
عن النبي ص
أنه قال من بلغه أني أدعو إلى أن لا إله إلا الله فقد بلغه
يعني بلغته
الحجة و قامت عليه و قال محمد بن كعب من بلغه القرآن فكأنما رأى محمدا و سمع منه و
قال مجاهد حيث ما يأتي القرآن فهو داع و نذير و قرأ هذه الآية و
في تفسير
العياشي قال أبو جعفر و أبو عبد الله (ع) من بلغ معناه من بلغ أن يكون إماما
من آل محمد فهو ينذر بالقرآن كما أنذر به رسول الله ص
و على هذا
فيكون قوله «وَ مَنْ بَلَغَ» في موضع رفع عطفا على الضمير في أنذر و في
الآية دلالة على أن الله تعالى يجوز أن يسمي شيئا لأن قوله «أَيُّ شَيْءٍ
أَكْبَرُ شَهادَةً» جاء جوابه «قُلِ اللَّهُ» و معنى الشيء إنه
ما يصح أن يعلم و يخبر عنه فالله سبحانه شيء لا كالأشياء بمعنى أنه معلوم لا
كالمعلومات التي هي الجواهر و الأعراض و الاشتراك في الاسم لا يوجب التماثل و في
قوله «وَ مَنْ بَلَغَ» دلالة على أنه خاتم الأنبياء و مبعوث إلى
الناس كافة ثم قال سبحانه موبخا لهم قل يا محمد لهم «أَ إِنَّكُمْ
لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى» هذا استفهام معناه
الجحد و الإنكار و تقديره كيف تشهدون أن مع الله آلهة أخرى بعد وضوح الأدلة و قيام
الحجة بوحدانية الله تعالى و إنما قال «أُخْرى» و لم يقل آخر لأن
الآلهة جمع و الجمع مؤنث فهو كقوله وَ لِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى و قوله فَما بالُ
الْقُرُونِ الْأُولى و لم يقل الأول ثم قال سبحانه لنبيه «قُلْ» أنت يا محمد «لا
أَشْهَدُ» بمثل ذلك و إن شهدتم بإثبات الشريك لله بعد قيام الحجة بوحدانية
الله تعالى و الشاهد هو المبين لدعوى المدعي ثم قال «قُلْ» يا محمد لمن
شهد أن معه آلهة أخرى «إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَ إِنَّنِي بَرِيءٌ
مِمَّا تُشْرِكُونَ» به و بعبادته من الأوثان و غيرها و لهذا قال أهل العلم يستحب
لمن أسلم ابتداء أن يأتي بالشهادتين و يتبرأ من كل دين سوى الإسلام ثم ذكر سبحانه
أن الكفار بين جاهل و معاند فقال «الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ
يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ» و هذا مفسر في سورة
البقرة «الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ» مفسر في هذه
السورة فإن حملته على أنه صفة للذين الأولى فالمعني به أهل الكتاب و إن حملته على
الابتداء فإنه يتناول جميع الكفار و قال أبو حمزة الثمالي لما قدم النبي ص المدينة
قال عمر لعبد الله بن سلام إن الله تعالى أنزل على نبيه ص أن أهل الكتاب يعرفونه
كما يعرفون أبناءهم كيف هذه المعرفة قال عبد الله بن سلام نعرف نبي الله بالنعت
الذي نعته الله إذا رأيناه فيكم كما يعرف أحدنا ابنه إذا رآه بين الغلمان و أيم
الله الذي يحلف به ابن سلام لأنه بمحمد أشد معرفة مني بابني فقال له كيف قال عبد
الله عرفته بما نعته الله لنا في كتابنا فأشهد أنه هو فأما ابني فإني لا أدري ما
أحدثت أمه فقال قد وفقت و صدقت و أصبت.
437
مجمع البیان في تفسير القرآن4
[سورة الأنعام(6): الآيات 21 الى 22] ص : 438
[سورة الأنعام (6): الآيات 21 الى 22]
وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21) وَ يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22)
القراءة
و يوم يحشرهم ثم يقول بالياء فيهما قراءة يعقوب وحده و كذلك في الفرقان و في سبإ و قرأ في سائر القرآن بالنون و قرأ حفص هنا و في يونس بالنون و في سائر القرآن بالياء و قرأ أبو جعفر و ابن كثير في الفرقان بالياء و في سائر القرآن بالنون و قرأ الباقون بالنون في جميع القرآن.
الحجة
من قرأ بالياء رده إلى الله في قوله عَلَى اللَّهِ كَذِباً و من قرأ بالنون ابتداء و الياء في المعنى كالنون.
الإعراب
«يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ» العامل فيه محذوف على معنى و اذكر يوم نحشرهم و قيل إنه معطوف على محذوف كأنه قيل لا يفلح الظالمون أبدا و يوم نحشرهم و العائد إلى الموصول محذوف من «الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ» و تقديره تزعمون أنهم شركاء أو تزعمونهم شركاء فحذف مفعولي الزعم لدلالة الكلام و حالة السؤال عليه.
المعنى
ثم بين سبحانه ما يلزمهم من التوبيخ و التهجين بالإشراك فقال «وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً» معناه و من أكفر ممن اختلق على الله كذبا فأشرك به الآلهة عن ابن عباس و هذا استفهام معناه الجحد أي لا أحد أظلم منه لأن جوابه كذلك فاكتفى من الجواب بما يدل عليه «أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ» أي بالقرآن و بمحمد و معجزاته «إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ» أي لا يفوز برحمة الله و ثوابه و رضوانه و لا بالنجاة من النار الظالمون و الظالم هاهنا هو الكافر بنبوة محمد (ص) المكذب بآياته الجاحد لها بقوله ما نصب الله آية على نبوته «وَ يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً» عنى بهم من تقدم ذكرهم من الكفار لأنه سبحانه يحشرهم يوم القيامة من قبورهم إلى موضع الحساب «ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ» اختلف في وجه هذا السؤال فقيل إن المشركين إذا رأوا تجاوز الله تعالى عن أهل التوحيد قال بعضهم لبعض إذا سئلتم فقولوا أنا موحدون فلما جمعهم الله قال لهم أين شركاؤكم
438
مجمع البیان في تفسير القرآن4
[سورة الأنعام(6): الآيات 23 الى 24] ص : 439
ليعلموا أن الله يعرف أنهم أشركوا به في دار الدنيا و أنه لا ينفعهم الكتمان عن مقاتل و قيل إن المشركين كانوا يزعمون أن آلهتهم تشفع لهم عند الله فقيل لهم يوم القيامة «أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ» أنها تشفع لكم توبيخا لهم و تبكيتا على ما كانوا يدعونه عن أكثر المفسرين و إنما أضاف الشركاء إليهم لأنهم اتخذوها لأنفسهم و معنى تزعمون تكذبون قال ابن عباس و كل زعم في كتاب الله كذب و في هذه الآية دلالة واضحة على بطلان مذهب الجبر و على إثبات المعاد و حشر جميع الخلق.
[سورة الأنعام (6): الآيات 23 الى 24]
ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا وَ اللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (24)
القراءة
قرأ أهل المدينة و أبو عمرو و أبو بكر عن عاصم و خلف «ثُمَّ لَمْ تَكُنْ» بالتاء فتنتهم بالنصب و قرأ ابن كثير و ابن عامر و حفص عن عاصم «ثُمَّ لَمْ تَكُنْ» بالتاء أيضا «فِتْنَتُهُمْ» بالرفع و قرأ حمزة و الكسائي و يعقوب ثم لم يكن بالياء فتنتهم بالنصب و قرأ حمزة و الكسائي و خلف و الله ربنا بالنصب و قرأ الباقون بالجر.
الحجة
من قرأ «تَكُنْ» بالتاء فتنتهم بالنصب فإنه أنث «أَنْ قالُوا» لما كان القول الفتنة في المعنى كما قال فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها فأنث الأمثال لما كانت في المعنى الحسنات و مما جاء في الشعر قول لبيد:
فمضى و قدمها و كانت عادة
|
|
منه إذا هي عردت أقدامها
|
فأنث الأقدام لما كانت العادة في المعنى قال الزجاج و يجوز أن يكون تأويل «إِلَّا أَنْ قالُوا» إلا مقالتهم و من قرأ «لَمْ تَكُنْ» بالتاء «فِتْنَتُهُمْ» رفعا أثبت علامة التأنيث في الفعل المسند إلى الفتنة و الفتنة مؤنثة و على هذه القراءة يكون قوله «إِلَّا أَنْ قالُوا» في موضع نصب بكونه خبر كان و من قرأ لم يكن بالياء فتنتهم نصبا فعلى أن قوله «أَنْ قالُوا» اسم كان و الأولى و الأقوى أن يكون فتنتهم نصبا و «أَنْ قالُوا» الاسم لأن أن إذا وصلت لم توصف فأشبهت بامتناع وصفها المضمر
439
مجمع البیان في تفسير القرآن4
اللغة ص : 440
فكما أن المضمر إذا كان مع المظهر كان، أن يكون المضمر الاسم أحسن، فكذلك أن إذا كانت مع اسم غيرها كانت، أن يكون الاسم أولى و أما من قرأ «وَ اللَّهِ رَبِّنا» فإنه جعل الاسم المضاف وصفا للمفرد و مثل ذلك رأيت زيدا صاحبنا و قوله «ما كُنَّا مُشْرِكِينَ» جواب للقسم و من قرأ ربنا بالنصب فصل بالاسم المنادى بين القسم و المقسم عليه و الفصل به لا يمتنع و قد فصل بالنداء بين الصلة و الموصول لكثرة النداء في الكلام و ذلك مثل قول الشاعر:
ذاك الذي و أبيك يعرف مالك
|
|
و الحق يدفع ترهات الباطل
|
و يجوز أن يكون نصبه على المدح بمعنى أعني ربنا و أذكر ربنا.
اللغة
قال الأزهري جماع الفتنة في كلام العرب الامتحان مأخوذ من قولك فتنت الذهب و الفضة إذا أذبتهما بالنار و أحرقتهما و قد فتن الرجل بالمرأة و افتتن و قد فتنته المرأة و أفتنته قال الشاعر:
لئن فتنتني لهي بالأمس أفتنت
|
|
عقيلا فأمسى قد قلى كل مسلم
|
. الإعراب
العامل في كيف قوله «كَذَبُوا» و لا يجوز أن يعمل فيه أنظر لأن الاستفهام له صدر الكلام فلا يجوز أن يعمل فيه ما قبله.
المعنى
ثم بين سبحانه جواب القوم عند توجه التوبيخ إليهم فقال «ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ» اختلف في معنى الفتنة هنا على وجوه (أحدها) إن معناه ثم لم يكن جوابهم لأنهم حين سألوا اختبر ما عندهم بالسؤال فلم يكن الجواب عن ذلك الاختبار إلا هذا القول (و ثانيها)
إن المراد لم يكن معذرتهم «إِلَّا أَنْ قالُوا» عن ابن عباس و قتادة و هو المروي عن أبي عبد الله (ع)
و هذا راجع إلى معنى الجواب (أيضا) (و ثالثها) ما قاله الزجاج أن تأويله حسن لطيف لا يعرفه إلا من عرف معاني الكلام و تصرف العرب في ذلك و الله عز و جل ذكر في هذه الآية الأقاصيص التي جرت من أمر المشركين و أنهم مفتنون بشركهم ثم أعلم أنه لم يكن افتتانهم بشركهم و إقامتهم عليه إلا أن تبرأوا منه و انتفوا منه فحلفوا أنهم ما
440
مجمع البیان في تفسير القرآن4
المعنى ص : 440
كانوا مشركين
و مثل ذلك في اللغة أن ترى إنسانا يحب غاويا فإذا وقع في هلكة تبرأ منه فتقول له
ما كانت محبتك فلانا إلا أن افتتنت منه فالفتنة هاهنا بمعنى الشرك و الافتتان
بالأوثان و يؤيد ذلك ما رواه عطا عن ابن عباس قال فتنتهم يريد شركهم في الدنيا و
هذا القول في التأويل يرجع إلى حذف المضاف لأن المعنى لم يكن عاقبة فتنتهم إلا
البراءة منها بقولهم «وَ اللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ» و يسأل
فيقال كيف يجوز أن يكذبوا في الآخرة و يحلفوا على الكذب و الدار ليست بدار تكليف و
كل الناس ملجئون فيها إلى ترك القبيح لمشاهدة الحقائق و زوال عوارض الشبه و الشكوك
و لمعرفتهم بالله سبحانه ضرورة و الجواب أن معناه ما كنا مشركين في الدنيا عند
أنفسنا و في اعتقادنا و تقديرنا و ذلك أن المشركين في الدنيا يعتقدون كونهم مصيبين
فيحلفون على هذا في الآخرة فعلى هذا يكون قولهم و حلفهم يقعان على وجه الصدق و قيل
أيضا أنهم إنما يحلفون على ذلك لزوال عقولهم بما يلحقهم من الدهشة من أهوال
القيامة ثم ترجع عقولهم فيقرون و يعترفون و يجوز أن ينسوا إشراكهم في الدنيا بما
يلحقهم من الدهشة عند مشاهدة تلك الأهوال «انْظُرْ» المعنى يقول الله
تعالى عند حلف هؤلاء أنظر يا محمد «كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ» و هذا و إن
كان لفظه لفظ الاستفهام فالمراد به التنبيه على التعجيب منهم و معناه أنظر إلى
إخباري عن افترائهم كيف هو فإنه لا يمكن النظر إلى ما يوجد في الآخرة و إنما كذبهم
الله سبحانه في قولهم و إن كانوا صادقين عند أنفسهم لأن الكذب هو الإخبار بالشيء
لا على ما هو به علم المخبر بذلك أو لم يعلم فلما كان قولهم «ما كُنَّا
مُشْرِكِينَ» كذبا في الحقيقة جاز أن يقال كذبوا على أنفسهم و قيل معناه أنظر كيف
كذبوا على أنفسهم في دار الدنيا لا أنهم كذبوا في الآخرة لأنهم كانوا مشركين على
الحقيقة و إن اعتقدوا أنهم على الحق عن الجبائي «وَ ضَلَّ
عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ» أي ضلت عنهم أوثانهم التي كانوا يعبدونها و
يفترون الكذب بقولهم هؤلاء شفعاؤنا عند الله غدا فذهبت عنهم في الآخرة فلم يحدوها
و لم ينتفعوا بها عن الحسن و قيل أنه عام في كل ما يعبد من دون الله تعالى أنها
تضل عن عابديها يوم القيامة و لا تغني عنهم شيئا و اختلف أهل العدل في أن أهل
الآخرة هل يجوز أن يقع منهم الكذب فالأصح أنه لا يجوز على ما قلناه و قال بعضهم
يجوز ذلك لما يلحقهم من الدهش و الحيرة في القيامة فإذا استقر أهل الجنة في الجنة
و أهل النار في النار فحينئذ لا يجوز أن يقع منهم القبيح و الكذب و يكون جميعهم
ملجئين إلى ترك القبيح و به قال أبو بكر بن الإخشيد و أصحابه و قال بعضهم أنه يجوز
وقوعه منهم على جميع الأحوال.
441
مجمع البیان في تفسير القرآن4
[سورة الأنعام(6): آية 25] ص : 442
[سورة الأنعام (6): آية 25]
وَ مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَ جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَ فِي آذانِهِمْ وَقْراً وَ إِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25)
اللغة
الأكنة جمع كنان و هو ما وقى شيئا و ستره مثل عنان و أعنة قال الليث كل شيء وقى شيئا فهو كنانة و كنه و الفعل منه كننت و أكننت و الكنة امرأة الابن أو الأخ لأنها في كنه و استكن الرجل من الحر و اكتن استتر و الوقر الثقل في الأذن و الوقر بكسر الواو الحمل قال أبو زيد وقرت أذنه توقر وقرا و قال الكسائي وقرت أذنه فهي موقورة قال الشاعر:
و كلام سيء قد وقرت
|
|
أذني منه و ما بي من صمم
|
و أساطير واحدتها أسطورة و أسطارة مأخوذ من سطر الكتاب و هو سطر و سطر فمن قال سطر جمعه أسطارا و من قال سطر فجمعه في القليل أسطر و الكثير سطور و قال رؤبة:
إني و أسطار سطرن سطرا
|
|
لقائل يا نصر نصرا نصرا
|
و جمع أسطار أساطير قال الزجاج و تأويل السطر في اللغة أن تجعل شيئا ممتدا مؤلفا و قال الأخفش أساطير جمع لا واحد له نحو أبابيل و مذاكير و قال بعضهم واحد الأبابيل إبيل بالتشديد و كسر الألف و الجدال الخصومة سمي بذلك لشدته و قيل أنه مشتق من الجدالة و هي الأرض لأن أحدهما يلقي صاحبه على الأرض.
الإعراب
«أَنْ يَفْقَهُوهُ» موضعه نصب على أنه مفعول له المعنى لكراهة أن يفقهوه فلما حذفت اللام نصبت الكراهة و لما حذفت الكراهة انتقل نصبها إلى أن قاله الزجاج يريد أنه حذف المضاف و أقيم المضاف إليه مقامه و «يُجادِلُونَكَ» في موضع نصب على الحال.
النزول
قيل أن نفرا من مشركي مكة منهم النضر بن الحارث و أبو سفيان بن حرب و الوليد بن المغيرة و عتبة بن ربيعة و أخوه شيبة و غيرهم جلسوا إلى رسول الله (ص) و هو يقرأ القرآن فقالوا للنضر ما يقول محمد فقال أساطير الأولين مثل ما كنت أحدثكم عن القرون الماضية فأنزل الله هذه الآية.
442
مجمع البیان في تفسير القرآن4
المعنى ص : 443
المعنى
ثم وصف الله
سبحانه حالهم عند استماع القرآن فقال «وَ مِنْهُمْ» أي و من الكفار
الذين تقدم ذكرهم «مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ» يريد يستمعون إلى
كلامك قال مجاهد يعني قريشا «وَ جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ
أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَ فِي آذانِهِمْ وَقْراً» قد ذكرنا الكلام فيه
في سورة البقرة عند قوله «خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ» و قال
القاضي أبو عاصم العامري أصح الأقوال فيه ما روي أن النبي (ص) كان يصلي بالليل و
يقرأ القرآن في الصلاة جهرا رجاء أن يستمع إلى قراءته إنسان فيتدبر معانيه و يؤمن
به فكان المشركون إذا سمعوه آذوه و منعوه عن الجهر بالقراءة فكان الله تعالى يلقي
عليهم النوم أو يجعل في قلوبهم أكنة ليقطعهم عن مرادهم و ذلك بعد ما بلغهم مما
تقوم به الحجة و تنقطع به المعذرة و بعد ما علم الله سبحانه أنهم لا ينتفعون
بسماعه و لا يؤمنون به فشبه إلقاء النوم عليهم بجعل الغطاء على قلوبهم و بوقر
آذانهم لأن ذلك كان يمنعهم من التدبر كالوقر و الغطاء و هذا معنى قوله تعالى «وَ إِذا
قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَ بَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ
بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً» و هو قول أبي علي الجبائي و يحتمل ذلك وجها
آخر و هو أنه تعالى يعاقب هؤلاء الكفار الذين علم أنهم لا يؤمنون بعقوبات يجعلها
في قلوبهم تكون موانع من أن يفهموا ما يسمعونه و يحتمل أيضا أن يكون سمي الكفر الذي
في قلوبهم كنا تشبيها و مجازا و إعراضهم عن تفهم القرآن وقرا توسعا لأن مع الكفر و
الإعراض لا يحصل الإيمان و الفهم كما لا يحصلان مع الكن و الوقر و نسب ذلك إلى
نفسه لأنه الذي شبه أحدهما بالآخر كما يقول أحدنا لغيره إذا أثنى على إنسان و ذكر
مناقبه جعلته فاضلا و بالضد إذا ذكر مقابحه و فسقه يقول جعلته فاسقا و كما يقال
جعل القاضي فلانا عدلا و كل ذلك يراد به الحكم عليه بذلك و الإبانة عن حاله كما
قال الشاعر:
جعلتني
باخلا كلا و رب منى
|
|
إني
لأسمح كفا منك في اللزب
|
و معناه
سميتني باخلا «وَ إِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها» يريد و أن
يروا كل عبرة لم يصدقوا بها عن ابن عباس و قيل معناه و إن يروا كل علامة و معجزة
دالة على نبوتك لا يؤمنوا بها لعنادهم عن الزجاج و لو أجري معنى الآية على ظاهرها
لم يكن لهذا معنى لأن من لا يمكنه أن يسمع و يفقه لا يجوز أن يوصف بذلك و كان لا
يصح أن يصفهم بأنهم كذبوا بآياته و غفلوا عنها و هم ممنوعون عن ذلك و الذي يزيل
الإشكال أنه تعالى قال في وصف بعض
443
مجمع البیان في تفسير القرآن4
[سورة الأنعام(6): آية 26] ص : 444
الكفار «وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها» الآية و لو كان في أذنيه وقر مانع عن السماع مزيل للقدرة لكان لا معنى لقوله «كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً» و لكان لا يستحق المذمة لأنه لم يعط آلة السمع فكيف يذم على ترك السمع «حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ» يعني أنهم إذا دخلوا عليك بالنهار يجيئون مجيء مخاصمين مجادلين رادين عليك قولك و لم يجيؤوا مجيء من يريد الرشاد و النظر في الدلالة الدالة على توحيد الله و نبوة نبيه «يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا» أي ما هذا القرآن «إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ» أي أحاديث الأولين التي كانوا يسطرونها عن الضحاك و قيل معنى الأساطير الترهات و البسابس مثل حديث رستم و إسفنديار و غيره مما لا فائدة فيه و لا طائل تحته و قال بعضهم أن جدالهم هذا القول منهم و قيل هو مثل قولهم أ تأكلون ما تقتلونه بأيديكم و لا تأكلون ما قتله الله تعالى.
[سورة الأنعام (6): آية 26]
وَ هُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَ يَنْأَوْنَ عَنْهُ وَ إِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَ ما يَشْعُرُونَ (26)
اللغة
الناي البعد يقال نأيت عنه أنأى نأيا و منه أخذ النؤي و هو الحاجز حول البيت لئلا يدخله الماء.
المعنى
ثم كنى عن الكفار الذين تقدم ذكرهم فقال «وَ هُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَ يَنْأَوْنَ عَنْهُ» أي ينهون الناس عن اتباع النبي (ص) و يتباعدون عنه فرارا منه عن ابن عباس و محمد بن الحنفية و الحسن و السدي و قيل معناه ينهون الناس عن استماع القرآن لئلا يقع في قلوبهم صحته و يتباعدونهم عن استماعه عن قتادة و مجاهد و اختاره الجبائي و قيل عنى به أبا طالب بن عبد المطلب و معناه يمنعون الناس عن أذى النبي (ص) و لا يتبعونه عن عطا و مقاتل و هذا لا يصح لأن هذه الآية معطوفة على ما تقدمها و ما تأخر عنها معطوف عليها و كلها في ذم الكفار المعاندين للنبي (ص) هذا و قد ثبت إجماع أهل البيت (ع) على إيمان أبي طالب و إجماعهم حجة لأنهم أحد الثقلين اللذين أمر النبي (ص) بالتمسك بهما
بقوله إن تمسكتم بهما لن تضلوا
و يدل على ذلك أيضا ما
رواه ابن عمر أن أبا بكر جاء بأبيه أبي قحافة
444
مجمع البیان في تفسير القرآن4
المعنى ص : 444
يوم الفتح
إلى رسول الله (ص) فأسلم فقال (ص) أ لا تركت الشيخ فأتيه و كان أعمى فقال أبو بكر
أردت أن يأجره الله تعالى و الذي بعثك بالحق لأنا كنت بإسلام أبي طالب أشد فرحا
مني بإسلام أبي ألتمس بذلك قرة عينك فقال (ص) صدقت
و روى الطبري
بإسناده أن رؤساء قريش لما رأوا ذب أبي طالب عن النبي (ص) اجتمعوا عليه و قالوا
جئناك بفتى قريش جمالا و جودا و شهامة عمارة بن الوليد ندفعه إليك و تدفع إلينا
ابن أخيك الذي فرق جماعتنا و سفه أحلامنا فنقتله فقال أبو طالب ما أنصفتموني
تعطونني ابنكم فاغذوه و أعطيكم ابني فتقتلونه بل فليأت كل امرئ منكم بولده فأقتله
و قال:
منعنا
الرسول رسول المليك
|
|
ببيض
تلألأ كلمع البروق
|
أذود و
أحمي رسول المليك
|
|
حماية
حام عليه شفيق
|
و أقواله و
أشعاره المنبئة عن إسلامه كثيرة مشهورة لا تحصى فمن ذلك قوله:
أ لم
تعلموا أنا وجدنا محمدا
|
|
نبيا
كموسى خط في أول الكتب
|
أ ليس
أبونا هاشم شد أزره
|
|
و أوصى
بنيه بالطعان و بالحرب
|
و قوله من
قصيدة:
و قالوا
لأحمد أنت امرؤ
|
|
خلوف
اللسان ضعيف السبب
|
ألا إن
أحمد قد جاءهم
|
|
بحق و
لم يأتهم بالكذب
|
و قوله في
حديث الصحيفة و هو من معجزات النبي (ص):
و قد كان
في أمر الصحيفة عبرة
|
|
متى ما
يخبر غائب القوم يعجب
|
محا الله
منها كفرهم و عقوقهم
|
|
و ما
نقموا من ناطق الحق معرب
|
و أمسى
ابن عبد الله فينا مصدقا
|
|
على سخط
من قومنا غير معتب
|
و قوله في
قصيدة يحض أخاه حمزة على اتباع النبي و الصبر في طاعته:
صبرا أبا
يعلى على دين أحمد
|
|
و كن
مظهرا للدين وفقت صابرا
|
فقد سرني
إذ قلت إنك مؤمن
|
|
فكن
لرسول الله في الله ناصرا
|
و قوله من
قصيدة:
445
مجمع البیان في تفسير القرآن4
[سورة الأنعام(6): الآيات 27 الى 28] ص : 446
أقيم على نصر النبي محمد
|
|
أقاتل عنه بالقنا و القنابل
|
و قوله يحض النجاشي على نصر النبي:
تعلم مليك الحبش أن محمدا
|
|
وزير لموسى و المسيح بن مريم
|
أتى بهدى مثل الذي أتيا به
|
|
و كل بأمر الله يهدي و يعصم
|
و إنكم تتلونه في كتابكم
|
|
بصدق حديث لا حديث المرجم
|
فلا تجعلوا لله ندا و أسلموا
|
|
و إن طريق الحق ليس بمظلم
|
و قوله في وصيته و قد حضرته الوفاة:
أوصي بنصر النبي الخير مشهده
|
|
عليا ابني و شيخ القوم عباسا
|
و حمزة الأسد الحامي حقيقته
|
|
و جعفرا أن يذودوا دونه الناسا
|
كونوا فدى لكم أمي و ما ولدت
|
|
في نصر أحمد دون الناس أتراسا
|
في أمثال هذه الأبيات مما هو موجود في قصائده المشهورة و وصاياه و خطبة يطول بها الكتاب على أن أبا طالب لم ينأ عن النبي (ص) قط بل كان يقرب منه و يخالطه و يقوم بنصرته فكيف يكون المعنى بقوله «وَ يَنْأَوْنَ عَنْهُ» «وَ إِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ» معناه ما يهلكون بنهيهم عن قبوله و بعدهم عنه إلا أنفسهم «وَ ما يَشْعُرُونَ» أي و ما يعلمون إهلاكهم إياها بذلك.
[سورة الأنعام (6): الآيات 27 الى 28]
وَ لَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَ لا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَ نَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَ لَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (28)
القراءة
قرأ «وَ لا نُكَذِّبَ» «وَ نَكُونَ» بالنصب حفص عن عاصم و حمزة و يعقوب و قرأ ابن عامر «وَ نَكُونَ» بالنصب و قرأ الباقون بالرفع فيهن.
446
مجمع البیان في تفسير القرآن4
الحجة ص : 447
الحجة
قال أبو علي من قرأ بالرفع جاز فيه وجهان (أحدهما) أن يكون معطوفا على «نُرَدُّ» فيكون قوله و لا نكذب و نكون داخلا في التمني دخول «نُرَدُّ» فيه فعلى هذا تمني الرد و أن لا نكذب و الكون من المؤمنين و يحتمل الرفع وجها آخر و هو أن تقطعه من الأول و يكون التقدير يا ليتنا نرد و نحن لا نكذب و نكون و قال سيبويه هو على قولك فإنا لا نكذب كما يقول القائل دعني و لا أعود أي فإني ممن لا يعود فإنما يسألك الترك و قد أوجب على نفسه أن لا يعود ترك أو لم يترك و لم يرد أن يسألك أن تجمع له الترك و أن لا يعود و حجة من نصب فقال «وَ لا نُكَذِّبَ» «وَ نَكُونَ» أنه أدخل ذلك في التمني غير موجب لأن التمني غير موجب فهو كالاستفهام و الأمر و النهي في انتصاب ما بعد ذلك كله من الأفعال إذا دخلت عليها الفاء أو الواو على تقدير ذكر المصدر من الفعل الأول كأنه في التمثيل يا ليتنا يكون لنا رد و انتفاء التكذيب و الكون من المؤمنين و من رفع و لا نكذب و نصب «وَ نَكُونَ» فإن الفعل الذي هو لا نكذب يحتمل وجهين (أحدهما) أن يكون داخلا في التمني فيكون المعنى كالنصب (و الآخر) أن يخبر على البتات أن لا نكذب رد أو لم يرد و من نصبها جميعا جعلهما داخلين في التمني.
اللغة
يقال وقفت الدابة وقوفا و وقف غيره يقفه وقفا و حكي عن أبي عمرو أنه أجاز ما أوقفك هاهنا مع إخباره أنه لم يسمعه من العرب و بدا يبدو و بدوا إذا ظهر و فلان ذو بدوات إذا بدا له الرأي بعد الرأي و بدا لي في هذا الأمر بداء و البداء لا يجوز على الله سبحانه لأنه العالم بجميع المعلومات لم يزل و لا يزال.
الإعراب
«وَ لَوْ تَرى» جوابه محذوف و تقديره لرأيت أمرا هائلا و نحوه قوله تعالى «وَ لَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ» يريد إسكان هذا القرآن و هذه الأجوبة إنما تحذف لتعظيم الأمر و تفخيمه و مثله قول امرئ القيس:
و جئتك لو شيء أتانا رسوله
|
|
سواك و لكن لم نجد لك مدفعا
|
و تقديره لو أتانا رسول غيرك لما جئنا و يسأل فيقال لم جاز «وَ لَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا» و إذ هي للماضي و الجواب أن الخبر لصحته و صدق المخبر به صار بمنزلة ما وقع.
المعنى
ثم بين سبحانه ما ينال هؤلاء الكفار يوم القيامة من الحسرة و تمني الرجعة فقال «وَ لَوْ تَرى» يا محمد أو يا أيها السامع «إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ» فهذا يحتمل ثلاثة أوجه
447
مجمع البیان في تفسير القرآن4
المعنى ص : 447
جائز أن يكون
المعنى عاينوا النار و جائز أن يكونوا عليها و هي تحتهم قال الزجاج و الأجود أن
يكون معناه ادخلوها فعرفوا مقدار عذابها كما تقول في الكلام قد وقفت على ما عند
فلان تريد قد فهمته و تبينته و هذا و إن كان بلفظ المضي فالمراد به الاستقبال و
إنما جاز ذلك لأن كل ما هو كائن يوما مما لم يكن بعد فهو عند الله قد كان و أنشد
في مثله:
ستندم إذ
يأتي عليك رعيلنا
|
|
بأرعن
جرار كثير صواهله
|
فوضع إذ موضع
إذا و قد يوضع أيضا إذا موضع إذ كما قال الشاعر:
و ندمان
يزيد الكأس طيبا
|
|
سقيت
إذا تعرضت النجوم
|
«فَقالُوا» أي فقال
الكفار حين عاينوا العذاب و ندموا على ما فعلوا «يا لَيْتَنا
نُرَدُّ» إلى الدنيا «وَ لا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا» أي بكتب
ربنا و رسله و جميع ما جاءنا من عنده «وَ نَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» يعني من
جملة المؤمنين بآيات الله «بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ
مِنْ قَبْلُ» اختلف فيه على أقوال (أحدها) أن معناه بل بدا لبعضهم من بعض ما كان
علماؤهم يخفونه عن جهالهم و ضعفائهم مما في كتبهم فبدأ للضعفاء عنادهم (و ثانيها)
أن المراد بل بدا من أعمالهم ما كانوا يخفونه فأظهره الله و شهدت به جوارحهم عن
أبي روق (و ثالثها) إن المعنى ظهر للذين اتبعوا الغواة ما كان الغواة يخفونه عنهم
من أمر البعث و النشور لأن المتصل بهذا و له «وَ قالُوا إِنْ
هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا» الآية عن الزجاج و هو قول الحسن (و رابعها)
أن المراد بل بدا لهم وبال ما كانوا يخفونه من الكفر عن المبرد و كل هذه الأقوال
بمعنى ظهرت فضيحتهم في الآخرة و تهتكت أستارهم «وَ لَوْ
رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ» أي لو ردوا إلى الدنيا و إلى حال التكليف كما
طلبوه لعادوا إلى ما نهوا عنه من الكفر و التكذيب «وَ إِنَّهُمْ
لَكاذِبُونَ» و يسأل على هذا فيقال إن التمني كيف يصح فيه الكذب و إنما يقع الكذب
في الخبر و الجواب أن من الناس من حمل الكلام كله على وجه التمني و صرف الكذب إلى
غير الأمر الذي تمنوه و قال إن معناه هم كاذبون فيما يخبرون به عن أنفسهم في
الدنيا من الإصابة و اعتقاد الحق أو يكون المعنى إنهم كاذبون أن خبروا عن أنفسهم
بأنهم متى ردوا آمنوا و إن كان ما حكي عنهم من التمني ليس بخبر و قد يجوز أن يحمل
على غير الكذب الحقيقي بأن
448
مجمع البیان في تفسير القرآن4
[سورة الأنعام(6): الآيات 29 الى 30] ص : 449
يكون المراد
أنهم تمنوا ما لا سبيل إليه فكذب أملهم و تمنيهم و هذا مشهور في كلام العرب يقولون
كذبك أملك لمن تمنى ما لم يدرك و قال الشاعر:
كذبتم و
بيت الله لا تنكحونها
|
|
بني شاب
قرناها تصر و تحلب
|
و قال آخر:
كذبتم و
بيت الله لا تأخذونها
|
|
مراغمة
ما دام للسيف قائم
|
و المراد ما
ذكرناه من الخيبة في الأمل و التمني فإن قيل كيف يجوز أن يتمنوا الرد إلى الدنيا و
قد علموا أنهم لا يردون فالجواب عنه من وجوه (أحدها) إنا لا نعلم أن أهل الآخرة
يعرفون جميع أحكام الآخرة و إنما نقول إنهم يعرفون الله معرفة لا يتخالجهم فيها
الشك لما يشاهدونه من الآيات الملجئة لهم إلى المعارف و أما التوجع و التمني
للخلاص و الدعاء للفرج فيجوز أن يقع منهم ذلك عن البلخي (و ثانيها) أن التمني قد
يجوز فيما يعلم أنه لا يكون و لهذا قد يقع التمني على أن لا يكون ما قد كان و أن
لا يكون فعل ما قد فعله و تقضي وقته (و ثالثها) أنه لا مانع من أن يقع منهم التمني
للرد و لأن يكونوا من المؤمنين عن الزجاج و في الناس من جعل بعض الكلام تمنيا و
بعضه إخبارا و علق تكذيبهم بالخبر دون ليتنا و هذا إنما ينساق في قراءة من رفع و
لا نكذب و نكون على معنى فإنا لا نكذب بآيات ربنا و نكون من المؤمنين فيكونون قد
أخبروا بما علم الله أنهم فيه كاذبون و إن لم يعلموا من أنفسهم مثل ذلك فلهذا
كذبهم و ذكر أن أبا عمرو بن العلاء استدل على قراءته بالرفع في الجميع بأن قوله «وَ
إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ» فيه دلالة على أنهم أخبروا بذلك عن أنفسهم و لن يتمنوه
لأن التمني لا يقع فيه الكذب.
[سورة
الأنعام (6): الآيات 29 الى 30]
وَ قالُوا
إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا وَ ما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29) وَ لَوْ
تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَ لَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى
وَ رَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30)
449
مجمع البیان في تفسير القرآن4
المعنى ص : 450
المعنى
ثم أخبر سبحانه عن الكفار الذين ذكرهم قبل هذه الآية و إنكارهم البعث و النشور و الحشر و الحساب فقال «وَ قالُوا إِنْ هِيَ» أي ما هي «إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا» عنوا بذلك أنه لا حياة لنا في الآخرة و إنما هي هذه التي حيينا بها في الدنيا «وَ ما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ» أي لسنا بمبعوثين بعد الموت ثم خاطب سبحانه نبيه ص فقال «وَ لَوْ تَرى» يا محمد «إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ» ليس يصح في هذه الآية شيء من الوجوه التي ذكرناها في قوله وَ لَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا على النار إلا وجها واحدا و هو أن المعنى عرفوا ربهم ضرورة كما يقال وقفته على كلام فلان أي عرفته إياه و قيل أيضا أن المعنى وقفوا على ما وعدهم ربهم من العذاب الذي يفعله بالكفار و الثواب الذي يفعله بالمؤمنين في الآخرة و عرفوا صحة ما أخبرهم به من الحشر و الحساب و يجوز أن يكون المعنى حبسوا على ربهم ينتظر بهم ما يأمرهم به و خرج الكلام مخرج ما جرت به العادة من وقوف العبد بين يدي سيده لما في ذلك من الفصاحة و الإفصاح بالمعنى و التنبيه على عظم الأمر «قالَ» أي يقول الله تعالى لهم و جاء على لفظ الماضي لأنه لتحققه كأنه واقع و قيل معناه تقول الملائكة لهم بأمر الله تعالى «أَ لَيْسَ هذا بِالْحَقِّ» كما قالت الرسل و هذا سؤال توبيخ و تقريع و قوله «هذا» إشارة إلى الجزاء و الحساب و البعث «قالُوا» أي فيقول هؤلاء الكفار مقرين بذلك مذعنين له «بَلى» هو حق «وَ رَبِّنا» قسم ذكروه و أكدوا اعترافهم به «قالَ» الله تعالى أو الملك بأمره «فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ» أي بكفركم و إنما قال ذوقوا لأنهم في كل حال يجدون ذلك وجدان الذائق المذوق في شدة الإحساس من غير أن يصيروا إلى حال من يشم بالطعام في نقصان الإدراك.
[سورة الأنعام (6): الآيات 31 الى 32]
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها وَ هُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (31) وَ مَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَعِبٌ وَ لَهْوٌ وَ لَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (32)
القراءة
قرأ ابن عامر و لدار الآخرة بلام واحدة و جر الآخرة على الإضافة و الباقون
450
مجمع البیان في تفسير القرآن4
الحجة ص : 451
بلامين و
رفع «الْآخِرَةُ» و قرأ أهل المدينة و ابن ذكوان عن ابن عامر و
يعقوب و سهل «أَ فَلا تَعْقِلُونَ» بالتاء هاهنا و في الأعراف و يوسف و
ياسين و وافقهم حفص إلا في ياسين و حماد و يحيى عن أبي بكر في يوسف و قرأ الباقون
جميع ذلك بالياء.
الحجة
من قرأ «وَ
لَلدَّارُ الْآخِرَةُ» فلأن الآخرة صفة للدار يدل على ذلك قوله وَ
لَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى وَ إِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ
الْحَيَوانُ و تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها و من أضاف دارا إلى
الآخرة لم يجعل الآخرة صفة للدار فإن الشيء لا يضاف إلى نفسه لكنه جعلها صفة
للساعة فكأنه قال و لدار الساعة الآخرة و جاز وصف الساعة بالآخرة كما وصف اليوم
بالآخر في قوله وَ ارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ قال أبو علي إنما
حسن إضافة الدار إلى الآخرة و لم يقبح من حيث استقبح إقامة الصفة مقام الموصوف لأن
الآخرة قد صارت كالأبطح و الأبرق أ لا ترى أنه قد جاء وَ لَلْآخِرَةُ
خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى فاستعملت استعمال الأسماء و لم يكن مثل
الصفات التي لم تستعمل استعمال الأسماء و مثل الآخرة في أنها استعملت الأسماء
قولهم الدنيا لما استعملت استعمال الأسماء حسن أن لا يلحق لام التعريف في نحو
قوله:
"
في سعي دنيا طال ما قد مدت"
|
|
|
و أما وجه
القراءة بالياء في أ فلا يعقلون فهو أنه قد تقدم ذكر الغيبة في قوله
«لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ» و وجه القراءة بالتاء أنه يصلح أن يكون خطابا متوجها
إليهم و يصلح أن يكون المراد الغيب و المخاطبون فيغلب الخطاب.
اللغة
كل شيء أتى
فجاءة فقد بغت يقال بغته الأمر يبغته بغتة قال الشاعر:
و لكنهم
باتوا و لم أخش بغتة
|
|
و أفظع
شيء حين يفجأك البغت
|
و الحسرة شدة
الندم حتى يحسر النادم كما يحسر الذي تقوم به دابته في السفر البعيد و التفريط
التقصير و أصله التقديم و الإفراط التقديم في مجاوزة الحد و التفريط التقديم في
العجز و التقصير و الوزر الثقل في اللغة و اشتقاقه من الوزر و هو الحبل الذي يعتصم
به و منه قيل وزير كأنه يعتصم الملك به و مثله قوله تعالى «وَ اجْعَلْ لِي
وَزِيراً مِنْ أَهْلِي» و يزرون يفعلون من وزر يزر وزرا إذا أثم و قيل وزر فهو
موزور إذا فعل به ذلك و منه
الحديث في النساء
يتبعن جنازة قتيل لهن ارجعن موزورات غير مأجورات
و العامة
تقول مأزورات
451
مجمع البیان في تفسير القرآن4
الإعراب ص : 452
و العقل و
النهى و الحجى متقاربة المعنى فالعقل الإمساك عن القبيح و قصر النفس و حبسها عن
الحسن قال الأصمعي و بالدهناء خبراء يقال له معقلة قال و تراها سميت معقلة لأنها
تمسك الماء كما يعقل الدواء البطن و النهى لا يخلو أن يكون مصدرا كالهدي أو جمعا
كالظلم و هو في معنى ثبات و حبس و منه النهي و التنهية للمكان الذي ينتهي إليه
الماء فيستنقع فيه لتسفله و يمنع ارتفاع ما حوله من أن يسيح على وجه الأرض و الحجى
أصله من الحجو و هو احتباس و تمكث قال:
و حجيت
بالشيء و تحجيت به يهمز و لا يهمز أي تمسكت عن الأزهري قال أبو علي فكان الحجى
مصدر كالشبع و من هذا الباب الحجيا للغز لتمكث الذي يلقى عليه حتى يستخرجه.
الإعراب
يقال ما معنى
الغاية في قوله «حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ» و ما عامل الإعراب
فيها و الجواب أن معناها منتهى تكذيبهم الحسرة يوم القيامة و العامل فيها
«كَذَّبُوا» أي كذبوا إلى أن ظهرت الساعة بغتة فندموا حيث لا ينفعهم الندامة و
يقال ما معنى دعاء الحسرة و هي مما لا يعقل و الجواب أن العرب إذا اجتهدت في
المبالغة في الإخبار عن أمر عظيم تقع فيه جعلته نداء فلفظه لفظ ما ينبه و المنبه
غيره مثل قوله يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ و قوله يا
حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ و يا
وَيْلَتى أَ أَلِدُ و هذا أبلغ من أن تقول أنا أتحسر على التفريط قاله الزجاج
و قال سيبويه إنك إذا قلت يا عجباه فكأنك قلت احضر و تعال يا عجب فإنه من أزمانك و
تأويل يا حسرتاه انتبهوا على أننا قد حسرنا فخرج مخرج النداء للحسرة و المعنى على
النداء لغيرها تنبيها على عظم شأنها و قيل إنها بمنزلة الاستغاثة فكأنه قيل يا حسرتنا
تعالي فهذا أوانك كما يقال يا للعجب و قوله «ساءَ ما
يَزِرُونَ» تقديره بئس الشيء شيء يزرونه و قد ذكرنا عمل نعم و بئس فيما مضى.
المعنى
ثم أخبر
سبحانه عن هؤلاء الكفار فقال «قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا
بِلِقاءِ اللَّهِ» يعني بلقاء ما وعد الله به من الثواب و العقاب و جعل لقائهم لذلك
لقاء له تعالى مجازا عن ابن عباس و الحسن و قيل المراد بلقاء جزاء الله كما يقال
للميت لقي فلان عمله أي لقي جزاء عمله و نظيره إِلى يَوْمِ
يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ «حَتَّى إِذا
جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ» أي القيامة «بَغْتَةً» أي فجأة من غير أن
علموا وقتها «قالُوا» عند معاينة ذلك اليوم و أهواله و تباين
أحوال
452
مجمع البیان في تفسير القرآن4
المعنى ص : 452
أهل الثواب و
العقاب «يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها» أي على ما تركنا و
ضيعنا في الدنيا من تقديم أعمال الآخرة عن ابن عباس و قيل إن الهاء يعود إلى
الساعة عن الحسن و المعنى على ما فرطنا في العمل للساعة و التقدمة لها و قيل إن
الهاء يعود إلى الجنة أي في طلبها و العمل لها عن السدي يدل عليه ما
رواه
الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد عن النبي ص في هذه الآية قال يرى أهل
النار منازلهم من الجنة فيقولون يا حسرتنا
و قال محمد
بن جرير الهاء يعود إلى الصفقة لأنه لما ذكر الخسران دل على الصفقة و يجوز أن يكون
الهاء يعود إلى معنى ما في قوله «ما فَرَّطْنا» أي يا حسرتنا على
الأعمال الصالحة التي فرطنا فيها فعلى هذا الوجه يكون ما موصولة بمعنى الذي و على
الوجوه المتقدمة يكون ما بمعنى المصدر و يكون تقديره على تفريطنا «وَ
هُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ» أي أثقال ذنوبهم «عَلى
ظُهُورِهِمْ» و قال ابن عباس يريد آثامهم و خطاياهم و قال قتادة و السدي إن
المؤمن إذا خرج من قبره استقبله أحسن شيء صورة و أطيبه ريحا فيقول أنا عملك
الصالح طال ما ركبتك في الدنيا فاركبني أنت اليوم فذلك قوله يَوْمَ نَحْشُرُ
الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً أي ركبانا و إن الكافر إذا خرج من
قبره استقبله أقبح شيء صورة و أخبثه ريحا فيقول أنا عملك السيء طال ما ركبتني في
الدنيا فأنا أركبك اليوم و ذلك قوله «وَ هُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى
ظُهُورِهِمْ» و قال الزجاج هذا مثل جائز أن يكون جعل ما ينالهم من العذاب بمنزلة
أثقل ما يحمل لأن الثقل كما يستعمل في الوزن يستعمل في الحال أيضا كما تقول ثقل
علي خطاب فلان و معناه كرهت خطابه كراهة اشتدت علي فعلى هذا يكون المعنى أنهم
يقاسون عذاب آثامهم مقاساة تثقل عليهم و لا تزايلهم و إلى هذا المعنى
أشار أمير
المؤمنين ع في قوله تخففوا تلحقوا فإنما ينتظر بأولكم آخركم
«أَلا
ساءَ ما يَزِرُونَ» أي بئس الحمل حملهم عن ابن عباس و قيل معناه ساء ما
ينالهم جزاء لذنوبهم و أعمالهم السيئة إذ كان ذلك عذابا و نكالا ثم رد عليهم قولهم
ما هي إلا حياتنا الدنيا و بين سبحانه أن ما يتمتع به من الدنيا يزول و يبيد فقال «وَ مَا
الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ» أي باطل و غرور إذا لم
يجعل ذلك طريقا إلى الآخرة و إنما عنى بالحياة الدنيا أعمال الدنيا لأن نفس الدنيا
لا توصف باللعب و ما فيه رضا الله من عمل الآخرة لا يوصف به أيضا لأن اللعب ما لا
يعقب نفعا و اللهو ما يصرف من الجد إلى الهزل و هذا إنما يتصور في المعاصي و قيل
المراد باللعب و اللهو أن الحياة تنقضي و تفنى و لا تبقى فتكون لذة فانية عن قريب
كاللعب و اللهو «وَ لَلدَّارُ الْآخِرَةُ» و ما فيها من أنواع
النعيم و الجنان «خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ» معاصي الله لأنها
باقية دائمة لا يزول عنهم نعيمها و لا يذهب عنهم سرورها «أَ فَلا تَعْقِلُونَ» إن ذلك كما
453
مجمع البیان في تفسير القرآن4
[سورة الأنعام(6): الآيات 33 الى 34] ص : 454
وصف لهم فيزهدوا في شهوات الدنيا و يرغبوا في نعيم الآخرة و يفعلوا ما يؤديهم إلى ذلك من الأعمال الصالحة و في هذه الآية تسلية للفقراء بما حرموا من متاع الدنيا و تقريع للأغنياء إذا ركنوا إلى حطامها و لم يعملوا لغيرها.
[سورة الأنعام (6): الآيات 33 الى 34]
قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَ لكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) وَ لَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَ أُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ وَ لَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34)
القراءة
قرأ نافع ليحزنك بضم الياء و كسر الزاي و الباقون «لَيَحْزُنُكَ» بفتح الياء و ضم الزاي و
قرأ نافع و الكسائي و الأعشى عن أبي بكر لا يكذبونك خفيف و هو قراءة علي (ع) و المروي عن جعفر الصادق (ع)
و الباقون «يُكَذِّبُونَكَ» بفتح الكاف و التشديد.
الحجة
قال أبو علي قال سيبويه قالوا حزن الرجل و حزنته و زعم الخليل إنك حيث تقول حزنته لم ترد أن تقول جعلته حزينا كما أنك حيث قلت أدخلته أردت جعلته داخلا و لكنك أردت أن تقول جعلت فيه حزنا كما تقول كحلته جعلت فيه كحلا و دهنته جعلت فيه دهنا و لم ترد بفعلته هنا تعدي قوله حزن و لو أردت ذلك لقلت أحزنته و حجة نافع إنه أراد أن يعدي حزن فنقله بالهمزة و الاستعمال في حزنته أكثر منه في أحزنته فإلى كثرة الاستعمال ذهب عامة القراء و أما قوله «يُكَذِّبُونَكَ» فمن ثقل فهو من فعلته إذا نسبته إلى الفعل مثل زنيته و فسقته نسبته إلى الزنا و الفسق و قد جاء في هذا المعنى أفعلته قالوا أسقيته أي قلت له سقاك الله قال ذو الرمة:
و أسقيه حتى كاد مما أبثه
|
|
تكلمني أحجاره و ملاعبه
|
فيجوز على هذا أن يكون معنى القراءتين واحدا و يجوز أن يكون «لا يُكَذِّبُونَكَ» أي لا
454
مجمع البیان في تفسير القرآن4
[المعنى[سورة الأنعام(6): آية 33]] ص : 455
يصادفونك
كاذبا كما تقول أحمدته إذا أصبته محمودا و يدل على الوجه الأول قول الكميت:
و طائفة
قد أكفرتني بحبكم
|
|
و طائفة
قالت مسيء و مذنب
|
أي نسبتني
إلى الكفر قال أحمد بن يحيى كان الكسائي يحكي عن العرب أكذبت الرجل إذا أخبرت أنه
جاءك بكذب و كذبته إذا أخبرت أنه كذاب.
[المعنى]
ثم سلى
سبحانه نبيه ص على تكذيبهم إياه بعد إقامة الحجة عليهم فقال «قَدْ نَعْلَمُ» نحن يا محمد
«إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ» أي ما يقولون إنك شاعر أو مجنون و
أشباه ذلك «فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ» دخلت الفاء في أنهم
لأن الكلام الأول يقتضيه كأنه قيل إذا كان قد يحزنك قولهم فاعلم أنهم لا يكذبونك و
اختلف في معناه على وجوه (أحدها) أن معناه لا يكذبونك بقلوبهم اعتقادا و إن كانوا
يظهرون بأفواههم التكذيب عنادا و هو قول أكثر المفسرين عن أبي صالح و قتادة و
السدي و غيرهم قالوا يريد أنهم يعلمون أنك رسول الله و لكن يجحدون بعد المعرفة و
يشهد لهذا الوجه ما
روى سلام
بن مسكين عن أبي يزيد المدني أن رسول الله ص لقي أبا جهل فصافحه أبو جهل
فقيل له في ذلك فقال و الله إني لأعلم إنه صادق و لكنا متى كنا تبعا لعبد مناف
فأنزل الله هذه الآية
و قال السدي
التقى أخنس ابن شريق و أبو جهل بن هشام فقال له يا أبا الحكم أخبرني عن محمد أ
صادق هو أم كاذب فإنه ليس هاهنا أحد غيري و غيرك يسمع كلامنا فقال أبو جهل ويحك و
الله إن محمدا لصادق و ما كذب قط و لكن إذا ذهب بنو قصي باللواء و الحجابة و
السقاية و الندوة و النبوة فما ذا يكون لسائر قريش (و ثانيها) أن المعنى لا
يكذبونك بحجة و لا يتمكنون من إبطال ما جئت به ببرهان و يدل عليه ما
روي عن علي
(ع) إنه كان يقرأ «لا يُكَذِّبُونَكَ» و يقول إن
المراد بها إنهم لا يأتون بحق هو أحق من حقك
(و ثالثها)
أن المراد لا يصادفونك كاذبا تقول العرب قاتلناكم فما أجبناكم أي ما أصبناكم جبناء
قال الأعشى:
أثوى و
قصر ليلة ليزودا
|
|
فمضى و
أخلف من قتيلة موعدا
|
أراد صادف
منها خلف الوعد و قال ذو الرمة:
455
مجمع البیان في تفسير القرآن4
[المعنى[سورة الأنعام(6): آية 33]] ص : 455
تريك
بياض لبتها و وجها
|
|
كقرن
الشمس أفتق ثم زالا
|
أي وجد فتقا
من السحاب و لا يختص هذا الوجه بالقراءة بالتخفيف دون التشديد لأن أفعلت و فعلت
يجوزان في هذا الموضع و أفعلت هو الأصل فيه ثم يشدد تأكيدا مثل أكرمت و كرمت و
أعظمت و عظمت إلا أن التخفيف أشبه بهذا الوجه (و رابعها) أن المراد لا ينسبونك إلى
الكذب فيما أتيت به لأنك كنت عندهم أمينا صدوقا و إنما يدفعون ما أتيت به و يقصدون
التكذيب بآيات الله و يقوي هذا الوجه قوله «وَ لكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ
اللَّهِ يَجْحَدُونَ» و قوله «وَ كَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَ هُوَ
الْحَقُّ» و لم يقل و كذبك قومك و ما روي أن أبا جهل قال للنبي ص ما نتهمك و
لا نكذبك و لكنا نتهم الذي جئت به و نكذبه (و خامسها) أن المراد أنهم لا يكذبونك
بل يكذبونني فإن تكذيبك راجع إلي و لست مختصا به لأنك رسول الله فمن رد عليك فقد
رد علي و من كذبك فقد كذبني و ذلك تسلية منه سبحانه للنبي ص و قوله «وَ
لكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ» أي بالقرآن و
المعجزات يجحدون بغير حجة سفها و جهلا و عنادا و دخلت الباء في
«بِآياتِ اللَّهِ» و الجحد يتعدى بغير الجار و المجرور لأن معناه هنا التكذيب أي
يكذبون بآيات الله و قال أبو علي الباء تتعلق بالظالمين و المعنى و لكن الظالمين
برد آيات الله أو إنكار آيات الله يجحدون ما عرفوه من صدقك و أمانتك و مثله قوله سبحانه وَ
آتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها أي ظلموا بردها أو
الكفر بها ثم زاد سبحانه في تسلية نبيه ص بقوله «وَ لَقَدْ
كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَ أُوذُوا» أي صبروا
على ما نالهم منهم من التكذيب و الأذى في أداء الرسالة «حَتَّى
أَتاهُمْ» جاءهم «نَصْرُنا» إياهم على المكذبين و هذا أمر منه
سبحانه لنبيه ص بالصبر على كفار قومه إلى أن يأتيه النصر كما صبرت الأنبياء «وَ لا
مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ» معناه لا أحد يقدر على تكذيب خبر الله على
الحقيقة و لا على إخلاف وعده و أن ما أخبر الله به أن يفعل بالكفار فلا بد من كونه
لا محالة و ما وعدك به من نصره فلا بد من حصوله لأنه لا يجوز الكذب في إخباره و لا
الخلف في وعده و قال الكلبي و عكرمة يعني بكلمات الله الآيات التي وعد فيها نصر
الأنبياء نحو قوله كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَ رُسُلِي و قوله إِنَّهُمْ
لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ «وَ لَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ» أي خبرهم في
القرآن كيف أنجيناهم و نصرناهم على قومهم قال الأخفش من هاهنا صلة مزيدة كما تقول
أصابنا من مطر أي مطر
456
مجمع البیان في تفسير القرآن4
[سورة الأنعام(6): الآيات 35 الى 37] ص : 457
و قال غيره من النحويين لا يجوز ذلك لأن من لا تزاد في الإيجاب و إنما تزاد في النفي و من هنا للتبعيض و فاعل جاء مضمر يدل المذكور عليه و تقديره و لقد جاءك من نبأ المرسلين نبأ فيكون المعنى أنه أخبره ع ببعض أخبارهم على حسب ما علم من المصالح و يؤيد ذلك قوله وَ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ.
[سورة الأنعام (6): الآيات 35 الى 37]
وَ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ (35) إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَ الْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36) وَ قالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (37)
اللغة
النفق سرب في الأرض له مخلص إلى مكان آخر و أصله الخروج و منه المنافق لخروجه من الإيمان إلى الكفر و منه النفقة لخروجها من اليد و السلم الدرج و هو مأخوذ من السلامة قال الزجاج لأنه الذي يسلمك إلى مصعدك و الاستجابة من الجوب و هو القطع و هل عندك جائبة خبر أي تجوب البلاد و الفرق بين يستجيب و يجيب أن يستجيب فيه قبول لما دعي إليه و ليس كذلك يجيب لأنه يجوز أن يجيب بالمخالفة كما أن السائل يقول أ توافق في هذا المذهب أم تخالف فيقول المجيب أخالف عن علي بن عيسى و قيل إن أجاب و استجاب بمعنى.
الإعراب
جواب إن محذوف و تقديره إن استطعت ذلك فافعل قال الفراء و إنما تفعله العرب في كل موضع يعرف فيه معنى الجواب أ لا ترى أنك تقول للرجل إن استطعت
457
مجمع البیان في تفسير القرآن4
المعنى ص : 458
أن تتصدق إن
رأيت أن تقوم معنا فتترك الجواب للمعرفة به فإذا قلت إن تقم تصب خيرا فلا بد من
الجواب لأن معناه لا يعرف إذا طرح الجواب.
المعنى
ثم بين
سبحانه أن هؤلاء الكفار لا يؤمنون فقال مخاطبا لنبيه ص «وَ إِنْ كانَ
كَبُرَ» أي عظم و اشتد «عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ» و انصرافهم
عن الإيمان و قبول دينك و امتناعهم من اتباعك و تصديقك «فَإِنِ
اسْتَطَعْتَ» أي قدرت و تهيأ لك «أَنْ تَبْتَغِيَ» أي تطلب و تتخذ
«نَفَقاً فِي الْأَرْضِ» أي سربا و مسكنا في جوف الأرض «أَوْ سُلَّماً» أي مصعدا «فِي
السَّماءِ» و درجا «فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ» أي حجة تلجئهم إلى
الإيمان و تجمعهم على ترك الكفر فافعل ذلك و قيل فتأتيهم بآية أفضل مما آتيناهم به
فافعل عن ابن عباس يريد لا آية أفضل و أظهر من ذلك «وَ لَوْ شاءَ
اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى» بالإلجاء و إنما أخبر عز اسمه عن كمال قدرته
و أنه لو شاء لألجأهم إلى الإيمان و لم يفعل ذلك لأنه ينافي التكليف و يسقط
استحقاق الثواب الذي هو الغرض بالتكليف و ليس في الآية أنه سبحانه لا يشاء منهم أن
يؤمنوا مختارين أو لا يشاء أن يفعل ما يؤمنون عنده مختارين و إنما نفى المشيئة لما
يلجئهم إلى الإيمان ليتبين أن الكفار لم يغلبوه بكفرهم فإنه لو أراد أن يحول بينهم
و بين الكفر لفعل لكنه يريد أن يكون إيمانهم على الوجه الذي يستحق به الثواب و لا
ينافي التكليف «فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ» قيل معناه فلا تجزع
في مواطن الصبر فيقارب حالك حال الجاهلين بأن تسلك سبيلهم عن الجبائي و قيل إن هذا
نفي للجهل عنه أي لا تكن جاهلا بعد أن أتاك العلم بأحوالهم و أنهم لا يؤمنون و
المراد فلا تجزع و لا تتحسر لكفرهم و إعراضهم عن الإيمان و غلظ الخطاب تبعيدا و
زجرا عن هذه الحال ثم بين سبحانه الوجه الذي لأجله لا يجتمع هؤلاء الكفار على الإيمان
فقال «إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ» و معناه
إنما يستجيب إلى الإيمان بالله و ما أنزل إليك من يسمع كلامك و يصغي إليك و إلى ما
تقرأه عليه من القرآن و يتفكر في آياتك فإن من لم يتفكر و لم يستدل بالآيات بمنزلة
من لم يسمع كما قيل:
لقد
أسمعت لو ناديت حيا
|
|
و لكن
لا حياة لمن تنادي
|
و قال الآخر:
«وَ
الْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ» يريد أن الذين لا يصغون إليك من هؤلاء الكفار
و لا يتدبرون فيما تقرأه عليهم و تبينه لهم من الآيات و الحجج بمنزلة الموتى فكما
أيست أن تسمع الموتى كلامك إلى أن يبعثهم الله فكذلك فأيس من
458
مجمع البیان في تفسير القرآن4
[سورة الأنعام(6): الآيات 38 الى 39] ص : 459
هؤلاء أن
يستجيبوا لك و تقديره إنما يستجيب المؤمن السامع للحق فأما الكافر فهو بمنزلة
الميت فلا يجيب إلى أن يبعثه الله يوم القيامة فيلجئه إلى الإيمان و قيل معناه
إنما يستجيب من كان قلبه حيا فأما من كان قلبه ميتا فلا ثم وصف الموتى بأنه يبعثهم
و يحكم فيهم «ثُمَّ إِلَيْهِ» أي إلى حكمه «يُرْجَعُونَ» و قيل معناه
يبعثهم الله من القبور ثم يرجعون إلى موقف الحساب ثم عاد سبحانه إلى حكاية أقوال
الكفار فقال عاطفا على ما تقدم «وَ قالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ
آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ» هذا إخبار عن رؤساء قريش لما عجزوا من معارضته فيما أتى
به من القرآن اقترحوا عليه مثل آيات الأولين كعصا موسى و ناقة ثمود فقال سبحانه في
موضع آخر «أَ وَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ» و قال هاهنا «قُلْ» يا محمد «إِنَّ
اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً» أي آية تجمعهم على
هدى عن الزجاج و قيل آية كما يسألونها «وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ» ما في
إنزالها من وجوب الاستئصال لهم إذا لم يؤمنوا عند نزولها و ما في الاقتصار بهم على
ما أوتوه من الآيات من المصلحة و قيل معناه و لكن أكثرهم لا يعلمون أن فيما أنزلنا
من الآيات مقنعا و كفاية لمن نظر و تدبر و قد اعترضت الملحدة على المسلمين بهذه
الآية فقالوا أنها تدل على أن الله تعالى لم ينزل على محمد آية إذ لو نزلها لذكرها
عند سؤال المشركين إياها فيقال لهم قد بينا أنهم التمسوا آية مخصوصة و تلك لم
يؤتوها لأن المصلحة منعت عن إيتائها و قد أنزل الآيات الدالة على نبوته من القرآن
و آتيتهم من المعجزات الباهرة التي شاهدوها ما لو نظروا فيها أو في بعضها حق النظر
لعرفوا صدقه و صحة نبوته و قد بين في آية أخرى أنه لو أنزل عليهم ما التمسوه لم
يؤمنوا فقال «وَ لَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ» إلى قوله «ما
كانُوا لِيُؤْمِنُوا» و في موضع آخر «وَ قالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ
عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ» يعني في قدرة
الله ينزل منها ما يشاء و يسقط ما اعترضوا به.
[سورة
الأنعام (6): الآيات 38 الى 39]
وَ ما مِنْ
دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ
أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ
يُحْشَرُونَ (38) وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَ بُكْمٌ فِي
الظُّلُماتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَ مَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى
صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (39)
459
مجمع البیان في تفسير القرآن4
اللغة ص : 460
اللغة
الدابة كل ما يدب من الحيوان و أصله الصفة من دب يدب دبيبا إذا مشى مشيا فيه تقارب خطو و الدبوب و الديبوب النمام و
في الحديث لا يدخل الجنة ديبوب و لا قلاع
فالديبوب النمام لأنه يدب بالنميمة و القلاع الواشي بالرجل ليقتلعه قال الأزهري تصغير الدابة دويبة الباء مخففة و فيها إشمام الكسر و
في الحديث أيتكن صاحبة الجمل الأدبب تنبحها كلاب الحوأب
أراد الأدب فأظهر التضعيف و هو الكثير الوبر و قد دب يدب دبيبا و الجناح إحدى ناحيتي الطير اللتين يتمكن بهما من الطيران في الهواء و أصله الميل إلى ناحية.
الإعراب
من مزيدة و تأويله و ما دابة و يجوز في غير القرآن «لا طائر يطير» بالرفع عطفا على موضع من دابة و قوله «مِنْ شَيْءٍ» من زائدة أيضا و تفيد التعميم أي ما فرطنا شيئا ما و صم و بكم كلاهما خبر الذين كقولهم هذا حلو حامض و دخول الواو لا يمنع من ذلك فإنه بمنزلة قولك صم بكم.
المعنى
لما بين سبحانه أنه قادر على أن ينزل آية عقبه بذكر ما يدل على كمال قدرته و حسن تدبيره و حكمته فقال «وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ» أي ما من حيوان يمشي على وجه الأرض «وَ لا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ» جمع بهذين اللفظين جميع الحيوانات لأنها لا تخلو إما أن تكون مما يطير بجناحيه أو يدب و مما يسأل عنه أن يقال لم قال يطير بجناحيه و قد علم أن الطير لا يطير إلا بالجناح فالجواب أن هذا إنما جاء للتوكيد و رفع اللبس لأن القائل قد يقول طر في حاجتي أي أسرع فيها و قال الشاعر:
قوم إذا الشر أبدى ناجذية لهم
|
|
طاروا إليه زرافات و وحدانا
|
و أنشد سيبويه:
فطرت بمنصلي في يعملات
|
|
و دوامي الأيد يخبطن السريحا
|
و قيل إنما قال بجناحيه لأن السمك تطير في الماء و لا أجنحة لها و إنما خرج السمك
460
مجمع البیان في تفسير القرآن4
المعنى ص : 460
عن الطائر
لأنه من دواب البحر و إنما أراد سبحانه ما في الأرض و ما في الجو «إِلَّا
أُمَمٌ» أي أصناف مصنفة تعرف بأسمائها يشتمل كل صنف على العدد الكثير عن
مجاهد «أَمْثالُكُمْ» قيل أنه يريد أشباهكم في إبداع الله إياها و
خلقه لها و دلالتها على أن لها صانعا و قيل إنما مثلت الأمم عن غير الناس بالناس
في الحاجة إلى مدبر يدبرهم في أغذيتهم و أكلهم و لباسهم و نومهم و يقظتهم و
هدايتهم إلى مراشدهم إلى ما لا يحصى كثرة من أحوالهم و مصالحهم و أنهم يموتون و
يحشرون و بين بهذه الآية أنه لا يجوز للعباد أن يتعدوا في ظلم شيء منها فإن الله
خالقها و المنتصف لها «ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ» أي ما تركنا
و قيل معناه ما قصرنا و اختلف في معنى الكتاب على أقوال (أحدها) إنه يريد بالكتاب
القرآن لأنه ذكر جميع ما يحتاج إليه فيه من أمور الدين و الدنيا إما مجملا و إما
مفصلا و المجمل قد بينه على لسان نبيه ص و أمرنا باتباعه في قوله «ما
آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا» و هذا مثل
قوله تعالى «وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ» و يروى عن
عبد الله بن مسعود أنه قال ما لي لا ألعن من لعنه الله في كتابه يعني الواشمة و
المستوشمة و الواصلة و المستوصلة فقرأت المرأة التي سمعت ذلك منه جميع القرآن ثم
أتته و قالت يا ابن أم عبد تلوت البارحة ما بين الدفتين فلم أجد فيه لعن الواشمة
فقال لو تلوتيه لوجدتيه قال الله تعالى «ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ
وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا» و إن
مما أتانا
رسول الله أن قال لعن الله الواشمة و المستوشمة
و هو قول
أكثر المفسرين و هذا القول اختيار البلخي (و ثانيها) أن المراد بالكتاب هاهنا
الكتاب الذي هو عند الله عز و جل المشتمل على ما كان و يكون و هو اللوح المحفوظ و
فيه آجال الحيوان و أرزاقه و آثاره ليعلم ابن آدم أن عمله أولى بالإحصاء و الاستقصاء
عن الحسن (و ثالثها) أن المراد بالكتاب الأجل أي ما تركنا شيئا إلا و قد أوحينا له
أجلا ثم يحشرون جميعا عن أبي مسلم و هذا الوجه بعيد «ثُمَّ إِلى
رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ» معناه يحشرون إلى الله بعد موتهم يوم القيامة كما يحشر
العباد فيعوض الله تعالى ما يستحق العوض منها و ينتصف لبعضها من بعض و فيما رووه
عن أبي هريرة أنه قال يحشر الله الخلق يوم القيامة البهائم و الدواب و الطير و كل
شيء فيبلغ من عدل الله يومئذ أن يأخذ للجماء من القرناء ثم يقول كوني ترابا فلذلك
يقول الكافر يا ليتني كنت ترابا و
عن أبي ذر
قال بينا أنا عند رسول الله ص إذ انتطحت عنزان فقال النبي ص أ تدرون
فيما انتطحا فقالوا لا ندري قال لكن الله يدري
461
مجمع البیان في تفسير القرآن4
[سورة الأنعام(6): الآيات 40 الى 41] ص : 462
و سيقضي بينهما
و على هذا فإنما جعلت أمثالنا في الحشر و الاقتصاص و اختاره الزجاج فقال يعني أمثالكم في أنهم يبعثون و يؤيده قوله «وَ إِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ» و معنى إلى ربهم إلى حيث لا يملك النفع و الضر إلا الله سبحانه إذ لم يمكن منه كما مكن في الدنيا و استدلت جماعة من أهل التناسخ بهذه الآية على أن البهائم و الطيور مكلفة لقوله «أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ» و هذا باطل لأنا قد بينا أنها من أي وجه تكون أمثالنا و لو وجب حمل ذلك على العموم لوجب أن تكون أمثالنا في كونها على مثل صورنا و هيأتنا و خلقتنا و أخلاقنا و كيف يصح تكليف البهائم و هي غير عاقلة و التكليف لا يصح إلا مع كمال العقل «وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا» أي بالقرآن و قيل بسائر الحجج و البينات «صُمٌّ وَ بُكْمٌ» قد بينا معناهما في سورة البقرة «فِي الظُّلُماتِ» أي في ظلمات الكفر و الجهل لا يهتدون إلى شيء من منافع الدين و قيل أراد صم و بكم في الظلمات في الآخرة على الحقيقة عقابا لهم على كفرهم لأنه ذكرهم عند ذكر الحشر عن أبي علي الجبائي «مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ» هذا مجمل قد بينه في قوله «وَ ما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ» «وَ يُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ» «وَ الَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً» «يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ» و المعنى من يشأ الله يخذله بأن يمنعه ألطافه و فوائده و ذلك إذا واتر عليه الأدلة و أوضح له الحجج فأعرض عنها و لم ينعم النظر فيها و يجوز أن يريد من يشأ الله إضلاله عن طريق الجنة و نيل ثوابها يضلله عنه «وَ مَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» أي و من يشأ أن يرحمه و يهديه إلى الجنة يجعله على الصراط الذي يسلكه المؤمنون إلى الجنة.
[سورة الأنعام (6): الآيات 40 الى 41]
قُلْ أَ رَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَ غَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَ تَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ (41)
القراءة
قرأ أهل المدينة أ رأيتكم و أ رأيتم و أ رأيت و أشباه ذلك بتخفيف الهمزة كل القرآن و قرأ الكسائي وحده أريتكم و أريت و أريتم كل القرآن بترك الهمزة و قرأ الباقون بالهمز في الجميع كل القرآن.
الحجة
قال أبو علي من حقق الهمزة فوجه قراءته بين لأنه فعلت من الرؤية فالهمزة
462
مجمع البیان في تفسير القرآن4
الإعراب ص : 463
عين الفعل و
من قرأ بألف في كل القرآن من غير همز على مقدار ذوق الهمزة فإنه يجعل الهمزة بين
بين أي بين الألف و الهمزة و أما الكسائي فإنه حذف الهمزة حذفا أ لا ترى أن
التخفيف القياسي فيها أن تجعل بين بين و هذا حذف الهمزة كما قالوا ويلمه و كما
أنشد أحمد بن يحيى:
(إذن لم
أقاتل فالبسوني برقعا)
|
|
|
و كقول أبي
الأسود:
"
يا با المغيرة رب أمر معضل"
|
|
|
و مما جاء
على ذلك قول الآخر:
أ رأيت
إن جاءت به أملودا
|
|
مرجلا و
يلبس البرودا
|
و مما يقوي
ذلك قول الشاعر:
و من رأى
مثل معدان بن ليلى
|
|
إذا ما
النسع طال على المطية.
|
الإعراب
«أَ
رَأَيْتَكُمْ» الكاف فيه للخطاب مجردا و معنى الاسم مخلوع عنه لأنه لو كان اسما
لوجب أن يكون الاسم الذي بعده في قوله أَ رَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي
كَرَّمْتَ عَلَيَ و أ رأيتك زيدا ما صنع هو الكاف في المعنى لأن رأيت يتعدى إلى
مفعولين يكون الأول منهما هو الثاني في المعنى و قد علمنا أنه ليس الكاف في المعنى
و إذا لم يكن اسما كان حرفا للخطاب مجردا من معنى الاسمية كالكاف في ذلك و هنالك و
كالتاء في أنت و إذا ثبت أنه للخطاب فالتاء في أ رأيت لا يجوز أن يكون للخطاب لأنه
لا يجوز أن يلحق الكلمة علامتان للخطاب كما لا يلحقها علامتان للتأنيث و لا
علامتان للاستفهام فلما لم يجز ذلك أفردت التاء في جميع الأحوال لما كان الفعل لا
بد له من فاعل و جعل في جميع الأحوال على لفظ واحد لأن ما يلحق الكاف من معنى
الخطاب يبين الفاعلين فيخصص التأنيث من التذكير و التثنية من الجمع و لو لحق علامة
التأنيث و الجمع التاء لاجتمعت علامتان للخطاب ما يلحق التاء و ما يلحق الكاف فكان
يؤدي إلى ما لا نظير له فرفض و هذا من كلام أبي علي الفارسي و جواب إن من قوله «إِنْ
أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ» الفعل الذي دخل عليه حرف الاستفهام كما تقول
إن أتاك زيد أ تكرمه و موضع إن و جوابه نصب لأنه في موضع مفعولي رأيت و قوله «إِنْ
كُنْتُمْ
463
مجمع البیان في تفسير القرآن4
المعنى ص : 464
صادِقِينَ» جوابه محذوف
يدل عليه قوله «أَ رَأَيْتَكُمْ» لأنه في معنى أخبروا فكأنه قال إن كنتم
صادقين فأخبروا من تدعون عند نزول البلاء بكم.
المعنى
ثم أمر
سبحانه نبيه بمحاجة الكفار فقال «قُلْ» يا محمد لهؤلاء
الكفار «أَ رَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ» في الدنيا
كما نزل بالأمم قبلكم مثل عاد و ثمود «أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ» أي القيامة
قال الزجاج الساعة اسم للوقت الذي يصعق فيه العباد و اسم للوقت الذي يبعث فيه
العباد و المعنى أو أتتكم الساعة التي وعدتم فيها بالبعث و الفناء لأن قبل البعث
يموت الخلق كلهم «أَ غَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ» أي أ تدعون فيها
لكشف ذلك عنكم هذه الأوثان التي تعلمون أنها لا تقدر أن تنفع أنفسها و لا غيرها أو
تدعون الله الذي هو خالقكم و مالككم لكشف ذلك عنكم «إِنْ كُنْتُمْ
صادِقِينَ» في أن هذه الأوثان آلهة لكم احتج سبحانه عليهم بما لا يدفعونه لأنهم
كانوا إذا مسهم الضر دعوا الله ثم قال «بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ» و بل
استدراك و إيجاب بعد نفي أعلمهم الله تعالى أنهم إذا لحقتهم الشدائد في البحار و
البراري و القفار يتضرعون إليه و يقبلون عليه و المعنى لا تدعون غيره بل تدعونه
«فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ» أي يكشف الضر الذي
من أجله دعوتم إن شاء أن يكشفه «وَ تَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ» أي تتركون
دعاء ما تشركون من دون الله لأنه ليس عندهم ضرر و لا نفع عن ابن عباس و يكون
العائد إلى الموصول محذوفا للعلم على تقدير ما تشركون به و قيل معناه إنكم في
ترككم دعاءهم بمنزلة من قد نسيهم عن الزجاج و هو قول الحسن لأنه قال تعرضون عنه
إعراض الناسي أي لليأس في النجاة من مثله و يجوز أن يكون ما مع تشركون بمنزلة
المصدر فيكون بمنزلة و تنسون شرككم.
464
مجمع البیان في تفسير القرآن4
[سورة الأنعام(6): الآيات 42 الى 45] ص : 465
[سورة الأنعام (6): الآيات 42 الى 45]
وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَ الضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَ لكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (45)
القراءة
قرأ أبو جعفر فتحنا بالتشديد في جميع القرآن و وافقه ابن عامر إلا قوله وَ لَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً و حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً فإنه خففهما و وافقهما يعقوب في القمر و قرأ الباقون في جميع ذلك بالتخفيف إلا مواضع قد اختلفوا فيها سنذكرها إن شاء الله إذا بلغنا إلى مواضعها.
الحجة
من ثقل أراد التكثير و المبالغة و من خفف لم يرد ذلك.
اللغة
البأساء من البأس و الخوف و الضراء من الضر و قد يكون البأساء من البؤس، و التضرع التذلل يقال ضرع فلان لفلان إذا بخع له و سأله أن يعطيه و المبلس الشديد الحسرة و قال الفراء المبلس المنقطع الحجة قال رؤبة:
و حضرت يوم الخميس الأخماس
|
|
و في الوجوه صفرة و إبلاس
|
دابر القوم الذي يدبرهم و يدبرهم لغتان و هو الذي يتلوهم من خلفهم و يأتي على أعقابهم و أنشد:
آل المهلب جز الله دابرهم
|
|
أضحوا رمادا فلا أصل و لا طرف
|
و قال الأصمعي الدابر الأصل يقال قطع الله دابره أي أصله و أنشد:
فدى لكما رجلي و رحلي و ناقتي
|
|
غداة الكلاب إذ تجز الدوابر
|
أي يقتل القوم فتذهب أصولهم فلا يبقى لهم أثر و قال غيره دابر الأمر آخره و روي عن عبد الله أنه قال من الناس من لا يأتي الصلاة ألا دبريا بضم الدال يعني في آخر الوقت كذا يقول أصحاب الحديث قال أبو زيد الصواب دبريا بفتح الدال و الباء.
الإعراب
لو لا للتحضيض و لا يدخل إلا على الفعل و معناه هلا تضرعوا «وَ لكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ» معطوف على تأويل الكلام الأول فإن في قوله (هلا تضرعوا) دلالة على أنهم لم يتضرعوا و قوله «بَغْتَةً» مصدر وقع موقع الحال أي أخذناهم مباغتين.
465
مجمع البیان في تفسير القرآن4
المعنى ص : 466
المعنى
ثم أعلم الله
سبحانه نبيه حال الأمم الماضية في مخالفة رسله و بين أن حال هؤلاء إذا سلكوا طريق
المخالفة كحالهم في نزول العذاب بهم فقال «وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا» و هاهنا
محذوف و تقديره رسلا «إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ» فخالفوهم
«فَأَخَذْناهُمْ» و حسن الحذف للإيجاز به و الاختصار من غير إخلال لدلالة مفهوم
الكلام عليه «بِالْبَأْساءِ وَ الضَّرَّاءِ» يريد به الفقر و
البؤس و الأسقام و الأوجاع عن ابن عباس و الحسن «لَعَلَّهُمْ
يَتَضَرَّعُونَ» و معناه لكي يتضرعوا و قال الزجاج لعل ترج و هذا الترجي للعباد،
المعنى فأخذناهم بذلك ليكون ما يرجوه العباد منهم من التضرع كما قال في قصة فرعون لَعَلَّهُ
يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى قال سيبويه المعنى اذهبا أنتما على رجائكما
فالله عالم بما يكون من وراء ذلك أخبر الله تعالى أنه أرسل الرسل إلى أقوام بلغوا
من القسوة إلى أن أخذوا بالشدة في أنفسهم و أموالهم ليخضعوا و يذلوا لأمر الله فلم
يخضعوا و لم يتضرعوا و هذا كالتسلية للنبي (ص) «فَلَوْ لا إِذْ
جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا» معناه فهلا تضرعوا إذ جاءهم بأسنا «وَ
لكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ» فأقاموا على كفرهم فلم تنجع فيهم العظة «وَ
زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ» بالوسوسة و الإغراء بالمعصية لما فيها من
عاجل اللذة «ما كانُوا يَعْمَلُونَ» يعني أعمالهم و في هذا حجة على من قال
إن الله لم يرد من الكافرين الإيمان لأنه سبحانه بين أنه إنما فعل ذلك بهم
ليتضرعوا و بين أن الشيطان هو الذي زين الكفر للكافر بخلاف ما قالته المجبرة من
أنه تعالى هو المزين لهم ذلك «فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ» أي تركوا ما
وعظوا به عن ابن عباس و تأويله تركوا العمل بذلك و قيل تركوا ما دعاهم إليه الرسل
عن مقاتل «فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ» أي كل نعمة
و بركة من السماء و الأرض عن ابن عباس و قيل أبواب كل شيء كان مغلقا عنهم من الخير
عن مقاتل و المعنى أنه تعالى امتحنهم بالشدائد لكي يتضرعوا و يتوبوا فلما تركوا
ذلك فتح عليهم أبواب النعم و التوسعة في الرزق ليرغبوا بذلك في نعيم الآخرة و إنما
فعل ذلك بهم و إن كان الموضع موضع العقوبة و الانتقام دون الإكرام و الإنعام
ليدعوهم ذلك إلى الطاعة فإن الدعاء إلى الطاعة يكون تارة بالعنف و تارة باللطف أو
لتشديد العقوبة عليهم بالنقل من النعيم إلى العذاب الأليم «حَتَّى إِذا
فَرِحُوا بِما أُوتُوا» من النعم و اشتغلوا بالتلذذ و أظهروا السرور بما أعطوه و
لم يروه نعمة من الله تعالى حتى يشكروه «أَخَذْناهُمْ» أي أحللنا
بهم العقوبة «بَغْتَةً» أي مفاجاة من حيث لا يشعرون «فَإِذا
هُمْ مُبْلِسُونَ» أي آيسون من النجاة و الرحمة عن ابن عباس و قيل أذلة خاضعون عن
البلخي و قيل متحيرون منقطعوا الحجة، و المعاني متقاربة و المراد بقوله
«أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ» التكثير و التفخيم دون
466
مجمع البیان في تفسير القرآن4
المعنى ص : 466
التعميم و هو
مثل قوله وَ أُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ و المراد فتحنا
عليهم أبواب أشياء كثيرة و آتيناهم خيرا كثيرا و
روي عن
النبي (ص) أنه قال إذا رأيت الله تعالى يعطي على المعاصي فإن ذلك استدراج منه
ثم تلا هذه الآية
، و نحوه ما
روي عن
أمير المؤمنين علي ع أنه قال يا ابن آدم إذا رأيت ربك يتابع عليك نعمة
فاحذره
«فَقُطِعَ
دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا» معناه فاستؤصل الذين ظلموا بالعذاب فلم يبق
لهم عقب و لا نسل «وَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» على إهلاك
أعدائه و إعلاء كلمة رسله، حمد الله تعالى نفسه بأن استأصل شافتهم و قطع دابرهم
لأنه سبحانه أرسل إليهم و أنظرهم بعد كفرهم و أخذهم بالبأساء و الضراء و اختبرهم
بالمحنة و البلاء ثم بالنعمة و الرخاء و بالغ في الإنذار و الإمهال و الإنظار فهو
المحمود على كل حال و في هذا تعليم للمؤمنين ليحمدوا الله تعالى على كفايته إياهم
شر الظالمين و دلالة على أن هلاكهم نعمة من الله تعالى يجب حمده عليها و
روى علي بن
إبراهيم عن أبيه عن القاسم بن محمد عن سليمان بن داود المقري عن فضيل بن عياض عن
أبي عبد الله (ع) قال سألته عن الورع فقال الورع هو الذي يتورع عن محارم الله
و يجتنب هؤلاء و إذا لم يتق الشبهات وقع في الحرام و هو لا يعرفه و إذا رأى المنكر
و لم ينكره و هو يقدر عليه فقد أحب أن يعصى الله و من أحب أن يعصى الله فقد بارز
الله بالعداوة و من أحب بقاء الظالمين فقد أحب أن يعصى الله و أن الله حمد نفسه
على إهلاك الظالمين فقال «فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ
ظَلَمُوا وَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ».
467
مجمع البیان في تفسير القرآن4
[سورة الأنعام(6): الآيات 46 الى 49] ص : 468
[سورة الأنعام (6): الآيات 46 الى 49]
قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَ أَبْصارَكُمْ وَ خَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46) قُلْ أَ رَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47) وَ ما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَ أَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (48) وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (49)
اللغة
صدف عن الشيء صدوفا إذا مال عنه و الصدف و الصدفة الجانب و الناحية و الصدف كل بناء مرتفع و
في الحديث كان (ص) إذا مر بصدف مائل أسرع المشي
. الإعراب
«مَنْ إِلهٌ» مبتدأ و خبر و غير صفة إله و هذه الجملة في موضع مفعولي أ رأيتم و من استفهام علق الفعل الذي هو أ رأيتم فلم يعمل في مفعوليه لفظا و قوله «إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ» جوابه محذوف و تقديره فمن يأتيكم به إلا أنه أغنى عنه قوله «مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ» الذي هو مفعول أ رأيتم في المعنى و موضع الشرط و جوابه نصب على الحال كما تقول لأضربنه إن ذهب أو مكث فإن قولك إن ذهب أو مكث وقع موقع ذاهبا أو ماكثا و تقديره مقدرا ذهابه أو مكثه و يدل على أنه في موضع الحال مشابهته المفرد في أنه لا يستقل بنفسه كما تستقل الجمل و إن كان جملة في المعنى فإنه بدخول حرف الشرط قد صار بمنزلة المفرد في الحاجة إلى ما يستند إليه كما احتاج المفرد و يدل على قوة اتصاله بما قبله حاجته إلى ما قبله كما احتاج ما وقع موقعه إلى ما قبله و ليس شيء من الفضلات يقع الجملة موقعه غير الحال فثبت أنه في موضع منصوب هو حال فإن قيل إن الجزاء مقدر و الشرط المذكور في اللفظ مع الجزاء كلام مستقل و إنما كان هذا الاستدلال يسوغ لو كان الجزاء غير مقدر قيل الجزاء و إن كان مقدرا لا حكم له لأنه لا يجوز إظهاره و إنما هو شيء يثبت من جهة التقدير فضعف أمره و لو جاز إظهاره لكان في موضع الحال و هذا مأخوذ من كلام أبي علي الفارسي ذكره في القصريات مع كلام كثير في معناه قد دقق فيه و لم يسبق إليه و قوله «يَأْتِيكُمْ بِهِ» في موضع رفع بأنه صفة إله.
المعنى
ثم زاد سبحانه في الاحتجاج عليهم فقال «قُلْ» يا محمد لهؤلاء الكفار «أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَ أَبْصارَكُمْ» أي ذهب بهما فصرتم صما عميا «وَ خَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ» أي طبع عليها و قيل ذهب بعقولكم و سلب عنكم التمييز حتى لا تفهمون شيئا و إنما خص هذه الأشياء بالذكر لأن بها تتم النعمة دينا و دنيا «مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ» قال الزجاج هذه الهاء تعود إلى معنى الفعل، المعنى من إله غير الله يأتيكم بما أخذ منكم قال
468
مجمع البیان في تفسير القرآن4
المعنى ص : 468
و يجوز أن
يكون عائدا إلى السمع و يكون ما عطف على السمع داخلا في القصة معه إذا كان معطوفا
عليه قال ابن عباس يريد لا يقدر هؤلاء الذين يعبدون أن يجعلوا لكم أسماعا و أبصارا
و قلوبا تعقلون بها و تفهمون أي إن أخذها الله منكم فمن يردها عليكم بين سبحانه
بهذا أنه كما لا يقدر على ذلك غير الله فكذلك يجب أن لا تعبدوا سواه
«انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ» أي نبين لهم في القرآن الآيات عن الكلبي و
قيل تصريف الآيات توجيهها في الجهات التي يظهرها أتم الإظهار و مرة في جهة النعمة
و مرة في جهة الشدة و قيل تصريف الآيات إحداثها دالة على وجوه كما أن الآية
المعجزة تدل على فاعلها و على قدرته و علمه و على نبوة النبي (ص) و صدقه «ثُمَّ
هُمْ» أي الكفار «يَصْدِفُونَ» أي يعرضون عن تأمل الآيات و الفكر
فيها و قيل إعراضهم عنها كفرهم بها و إنما قال أنظر لأنه تعالى عجب أولا من تتابع
نعمه عليهم و ضروب دلائله من تصريف الآيات و أسباب الاعتبار ثم عجب ثانيا من
إعراضهم عنها ثم زاد تعالى في الحجاج فقال «قُلْ أَ رَأَيْتَكُمْ» أي أعلمتم «إِنْ
أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ» أي عذبكم الله بعد أعذاره عليكم و إرساله
الرسل «بَغْتَةً» أي مفاجاة «أَوْ جَهْرَةً» أي علانية و
إنما قابل البغتة بالجهرة لأن البغتة تتضمن معنى الخفية لأنه يأتيهم من حيث لا
يشعرون و قيل البغتة أن يأتيهم ليلا و الجهرة أن يأتيهم نهارا عن الحسن «هَلْ
يُهْلَكُ» أي لا يهلك بهذا العذاب «إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ» أي الكافرون
الذين يكفرون بالله و يفسدون في الأرض و قيل أنهم كانوا يستدعون العذاب فبين أنه
إذا نزل لا يهلك به إلا الكافرون فإن هلك فيه مؤمن أو طفل فإنما يهلك محنة و يعوضه
الله على ذلك أعواضا كثيرة يصغر ذلك في جنبها و المراد بذلك عذاب الدنيا دون عذاب
الآخرة ثم بين سبحانه أنه لا يبعث الرسل أربابا يقدرون على كل شيء يسألون عنه من
الآيات و إنما يرسلهم لما يعلمه من المصالح فقال «وَ ما نُرْسِلُ
الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ» ثم ذكر ثواب من
صدقهم في باقي الآية و عقاب من كذبهم في الآية الثانية فقال «فَمَنْ آمَنَ» أي صدق
الرسل «وَ أَصْلَحَ» أي عمل صالحا في الدنيا «فَلا خَوْفٌ
عَلَيْهِمْ» في الآخرة «وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ» كما يحزن أهل النار
و قيل لا يحزنون على ما خلفوا وراءهم في الدنيا «وَ الَّذِينَ
كَذَّبُوا بِآياتِنا» أي أدلتنا و حججنا و قيل بمحمد (ص) و معجزاته
«يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ» يصيبهم العذاب يوم القيامة «بِما كانُوا
يَفْسُقُونَ» أي بفسقهم و خروجهم عن الإيمان.
469
مجمع البیان في تفسير القرآن4
[سورة الأنعام(6): آية 50] ص : 470
[سورة الأنعام (6): آية 50]
قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَ لا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَ لا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَ الْبَصِيرُ أَ فَلا تَتَفَكَّرُونَ (50)
اللغة
الخزائن جمع الخزانة و هي اسم المكان الذي يخزن فيه الشيء و خزن الشيء إحرازه بحيث لا تناله الأيدي و منه خزن اللحم خزنا إذا تغير لأنه يخبأ حتى ينتن.
المعنى
ثم أمر النبي (ص) أن يقول لهم بعد اقتراحهم الآيات منه أني لا أدعي الربوبية و إنما أدعي النبوة فقال «قُلْ» يا محمد «لا أَقُولُ لَكُمْ» أيها الناس «عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ» يريد خزائن رحمة الله عن ابن عباس و قيل خزائن الله مقدوراته عن الجبائي و قيل أرزاق الخلق حتى يؤمنوا طمعا في المال «وَ لا أَعْلَمُ الْغَيْبَ» الذي يختص الله بعلمه و إنما أعلم قدر ما يعلمني الله تعالى من أمر البعث و النشور و الجنة و النار و غير ذلك و قيل عاقبة ما تصيرون إليه عن ابن عباس «وَ لا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ» لأني إنسان تعرفون نسبي يريد لا أقدر على ما يقدر عليه الملك و قد استدل بهذا على أن الملائكة أفضل من الأنبياء و هذا بعيد لأن الفضل الذي هو كثرة الثواب لا معنى له هاهنا و إنما المراد لا أقول لكم إني ملك فأشاهد من أمر الله و غيبه عن العباد ما تشاهده الملائكة «إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ» يريد ما أخبركم إلا بما أنزله الله إلي عن ابن عباس و قال الزجاج أي ما أنبأتكم به من غيب فيما مضى و فيما سيكون فهو بوحي من الله عز و جل ثم أمره سبحانه فقال «قُلْ» يا محمد لهم «هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَ الْبَصِيرُ» أي هل يستوي العارف بالله سبحانه العالم بدينه و الجاهل به و بدينه فجعل الأعمى مثلا للجاهل و البصير مثلا للعارف بالله و بنبيه و هذا قول الحسن و اختاره الجبائي و
في تفسير أهل البيت هل يستوي من يعلم و من لا يعلم
و قيل معناه هل يستوي من صدق على نفسه و اعترف بحاله التي هو عليها من الحاجة و العبودية لخالقه و من ذهب عن البيان و عمي عن الحق عن البلخي «أَ فَلا تَتَفَكَّرُونَ» فتنصفوا من أنفسكم و تعملوا بالواجب عليكم من الإقرار بالتوحيد و نفي التشبيه و هذا استفهام يراد به الإخبار يعني إنهما لا يستويان.
470
مجمع البیان في تفسير القرآن4
[سورة الأنعام(6): آية 51] ص : 471
[سورة الأنعام (6): آية 51]
وَ أَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَ لا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51)
الإعراب
الهاء في به يعود إلى ما من قوله ما يُوحى إِلَيَ و ليس مع اسمه و خبره في موضع نصب على الحال من يخافون كأنه قيل متخلين من ولي و شفيع.
المعنى
ثم أمر سبحانه بعد تقديم البينات بالإنذار فقال «وَ أَنْذِرْ» أي عظ و خوف «بِهِ» أي بالقرآن عن ابن عباس و قيل بالله عن الضحاك «الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ» يريد المؤمنين يخافون يوم القيامة و ما فيها من شدة الأهوال عن ابن عباس و الحسن و قيل معناه يعلمون عن الضحاك و قيل يخافون أن يحشروا علما بأنه سيكون عن الفراء قال و لذلك فسره المفسرون بيعلمون قال الزجاج المراد بهم كل معترف بالبعث من مسلم و كتابي و إنما خص الذين يخافون الحشر دون غيرهم و هو ينذر جميع الخلق لأن الذين يخافون الحشر الحجة عليهم أوجب لاعترافهم بالمعاد و
قال الصادق (ع أنذر بالقرآن من يرجون الوصول إلى ربهم ترغبهم فما عنده فإن القرآن شافع مشفع لهم
«لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ» أي غير الله «وَلِيٌّ وَ لا شَفِيعٌ» عن الضحاك و قال الزجاج إن اليهود و النصارى ذكرت أنها أبناء الله و أحباؤه فأعلم الله عز اسمه أن أهل الكفر ليس لهم من دون الله ولي و لا شفيع و هذا الذي قاله ظاهر في أهل الكفر و المفسرون على أن الآية في المؤمنين و يكون معنى قوله «لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَ لا شَفِيعٌ» على أن شفاعة الأنبياء و غيرهم للمؤمنين إنما تكون بإذن الله لقوله سبحانه مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ فذلك راجع إلى الله تعالى «لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ» كي يخافوا في الدنيا و ينتهوا عما نهيتم عنه عن ابن عباس.
[سورة الأنعام (6): الآيات 52 الى 53]
وَ لا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَ الْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَ ما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52) وَ كَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَ هؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)
471
مجمع البیان في تفسير القرآن4
القراءة ص : 472
القراءة
قرأ ابن عامر بالغدوة و العشي في كل القرآن بواو و الباقون «بِالْغَداةِ» بالألف.
الحجة
قال أبو علي الوجه «بِالْغَداةِ» لأنها تستعمل نكرة و تتعرف باللام فأما غدوة فمعرفة لم تتنكر و هو علم صيغ له قال سيبويه غدوة و بكرة جعل كل واحد منهما اسما للجنس كما جعلوا أم حبين اسما لدابة معروفة قال و زعم يونس عن أبي عمرو و هو القياس إنك إذا قلت لقيته يوما من الأيام غدوة أو بكرة و أنت تريد المعرفة لم تنون و هذا يقوي قراءة من قرأ «بِالْغَداةِ وَ الْعَشِيِّ» و وجه قراءة ابن عامر أن سيبويه قال زعم الخليل أنه يجوز أن تقول أتيتك اليوم غدوة و بكرة فجعلهما بمنزلة ضحوة و من حجته أن بعض أسماء الزمان جاء معرفة بغير ألف و لام نحو ما حكاه أبو زيد من قولهم لقيته فينة غير مصروف و الفينة بعد الفينة فألحق لام المعرفة ما استعمل معرفة و وجه ذلك أنه يقدر فيه التنكير و الشياع كما يقدر فيه ذلك إذا ثني و ذلك مستمر في جميع هذا الضرب من المعارف و مثل ذلك ما حكاه سيبويه من قول العرب هذا يوم اثنين مباركا و أتيتك يوم اثنين مباركا فجاء معرفة بلا ألف و لام كما جاء بالألف و اللام و من ثم انتصب الحال و مثل ذلك قولهم هذا ابن عرس مقبل أما أن يكون جعل عرسا نكرة و إن كان علما و أما أن يكون أخبر عنه بخبرين.
الإعراب
«فَتَطْرُدَهُمْ» جواب للنفي في قوله «ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَ ما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ» و قوله «فَتَكُونَ» نصب لأنه جواب للنهي و هو قوله «وَ لا تَطْرُدِ» أي لا تطردهم فتكون من الظالمين و قد بينا تقديره في مواضع.
النزول
روى الثعلبي بإسناده عن عبد الله بن مسعود قال مر الملأ من قريش على رسول الله (ص) و عنده صهيب و خباب و بلال و عمار و غيرهم من ضعفاء المسلمين فقالوا يا محمد أ رضيت بهؤلاء من قومك أ فنحن نكون تبعا لهم أ هؤلاء الذين من الله عليهم أطردهم عنك فلعلك إن طردتهم تبعناك فأنزل الله تعالى «وَ لا تَطْرُدِ» إلى آخره و قال سلمان و خباب فينا نزلت هذه الآية جاء الأقرع بن حابس التميمي و عيينة بن حصين الفزاري و ذووهم من المؤلفة قلوبهم فوجدوا النبي (ص) قاعدا مع بلال و صهيب و عمار و خباب في ناس من ضعفاء المؤمنين فحقروهم و قالوا يا رسول الله لو نحيت هؤلاء عنك حتى نخلو بك فإن وفود العرب تأتيك فنستحي أن يرونا مع هؤلاء الأعبد ثم إذا انصرفنا فإن شئت فأعدهم إلى مجلسك
472
مجمع البیان في تفسير القرآن4
المعنى ص : 473
فأجابهم
النبي (ص) إلى ذلك فقالا له اكتب لنا بهذا على نفسك كتابا فدعا بصحيفة و أحضر عليا
ليكتب قال و نحن قعود في ناحية إذ نزل جبرائيل (ع) بقوله «وَ لا تَطْرُدِ
الَّذِينَ يَدْعُونَ» إلى قوله «أَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ
بِالشَّاكِرِينَ» فنحى رسول الله (ص) الصحيفة و أقبل علينا و دنونا منه و هو يقول كتب
ربكم على نفسه الرحمة فكنا نقعد معه فإذا أراد أن يقوم قام و تركنا فأنزل الله عز و
جل «وَ اصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ» الآية قال
فكان رسول الله (ص) يقعد معنا و يدنو حتى كادت ركبتنا تمس ركبته فإذا بلغ الساعة
التي يقوم فيها قمنا و تركناه حتى يقوم و قال لنا الحمد لله الذي لم يمتني حتى
أمرني أن أصبر نفسي مع قوم من أمتي معكم المحيا و معكم الممات.
المعنى
ثم نهى
سبحانه رسوله ع عن إجابة المشركين فيما اقترحوه عليه من طرد المؤمنين فقال «وَ لا
تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَ الْعَشِيِّ» يريد يعبدون
ربهم بالصلاة المكتوبة يعني صلاة الصبح و العصر عن ابن عباس و الحسن و مجاهد و
قتادة و قيل إن المراد بالدعاء هاهنا الذكر أي يذكرون ربهم طرفي النهار عن إبراهيم
و روي عنه أيضا أن هذا في الصلوات الخمس «يُرِيدُونَ وَجْهَهُ» يعني يطلبون
ثواب الله و يعملون ابتغاء مرضاة الله لا يعدلون بالله شيئا عن عطا قال الزجاج شهد
الله لهم بصدق النيات و أنهم مخلصون في ذلك له أي يقصدون الطريق الذي أمرهم بقصده
فكأنه ذهب في معنى الوجه إلى الجهة و الطريق «ما عَلَيْكَ
مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَ ما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ» يريد ما
عليك من حساب المشركين شيء و لا عليهم من حسابك شيء إنما الله الذي يثيب أولياءه
و يعذب أعداءه عن ابن عباس في رواية عطا و أكثر المفسرين يردون الضمير إلى الذين
يدعون ربهم و هو الأشبه و ذكروا فيه وجهين (أحدهما) ما عليك من عملهم و من حساب
عملهم من شيء عن الحسن و ابن عباس و هذا كقوله تعالى في قصة نوح إِنْ
حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ و هذا لأن المشركين
ازدروهم لفقرهم و حاجتهم إلى الأعمال الدينية و هم برفع المشركين عليهم في المجلس
فقيل له ما عليك من حسابهم من شيء أي لا يلزمك عار بعملهم
«فَتَطْرُدَهُمْ» ثم قال «وَ ما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ» تأكيدا
لمطابقة الكلام و إن كان مستغنى عنه بالأول (الوجه الثاني) ما عليك من حساب رزقهم
من شيء فتملهم و تطردهم أي ليس رزقهم عليك و لا رزقك عليهم و إنما يرزقك و إياهم
الله الرازق فدعهم يدنوا منك و لا تطردهم «فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ» لهم بطردهم
عن ابن زيد و قيل فتكون من
473
مجمع البیان في تفسير القرآن4
[سورة الأنعام(6): آية 54] ص : 474
الضارين
لنفسك بالمعصية عن ابن عباس قال ابن الأنباري عظم الأمر في هذا على النبي ص و خوف
الدخول في جملة الظالمين لأنه كان قد هم بتقديم الرؤساء و أولي الأموال على
الضعفاء مقدرا أنه يستجر بإسلامهم إسلام قومهم و من لف لفهم و كان (ص) لم يقصد في
ذلك إلا قصد الخير و لم ينو به ازدراء بالفقراء فأعلمه الله إن ذلك غير جائز ثم
أخبر الله سبحانه أنه يمتحن الفقراء بالأغنياء و الأغنياء بالفقراء فقال «وَ
كَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ» أي كما ابتلينا قبلك الغني بالفقير و
الشريف بالوضيع ابتلينا هؤلاء الرؤساء من قريش بالموالي فإذا نظر الشريف إلى
الوضيع قد آمن قبله حمي آنفا أن يسلم و يقول سبقني هذا بالإسلام فلا يسلم و إنما
قال سبحانه «فَتَنَّا» و هو لا يحتاج إلى الاختبار لأنه عاملهم
معاملة المختبر «لِيَقُولُوا» هذه لام العاقبة المعنى فعلنا هذا ليصبروا و
يشكروا فآل أمرهم إلى هذه العاقبة «أَ هؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ
مِنْ بَيْنِنا» و الاستفهام معناه الإنكار كأنهم أنكروا أن يكونوا سبقوهم بفضيلة أو
خصوا بمنة و قال أبو علي الجبائي المعنى في «فَتَنَّا» شددنا
التكليف على أشراف العرب بأن أمرناهم بالإيمان و بتقديمهم هؤلاء الضعفاء على
نفوسهم لتقدمهم إياهم في الإيمان و هذا أمر كان شاقا عليهم فلذلك سماه الله فتنة و
قوله «لِيَقُولُوا» أي فعلنا هذا بهم ليقول بعضهم لبعض على وجه
الاستفهام لا على وجه الإنكار أ هؤلاء من الله عليهم بالإيمان إذا رأوا النبي يقدم
هؤلاء عليهم و ليرضوا بذلك من فعل رسول الله و لم يجعل هذه الفتنة و الشدة في
التكليف ليقولوا ذلك على وجه الإنكار لأن إنكارهم لذلك كفر بالله و معصية و الله
سبحانه لا يريد ذلك و لا يرضاه و لأنه لو أراد ذلك و فعلوه كانوا مطيعين له لا
عاصين و قد ثبت خلافه و قوله «أَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ
بِالشَّاكِرِينَ» هذا استفهام تقرير أي أنه كذلك كقول جرير:
أ لستم
خير من ركب المطايا
|
|
و أندى
العالمين بطون راح
|
و هذا دليل
واضح على أن فقراء المؤمنين و ضعفاءهم أولى بالتقريب و التقديم و التعظيم من
أغنيائهم و لقد
قال أمير
المؤمنين علي (ع) من أتى غنيا فتواضع لغنائه ذهب ثلثا دينه.
[سورة
الأنعام (6): آية 54]
وَ إِذا
جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ
رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً
بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54)
474
مجمع البیان في تفسير القرآن4
القراءة ص : 475
القراءة
قرأ أهل المدينة «أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ» بالفتح فإنه بالكسر و قرأ عاصم و ابن عامر و يعقوب «أَنَّهُ» «فَأَنَّهُ» بفتح الألف فيهما و قرأ الباقون إنه فإنه بالكسر فيهما.
الحجة
قال أبو علي من كسر فقال إنه من عمل جعله تفسيرا للرحمة كما أن قوله «لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ عَظِيمٌ» تفسير للوعد و أما كسر فإنه غفور رحيم فلأن ما بعد الفاء حكمه الابتداء و من ثم حمل قوله فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ على إرادة المبتدأ بعد الفاء و حذفه و أما من فتح أن في قوله «أَنَّهُ» فإنه جعل أن الأولى بدلا من الرحمة كأنه قال «كتب ربكم على نفسه أنه من عمل» و أما فتحها بعد الفاء فعلى أنه أضمر له خبرا و تقديره فله أنه غفور رحيم أي فله غفرانه أو أضمر مبتدأ يكون أنه خبرا له أي فأمره أنه غفور رحيم و على هذا التقدير يكون الفتح في قول من فتح أَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ تقديره فله أن له نار جهنم إلا أن إضماره هنا أحسن لأن ذكره قد جرى في قوله فَأَنَّ لَهُ و إن شئت قدرت فأمره أن له نار جهنم فيكون خبر هذا المبتدأ المضمر و أما قراءة «كَتَبَ رَبُّكُمْ» «أَنَّهُ» فإنه فالقول فيها أنه أبدل من الرحمة ثم استأنف ما بعد الفاء.
اللغة
قال المبرد السلام في اللغة أربعة أشياء مصدر سلمت سلاما و جمع سلامة و اسم من أسماء الله عز و جل و شجر في قوله:
و معنى السلام الذي هو مصدر أنه دعاء للإنسان بأن يسلم من الآفات و السلام اسم الله تأويله ذو السلام أي الذي يملك السلام الذي هو التخلص من المكروه و أما السلام الشجر فهو شجر قوي سمي بذلك لسلامته من الآفات و السلام الحجارة سمي بذلك لسلامتها من الرخاوة و الصلح يسمى السلام و السلم لأن معناه السلامة من الشر و السلم الدلو التي لها عروة واحدة لأنها أسلم الدلاء من الآفات.
النزول
اختلف في من نزلت فيه هذه الآية فقيل نزلت في الذين نهى الله عز و جل
475
مجمع البیان في تفسير القرآن4
المعنى ص : 476
نبيه عن طردهم و كان النبي إذا رآهم بدأهم بالسلام و قال الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرني أن أبدأهم بالسلام عن عكرمة و قيل نزلت في جماعة من الصحابة منهم حمزة و جعفر و مصعب بن عمير و عمار و غيرهم عن عطاء و قيل إن جماعة أتوا رسول الله ص فقالوا إنا أصبنا ذنوبا كثيرة فسكت عنهم رسول الله ص فنزلت الآية عن أنس بن مالك و
قيل نزلت في التائبين و هو المروي عن أبي عبد الله ع.
المعنى
ثم أمر سبحانه نبيه بتعظيم المؤمنين فقال «وَ إِذا جاءَكَ» يا محمد «الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ» أي يصدقون «بِآياتِنا» أي بحججنا و براهيننا «فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ» ذكر فيه وجوه (أحدها) أنه أمر نبيه ص أن يسلم عليهم من الله تعالى فهو تحية من الله على لسان نبيه ص عن الحسن (و ثانيها) أن الله تعالى أمر نبيه ص أن يسلم عليهم تكرمة لهم عن الجبائي (و ثالثها) أن معناه أقبل عذرهم و اعترافهم و بشرهم بالسلامة مما اعتذروا منه عن ابن عباس «كَتَبَ رَبُّكُمْ» أي أوجب ربكم «عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ» إيجابا مؤكدا عن الزجاج قال إنما خوطب الخلق بما يعقلون و هم يعقلون أن الشيء المؤخر إنما يحفظ بالكتاب و قيل معناه كتبه في اللوح المحفوظ و قد سبق بيان هذا في أول السورة «أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ» قال الزجاج يحتمل الجهالة هاهنا وجهين (أحدهما) أنه عمله و هو جاهل بمقدار المكروه فيه أي لم يعرف أن فيه مكروها (و الآخر) أنه علم أن عاقبته مكروهة و لكنه آثر العاجل فجعل جاهلا بأنه آثر النفع القليل على الراحة الكثيرة و العافية الدائمة و هذا أقوى و مثله قوله سبحانه «إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ» الآية و قد ذكرنا ما فيه هناك «ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَصْلَحَ» أي رجع عن ذنبه و لم يصر على ما فعل و أصلح عمله «فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ».
[سورة الأنعام (6): آية 55]
وَ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَ لِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55)
القراءة
قرأ أهل المدينة «وَ لِتَسْتَبِينَ» بالتاء سبيل بالنصب و قرأ أهل الكوفة غير حفص و ليستبين بالياء «سَبِيلُ» بالرفع و قرأ زيد عن يعقوب و ليستبين بالياء سبيل بالنصب و قرأ الباقون «وَ لِتَسْتَبِينَ» بالتاء «سَبِيلُ» بالرفع.
الحجة
من قرأ «لِتَسْتَبِينَ» بالتاء «سَبِيلُ» رفعا جعل السبيل فاعلا و أنثه كما في قوله قُلْ هذِهِ سَبِيلِي قال سيبويه استبان الشيء و استبنته و من قرأ «وَ لِتَسْتَبِينَ» بالتاء سبيل نصبا ففي الفعل
476
مجمع البیان في تفسير القرآن4
الإعراب ص : 477
ضمير المخاطب و سبيل مفعوله و هو على قولك استبنت الشيء و من قرأ بالياء «سَبِيلُ» رفعا فالفعل مسند إلى السبيل إلا أنه ذكر كما في قوله سبحانه يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا و المعنى و ليستبين سبيل المؤمنين و سبيل المجرمين فحذف لأن ذكر إحدى السبيلين يدل على الآخر و مثله سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ و لم يذكر البرد لدلالة الحر عليه و من قرأ بالياء و نصب اللام فتقديره و ليستبين السائل سبيل المجرمين.
الإعراب
«كَذلِكَ» الكاف في موضع نصب بأنه مفعول نفصل و ذلك مجرور الموضع بإضافة الكاف إليه و يسأل ما المشبه و ما المشبه به في قوله «وَ كَذلِكَ» و فيه جوابان (أحدهما) التفصيل الذي تقدم في صفة المهتدين و صفة الضالين شبه بتفصيل الدلائل على الحق من الباطل في صفة غيرهم من كل مخالف للحق (و الثاني) أن المعنى كما فصلنا ما تقدم من الآيات لكم نفصله لغيركم.
المعنى
ثم عطف سبحانه على الآيات التي احتج بها على مشركي مكة و غيرهم فقال «وَ كَذلِكَ» أي كما قدمناه من الدلالات على التوحيد و النبوة و القضاء «نُفَصِّلُ الْآياتِ» و هي الحجج و الدلالات أي نميزها و نبينها و نشرحها على صحة قولكم و بطلان ما يقوله هؤلاء الكفار «وَ لِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ» بالرفع أي ليظهر طريق من عاند بعد البيان إذا ذهب عن فهم ذلك بالإعراض عنه لمن أراد التفهم لذلك من المؤمنين ليجانبوها و يسلكوا غيرها و بالنصب ليعرف السامع أو السائل أو التعرف أنت يا محمد سبيلهم و سبيلهم يريد به ما هم عليه من الكفر و العناد و الإقدام على المعاصي و الجرائم المؤدية إلى النار و قيل إن المراد بسبيلهم ما عاجلهم الله به من الإذلال و اللعن و البراءة منهم و الأمر بالقتل و السبي و نحو ذلك و الواو في «وَ لِتَسْتَبِينَ» للعطف على مضمر محذوف و التقدير لتفهموا و لتستبين سبيل المجرمين و المؤمنين و جاز الحذف لأن فيما أبقي دليلا على ما ألقى.
[سورة الأنعام (6): آية 56]
قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَ ما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56)
القراءة
روي في الشواذ عن يحيى بن وثاب ضللت بكسر اللام و القراء كلهم على فتحها.
477
مجمع البیان في تفسير القرآن4
الحجة ص : 478
الحجة
و هما لغتان ضللت تضل و ضللت تضل قال أبو عبيدة و اللغة الغالبة الفتح.
الإعراب
معنى من في قوله «مِنْ دُونِ اللَّهِ» إضافة الدعاء إلى دون بمعنى ابتداء الغاية و معنى إذا الجزاء و المعنى قد ضللت إن عبدتها.
المعنى
ثم أمر الله سبحانه نبيه بأن يظهر البراءة مما يعبدونه فقال «قُلْ» يا محمد «إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ» يعني الأصنام التي تعبدونها و تدعونها آلهة «قُلْ» يا محمد «لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ» في عبادتها أي إنما عبدتموها على طريق الهوى لا على طريق البينة و البرهان عن الزجاج و قيل معناه لا أتبع أهواءكم في طرد المؤمنين «قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً» أي إن أنا فعلت ذلك عن ابن عباس «وَ ما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ» الذين سلكوا سبيل الدين و قيل معناه و ما أنا من المهتدين النبيين الذين سلكوا طريق الهدى.
[سورة الأنعام (6): الآيات 57 الى 58]
قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَ كَذَّبْتُمْ بِهِ ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَ هُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ (57) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58)
القراءة
قرأ أهل الحجاز و عاصم «يَقُصُّ الْحَقَّ» بالصاد و الباقون يقضي الحق.
الحجة
حجة من قرأ يقضي قوله وَ اللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِ و حكي عن أبي عمرو أنه استدل بقوله «وَ هُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ» في أن الفصل في الحكم ليس في القصص و حجة من قرأ «يَقُصُّ» قوله وَ اللَّهُ يَقُولُ الْحَقَ و قالوا قد جاء الفصل في القول أيضا في نحو قوله إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ و أما قوله «الْحَقَّ» فيحتمل أمرين يجوز أن يكون صفة مصدر محذوف تقديره يقضي القضاء الحق أو يقص القصص الحق و يجوز أن يكون مفعولا به مثل يفعل الحق كقوله:
478
مجمع البیان في تفسير القرآن4
اللغة ص : 479
و عليهما مسرودتان قضاهما
|
|
داود أو صنع السوابغ تبع.
|
اللغة
البينة الدلالة التي تفصل بين الحق و الباطل و البيان هو الدلالة و قيل هو العلم الحادث و الاستعجال طلب الشيء في غير وقته و الحكم فصل الأمر على التمام.
الإعراب
يقال لم قال كذبتم به و البينة مؤنثة قيل لأن البينة بمعنى البيان فالهاء كناية عن البيان عن الزجاج و قيل كناية عن الرب في قوله «رَبِّي» و قوله «كَذَّبْتُمْ» قد مضمر معه لأنه في موضع الحال و الحال لا يكون بالفعل الماضي إلا و معه قد إما مظهرة أو مضمرة.
المعنى
لما أمر النبي ص بأن يتبرأ مما يعبدونه عقب ذلك سبحانه بالبيان أنه على حجة من ذلك و بينة و أنه لا بينة لهم فقال «قُلْ» يا محمد لهؤلاء الكفار «إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي» أي على أمر بين لا متبع لهوى عن الزجاج و قال الحسن البينة النبوة أي على نبوة من جهة ربي و قيل على حجة من معجزة دالة على نبوتي و هي القرآن عن الجبائي و قيل على يقين من ربي عن ابن عباس «وَ كَذَّبْتُمْ بِهِ» أي بما أتيتكم به من البيان يعني القرآن «ما عِنْدِي» أي ليس عندي «ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ» قيل معناه الذي تطلبونه من العذاب كانوا يقولونه يا محمد آتنا بالذي تعدنا و هذا كقوله وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ عن ابن عباس و الحسن و قيل هي الآية التي اقترحوها عليه استعجلوه بها فأعلم الله تعالى أن ذلك عنده فقال «إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ» يريد أن ذلك عند ربي و عن ابن عباس يعني ليس الحكم في الفصل بين الحق و الباطل و في إنزال الآيات إلا لله «يَقُصُّ الْحَقَّ» أي يفصل الحق من الباطل و يقص الحق أي يقوله و يخبر به «وَ هُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ» لأنه لا يظلم في قضاياه و لا يجوز عن الحق و هذا يدل على بطلان قول من يزعم أن الظلم و القبائح بقضائه لأن من المعلوم أن ذلك كله ليس بحق «قُلْ» يا محمد لهؤلاء الكفار «لَوْ أَنَّ عِنْدِي» أي برأيي و إرادتي «ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ» من إنزال العذاب بكم «لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ» أي لفرغ من الأمر بأن أهلككم فاستريح منكم غير أن الأمر فيه إلى الله تعالى «وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ» و بوقت عذابهم و ما يصلحهم و في هذا دلالة على أنه سبحانه إنما يؤخر العقوبة لضرب من المصلحة إما لأن يؤمنوا أو لغير ذلك من المصالح فهو يدبر ذلك على حسب ما تقتضيه الحكمة.
479
مجمع البیان في تفسير القرآن4
[سورة الأنعام(6): الآيات 59 الى 60] ص : 480
[سورة الأنعام (6): الآيات 59 الى 60]
وَ عِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلاَّ هُوَ وَ يَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ وَ ما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها وَ لا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَ لا رَطْبٍ وَ لا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (59) وَ هُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَ يَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60)
اللغة
المفاتح جمع مفتح فالمفتح بالكسر المفتاح الذي يفتح به و المفتح بفتح الميم الخزانة و كل خزانة كانت لصنف من الأشياء فهو مفتح قال الفراء في قوله إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ يعني خزائنه و التوفي قبض الشيء على التمام يقال توفيت الشيء و استوفيته بمعنى و الجرح العمل بالجارحة و الاجتراح الاكتساب.
الإعراب
«وَ لا حَبَّةٍ» تقديره و لا تسقط من حبة ثابتة في ظلمات الأرض و لا رطب و لا يابس و قوله «إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ» الجار و المجرور في موضع الرفع لأنه خبر الابتداء تقديره إلا هو في كتاب مبين و لا بد من هذا التقدير لأنه لو لم يكن محمولا على هذا لوجب أن لا يعلمها في كتاب مبين و هو سبحانه يعلم ذلك في كتاب مبين و الاستثناء منقطع.
المعنى
لما ذكر سبحانه أنه أعلم بالظالمين بين عقيبه أنه لا يخفى عليه شيء من الغيب و يعلم أسرار العالمين فقال «وَ عِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ» معناه و عنده خزائن الغيب الذي فيه علم العذاب المستعجل به و غير ذلك لا يعلمها أحد إلا هو أو من أعلمه به و علمه إياه و قيل معناه و عنده مقدورات الغيب يفتح بها على من يشاء من عباده بإعلامه به و تعليمه إياه و تيسيره السبيل إليه و نصبه الأدلة له و يغلق عمن يشاء بأن لا ينصب الأدلة له و قال الزجاج يريد عنده الوصلة إلى علم الغيب و كل ما لا يعلم إذا استعلم يقال فيه افتح علي و قال ابن عمر مفاتح الغيب خمس ثم قرأ إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ الآية و قال ابن عباس معناه
480
مجمع البیان في تفسير القرآن4
المعنى ص : 480
و عنده خزائن
الغيب من الأرزاق و الأعمار و تأويل الآية إن الله تعالى عالم بكل شيء من مبتدءات
الأمور و عواقبها فهو يعجل ما تعجيله أصوب و أصلح و يؤخر ما تأخيره أصوب و أصلح و
أنه الذي يفتح باب العلم لمن يريد من الأنبياء و الأولياء لأنه لا يعلم الغيب سواه
و لا يقدر أحد أن يفتح باب العلم به للعباد إلا الله «وَ يَعْلَمُ ما
فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ» من حيوان و غيره و قال مجاهد البر القفار و
البحر كل قرية فيها ماء «وَ ما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها» قال الزجاج
المعنى أنه يعلمها ساقطة و ثابتة و أنت تقول ما يجيئك أحد إلا و أنا أعرفه فليس
تأويله إلا و أنا أعرفه في حال مجيئه فقط و قيل يعلم ما سقط من ورق الأشجار و ما
بقي و يعلم كم انقلبت ظهرا لبطن عند سقوطها «وَ لا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ
الْأَرْضِ» معناه و ما تسقط من حبة من باطن الأرض إلا يعلمها و كنى بالظلمة عن
باطن الأرض لأنه لا تدرك كما لا يدرك ما حصل في الظلمة و قال ابن عباس يعني تحت الصخرة
في أسفل الأرضين السبع أو تحت حجر أو شيء «وَ لا رَطْبٍ وَ لا يابِسٍ» قد جمع
الأشياء كلها في قوله «وَ لا رَطْبٍ وَ لا يابِسٍ» لأن الأجسام كلها لا
تخلو من أحد هذين و هو بمنزلة قولك و لا مجتمع و لا مفترق لأن الأجسام لا تخلو من
أن تكون مجتمعة أو متفرقة و قيل يريد ما ينبت ما لا ينبت عن ابن عباس و عنه أيضا
أن الرطب الماء و اليابس البادية و قيل الرطب الحي و اليابس الميت و
روي عن أبي
عبد الله (ع) أنه قال الورقة السقط الحبة الولد و ظلمات الأرض الأرحام و
الرطب ما يحيا و اليابس ما يغيض
«إِلَّا
فِي كِتابٍ» معناه و هو مكتوب في كتاب «مُبِينٍ» أي في اللوح المحفوظ
و لم يكتبها في اللوح المحفوظ ليحفظها و يدرسها فإنه كان عالما بها قبل أن كتبها و
لكن ليعارض الملائكة الحوادث على ممر الأيام بالمكتوب فيه فيجدونها موافقة للمكتوب
فيه فيزدادون علما و يقينا بصفات الله تعالى و أيضا فإن المكلف إذا علم أن أعماله
مكتوبة في اللوح المحفوظ تطالعها الملائكة قويت دواعيه إلى الأفعال الحسنة و ترك
القبائح و قال الحسن هذا توكيد في الزجر عن المعاصي و الحث على البر لأن هذه
الأشياء التي لا ثواب فيها و لا عقاب إذا كانت محصاة عنده محفوظة فالأعمال التي
فيها الثواب و العقاب أولى بالحفظ و قيل إن قوله «فِي كِتابٍ
مُبِينٍ» معناه أنه محفوظ غير منسي و لا مغفول عنه كما يقول القائل لغيره ما
تصنعه عندي مسطور مكتوب و إنما يريد بذلك أنه حافظ له يريد مكافاته عليه و أنشد:
عن البلخي
قال الجرجاني صاحب النظم تم الكلام عند قوله «وَ لا يابِسٍ» ثم استأنف
خبرا آخر بقوله «إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ» يعني و هو في كتاب
مبين أيضا لأنك لو جعلت قوله «إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ» متصلا
بالكلام الأول لفسد المعنى و لما نبه سبحانه بهذه الآية على أنه عالم لذاته من
حيث
481
مجمع البیان في تفسير القرآن4
المعنى ص : 480
أنه لو كان
عالما بعلم لوجب أحد ثلاثة أشياء كلها فاسدة إما أن يكون له علوم غير متناهية و
إما أن يكون معلوماته متناهية أو يتعلق علم واحد بمعلومات غير متناهية و كلها باطل
بالدليل نبه في الآية التي تليها على أنه قادر لذاته من حيث أنه قادر على الإحياء
و الإماتة فقال «وَ هُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ» أي يقبض
أرواحكم عن التصرف عن ابن عباس و غيره و اختاره علي بن عيسى و قيل معناه يقبضكم
بالنوم كما يقبضكم بالموت فيكون كقوله «اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ
حِينَ مَوْتِها وَ الَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها» الآية عن الزجاج و
الجبائي «وَ يَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ» أي ما كسبتم من
الأعمال على التفصيل بالنهار على كثرته و كثرتكم و فيه إشارة إلى رحمته حيث يعلم
مخالفتهم إياه ثم لا يعاجلهم بعقوبة و لا يمنعهم فضله و رحمته «ثُمَّ
يَبْعَثُكُمْ فِيهِ» أي ينبهكم من نومكم في النهار عن الزجاج و الجبائي جعل
انتباههم من النوم بعثا «لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى» معناه لتستوفوا
آجالكم و ترتيب الآية و هو الذي يتوفاكم بالليل ثم يبعثكم في النهار على علم بما
تجترحون بالنهار ليقضي أجل مسمى فاللام تتصل بقوله «ثُمَّ
يَبْعَثُكُمْ فِيهِ» إلا أنه قدم ما من أجله بعثنا بالنهار لأنه أهم و العناية
به أشد عن علي بن عيسى و معنى القضاء فصل الأمر على تمام و معنى قضاء الأجل فصل
مدة العمر من غيرها بالموت و في هذا حجة على النشأة الثانية لأن منزلتها بعد
الأولى كمنزلة اليقظة بعد النوم في أن من قدر على أحدهما فهو قادر على الآخر «ثُمَّ
إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ» يريد إذا تمت المدة المضروبة لكل نفس نقله إلى الدار
الآخرة و معنى إليه إلى حكمه و جزائه و إلى موضع ليس لأحد سواه فيه أمر «ثُمَّ
يُنَبِّئُكُمْ» يخبركم «بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» أي بما غفلتم عنه من
أعمالكم و في هذه الآية دلالة على البعث و الإعادة نبه الله سبحانه على ذلك بالنوم
و اليقظة فإن كلا منهما لا يقدر عليه غيره تعالى فأما ما يصح إعادته من الأشياء
فالصحيح من مذهب أهل العدل فيه أن يكون الشيء من فعل القديم سبحانه القادر لذاته
و أن يكون مما يبقى و أن لا يكون مما يتولد عن سبب.
482
مجمع البیان في تفسير القرآن4
[سورة الأنعام(6): الآيات 61 الى 62] ص : 483
[سورة الأنعام (6): الآيات 61 الى 62]
وَ هُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَ يُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَ هُمْ لا يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَ هُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ (62)
القراءة
قرأ حمزة وحده توفاه و الباقون بالتاء و قرأ الأعرج يفرطون في الشواذ.
الحجة
حجة من قرأ بالتاء قوله فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ و قالَتْ رُسُلُهُمْ و حجة حمزة أنه فعل متقدم مسند إلى مؤنث غير حقيقي و إنما التأنيث للجمع فهو مثل وَ قالَ نِسْوَةٌ و إن كانت الكتابة في المصحف بالياء فليس ذلك بخلاف لأن الألف الممالة قد كتبت بياء و قراءة الأعرج من أفرط في الأمر إذا زاد فيه و قراءة العامة من فرط في الأمر إذا قصر فيه فهو بمعنى لا يقصرون فيما يؤمرون به من توفي من تحضره منيته و ذاك بمعنى لا يزيدون على ذلك و لا يتوفون إلا من أمروا بتوفية و نظيره قوله وَ كُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ.
المعنى
ثم زاد سبحانه في بيان كمال قدرته فقال «وَ هُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ» معناه و الله المقتدر المستعلي على عباده الذي هو فوقهم لا بمعنى أنه في مكان مرتفع فوقهم و فوق مكانهم لأن ذلك من صفة الأجسام و الله تعالى منزه عن ذلك و مثله في اللغة أمر فلان فوق أمر فلان أي هو أعلى أمرا و أنفذ حكما و مثله قوله يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فالمراد به أنه أقوى و أقدر منهم و أنه القاهر لهم و يقال هو فوقه في العلم أي أعلم منه و فوقه في الجود أي أجود فعبر عن تلك الزيادة بهذه العبارة للبيان عنها «وَ يُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً» عطف على صلة الألف و اللام في القاهر و تقديره و هو الذي يقهر عباده و يرسل عليكم حفظة أي ملائكة يحفظون أعمالكم و يحصونها عليكم و يكتبونها و في هذا لطف للعباد لينزجروا عن المعاصي إذا علموا أن عليهم حفظة من عند الله يشهدون بها عليهم يوم القيامة «حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ» أي تقبض روحه «رُسُلُنا» يعني أعوان ملك الموت عن ابن عباس و الحسن و قتادة قالوا و إنما يقبضون الأرواح بأمره و لذلك أضاف التوفي إليه في قوله قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ و قال الزجاج يريد بالرسل هؤلاء الحفظة فيكون المعنى يرسلهم للحفظ في الحياة و التوفية عند مجيء الممات و حتى هذه هي التي تقع بعدها الجملة «وَ هُمْ لا يُفَرِّطُونَ» أي لا يضيعون عن ابن عباس و السدي و قيل لا يغفلون و لا يتوانون عن الزجاج و قال معنى التفريط تقدمة العجز فالمعنى أنهم لا يعجزون ثم بين سبحانه أن هؤلاء الذين تتوفاهم رسله يرجعون إليه فقال «ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ» أي إلى الموضع الذي لا يملك الحكم فيه إلا هو «مَوْلاهُمُ الْحَقِّ» قد مر معناه عند قوله أَنْتَ مَوْلانا و الحق اسم من أسماء الله تعالى و اختلف في معناه فقيل
483
مجمع البیان في تفسير القرآن4
[سورة الأنعام(6): الآيات 63 الى 64] ص : 484
المعنى أن أمره كله حق لا يشوبه باطل، و جد لا يجاوره هزل فيكون مصدرا وصف به نحو قولهم رجل عدل و في قول زهير:
متى يشتجر قوم يقل سرواتهم
|
|
هم بيننا فهم رضا و هم عدل
|
و قيل إن الحق بمعنى المحق كما قيل غياث بمعنى مغيث و قيل إن معناه الثابت الباقي الذي لا فناء له و قيل معناه ذو الحق يريد أن أفعاله و أقواله حق «أَلا لَهُ الْحُكْمُ» أي القضاء فيهم يوم القيامة لا يملك الحكم في ذلك اليوم سواه كما قد يملك الحكم في الدنيا غيره بتمليكه إياه «وَ هُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ» أي إذا حاسب فحسابه سريع و قد مضى معناه في سورة البقرة عند قوله سَرِيعُ الْحِسابِ و
روي عن أمير المؤمنين علي (ع) أنه سأل كيف يحاسب الله الخلق و لا يرونه قال كما يرزقهم و لا يرونه
و
روي أنه سبحانه يحاسب جميع عباده على مقدار حلب شاة
و هذا يدل على أنه لا يشغله محاسبة أحد عن محاسبة غيره و يدل على أنه سبحانه يتكلم بلا لسان و لهوات ليصح أن يحاسب الجميع في وقت واحد.
[سورة الأنعام (6): الآيات 63 الى 64]
قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَ خُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَ مِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64)
القراءة
قرأ أبو بكر عن عاصم خفية بكسر الخاء هنا و في الأعراف و الباقون «خُفْيَةً» بالضم و قرأ قل من ينجيكم خفيفة يعقوب و سهل و قرأ الباقون «يُنَجِّيكُمْ» و قرأ أهل الكوفة «لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ» بالألف إلا أن عاصما قرأ بالتفخيم و الباقون بالإمالة و قرأ غيرهم من القراء لئن أنجيتنا و قرأ أهل الكوفة و أبو جعفر و هشام عن ابن عامر «قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ» بالتشديد و الباقون ينجيكم بالتخفيف.
الحجة
أما خفية فإن أبا عبيدة قال خفية أي تخفون في أنفسكم و حكى غيره خفية
484
مجمع البیان في تفسير القرآن4
الإعراب ص : 485
و خفية لغتان
و أما خيفة ففعلة من الخوف انقلبت الياء عن الواو للكسرة قال:
فلا
تقعدن على زخة
|
|
و تضمر
في القلب وجدا و خيفا
|
و هو جمع
خيفة و أما قوله ينجيكم فإنهم قالوا نجا زيد فإذا نقل الفعل حسن نقله بالهمزة كما
حسن نقله بالتضعيف و في التنزيل فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ
فَأَنْجَيْناهُ وَ الَّذِينَ مَعَهُ و فيه وَ نَجَّيْنَا
الَّذِينَ آمَنُوا فاستوى القراءتان في الحسن فأما من قرأ «أَنْجانا» فإنه حمله
على الغيبة لأن ما قبله «تَدْعُونَهُ» و ما بعده «قُلِ اللَّهُ
يُنَجِّيكُمْ» و كلاهما للغيبة و من قرأ لئن أنجيتنا فإنه واجه بالخطاب و لم يراع
من المشاكلة ما راعاه الكوفيون.
الإعراب
تدعونه في
موضع نصب على الحال تقديره قل من ينجيكم داعين و قائلين لئن أنجيتنا، تضرعا نصب
بأنه حال أيضا من تدعونه و كذلك خفية و المعنى تدعونه مظهرين الضراعة و مضمرين
الحاجة إليه أو معلنين و مسرين.
المعنى
ثم عاد
سبحانه إلى حجاج الكفار فقال «قُلْ» يا محمد لهؤلاء
الكفار «مَنْ يُنَجِّيكُمْ» أي يخلصكم و يسلمكم «مِنْ
ظُلُماتِ الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ» أي من شدائدهما و أهوالهما عن ابن عباس قال
الزجاج العرب تقول لليوم الذي تلقى فيه شدة يوم مظلم حتى أنهم يقولون يوم ذو كواكب
أي قد اشتدت ظلمته حتى صار كالليل و أنشد:
بني أسد
هل تعلمون بلاءنا
|
|
إذا كان
يوم ذو كواكب أشهب
|
و قال آخر:
فدى لبني
ذهل بن شيبان ناقتي
|
|
إذا كان
يوما ذا كواكب أشنعا
|
و قال غيره
أراد ظلمة الليل و ظلمة الغيم و ظلمة التيه و الحيرة في البر و البحر فجمع لفظه
ليدل على معنى الجمع «تَدْعُونَهُ» أي تدعون الله عند معاينة هذه
الأهوال «تَضَرُّعاً وَ خُفْيَةً» أي علانية و سرا عن
ابن عباس و الحسن و قيل معناه تدعونه مخلصين متضرعين تضرعا بألسنتكم و خفية في
أنفسكم و هذا أظهر «لَئِنْ أَنْجانا» أي في أي شدة وقعتم قلتم
485
مجمع البیان في تفسير القرآن4
[سورة الأنعام(6): آية 65] ص : 486
لئن أنجيتنا «مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ» لإنعامك علينا و هذا يدل على أن السنة في الدعاء التضرع و الإخفاء و قد
روي عن النبي ص أنه قال خير الدعاء الخفي و خير الرزق ما يكفي
و
مر بقوم رفعوا أصواتهم بالدعاء فقال إنكم لا تدعون أصم و لا غائبا و إنما تدعون سميعا قريبا
«قُلِ» يا محمد «اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ» أي ينعم عليكم بالنجاة و الفرج و يخلصكم «مِنْها» أي من هذه الظلمات «وَ مِنْ كُلِّ كَرْبٍ» أي و يخلصكم الله من كل غم «ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ» بالله تعالى بعد قيام الحجة عليكم ما لا يقدر على الإنجاء من كل كرب و إن خف.
[سورة الأنعام (6): آية 65]
قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَ يُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65)
اللغة
لبست عليهم الأمر ألبسه إذا لم أبينه و خلطت بعضه ببعض و لبست الثوب ألبسه و اللبس اختلاط الأمر و اختلاط الكلام و لابست الأمر خالطته و الشيع الفرق و كل فرقة شيعة على حدة و شيعت فلانا اتبعته و التشيع هو الاتباع على وجه التدين و الولاء للمتبوع و الشيعة صارت في العرف اسما لمتبعي أمير المؤمنين علي (ع) على سبيل الاعتقاد لإمامته بعد النبي ص بلا فصل من الإمامية و الزيدية و غيرهم و لا يقع إطلاق هذه اللفظة على غيرهم من المتبعين سواء كان متبوعهم محقا أو مبطلا إلا أن يسقط عنه لام التعريف و يضاف بلفظ من للتبعيض فيقال هؤلاء شيعة بني العباس أو شيعة بني فلان.
المعنى
ثم عطف سبحانه على ما تقدم من الحجج التي حاج به الكافرين و نبه على الأعذار و الإنذار فقال «قُلْ» يا محمد لهؤلاء الكفار «هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ» أي يرسل «عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ» قيل فيه وجوه (أحدها) أن عذابا من فوقكم عنى به الصيحة و الحجارة و الطوفان و الريح كما فعل بعاد و ثمود و قوم شعيب و قوم لوط أو من
486
مجمع البیان في تفسير القرآن4
المعنى ص : 486
تحت أرجلكم
عنى به الخسف كما فعل بقارون عن سعيد بن جبير و مجاهد (و ثانيها) أن المراد بقوله «مِنْ
فَوْقِكُمْ» أي من قبل كباركم أو من تحت أرجلكم من سفلتكم عن الضحاك (و ثالثها)
أن من
فوقكم السلاطين الظلمة و من تحت أرجلكم العبيد السوء و من لا خير فيه عن ابن عباس و هو
المروي عن أبي عبد الله (ع)
«أَوْ
يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً» أي يخلطكم فرقا مختلفي الأهواء لا تكونون شيعة واحدة و
قيل هو أن يكلهم إلى أنفسهم فلا يلطف لهم اللطف الذي يؤمنون عنده و يخليهم من
ألطافه بذنوبهم السالفة و
قيل عنى به
يضرب بعضكم ببعض بما يلقيه بينكم من العداوة و العصبية و هو المروي عن
أبي عبد الله (ع)
«وَ
يُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ» أي قتال بعض و حرب بعض و معناه يقتل بعضكم
بعضا حتى يفني بعضكم بعضا كما قال وَ كَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ
بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ و
قيل هو
سواء الجوار عن أبي عبد الله (ع)
و قال الحسن
التهديد بإنزال العذاب و الخسف يتناول الكفار و قوله «أَوْ
يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً» يتناول أهل الصلاة و
قال قال
رسول الله ص سألت ربي أن لا يظهر على أمتي أهل دين غيرهم فأعطاني و سألته أن
لا يهلكهم جوعا فأعطاني و سألته أن لا يجمعهم على ضلالة فأعطاني و سألته أن لا
يلبسهم شيعا فمنعني
و
في تفسير
الكلبي أنه لما نزلت هذه الآية قام النبي ص فتوضأ و أسبغ وضوءه ثم قام و
صلى فأحسن صلاته ثم سأل الله سبحانه أن لا يبعث على أمته عذابا من فوقهم و لا من
تحت أرجلهم و لا يلبسهم شيعا و لا يذيق بعضهم بأس بعض فنزل جبرائيل (ع) فقال يا
محمد إن الله تعالى سمع مقالتك و إنه قد أجارهم من خصلتين و لم يجرهم من خصلتين
أجارهم من أن يبعث عليهم عذابا من فوقهم أو من تحت أرجلهم و لم يجرهم من الخصلتين
الأخريين فقال ص يا جبرائيل ما بقاء أمتي مع قتل بعضهم بعضا فقام و عاد إلى الدعاء
فنزل الم أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا
وَ هُمْ لا يُفْتَنُونَ الآيتين فقال لا بد من فتنة تبتلى بها الأمة بعد نبيها
ليتبين الصادق من الكاذب لأن الوحي انقطع و بقي السيف و افتراق الكلمة إلى يوم
القيامة
و
في الخبر
أنه ص قال إذا وضع السيف في أمتي لم يرفع عنها إلى يوم القيامة
و قال أبي بن
كعب سيكون في هذه الأمة بين يدي الساعة خسف و قذف و مسخ ثم أكد سبحانه الاحتجاج
عليهم بقوله «انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ» أي أنظر يا محمد كيف
نردد الآيات و نظهرها مرة بعد أخرى بوجوه أدلتها حتى تزول الشبه
«لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ» أي لكي يعلموا الحق فيتبعوه و الباطل
فيجتنبوه و إذا كان البعث في الآية محمولا على التسليط فالمراد به التمكين و رفع
الحيلولة
487
مجمع البیان في تفسير القرآن4
[سورة الأنعام(6): الآيات 66 الى 67] ص : 488
دون أن يفعل سبحانه ذلك أو يأمر به تعالى الله عن ذلك و في هذه الآية دلالة على أنه سبحانه قادر على ما المعلوم أنه لا يفعله.
[سورة الأنعام (6): الآيات 66 الى 67]
وَ كَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَ هُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (67)
المعنى
لما ذكر سبحانه تصريف الآيات قال عقيب ذلك «وَ كَذَّبَ بِهِ» أي بما نصرف من الآيات عن الجبائي و البلخي و قال الأزهري الهاء يعود إلى القرآن و هو قول الحسن و جماعة «قَوْمُكَ» يعني قريشا و العرب «وَ هُوَ الْحَقُّ» أي القرآن أو تصريف الآيات حق بمعنى أنه يدل على الحق و أن ما فيه حق ثم بين سبحانه أن عاقبة تكذيبهم يعود عليهم فقال «قُلْ» يا محمد «لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ» أي لم أومر بمنعكم من التكذيب بآيات الله و أن أحفظكم من ذلك و أحول بينكم و بينه لأن الوكيل على الشيء هو القائم بحفظه و الذي يدفع الضرر عنه عن الجبائي و قيل معناه لست بحافظ لأعمالكم لأجازيكم بها إنما أنا منذر و الله سبحانه هو المجازي عن الحسن و قيل معناه لم أومر بحربكم و لا أخذكم بالإيمان كما يأخذ الموكل بالشيء الذي يلزم بلوغ آخره عن الزجاج «لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ» أي لكل خبر من أخبار الله و رسوله حقيقة كائنة إما في الدنيا و إما في الآخرة عن ابن عباس و مجاهد و قيل معناه لكل خبر قرار على غاية ينتهي إليها و يظهر عندها قال السدي استقر يوم بدر ما كان يعدهم من العقاب و سمي الوقت مستقرا لأنه ظرف للفعل الواقع فيه و قيل معناه لكل عمل مستقر عند الله حتى يجازي به يوم القيامة عن الحسن «وَ سَوْفَ تَعْلَمُونَ» فيه وعيد و تهديد لهم إما بعذاب الآخرة و إما بالحرب و أخذهم بالإيمان شاءوا أو أبوا و تقديره و سوف تعلمون ما يحل بكم من العذاب و حذف لدلالة الكلام عليه.
488
مجمع البیان في تفسير القرآن4
[سورة الأنعام(6): الآيات 68 الى 69] ص : 489
[سورة الأنعام (6): الآيات 68 الى 69]
وَ إِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَ إِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68) وَ ما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَ لكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69)
القراءة
قرأ ابن عامر وحده ينسينك بالتشديد و الباقون «يُنْسِيَنَّكَ» بالتخفيف.
الحجة
حجة من خفف قوله وَ ما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ و حجة ابن عامر أنه يجوز نقل الفعل بتضعيف العين كما يجوز نقله بالهمزة كما يقال عزمته و أعزمته.
الإعراب
ذكرى يجوز أن يكون في موضع نصب على معنى و لكن ذكروهم ذكرى و يجوز أن يكون في موضع رفع على أحد وجهين إما أن يكون على معنى و لكن الذي تأمرونهم به ذكري فيكون خبر المبتدأ و إما أن يكون عليكم ذكرى أي عليكم أن تذكروهم كما قال إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ و على هذا فيكون ذكرى مبتدأ.
النزول
قال أبو جعفر (ع) لما نزلت «فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» قال المسلمون كيف نصنع إن كان كلما استهزأ المشركون بالقرآن قمنا و تركناهم فلا ندخل إذا المسجد الحرام و لا نطوف بالبيت الحرام فأنزل الله سبحانه «وَ ما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ» أمرهم بتذكيرهم و تبصيرهم ما استطاعوا.
المعنى
ثم أمر سبحانه بترك مجالستهم عند استهزائهم بالقرآن فقال «وَ إِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا» خاطب النبي ص أي إذا رأيت هؤلاء الكفار و قيل الخطاب له و المراد غيره و معنى يخوضون يكذبون بآياتنا و ديننا عن الحسن و سعيد بن جبير و الخوض التخليط في المفاوضة على سبيل العبث و اللعب و ترك التفهم و التبيين «فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ» أي فاتركهم و لا تجالسهم «حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ» أي يدخلوا في حديث غير الاستهزاء بالقرآن و إنما أمره ص بالإعراض عنهم لأن من حاج من هذه حاله فقد وضع الشيء غير موضعه و حط من قدر البيان و الحجاج «وَ إِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ» المعنى و إن أنساك الشيطان نهينا إياك عن الجلوس معهم و يسأل على هذا فيقال كيف أضاف النسيان إلى الشيطان و هو فعل الله تعالى و الجواب إنما أضافه إلى الشيطان لأنه تعالى أجرى العادة بفعل النسيان عند الإعراض عن الفكر و تراكم الخواطر الردية و الوساوس الفاسدة من الشيطان فجاز إضافة النسيان إليه لما حصل عند فعله كما أن من ألقى غيره في البرد حتى مات فإنه يضاف الموت إليه لأنه عرضه لذلك و كان كالسبب فيه «فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى» أي بعد
489
مجمع البیان في تفسير القرآن4
المعنى ص : 489
ذكرك نهينا و
ما يجب عليك من الإعراض عن الجبائي و قيل معناه بعد أن تذكرهم بدعائك إياهم إلى
الدين عن أبي مسلم فكأنه قال أعرض في حال اليأس و ذكر في حال الطمع «مَعَ
الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» يعني في مجالس الكفار و الفساق الذي يظهرون
التكذيب بالقرآن و الآيات و الاستهزاء بذلك و به قال سعيد بن جبير و السدي و
اختاره البلخي و قال كان ذلك في أول الإسلام و كان يختص النبي ص و رخص للمؤمنين في
ذلك لما عز الإسلام و كثر المسلمون نهوا عن مجالستهم و نسخت هذه الآية بقوله فَلا
تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً
مِثْلُهُمْ قال الجبائي و في هذه الآية دلالة على بطلان قول الإمامية في جواز
التقية على الأنبياء و الأئمة و أن النسيان لا يجوز على الأنبياء و هذا القول غير
صحيح و لا مستقيم لأن الإمامية إنما تجوز التقية على الإمام فيما تكون عليه دلالة
قاطعة توصل إلى العلم و يكون المكلف مزاح العلة في تكليفه ذلك فأما ما لا يعرف إلا
بقول الإمام من الأحكام و لا يكون على ذلك دليل إلا من جهته فلا يجوز عليه التقية
فيه و هذا كما إذا تقدم من النبي بيان في شيء من الأشياء الشرعية فإنه يجوز منه
أن لا يبين في حال أخرى لأمته ذلك الشيء إذا اقتضته المصلحة أ لا ترى إلى ما
روي أن عمر بن
الخطاب سأله عن الكلالة فقال يكفيك آية السيف
و أما
النسيان و السهو فلم يجوزوهما عليهم فيما يؤدونه عن الله تعالى فأما ما سواه فقد
جوزوا عليهم أن ينسوه أو يسهوا عنه ما لم يؤد ذلك إلى إخلال بالعقل و كيف لا يكون
كذلك و قد جوزوا عليهم النوم و الإغماء و هما من قبيل السهو فهذا ظن منه فاسد و إن
بعض الظن إثم «وَ ما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ» أي ليس على
المؤمنين الذين اتقوا معاصي الله سبحانه من حساب الكفرة شيء بحضورهم مجلس الخوض «وَ
لكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ» أي نهوا عن مجالستهم ليزدادوا تقى و
أمروا أن يذكروهم و ينبهوهم على خطاياهم لكي يتقي المشركون إذا رأوا إعراض هؤلاء
المؤمنين عنهم و تركهم مجالستهم فلا يعودون لذلك عن أكثر المفسرين و قيل معناه ليس
على المتقين من الحساب يوم القيامة مكروه و لا تبعة و لكنه أعلمهم أنهم محاسبون و
حكم بذلك عليهم لكي يعلموا أن الله يحاسبهم فيتقوا عن البلخي فالهاء و الميم على
الوجه الأول يعود إلى الكفار و في الثاني إلى المؤمنين.
490
مجمع البیان في تفسير القرآن4
[سورة الأنعام(6): آية 70] ص : 491
[سورة الأنعام (6): آية 70]
وَ ذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَ لَهْواً وَ غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَ ذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَ لا شَفِيعٌ وَ إِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (70)
اللغة
يقال أبسلته بجريرته أي أسلمته بها و المستبسل المستسلم الذي يعلم أنه لا يقدر على التخلص قال الشاعر:
و إبسالي بني بغير جرم
|
|
بعوناه و لا بدم مراق
|
أي إسلامي إياهم و البعو الجناية قال الأخفش تبسل أي تجازى و قيل تبسل أي ترهن و المعاني متقاربة و هذا بسل عليك أي حرام عليك و جائز أن يكون أسد باسل من هذا أي إنه لا يقدر عليه و جائز أن يكون من الأول بمعنى أن معه من الإقدام ما يستبسل له قرنه و يقال أعط الراقي بسلته أي أجرته و تأويله أنه عمل في الشيء الذي قد استبسل صاحبه معه و العدل الفداء و أصله المثل و الحميم الماء الحار أحم حتى انتهى غليانه و منه الحمام.
الإعراب
«أَنْ تُبْسَلَ» في موضع نصب بأنه مفعول و هو من باب حذف المضاف تقديره كراهية أن تبسل و قوله «لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ» صفة لنفس و التقدير نفس عادمة وليا و شفيعا يكسبها أولئك الذين أبسلوا مبتدأ و خبر و قوله «لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ» يجوز أن يكون خبرا ثانيا لأولئك و يجوز أن يكون كلاما مستأنفا.
المعنى
ثم عاد تعالى إلى وصف من تقدم ذكرهم من الكفار فقال «وَ ذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَ لَهْواً» أي دعهم و أعرض عنهم و إنما أراد به إعراض إنكار لأنه قال بعد ذلك «وَ ذَكِّرْ» يريد دع ملاطفتهم و مجالستهم و لا تدع مذاكرتهم و دعوتهم و نظيره في سورة النساء فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَ عِظْهُمْ «وَ غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا» يعني به اغتروا بحياتهم «وَ ذَكِّرْ بِهِ» أي عظ بالقرآن و قيل بيوم الدين و قيل بالحساب «أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ» أي لكي لا تسلم نفس للهلكة بما كسبت أي بما عملت عن الحسن و مجاهد و السدي و اختاره الجبائي و الفراء و قيل
491
مجمع البیان في تفسير القرآن4
[سورة الأنعام(6): آية 71] ص : 492
إن معنى تبسل تهلك عن ابن عباس و قيل تحبس عن قتادة و قيل تؤخذ عن ابن زيد و قيل تسلم إلى خزنة جهنم عن عطية العوفي و قيل تجازى عن الأخفش «لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ» أي ناصر ينجيها من العذاب «وَ لا شَفِيعٌ» يشفع لها «وَ إِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ» و إن تفد كل فداء «لا يُؤْخَذْ مِنْها» و قيل معناه و أن تقسط كل قسط في ذلك اليوم لا يقبل منها لأن التوبة هناك غير مقبولة و إنما تقبل في الدنيا «أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا» أي أهلكوا و قيل أسلموا للهلكة فلا مخلص لهم و قيل ارتهنوا و قيل جوزوا «بِما كَسَبُوا» أي بكسبهم و عملهم «لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ» أي ماء مغلي حار «وَ عَذابٌ أَلِيمٌ» مؤلم «بِما كانُوا يَكْفُرُونَ» أي بكفرهم يريد جزاء على كفرهم و اختلف في الآية فقيل هي منسوخة بآية السيف عن قتادة و قيل ليست بمنسوخة و إنما هي تهديد و وعيد عن مجاهد و غيره و فيها دلالة على الوعيد العظيم لمن كانت هذه سبيله من الاستهزاء بالقرآن و بآيات الله و تحذير عن سلوك طريقتهم و قال الفراء ما من أمة إلا و لهم عيد يلعبون فيه و يلهون إلا أمة محمد ص فإن أعيادهم صلاة و دعاء و عبادة.
[سورة الأنعام (6): آية 71]
قُلْ أَ نَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا وَ لا يَضُرُّنا وَ نُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَ أُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (71)
القراءة
قرأ حمزة وحده استهويه بألف ممالة و الباقون «اسْتَهْوَتْهُ» بالتاء المعجمة من فوق.
الحجة
قال أبو علي كلا المذهبين حسن قال الشاعر:
و كنا ورثناه على عهد تبع
|
|
طويلا سواريه شديدا دعائمه.
|
اللغة
استهواه من قولهم هوى من حالق إذا تردى منه و يشبه به الذي زل عن
492
مجمع البیان في تفسير القرآن4
الإعراب ص : 493
الطريق
المستقيم كما أن قوله زل إنما هو في المكان قال:
ثم يشبه به
المخطئ في طريقته في مثل قوله فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ فكذلك هوى و
أهواه غيره فيقال أهويته و استهويته بمعنى كما يقال أزله الشيطان و استزله بمعنى و
كذلك استجابة بمعنى أجابه قال:
(فلم
يستجبه عند ذاك مجيب)
|
|
|
و الحيران
المتردد في أمر لا يهتدي إلى المخرج منه و الفعل منه حار يحار حيرة و رجل حائر و
حيران و قوم حيارى.
الإعراب
«كَالَّذِي
اسْتَهْوَتْهُ» في موضع نصب صفة لمصدر محذوف تقديره أ ندعو من دون الله دعاء مثل
دعاء الذي استهوته الشياطين في الأرض حيران، و حيران نصب على الحال من مفعول
استهوته، «لَهُ أَصْحابٌ» وصف لحيران و يدعونه صفة لأصحاب أي أصحاب
داعون له إلى الهدي قائلون له ائتنا و هاهنا منتهى الكلام و قوله
«أُمِرْنا لِنُسْلِمَ» تقول العرب أمرتك لتفعل و أمرتك أن تفعل و أمرتك بأن تفعل
فمن قال أمرتك بأن تفعل فالباء للإلصاق و المعنى وقع الأمر بهذا الفعل و من قال
أمرتك أن تفعل حذف الجار و من قال أمرتك لتفعل المعنى أمرتك للفعل و قال الزجاج
التقدير أمرنا كي نسلم قال الشاعر:
أريد
لأنسى ذكرها فكأنما
|
|
تمثل لي
ليلى بكل سبيل
|
أي كي أنسى.
المعنى
ثم أمر
سبحانه نبيه ص و المؤمنين بخطاب الكفار فقال «قُلْ» يا محمد
لهؤلاء الكفار الذين يدعون إلى عبادة الأصنام أو قل أيها الإنسان أو أيها السامع «أَ
نَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا» إن عبدناه «وَ لا
يَضُرُّنا» إن تركنا عبادته «وَ نُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا» هذا مثل
يقولون لكل خائب لم يظفر بحاجته رد على عقبيه و نكص على عقبيه و تقديره أ نرجع
القهقرى في مشيتنا و المعنى أ نرجع عن ديننا الذي هو خير الأديان «بَعْدَ
إِذْ هَدانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ
حَيْرانَ» لا يهتدي إلى طريق و قيل معناه استغوته الغيلان في المهامة عن ابن
عباس و قيل معناه دعته الشياطين إلى اتباع الهوى و قيل أهلكته و قيل ذهبت به عن
نفطويه و قيل أضلته عن أبي مسلم «لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى
الْهُدَى ائْتِنا» أي إلى الطريق الواضح يقولون له ائتنا و لا يقبل منهم و لا يصير
إليهم لأنه قد تحير لاستيلاء الشيطان عليه
493
مجمع البیان في تفسير القرآن4
[سورة الأنعام(6): الآيات 72 الى 73] ص : 494
يهوى و لا يهتدي ثم أمره الله سبحانه فقال «قُلْ» لهؤلاء الكفار «إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى» أي دلالة الله لنا على توحيده و أمر دينه هو الهدى الذي يؤدي المستدل به إلى الصلاح و الرشاد في دينه و هو الذي يجب أن نعمل عليه و نستدل به فلا نترك ذلك إلى ما تدعون إليه «وَ أُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ» معناه و أمرنا أن نسلم و قيل معناه أن نسلم أمورنا و نفوضها إلى الله و نتوكل عليه فيها.
[سورة الأنعام (6): الآيات 72 الى 73]
وَ أَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ اتَّقُوهُ وَ هُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72) وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَ يَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَ لَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ وَ هُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73)
الإعراب
يحتمل أول الآية وجهين (أحدهما) أن يكون التقدير أمرنا لأن نسلم و لأن نقيم الصلاة (و الثاني) أن يكون محمولا على المعنى لأن معناه أمرنا بالإسلام و بإقامة الصلاة و موضع أن نصب لأن الباء لما سقطت أفضى الفعل فنصب عالم الغيب رفع لأنه نعت الذي في قوله «وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ» و يحتمل أن يكون فاعل فعل يدل عليه الفعل المبني للمفعول به و هو قوله «يُنْفَخُ فِي الصُّورِ» و هذا كما يقولون أكل طعامك عبد الله و التقدير أكله عبد الله قال الشاعر:
ليبك يزيد ضارع لخصومة
|
|
و مختبط مما تطيح الطوانح
|
كأن قيل من يبكيه قال يبكيه ضارع و الأول أجود.
المعنى
«وَ أَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ» هذا موصول بما قبله أي و قيل لنا أقيموا الصلاة «وَ اتَّقُوهُ» أي و اتقوا رب العالمين أي تجنبوا معاصيه فتتقوا عقابه «وَ هُوَ الَّذِي إِلَيْهِ
494
مجمع البیان في تفسير القرآن4
المعنى ص : 494
تُحْشَرُونَ» أي تجمعون
إليه يوم القيامة فيجازي كل عامل منكم بعمله «وَ هُوَ
الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ» فيه قولان (أحدهما)
أن معناه خلقهما للحق لا للباطل عن الحسن و الزجاج و غيرهما و معناه خلقهما حقا و
صوابا لا باطلا و خطأ كما قال وَ ما خَلَقْنَا السَّماءَ وَ الْأَرْضَ وَ
ما بَيْنَهُما باطِلًا و أدخلت الباء و الألف و اللام كما أدخلت في نظائرها
يقولون فلان يقول بالحق بمعنى أنه يقول حقا لا أن الحق معنى غير القول بل تقديره
إن خلقهما حكمة و صواب من حكم الله و هو موصوف بالحكمة في خلقهما و خلق ما سواهما
من جميع خلقه لا أن هناك حقا سوى خلقهما خلقهما به و القول الآخر ما قاله قوم أن
معناه خلق السماوات و الأرض بكلامه الحق و هو قوله ائْتِيا طَوْعاً
أَوْ كَرْهاً فالحق صفة قوله و كلامه و الأول هو الصحيح «وَ يَوْمَ
يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ» ذكر في نصب يوم وجوه (أحدها) أن يكون عطفا على الهاء في
قوله «وَ اتَّقُوهُ» أي و اتقوا يوم يقول كن فيكون كما قال
سبحانه وَ اتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً (و الثاني)
أن يكون على معنى و اذكر يوم يقول كن فيكون لأن بعده وَ إِذْ قالَ
إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ عطفا على ذلك قال الزجاج و هو الأجود
(الثالث) أن يكون معطوفا على السماوات و المعنى و هو الذي خلق السماوات و الأرض
بالحق و خلق يوم يقول كن فيكون فإن يوم القيامة لم يأت بعد فجوابه أن ما أنبأ الله
بكونه فحقيقة واقع لا محالة و أما قوله «كُنْ فَيَكُونُ» فقد قيل فيه
إنه خطاب للصور و المعنى يوم يقول للصور كن فيكون و ما ذكر من الصور يدل عليه و
قيل إن قوله «كُنْ فَيَكُونُ» فيه إضمار جميع ما يخلق في ذلك الوقت، المعنى
و يوم يقول للشيء كن فيكون و هذا إنما ذكر ليدل على سرعة أمر البعث و الساعة
فكأنه يقول و يوم يقول للخلق موتوا فيموتون و انتشروا فينتشرون أي لا يتعذر عليه
ذلك و لا يتأخر عن وقت إرادته و قيل معناه و يوم يقول كن فيكون
«قَوْلُهُ الْحَقُّ» أي يأمر فيقع أمره أي ما وعدوا به من الثواب و حذروا به
من العقاب و الحق من صفة قوله و قوله فاعل يكون كما تقول قد قلت فكان قولك و ليس
المعنى إنك قلت فكان الكلام إنما المعنى إنه كان ما دل عليه القول و أما على القول
المتقدم فيكون قوله مبتدأ و الحق خبره و قد ذكرنا تفسير قوله «كُنْ
فَيَكُونُ» في سورة البقرة مستقصى «وَ لَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي
الصُّورِ» قيل في نصب يوم هنا وجوه (أحدها) أن يكون متعلقا بله الملك و تقديره
أن الملك قد وجب له في ذلك اليوم الذي فيه ينفخ في الصور فقد خص ذلك اليوم بأن
الملك له فيه كما خصه في قوله لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ
الْواحِدِ الْقَهَّارِ و الوجه فيه أنه لا يبقى ملك من ملكه الله في الدنيا أو
تغلب عليه بل يتفرد سبحانه بالملك
495
مجمع البیان في تفسير القرآن4
[سورة الأنعام(6): الآيات 74 الى 75] ص : 496
(و الثاني) أن يكون «يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ» مبنيا عن قوله «يَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ» (و الثالث) أن يكون منصوبا بقوله «الْحَقُّ» و المعنى قوله الحق يوم ينفخ في الصور و الوجه في اختصاصه بذلك اليوم و إن كان قوله حقا في كل وقت ما بيناه في الوجه الأول و هو مثل قوله وَ الْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ و لا شك أن الأمر في كل وقت لله تعالى و المراد أن ذلك اليوم يوم لا يخالف الله في أوامره لأنها محتومة ليس فيها تخيير و لا يقدر أحد على معصيته و أما الصور فقيل فيه قرن ينفخ فيه إسرافيل ع نفختين فتفنى الخلائق كلهم بالنفخة الأولى و يحيون بالنفخة الثانية فتكون النفخة الأولى لانتهاء الدنيا و الثانية لابتداء الآخرة و قال الحسن هو جمع صورة كما أن السور جمع سورة و على هذا فيكون معناه يوم ينفخ الروح في الصور و يؤيد القول الأول ما
رواه أبو سعيد الخدري عن النبي ص أنه قال كيف أنعم و قد التقم صاحب القرن القرن و حنا جبينه و أصغى سمعه ينتظر أن يؤمر فينفخ قالوا فكيف نقول يا رسول الله قال قولوا حسبنا الله و نعم الوكيل
و العرب تقول نفخ الصور و نفخ في الصور قال الشاعر:
لو لا ابن جعدة لم يفتح قهندزكم
|
|
و لا خراسان حتى ينفخ الصور
|
«عالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ» أي يعلم ما لا يشاهده الخلق و ما يشاهدونه و ما لا يعلمه الخلق و ما يعلمونه لا يخفى عليه شيء من ذلك «وَ هُوَ الْحَكِيمُ» في أفعاله «الْخَبِيرُ» العالم بعباده و أفعالهم.
[سورة الأنعام (6): الآيات 74 الى 75]
وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَ تَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَ قَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (74) وَ كَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75)
القراءة
القراءة الظاهرة «آزَرَ» بالفتح و قرأ يعقوب الحضرمي آزر بضم الراء و هو قراءة الحسن و ابن عباس و مجاهد و الضحاك.
496
مجمع البیان في تفسير القرآن4
الحجة ص : 497
الحجة
من قرأ بالفتح جعل آزر في موضع جر بدلا من أبيه أو عطف بيان و من قرأ بالضم جعله منادى مفردا و تقديره يا آزر.
اللغة
الأصنام جمع صنم و الصنم ما كان صورة و الوثن ما كان غير مصور و الآلهة جمع إله مثل إزار و آزرة و المبين هو البين الظاهر و الملكوت بمنزلة الملك غير أن هذا اللفظ أبلغ لأن الواو و التاء تزادان للمبالغة و مثله الرغبوت و الرهبوت و وزنه فعلوت و في المثل رهبوت خير من رحموت أي لأن ترهب خير من أن ترحم.
الإعراب
العامل في إذ محذوف و تقديره و اذكر إذ قال و قيل أنه يتصل بقوله بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ أي و بعد إذ قال إبراهيم و الكاف في كذلك كاف التشبيه و المعنى كما أرينا إبراهيم قبح ما كان عليه أبوه و قومه من المذهب كذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات و الأرض للاعتبار و قيل شبه رؤية إبراهيم برؤية محمد ص و المعنى كما أريناك يا محمد أرينا إبراهيم و قوله «وَ لِيَكُونَ» عطف على محذوف و تقديره نريه الملكوت ليستدل به و ليكون من الموقنين و قيل إنه جملة مستأنفة أي و ليكون من الموقنين أريناه فاللام يتعلق بأريناه المحذوف و قيل إن الواو زائدة و معناه ليكون و هذا بعيد.
المعنى
«وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ» أي و اذكر إذ قال «لِأَبِيهِ آزَرَ» فيه أقوال (أحدها) أنه اسم أبي إبراهيم عن الحسن و السدي و الضحاك (و ثانيها) أن اسم أبي إبراهيم تارخ قال الزجاج ليس بين النسابين اختلاف أن اسم أبي إبراهيم تارخ و الذي في القرآن يدل على أن اسمه آزر و قيل آزر عندهم ذم في لغتهم كأنه قال و إذ قال إبراهيم لأبيه يا مخطئ فإذا كان كذلك فالاختيار الرفع و جائز أن يكون وصفا له كأنه قال لأبيه المخطئ و قيل آزر اسم صنم عن سعيد بن المسيب و مجاهد قال الزجاج فإذا كان كذلك فموضعه نصب على إضمار الفعل كأنه قال و إذ قال إبراهيم لأبيه أ تتخذ آزر و جعل أصناما بدلا من آزر و أشباهه فقال بعد أن قال أ تتخذ آزر إلها أ تتخذ أصناما آلهة و هذا الذي قال الزجاج يقوي ما قاله أصحابنا أن آزر كان جد إبراهيم لأمه أو كان عمه من حيث صح عندهم أن آباء النبي إلى آدم كلهم كانوا موحدين و اجتمعت الطائفة على ذلك
و روي عن النبي ص أنه قال لم يزل ينقلني الله من أصلاب الطاهرين إلى أرحام المطهرات حتى أخرجني في عالمكم هذا لم يدنسني بدنس الجاهلية
497
مجمع البیان في تفسير القرآن4
النظم ص : 498
و لو كان في
آبائه كافر لم يصف جميعهم بالطهارة مع قوله تعالى إِنَّمَا
الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ و لهم في ذلك أدلة ليس هنا موضع ذكرها و قوله «أَ
تَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً» استفهام المراد به الإنكار أي لا تفعل ذلك «إِنِّي
أَراكَ وَ قَوْمَكَ فِي ضَلالٍ» عن الصواب «مُبِينٍ» ظاهر و في
الآية حث للنبي على محاجة قومه الذين دعوه إلى عبادة الأصنام و الاقتداء بأبيه
إبراهيم فيه و تسلية له بذلك «وَ كَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ» أي مثل ما
وصفناه من قصة إبراهيم و قوله لأبيه ما قال نريه «مَلَكُوتَ
السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ» أي القدرة التي تقوى بها دلالته على توحيد
الله تعالى و قيل معناه كما أريناك يا محمد أريناه آثار قدرتنا فيما خلقنا من
الشمس و القمر و النجوم و ما في الأرض من البحار و المياه و الرياح ليستدل بها و
هذا معنى قول ابن عباس و قتادة و قيل يعني بالملكوت آيات السماوات و الأرض عن
مجاهد و قيل أن ملكوت السماوات و الأرض ملكهما بالنبطية عن مجاهد أيضا و قيل أن
ملكوت السماوات و الأرض ما نشاهده من الحوادث الدالة على أن الله سبحانه مالك لهما
و الله المالك لهما و لكل شيء بنفسه لا يملكه سواه فأجرى الملكوت على المملوك
الذي هو في السماوات و الأرض مجازا عن أبي علي الجبائي
و قال أبو
جعفر (ع) كشط الله له عن الأرضين حتى رآهن و ما تحتهن و عن السماوات حتى
رآهن و ما فيهن من الملائكة و حملة العرش
و روى أبو
بصير عن أبي عبد الله (ع) قال لما رأى إبراهيم ملكوت السماوات و الأرض
رأى رجلا يزني فدعا عليه فمات ثم رأى آخر فدعا عليه فمات ثم رأى ثلاثة فدعا عليهم
فماتوا فأوحى الله تعالى يا إبراهيم إن دعوتك مستجابة فلا تدع على عبادي فإني لو
شئت أن أميتهم بدعائك ما خلقتهم إني خلقت خلقي على ثلاثة أصناف صنف يعبدني لا يشرك
بي شيئا فأثيبه و صنف يعبد غيري فليس يفوتني و صنف يعبد غيري فأخرج من صلبه من
يعبدني
«وَ
لِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ» أي من المتيقنين بأن الله سبحانه هو خالق ذلك
و المالك له.
النظم
وجه اتصال
الآية بما قبلها أنه لما عاب دينهم و ذم آلهتهم و احتج عليهم بما سلف ذكره بين أنه
دين إبراهيم و للناس ألف بدين الآباء لا سيما إذا كان الأب ذا قدر و قيل أنها تتصل
بقوله «أَ نَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا» إلى قوله «بَعْدَ
إِذْ هَدانَا» ثم قال و بعد أن قال إبراهيم كذا و كذا عن أبي مسلم.
498
مجمع البیان في تفسير القرآن4
[سورة الأنعام(6): الآيات 76 الى 79] ص : 499
[سورة الأنعام (6): الآيات 76 الى 79]
فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ حَنِيفاً وَ ما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)
القراءة
قرأ أبو عمرو و ورش من طريق البخاري رئي كوكبا بفتح الراء و كسر الهمزة حيث كان و قرأ ابن عامر و حمزة و الكسائي و خلف و يحيى عن أبي بكر رئي بكسر الراء و الهمزة و قرأ الباقون بفتح الراء و الهمزة.
الحجة
ذكر أبو علي الوجه في قراءة من لم يمل و قراءة من أمال و أورد في ذلك كلاما كثيرا تركنا ذكره خوف الإطالة.
اللغة
يقال جن عليه الليل و جنه الليل و أجنه الليل إذا أظلم حتى يستر بظلمته و يقال لكل ما ستر قد جن و أجن و منه اشتقاق الجن لأنهم استجنوا عن أعين الناس و قال الهذلي:
و ماء وردت قبيل الكرى
|
|
و قد جنه السدف الأدهم
|
و يقال أجننت الميت و جننته إذا واريته في اللحد و أفل يأفل أفولا إذا غاب قال ذو الرمة:
مصابيح ليست باللواتي يقودها
|
|
نجوم و لا بالآفلات الدوالك
|
499
مجمع البیان في تفسير القرآن4
الإعراب ص : 500
و البزوغ
الطلوع يقال بزغت الشمس إذا طلعت و يسمى ثلاث ليال من أول الشهر الهلال ثم يسمى
قمرا إلى آخر الشهر و إنما يسمى قمرا لبياضه و حمار أقمر أبيض و الحنيف المائل إلى
الحق.
الإعراب
السؤال يقال
لم قال «هذا رَبِّي» و لم يقل هذه كما قال «بازِغَةً» و الجواب أن
التقدير هذا النور الطالع ربي ليكون الخبر و المخبر عنه جميعا على التذكير كما كان
جميعا على التأنيث في «رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً» و قال ابن فضال
المجاشعي قوله «رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً» إخبار من الله تعالى
و قوله «هذا رَبِّي» من كلام إبراهيم و الشمس مؤنثة في كلام العرب
و أما في كلام ما سواهم فيجوز أن لا تكون مؤنثة و إبراهيم (ع) لم يكن عربيا فحكى
الله تعالى كلامه على ما كان في لغته و يقال لم أنث الشمس و ذكر القمر و الجواب أن
تأنيثها تفخيم لها لكثرة ضيائها على حد قولهم نسابة و علامة و ليس القمر كذلك لأنه
دونها في الضياء و يقال لم دخلت الألف و اللام فيها و هي واحدة و لم تدخل في زيد و
عمرو قيل لأن شعاع الشمس يقع عليه اسم الشمس فاحتيج إلى التعريف إذا قصد إلى جرم
الشمس أو إلى الشعاع على طريق الجنس أو الواحد من الجنس و ليس زيد و نحوه كذلك.
المعنى
لما تقدم ذكر
الآيات التي أراها الله تعالى إبراهيم (ع) بين سبحانه كيف استدل بها و كيف عرف
الحق من جهتها فقال «فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ» أي أظلم
عليه و ستر بظلامه كل ضياء «رَأى كَوْكَباً» و اختلف في الكوكب
الذي رآه فقيل هو الزهرة و قيل هو المشتري «قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا
أَفَلَ» أي غرب «قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ» و اختلف في تفسير
هذه الآيات على أقوال (أحدها) أن إبراهيم (ع) إنما قال ذلك عند كمال عقله في زمان
مهلة النظر و خطور الخاطر الموجب عليه النظر بقلبه لأنه (ع) لما أكمل الله عقله و
حرك دواعيه على الفكر و التأمل رأى الكوكب فأعظمه و أعجبه نوره و حسنه و قد كان
قومه يعبدون الكواكب فقال هذا ربي على سبيل الفكر فلما أفل علم أن الأفول لا يجوز
على الإله فاستدل بذلك على أنه محدث مخلوق و كذلك كانت حاله في رؤية القمر و الشمس
فإنه لما رأى أفولهما قطع على حدوثهما و استحالة إلهيتهما و قال في آخر كلامه «يا
قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي
فَطَرَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ» إلى آخره و كان هذا القول منه عقيب معرفته
بالله تعالى و علمه بأن صفات المحدثين لا تجوز عليه و هذا اختيار أبي القاسم
البلخي و غيره قال و زمان مهلة النظر هي أكثر من ساعة و أقل من شهر و لا يعلم ما
بينهما إلا
500
مجمع البیان في تفسير القرآن4
المعنى ص : 500
الله تعالى
(و ثانيها) أنه إنما قال ذلك قبل بلوغه و لما قارب كمال العقل حركته الخواطر فيما
شاهده من هذه الحوادث فلما رأى الكوكب و نوره و إشراقه و زهوره ظن أنه ربه فلما
أفل و انتقل من حال إلى حال قال لا أحب الآفلين «فَلَمَّا رَأَى
الْقَمَرَ بازِغاً» عند طلوعه و رأى كبره و إشراقه و انبساط نوره و ضيائه في
الدنيا «قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ» و صار مثل الكوكب في
الأفول و الغيبوبة و علم أنه لا يجوز أن يكون ذلك صفة الإله «قالَ لَئِنْ
لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي» إلى رشدي و لم يوفقني و يلطف بي في إصابة الحق من توحيده
«لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ» بعبادة هذه الحوادث
«فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً» أي طالعة و قد ملأت الدنيا نورا و رأى عظمها
و كبرها «قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ» من الكوكب و القمر
«فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ» حينئذ لقومه «يا قَوْمِ
إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ» مع الله الذي خلقني و خلقكم في عبادته من
آلهتكم فلما أكمل الله عقله و ضبط بفكره النظر في حدوث الأجسام بأن وجدها غير
منفكة من المعاني المحدثة و أنه لا بد لها من محدث قال حينئذ لقومه «إِنِّي
وَجَّهْتُ وَجْهِيَ» أي نفسي «لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَ
الْأَرْضَ حَنِيفاً» أي مخلصا مائلا عن الشرك إلى الإخلاص «وَ ما
أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ» و هذا اختيار أبي علي الجبائي و يسأل عن
القول الأول كيف قال (ع) هذا ربي مخبرا و هو غير عالم بما يخبر به و الإخبار بما
لا يأمن المخبر أن يكون فيه كاذبا قبيح و الجواب عنه من وجهين (أحدهما) أنه لم يقل
ذلك مخبرا و إنما قاله فارضا و مقدرا على سبيل التأمل كما يفرض أحدنا إذا نظر في
حدوث الأجسام كونها قديمة ليتبين ما يؤدي إليه الفرض من الفساد و لا يكون بذلك
مخبرا في الحقيقة (و الآخر) أنه أخبر عن ظنه و قد يجوز أن يظن المتفكر في حال فكره
و نظره ما لا أصل له ثم يرجع عنه بالأدلة.
(سؤال آخر)
كيف تعجب إبراهيم (ع) من رؤية هذه الأشياء تعجب من لم يكن رآها و كيف يجوز أن يكون
مع كمال عقله لم يشاهد السماء و الكواكب و الجواب أنه لا يمتنع أن يكون (ع) ما رأى
السماء إلا في ذلك الوقت لأنه قد روي أن أمه كانت ولدته في مغارة خوفا من أن يقتله
نمرود و من يكون في المغارة لا يرى السماء فلما قارب البلوغ و بلغ حد التكليف خرج
من المغارة و رأى السماء و قد يجوز أيضا أن يكون قد رأى السماء قبل ذلك إلا أنه لم
يفكر في إعلامها لأن الفكر لم يكن واجبا عليه و حين كمل عقله فكر في ذلك (و
ثالثها) أن إبراهيم (ع) لم يقل «هذا رَبِّي» على طريق الشك بل
كان عالما موقنا أن ربه سبحانه لا يجوز أن يكون بصفة الكواكب و إنما قال ذلك على
سبيل الإنكار على قومه و التنبيه لهم على أن
501
مجمع البیان في تفسير القرآن4
المعنى ص : 500
يكون إلها
معبودا لا يكون بهذه الصفة الدالة على الحدوث و يكون قوله «هذا رَبِّي» محمولا على
أحد الوجهين إما على أنه كذلك عندكم و في مذاهبكم كما يقول أحدنا للمشبه هذا ربه
جسم يتحرك و يسكن و إما على أن يكون قال ذلك مستفهما و أسقط حرف الاستفهام
للاستغناء عنه و قد كثر مجيء ذلك في كلام العرب قال أوس بن حجر:
لعمرك لا
أدري و إن كنت داريا
|
|
شعيب بن
سهم أم شعيب بن منقر
|
و قال
الأخطل:
كذبتك
عينك أم رأيت بواسط
|
|
غلس
الظلام من الرباب خيالا
|
و قال عمرو
بن أبي ربيعة:
ثم قالوا
تحبها قلت بهرا
|
|
عدد
القطر و الحصى و التراب
|
أي أ تحبها؟
و قال آخر:
رفوني و
قالوا يا خويلد لا ترع
|
|
فقلت و
أنكرت الوجوه هم هم
|
أي أ هم هم و
روي عن ابن عباس أنه قال في قوله «فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ» معناه أ فلا
اقتحم فحذف حرف الاستفهام (و رابعها) أنه (ع) إنما قال استخداعا للقوم يريهم قصور
علمهم و بطلان عبادتهم لمخلوق جار عليه أعراض الحوادث فإنهم كانوا يعبدون الشمس و
القمر و الكواكب و بعضهم يعبدون النيران و بعضهم يعبدون الأوثان فلما رأى الكوكب
الذي كانوا يعبدونه قال لهم هذا ربي في زعمكم كما قال «أَيْنَ
شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ» فأضافه إلى نفسه
حكاية لقولهم فكأنه قال لهم هذا ربي في قولكم و قيل أنه نوى في قلبه الشرط أي إن
كان ربكم هذا الحجر كما تزعمون فهذا الكوكب و هذا القمر و الشمس ربي و لم يكن
الحجر ربهم و لا الكوكب ربه و في هذه الآيات دلالة على حدوث الأجسام و إثبات
الصانع و إنما استدل إبراهيم بالأفول على حدوثها لأن حركتها بالأفول أظهر و من
الشبهة أبعد
502
مجمع البیان في تفسير القرآن4
[القصة] ص : 503
و إذا جازت عليها الحركة و السكون فلا بد أن تكون مخلوقة محدثة و إذا كانت محدثة فلا بد لها من محدث و المحدث لا بد أن يكون قادرا ليصح منه الإحداث و إذا أحدثها على غاية الانتظام و الإحكام فلا بد أن يكون عالما و إذا كان قادرا عالما وجب أن يكون حيا موجودا و فيها تنبيه لمشركي العرب و زجر لهم عن عبادة الأصنام و حث لهم على سلوك طريق أبيهم إبراهيم (ع) في النظر و التفكر لأنهم كانوا يعظمون آباءهم فأعلمهم سبحانه أن اتباع الحق من دين إبراهيم الذي يقرون بفضله أوجب عليهم.
[القصة]
ذكر أهل التفسير و التاريخ أن إبراهيم (ع) ولد في زمن نمرود بن كنعان و زعم بعضهم أن نمرود كان من ولاة كيكاوس و بعضهم قال كان ملكا برأسه و قيل لنمرود أنه يولد في بلده هذه السنة مولود يكون هلاكه و زوال ملكه على يده ثم اختلفوا فقال بعضهم إنما قالوا ذلك من طريق التنجيم و التكهن و قال آخرون بل وجد ذلك في كتب الأنبياء و قال آخرون رأى نمرود كان كوكبا طلع فذهب بضوء الشمس و القمر فسأل عنه فعبر بأنه غلام يذهب ملكه على يده عن السدي فعند ذلك أمر بقتل كل ولد يولد تلك السنة و أمر بأن يعزل الرجال عن النساء و بأن يتفحص عن أحوال النساء فمن وجدت حبلى تحبس حتى تلد فإن كان غلاما قتل و إن كانت جارية خليت حتى حبلت أم إبراهيم فلما دنت ولادة إبراهيم خرجت أمه هاربة فذهبت به إلى غار و لفته في خرقة ثم جعلت على باب الغار صخرة ثم انصرفت عنه فجعل الله رزقه في إبهامه فجعل يمصها فتشخب لبنا و جعل يشب في اليوم كما يشب غيره في الجمعة و يشب في الجمعة كما يشب غيره في الشهر و يشب في الشهر كما يشب غيره في السنة فمكث ما شاء الله أن يمكث و قيل كانت تختلف إليه أمه فكان يمص أصابعه فوجدته يمص من أصبع ماء و من أصبع لبنا و من أصبع عسلا و من أصبع تمرا و من أصبع سمنا عن أبي روق و محمد بن إسحاق و لما خرج من السرب نظر إلى النجم و كان آخر الشهر فرأى الكوكب قبل القمر ثم رأى القمر ثم رأى الشمس فقال ما قال و لما رأى قومه يعبدون الأصنام خالفهم و كان يعيب آلهتهم حتى فشا أمره و جرت المناظرات.
[سورة الأنعام (6): الآيات 80 الى 81]
وَ حاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَ تُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَ قَدْ هَدانِ وَ لا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَ فَلا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَ كَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَ لا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81)
503
مجمع البیان في تفسير القرآن4
القراءة ص : 504
القراءة
قرأ أهل
المدينة و ابن عامر في رواية ابن ذكوان أ تحاجوني خفيفة النون و الباقون بالتشديد.
الحجة
قال أبو علي
لا نظير في قول من شدد فأما وجه التخفيف فإنه حذفت النون الثانية لالتقاء النونين
و التضعيف يكره فيتوصل إلى إزالته تارة بالحذف نحو علماء بنو فلان و تارة بالإبدال
نحو لا أملاه حتى تفارقا نحو ديوان و قيراط فحذفوا النون الثانية كراهة التضعيف و
لا يجوز أن تكون المحذوفة الأولى لأن الاستثقال يقع بالتكرير في الأمر الأعم و في
الأولى أيضا أنها دلالة الإعراب و إنما حذفت الثانية كما حذفتها في ليتي في نحو
قوله:
إذ قال
ليتي أصادفه و يذهب بعض مالي
|
|
|
و قوله:
تراه
كالثغام يعل مسكا
|
|
يسوء
الفاليات إذا فليني
|
فالمحذوفة
المصاحبة للياء ليسلم سكون لام الفعل و ما يجري مجراها أو حركتها و لا يجوز أن
يكون المحذوفة الأولى لأن الفعل يبقى بلا فاعل كما لا تحذف الأولى في أ تحاجوني
لأنها للإعراب و يدل على أن المحذوفة الثانية أنها حذفت مع الجار أيضا في نحو
قوله:
قدني من
نصر الخبيبين قدي
|
|
|
و قد جاء حذف
هذه النون في كلامهم قال الشاعر:
أ بالموت
الذي لا بد أني
|
|
ملاق لا
أباك تخوفيني
|
و قال:
504
مجمع البیان في تفسير القرآن4
الإعراب ص : 505
تذكرونا
إذ نقاتلكم
|
|
لا يضر
معدما عدمه.
|
الإعراب
موضع أن يشاء
نصب أي لا أخاف إلا مشيئة الله و هذا استثناء منقطع و قيل متصل و تقديره لا أخافهم
إلا أن يشاء ربي إحياءهم و اقتدارهم و علما منصوب على التمييز.
المعنى
ثم ذكر
سبحانه محاجة إبراهيم مع قومه فقال «وَ حاجَّهُ قَوْمُهُ» أي خاصموه و
جادلوه في الدين و خوفوه من ترك عبادة آلهتهم «قالَ» أي إبراهيم
لهم «أَ تُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَ قَدْ هَدانِ» أي وفقني
لمعرفته و لطف بي في العلم بتوحيده و ترك الشرك و إخلاص العبادة له «وَ لا
أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ» أي لا أخاف منه ضررا إن كفرت به و لا أرجو
نفعا إن عبدته لأنه بين صنم قد كسر فلم يدفع عن نفسه و نجم دل أفوله على حدوثه
فكيف تحاجونني و تدعونني إلى عبادة من لا يخاف ضره و لا يرجى نفعه «إِلَّا
أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً» فيه قولان (أحدهما) أن معناه إلا أن يغلب
الله هذه الأصنام التي تخوفونني بها فيحييها و يقدرها فتضر و تنفع فيكون ضررها و
نفعها إذ ذاك دليلا على حدوثها أيضا و على توحيد الله و على أنه المستحق للعبادة
دون غيره و أنه لا شريك له في ملكه ثم أثنى على الله سبحانه فقال «وَسِعَ
رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً» أي هو عالم بكل شيء ثم أمرهم بالتذكر و
التدبر فقال «أَ فَلا تَتَذَكَّرُونَ» و الثاني قول الحسن
معناه لا أخاف الأوثان إلا أن يشاء ربي أن يعذبني ببعض ذنوبي أو يشاء الإضرار بي
ابتداء و الأول أجود ثم احتج (ع) عليهم و أكد الحجاج بقوله «وَ كَيْفَ
أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ» أي كيف تلزمونني أن أخاف ما أشركتم به من الأوثان
المخلوقة و قد تبين حالهم في أنهم لا يضرون و لا ينفعون «وَ لا
تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ» أي و لا تخافون من
هو القادر على الضر و النفع بل تجرؤون عليه بأن أشركتم أي جعلتم له شركاء في ملكه
و تعبدونهم من دونه و قيل معناه كيف أخاف شرككم و أنا منه بريء و الله تعالى لا
يعاقبني بفعلكم و أنتم لا تخافون و قد أشركتم به فيكون على هذا ما في قوله «ما
أَشْرَكْتُمْ» مصدرية «ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً» أي حجة على
صحته و هذا يدل على أن كل من قال قولا أو اعتقد مذهبا بغير حجة فهو مبطل
«فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ» أ نحن و قد عرفنا
الله بأدلته و وجهنا العبادة نحوه أم أنتم و قد أشركتم بعبادة غيره من الأصنام و
لو أطرحتم العصبية و الحمية لما وجدتم لهذا الحجاج مدفعا «إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» أي تستعملون
عقولكم و علومكم فتميزون الحق من الباطل و الدليل من الشبهة.
505
مجمع البیان في تفسير القرآن4
[سورة الأنعام(6): آية 82] ص : 506
[سورة الأنعام (6): آية 82]
الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَ هُمْ مُهْتَدُونَ (82)
اللغة
قال الأصمعي الظلم في اللغة وضع الشيء في غير موضعه قال الشاعر يمدح قوما:
" هرت الشقاشق ظلامون للجزر"
|
|
|
يريد أنهم عرقبوها فوضعوا النحر غير موضعه و قال النابغة:
" و النؤي كالحوض بالمظلومة الجلد"
|
|
|
يريد الأرض التي صرف عنها المطر و إنما سماها مظلومة لأنهم يتحوضون فيها حوضا لم يحكموا صنعه و لم يضعوه في موضعه لكونهم مسافرين.
المعنى
لما تقدم قوله سبحانه فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ أي بأن يأمن من العذاب الموحد أم المشرك عقبه ببيان من هو أحق به فقال «الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ» معناه الذين عرفوا الله تعالى و صدقوا به و بما أوجبه عليهم و لم يخلطوا ذلك بظلم و الظلم هو الشرك عن ابن عباس و سعيد بن المسيب و قتادة و مجاهد و أكثر المفسرين و روي عن أبي بن كعب أنه قال أ لم تسمع قوله سبحانه «إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ» و هو المروي عن سلمان الفارسي و حذيفة بن اليمان
و روي عن عبد الله بن مسعود قال لما نزلت هذه الآية شق على الناس و قالوا يا رسول الله و أينا لم يظلم نفسه فقال ص أنه ليس الذي تعنون أ لم تستمعوا إلى ما قال العبد الصالح يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ
و قال الجبائي و البلخي يدخل في الظلم كل كبيرة تحبط ثواب الطاعة و قال البلخي و لو اختص الشرك على ما قالوه لوجب أن يكون مرتكب الكبيرة إذا كان مؤمنا كان آمنا و ذلك خلاف القول بالإرجاء و هذا لا يلزم لأنه قول بدليل الخطاب و مرتكب الكبيرة غير آمن و إن كان ذلك معلوما بدليل آخر «أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ» من الله بحصول الثواب و الأمان من العقاب «وَ هُمْ مُهْتَدُونَ» أي محكوم لهم بالاهتداء إلى الحق و الدين و قيل إلى الجنة و اختلف في هذه الآية فقيل أنه من تمام قول
506
مجمع البیان في تفسير القرآن4
[سورة الأنعام(6): الآيات 83 الى 87] ص : 507
إبراهيم (ع) و قيل إن هذا القول من الله تعالى على جهة فصل القضاء بذلك بين إبراهيم (ع) و قومه عن محمد بن إسحاق و ابن زيد و الجبائي.
[سورة الأنعام (6): الآيات 83 الى 87]
وَ تِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83) وَ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَ نُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَ سُلَيْمانَ وَ أَيُّوبَ وَ يُوسُفَ وَ مُوسى وَ هارُونَ وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَ زَكَرِيَّا وَ يَحْيى وَ عِيسى وَ إِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَ إِسْماعِيلَ وَ الْيَسَعَ وَ يُونُسَ وَ لُوطاً وَ كلاًّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ (86) وَ مِنْ آبائِهِمْ وَ ذُرِّيَّاتِهِمْ وَ إِخْوانِهِمْ وَ اجْتَبَيْناهُمْ وَ هَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (87)
القراءة
قرأ أهل الكوفة و يعقوب «دَرَجاتٍ» منونا و الباقون درجات من نشاء بالإضافة و قرأ أهل الكوفة غير عاصم و الليسع بتشديد اللام و فتحها و سكون الياء هاهنا و في ص و الباقون «وَ الْيَسَعَ» بسكون اللام و فتح الياء.
الحجة
من أضاف درجات ذهب إلى أن المرفوعة هي الدرجات لمن يشاء و من نون ذهب إلى أن المرفوع صاحب الدرجات و يقوي قراءة من أضاف قوله تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ فمن فضل على غيره فقد رفعت درجته عليه و يدل على قراءة من نون قوله «وَ رَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ» لأنه في ذكر الرسل فأما قوله «وَ رَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا» فإنه في الرتب و ارتفاع الأحوال في الدنيا و اتضاعها لأن قبله نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا و أما من قرأ الليسع باللام فإن هذه اللام
507
مجمع البیان في تفسير القرآن4
الحجة ص : 507
زائدة قال
أبو علي اعلم أن لام المعرفة يدخل الأسماء على ضربين (أحدهما) للتعريف و الآخر
زيادة زيدت كما تزاد الحروف و التعريف على ضروب منها أن يكون إشارة إلى معهود بينك
و بين المخاطب نحو الرجل إذا أردت به رجلا عرفتماه بعهد كان بينكما (و الآخر) أن
يكون إشارة إلى ما في نفوس الناس من علمهم للجنس فهذا الضرب و إن كان معرفة كالأول
فهو مخالف له من حيث كان الأول قد علمه حسا و هذا لم يعلمه كذلك إنما يعلمه معقولا
و أما نحو مررت بهذا الرجل فإنما أشير به إلى الشاهد الحاضر لا إلى غائب معلوم
بعهد أ لا ترى أنك تقول ذلك فيما لا عهد بينك فيه و بين مخاطبك و يدلك على ذلك
قولك في النداء يا أيها الرجل فتشير به إلى المخاطب الحاضر فأما نحو العباس و
الحارث و الحسن فإنما دخلت الألف و اللام فيها على تنزيل أنها صفات جارية على
موصوفين و هذا، يعني الخليل بقوله جعلوه الشيء بعينه فإذا لم ينزل هذا التنزيل لم
يلحقوها الألف و اللام فقالوا حارث و عباس و على كلا المذهبين جاء ذلك في كلامهم
قال الفرزدق:
يقعدهم
أعراق حذيم بعد ما
|
|
رجا
الهتم إدراك العلى و المكارم
|
و قال:
ثلاث
مئين للملوك وفى بها
|
|
ردائي و
جلت عن وجوه الأهاتم
|
فجعله مرة
اسما بمنزلة أضحاة و أضاح و مرة صفة بمنزلة أحمر و حمر و جمع الأعشى بين الأمرين
في قوله:
أتاني
وعيد الحوص من آل جعفر
|
|
فيا عبد
عمرو لو نهيت الأحاوصا
|
و أما قوله:
و التيم
الأم من يمشي و ألأمهم
|
|
ذهل بن
تيم بنو السود المدانيس
|
فإنه يحتمل
أمرين يجوز أن يكون بمنزلة العباس لأن التيم مصدر و المصادر قد أجريت مجرى
508
مجمع البیان في تفسير القرآن4
الإعراب ص : 509
أسماء
الفاعلين فوصف بها كما وصف بأسماء الفاعلين و جمع جمعها في نحو نور و أنوار و سيل
و سوائل و على هذا قالوا الفضل في اسم رجل كأنهم جعلوه الشيء الذي هو خلاف النقص
و الآخر أن يكون تيمي و تيم كزنجي و زنج فأما الألف و اللام في الليسع فلا يخلو أن
تكون زائدة أو غير زائدة فإن كانت غير زائدة فلا يخلو أن يكون على حد الرجل إذا أردت
به المعهود أو الجنس نحو إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ أو على دخولهما في
العباس فلا يجوز أن يكون على واحد من ذلك فثبت أنه زيادة و مما جاءت اللام فيه
زائدة ما أنشده أحمد بن يحيى:
يا ليت
أم العمرو كانت صاحبي
|
|
مكان من
أنشأ على الركائب
|
و مما جاءت
الألف و اللام فيه زائدة الخمسة العشر درهما حكاه أبو الحسن الأخفش أ لا ترى أنهما
اسم واحد و لا يجوز أن يعرف اسم واحد بتعريفين كما لا يجوز أن يتعرف بعض الاسم دون
بعض و ذهب أبو الحسن إلى أن اللام في اللات زائدة لأن اللات معرفة فأما العزى
فبمنزلة العباس و قياس قول أبي الحسن هذا أن يكون اللام في اليسع أيضا زائدة لأنه
علم مثل اللات و ليس صفة و مما جاءت اللام فيه زائدة قول الشاعر:
وجدنا
الوليد بن اليزيد مباركا
|
|
شديدا
بأعباء الخلافة كاهله
|
فأما من قال
الليسع فإنه يكون اللام على حد ما في الحرث أ لا ترى أنه على وزن الصفات إلا أنه و
إن كان كذلك فليس له مزية على القول الآخر أ لا ترى أنه لم يجيء في الأسماء
الأعجمية المنقولة في حال التعريف نحو إسماعيل و إسحاق شيء على هذا النحو كما لم
يجيء فيها شيء فيه لام التعريف فإذا كان كذلك كان الليسع بمنزلة اليسع في أنه
خارج عما عليه الأسماء الأعجمية المختصة المعربة.
الإعراب
«وَ
تِلْكَ حُجَّتُنا» تلك مبتدأ و حجتنا خبره و الظاهر أن قوله «عَلى
قَوْمِهِ» من صلة حجتنا أي و تلك حجتنا على قومه و إذا جعلت
«آتَيْناها» من صفة حجتنا كان فصلا بين الصلة و الموصول و ذلك لا يجوز فينبغي أن
يكون متعلقا بمحذوف هذا الظاهر تفسير له كذا نقل عن أبي علي الجبائي.
509
مجمع البیان في تفسير القرآن4
المعنى ص : 510
المعنى
ثم بين
سبحانه أن الحجج التي ذكرها إبراهيم (ع) لقومه آتاه إياها و أعطاها إياه بمعنى أنه
هداه لها و أنه احتج بها بأمره فقال «وَ تِلْكَ حُجَّتُنا» أي أدلتنا
«آتَيْناها» أي أعطيناها «إِبْراهِيمَ» و أخطرناها بباله و
جعلناها حججا «عَلى قَوْمِهِ» من الكفار حتى تمكن من إيرادها عليهم عند
المحاجة «نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ» من المؤمنين الذين
يصدقون الله و رسوله و يطيعونه و نفضل بعضهم على بعض بحسب أحوالهم في الإيمان و
اليقين «إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ» يجعل التفاوت بينهم
على ما توجبه حكمته و يقتضيه علمه و قيل معناه نرفع درجات من نشاء على الخلق
بالاصطفاء للرسالة «وَ وَهَبْنا لَهُ» أي لإبراهيم «إِسْحاقَ» و هو ابنه
من سارة «وَ يَعْقُوبَ» ابن إسحاق «كُلًّا
هَدَيْنا» أي كل الثلاثة فضلنا بالنبوة كما قال سبحانه «وَ وَجَدَكَ
ضَالًّا فَهَدى» أي ذاهبا عن النبوة فهداك إليها و قيل معناه كلا هدينا بنيل الثواب
و الكرامات عن الجبائي من الله سبحانه على إبراهيم بأن رزقه الولد و ولد الولد فإن
من أفضل النعم على العبد أن يرزقه الله ولدا يدعو له بعد موته فكيف إذا رزق الولد
و ولد الولد و هما نبيان مرسلان «وَ نُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ» أي من قبل
هؤلاء «وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ» أي من ذرية نوح لأنه أقرب المذكورين
إليه و لأن فيمن عددهم من ليس من ذرية إبراهيم و هو لوط و إلياس و قيل أرادوا من
ذرية إبراهيم «داوُدَ» و هو داود بن أيشا «وَ سُلَيْمانَ» ابنه «وَ
أَيُّوبَ» و هو أيوب بن أموص بن رازج بن روم بن عيصا بن إسحاق ابن إبراهيم «وَ
يُوسُفَ» بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم «وَ مُوسى» بن عمران بن
يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب «وَ هارُونَ» أخاه و كان أكبر منه
بسنة «وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ» بنيل الثواب و
الكرامات و قيل المراد به كما تفضلنا على هؤلاء الأنبياء بالنبوة فكذلك نتفضل على
المحسنين بنيل الثواب و الكرامات «وَ زَكَرِيَّا» و هو زكريا بن أذن
بن بركيا «وَ يَحْيى» و هو ابنه «وَ عِيسى» و هو ابن
مريم بنت عمران بن ياشهم بن أمون بن حزقيا «وَ إِلْياسَ» و اختلف فيه
فقيل أنه إدريس كما قيل ليعقوب إسرائيل عن عبد الله بن مسعود و قيل هو إلياس بن
بستر بن فنحاص بن العيزار بن هارون بن عمران نبي الله عن ابن إسحاق و قيل هو الخضر
عن كعب «كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ» أي من الأنبياء و
المرسلين «وَ إِسْماعِيلَ» و هو ابن إبراهيم «وَ الْيَسَعَ» بن أخطوب بن
العجوز «وَ يُونُسَ» بن متى «وَ لُوطاً» و هو لوط بن
هارون بن أخي إبراهيم و قيل هو ابن أخته «وَ كلًّا» أي و كل واحد منهم «فَضَّلْنا
عَلَى الْعالَمِينَ» أي عالمي زمانه و من قال أن الهاء في قوله «وَ
مِنْ ذُرِّيَّتِهِ» كناية عن إبراهيم قال أنه سمى ذريته إلى قوله «وَ
كَذلِكَ نَجْزِي
510
مجمع البیان في تفسير القرآن4
[سورة الأنعام(6): الآيات 88 الى 90] ص : 511
الْمُحْسِنِينَ» ثم عطف قوله «وَ زَكَرِيَّا وَ يَحْيى» على قوله «وَ نُوحاً هَدَيْنا» و لا يمتنع أيضا أن يكون غلب الأكثر الذين هم من نسل إبراهيم على أن الرواية التي جاءت عن ابن مسعود أن إلياس إدريس هو جد نوح إذا لم تضعف قول من قال إن الهاء كناية عن نوح فكذلك إذا لم يكن لوط من ذرية إبراهيم لم يضعف قول من قال إن الهاء كناية عن إبراهيم و قال الزجاج يجوز أن يكون من ذريته من ذرية نوح و يجوز أن يكون من ذرية إبراهيم لأن ذكرهما جميعا قد جرى و أسماء الأنبياء التي جاءت بعد قوله «وَ نُوحاً» نسق على نوح و إذا جعل الله سبحانه عيسى من ذرية إبراهيم (ع) أو نوح ففي ذلك دلالة واضحة و حجة قاطعة على أن أولاد الحسن و الحسين (ع) ذرية رسول الله (ص) على الإطلاق و إنهما ابنا رسول الله (ص)
و قد صح في الحديث أنه قال لهما ع ابناي هذان إمامان قاما أو قعدا
و قال للحسن (ع) أن ابني هذا سيد
و إن الصحابة كانت تقول لكل منهما و من أولادهما يا ابن رسول الله «وَ مِنْ آبائِهِمْ» يعني و من آباء هؤلاء الأنبياء «وَ ذُرِّيَّاتِهِمْ وَ إِخْوانِهِمْ» جماعة فضلناهم و قال الزجاج معناه هدينا هؤلاء و هدينا بعض آبائهم و إخوانهم «وَ اجْتَبَيْناهُمْ» أي اصطفيناهم و اخترناهم للرسالة و هو مأخوذ من جبيت الماء في الحوض إذا جمعته «وَ هَدَيْناهُمْ» أي سددناهم و أرشدناهم فاهتدوا «إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» أي طريق بين لا اعوجاج فيه و هو الدين الحق.
[سورة الأنعام (6): الآيات 88 الى 90]
ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ لَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (88) أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَ الْحُكْمَ وَ النُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ (89) أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْعالَمِينَ (90)
القراءة
قرأ ابن عامر وحده اقتده بكسر الهاء مشبعة و الباقون «اقْتَدِهْ» ساكنة الهاء إلا
511
مجمع البیان في تفسير القرآن4
الحجة ص : 512
أن حمزة و
الكسائي و يعقوب و خلفا يحذفون الهاء في الوصل و يثبتونها في الوقف و الباقون
يثبتونها في الوصل و الوقف.
الحجة
قال أبو علي
الوجه الوقوف على الهاء لاجتماع الجمهور على إثباته و لا ينبغي أن يوصل و الهاء
ثابتة لأن هذه الهاء في السكت بمنزلة همزة الوصل في الابتداء في أن الهاء للوقف
كما أن همزة الوصل للابتداء بالساكن فكما لا تثبت الهمزة في الوصل كذلك ينبغي أن
لا تثبت الهاء و وجه قراءة ابن عامر أن يجعل الهاء كناية عن المصدر لا التي تلحق
الوقف و حسن إضماره لذكر الفعل الدال عليه و مثل ذلك قول الشاعر:
فجال على
وحشييه و تخاله
|
|
على
ظهره سبا جديدا يمانيا
|
كأنه قال و
تخال خيلا على ظهره سبا فعلى متعلق بمحذوف و التقدير ثابتا على ظهره و مثله قول
الشاعر:
هذا
سراقة للقرآن يدرسه
|
|
و المرء
عند الرشى إن يلقها ذيب
|
فالهاء كناية
عن المصدر و دل يدرسه على الدرس و لا يجوز أن يكون ضمير القرآن لأن الفعل قد تعدى
إليه باللام فلا يجوز أن يتعدى إليه و إلى ضميره.
المعنى
ثم بين
سبحانه إكرامه لأنبيائه (ع) ثم أمر من بعد بالاقتداء بهم فقال «ذلِكَ» و هو إشارة
إلى ما تقدم ذكره من التفضيل و الاجتباء و الهداية و الاصطفاء «هُدَى
اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ» ممن لم يسمهم في هذه
الآيات و الهداية هنا هي الإرشاد إلى الثواب دون الهداية التي هي نصب الأدلة أ لا
ترى إلى قوله «وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ» و ذلك لا يليق إلا
بالثواب الذي يختص المحسنين دون الدلالة التي يشترك بها المؤمن و الكافر و قوله «وَ لَوْ
أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» يدل أيضا على ذلك
512
مجمع البیان في تفسير القرآن4
المعنى ص : 512
و معناه أنهم
لو أشركوا لبطلت أعمالهم التي كانوا يوقعونها على خلاف الوجه الذي يستحق به الثواب
لتوجيهها إلى غير الله تعالى و ليس في ذلك دلالة على أن الثواب الذي استحقوه على
طاعتهم المتقدمة يحبط إذ ليس في ظاهر الآية ما يقتضي ذلك على أنا قد علمنا بالدليل
أن المشرك لا يكون له ثواب أصلا و اجتمعت الأمة على ذلك «أُولئِكَ» يعني به من
تقدم ذكرهم من الأنبياء «الَّذِينَ آتَيْناهُمُ» أي أعطيناهم «الْكِتابَ» أراد الكتب
و وحد لأنه عنى به الجنس «وَ الْحُكْمَ» معناه و الحكم بين
الناس و قيل الحكمة «وَ النُّبُوَّةَ» أي الرسالة «فَإِنْ
يَكْفُرْ بِها» أي بالكتاب و الحكم و بالنبوة و «هؤُلاءِ» يعني الكفار
الذين جحدوا نبوة النبي (ص) في ذلك الوقت «فَقَدْ وَكَّلْنا بِها» أي بمراعاة
أمر النبوة و تعظيمها و الأخذ بهدى الأنبياء «قَوْماً
لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ» و اختلف في المعنيين بذلك فقيل عنى به
الأنبياء الذين جرى ذكرهم آمنوا بما أتى به النبي (ص) قبل وقت مبعثه عن الحسن و
اختاره الزجاج و الطبري و الجبائي و قيل عنى به الملائكة عن أبي رجاء العطاردي و
قيل عنى به من آمن من أصحاب النبي (ص) في وقت مبعثه و قيل عنى بقوله «فَإِنْ
يَكْفُرْ بِها» كفار قريش و بقوله «قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ» أهل المدينة
عن الضحاك و اختاره الفراء و إنما قال «وَكَّلْنا بِها» و لم يقل فقد
قام بها قوم تشريفا لهم بالإضافة إلى نفسه و قيل معناه فقد ألزمناها قوما فقاموا
بها و في هذا ضمان من الله تعالى أن ينصر نبيه ص و يحفظ دينه
«أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ» أي هداهم الله إلى الصبر
«فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ» معناه اقتد بهم في الصبر على أذى قومك و اصبر
كما صبروا حتى تستحق من الثواب ما استحقوه و قيل معناه أولئك الذين قبلوا هدى الله
و اهتدوا بلطف الله الذي فعله بهم فاقتد بطريقتهم في التوحيد و الأدلة و تبليغ
الرسالة و الإشارة بأولئك إلى الأنبياء الذين تقدم ذكرهم عن ابن عباس و السدي و
ابن زيد و قيل إلى المؤمنين الموكلين بحفظ دين الله لأنه في ذكرهم عن الحسن و
قتادة و على هذا فلم يتكرر لفظ الهداية و في القول الأول أعاد ذكر الهداية لطول
الكلام و يكون معنى قوله «فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ» اقتد بصبر
أيوب و سخاء إبراهيم و صلابة موسى و زهد عيسى ثم فسر بعض ما يقتدى بهم فيه بقوله «قُلْ» يا محمد «لا
أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً» أي لا أطلب منكم على تبليغ الوحي و أداء
الرسالة جعلا كما لم يسأل ذلك الأنبياء قبلي فإن أخذ الأجر عليه ينفر الناس عن
القبول «إِنْ هُوَ» أي ما هو «إِلَّا
ذِكْرى» أي تذكيرا «لِلْعالَمِينَ» بما يلزمهم إتيانه و
اجتنابه و في هذه الآية دلالة على أنه لا يخلو كل زمان من حافظ للدين إما نبي أو
إمام لقوله «فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً» و أسند
513
مجمع البیان في تفسير القرآن4
[سورة الأنعام(6): آية 91] ص : 514
التوكيل إلى نفسه و قد استدل قوم بالآية على أن النبي (ص) و أمته كانوا متعبدين بشرائع من قبلهم إلا ما قام الدليل على نسخه و هذا لا يصح لأن الآية قد وردت فيما اتفقوا عليه على ما تقدم ذكره و ذلك لا يليق إلا بالتوحيد و مكارم الأخلاق فأما الشرائع فإنها تختلف فلا يصح الاقتداء بجميع الأنبياء فيها و تدل الآية على أن نبينا مبعوث إلى كافة العالمين و إن النبوة مختومة به و لذلك قال «إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ».
[سورة الأنعام (6): آية 91]
وَ ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَ هُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَ تُخْفُونَ كَثِيراً وَ عُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَ لا آباؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91)
القراءة
قرأ ابن كثير و أبو عمرو يجعلونه قراطيس يبدونها و يخفون بالياء فيها و الباقون بالتاء في الجميع.
الحجة
من قرأ بالياء فلأن ما قبله «ما قَدَرُوا اللَّهَ» على الغيبة و من قرأ بالتاء فعلى الخطاب من قوله «قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ» و قوله (فيما بعد) «وَ عُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا».
الإعراب
«حَقَّ قَدْرِهِ» منصوب على المصدر «تُبْدُونَها وَ تُخْفُونَ كَثِيراً» يجوز أن يكون صفة لقراطيس لأن النكرات توصف بالجمل و يجوز أن يكون حالا من ضمير الكتاب في «تَجْعَلُونَهُ» على أن تجعل القراطيس الكتاب في المعنى لأنه مكتوب فيها و إنما رفع قوله «يَلْعَبُونَ» لأنه لم يجعله جوابا لقوله «ذَرْهُمْ» و لو جعله جوابا لجزمه كما قال سبحانه «ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا» و موضع «يَلْعَبُونَ» نصب على الحال و التقدير ذرهم لاعبين في خوضهم.
النزول
جاء رجل من اليهود يقال له مالك بن الضيف يخاصم النبي (ص) فقال له النبي (ص) أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى أ ما تجد في التوراة إن الله سبحانه يبغض
514
مجمع البیان في تفسير القرآن4
المعنى ص : 515
الحبر
السمين و كان سمينا فغضب و قال ما أنزل الله على بشر من شيء فقال له أصحابه ويحك
و لا موسى فنزلت الآية
عن سعيد بن
جبير و قيل إن الرجل كان فنحاص بن عازورا و هو قائل هذه المقالة عن السدي و
قيل أن
اليهود قالت يا محمد أنزل الله عليك كتابا قال نعم قالوا و الله ما أنزل الله من
السماء كتابا فنزلت الآية
عن ابن عباس
و في رواية أخرى عنه أنها نزلت في الكفار أنكروا قدرة الله عليهم فمن أقر أن الله
على كل شيء قدير فقد قدر الله حق قدره و قيل نزلت في مشركي قريش عن مجاهد.
المعنى
لما تقدم ذكر
الأنبياء و النبوة عقبه سبحانه بالتهجين لمن أنكر النبوة فقال «وَ ما
قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ» أي ما عرفوا الله حق معرفته و ما عظموه حق
عظمته و ما وصفوه بما هو أهل أن يوصف به «إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ
عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ» أي ما أرسل الله رسولا و لم ينزل على بشر
شيئا مع أن المصلحة و الحكمة تقتضيان ذلك و المعجزات الباهرة تدل على بعثة كثير
منهم ثم أمر سبحانه نبيه (ص) فقال «قُلْ» يا محمد لهم «مَنْ
أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى» يعني التوراة و إنما
احتج بذلك عليهم لأن القائل لذلك من اليهود و من قال أن المعني بالآية مشركو العرب
قال احتج عليهم بالأمر الظاهر ثم بين أن منزلة محمد في ذلك كمنزلة موسى
«نُوراً» أي يستضاء به في الدين كما يستضاء بالنور في الدنيا «وَ
هُدىً لِلنَّاسِ» أي دلالة يهتدون به «تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ» أي كتبا و
صحفا متفرقة و قال أبو علي الفارسي معناه تجعلونه ذا قراطيس أي تودعونه إياها
«تُبْدُونَها وَ تُخْفُونَ كَثِيراً» أي تبدون بعضها و تكتمون بعضها و هو ما في
الكتب من صفات النبي (ص) و الإشارة إليه و البشارة به «وَ عُلِّمْتُمْ
ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَ لا آباؤُكُمْ» قيل إنه خطاب
للمسلمين يذكرهم ما أنعم به عليهم عن مجاهد و قيل هو خطاب لليهود أي علمتم التوراة
فضيعتموه و لم تنتفعوا به و قيل معناه علمتم بالقرآن ما لم تعلموا عن الحسن «قُلْ» يا محمد
«اللَّهَ» أي الله أنزل ذلك و هذا كما إن الإنسان إذا أراد البيان و الاحتجاج
بما يعلم أن الخصم مقر به و لا يستطيع دفعه ذكر ذلك ثم تولى الجواب عنه بما قد علم
أنه لا جواب له غيره «ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ» أي دعهم و
ما يختارونه من العناد و ما خاضوا فيه من الباطل و اللعب و ليس هذا على إباحة ترك
الدعاء و الإنذار بل على ضرب من التوعد و التهدد كأنه قال دعهم فسيعلمون عاقبة
أمرهم.
515
مجمع البیان في تفسير القرآن4
[سورة الأنعام(6): آية 92] ص : 516
[سورة الأنعام (6): آية 92]
وَ هذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَ لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَ مَنْ حَوْلَها وَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (92)
القراءة
قرأ أبو بكر عن عاصم لينذر بالياء و الباقون بالتاء.
الحجة
من قرأ بالتاء يؤيد قراءة قوله «وَ أَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ» و «إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها» و من قرأ بالياء جعل المنذر هو الكتاب و يؤيده قوله وَ لِيُنْذَرُوا بِهِ و إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ فلا يمتنع إسناد الإنذار إليه على وجه التوسع.
الإعراب
«أَنْزَلْناهُ» جملة مرفوعة الموضع صفة لكتاب و مبارك أيضا صفة له.
المعنى
لما احتج سبحانه بإنزال التوراة على موسى ع بين أن سبيل القرآن سبيلها فقال «وَ هذا كِتابٌ» يعني القرآن «أَنْزَلْناهُ» من السماء إلى الأرض لأن جبرائيل (ع) أتى به من السماء «مُبارَكٌ» و إنما سماه مباركا لأنه ممدوح مستسعد به فكل من تمسك به نال الفوز عن أبي مسلم و قيل إن البركة ثبوت الخير على النماء و الزيادة و منه تبارك الله أي ثبت له ما يستحق به التعظيم لم يزل و لا يزال فالقرآن مبارك لأن قراءته خير و العمل به خير و فيه علم الأولين و الآخرين و فيه مغفرة للذنوب و فيه الحلال و الحرام و قيل البركة الزيادة فالقرآن مبارك لما فيه من زيادة البيان على ما في الكتب المتقدمة لأنه ناسخ لا يرد عليه نسخ لبقائه إلى آخر التكليف «مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ» من الكتب كالتوراة و الإنجيل و غيرهما عن الحسن و تصديقه للكتب على وجهين (أحدهما) أنه يشهد بأنها حق (و الثاني) أنه ورد بالصفة التي نطقت بها الكتب المتقدمة «وَ لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَ مَنْ حَوْلَها» يعني بأم القرى مكة و من حولها أهل الأرض كلهم عن ابن عباس و هو من باب حذف المضاف يريد لتنذر أهل أم القرى و إنما سميت مكة أم القرى لأن الأرض دحيت من تحتها فكان الأرض نشأت منها و قيل لأن أول بيت وضع في الدنيا وضع بمكة فكان القرى تنشأت
516
مجمع البیان في تفسير القرآن4
[سورة الأنعام(6): آية 93] ص : 517
منها عن السدي و قيل لأن على جميع الناس أن يستقبلوها و يعظموها لأنها قبلتهم كما يجب تعظيم الأم عن الزجاج و الجبائي «وَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ» أي بالقرآن و يحتمل أن يكون كناية عن محمد ص لدلالة الكلام عليه «وَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ» أي على أوقات صلواتهم «يُحافِظُونَ» أي يراعونها ليؤدوها فيها و يقوموا بإتمام ركوعها و سجودها و جميع أركانها و في هذا دلالة على أن المؤمن لا يجوز أن يكون مؤمنا ببعض ما أوجبه الله دون بعض و فيها دلالة على عظم قدر الصلاة و منزلتها لأنه سبحانه خصها بالذكر من بين الفرائض و نبه على أن من كان مصدقا بالقيامة و بالنبي ص لا يخل بها و لا يتركها.
[سورة الأنعام (6): آية 93]
وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَ لَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَ مَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَ لَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَ الْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَ كُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93)
اللغة
أصل الافتراء القطع من فريت الأديم أفريه فريا فكان الافتراء هو القطع على خبر لا حقيقة له و الفترة الغشية و غمرة كل شيء معظمه و غمرات الموت شدائده قال الشاعر:
الغمرات ثم ينجلينا
|
|
و ثم يذهبن فلا يجينا
|
و أصله الشيء يغمر الأشياء فيغطيها و الهون بضم الهاء الهوان قال ذو الإصبع العدواني:
517
مجمع البیان في تفسير القرآن4
الإعراب ص : 518
اذهب إليك فما أمي براعية
|
|
ترعى المخاض و لا أغضي على الهون
|
و الهون بفتح الهاء الدعة و الرفق و منه يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً قال:
هونا كما لا يرد الدهر ما فاتا
|
|
لا تهلكا أسفا في إثر من ماتا
|
. الإعراب
«مَنْ قالَ سَأُنْزِلُ» في موضع الجر على العطف كأنه قال و من أظلم ممن قال ذلك و جواب لو من قوله «وَ لَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ» محذوف أي لرأيت عذابا عظيما.
النزول
اختلفوا فيمن نزلت هذه الآية فقيل نزلت في مسيلمة حيث ادعى النبوة إلى قوله «وَ لَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ» و
قوله «سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ» في عبد الله بن سعد بن أبي سرح فإنه كان يكتب الوحي للنبي ص فكان إذا قال له اكتب عليما حكيما كتب غفورا رحيما و إذا قال له اكتب غفورا رحيما كتب عليما حكيما و ارتد و لحق بمكة و قال إني أنزل مثل ما أنزل الله عن عكرمة و ابن عباس و مجاهد و السدي و إليه ذهب الفراء و الزجاج و الجبائي و هو المروي عن أبي جعفر (ع)
و قال قوم نزلت في ابن أبي سرح خاصة و قال قوم نزلت في مسيلمة خاصة.
المعنى
لما تقدم ذكر نبوة النبي ص و إنزال الكتاب عليه عقبه سبحانه بذكر تهجين الكفار الذين كذبوه أو ادعوا أنهم يأتون بمثل ما أتى به فقال «وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً» هذا استفهام في معنى الإنكار أي لا أحد أظلم ممن كذب على الله فادعى أنه نبي و ليس بنبي «أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَ لَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ» أي يدعي الوحي و لا يأتيه و لا يجوز في حكمة الله سبحانه أن يبعث كذابا و هذا و إن كان داخلا في الافتراء فإنما أفرد بالذكر تعظيما «وَ مَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ» قال الزجاج هذا جواب لقولهم لو نشاء لقلنا مثل هذا فادعوا ثم لم يفعلوا و بذلوا النفوس و الأموال و استعملوا سائر الحيل في إطفاء نور الله و أبى الله ألا أن يتم نوره و قيل المراد به عبد الله بن سعد بن أبي سرح أملى عليه رسول الله ص ذات يوم وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ إلى قوله «ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ» فجرى على لسان ابن أبي سرح فتبارك الله أحسن الخالقين فأملأه عليه و قال هكذا أنزل فارتد عدو الله
518
مجمع البیان في تفسير القرآن4
[سورة الأنعام(6): آية 94] ص : 519
و قال لئن كان محمد صادقا فلقد أوحي إلي كما أوحي إليه و لئن كان كاذبا فلقد قلت كما قال و ارتد عن الإسلام و هدر رسول الله ص دمه فلما كان يوم الفتح جاء به عثمان و قد أخذ بيده و رسول الله ص في المسجد فقال يا رسول الله اعف عنه فسكت رسول الله ص ثم أعاد فسكت ثم أعاد فسكت فقال هو لك فلما مر قال رسول الله لأصحابه أ لم أقل من رآه فليقتله فقال عباد بن بشر كانت عيني إليك يا رسول الله أن تشير إلي فأقتله فقال ص الأنبياء لا يقتلون بالإشارة ثم أخبر سبحانه عن حال هؤلاء فقال «وَ لَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ» أي في شدائد الموت عند النزع و قيل في أشد العذاب في النار «وَ الْمَلائِكَةُ» الذين يقبضون الأرواح و قيل يريد ملائكة العذاب «باسِطُوا أَيْدِيهِمْ» لقبض أرواحهم و قيل يبسطون إليهم أيديهم بالعذاب يضربون وجوههم و أدبارهم «أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ» أي يقولون أخرجوا أنفسكم من سكرات الموت إن استطعتم و صدقتم فيما قلتم و ادعيتم و قيل أخرجوا أنفسكم من أجسادكم عند معاينة الموت إرهاقا لهم و تغليظا عليهم و إن كان إخراجها من فعل غيرهم و قيل على التأويل الأول يقولون لهم يوم القيامة أخرجوا أنفسكم من عذاب النار إن استطعتم أي خلصوها منه «الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ» أي عذابا تلقون فيه الهوان «بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ» أي في الدنيا «وَ كُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ» أي تأنفون من اتباع آياته.
[سورة الأنعام (6): آية 94]
وَ لَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ تَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَ ما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَ ضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94)
القراءة
قرأ أهل المدينة و الكسائي و حفص «بَيْنَكُمْ» بالنصب و الباقون بالرفع.
الحجة
قال أبو علي استعمل هذا الاسم على ضربين (أحدهما) أن يكون اسما متصرفا كالافتراق (و الآخر) أن يكون ظرفا و المرفوع في قراءة من قرأ لقد تقطع بينكم هو الذي كان ظرفا ثم استعمل اسما و الدليل على جواز كونه اسما قوله وَ مِنْ بَيْنِنا وَ بَيْنِكَ حِجابٌ
519
مجمع البیان في تفسير القرآن4
اللغة ص : 520
و هذا
فِراقُ بَيْنِي وَ بَيْنِكَ فلما استعمل اسما في هذه المواضع جاز أن يسند
إليه الفعل الذي هو تقطع في قول من رفع و الذي يدل على أن هذا المرفوع هو الذي
استعمل ظرفا أنه لا يخلو من أن يكون الذي كان ظرفا اتسع فيه أو يكون الذي هو مصدر
فلا يجوز أن يكون المصدر لأن تقديره يكون لقد تقطع افتراقكم و هذا خلاف المعنى
المراد لأن المراد لقد تقطع وصلكم و ما كنتم تتألفون عليه فإن قلت كيف جاز أن يكون
بمعنى الوصل و أصله الافتراق و التمايز قيل إنه لما استعمل مع الشيئين المتلابسين
في نحو بيني و بينه شركة و بيني و بينه رحم و صداقة صارت لاستعمالها في هذه
المواضع بمنزلة الوصلة و على خلاف الفرقة فلهذا قد جاء لقد تقطع بينكم بمعنى تقطع
وصلكم فأما من نصب «بَيْنَكُمْ» ففيه مذهبان (أحدهما) أنه أضمر الفاعل
في الفعل و دل عليه ما تقدم من قوله «وَ ما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ» لأن هذا يدل
على التقاطع و ذلك المضمر هو الوصل فكأنه قال لقد تقطع وصلكم بينكم و قد حكى
سيبويه أنهم قالوا إذا كان غدا فأتني و أضمر ما كانوا فيه من رخاء و بلاء لدلالة
الحال عليه و المذهب الآخر أنه انتصب على شيء يراه أبو الحسن فإنه يذهب إلى أن
معناه معنى المرفوع فلما جرى في كلامهم منصوبا ظرفا تركوه على ما يكون عليه في
أكثر الكلام و كذلك يقول في قوله يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ و قوله و أَنَّا
مِنَّا الصَّالِحُونَ وَ مِنَّا دُونَ ذلِكَ و دون في موضع رفع
عنده و إن كان منصوب اللفظ كما يقال منا الصالح و منا الطالح.
اللغة
فرادى جمع
فرد و فريد و فرد و العرب تقول فرادى و فراد فلا يصرفونها تشبيها بثلاث و رباع قال
الشاعر:
ترى
النعرات البيض تحت لبانه
|
|
فراد و
مثنى أصعقتها صواهله
|
و قال
النابغة:
من وحش
وجرة موشي أكارعه
|
|
طاوي
المصير كسيف الصيقل الفرد
|
و مثل
الفرادى الردافى و القرابى و التخويل الإعطاء و أصله تمليك الخول كما أن
520
مجمع البیان في تفسير القرآن4
الإعراب ص : 521
التمويل هو تمليك الأموال و خوله الله أعطاه مالا و فلان خولي مال و خال مال و خائل مال إذ كان يصلح المال و هم خول فلان أي أتباعه الواحد خائل و الزعم قد يكون حقا و قد يكون باطلا قال الشاعر:
يقول هلكنا إن هلكت و إنما
|
|
على الله أرزاق العباد كما زعم
|
و البين مصدر بأن يبين إذا فارق قال الشاعر:
بأن الخليط برامتين فودعوا
|
|
أو كلما ظعنوا لبين تجزع
|
قال أبو زيد بأن الحي بينونة و بينا إذا ظعنوا و تباينوا أي تفرقوا بعد أن كانوا جميعا.
الإعراب
«فُرادى» نصب على الحال و «ما خَوَّلْناكُمْ» موصول و صلة في موضع نصب بأنه مفعول «تَرَكْتُمْ».
النزول
نزلت في النضر بن الحرث بن كلدة حين قال سوف يشفع لي اللات و العزى عن عكرمة.
المعنى
ثم بين سبحانه تمام ما يقال لهم على سبيل التوبيخ فقال «وَ لَقَدْ جِئْتُمُونا» قيل هذا من كلام الله تعالى يخاطب به عباده إما عند الموت أو عند البعث و قيل هو من كلام الملائكة يؤدونه عن الله إلى الذين يقبضون أرواحهم «فُرادى» أي وحدانا لا مال لكم و لا خول و لا ولد و لا حشم عن الجبائي و قيل واحدا واحدا على حدة عن الحسن و قيل كل واحد منهم منفردا من شريكه في الغي و شقيقه عن الزجاج «كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ» أي كما خلقناكم في بطون أمهاتكم فلا ناصر لكم و لا معين عن الجبائي و قيل معناه ما
روي عن النبي ص أنه قال تحشرون حفاة عراة غرلا
و الغرل هم القلف و
روي أن عائشة قالت لرسول الله ص حين سمعت ذلك وا سوأتاه أ ينظر بعضهم إلى سوأة بعض من الرجال و النساء فقال ص لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ و يشغل بعضهم عن بعض
و قال الزجاج معناه كما بدأناكم أول مرة أي يكون بعثكم كخلقكم «وَ تَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ» معناه ملكناكم في الدنيا مما كنتم تتباهون به من الأموال «وَراءَ ظُهُورِكُمْ» أي خلف ظهوركم في الدنيا و المراد
521
مجمع البیان في تفسير القرآن4
[سورة الأنعام(6): الآيات 95 الى 96] ص : 522
تركتم الأموال و حملتم من الذنوب الأحمال و استمتع غيركم بما خلفتم و حوسبتم عليه فيا لها من حسرة «وَ ما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ» أي ليس معكم من كنتم تزعمون أنهم يشفعون لكم عند الله يوم القيامة و هي الأصنام «الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ» معناه زعمتم أنهم شركاؤنا فيكم و شفعاؤكم يريد و ما نفعكم عبادة الأوثان التي كنتم تقولون إنها فيكم شركاء و إنها تشفع لكم عند الله تعالى و هذا عام في كل من عبد غير الله و اعتمد غيره يرجو خيره و يخاف ضيره في مخالفة الله تعالى «لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ» أي وصلكم و جمعكم و من قرأ بالنصب فمعناه لقد تقطع الأمر بينكم أو تقطع وصلكم بينكم «وَ ضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ» أي ضاع و تلاشي و لا تدرون أين ذهب من جعلتم شفعاءكم من آلهتكم و لم تنفعكم عبادتها و قيل معناه ما تزعمون من عدم البعث و الجزاء قد حث الله سبحانه في هذه الآية على اقتناء الطاعات التي بها ينال الفوز و تدرك النجاة دون اقتناء المال الذي لا شك في تركه و عدم الانتفاع به بعد الممات.
[سورة الأنعام (6): الآيات 95 الى 96]
إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَ النَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَ مُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95) فالِقُ الْإِصْباحِ وَ جَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96)
القراءة
قرأ أهل الكوفة «وَ جَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً» و الباقون و جاعل بالألف و الرفع الليل بالجر.
الحجة
وجه قول من قرأ و جاعل الليل أن قبله اسم فاعل و هو «فالِقُ الْحَبِّ» و «فالِقُ الْإِصْباحِ» ليكون فاعل المعطوف مثل فاعل المعطوف عليه أ لا ترى أن حكم الاسم أن يعطف على اسم مثله لأن الاسم بالاسم أشبه من الفعل بالاسم و يقوي ذلك قولهم:
للبس عباءة و تقر عيني
|
|
أحب إلي من لبس الشفوف
|
522
مجمع البیان في تفسير القرآن4
اللغة ص : 523
فنصب و تقر ليكون في تقدير اسم بإضمار أن فيكون قد عطف اسما على اسم و قوله:
و لو لا رجال من رزام و مازن
|
|
و آل سبيع أو أسوك علقما
|
و من قرأ أو جعل فلأن اسم الفاعل الذي قبله بمعنى المضي فلما كان فاعل بمعنى فعل عطف عليه فعل لموافقته في المعنى و يدلك على أنه بمنزلة فعل أنه نزل منزلته فيما عطف عليه و هو قوله «وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ حُسْباناً» أ لا ترى أنه لما كان المعنى فعل حمل المعطوف على ذلك فنصب الشمس و القمر على فعل لما كان فاعل كفعل و يقوي ذلك قولهم هذا معطي زيد درهما أمس فالدرهم محمول على أعطى لأن اسم الفاعل إذا كان لما مضى لم يعمل عمل الفعل فإذا كان معط بمنزلة أعطى كذلك جعل فالق بمنزلة فلق لأن اسم الفاعل لما مضى فعطف عليه فعل لما كان بمنزلته.
اللغة
الفلق الشق يقال فلقة فانفلق و الفلق الصبح لأن الظلام ينفلق عنه و الفلق المطمئن من الأرض كأنه منشق عنها و الحب جمع حبة و هو كل ما لا يكون له نوى كالبر و الشعير و النوى جمع نواة و الإصباح و الصبح واحد و هو مصدر أصبحنا إصباحا و قد روي عن الحسن أنه قرأ فالق الأصباح بالفتح يريد صبح كل يوم و ما قرأ به غيره و السكن الذي يسكن إليه و الحسبان جمع حساب مثل شهاب و شهبان و قيل هو مصدر حسبت الحساب أحسبه حسابا و حسبانا و حكي عن بعض العرب على الله حسبان فلان و حسبته أي حسابه و الحسبان بكسر الحاء جمع حسبانة و هي وسادة صغيرة و الحسبان و المحسبة مصدر حسبت فلانا عاقلا أحسبه و أحسبه.
الإعراب
النصب في «الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ» مفعول فعل يدل عليه و قوله و جاعل الليل سكنا و تقديره و جعل الشمس و القمر حسبانا و حسبانا المفعول الثاني منه و لا يجوز و جاعل الليل سكنا لأن اسم الفاعل إذا كان واقعا لم يعمل عمل الفعل و أضيف إلى ما بعده لا غير تقول هذا ضارب زيد أمس لا غير.
المعنى
ثم عاد الكلام إلى الاحتجاج على المشركين بعجائب الصنع و لطائف التدبير فقال سبحانه «إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَ النَّوى» أي شاق الحبة اليابسة الميتة فيخرج منها
523
مجمع البیان في تفسير القرآن4
المعنى ص : 523
النبات و شاق
النواة اليابسة فيخرج منها النخل و الشجر عن الحسن و قتادة و السدي و قيل معناه
خالق الحب و النوى و منشئهما و مبدئهما عن ابن عباس و الضحاك و قيل المراد به ما
في الحبة و النوى من الشق و هو من عجيب قدرة الله تعالى في استوائه عن مجاهد و أبي
مالك «يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَ مُخْرِجُ الْمَيِّتِ
مِنَ الْحَيِّ» أي يخرج النبات الغض الطري الخضر من الحب اليابس و يخرج الحب اليابس
من النبات الحي النامي عن الزجاج و العرب تسمي الشجر ما دام غضا قائما بأنه حي
فإذا يبس أو قطع أو قلع سموه ميتا و قيل معناه يخلق الحي من النطفة و هي موات و
يخلق النطفة و هي موات من الحي عن الحسن و قتادة و ابن زيد و غيرهم و هذا أصح و
قيل معناه يخرج الطير من البيض و البيض من الطير عن الجبائي و قيل معناه يخرج
المؤمن من الكافر و الكافر من المؤمن «ذلِكُمُ اللَّهُ» أي فاعل ذلك كله
الله «فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ» أي تصرفون عن الحق و يذهب بكم عن هذه
الأدلة الظاهرة إلى الباطل أ فلا تتدبرون فتعلمون أنه لا ينبغي أن يجعل لمن أنعم
عليكم بفلق الحب و النوى و إخراج الزرع من الحب و الشجر من النوى شريك في عبادته «فالِقُ
الْإِصْباحِ» أي شاق عمود الصبح عن ظلمة الليل و سواده عن أكثر المفسرين و قيل
معناه خالق الصباح عن ابن عباس «وَ جَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً» تسكنون فيه
و تتودعون فيه عن ابن عباس و مجاهد و أكثر المفسرين نبه الله سبحانه على عظيم
نعمته بأن جعل الليل للسكون و النهار للتصرف و دل بتعاقبهما على كمال قدرته و
حكمته ثم قال «وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ حُسْباناً» أي جعلهما تجريان في
أفلاكهما بحساب لا يتجاوزانه حتى ينتهيا إلى أقصى منازلهما فتقطع الشمس جميع
البروج الاثني عشر في ثلاثمائة و خمس و ستين يوما و ربع القمر في ثمانية و عشرين
يوما و بنى عليهما الليالي و الأيام و الشهور و الأعوام كما قال سبحانه الشَّمْسُ
وَ الْقَمَرُ بِحُسْبانٍ و قال كُلٌّ فِي فَلَكٍ
يَسْبَحُونَ عن ابن عباس و السدي و قتادة و مجاهد أشار سبحانه بذلك إلى ما في
حسبانهما من مصالح العباد في معاملاتهم و تواريخهم و أوقات عباداتهم و غير ذلك من
أمورهم الدينية و الدنيوية «ذلِكَ» إشارة إلى ما وصفه
سبحانه من فلق الإصباح «وَ جَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَ الشَّمْسَ وَ
الْقَمَرَ حُسْباناً» «تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ» الذي عز سلطانه فلا
يقدر أحد على الامتناع منه «الْعَلِيمِ» بمصالح خلقه و
تدبيرهم.
524
مجمع البیان في تفسير القرآن4
[سورة الأنعام(6): الآيات 97 الى 98] ص : 525
[سورة الأنعام (6): الآيات 97 الى 98]
وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97) وَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَ مُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98)
القراءة
قرأ ابن كثير و أبو عمرو و يعقوب برواية روح و زيد فمستقر بكسر القاف و الباقون بفتح القاف.
الحجة
قال أبو علي من كسر القاف كان المستقر بمعنى القار فإذا كان كذلك وجب خبره أن يكون المضمر منكم أي فمنكم مستقر كقولك بعضكم مستقر أي مستقر في الأرحام و من فتح فليس على أنه مفعول أ لا ترى أن استقر لا يتعدى و إذا لم يتعد لم يبن منه اسم مفعول به و إذا لم يكن مفعولا به كان اسم مكان فالمستقر بمنزلة المقر كما كان المستقر بمعنى القار و إذا كان كذلك جعلت الخبر المضمر لكم و التقدير فمستقر لكم و أما المستودع فإن استودع فعل يتعدى إلى مفعولين تقول استودعت زيدا ألفا و أودعت زيدا ألفا فاستودع مثل أودع كما أن استجاب مثل أجاب فالمستودع يجوز أن يكون الإنسان الذي استودع ذلك المكان و يجوز أن يكون المكان نفسه و من قرأ «فَمُسْتَقَرٌّ» بفتح القاف جعل المستودع مكانا ليكون مثل المعطوف عليه أي فلكم مكان استقرار و استيداع و من قرأ فمستقر فالمعنى منكم مستقر في الأرحام و منكم مستودع في الأصلاب فالمستودع اسم المفعول به فيكون مثل المستقر في أنه اسم لغير المكان.
المعنى
ثم ذكر سبحانه ما يقارب في المعنى الآية المتقدمة فيما يدل على وحدانيته و عظيم قدرته فقال «وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ» أي خلق «لَكُمُ» أي لنفعكم «النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها» أي بضوئها و طلوعها و مواضعها «فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ» لأن من النجوم ما يكون بين يدي الإنسان و منها ما يكون خلفه و منها ما يكون عن يمينه و منها ما يكون عن يساره و يهتدي بها في الأسفار و في البلاد و في القبلة و أوقات الليل و إلى الطرق في مسالك البراري و البحار و قال البلخي ليس في قوله «لِتَهْتَدُوا بِها» ما يدل على أنه لم يخلقها لغير ذلك بل خلقها سبحانه لأمور جليلة عظيمة و من فكر في صغر الصغير منها و كبر الكبير و اختلاف مواقعها و مجاريها
525
مجمع البیان في تفسير القرآن4
المعنى ص : 525
و اتصالاتها
و سيرها و ظهور منافع الشمس و القمر في نشوء الحيوان و النبات علم أن الأمر كذلك و
لو لم يخلقها إلا للاهتداء لما كان لخلقها صغارا و كبارا و اختلافاتها في المسير
معنى و في تفسير علي بن إبراهيم بن هاشم أن النجوم آل محمد (ع) «قَدْ
فَصَّلْنَا الْآياتِ» أي بينا الحجج و البينات «لِقَوْمٍ
يَعْلَمُونَ» أي يتفكرون فيعلمون «وَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ» أي أبدعكم و
خلقكم «مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ» أي من آدم (ع) لأن الله تعالى خلقنا
جميعا منه و خلق أمنا حواء، من ضلع من أضلاعه و من علينا بهذا لأن الناس إذا رجعوا
إلى أصل واحد كانوا أقرب إلى التواد و التعاطف و التآلف «فَمُسْتَقَرٌّ
وَ مُسْتَوْدَعٌ» قد مر ذكرهما في الحجة و اختلف في معناهما فقيل مستقر في الرحم إلى
أن يولد و مستودع في القبر إلى أن يبعث عن عبد الله بن مسعود و قيل مستقر في بطون
الأمهات و مستودع في أصلاب الآباء عن سعيد بن جبير و عكرمة عن ابن عباس و قيل
مستقر على ظهر الأرض في الدنيا و مستودع عند الله في الآخرة عن مجاهد و قيل
مستقرها أيام حياتها و مستودعها حيث يموت و حيث يبعث عن أبي العالية و قيل مستقر
في القبر و مستودع في الدنيا عن الحسن و كان يقول يا ابن آدم أنت وديعة في أهلك و
يوشك أن تلحق بصاحبك و أنشد قول لبيد:
و ما
المال و الأهلون إلا وديعة
|
|
و لا بد
يوما أن ترد الودائع
|
و قال سليمان
بن زيد العدوي في هذا المعنى:
فجع
الأحبة بالأحبة قبلنا
|
|
فالناس
مفجوع به و مفجع
|
مستودع
أو مستقر مدخلا
|
|
فالمستقر
يزوره المستودع
|
«قَدْ
فَصَّلْنَا الْآياتِ» أي بينا الحجج و ميزنا الأدلة «لِقَوْمٍ
يَفْقَهُونَ» مواقع الحجة و مواضع العبرة و إنما خص الذين يعلمون و يفقهون لأنهم
المنتفعون بها كما قال هُدىً لِلْمُتَّقِينَ و كرر قوله «قَدْ
فَصَّلْنَا الْآياتِ» حثا على النظر و تنبيها على أن كلا مما ذكر آية و دلالة
تدل على توحيده و صفاته العلى.
526
مجمع البیان في تفسير القرآن4
[سورة الأنعام(6): آية 99] ص : 527
[سورة الأنعام (6): آية 99]
وَ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَ مِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَ جَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَ الزَّيْتُونَ وَ الرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَ غَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَ يَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)
القراءة
قرأ أبو بكر عن عاصم برواية أبي يوسف الأعشى و البرجمي و جنات بالرفع و هو قراءة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)
و عبد الله بن مسعود الأعمش و يحيى بن يعمر و قرأ الباقون «وَ جَنَّاتٍ» على النصب و قرأ حمزة و الكسائي و خلف ثمره بضمتين و كذلك كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ و في سورة ياسين ليأكلوا من ثمره و قرأ الباقون «ثَمَرِهِ» بفتحتين في الجميع.
الحجة
من قرأ «وَ جَنَّاتٍ» فإنه عطفها على قوله «خَضِراً» أي فأخرجنا من الماء خضرا و جنات من أعناب و من قرأ و جنات بالرفع فإنه عطفها على «قِنْوانٌ» لفظا و إن لم يكن من جنسها كقول الشاعر:
و من قرأ «إِلى ثَمَرِهِ» فالثمر جمع ثمرة مثل بقرة و بقر و شجرة و شجر و من قرأ ثمره بضمتين فيحتمل وجهين (أحدهما) أن يكون على ثمرة و ثمر مثل خشبة و خشب و أكمة و أكم قال الشاعر:
نحن الفوارس يوم ديسقة المغشو
|
|
الكمأة غوارب الأكم
|
و نظيره من المعتل قارة و قور و ناقة و نوق و ساحة و سوح قال الشاعر:
و كان سيان ألا يسرحوا نعما
|
|
أو يسرحوه بها و اغبرت السوح
|
(و الآخر) أن يكون جمع ثمار على ثمر فيكون ثمر جمع الجمع.
اللغة
خضر بمعنى أخضر يقال أخضر فهو خضر و أخضر و أعور فهو عور و أعور و
في الحديث أن الدنيا حلوة خضرة
أي غضة ناعمة و ذهب دمه خضرا مضرا أي باطلا و أخذ الشيء خضرا مضرا أي مجانا بغير ثمن و قيل غضا طريا و فلان أخضر الجلدة و أخضر المنكب أي ذو سعة و خصب و قال الفضل بن عباس بن عتبة بن أبي لهب:
527
مجمع البیان في تفسير القرآن4
المعنى ص : 528
و أنا
الأخضر من يعرفني
|
|
أخضر
الجلدة في بيت العرب
|
من
يساجلني يساجل ماجدا
|
|
يملأ
الدلو إلى عقد الكرب
|
برسول
الله و ابني بنته
|
|
و بعباس
بن عبد المطلب
|
و كتيبة
خضراء إذا كان عليها سواد الحديد و العرب تسمي الأسود أخضر و يسمى سواد العراق
سوادا لكثرة خضرته و متراكب متفاعل من الركوب و طلع النخل أول ما يبدو من ثمره و
قد أطلع النخل و القنوان جمع قنو و هو العذق بكسر العين أي الكباسة و العذق بفتح
العين النخلة و قنوان و قنوان بكسر القاف و ضمها لغتان و قنيان بالياء لغة تميم و
دانية قريبة المتناول و الينع النضج يقال ينع الثمر ينعا و ينعا و أينع إذا أدرك
قال الشاعر:
في قباب
وسط دسكرة
|
|
حولها
الزيتون قد ينعا
|
و قيل إن
الينع جمع يانع مثل صاحب و صحب و تاجر و تجر.
المعنى
ثم عطف
سبحانه على ما تقدم فقال «وَ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ
السَّماءِ ماءً» يريد من السحاب و العرب تقول كل ما علاك فأظلك فهو سماء
«فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ» و المعنى فأخرجنا بالماء الذي أنزلناه
من السماء من غذاء الأنعام و الطير و الوحش و أرزاق بني آدم ما يتغذون به و
يأكلونه فينبتون عليه و ينمون و يريد بنبات كل شيء ما ينبت به كل شيء و ينمو
عليه و يحتمل أن يكون المراد أخرجنا به جميع أنواع النبات ليكون كل شيء هو أصناف
النبات كقوله إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ عن الفراء و الأول أحسن
و إنما قال به لأنه سبحانه جعله سببا مؤديا إلى النبات لا مولدا له و قد كان يمكنه
الإنبات بغيره فلا يقال أنه فعله بسبب مولد «فَأَخْرَجْنا مِنْهُ» أي من الماء
و قيل من النبات «خَضِراً» أي زرعا رطبا أخضر و هو ساق السنبلة
«نُخْرِجُ مِنْهُ» أي من ذلك الزرع الخضر «حَبًّا مُتَراكِباً» قد تركب
بعضه على بعض مثل سنبلة الحنطة و السمسم و غير ذلك «وَ مِنَ
النَّخْلِ» أي و نخرج من النخل «مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ» أي أعذاق
الرطب «دانِيَةٌ» أي قريبة المتناول و لم يقل و منها قنوان
بعيدة لأن في الكلام دليلا على البعيدة السحيقة من النخل قد كانت غير سحيقة
528
مجمع البیان في تفسير القرآن4
المعنى ص : 528
فاجتزأ بذكر
القرينة عن ذكر السحيقة كما قال سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ و لم يقل و
سرابيل تقيكم البرد لأن في الكلام دليل على أنها تقي البرد لأن ما يستر عن الحر
يستر عن البرد عن الزجاج و قيل دانية دنت من الأرض لكثرة ثمرها و ثقل حملها و
تقديره و من النخل من طلعها ما قنوانه دانية و إنما خص الطلع بالذكر لما فيه من
المنافع و الأغذية الشريفة التي ليست في أكمام الثمار «وَ جَنَّاتٍ
مِنْ أَعْنابٍ» يعني و أخرجنا به أيضا جنات من أعناب أي بساتين من أعناب و من رفعه
فتقديره و نخرج به جنات من أعناب «وَ الزَّيْتُونَ وَ الرُّمَّانَ» أي فأخرجنا
به الزيتون و الرمان أي شجر الزيتون و الرمان و قرن الزيتون و الرمان لأنهما
شجرتان تعرف العرب أن ورقهما يشتمل على الغصن من أوله إلى آخره قال الشاعر:
بورك الميت
الغريب كما بورك
|
|
نضج
الرمان و الزيتون
|
و معناه أن
ورقهما يشتمل على العود كله «مُشْتَبِهاً وَ غَيْرَ مُتَشابِهٍ» أي مشتبها
شجرة يشبه بعضه بعضا و غير متشابه في الطعم و قيل مشتبها ورقه مختلفا ثمره عن
قتادة و قيل مشتبها في الخلق مختلفا في الطعم و قيل مشتبها ما كان من جنس واحد و
غير متشابه إذا اختلف جنسه عن الجبائي و الأولى أن يقال أن جميع ذلك مشتبه من وجوه
مختلف من وجوه فيدخل فيه جميع ما تقدم «انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا
أَثْمَرَ» أي انظروا إلى خروج الثمار نظر الاعتبار «وَ يَنْعِهِ» أي نضجه و
معناه انظروا من ابتداء خروجه إذا أثمر إلى انتهائه إذا أينع و أدرك كيف تنتقل
عليه الأحوال في الطعم و اللون و الرائحة و الصغر و الكبر ليستدلوا بذلك على أن له
صانعا مدبرا «إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ» أي إن في خلق هذه
الثمار و الزروع مع إتقان جواهرها أجناسا مختلفة لا يشبه بعضها بعضا لدلالات على
أن لها خالقا قصد إلى التمييز بينها قبل خلقها على علم بها و إنها تكونت بخلقه و
تدبيره «لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» لأنهم بها يستدلون و بمعرفة مدلولاتها
ينتفعون.
529
مجمع البیان في تفسير القرآن4
[سورة الأنعام(6): الآيات 100 الى 101] ص : 530
[سورة الأنعام (6): الآيات 100 الى 101]
وَ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَ خَلَقَهُمْ وَ خَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَ بَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمَّا يَصِفُونَ (100) بَدِيعُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَ لَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101)
القراءة
قرأ أهل المدينة و خرقوا بالتشديد و الباقون «وَ خَرَقُوا» بالتخفيف.
الحجة
قال أحمد بن يحيى خرق و اخترق بمعنى و قال أبو الحسن الخفيفة أعجب إلي لأنها أكثر و المعنى في القراءتين كذبوا و قد روي في الشواذ عن ابن عباس و حرفوا بالحاء و الفاء و هذا شاهد يكذبهم أيضا و مثله يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ+.
اللغة
البديع بمعنى المبدع و الفرق بين الإبداع و الاختراع أن الإبداع فعل ما لم يسبق إلى مثله و الاختراع فعل ما لم يوجد سبب له و لذلك يقال البدعة لما خالف السنة لأنه إحداث ما لم يسبق إليه و لا يقدر أحد على الاختراع غير الله تعالى لأن حده ما ابتدئ في غير محل القدرة عليه و القادر بقدرة إما أن يفعل مباشرا و هو ما ابتدئ في محل القدرة أو متولدا و هو ما يوقع بحسب غيره و لا يقدر على الاختراع أصلا.
الإعراب
انتصاب الجن من وجهين (أحدهما) أن يكون مفعولا أي جعلوا الجن لله شركاء و يكون شركاء مفعولا ثانيا كما قال وَ جَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً (و الآخر) أن يكون الجن بدلا من شركاء و مفسرا له سبحانه نصب على المصدر كأنه قال تسبيحا له و بديع خبر مبتدإ محذوف تقديره هو بديع السماوات و يجوز أن يكون مبتدأ و خبره «أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ» و إنما تعدى بديع و هو فعيل لأنه معدول عن مفعل و الصفة تعمل عمل ما عدلت منه فإذا لم تكن معدولة لم تتعد نحو طويل و قصير.
المعنى
ثم رد سبحانه على المشركين و عجب من كفرهم مع هذه البراهين و الحجج و البينات فقال «وَ جَعَلُوا» يعني المشركين «لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ» أخبر الله سبحانه أنهم اتخذوا معه آلهة جعلوهم له أندادا كما قال وَ جَعَلُوا بَيْنَهُ وَ بَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً و أراد بالجن الملائكة و إنما سماهم جنا لاستتارهم عن الأعين و هذا كما قال جَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً عن قتادة و السدي و قيل أن قريشا كانوا يقولون أن الله تعالى قد صاهر الجن فحدث بينهما الملائكة فيكون على هذا القول المراد به الجن المعروف و قيل أراد بالجن الشياطين لأنهم أطاعوا الشياطين في عبادة الأوثان عن الحسن «وَ خَلَقَهُمْ» الهاء و الميم عائدة إليهم أي جعلوا للذي خلقهم شركاء لا يخلقون و يجوز أن يكون الهاء و الميم
530
مجمع البیان في تفسير القرآن4
المعنى ص : 530
عائدة على
الجن فيكون المعنى و الله خلق الجن فكيف يكونون شركاء له و يجوز أن يكون المعنى و
خلق الجن و الإنس جميعا و روي أن يحيى بن يعمر قرأ و خلقهم بسكون اللام أي و خلق
الجن يعني ما يخلقونه و يأفكون فيه و يكذبونه كأنه قال جعلوا الجن شركاءه و
أفعالهم شركاء أفعاله أو شركاء له إذا عنى بذلك الأصنام و نحوها و قيل إن المعني
بالآية المجوس إذ قالوا يزدان و أهرمن و هو الشيطان عندهم فنسبوا خلق المؤذيات و
الشرور و الأشياء الضارة إلى أهرمن و جعلوه بذلك شريكا له و مثلهم الثنوية
القائلون بالنور و الظلمة «وَ خَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَ بَناتٍ» أي اختلقوا
و موهوا و افتروا الكذب على الله و نسبوا البنين و البنات إلى الله فإن المشركين
قالوا الملائكة بنات الله و النصارى قالوا المسيح ابن الله و اليهود قالوا عزير
ابن الله «بِغَيْرِ عِلْمٍ» أي بغير حجة و يجوز أن يكون معناه بغير علم
منهم بما عليهم عاجلا و آجلا و يجوز أن يكون معناه بغير علم منهم بما قالوه على
حقيقة لكن جهلا منهم بالله و بعظمته تعالى «سُبْحانَهُ» أي تنزيها
له عما يقولون «وَ تَعالى عَمَّا يَصِفُونَ» من ادعائهم له شركاء
و اختراقهم له بنين و بنات أي هو يجل من أن يوصف بما وصفوه به و إنما صار اتخاذ الولد
نقصا لأنه لا يخلو من أن يكون ولادة أو تبنيا و كلاهما يوجب التشبيه و من أشبه
المحدث كان على صفة نقص
«بَدِيعُ
السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ» أي مبدعهما و منشئهما بعلمه ابتداء لا من
شيء و لا على مثال سبق و هو المروي عن أبي جعفر (ع)
«أَنَّى
يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ» أي كيف يكون له ولد و من أين يكون له ولد «وَ
لَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ» أي زوجة و إنما يكون الولد من النساء فيما
يتعارفونه «وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ» في هذا نفي للصاحبة
و الولد فإن من خلق الأشياء لا يكون شيء من خلقه صاحبة له و لا ولدا و لأن
الأشياء كلها مخلوقة له فكيف يتعزز بالولد و يتكثر به «وَ هُوَ
بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» يعلم الأشياء كلها موجودها و معدومها لا يخفى
عليه خافية و من قال أن في قوله «وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ» دلالة على
خلق أفعال العباد فجوابه أن المفهوم منه أنه أراد المخلوقات كما يفهم المأكولات من
قول من قال أكلت كل شيء و المخلوقات كلها بما فيها من التقدير العجيب يضاف خلقها
إليه سبحانه على أنه سبحانه قد نزه نفسه عن إفك العباد و كذبهم فلو كان خلقا له
لما تنزه عنه.
531
مجمع البیان في تفسير القرآن4
[سورة الأنعام(6): الآيات 102 الى 103] ص : 532
[سورة الأنعام (6): الآيات 102 الى 103]
ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَ هُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَ هُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)
اللغة
الوكيل على الشيء هو الحافظ له الذي يحوطه و يدفع الضرر عنه و إنما وصف سبحانه نفسه بأنه وكيل مع أنه مالك الأشياء لأنه لما كانت منافعها لغيره لاستحالة المنافع عليه و المضار صحت هذه الصفة له و قيل الوكيل من يوكل إليه الأمور يقال وكلت إليه هذا الأمر أي وليته تدبيره و المؤمن يتوكل على الله أي يفوض أمره إليه و الإدراك اللحاق يقال أدرك قتادة الحسن أي لحقه و أدرك الطعام نضج و أدرك الزرع بلغ منتهاه و أدرك الغلام بلغ و لحق حال الرجولية و أدركته ببصري لحقته ببصري و تدارك القوم تلاحقوا و لا يكون الإدراك بمعنى الإحاطة لأن الجدار محيط بالدار و ليس بمدرك لها و البصر الحاسة التي تقع بها الرؤية.
الإعراب
«خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ» خبر مبتدإ محذوف و يجوز أن يكون صفة ربكم و كان يجوز نصبه على الحال لأنه نكرة اتصل بمعرفة بعد التمام.
المعنى
لما قدم سبحانه ذكر الأدلة على وحدانيته عقبه بتنبيه عباده على أنه الإله المستحق للطاعة و العبادة و تعليمهم الاستدلال بأفعاله عليه فقال «ذلِكُمُ» أي ذلك الذي خلق هذه الأشياء و دبر هذه التدابير لكم أيها الناس هو «اللَّهُ رَبُّكُمْ» أي خالقكم و مالككم و مدبركم و سيدكم «لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ» أي كل مخلوق من الأجسام و الأعراض التي لا يقدر عليها غيره «فَاعْبُدُوهُ» لأنه المستحق للعبادة «وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ» أي حافظ و مدبر و حفيظ على خلقه فهو وكيل على الخلق و لا يقال وكيل لهم «لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ» أي لا تراه العيون لأن الإدراك متى قرن بالبصر لم يفهم منه إلا الرؤية كما أنه إذا قرن بآلة السمع فقيل أدركت بإذني لم يفهم منه إلا السماع و كذلك إذا أضيف إلى كل واحد من الحواس أفاد ما تلك الحاسة آلة فيه فقولهم أدركته بفمي معناه وجدت طعمه و أدركته بأنفي معناه وجدت رائحته «وَ هُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ» تقديره لا تدركه ذوو الأبصار و هو يدرك ذوي الأبصار أي المبصرين و معناه أنه يرى و لا يرى و بهذا خالف سبحانه جميع الموجودات لأن منها ما يرى و يرى كالأحياء و منها ما يرى و لا يرى كالجمادات و الأعراض المدركة و منها ما لا يرى و لا يرى كالأعراض غير المدركة فالله تعالى خالف جميعها و تفرد بأن يرى و لا يرى و تمدح في الآية بمجموع الأمرين كما تمدح في الآية الأخرى بقوله وَ هُوَ يُطْعِمُ وَ لا
532
مجمع البیان في تفسير القرآن4
[سورة الأنعام(6): الآيات 104 الى 105] ص : 533
يُطْعَمُ و
روى العياشي بالإسناد المتصل أن الفضل بن سهل ذا الرياستين سأل أبا الحسن علي بن موسى الرضا (ع) فقال أخبرني عما اختلف الناس فيه من الرؤية فقال من وصف الله بخلاف ما وصف به نفسه فقال أعظم الفرية على الله «لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَ هُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ» و هذه الأبصار ليست هي الأعين إنما هي الأبصار التي في القلوب لا يقع عليه الأوهام و لا يدرك كيف هو
«وَ هُوَ اللَّطِيفُ» قيل في معناه وجوه (أحدها) أنه اللاطف بعباده بسبوغ الإنعام غير أنه عدل عن وزن فاعل إلى فعيل للمبالغة (و الثاني) أن معناه لطيف التدبير إلا أنه حذف لدلالة الكلام عليه- (و الثالث) أن اللطيف الذي يستقل الكثير من نعمه و يستكثر القليل من طاعة عباده (و الرابع) أن اللطيف الذي إذا دعوته لباك و إن قصدته آواك و إن أحببته أدناك و إن أطعته كافأك و إن عصيته عافاك و إن أعرضت عنه دعاك و إن أقبلت إليه هداك (و الخامس) اللطيف من يكافي الوافي و يعفو عن الجافي (و السادس) اللطيف من يعز المفتخر به و يغني المفتقر إليه (و السابع) اللطيف من يكون عطاؤه خيرة و منعه ذخيرة «الْخَبِيرُ» العليم بكل شيء من مصالح عباده فيدبرهم عليها و بأفعالهم فيجازيهم عليها.
[سورة الأنعام (6): الآيات 104 الى 105]
قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَ ما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104) وَ كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَ لِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَ لِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105)
القراءة
قرأ ابن كثير و أبو عمرو دارست و قرأ ابن عامر و يعقوب و سهل درست بفتح السين و سكون التاء و الباقون «دَرَسْتَ» و في قراءة عبد الله و أبي درس أي ليقولوا درس محمد و روي عن ابن عباس و الحسن درست.
الحجة
من قرأ دارست فمعناه أنك دارست أهل الكتاب و ذاكرتهم و يقويه قوله وَ أَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ و من قرأ «دَرَسْتَ» فحجته أن ابن مسعود قرأ درس فأسند الفعل فيه إلى الغيبة كما أسند إلى الخطاب و من قرأ درست فهو من الدروس الذي هو تعفي الأثر أي انمحت و يكون اللام في «لِيَقُولُوا» على هذا بمعنى لكراهية أن يقولوا و لأن لا يقولوا أنها أخبار قد تقدمت فطال العهد بها و باد من كان يعرفها لأن تلك الأخبار لا تخلو من خلل فإذا سلم
533
مجمع البیان في تفسير القرآن4
اللغة ص : 534
الكتاب منه لم يكن لطاعن فيه مطعن و أما على القراءتين الأوليين فاللام في ليقولوا كالتي في قوله «لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَ حَزَناً» و لم يلتقطوه لذلك كما لم يصرف الآيات ليقولوا درست و دارست و لكن لما قالوا ذلك أطلق على هذا للاتساع و أما قراءة ابن عباس درست ففيه ضمير الآيات و معناه درستها أنت يا محمد و يجوز أن يكون معناه عفت و تنوسيت فيكون كقوله إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ.
اللغة
البصيرة البينة و الدلالة التي يبصر بها الشيء على ما هو به و البصائر جمعها و البصيرة مقدار الدرهم من الدم و البصرة الترس و البصيرة الثأر و الدية قال الشاعر:
جاءوا بصائرهم على أكتافهم
|
|
و بصيرتي يعدو بها عتد و أي
|
أي أخذوا الديات فصارت عارا و بصيرتي على فرسي أطلب بها ثاري و قيل أراد ثقل دمائهم على أكتافهم لم يثأروا بها قال الأزهري البصيرة ما اعتقد في القلب من تحقيق الشيء و الشقة تكون على الجنا و الإبصار الإدراك بحاسة البصر و الدرس أصله استمرار التلاوة و درس الأثر دروسا إذا انمحى لاستمرار الزمان به و درست الريح الأثر دروسا محته باستمرارها عليه.
الإعراب
«كَذلِكَ» موضع الكاف نصب منه بكونه صفة للمصدر أي تصريفا مثل ذلك التصريف و اللام في «وَ لِيَقُولُوا» معطوف على محذوف تقديره ليجحدوا و ليقولوا درست و اللام لام العاقبة.
المعنى
ثم بين سبحانه أنه بعد هذه الآيات قد أزاح العلة للمكلفين فقال «قَدْ جاءَكُمْ» أيها الناس «بَصائِرُ» بينات و دلالات «مِنْ رَبِّكُمْ» تبصرون بها الهدى من الضلال و تميزون بها بين الحق و الباطل و وصف البينة بأنها جاءت تفخيما لشأنها كما يقال جاءت العافية و انصرف المرض و أقبل السعد «فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ» أي من تبين هذه الحجج بأن نظر فيها حتى أوجبت له العلم فمنفعة ذلك تعود إليه و لنفسه نظر «وَ مَنْ عَمِيَ» فلم ينظر فيها و صدف عنها «فَعَلَيْها» أي على نفسه وباله و بها أضر و إياها ضر فسمي
534
مجمع البیان في تفسير القرآن4
[سورة الأنعام(6): الآيات 106 الى 107] ص : 535
العلم و التبيين إبصارا و الجهل عمى مجازا و توسعا و في هذا دلالة على أن المكلفين مخيرون في أفعالهم غير مجبرين ثم أمر سبحانه نبيه بأن يقول لهم «وَ ما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ» أي لست أنا الرقيب على أعمالكم قال الزجاج معناه لست آخذكم بالإيمان أخذ الحفيظ عليكم و الوكيل و هذا قبل الأمر بالقتال فلما أمر النبي ص بالقتال صار حفيظا عليهم و مسيطرا على كل من تولى «وَ كَذلِكَ» أي و كما صرفنا الآيات قبل «نُصَرِّفُ» هذه «الْآياتِ» قال علي بن عيسى و التصريف إجراء المعنى الدائر في المعاني المتعاقبة لتجتمع فيه وجوه الفائدة «وَ لِيَقُولُوا دَرَسْتَ» ذلك يا محمد أي تعلمته من اليهود قال الزجاج و هذه اللام تسميها أهل اللغة لام الصيرورة أي أن السبب الذي أداهم إلى أن قالوا درست هو تلاوة الآيات و كذلك دارست أي دارست أهل الكتابين و قارأتهم و ذاكرتهم عن الحسن و مجاهد و السدي و ابن عباس «وَ لِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» معناه لنبين الذي هذه الآيات دالة عليه للعلماء الذين يعقلون ما نورده عليهم و إنما خصهم بذلك لأنهم انتفعوا به دون غيرهم.
[سورة الأنعام (6): الآيات 106 الى 107]
اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106) وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا وَ ما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَ ما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107)
اللغة
الاتباع أن يتصرف الثاني بتصريف الأول و النبي كان يتصرف في الدين بتصريف الوحي فلذلك كان متبعا و كذلك كل متدبر بتدبير غيره فهو متبع له و الإيحاء هو إلقاء المعنى إلى النفس على وجه يخفى و الإعراض أصله الانصراف بالوجه إلى جهة العرض و منه:
و أعرضت اليمامة و اشمخرت
|
|
كأسياف بأيدي مصلتينا
|
أي ظهرت كالظهور بالعرض و منه المعارضة لظهور المساواة بها كالظهور بالعرض
535
مجمع البیان في تفسير القرآن4
المعنى ص : 536
و الاعتراض المنع من الشيء الحاجز عنه عرضا و منه العرض الذي يظهر كالظهور بالعرض ثم لا يلبث و حد أيضا بأنه ما يظهر في الوجود و لا يكون له لبث كلبث الجواهر.
المعنى
ثم أمر سبحانه نبيه ص باتباع الوحي فقال «اتَّبِعْ» أيها الرسول «ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ» إنما أعاد سبحانه هذا القول لأن المراد ادعهم إلى أنه لا إله إلا هو عن الحسن و قيل معناه ما أوحي إليك من أنه لا إله إلا هو «وَ أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ» قال ابن عباس نسخته آية القتال و قيل معناه اهجرهم و لا تخالطهم و لا تلاطفهم و لم يرد به الإعراض عن دعائهم إلى الله تعالى و حكمه ثابت «وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا» أي لو شاء الله أن يتركوا الشرك قهرا و إجبارا لاضطرهم إلى ذلك إلا أنه لم يضطرهم إليه بما ينافي أمر التكليف و أمرهم بتركه اختيارا ليستحقوا الثواب و المدح عليه فلم يتركوه فأتوا به من قبل نفوسهم و في تفسير أهل البيت (ع) لو شاء الله أن يجعلهم كلهم مؤمنين معصومين حتى كان لا يعصيه أحد لما كان يحتاج إلى جنة و لا إلى نار و لكنه أمرهم و نهاهم و امتحنهم و أعطاهم ما له به عليهم الحجة من الآلة و الاستطاعة ليستحقوا الثواب و العقاب «وَ ما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً» مراقبا لأعمالهم «وَ ما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ» أي و لست بموكل عليهم بذلك و إنما أنت رسول عليك البلاغ و علينا الحساب و جمع بين حفيظ و وكيل لاختلاف معنى اللفظين فإن الحافظ للشيء هو الذي يصونه عما يضره و الوكيل على الشيء هو الذي يجلب الخير إليه.
[سورة الأنعام (6): آية 108]
وَ لا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (108)
القراءة
قرأ يعقوب عدوا بضم العين و الدال و تشديد الواو و هو قراءة الحسن و أبي رجاء و قتادة و قرأ الباقون «عَدْواً» بفتح العين و سكون الدال.
الحجة
العدو و العدو جميعا الظلم و التعدي للحق و مثلهما العدوان و العداء و إنما انتصب «عَدْواً» لأنه مصدر في موضع الحال.
536
مجمع البیان في تفسير القرآن4
اللغة ص : 537
اللغة
السب الذكر بالقبيح و منه الشتم و الذم و أصله السبب كأنه يتسبب إلى ذكره بالقبيح و سبك الذي يسابك قال:
لا تسبنني فلست بسبي
|
|
إن سبي من الرجال الكريم
|
و قيل أصل السب القطع.
النزول
قال ابن عباس لما نزلت «إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ» الآية قال المشركون يا محمد لتنتهين عن سب آلهتنا أو لنهجون ربك فنزلت الآية و قال قتادة كان المسلمون يسبون أصنام الكفار فنهاهم الله عن ذلك لئلا يسبوا الله فإنهم قوم جهلة.
المعنى
ثم نهى الله المؤمنين أن يسبوا الأصنام لما في ذلك من المفسدة فقال «وَ لا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ» أي لا تخرجوا من دعوة الكفار و محاجتهم إلى أن تسبوا ما يعبدونه من دون الله فإن ذلك ليس من الحجاج في شيء «فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً» أي ظلما «بِغَيْرِ عِلْمٍ» و أنتم اليوم غير قادرين على معاقبتهم بما يستحقون لأن الدار دارهم و لم يؤذن لكم في القتال و إنما قال من دون الله لأن المعنى يدعونه إلها و في هذا دلالة على أنه لا ينبغي لأحد أن يفعل أو يقول ما يؤدي إلى معصية غيره و
سئل أبو عبد الله (ع) عن قول النبي (ص) أن الشرك أخفى من دبيب النمل على صفوانة سوداء في ليلة ظلماء فقال كان المؤمنون يسبون ما يعبد المشركون من دون الله فكان المشركون يسبون ما يعبد المؤمنون فنهى الله المؤمنين عن سب آلهتهم لكيلا يسب الكفار إله المؤمنين فكان المؤمنون قد أشركوا من حيث لا يعلمون
«كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ» قيل في معناه أقوال (أحدها) أن المراد كما زينا لكم أعمالكم زينا لكل أمة ممن قبلكم أعمالهم من حسن الدعاء إلى الله تعالى و ترك السب للأصنام و نهيناهم أن يأتوا من الأفعال ما ينفر الكفار عن قبول الحق عن الحسن و الجبائي و يسمى ما يجب على الإنسان أن يعلمه بأنه عمله كما تقول لولدك أو غلامك اعمل عملك أي ما ينبغي لك أن تفعله (و ثانيها) أن معناه و كذلك زينا لكل أمة عملهم بميل الطباع إليه و لكن قد عرفناهم الحق مع ذلك ليأتوا الحق و يجتنبوا الباطل (و ثالثها) أن المراد زينا عملهم بذكر ثوابه فهو كقوله «وَ لكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَ زَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَ كَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَ الْفُسُوقَ وَ الْعِصْيانَ» يريد حبب إليكم الإيمان بذكر ثوابه و مدح فاعليه على فعله و كره الكفر بذكر عقابه و ذم فاعليه على فعله و لم يرد سبحانه بذلك أنه زين عمل الكافرين لأن ذلك
537
مجمع البیان في تفسير القرآن4
[سورة الأنعام(6): الآيات 109 الى 110] ص : 538
يقتضي الدعاء إليه و الله تعالى ما دعا أحدا إلى معصيته لكنه نهى عنها و ذم فاعليها و قد قال سبحانه «وَ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ»+ و لا خلاف أن المراد بذلك الكفر و المعاصي و في ذلك دلالة على أن المراد به في الآية تزيين أعمال الطاعة «ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ» أي مصيرهم «فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ» أي بأعمالهم من الخير و الشر نهى الله سبحانه في هذه الآية عن سب الأصنام لئلا يؤدي ذلك إلى سبه فإذا كان سبحانه لا يريد ما ربما يكون سببا إلى سبه فلأن لا يريد سبب نفسه أولى و أجدر و أيضا إذا لم يرد سب الأصنام إذا كان زيادة في كفر الكافرين فلأن لا يريد كفرهم أحرى فبطل قول المجبرة.
[سورة الأنعام (6): الآيات 109 الى 110]
وَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَ ما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (109) وَ نُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَ أَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ نَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)
القراءة
قرأ ابن كثير و أهل البصرة و أبو بكر عن عاصم و نصير عن الكسائي و خلف إنها بكسر الألف و قرأ الباقون «أَنَّها» بفتح الألف و قرأ ابن عامر و حمزة لا تؤمنون بالتاء و الباقون «لا يُؤْمِنُونَ» بالياء و في الشواذ و يذرهم بالياء و الجزم قراءة الأعمش.
الحجة
قال أبو علي «وَ ما يُشْعِرُكُمْ» ما فيه استفهام و فاعل «يُشْعِرُكُمْ» ضمير ما و لا يجوز أن يكون نفيا لأن الفعل فيه يبقى بلا فاعل فإن قلت يكون ما نفيا و يكون فاعل «يُشْعِرُكُمْ» ضمير اسم الله تعالى قيل ذلك لا يصح لأن التقدير يصير و ما يشعركم الله انتفاء إيمانهم و هذا لا يستقيم لأن الله قد أعلمنا أنهم لا يؤمنون بقوله «وَ لَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا» الآية و إذا فسد أن يكون ما للنفي ثبت أنها للاستفهام فيكون اسما فيصير في الفعل ضميره و يكون المعنى و ما يدريكم إيمانهم إذا جاءت فحذف المفعول و حذف المفعول كثير ثم قال إنهم لا يؤمنون مع مجيء الآية فمن كسر الهمزة فإنه استأنف على القطع بأنهم لا يؤمنون و من فتح الهمزة جاز أن يكون «يُشْعِرُكُمْ» منقولا من شعرت الشيء و شعرت به مثل دريته و دريت به في أنه يتعدى مرة بحرف
538
مجمع البیان في تفسير القرآن4
الحجة ص : 538
و مرة بلا
حرف فإذا عديته بالحرف جاز أن يكون أن في قول من لم يجعلها بمعنى لعل في موضع جر
لأن الكلام لما طال صار كالبدل منه و جاز أن يكون في موضع نصب و الوجه في هذه
القراءة على تأويلين (أحدهما) أن يكون بمعنى لعل كقول الشاعر و هو دريد بن الصمة:
ذريني
أطوف في البلاد لأنني
|
|
أرى ما
ترين أو بخيلا مخلدا
|
و قال:
هل أنتم
عائجون بنا لأنا
|
|
نرى
العرصات أو أثر الخيام
|
و قال عدي بن
زيد:
أ عاذل
ما يدريك أن منيتي
|
|
إلى
ساعة في اليوم أو في ضحى الغد
|
أي لعل منيتي
المعنى و ما يشعركم لعلها إذا جاءت لا يؤمنون و هذا ما فسره الخليل بقوله ائت
السوق إنك تشتري لنا شيئا أي لعلك و قد جاء في التنزيل لعل بعد العلم قال سبحانه «وَ ما
يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى» «وَ ما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ» و التأويل
الآخر الذي لم يذهب إليه الخليل و سيبويه أن يكون لا في قوله «لا
يُؤْمِنُونَ» زائدة و التقدير و ما يشعركم أنها إذا جاءت يؤمنون و مثل لا هذه في
كونها في تأويل زائدة و في آخر غير زائدة قول الشاعر:
أبى جودة
لا البخل و استعجلت به
|
|
نعم من
فتى لا يمنع الجوع قاتله
|
يريد لا يمنع
الجائع الخبز و ينشد أبي جودة لا البخل و لا البخل فمن نصب البخل جعلها زائدة كأنه
قال أبى جودة البخل و من قال لا البخل أضاف لا إلى البخل و وجه القراءة بالياء في
«يُؤْمِنُونَ» أن المراد بهم قوم مخصوصون بدلالة قوله وَ لَوْ أَنَّنا
نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ الآية و ليس كل الكفار بهذه الصفة أي لا يؤمن
هؤلاء المقسمون و وجه القراءة بالتاء أنه انصراف من الغيبة إلى الخطاب و المراد
بالمخاطبين هم الغيب المقسمون الذين أخبر عنهم أنهم لا يؤمنون و من قرأ و يذرهم
فإنه أسكن المرفوع تخفيفا.
539
مجمع البیان في تفسير القرآن4
اللغة ص : 540
اللغة
الجهد بالفتح المشقة و الجهد بالضم الطاقة و قيل الجهد بالفتح المبالغة فقوله «جَهْدَ أَيْمانِهِمْ» أي بالغوا في اليمين و اجتهدوا فيه و هو منصوب على المصدر لأنه مضاف إلى المصدر و المضاف إلى المصدر مصدر فإن الأيمان جمع اليمين و اليمين هي القسم و التقدير و أقسموا بالله جهد أقسامهم.
النزول
قالت قريش يا محمد تخبرنا أن موسى كان معه عصا يضرب بها الحجر فينفجر منه اثنتا عشرة عينا و تخبرنا أن عيسى كان يحيي الموتى و تخبرنا أن ثمود كانت لهم ناقة فأتنا بآية من الآيات حتى نصدقك فقال رسول الله ص أي شيء تحبون أن آتيكم به قالوا اجعل لنا الصفا ذهبا و ابعث لنا بعض موتانا حتى نسألهم عنك أ حق ما تقول أم باطل و أرنا الملائكة يشهدون لك أو ائتنا بالله و الملائكة قبيلا فقال رسول الله ص فإن فعلت بعض ما تقولون أ تصدقونني قالوا نعم و الله لئن فعلت لنتبعنك أجمعين و سأل المسلمون رسول الله ص أن ينزلها عليهم حتى يؤمنوا فقام رسول الله ص يدعو أن يجعل الصفا ذهبا فجاءه جبرائيل (ع) فقال له إن شئت أصبح الصفا ذهبا و لكن إن لم يصدقوا عذبتهم و إن شئت تركتهم حتى يتوب تائبهم فقال رسول الله ص بل يتوب تائبهم فأنزل الله تعالى هذه الآية عن الكلبي و محمد بن كعب القرظي..
المعنى
ثم بين سبحانه حال الكفار الذين سألوه الآيات فقال «وَ أَقْسَمُوا» أي حلفوا «بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ» أي مجدين مجتهدين مظهرين الوفاء به «لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ» مما سألوه «لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ» يا محمد «إِنَّمَا الْآياتُ» أي الأعلام و المعجزات «عِنْدَ اللَّهِ» و الله تعالى مالكها و القادر عليها فلو علم صلاحكم في إنزالها لأنزلها «وَ ما يُشْعِرُكُمْ» الخطاب متوجه إلى المشركين عن مجاهد و ابن زيد و قيل هو متوجه إلى المؤمنين عن الفراء و غيره لأنهم ظنوا أنهم لو أجيبوا إلى الآيات لآمنوا «أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ» قد مر معناه «وَ نُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَ أَبْصارَهُمْ» أخبر سبحانه أنه يقلب أفئدة هؤلاء الكفار و أبصارهم عقوبة لهم و في كيفية تقليبهما قولان (أحدهما) أنه يقلبهما في جهنم على لهب النار و حر الجمر «كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ» في الدنيا عن الجبائي قال و جمع بين صفتهم في الدنيا و صفتهم في الآخرة كما قال وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ يعني في الآخرة عامِلَةٌ ناصِبَةٌ يعني في الدنيا (و الآخر) أن المعنى نقلب أفئدتهم و أبصارهم بالحيرة التي تغم و تزعج النفس و قوله «كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ» قيل إنه متصل بما قبله و تقديره و أقسموا بالله ليؤمنن بالآيات و الله
540
مجمع البیان في تفسير القرآن4
[سورة الأنعام(6): آية 111] ص : 541
تعالى قد قلب قلوبهم و أبصارهم و علم أن فيها خلاف ما يقولون يقال فلان قد قلب هذه المسألة و قلب هذا الأمر إذا عرف حقيقته و وقف عليه و ما يدريكم «أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ» كما لم يؤمنوا بما أنزل الله من الآيات أول مرة عن ابن عباس و مجاهد و قيل معناه لو أعيدوا إلى الدنيا ثانية لم يؤمنوا به كما لم يؤمنوا به أول مرة في الدنيا كما قال وَ لَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ عن ابن عباس في رواية أخرى و قيل معناه يجازيهم في الآخرة كما لم يؤمنوا به في الدنيا عن الجبائي و الهاء في به يحتمل أن يكون عائدة على القرآن و ما أنزل من الآيات و يحتمل أن تكون عائدة على النبي ص «وَ نَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ» أي نخليهم و ما اختاروه من الطغيان فلا نحول بينه و بينهم «يَعْمَهُونَ» يترددون في الحيرة قال الحسين بن علي المغربي قوله «وَ نُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَ أَبْصارَهُمْ» حشو بين الجملتين و معناه أنا نحيط علما بذات الصدور و خائنة الأعين أي نختبر قلوبهم فنجد باطنها بخلاف ظاهرها.
[سورة الأنعام (6): آية 111]
وَ لَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَ كَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَ حَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111)
القراءة
قرأ ابن كثير و أبو عمرو و يعقوب «قُبُلًا» بضمتين هاهنا و في الكهف قبلا بكسر القاف و فتح الباء و قرأ أبو جعفر هاهنا بكسر القاف و في الكهف بالضم و قرأ نافع و ابن عامر قبلا+ بكسر القاف في موضعين و قرأ أهل الكوفة بضم القاف في السورتين.
الحجة
«قُبُلًا» يحتمل أن يكون جمع قبيل بمعنى الكفيل و يجوز أن يكون بمعنى الصنف كما فسر أبو عبيدة و يجوز أن يكون بمعنى قبل أي مواجهة كما فسره أبو زيد في قوله لقيت فلانا قبلا و قبلا و قبلا و مقابلة و قبيلا كله واحد و هو المواجهة فالمعنى في القراءتين على قوله واحد و إن اختلف اللفظان.
اللغة
الحشر الجمع مع سوق و كل جمع حشر.
المعنى
ثم بين سبحانه حالهم في عنادهم و ترددهم في طغيانهم و كفرهم فقال
541
مجمع البیان في تفسير القرآن4
[سورة الأنعام(6): الآيات 112 الى 113] ص : 542
«وَ
لَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ» حتى يروهم عيانا
يشهدون لنبينا بالرسالة «وَ كَلَّمَهُمُ الْمَوْتى» أي و أحيينا الموتى
حتى كلموهم بالتوحيد و شهدوا لمحمد بالرسالة «وَ حَشَرْنا» أي جمعنا
«عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ» أي كل آية و قيل كل ما سألوه
«قُبُلًا» أي معاينة و مقابلة حتى يواجهوها عن ابن عباس و قتادة و معناه أنهم
من شدة عنادهم و تركهم الانقياد و الإذعان للحق يشكون في المشاهدات التي لا يشك
فيها و مثله قوله «وَ إِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا
سَحابٌ مَرْكُومٌ» و قبلا أي قبيلا قبيلا يعني جماعة جماعة عن مجاهد هذا إذا حملت قبلا
على جمع القبيل الذي هو الصنف و إنما كانت تبهر هذه الآية لأنه ليس في العرف أن
يجتمع جميع الأشياء و تنحشر إلى موضع و قيل كفلاء عن الفراء و هذا الوجه فيه بعد
لأنهم إذا لم يؤمنوا عند إنزال الملائكة إليهم و كلام الموتى فإن لا يؤمنوا
بالكفالة أجدر إلا أن يكون المراد حشر كل شيء و في الأشياء المحشورة ما لا ينطق
فإذا نطق بالكفالة ما لا ينطق كان خارقا للعادة «ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا» عند هذه
الآيات
«إِلَّا
أَنْ يَشاءَ اللَّهُ» أن يجبرهم على الإيمان عن الحسن و هو المروي عن
أهل البيت (ع)
و المعنى
أنهم قط لا يؤمنون مختارين إلا أن يكرهوا «وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ
يَجْهَلُونَ» أن الله قادر على ذلك و قيل معناه يجهلون أنهم لو أوتوا بكل آية ما
آمنوا طوعا و قيل معناه يجهلون مواضع المصلحة فيبطلون ما لا فائدة فيه و في الآية
دلالة على أن الله سبحانه لو علم أنه إذا فعل ما اقترحوه من الآيات آمنوا لفعل ذلك
و لكان ذلك من الواجب في حكمته لأنه لو لم يجب ذلك لم يكن لتعليله بأنه لم يظهر
هذه الآيات لعلمه بأنه لو فعلها لم يؤمنوا معنى و فيها أيضا دلالة على أن إرادته
محدثة لأن الاستثناء يدل على ذلك إذ لو كانت قديمة لم يجز هذا الاستثناء و لم يصح
كما كان لا يصح لو قال ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يعلم الله و إلا أن يقدر الله
لحصول هاتين الصفتين فيما لم يزل و متى قيل فلم لا يقال أنهم لم يؤمنوا لأنه
سبحانه يعلم أنه لم يشأ فالقول فيه أنه لو كان كذلك لكان وقوع الإيمان منهم موقوفا
على المشيئة سواء كانت الآيات أم لم تكن و في هذا إبطال للآيات.
[سورة
الأنعام (6): الآيات 112 الى 113]
وَ كَذلِكَ
جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَ الْجِنِّ يُوحِي
بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ ما
فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَ ما يَفْتَرُونَ (112) وَ لِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ
الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَ لِيَرْضَوْهُ وَ لِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ
مُقْتَرِفُونَ (113)
542
مجمع البیان في تفسير القرآن4
القراءة ص : 543
القراءة
في الشواذ عن الحسن و لتصغى إليه و ليرضوه و ليقترفوا بسكون اللام في الجميع و القراءة الظاهرة بكسر اللام في سائرها.
الحجة
قال أبو الفتح هذه اللام هي الجارة أعني لام كي و هي معطوفة على الغرور من قوله يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً أي للغرور و لأن «تصغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَ لِيَرْضَوْهُ وَ لِيَقْتَرِفُوا» إلا أن إسكان هذه اللام شاذ في الاستعمال على قوته في القياس لأن هذا الإسكان إنما كثر عنهم في لام الأمر نحو قوله تعالى «ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَ لْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَ لْيَطَّوَّفُوا» و إنما أسكنت تخفيفا لثقل الكسرة فيها و فرقوا بينها و بين لام كي بأن لم يسكنوها و كأنهم إنما اختاروا السكون للأم الأمر و التحريك للأم كي من حيث كانت لام كي نائبة في أكثر الأمر عن أن و هي أيضا في جواب كان سيفعل إذا قلت ما كان ليفعل محذوفة مع اللام البتة فلما نابت عنها قووها بإقرار حركتها فيها لأن الحرف المتحرك أقوى من الساكن و الأقوى أشبه بأن ينوب عن غيره من الأضعف.
اللغة
الزخرف المزين يقال زخرفه زخرفة إذا زينه و الزخرف كمال حسن الشيء و
في الحديث أنه ص لم يدخل الكعبة حتى أمر بالزخرف فنحي
قيل كانت نقوش و تصاوير زينت الكعبة بها و قيل أراد بالزخرف الذهب و الغرور ما له ظاهر تحبه و فيه باطن مكروه و الشيطان غرور لأنه يحمل على محاب النفس و وراءه سوء العاقبة و بيع الغرر ما لا يكون على ثقة و صغوت إليه أصغي صغوا و صغوا و صغيت أصغي بالياء أيضا و أصغيت إليه إصغاء بمعنى قال الشاعر:
ترى السفيه به عن كل محكمة
|
|
زيغ و فيه إلى التشبيه إصغاء
|
و يقال أصغيت الإناء إذا أملته ليجتمع ما فيه و منه
الحديث كان رسول الله ص يصغي الإناء للهر
و الأصل فيه الميل إلى الشيء لغرض من الأغراض و الاقتراف اكتساب الإثم و يقال
543
مجمع البیان في تفسير القرآن4
الإعراب ص : 544
خرج يقترف
لأهله أي يكتسب لهم و قارف فلان هذا الأمر إذا واقعة و عمله و قرف الذنب و اقترفه
عمله و قرفه بما ادعاه عليه أي رماه بالريبة و قرف القرحة أي قشر منها و اقترف
كذبا.
الإعراب
نصب عدوا على
أحد وجهين إما أن يكون مفعول جعلنا و شياطين بدل منه و مفسر له و عدوا في معنى
أعداء و إما أن يكون أصله خبرا و يكون هنا مفعولا ثانيا لجعلنا على تقدير جعلنا
شياطين الإنس و الجن عدوا أي أعداء و قوله «غُرُوراً» نصب على المصدر من
معنى الفعل المتقدم لأن معنى إيحاء الزخرف من القول معنى الغرور فكأنه قال يغرون
غرورا عن الزجاج و قيل أنه مفعول له عن ابن جني و قيل نصب على البدل من زخرف عن
أبي مسلم.
المعنى
ثم بين
سبحانه ما كان عليه حال الأنبياء (ع) مع أعدائهم تسلية لنبيه ص فقال «وَ
كَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَ الْجِنِّ» أي و كما
جعلنا لك شياطين الإنس و الجن أعداء كذلك جعلنا لمن تقدمك من الأنبياء و أممهم و
قيل في معنى قوله و جعلنا هنا وجوه (أحدها) أن المراد كما أمرناك بعداوة قومك من
المشركين فقد أمرنا من قبلك بمعاداة أعدائهم من الجن و الإنس و متى أمر الله رسوله
بمعاداة قوم من المشركين فقد جعلهم أعداء له و قد يقول الأمير للمبارز من عسكره
جعلت فلانا قرنك في المبارزة و إنما يعني بذلك أنه أمره بمبارزته لأنه إذا أمره
بمبارزته فقد جعل من يبارزه قرنا له (و ثانيها) أن معناه حكمنا بأنهم أعداء و
أخبرنا بذلك لتعاملوهم معاملة الأعداء في الاحتراز عنهم و الاستعداد لدفع شرهم و
هذا كما يقال جعل القاضي فلانا عدلا و فلانا فاسقا إذا حكم بعدالة هذا و فسق ذلك
(و ثالثها) أن المراد خلينا بينهم و بين اختيارهم العداوة لم نمنعهم عن ذلك كرها و
لا جبرا لأن ذلك يزيل التكليف (و رابعها) أنه سبحانه إنما أضاف ذلك إلى نفسه لأنه
سبحانه لما أرسل إليهم الرسل و أمرهم بدعائهم إلى الإسلام و الإيمان و خلع ما
كانوا يعبدونه من الأصنام و الأوثان نصبوا عند ذلك العداوة لأنبيائه (ع) و مثله
قوله سبحانه مخبرا عن نوح (ع) «فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا
فِراراً» و المراد بشياطين الإنس و الجن مردة الكفار من الفريقين عن الحسن و
قتادة و مجاهد و قيل إن شياطين الإنس الذين يغوونهم و شياطين الجن الذين هم من ولد
إبليس عن السدي و عكرمة و في تفسير الكلبي عن ابن عباس أن إبليس جعل جنده فريقين
فبعث فريقا منهم إلى الإنس و فريقا إلى الجن فشياطين الإنس و الجن أعداء الرسل و
المؤمنين فيلتقي شياطين الإنس و شياطين الجن في كل حين فيقول بعضهم لبعض أضللت
صاحبي
544
مجمع البیان في تفسير القرآن4
المعنى ص : 544
بكذا فأضل
صاحبك بمثلها فكذلك يوحي بعضهم إلى بعض
و روي عن
أبي جعفر (ع) أيضا أنه قال إن الشياطين يلقي بعضهم بعضا فيلقي إليه ما
يغوى به الخلق حتى يتعلم بعضهم من بعض
«يُوحِي» أي يوسوس و
يلقي خفية «بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ» أي المموه
المزين الذي يستحسن ظاهره لا حقيقة له و لا أصل «غُرُوراً» أي يغرونهم
بذلك غرورا أو ليغروهم بذلك «وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ» أخبر سبحانه
أنه لو شاء أن يمنعهم من ذلك جبرا و يحول بينهم و بينه لقدر على ذلك و لو حال
بينهم و بينه لما فعلوه و لكنه خلى بينهم و بين أفعالهم إبقاء للتكليف و امتحانا
للمكلفين و قيل معناه و لو شاء ربك ما فعلوه بأن ينزل عليهم عذابا أو آية فتظل
أعناقهم لها خاضعين «فَذَرْهُمْ وَ ما يَفْتَرُونَ» أي دعهم و افتراءهم
الكذب فإني أجازيهم و أعاقبهم أمر سبحانه نبيه ص بأن يخلي بينهم و بين ما اختاروه
و لا يمنعهم منه بالقهر تهديدا لهم كما قال اعْمَلُوا ما
شِئْتُمْ دون أن يكون أمرا واجبا أو ندبا «وَ لِتَصْغى
إِلَيْهِ» أي و لتميل إلى هذا الوحي بزخرف القول أو إلى هذا القول المزخرف
«أَفْئِدَةُ» أي قلوب «الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ» و العامل في
قوله «وَ لِتَصْغى» قوله «يُوحِي» و لا يجوز أن يكون
العامل فيه جعلنا لأن الله سبحانه لا يجوز أن يريد إصغاء القلوب إلى الكفر و وحي
الشياطين إلا أن تجعلها لام العاقبة كما في قوله فَالْتَقَطَهُ آلُ
فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَ حَزَناً على أنه غير معلوم
أن كل من أرادوا منه الصغو قد صغى إلى كلامهم و لم يصح ذلك أيضا في قوله «وَ
لِيَرْضَوْهُ وَ لِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ» لأنه غير معلوم حصول
ذلك و على ما قلناه يكون جميع ذلك معطوفا بعضه على بعض و المراد بالأفئدة أصحاب
الأفئدة و لكن لما كان الاعتقاد في القلب و كذلك الشهوة أسند الصغو إلى القلب «وَ
لِيَرْضَوْهُ» أي و ليرضوا ما أوحي إليهم من القول المزخرف «وَ
لِيَقْتَرِفُوا» أي و ليكتسبوا من الإثم و المعاصي «ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ» أي مكتسبون
في عداوة النبي ص و المؤمنين عن ابن عباس و السدي و قال أبو علي الجبائي إن اللام
في قوله «وَ لِتَصْغى» و ما بعده لام الأمر و المراد بها التهديد
كما قال سبحانه «اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ» و استفزز من استطعت و هذا غلط فاحش
لأنه لو كان كذلك لقال و لتصغ فحذف الألف و قال البلخي اللام في و لتصغى لام
العاقبة و ما بعده لام الأمر الذي يراد به التهديد و هذا جائز إلا أن فيه تعسفا
فالأصح ما ذكرناه.
545
مجمع البیان في تفسير القرآن4
[سورة الأنعام(6): آية 114] ص : 546
[سورة الأنعام (6): آية 114]
أَ فَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً وَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114)
القراءة
قرأ ابن عامر و حفص «مُنَزَّلٌ» بالتشديد و الباقون بالتخفيف.
الحجة
حجة التشديد قوله سبحانه تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ+ و ما أشبهه و حجة التخفيف إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ+ و ما أشبهه.
المعنى
ثم أمر الله سبحانه نبيه ص أن يقول لهؤلاء الكفار الذين مضى ذكرهم «أَ فَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً» أي أطلب سوى الله حاكما و الحكم و الحاكم بمعنى واحد إلا أن الحكم أمدح لأن معناه من يستحق أن يتحاكم إليه فهو لا يقضي إلا بالحق و قد يحكم الحاكم بغير حق و المعنى هل يجوز لأحد أن يعدل عن حكم الله رغبة عنه أو هل يجوز أن يكون حكم سوى الله يساويه في حكمه «وَ هُوَ الَّذِي» يعني و الله الذي «أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ» أي القرآن «مُفَصَّلًا» فصل فيه جميع ما يحتاج إليه و قيل فصل فيه بين الصادق و الكاذب في الدين و قيل فصل بين الحلال و الحرام و الكفر و الإيمان عن الحسن و معنى التفصيل تبيين المعاني بما ينفي التخليط المعمي للمعنى و ينفي أيضا التداخل الذي يوجب نقصان البيان عن المراد «وَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ» يعني بهم مؤمني أهل الكتاب و الكتاب هو التوراة و الإنجيل و قيل يعني بهم كبراء الصحابة و أصحاب بدر و الكتاب هو القرآن عن عطا «يَعْلَمُونَ أَنَّهُ» أي إن القرآن «مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ» يعني ببيان الحق أي يعلمون أن كل ما فيه بيان عن الشيء على ما هو به فترغيبه و ترهيبه و وعده و وعيده و قصصه و أمثاله و غير ذلك جميعه بهذه الصفة و قيل إن معنى بالحق بالبرهان الذي تقدم لهم حتى علموه به «فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ» أي من الشاكين في ذلك و الخطاب للنبي ص و المراد به للأمة و قيل الخطاب لغيره أي فلا تكن أيها الإنسان أو أيها السامع و قيل الخطاب له ص و المراد به الزيادة في شرح صدره و يقينه و طمأنينة قلبه و تسكينه كقوله تعالى فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ عن أبي مسلم.
546
مجمع البیان في تفسير القرآن4
[سورة الأنعام(6): آية 115] ص : 547
[سورة الأنعام (6): آية 115]
وَ تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَ عَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115)
القراءة
«كَلِمَةُ رَبِّكَ» بالتوحيد عراقي غير أبي عمرو و الباقون كلمات ربك.
الحجة
من قرأ «كَلِمَةُ رَبِّكَ» قال قد وقع المفرد على الكثرة فلذلك أغنى عن الجمع قالوا إن زهيرا قال في كلمته يعنون قصيدته و قال قس في كلمته يعنون خطبته و من قرأ بالجمع فلأنه لما كان جمعا في المعنى جمعوا.
اللغة
التبديل وضع الشيء مكان غيره و الصدق الخبر الذي مخبره على وفق ما أخبر به و العدل ضد الجور و قيل إن أفعال الله تعالى كلها عدل لأنها كلها على الاستقامة و قيل إنما يوصف بذلك فيما يعامل به عباده.
الإعراب
«صِدْقاً وَ عَدْلًا» نصب على التمييز و قيل إنهما مصدران انتصبا على الحال من الكلمة و تقدير ذلك صادقة و عادلة عن أبي علي الفارسي و قد تقدم مثل هذا فيما مضى.
المعنى
ثم بين سبحانه صفة الكتاب المنزل فقال «وَ تَمَّتْ» أي كملت على وجه لا يمكن أحدا الزيادة فيه و النقصان منه «كَلِمَةُ رَبِّكَ» أي القرآن عن قتادة و غيره و قيل معناه أنزلت شيئا بعد شيء حتى كملت على ما تقتضيه الحكمة و قيل إن المراد بالكلمة دين الله كما في قوله وَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا عن أبي مسلم و قيل المراد بها حجة الله على الخلق «صِدْقاً وَ عَدْلًا» ما كان في القرآن من الأخبار فهو صدق لا يشوبه كذب و ما فيه من الأمر و النهي و الحكم و الإباحة و الحظر فهو عدل «لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ» أي لا مغير لأحكامه عن قتادة لأنه و إن أمكن التغيير و التبديل في اللفظ كما بدل أهل الكتاب التوراة و الإنجيل فإنه لا يعتد بذلك قال و قد تطلق الكلمة بمعنى الحكم قال سبحانه «وَ كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ» أي حكم ربك و يقال عقوبة ربك و قال النبي ص في صفة النساء إنهن هو أن عندكم استحللتم فروجهن بكلمة الله تعالى و قيل معناه أن القرآن محروس عن الزيادة و النقصان فلا مغير لشيء منه و ذلك أن الله تعالى ضمن حفظه في قوله «وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ» و لا يجوز أن يعني بالكلمات الشرائع كما عنى بقوله «وَ صَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها» لأن الشرائع قد يجوز فيها النسخ و التبديل «وَ هُوَ السَّمِيعُ» لأقوالكم «الْعَلِيمُ» بضمائركم.
547
مجمع البیان في تفسير القرآن4
[سورة الأنعام(6): الآيات 116 الى 117] ص : 548
[سورة الأنعام (6): الآيات 116 الى 117]
وَ إِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (116) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117)
اللغة
الفرق بين الأكثر و الأعظم أن الأعظم قد يوصف به واحد و لا يوصف بالأكثر واحد بحال و لهذا يقال في صفة الله تعالى عظيم و أعظم و لا يوصف بأكثر و إنما يقال أكبر بمعنى أعظم و الخرص الكذب يقال خرص يخرص خرصا و تخرص و اخترص و أصله القطع قال الشاعر:
ترى قصد المران فيهم كأنه
|
|
تذرع خرصان بأيدي الشواطب
|
يعني جريدا يقطع طولا و يتخذ منه الحصر و هو جمع الخرص و منه خرص النخل يخرص خرصا إذا أحرزه و الخرص حبة القرط إذا كانت منفردة و الخرص العود لانقطاعه عن نظائره بطيب ريحه و لفظة أعلم إذا لم يذكر معها من فله معنيان (أحدهما) أعلم من الكل و اجتزئ عن ذكر من كقولهم الله أكبر أي من كل شيء (و الثاني) بمعنى فعيل كقول الفرزدق:
إن الذي سمك السماء بنى لنا
|
|
بيتا دعائمه أعز و أطول
|
أي عزيز و طويل.
الإعراب
موضع «مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ» فيه وجوه (أحدها) أنه نصب على حذف الباء حتى يكون مقابلا لقوله «وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ» (و الثاني) أن موضع من رفع بالابتداء و لفظها لفظ الاستفهام و المعنى أن ربك هو أعلم أي الناس يضل عن سبيله و هذا مثل قوله تعالى لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى عن الزجاج و في هذه المسألة خلاف و سيأتي شرح ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى (و الثالث) أن موضعها نصب بفعل مضمر يدل عليه قوله «أَعْلَمُ» فكأنه
548
مجمع البیان في تفسير القرآن4
المعنى ص : 549
قال إن ربك
هو أعلم يعلم من يضل عن سبيله و صيغة أفعل من كذا لا تتعدى لأنها غير جارية على
الفعل و لا معدولة عن الجارية على الفعل كما عدل ضروب عن ضارب و متجار عن تاجر عن
أبي علي الفارسي و زعم قوم أن أعلم هاهنا بمعنى يعلم كما قال حاتم الطائي:
فحالفت
طيئ من دوننا حلفا
|
|
و الله
أعلم ما كنا لهم خذلا
|
و قالت
الخنساء:
أ لقوم
أعلم أن جفنته
|
|
تغدو
غداة الريح أو تسري
|
و هذا فاسد
لأنه لا يطابق قوله وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ و لا يجوز
أن يكون من في موضع جر بإضافة أعلم إليه لأن أفعل لا يضاف إلا إلى ما هو بعضه و جل
ربنا و تقدس عن أن يكون بعض الضالين و لا بعض المضلين.
المعنى
لما تقدم ذكر
الكتاب بين سبحانه في هذه الآية أن من تبع غير الكتاب ضل و أضل فقال «وَ
إِنْ تُطِعْ» يا محمد خاطبه ص و المراد غيره و قيل المراد هو و غيره و الطاعة هي
امتثال الأمر و موافقة المطيع المطاع فيما يريده منه إذا كان المريد فوقه و الفرق
بينها و بين الإجابة أن الإجابة عامة في موافقة الإرادة الواقعة موقع المسألة و لا
يراعى فيها الرتبة «أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ» يعني الكفار و أهل
الضلالة و إنما ذكر الأكثر لأنه علم سبحانه أن منهم من يؤمن و يدعو إلى الحق و يذب
عن الدين و لكن هم الأقل و الأكثر الضلال «يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ
اللَّهِ» أي عن دينه و في هذا دلالة على أنه لا عبرة في دين الله و معرفة
الحق بالقلة و الكثرة لجواز أن يكون الحق مع الأقل و إنما الاعتبار فيه بالحجة دون
القلة و الكثرة «إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ» أي ما يتبع هؤلاء
المشركون فيما يعتقدونه و يدعون إليه إلا الظن «وَ إِنْ هُمْ
إِلَّا يَخْرُصُونَ» أي ما هم إلا يكذبون و قيل معناه أنهم لا يقولون عن علم و
لكن عن خرص و تخمين و قال ابن عباس كانوا يدعون النبي ص و المؤمنين إلى أكل الميتة
و يقولون أ تأكلون ما قتلتم و لا تأكلون ما قتل ربكم فهذا ضلالهم «إِنَّ
رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ» خاطب سبحانه نبيه ص
و إن عنى به جميع الأمة و يسأل فيقال كيف جاز في صفة القديم سبحانه أعلم مع أنه
سبحانه لا يخلو من أن يكون أعلم بالمعنى ممن يعلمه أو ممن لا يعلمه و كلاهما لا
549
مجمع البیان في تفسير القرآن4
[سورة الأنعام(6): الآيات 118 الى 120] ص : 550
يصح فيه أفعل و الجواب أن المعنى هو أعلم به ممن يعلمه لأنه يعلمه من وجوه لا يخفى على غيره و ذلك أنه يعلم ما يكون منه و ما كان و ما هو كائن إلى يوم القيامة على جميع الوجوه التي يصح أن يعلم الأشياء عليها و ليس كذلك غيره لأن غيره لا يعلم جميع الأشياء و ما يعلمه لا يعلمه من جميع وجوهها و أما من هو غير عالم أصلا فلا يقال الله سبحانه أعلم منه لأن لفظة أعلم يقتضي الاشتراك في العلم و زيادة لمن وصف بأنه أعلم و هذا لا يصح فيمن ليس بعالم أصلا إلا مجازا «وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ» المعنى أنه سبحانه أعلم بمن يسلك سبيل الضلال المؤدي إلى الهلاك و العقاب و من يسلك سبيل الهدى المفضي به إلى النجاة و الثواب و في هذا دلالة على أن الضلال و الإضلال من فعل العبد خلاف ما يقوله أهل الجبر و على أنه لا يجوز التقليد و اتباع الظن في الدين و الاغترار بالكثرة و
إلى هذا أشار أمير المؤمنين علي (ع) حيث قال للحرث الهمداني يا حار الحق لا يعرف بالرجال اعرف الحق تعرف أهله.
[سورة الأنعام (6): الآيات 118 الى 120]
فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) وَ ما لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَ قَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَ إِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119) وَ ذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَ باطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ (120)
القراءة
قرأ أهل الكوفة غير حفص «فَصَّلَ لَكُمْ» بالفتح ما حرم بالضم و قرأ أهل المدينة و حفص و يعقوب و سهل «فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ» كليهما بالفتح و قرأ الباقون فصل لكم ما حرم بالضم فيهما و قرأ ابن كثير و أبو عمرو و يعقوب ليضلون بفتح الياء هنا و في يونس ليضلوا عن سبيلك و في إبراهيم ليضلوا عن سبيله و في الحج ليضل عن سبيل الله و في لقمان و الزمر
550
مجمع البیان في تفسير القرآن4
الحجة ص : 551
في المواضع الستة و قرأ أهل الكوفة بضم الياء في هذه المواضع و قرأ الباقون هنا و في سورة يونس بفتح الياء و في الأربعة بعد هذين الموضعين بضم الياء.
الحجة
حجة من ضم الفاء من فصل و الحاء من حرم قوله حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ وَ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ فهذا تفصيل هذا العام المجمل بقوله حرم و هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلًا فمفصلا يدل على فصل و حجة من قرأ فصل و حرم بفتح الفاء و الحاء قوله قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ و قوله أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ و قوله الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هذا و حجة من ضم الياء من يضلون و يضلوا أنه يدل على أن الموصوف بذلك في الضلالة أذهب و من الهدى أبعد أ لا ترى أن كل مضل ضال و ليس كل ضال مضلا لأن الضلال قد يكون مقصورا على نفسه لا يتعداه إلى سواه و من قرأ بفتح الياء فإنه يريد أنهم يضلون في أنفسهم من غير أن يضلوا غيرهم من أتباعهم بامتناعهم من أكل ما ذكر اسم الله عليه و غير ذلك أي يضلون باتباع أهوائهم.
الإعراب و اللغة
«وَ ذَرُوا» الواو للعطف و إنما استعمل منه الأمر و المستقبل و لا يستعمل وذر و لا واذر أشعروا بذلك كراهية الابتداء بالواو حتى لم يزيدوها هناك أصلا مع زيادتهم أخواتها و استغنوا فيها بترك و تارك و هذا كما استعملوا الماضي دون المستقبل و اسم الفاعل في عسى و الظاهر الكائن على وجه يمكن إدراكه و الباطن هو الكائن على وجه يتعذر إدراكه و الكسب ما يفعل لاجتلاب النفع أو دفع الضرر و إنما يوصف به العبد دون الله تعالى لاستحالة النفع و الضرر عليه سبحانه و الكواسب الجوارح من الطير لأنها تكسب ما تنتفع به و قد بينا أن معنى الاقتراف الاكتساب.
المعنى
ثم عطف سبحانه على ما تقدم من الكلام فقال «فَكُلُوا» ثم اختلف في ذلك فقيل إنه لما ذكر المهتدين فكأنه قال و من الهداية أن تحلوا ما أحل الله و تحرموا ما حرم الله فكلوا و قيل إن المشركين لما قالوا للمسلمين أ تأكلون ما قتلتم أنتم و لا تأكلوا ما قتل ربكم فكأنه قال سبحانه لهم أعرضوا عن جهلكم فكلوا و المراد به الإباحة و إن كانت الصيغة صيغة الأمر «مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ» يعني ذكر اسم الله عند ذبحه دون الميتة و ما ذكر عليه اسم الأصنام و الذكر هو قول بسم الله و قيل هو كل اسم يختص الله تعالى به أو صفة تختصه كقول
551
مجمع البیان في تفسير القرآن4
المعنى ص : 551
باسم الرحمان
أو باسم القديم أو باسم القادر لنفسه أو العالم لنفسه و ما يجري مجراه و الأول
مجمع على جوازه و الظاهر يقتضي جواز غيره لقوله سبحانه «قُلِ ادْعُوا
اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ
الْحُسْنى» «إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ» بأن عرفتم و رسوله و
صحة ما أتاكم به من عند الله فكلوا ما أحل دون ما حرم و في هذه الآية دلالة على
وجوب التسمية على الذبيحة و على أن ذبائح الكفار لا يجوز أكلها لأنهم لا يسمون
الله تعالى عليها و من سمى منهم لا يعتقد وجوب ذلك حقيقة و لأنه يعتقد أن الذي
يسميه و هو الذي أبد شرع موسى أو عيسى فإذا لا يذكرون الله تعالى حقيقة «وَ ما
لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ» قد ذكرنا
إعرابه في سورة البقرة عند قوله وَ ما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ و تقديره أي شيء لكم في أن لا تأكلوا فيكون ما للاستفهام و هو
اختيار الزجاج و غيره من البصريين و معناه ما الذي يمنعكم أن تأكلوا مما ذكر اسم
الله عند ذبحه و قيل معناه ليس لكم أن لا تأكلوا فيكون ما للنفي «وَ
قَدْ فَصَّلَ لَكُمْ» أي بين لكم «ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ» قيل هو ما
ذكر في سورة المائدة من قوله «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ
الدَّمُ» الآية و اعترض على هذا بأن سورة المائدة نزلت بعد الأنعام بمدة فلا
يصح أن يقال أنه فصل إلا أن يحمل على أنه بين على لسان الرسول ص و بعد ذلك نزل به
القرآن و قيل إنه ما فصل في هذه السورة في قوله قُلْ لا أَجِدُ
فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً الآية «إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ
إِلَيْهِ» معناه إلا ما خفتم على نفوسكم الهلاك من الجوع إذا تركتم التناول
منه فحينئذ يجوز لكم تناوله و إن كان مما حرمه الله و اختلف في مقدار ما يسوغ
تناوله عند الاضطرار فعندنا لا يجوز أن يتناول إلا ما يمسك به الرمق و قال قوم
يجوز أن يشبع المضطر منها و أن يحمل منها معه حتى يجد ما يأكل و قال الجبائي في
هذه الآية دلالة على أن ما يكره على أكله من هذه الأجناس يجوز أكله لأن المكره
يخاف على نفسه مثل المضطر «وَ إِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ
بِأَهْوائِهِمْ» أي باتباع أهوائهم و من قرأ بالضم أراد أنهم يضلون أشياعهم فحذف
المفعول به و في أمثاله كثرة و إنما جعل النكرة اسم أن لأن الكلام إذا طال احتمل
ذلك و دل بعضه على بعض «بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ
بِالْمُعْتَدِينَ» المتجاوزين الحق إلى الباطل و الحلال إلى الحرام «وَ
ذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَ باطِنَهُ» أمر سبحانه بترك الإثم مع قيام الدلالة على
كونه إثما و نهى عن ارتكابه سرا و علانية و هو قول قتادة و مجاهد و الربيع بن أنس
و قيل أراد بالظاهر أفعال الجوارح و بالباطن أفعال القلوب عن الجبائي و قيل الظاهر
من الإثم هو الزنا و الباطن هو اتخاذ الأخدان عن السدي و الضحاك و قيل ظاهر الإثم
امرأة الأب و باطنه الزنا عن سعيد بن جبير و قيل إن أهل الجاهلية كانت ترى أن
الزنا إذا أظهر كان فيه إثم و إذا استسر
552
مجمع البیان في تفسير القرآن4
[سورة الأنعام(6): آية 121] ص : 553
به صاحبه لم يكن إثما ذكره الضحاك و الأصح القول الأول لأنه يعم الجميع «إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ» أي يعملون المعاصي التي فيها الآثام و يرتكبون القبائح «سَيُجْزَوْنَ» أي سيعاقبون «بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ» بما كانوا يكسبون و يرتكبون.
[سورة الأنعام (6): آية 121]
وَ لا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَ إِنَّهُ لَفِسْقٌ وَ إِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَ إِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)
المعنى
ثم أكد سبحانه ما تقدم بقوله «وَ لا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ» يعني عند الذبح من الذبائح و هذا تصريح في وجوب التسمية على الذبيحة لأنه لو لم يكن كذلك لكان ترك التسمية غير محرم لها «وَ إِنَّهُ لَفِسْقٌ» يعني و إن أكل ما لم يذكر اسم الله عليه لفسق و في هذا دلالة على تحريم أكل ذبائح الكفار كلهم أهل الكتاب و غيرهم من سمي منهم و من لم يسم لأنهم لا يعرفون الله تعالى على ما ذكرناه من قبل فلا يصح منهم القصد إلى ذكر اسمه فأما ذبيحة المسلم إذا لم يسم الله تعالى عليها فقد اختلف في ذلك فقيل لا يحل أكلها سواء ترك التسمية عمدا أو نسيانا عن مالك و داود و روي ذلك عن الحسن و ابن سيرين و به قال الجبائي و قيل يحل أكلها في الحالين عن الشافعي و
قيل يحل أكلها إذا ترك التسمية ناسيا بعد أن يكون معتقدا لوجوبها و يحرم أكلها إذا تركها متعمدا عن أبي حنيفة و أصحابه و هو المروي عن أئمتنا ع
«وَ إِنَّ الشَّياطِينَ» يعني علماء الكافرين و رؤساءهم المتمردين في كفرهم «لَيُوحُونَ» أي يؤمون و يشيرون «إِلى أَوْلِيائِهِمْ» الذين اتبعوهم من الكفار «لِيُجادِلُوكُمْ» في استحلال الميتة قال الحسن كان مشركو العرب يجادلون المسلمين فيقولون لهم كيف تأكلون مما تقتلونه أنتم و لا تأكلون مما قتله الله و قتيل الله أولى بالأكل من قتيلكم فهذه مجادلتهم و قال عكرمة إن قوما من مجوس فارس كتبوا إلى مشركي قريش و كانوا أولياءهم في الجاهلية أن محمدا و أصحابه يزعمون أنهم يتبعون أمر الله ثم يزعمون أن ما ذبحوه حلال و ما قتله الله حرام فوقع ذلك في نفوسهم فذلك إيحاؤهم إليهم و قال ابن عباس معناه و إن الشياطين من الجن و هم إبليس و جنوده ليوحون إلى أوليائهم من الإنس و الوحي
553
مجمع البیان في تفسير القرآن4
[سورة الأنعام(6): الآيات 122 الى 123] ص : 554
إلقاء المعنى إلى النفس من وجه خفي و هم يلقون الوسوسة إلى قلوب أهل الشرك ثم قال سبحانه «وَ إِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ» أيها المؤمنون فيما يقولون من استحلال الميتة و غيره «إِنَّكُمْ»