×
☰ فهرست و مشخصات
مجمع البيان في تفسير القرآن10

الجزء العاشر

الجزء العاشر
(62) سورة الجمعة مدينة و آياتها إحدى عشرة (11)
[توضيح‏]
و هي إحدى عشرة آية بالإجماع.
فضلها
أبي بن كعب عن النبي ص قال و من قرأ سورة الجمعة أعطي عشر حسنات بعدد من أتى الجمعة و بعدد من لم يأتها في أمصار المسلمين.
منصور بن حازم عن أبي عبد الله (ع) قال من الواجب على كل مؤمن إذا كان لنا شيعة أن يقرأ في ليلة الجمعة بالجمعة و سبح اسم ربك و في صلاة الظهر بالجمعة و المنافقين فإذا فعل فكأنما يعمل عمل رسول الله ص و كان ثوابه و جزاؤه على الله الجنة.
تفسيرها
لما ختم الله سبحانه سورة الصف بالترغيب في عبادته و الدعاء إليها و ذكر تأييد المؤمنين بالنصر و الظهور على الأعداء افتتح هذه السورة ببيان قدرته على ذلك و على جميع الأشياء فقال:

427
مجمع البيان في تفسير القرآن10

سورة الجمعة الآيات 1 الى 5 ص 428

[سورة الجمعة (62): الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏
يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ إِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (2) وَ آخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)
مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5)

اللغة
الأسفار الكتب واحدها سفر و إنما سمي بذلك لأنه يكشف عن المعنى بإظهاره يقال سفر الرجل عمامته إذا كشفها و سفرت المرأة عن وجهها فهي سافرة و منه و الصبح إذا أسفر.
الإعراب‏
«وَ إِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ» إن هذه مخففة من إن و لهذا لزمها اللام الفارقة في خبر كان لئلا يلتبس بأن النافية و آخرين مجرورة لأنه صفة محذوف معطوف على الأميين أي و في قوم آخرين و يحتمل أن يكون منصوبا بالعطف على هم في يعلمهم.
«يَحْمِلُ أَسْفاراً» في موضع النصب على الحال. «بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ» المخصوص بالذم محذوف تقديره بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله مثلهم فيكون الذين في موضع جر و يجوز أن يكون التقدير بئس مثل القوم مثل الذين كذبوا فحذف المضاف و أقيم المضاف إليه مقامه و على هذا يكون الذين في موضع رفع و هو المخصوص بالذم.
المعنى‏
«يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ» أي ينزهه سبحانه كل شي‏ء و يشهد له بالوحدانية و الربوبية بما ركب فيها من بدائع الحكمة و عجائب الصنعة الدالة على أنه قادر عالم حي قديم سميع بصير حكيم لا يشبه شيئا و لا يشبهه شي‏ء و إنما قال مرة سبح و مرة يسبح إشارة إلى دوام تنزيهه في الماضي و المستقبل «الْمَلِكِ» أي القادر على تصريف الأشياء «الْقُدُّوسِ» أي المستحق للتعظيم الطاهر عن كل نقص «الْعَزِيزِ» القادر الذي لا يمتنع عليه شي‏ء «الْحَكِيمِ» العالم الذي يضع الأشياء موضعها «هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ» يعني العرب و كانت أمة أمية لا تكتب و لا تقرأ و لم يبعث إليهم نبي عن مجاهد و قتادة و قيل يعني أهل مكة لأن مكة تسمى أم القرى «رَسُولًا مِنْهُمْ» يعني محمدا ص نسبه نسبهم و هو من جنسهم كما قال لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عليه و وجه النعمة في أنه جعل النبوة في أمي موافقته لما تقدمت البشارة به في كتب الأنبياء

428
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 428

السالفة و لأنه أبعد من توهم الاستعانة على ما أتى به من الحكمة بالحكم التي تلاها و الكتب التي قرأها و أقرب إلى العلم بأن ما يخبرهم به من إخبار الأمم الماضية و القرون الخالية على وفق ما في كتبهم ليس ذلك إلا بالوحي «يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ» أي يقرأ عليهم القرآن المشتمل على الحلال و الحرام و الحجج و الأحكام «وَ يُزَكِّيهِمْ» أي و يطهرهم من الكفر و الذنوب و يدعوهم إلى ما يصيرون به أزكياء «وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ» الكتاب القرآن و الحكمة الشرائع و قيل إن الحكمة تعم الكتاب و السنة و كل ما أراده الله تعالى فإن الحكمة هي العلم الذي يعمل عليه فيما يجتبي أو يجتنب من أمور الدين و الدنيا «وَ إِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ» معناه و ما كانوا من قبل بعثه إليهم إلا في عدول عن الحق و ذهاب عن الدين بين ظاهر «وَ آخَرِينَ مِنْهُمْ» أي و يعلم آخرين من المؤمنين «لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ» و هم كل من بعد الصحابة إلى يوم القيامة فإن الله سبحانه بعث النبي إليهم و شريعته تلزمهم و إن لم يلحقوا بزمان الصحابة عن مجاهد و ابن زيد و
قيل هم الأعاجم و من لا يتكلم بلغة العرب فإن النبي ص مبعوث إلى من شاهده و إلى كل من بعدهم من العرب و العجم عن ابن عمر و سعيد بن جبير و روي ذلك عن أبي جعفر (ع)
و روي أن النبي ص قرأ هذه الآية فقيل له من هؤلاء فوضع يده على كتف سلمان و قال لو كان الإيمان في الثريا لنالته رجال من هؤلاء
و على هذا فإنما قال منهم لأنهم إذا أسلموا صاروا منهم فإن المسلمين كلهم يد واحدة على من سواهم و أمة واحدة و إن اختلف أجناسهم كما قال سبحانه وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ و من لم يؤمن بالنبي ص فإنهم ليسوا ممن عناهم الله تعالى بقوله «وَ آخَرِينَ مِنْهُمْ» و إن كان مبعوثا إليهم بالدعوة لقوله سبحانه «وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ» و من لم يؤمن فليس ممن زكاه و علمه القرآن و السنة و قيل إن قوله «لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ» يعني في الفضل و السابقة فإن التابعين لا يدركون شأن السابقين من الصحابة و خيار المؤمنين «وَ هُوَ الْعَزِيزُ» الذي لا يغالب «الْحَكِيمُ» في جميع أفعاله «ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ» يعني النبوة التي خص الله بها رسوله عن مقاتل «يُؤْتِيهِ» أي يعطيه «مَنْ يَشاءُ» بحسب ما يعلمه من صلاحه للبعثة و تحمل أعباء الرسالة «وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ» ذو المن العظيم على خلقه ببعث محمد ص و
روى محمد بن أبي عمير عن هشام بن سالم يرفعه قال جاء الفقراء إلى رسول الله ص فقالوا يا رسول الله إن للأغنياء ما يتصدقون و ليس لنا ما نتصدق و لهم ما يحجون و ليس لنا ما نحج و لهم ما يعتقون و ليس لنا ما نعتق فقال ص من كبر الله مائة مرة كان أفضل من عتق رقبة و من سبح الله مائة مرة كان أفضل من مائة فرس في سبيل الله يسرجها و يلجمها و من هلل الله مائة مرة كان أفضل الناس عملا في ذلك اليوم إلا من زاد فبلغ ذلك الأغنياء فقالوه فرجع‏

429
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 428

الفقراء إلى النبي ص فقالوا يا رسول الله قد بلغ الأغنياء ما قلت فصنعوه فقال ص «ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ»
ثم ضرب سبحانه لليهود الذين تركوا العمل بالتوراة مثلا فقال «مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ» أي كلفوا القيام بها و العمل بما فيها «ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها» حق حملها من أداء حقها و العمل بموجبها لأنهم حفظوها و دونوها كتبهم ثم لم يعلموا بما فيها «كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً» لأن الحمار الذي يحمل كتب الحكمة على ظهره لا يحس بما فيها فمثل من يحفظ الكتاب و لا يعمل بموجبه كمثل من لا يعلم ما فيما يحمله قال ابن عباس فسواء حمل على ظهره أو جحده إذا لم يعمل به و على هذا فمن تلا القرآن و لم يفهم معناه و أعرض عنه إعراض من لا يحتاج إليه كان هذا المثل لاحقا به و إن حفظه و هو طالب لمعناه فليس من أهل هذا المثل و أنشد أبو سعيد الضرير في ذلك:
         زوامل للأسفار لا علم عندهم             بجيدها إلا كعلم الأباعر
         لعمرك ما يدري المطي إذا غدا             بأسفاره إذ راح ما في الغرائر
 «بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ» معناه بئس القوم قوم هذا مثلهم لأنه سبحانه ذم مثلهم و المراد به ذمهم و اليهود كذبوا بالقرآن و التوراة حين لم يؤمنوا بمحمد ص «وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» أي لا يفعل بهم من الألطاف التي يفعلها بالمؤمنين الذين بها يهتدون و قيل لا يثيبهم و لا يهديهم إلى الجنة و عن محمد بن مهران قال يا أهل القرآن اتبعوا القرآن قبل أن يتبعكم و تلا هذه.

430
مجمع البيان في تفسير القرآن10

سورة الجمعة الآيات 6 الى 11 ص 431

[سورة الجمعة (62): الآيات 6 الى 11]
قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (6) وَ لا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى‏ عالِمِ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى‏ ذِكْرِ اللَّهِ وَ ذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَ ابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَ اذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10)
وَ إِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَ تَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَ مِنَ التِّجارَةِ وَ اللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)

اللغة
الزعم قول عن ظن أو علم و لذلك صار من باب الظن و العلم و عمل ذلك العمل قال:
         فإن تزعميني كنت أجهل فيكم             فإني شريت الحلم بعدك بالجهل‏
و الأولياء جمع ولي و هو الحقيق بالنصرة التي يوليها عند الحاجة و الله ولي المؤمنين لأنه يوليهم النصرة عند حاجتهم و المؤمن ولي الله لهذه العلة و يجوز أن يكون لأنه يولي المطيع له نصرة عند حاجته و التمني هو قول القائل لما كان ليته لم يكن و لما لم يكن ليته كان فهو يتعلق بالماضي و المستقبل و هو من جنس الكلام عن الجبائي و القاضي و قال أبو هاشم هو معنى في النفس يوافق هذا القول و الجمعة و الجمعة لغتان و جمعها جمع و جمعات قال الفراء و فيها لغة ثالثة جمعة بفتح الميم كضحكة و همزة و إنما سمي جمعة لأنه تعالى فرغ فيه من خلق الأشياء فاجتمعت فيه المخلوقات و قيل لأنه تجتمع فيه الجماعات و قيل إن أول من سماها جمعة كعب بن لؤي و هو أول من قال أما بعد و كان يقال للجمعة العروبة عن أبي سلمة و قيل إن أول من سماها جمعة الأنصار قال ابن سيرين جمع أهل المدينة قبل أن يقدم النبي ص المدينة و قيل قبل أن تنزل الجمعة قالت الأنصار لليهود يوم يجتمعون فيه كل سبعة أيام و للنصارى يوم أيضا مثل ذلك فلنجعل يوما نجتمع فيه فنذكر الله عز و جل و نشكره و كما قالوا يوم السبت لليهود و يوم الأحد للنصارى فاجعلوه يوم العروبة فاجتمعوا إلى أسعد بن زرارة

431
مجمع البيان في تفسير القرآن10

اللغة ص 431

فصلى بهم يومئذ و ذكرهم فسموه يوم الجمعة حين اجتمعوا إليه فذبح لهم أسعد بن زرارة شاة فتغدوا و تعشوا من شاة واحدة و ذلك لقلتهم فأنزل الله تعالى في ذلك «إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ» الآية فهذه أول جمعة جمعت في الإسلام فأما أول جمعة جمعها رسول الله ص بأصحابه فقيل إنه قدم رسول الله ص مهاجرا حتى نزل قبا على عمرو بن عوف و ذلك يوم الإثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول حين الضحى فأقام بقبا يوم الإثنين و الثلاثاء و الأربعاء و الخميس و أسس مسجدهم ثم خرج من بين أظهرهم يوم الجمعة عامدا المدينة فأدركته صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف في بطن واد لهم قد اتخذ اليوم في ذلك الموضع مسجد و كانت هذه الجمعة أول جمعة جمعها رسول الله ص في الإسلام فخطب في هذه الجمعة و هي أول خطبة خطبها بالمدينة فيما قيل‏
فقال الحمد لله أحمده و أستعينه و أستغفره و أستهديه و أومن به و لا أكفره و أعادي من يكفره و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له و أشهد أن محمدا عبده و رسوله أرسله بالهدى و النور و الموعظة على فترة من الرسل و قلة من العلم و ضلالة من الناس و انقطاع من الزمان و دنو من الساعة و قرب من الأجل من يطع الله و رسوله فقد رشد و من يعصهما فقد غوى و فرط و ضل ضلالا بعيدا أوصيكم بتقوى الله فإنه خير ما أوصى به المسلم المسلم أن يحضه على الآخرة و أن يأمره بتقوى الله فاحذروا ما حذركم الله من نفسه و إن تقوى الله لمن عمل به على وجل و مخافة من ربه عون صدق على ما تبغون من أمر الآخرة و من يصلح الذي بينه و بين الله من أمره في السر و العلانية لا ينوي بذلك إلا وجه الله يكن له ذكرا في عاجل أمره و ذخرا فيما بعد الموت و حين يفتقر المرء إلى ما قدم و ما كان من سوى ذلك يود لو أن بينه و بينه أمدا بعيدا و يحذركم الله نفسه و الله رءوف بالعباد و الذي صدق قوله و نجز وعده لا خلف لذلك فإنه يقول ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَ ما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ فاتقوا الله في عاجل أمركم و آجله في السر و العلانية فإنه من يتق الله يكفر عنه سيئاته و يعظم له أجرا و من يتق الله فقد فاز فوزا عظيما و إن تقوى الله توقي مقته و توقي عقوبته و توقي سخطه و إن تقوى الله تبيض الوجوه و ترضي الرب و ترفع الدرجة خذوا بحظكم و لا تفرطوا في جنب الله فقد علمكم الله كتابه و نهج لكم سبيله ليعلم الذين صدقوا و يعلم الكاذبين فأحسنوا كما أحسن الله إليكم و عادوا أعداءه و جاهدوا في سبيل الله حق جهاده هو اجتباكم و سماكم المسلمين ليهلك من هلك عن بينة و يحيي من حي عن بينة و لا حول و لا قوة إلا بالله فأكثروا ذكر الله و اعلموا لما بعد اليوم فإنه من يصلح ما بينه و بين الله يكفه الله ما بينه و بين الناس ذلك بأن الله يقضي على الناس و لا يقضون عليه و يملك من الناس و لا يملكون منه الله أكبر و لا قوة إلا بالله العلي العظيم‏
فلهذا صارت الخطبة شرطا في انعقاد الجمعة.

432
مجمع البيان في تفسير القرآن10

النزول ص 433

النزول‏
قال جابر بن عبد الله أقبلت عير و نحن نصلي مع رسول الله ص الجمعة فانفض الناس إليها فما بقي غير اثني عشر رجلا أنا فيهم فنزلت الآية «وَ إِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً» و قال الحسن و أبو مالك أصاب أهل المدينة جوع و غلاء سعر فقدم دحية بن خليفة بتجارة زيت من الشام و النبي ص يخطب يوم الجمعة فلما رأوه قاموا إليه بالبقيع خشية أن يسبقوا إليه فلم يبق مع النبي ص إلا رهط فنزلت الآية
فقال و الذي نفسي بيده لو تتابعتم حتى لا يبقى أحد منكم لسال بكم الوادي نارا
و قال المقاتلان بينا رسول الله ص يخطب يوم الجمعة إذ قدم دحية بن خليفة بن فروة الكلبي ثم أحد بني الخزرج ثم أحد بني زيد بن مناة من الشام بتجارة و كان إذا قدم لم يبق بالمدينة عاتق إلا أتته و كان يقدم إذا قدم بكل ما يحتاج إليه من دقيق أو بر أو غيره فينزل عند أحجار الزيت و هو مكان في سوق المدينة ثم يضرب بالطبل ليؤذن الناس بقدومه فيخرج إليه الناس ليتبايعوا معه فقدم ذات جمعة و كان ذلك قبل أن يسلم و رسول الله ص قائم على المنبر يخطب فخرج الناس فلم يبق في المسجد إلا اثنا عشر رجلا و امرأة
فقال ص لو لا هؤلاء لسموت عليهم الحجارة من السماء
و أنزل الله هذه الآية و قيل لم يبق في المسجد إلا ثمانية رهط عن الكلبي عن ابن عباس و قيل إلا أحد عشر رجلا عن ابن كيسان و قيل إنهم فعلوا ذلك ثلاث مرات في كل يوم مرة لعير تقدم من الشام و كل ذلك يوافق يوم الجمعة عن قتادة و مقاتل.
المعنى‏
لما تقدم ذكر اليهود في إنكارهم ما في التوراة أمر سبحانه نبيه ص أن يخاطبهم بما يفحمهم فقال «قُلْ» يا محمد «يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا» أي سموا يهودا «إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ» أي إن كنتم تظنون على زعمكم أنكم أنصار الله و أن الله ينصركم «مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» إنكم أبناء الله و أحباؤه فإن الموت هو الذي يوصلكم إليه ثم أخبر سبحانه عن حالهم في كذبهم و اضطرابهم في دعواهم و أنهم غير واثقين بذلك فقال «وَ لا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ» من الكفر و المعاصي «وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ» أي عالم بأفعالهم و أحوالهم و قد تقدم تفسير الآيتين في سورة البقرة و فيه معجزة للرسول لأنه أخبر أنهم لا يتمنون الموت أبدا لما يعرفون من صدق النبي ص و كذبهم فكان الأمر كما قال و
روي أنه ص قال لو تمنوا لماتوا عن آخرهم‏
 «قُلْ» يا محمد «إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ» أي إنكم و إن فررتم من الموت و كرهتموه فإنه لا بد ينزل بكم و يلقاكم و يدرككم و لا ينفعكم الهرب منه و إنما قال فإنه ملاقيكم بالفاء سواء فروا منه أو لم يفروا منه فإنه ملاقيهم مبالغة في الدلالة على أنه لا ينفع الفرار منه لأنه إذا كان الفرار بمنزلة السبب في ملاقاته فلا معنى للتعرض للفرار لأنه لا يباعد منه و إلى هذا المعنى‏
أشار أمير

433
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 433

المؤمنين (ع) في قوله كل امرئ لاق ما يفر منه و الأجل مساق النفس و الهرب منه موافاته‏
و قال زهير:
         و من هاب أسباب المنايا ينلنه             و لو نال أسباب السماء بسلم‏
و لا شك أنها تناله هابها أو لم يهبها و لكنه إذا كانت هيبته بمنزلة السبب للمنية فالهيبة لا معنى لها و قيل إن التقدير قل إن الموت هو الذي تفرون منه فجعل الذي في موضع الخبر لا صفة للموت و يكون «فَإِنَّهُ» مستأنفا «ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى‏ عالِمِ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ» أي ترجعون إلى الله الذي يعلم سركم و علانيتكم يوم القيامة «فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» في دار الدنيا و يجازيكم بحسبها ثم خاطب سبحانه المؤمنين فقال «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ» أي إذا أذن لصلاة الجمعة و ذلك إذا جلس الإمام على المنبر يوم الجمعة و ذلك لأنه لم يكن على عهد رسول الله ص نداء سواه قال السايب بن زيد كان لرسول الله ص مؤذن واحد بلال فكان إذا جلس على المنبر أذن على باب المسجد فإذا نزل أقام للصلاة ثم كان أبو بكر و عمر كذلك حتى إذا كان عثمان و كثر الناس و تباعدت المنازل زاد أذانا فأمر بالتأذين الأول على سطح دار له بالسوق و يقال له الزوراء و كان يؤذن له عليها فإذا جلس عثمان على المنبر أذن مؤذنه فإذا نزل أقام للصلاة فلم يعب ذلك عليه «فَاسْعَوْا إِلى‏ ذِكْرِ اللَّهِ» أي فامضوا إلى الصلاة مسرعين غير متثاقلين عن قتادة و ابن زيد و الضحاك و قال الزجاج معناه فامضوا إلى السعي الذي هو الإسراع و قرأ عبد الله بن مسعود
فامضوا إلى ذكر الله و روي ذلك عن علي بن أبي طالب (ع) و عمر بن الخطاب و أبي بن كعب ابن عباس و هو المروي عن أبي جعفر (ع) و أبي عبد الله (ع)
و قال ابن مسعود لو علمت الإسراع لأسرعت حتى يقع ردائي عن كتفي و قال الحسن ما هو السعي على الأقدام و قد نهوا أن يأتوا الصلاة إلا و عليهم السكينة و الوقار و لكن بالقلوب و النية و الخشوع و قيل المراد بذكر الله الخطبة التي تتضمن ذكر الله و المواعظ «وَ ذَرُوا الْبَيْعَ» أي دعوا المبايعة قال الحسن كل بيع تفوت فيه الصلاة يوم الجمعة فإنه بيع حرام لا يجوز و هذا هو الذي يقتضيه ظاهر الآية لأن النهي يدل على فساد المنهي عنه «ذلِكُمْ» يعني ما أمرتكم به من حضور الجمعة و استماع الذكر و أداء الفريضة و ترك البيع «خَيْرٌ لَكُمْ» و أنفع لكم عاقبة «إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» منافع الأمور و مضارها و مصالح أنفسكم و مفاسدها و قيل معناه اعلموا ذلك عن الجبائي و في هذه الآية دلالة على وجوب الجمعة و في تحريم جميع التصرفات عند سماع أذان الجمعة لأن البيع إنما خص بالنهي عنه لكونه من أعم التصرفات في أسباب المعاش و فيها دلالة على أن الخطاب للأحرار لأن العبد

434
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 433

لا يملك البيع و على اختصاص الجمعة بمكان و لذلك أوجب السعي إليه و فرض الجمعة لازم جميع المكلفين إلا أصحاب الأعذار من السفر أو المرض أو العمى أو العرج أو أن يكون امرأة أو شيخا هما لا حراك به أو عبدا أو يكون على رأس أكثر من فرسخين من الجامع و عند حصول هذه الشرائط لا يجب إلا عند حضور السلطان العادل أو من نصبه السلطان للصلاة و العدد يتكامل عند أهل البيت (ع) بسبعة و قيل ينعقد بثلاثة سوى الإمام عن أبي حنيفة و الثوري و قيل إنما ينعقد بأربعين رجلا أحرارا بالغين مقيمين عن الشافعي و قيل ينعقد باثنين سوى الإمام عن أبي يوسف و قيل ينعقد بواحد كسائر الجماعات عن الحسن و داود و الاختلاف بين الفقهاء في مسائل الجمعة كثير موضعه كتب الفقه «فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ» يعني إذا صليتم الجمعة و فرغتم منها فتفرقوا في الأرض «وَ ابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ» أي و اطلبوا الرزق في البيع و الشراء و هذا إباحة و ليس بأمر و إيجاب و
روي عن أنس عن النبي ص قال في قوله «فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا» الآية ليس بطلب دنيا و لكن عيادة مريض و حضور جنازة و زيارة أخ في الله‏
و قيل المراد بقوله «وَ ابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ» طلب العلم عن الحسن و سعيد بن جبير و مكحول و
روي عن أبي عبد الله (ع) أنه قال الصلاة يوم الجمعة و الانتشار يوم السبت‏
و
روى عمرو بن زيد عن أبي عبد الله قال إني لأركب في الحاجة التي كفاها الله ما أركب فيها إلا التماس أن يراني الله أضحى في طلب الحلال أ ما تسمع قول الله عز اسمه «فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَ ابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ» أ رأيت لو أن رجلا دخل بيتا و طين عليه بابه ثم قال رزقي ينزل علي كان يكون هذا أما أنه أحد الثلاثة الذين لا يستجاب لهم قال قلت من هؤلاء الثلاثة قال رجل تكون عنده المرأة فيدعو عليها فلا يستجاب له لأن عصمتها في يده لو شاء أن يخلي سبيلها لخلى سبيلها و الرجل يكون له الحق على الرجل فلا يشهد عليه فيجحده حقه فيدعو عليه فلا يستجاب له لأنه ترك ما أمر به و الرجل يكون عنده الشي‏ء فيجلس في بيته فلا ينتشر و لا يطلب و لا يلتمس حتى يأكله ثم يدعو فلا يستجاب له‏
 «وَ اذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً» أي اذكروه على إحسانه و اشكروه على نعمه و على ما وفقكم من طاعته و أداء فرضه و قيل إن المراد بالذكر هنا الفكر كما قال تفكر ساعة خير من عبادة سنة و قيل معناه اذكروا الله في تجارتكم و أسواقكم كما
روي عن النبي ص أنه قال من ذكر الله في السوق مخلصا عند غفلة الناس و شغلهم بما فيه كتب له ألف حسنة و يغفر الله له يوم القيامة مغفرة لم تخطر على قلب بشر
 «لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» أي لتفلحوا و تفوزوا بثواب النعيم علق سبحانه الفلاح بالقيام بما تقدم ذكره من أعمال الجمعة و غيرها و
صح الحديث عن أبي ذر قال قال رسول الله ص من اغتسل يوم الجمعة فأحسن غسله و لبس‏

435
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 433

صالح ثيابه و مس من طيب بيته أو دهنه ثم لم يفرق بين اثنين غفر الله له ما بينه و بين الجمعة الأخرى و زيادة ثلاثة أيام بعدها أورده البخاري في الصحيح‏
و
روى سلمان التميمي عن النبي ص قال إن الله عز و جل في كل يوم جمعة ستمائة ألف عتيق من النار كلهم قد استوجب النار
ثم أخبر سبحانه عن جماعة قابلوا أكرم الكرم بالأم اللؤم فقال «وَ إِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً» أي عاينوا ذلك و قيل معناه إذا علموا بيعا و شراء أو لهوا و هو الطبل عن مجاهد و قيل المزامير عن جابر «انْفَضُّوا إِلَيْها» أي تفرقوا عنك خارجين إليها و قيل مالوا إليها و الضمير للتجارة و إنما خصت برد الضمير إليها لأنها كانت أهم إليهم و هم بها أسر من الطبل لأن الطبل إنما دل على التجارة عن الفراء و قيل عاد الضمير إلى أحدهما اكتفاء به و كأنه على حذف و المعنى و إذا رأوا تجارة انفضوا إليها و إذا رأوا لهوا انفضوا إليه فحذف إليه لأن إليها يدل عليه و
روي عن أبي عبد الله (ع) أنه قال انصرفوا إليها
 «وَ تَرَكُوكَ قائِماً» تخطب على المنبر قال جابر بن سمرة ما رأيت رسول الله ص خطب إلا و هو قائم فمن حدثك أنه خطب و هو جالس فكذبه و سئل عبد الله بن مسعود أ كان النبي ص يخطب قائما فقال أ ما تقرأ «وَ تَرَكُوكَ قائِماً» و قيل أراد قائما في الصلاة ثم قال تعالى «قُلْ» يا محمد لهم «ما عِنْدَ اللَّهِ» من الثواب على سماع الخطبة و حضور الموعظة و الصلاة و الثبات مع النبي ص «خَيْرٌ» و أحمد عاقبة و أنفع «مِنَ اللَّهْوِ وَ مِنَ التِّجارَةِ وَ اللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ» يرزقكم و إن لم تتركوا الخطبة و الجمعة.

436
مجمع البيان في تفسير القرآن10

سورة المنافقون مدنية و آياتها إحدى عشرة ص 437

(63) سورة المنافقون مدنية و آياتها إحدى عشرة (11)
[توضيح‏]
مدنية بالإجماع و هي إحدى عشرة آية.
فضلها
أبي بن كعب عن النبي ص قال و من قرأ سورة المنافقين برأ من النفاق.
تفسيرها
لما ختم الله سورة الجمعة بما هو من علامات النفاق من ترك النبي ص قائما في الصلاة أو في الخطبة و الاشتغال باللهو و طلب الارتفاق افتتح هذه السورة بذكر المنافقين أيضا فقال:

437
مجمع البيان في تفسير القرآن10

سورة المنافقون الآيات 1 الى 5 ص 438

[سورة المنافقون (63): الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏
إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَ اللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى‏ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (3) وَ إِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَ إِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4)
وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَ رَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَ هُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5)

القراءة
قرأ أبو عمرو غير عباس و الكسائي خشب ساكنة الشين و الباقون «خُشُبٌ» بضمها و قرأ نافع و روح عن يعقوب و سهل لووا بتخفيف الواو و الباقون «لَوَّوْا» بتشديدها و هو اختيار أبي عبيدة و في الشواذ قراءة الحسن اتخذوا إيمانهم بالكسر.
الحجة
قال أبو علي من قرأ خشب جعله مثل بدنة و بدن و مثله أسد و أسد و وثن و وثن في قوله إن يدعون من دونه إلا أثنا قال سيبويه هي قراءة و التثقيل أن فعل قد جاء في نظيره قالوا أسد كما قالوا في جمع ثمر ثمر قال الشاعر
         " يقدم إقداما عليكم كالأسد"
قال أبو الحسن التحريك في خشب لغة أهل الحجاز و حجة من قرأ لووا بالتخفيف قوله «لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ» فاللي مصدر لوى مثل طوى طيا و التثقيل لأن الفعل للجماعة فهو كقوله مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ و قد جاء
         " تلوية الخاتن زب المعذر"
أنشده أبو زيد و قوله إيمانهم بالكسر هو على حذف المضاف أي اتخذوا إظهار إيمانهم جنة و قد مر أمثال ذلك.
اللغة
الجنة السترة المتخذة لدفع الأذية كالسلاح المتخذ لدفع الجراح و الجنة البستان الذي يجنه الشجر و الجنة الجنون الذي يستر العقل و الفقه العلم بالشي‏ء فقهت الحديث أفقهه و كل علم فقه إلا لما اختص به علم الشريعة و كل من علمها يقال أنه فقيه و أفقهتك الشي‏ء بينت لك و فقه الرجل بالضم صار فقيها قال ابن دريد الجسم كل شخص مدرك و كل عظيم الجسم جسيم و جسام و الأجسم العظيم الجسم قال الشاعر:
         و أجسم من عاد جسوم رجالهم             و أكثر إن عدوا عديدا من الرمل‏
و اختلف المتكلمون في حد الجسم فقال المحققون منهم هو الطويل العريض العميق و لذلك متى ازداد ذهابه في هذه الجهات الثلاث قيل أجسم و جسيم و قيل هو المؤلف و قيل هو القائم بالنفس و معناه أنه لا يحتاج إلى محل و الصحيح القول الأول و الأجسام ما تأتلف من الجواهر و هي أجزاء لا تتجزء ائتلفت بمعان يقال لها المؤتلفات فإذا رفعت عنها بقيت أجزاء لا تتجزء و اختلف في أقل أجزاء الأجسام و الصحيح أنه ما تألف من ثمانية أجزاء و قيل من ستة أجزاء عن أبي الهذيل و قيل من أربعة أجزاء عن البلخي.

438
مجمع البيان في تفسير القرآن10

الإعراب ص 439

الإعراب‏
 «ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» تقديره ساء العمل عملهم فقوله «ما كانُوا يَعْمَلُونَ» موصول و صلة في موضع رفع بأنه مبتدأ أو خبر مبتدإ محذوف هو المخصوص بالذم. «أَنَّى يُؤْفَكُونَ» أنى في موضع نصب على الحال بمعنى كيف و التقدير أ جاحدين يؤفكون و يجوز أن يكون في محل النصب على المصدر و التقدير أي أفك يؤفكون و قيل معناه من أين يؤفكون أي يصرفون عن الحق بالباطل عن الزجاج فعلى هذا يكون منصوبا على الظرف و يصدون في موضع نصب على الحال.
المعنى‏
خاطب الله سبحانه نبيه فقال «إِذا جاءَكَ» يا محمد «الْمُنافِقُونَ» و هم الذين يظهرون الإيمان و يبطنون الكفر و اشتقاقه من النفق و النافقاء كما قال الشاعر:
         للمؤمنين أمور غير مخزية             و للمنافق سر دونه نفق
 «قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ» أي أخبروا بأنهم يعتقدون أنك رسول الله «وَ اللَّهُ يَعْلَمُ» يا محمد «إِنَّكَ لَرَسُولُهُ» على الحقيقة و كفى بالله شهيدا «وَ اللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ» في قولهم إنهم يعتقدون أنك رسول الله فكان إكذابهم في اعتقادهم و أنهم يشهدون ذلك بقلوبهم و لم يكذبوا فيما يرجع إلى ألسنتهم لأنهم شهدوا بذلك و هم صادقون فيه و في هذا دلالة على أن حقيقة الإيمان إنما هو بالقلب و من قال شيئا و اعتقد خلافه فهو كاذب «اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً» أي سترة يستترون بها من الكفر لئلا يقتلوا و لا يسبوا و لا تؤخذ أموالهم «فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ» أي فأعرضوا بذلك عن دين الإسلام و قيل معناه منعوا غيرهم عن اتباع سبيل الحق بأن دعوهم إلى الكفر في الباطن و هذا من خواص المنافقين يصدون العوام عن الدين كما تفعل المبتدعة «إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» أي بئس الذين يعملونه من إظهار الإيمان مع إبطان الكفر و الصد عن السبيل «ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا» بألسنتهم عند الإقرار بلا إله إلا الله محمد رسول الله «ثُمَّ كَفَرُوا» بقلوبهم لما كذبوا بهذا عن قتادة و قيل معناه آمنوا ظاهرا عند النبي و المسلمين ثم كفروا إذا خلوا بالمشركين و إنما قال ثم كفروا لأنهم جددوا الكفر بعد إظهار الإيمان «فَطُبِعَ عَلى‏ قُلُوبِهِمْ» أي ختم عليها بسمة تميز بها الملائكة بينهم و بين المؤمنين على الحقيقة و قيل لما ألفوا الكفر و العناد و لم يصغوا إلى الحق و لا فكروا في المعاد خلاهم الله و اختارهم و خذلهم فصار ذلك طبعا على قلوبهم و هو الفهم إلى ما اعتادوه من الكفر عن أبي مسلم «فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ» أي لا يعلمون الحق من حيث أنهم لا يتفكرون حتى يميزوا بين الحق و الباطل «وَ إِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ» بحسن منظرهم و تمام خلقتهم و جمال بزتهم «وَ إِنْ يَقُولُوا تَسْمَع‏

439
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 439

لِقَوْلِهِمْ» أي و إذا قالوا شيئا أصغيت إلى كلامهم لحسن منطقهم و فصاحة لسانهم و بلاغة بيانهم «كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ» أي كأنهم أشباح بلا أرواح شبههم الله في خلوهم من العقول و الأفهام بالخشب المسندة إلى شي‏ء لا أرواح فيها و قيل أنه شبههم بخشب نخرة متأكلة لا خير فيها و يحسب من رآها أنها صحيحة سليمة من حيث أن ظاهرها يروق و باطنها لا يفيد فكذلك المنافق ظاهره معجب رائع و باطنه عن الخير زائغ «يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ» وصفهم الله تعالى بالخور و الهلع أي يظنون كل صيحة يسمعونها كائنة عليهم و المعنى يحسبون أنها مهلكتهم و أنهم هم المقصودون بها جبنا و وجلا و ذلك مثل أن ينادي مناد في العسكر أو يصيح أحد بصاحبه أو انفلتت دابة أو أنشدت ضالة و قيل معناه إذا سمعوا صيحة ظنوا أنها آية منزلة في شأنهم و في الكشف عن حالتهم لما عرفوا من الغش و الخيانة في صدورهم و لذلك قيل المريب خائف ثم أخبر سبحانه بعداوتهم فقال «هُمُ الْعَدُوُّ» لك و للمؤمنين في الحقيقة «فَاحْذَرْهُمْ» أن تأمنهم على سرك و توقهم «قاتَلَهُمُ اللَّهُ» أي أخزاهم و لعنهم و قيل أنه دعاء عليهم بالهلاك لأن من قاتله الله فهو مقتول و من غالبه فهو مغلوب «أَنَّى يُؤْفَكُونَ» أي أنى يصرفون عن الحق مع كثرة الدلالات و هذا توبيخ و تقريع و ليس باستفهام عن أبي مسلم و قيل معناه كيف يكذبون من الإفك «وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا» أي هلموا «يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ» أي أكثروا تحريكها بالهزء لها استهزاء بدعائهم إلى ذلك و قيل أمالوها إعراضا عن الحق و كراهة لذكر النبي ص و ذلك لكفرهم و استكبارهم «وَ رَأَيْتَهُمْ» يا محمد «يَصُدُّونَ» عن سبيل [الله‏] الحق «وَ هُمْ مُسْتَكْبِرُونَ» أي متكبرون مظهرون أنه لا حاجة لهم إلى الاستغفار.

440
مجمع البيان في تفسير القرآن10

سورة المنافقون الآيات 6 الى 11 ص 441

[سورة المنافقون (63): الآيات 6 الى 11]
سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (6) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى‏ مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَ لِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَ لِلَّهِ الْعِزَّةُ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ لكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ (8) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَ لا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (9) وَ أَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى‏ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَ أَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10)
وَ لَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَ اللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (11)

القراءة
قرأ أبو عمرو و أكون بالنصب و الباقون «وَ أَكُنْ» بالجزم و قرأ حماد و يحيى بما يعلمون بالياء و الباقون بالتاء.
الحجة
من قرأ «وَ أَكُنْ» عطفه على موضع قوله «فَأَصَّدَّقَ» لأنه في موضع فعل مجزوم أ لا ترى أنك إذا قلت أخرني أصدق كان جزما بأنه جواب الجزاء و قد أغنى السؤال عن ذكر الشرط و التقدير أخرني فإنك إن تؤخرني أصدق فلما كان الفعل المنتصب بعد الفاء في موضع فعل مجزوم بأنه جواب الشرط حمل قوله «وَ أَكُنْ» عليه و مثل ذلك قوله «مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَ يَذَرُهُمْ» لما كان فلا هادي له في موضع فعل مجزوم حمل و يذرهم عليه و مثل ذلك قول الشاعر:
         فأبلوني بليتكم لعلي             أصالحكم و ستدرج نويا
حمل و استدرج على موضع الفاء المحذوفة و ما بعدها من لعلي و كذلك قوله:
         أيا سلكت فإنني لك كاشح             و على انتقاصك في الحياة و ازدد
حمل و ازدد على موضع الفاء و ما بعدها و أما قول أبي عمرو و أكون فإنما حمله على اللفظ دون الموضع و كان الحمل على اللفظ أولى لظهوره في اللفظ و قربه و زعموا أن في‏

441
مجمع البيان في تفسير القرآن10

الحجة ص 441

حرف أبي فأتصدق و أكون و من قرأ بما يعملون بالياء فعلى قوله «وَ لَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً» لأن النفس و إن كان واحدا في اللفظ فالمراد به الكثرة و من قرأ بالتاء كان خطابا شائعا.
اللغة
الانفضاض التفرق و فض الكتاب إذا فرقه و نشره و سميت الفضة فضة لتفرقها في أثمان الأشياء المشتراة و كل شي‏ء يشغلك عن شي‏ء فقد ألهاك عنه قال:
         ألهى بني جشم عن كل مكرمة             قصيدة قالها عمرو بن كلثوم‏
و قال امرؤ القيس:
         فمثلك حبلى قد طرقت و مرضع             فألهيتها عن ذي تمائم محول‏
النزول‏
نزلت الآيات في عبد الله بن أبي المنافق و أصحابه و ذلك‏
أن رسول الله ص بلغه أن بني المصطلق يجتمعون لحربه و قائدهم الحرث بن أبي ضرار أبو جويرية زوج النبي ص فلما سمع بهم رسول الله ص خرج إليهم حتى لقيهم على ماء من مياههم يقال له المريسيع من ناحية قديد إلى الساحل فتزاحف الناس و اقتتلوا فهزم الله بني المصطلق و قتل منهم من قتل و نفل رسول الله ص أبناءهم و نساءهم و أموالهم فبينا الناس على ذلك الماء إذ وردت واردة الناس و مع عمر بن الخطاب أجير له من بني غفار يقال له جهجاه بن سعيد يقود له فرسه فازدحم جهجاه و سنان الجهني من بني عوف بن خزرج على الماء فاقتتلا فصرخ الجهني يا معشر الأنصار و صرخ الغفاري يا معشر المهاجرين فأعان الغفاري رجل من المهاجرين يقال له جعال و كان فقيرا فقال عبد الله بن أبي لجعال إنك لهتاك فقال و ما يمنعني أن أفعل ذلك و اشتد لسان جعال على عبد الله فقال عبد الله و الذي يحلف به لآزرنك و يهمك غير هذا و غضب ابن أبي و عنده رهط من قومه فيهم زيد بن أرقم حديث السن فقال ابن أبي قد نافرونا و كاثرونا في بلادنا و الله ما مثلنا و مثلهم إلا كما قال القائل سمن كلبك يأكلك أما و الله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل يعني بالأعز نفسه و بالأذل رسول الله ص ثم أقبل على من حضره من قومه فقال هذا ما فعلتم بأنفسكم أحللتموهم بلادكم و قاسمتوهم أموالكم أما و الله لو أمسكتم عن جعال و ذويه فضل الطعام لم يركبوا رقابكم و لأوشكوا أن يتحولوا من بلادكم و يلحقوا بعشائرهم و مواليهم فقال زيد بن أرقم أنت و الله الذليل القليل المبغض في قومك و محمد ص في عز من الرحمن و مودة من المسلمين و الله لا أحبك بعد كلامك هذا فقال عبد الله اسكت فإنما كنت ألعب فمشى زيد بن أرقم إلى رسول الله ص‏

442
مجمع البيان في تفسير القرآن10

النزول ص 442

و ذلك بعد فراغه من الغزو فأخبره الخبر فأمر رسول الله ص بالرحيل و أرسل إلى عبد الله فأتاه فقال ما هذا الذي بلغني عنك فقال عبد الله و الذي أنزل عليك الكتاب ما قلت شيئا من ذلك قط و إن زيدا لكاذب و قال من حضر من الأنصار يا رسول الله شيخنا و كبيرنا لا تصدق عليه كلام غلام من غلمان الأنصار عسى أن يكون هذا الغلام وهم في حديثه فعذره رسول الله ص و فشت الملامة من الأنصار لزيد و لما استقل رسول الله ص فسار لقيه أسيد بن الحضير فحياه بتحية النبوة ثم قال يا رسول الله لقد رحت في ساعة منكرة ما كنت تروح فيها فقال له رسول الله ص أ و ما بلغك ما قال صاحبكم زعم أنه إن رجع إلى المدينة أخرج الأعز منها الأذل فقال أسيد فأنت و الله يا رسول الله تخرجه إن شئت هو و الله الذليل و أنت العزيز ثم قال يا رسول الله ارفق به فو الله لقد جاء الله بك و إن قومه لينظمون له الخرز ليتوجوه و إنه ليرى أنك قد استلبته ملكا و بلغ عبد الله بن عبد الله بن أبي ما كان من أمر أبيه فأتى رسول الله ص فقال يا رسول الله أنه قد بلغني أنك تريد قتل أبي فإن كنت لا بد فاعلا فمرني به فأنا أحمل إليك رأسه فو الله لقد علمت الخزرج ما كان بها رجل أبر بوالديه مني و أني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله فلا تدعني نفسي أن أنظر إلى قاتل عبد الله بن أبي أن يمشي في الناس فأقتله فأقتل مؤمنا بكافر فأدخل النار فقال بل ترفق به و تحسن صحبته ما بقي معنا قالوا و سار رسول الله ص بالناس يومهم ذلك حتى أمسى و ليلتهم حتى أصبح و صدر يومهم ذلك حتى آذتهم الشمس ثم نزل بالناس فلم يكن إلا أن وجدوا مس الأرض وقعوا نياما إنما فعل ذلك ليشغل الناس عن الحديث الذي خرج من عبد الله بن أبي ثم راح بالناس حتى نزل على ماء بالحجاز فويق البقيع يقال له بقعاء فهاجت ريح شديدة آذتهم و تخوفوها و ضلت ناقة رسول الله ص و ذلك ليلا فقال مات اليوم منافق عظيم النفاق بالمدينة قيل من هو قال رفاعة فقال رجل من المنافقين كيف يزعم أنه يعلم الغيب و لا يعلم مكان ناقته أ لا يخبره الذي يأتيه بالوحي فأتاه جبريل فأخبره بقول المنافق و بمكان الناقة و أخبر رسول الله ص بذلك أصحابه و قال ما أزعم أني أعلم الغيب و ما أعلمه و لكن الله تعالى أخبرني بقول المنافق و بمكان ناقتي هي في الشعب فإذا هي كما قال فجاءوا بها و آمن ذلك المنافق فلما قدموا المدينة وجدوا رفاعة بن زيد في التابوت أحد بني قينقاع و كان من عظماء اليهود و قد مات ذلك اليوم قال زيد بن أرقم فلما وافى رسول الله ص المدينة جلست في البيت لما بي من الهم و الحياء فنزلت سورة المنافقين في تصديق زيد و تكذيب عبد الله بن أبي ثم أخذ رسول الله ص بإذن زيد فرفعه عن‏

443
مجمع البيان في تفسير القرآن10

النزول ص 442

الرحل ثم قال يا غلام صدق فوك و وعت أذناك و وعى قلبك و قد أنزل الله فيما قلت قرآنا و كان عبد الله بن أبي بقرب المدينة فلما أراد أن يدخلها جاءه ابنه عبد الله بن عبد الله بن أبي حتى أناخ على مجامع طرق المدينة فقال ما لك ويلك قال و الله لا تدخلها إلا بإذن رسول الله و لتعلمن اليوم من الأعز من الأذل فشكا عبد الله ابنه إلى رسول الله ص فأرسل إليه أن خل عنه يدخل فقال أما إذا جاء أمر رسول الله ص فنعم فدخل فلم يلبث إلا أياما قلائل حتى اشتكى و مات فلما نزلت هذه الآيات و بان كذب عبد الله قيل له نزل فيك آي شداد فاذهب إلى رسول الله ص يستغفر لك فلوى رأسه ثم قال أمرتموني أن أومن فقد آمنت و أمرتموني أن أعطي زكاة مالي فقد أعطيت فما بقي إلا أن أسجد لمحمد فنزل «وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا» إلى قوله «وَ لكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ».
المعنى‏
ثم ذكر سبحانه أن استغفاره لا ينفعهم فقال «سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ» أي يتساوى الاستغفار لهم و عدم الاستغفار «لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ» لأنهم يبطنون الكفر و إن أظهروا الإيمان «إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ» أي لا يهدي القوم الخارجين عن الدين و الإيمان إلى طريق الجنة قال الحسن أخبره سبحانه أنهم يموتون على الكفر فلم يستغفر لهم و قد كان النبي ص يستغفر لهم على ظاهر الحال بشرط حصول التوبة و أن يكون الباطن مثل الظاهر فبين الله تعالى أن ذلك لا ينفعهم مع إبطانهم الكفر و النفاق ثم قال سبحانه «هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى‏ مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ» من المؤمنين المحتاجين «حَتَّى يَنْفَضُّوا» أي يتفرقوا عنه و إنما قالوا هم من عند محمد ص و لكن الله سبحانه سماه رسول الله ص تشريفا له و تعظيما لقدره «وَ لِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ» و ما بينهما من الأرزاق و الأموال و الأغلاق فلو شاء لأغناهم و لكنه تعالى يفعل ما هو الأصلح لهم و يمتحنهم بالفقر و يتعبدهم بالصبر ليصبروا فيؤجروا و ينالوا الثواب و كريم المآب «وَ لكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ» ذلك على الحقيقة لجهلهم بوجوه الحكمة و قيل لا يفقهون أن أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون «يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ» من غزوة بني المصطلق «لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ» يعنون نفوسهم «مِنْهَا الْأَذَلَّ» يعنون رسول الله ص و المؤمنين فرد الله سبحانه عليهم بأن قال «وَ لِلَّهِ الْعِزَّةُ وَ لِرَسُولِهِ» بإعلاء الله كلمته و إظهاره دينه على الأديان «وَ لِلْمُؤْمِنِينَ» بنصرته إياهم في الدنيا و إدخالهم الجنة في العقبي و قيل و لله العزة بالربوبية و لرسوله بالنبوة و للمؤمنين بالعبودية أخبر سبحانه بذلك ثم حققه بأن أعز رسوله و المؤمنين و فتح عليهم مشارق الأرض و مغاربها و قيل عز الله خمسة عز الملك و البقاء و عز العظمة و الكبرياء و عز البذل و العطاء و عز الرفعة و العلاء و عز الجلال و البهاء و عز الرسول خمسة عز

444
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 444

السبق و الابتداء و عز الأذان و النداء و عز قدم الصدق على الأنبياء و عز الاختيار و الاصطفاء و عز الظهور على الأعداء و عز المؤمنين خمسة عز التأخير بيانه نحن الآخرون السابقون و عز التيسير بيانه وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ* يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ و عز التبشير، بيانه وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً و عز التوقير، بيانه وَ أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ* و عز التكثير، بيانه أنهم أكثر الأمم «وَ لكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ» فيظنون أن العزة لهم و ذلك لجهلهم بصفات الله تعالى و ما يستحقه أولياؤه و وجه الجمع بين هذه الآية و بين قوله فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً أن عز الرسول و المؤمنين من جهته عز اسمه و إنما يحصل به و بطاعته فلله العز بأجمعه ثم خاطب سبحانه المؤمنين فقال «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ» أي لا تشغلكم «أَمْوالُكُمْ وَ لا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ» أي عن الصلوات الخمس المفروضة و قيل ذكر الله جميع طاعاته عن أبي مسلم و قيل ذكره شكره على نعمائه و الصبر على بلائه و الرضاء بقضائه و هو إشارة إلى أنه لا ينبغي أن يغفل المؤمن عن ذكر الله في بؤس كان أو نعمة فإن إحسانه في الحالات لا ينقطع «وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ» أي من يشغله ماله و ولده عن ذكر الله «فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ» خسروا ثواب الله و رحمته «وَ أَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ» في سبيل البر فيدخل فيه الزكوات و سائر الحقوق الواجبة «مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ» أي أسباب الموت «فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى‏ أَجَلٍ قَرِيبٍ» أي هلا أخرتني و ذلك إذا عاين علامات الآخرة فيسأل الرجعة إلى الدنيا ليتدارك الفائت قالوا و ليس في الزجر عن التفريط في حقوق الله آية أعظم من هذه و قوله «إِلى‏ أَجَلٍ قَرِيبٍ» أي مثل ما أجلت لي في دار الدنيا «فَأَصَّدَّقَ» أي فأتصدق و أزكي مالي و أنفقه في سبيل الله «وَ أَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ» أي من الذين يعملون الأعمال الصالحة و قيل من الصالحين أي من المؤمنين و الآية في المنافقين عن مقاتل و قيل من المطيعين لله و الآية في المؤمنين عن ابن عباس قال ما من أحد يموت و كان له مال فلم يؤد زكاته و أطاق الحج فلم يحج إلا سأل الرجعة عند الموت قالوا يا ابن عباس اتق الله فإنما نرى هذا الكافر يسأل الرجعة فقال أنا أقرأ عليكم قرآنا ثم قرأ هذه الآية إلى قوله‏
«مِنَ الصَّالِحِينَ» قال الصلاح هنا الحج و روي ذلك عن أبي عبد الله (ع)
«وَ لَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها» يعني الأجل المطلق الذي حكم بأن الحي يموت عنده و الأجل المقيد هو الأجل المحكوم بأن العبد يموت عنده إن لم يقتطع دونه أو لم يزد عليه أو لم ينقص منه على ما يعلمه الله من المصلحة «وَ اللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ» أي عليم بأعمالكم يجازيكم بها.
النظم‏
وجه اتصال هذه الآية الأخيرة بما قبلها أن معناه أنه سبحانه لو علم أنكم تتوبون لجعل في أجلكم تأخيرا إلى وقت آخر و لكنه علم أنكم لا تتوبون.

445
مجمع البيان في تفسير القرآن10

سورة التغابن مدنية و آياتها ثماني عشرة ص 446

(64) سورة التغابن مدنية و آياتها ثماني عشرة (18)
[توضيح‏]
و قال ابن عباس مكية غير ثلاث آيات من آخرها نزلن بالمدينة «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ» إلى آخر السورة.
عدد آيها
ثماني عشرة آية بالإجماع.
فضلها
أبي بن كعب عن النبي ص قال و من قرأ سورة التغابن دفع عنه موت الفجأة.
ابن أبي العلاء عن أبي عبد الله (ع) قال من قرأ سورة التغابن في فريضته كانت شفيعة له يوم القيامة و شاهد عدل عند من يجيز شهادتها ثم لا تفارقه حتى يدخل الجنة.
تفسيرها
لما ختم الله تعالى تلك السورة بذكر الأمر بالطاعة و النهي عن المعصية افتتح هذه السورة ببيان حال المطيع و العاصي فقال:

446
مجمع البيان في تفسير القرآن10

سورة التغابن الآيات 1 الى 5 ص 447

[سورة التغابن (64): الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏
يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَ لَهُ الْحَمْدُ وَ هُوَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَ مِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَ صَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَ ما تُعْلِنُونَ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (4)
أَ لَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (5)

المعنى‏                                                                                                                                                                                                                                 «يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ» تسبيح المكلفين بالقول و تسبيح الجمادات بالدلالة «لَهُ الْمُلْكُ» منفردا دون غيره و الألف و اللام لاستغراق الجنس و المعنى أنه المالك لجميع ذلك و المتصرف فيه كيف يشاء «وَ لَهُ الْحَمْدُ» على جميع ذلك لأن خلق ذلك أجمع- الغرض فيه الإحسان إلى خلقه و النفع لهم به فاستحق بذلك الحمد و الشكر «وَ هُوَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ» يوجد المعدوم و يفني الموجود و يغير الأحوال كما يشاء «هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ» أي أنشأكم و أوجدكم عن عدم كما أراد و الخطاب للمكلفين عن الجبائي و قيل بل هو عام و قد تم الكلام هنا ثم ابتدأ فقال «فَمِنْكُمْ كافِرٌ» لم يقر بأن الله خلقه كالدهرية «وَ مِنْكُمْ مُؤْمِنٌ» مقر بأن الله خلقه عن الزجاج و قيل معناه فمنكم كافر في السر مؤمن في العلانية كالمنافقين و منكم مؤمن في السر كافر في العلانية كعمار و ذويه عن الضحاك و قيل فمنكم كافر بالله مؤمن بالكواكب و منكم مؤمن بالله كافر بالكواكب يريد في شأن الأنواء عن عطاء بن أبي رباح و المراد بالآية ظاهر فلا معنى للاسترواح إلى مثل هذه التأويلات و المعنى أن المكلفين جنسان منهم كافر فيدخل فيه أنواع الكفر و منهم مؤمن و لا يجوز حمله على أنه سبحانه خلقهم مؤمنين و كافرين لأنه لم يقل كذلك بل أضاف الكفر و الإيمان إليهم و إلى فعلهم و لدلالة العقول على أن ذلك يقع على حسب قصودهم و أفعالهم و لذلك يصح الأمر و النهي و الثواب و العقاب و بعثة الأنبياء على أنه سبحانه لو جاز أن يخلق الكفر و القبائح لجاز أن يبعث رسولا يدعو إلى الكفر و الضلال و يؤيده بالمعجزات تعالى عن ذلك و تقدس هذا و قد قال تعالى فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها و
قال النبي ص كل مولود يولد على الفطرة
تمام الخبر و
قال ص حكاية عن الله سبحانه خلقت عبادي كلهم حنفاء
و نحو ذلك من الأخبار كثير «وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» أي خلق الكافر و هو عالم بما يكون منه من الكفر و خلق المؤمن و هو عالم بما يكون منه من الإيمان فيجازيهما على حسب أعمالهما «خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ» أي بالعدل و بأحكام الصنعة و صحة التقدير و قيل معناه للحق و هو أن خلق العقلاء تعريضا إياهم للثواب العظيم و خلق ما عداهم تبعا لهم لما في خلقهما لهم من اللطف «وَ صَوَّرَكُمْ» يعني البشر كلهم «فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ» من حيث‏

447
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 447

الحكمة و قبول العقل لا قبول الطبع لأن في جملتهم من ليس على هذه الصفة و قيل فأحسن صوركم من حيث قبول الطبع لأن ذلك هو المفهوم من حسن الصور فهو كقوله «لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ» و إن كان في جملتهم من هو مشوه الخلق لأن ذلك عارض لا يعتد به في هذا الوصف فالله سبحانه خلق الإنسان على أحسن صور الحيوان كله و الصورة عبارة عن بنية مخصوصة «وَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ» أي إليه المرجع و المال يوم القيامة «يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَ ما تُعْلِنُونَ» أي ما يسره بعضكم إلى بعض و ما يخفيه في صدره عن غيره و الفرق بين الإسرار و الإخفاء أن الإخفاء أعم لأنه قد يخفي شخصه و يخفي المعنى في نفسه و الأسرار يكون في المعنى دون الشخص «وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ» أي بأسرار الصدور و بواطنها ثم أخبر سبحانه أن القرون الماضية جوزوا بأعمالهم فقال «أَ لَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ» أي من قبل هؤلاء الكفار «فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ» أي وخيم عاقبة كفرهم و ثقل أمرهم بما نالهم من العذاب بالإهلاك و الاستئصال «وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» أي مؤلم يوم القيامة.

448
مجمع البيان في تفسير القرآن10

سورة التغابن الآيات 6 الى 10 ص 449

[سورة التغابن (64): الآيات 6 الى 10]
ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَ بَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وَ تَوَلَّوْا وَ اسْتَغْنَى اللَّهُ وَ اللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6) زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى‏ وَ رَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ النُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَ يَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ (10)
القراءة
قرأ رويس عن يعقوب يوم نجمعكم بالنون و الباقون بالياء و قرأ أهل المدينة و ابن عامر نكفر عنه و ندخله بالنون فيهما و الباقون بالياء.
الحجة
حجة الياء أن الاسم الظاهر قد تقدم و وجه النون أنه كقوله «سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى‏ بِعَبْدِهِ» ثم جاء وَ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ.
الإعراب‏
 «ذلِكَ بِأَنَّهُ» الهاء ضمير الأمر و الشأن. «أَ بَشَرٌ» مبتدأ و إنما جاز أن يكون مبتدأ مع كونه نكرة لأن الاستفهام سوغ ذلك كما أن النفي أيضا كذلك لكونهما غير موجبين يقال أ رجل في الدار أم امرأة و لا رجل في الدار و لا امرأة و قيل أنه فاعل فعل مضمر يفسره قوله «يَهْدُونَنا» كأنه قال أ يهدينا بشر يهدوننا و إنما أضمر لأن الاستفهام بالفعل أولى و قوله «أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا» تقديره أنهم لن يبعثوا فسدت الجملة عن المفعولين بما جرى فيها من ذكر الحديث و المحدث عنه و لما كان لن في «لَنْ يُبْعَثُوا» دليل الاستقبال تعينت أن قبلها لأن تكون مخففة من الثقيلة لأن لن يمنعها من أن تكون ناصبة للفعل يوم نجمعكم ظرف لتبعثن.
المعنى‏
لما قرر سبحانه خلقه بأنهم أتيهم أخبار من مضى من الكفار و إهلاكهم عقبه ببيان سبب إهلاكهم فقال «ذلِكَ» أي ذلك العذاب الذي نالهم في الدنيا و الذي ينالهم في الآخرة «بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ» أي بسبب أنه كانت تجيئهم «رُسُلُهُمْ» من عند الله «بِالْبَيِّناتِ» أي بالدلالات الواضحات و المعجزات الباهرات «فَقالُوا» لهم «أَ بَشَرٌ يَهْدُونَنا» لفظه واحد و المراد به الجمع على طريق الجنس بدلالة قوله «يَهْدُونَنا» و المعنى أ خلق مثلنا يهدوننا إلى الحق و يدعوننا إلى غير دين آبائنا استصغارا منهم للبشر أن يكونوا رسلا من الله إلى أمثالهم و استكبارا و أنفة من اتباعهم «فَكَفَرُوا» بالله و جحدوا رسله «وَ تَوَلَّوْا» أي أعرضوا عن القبول منهم و التفكر في آياتهم «وَ اسْتَغْنَى اللَّهُ» بسلطانه عن طاعة عباده و إنما كلفهم لنفعهم لا لحاجة منه إلى عبادتهم و قيل معناه و استغنى الله بما أظهره لهم من البرهان و أوضحه من البيان عن زيادة تدعو إلى الرشد و تهدي إلى الإيمان «وَ اللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ» أي غني عن أعمالكم مستحمد إليكم بما ينعم به عليكم و قيل حميد أي محمود في جميع أفعاله لأنها كلها إحسان ثم حكى سبحانه ما يقوله الكفار فقال «زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا» قال ابن عمر زعم زاملة الكذب و قال شريح زعم كنية الكذب‏

449
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 449

بين الله سبحانه بعض ما لأجله اختاروا الكفر على الإيمان و هو أنهم كانوا لا يقرون بالبعث و النشور فأمر النبي ص بأن يكذبهم فقال «قُلْ» يا محمد «بَلى‏ وَ رَبِّي» أي و حق ربي على وجه القسم «لَتُبْعَثُنَّ» أي لتحشرن أكد تكذيبهم بقوله «بَلى‏» و باليمين ثم أكد اليمين باللام و النون «ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ» أي لتخبرن و تحاسبن بأعمالكم و تجازون عليها «وَ ذلِكَ» البعث و الحساب مع الجمع و الجزاء «عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ» أي سهل هين لا يلحقه مشقة و لا معاناة فيه «فَآمِنُوا» معاشر العقلاء «بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ النُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا» و هو القرآن سماه نورا لما فيه من الأدلة و الحجج الموصلة إلى الحق فشبه بالنور الذي يهتدى به إلى الطريق «وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ» أي عليم «يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ» و هو يوم القيامة أي ذلك البعث و الجزاء يكون في يوم يجمع فيه خلق الأولين و الآخرين «ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ» و هو تفاعل من الغبن و هو أخذ شر و ترك خير أو أخذ خير و ترك شر فالمؤمن ترك حظه من الدنيا و أخذ حظه من الآخرة فترك ما هو شر له و أخذ ما هو خير له فكان غابنا و الكافر ترك حظه من الآخرة و أخذ حظه من الدنيا فترك الخير و أخذ الشر فكان مغبونا فيظهر في ذلك اليوم الغابن و المغبون و قيل يوم التغابن غبن أهل الجنة أهل النار عن قتادة و مجاهد و
قد روي عن النبي ص في تفسير هذا قوله ما من عبد مؤمن يدخل الجنة إلا أري مقعده من النار لو أساء ليزداد شكرا و ما من عبد يدخل النار إلا أري مقعده من الجنة لو أحسن ليزداد حسرة
 «وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَ يَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ» أي معاصيه «وَ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً» أي مؤبدين فيها و لا يفنى ما هم فيه من النعيم أبدا «ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» أي النجاح الذي ليس وراءه شي‏ء من العظمة «وَ الَّذِينَ كَفَرُوا» بالله «وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا» أي بحججنا و دلائلنا «أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ» أي المال و المرجع.

450
مجمع البيان في تفسير القرآن10

سورة التغابن الآيات 11 الى 18 ص 451

[سورة التغابن (64): الآيات 11 الى 18]
ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَلِيمٌ (11) وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى‏ رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (12) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَ أَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَ إِنْ تَعْفُوا وَ تَصْفَحُوا وَ تَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَ أَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَ اللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15)
فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَ اسْمَعُوا وَ أَطِيعُوا وَ أَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ وَ اللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)

القراءة
في الشواذ قراءة طلحة بن مصرف نهد قلبه بالنون و قراءة السلمي يهد قلبه بضم الياء و الباء على ما لم يسم فاعله و قراءة عكرمة و عمرو بن دينار يهدأ قلبه مهموزا و قراءة مالك بن دينار يهدا بالألف.
الحجة
من قرأ يهدأ مهموزا فمعناه يطمئن قلبه كما قال سبحانه وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ و من قرأ بالألف فإنه لين الهمز تخفيفا.
النزول‏
نزل قوله «مِنْ أَزْواجِكُمْ وَ أَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ» في قوم أرادوا الهجرة فثبطهم نساؤهم و أولادهم عنها عن ابن عباس و مجاهد.
المعنى‏
ثم قال سبحانه «ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ» أي ليس تصيبكم مصيبة «إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ» و المصيبة المضرة التي تلحق صاحبها كالرمية التي تصيبها و إنما عم ذلك سبحانه و إن كان في المصائب ما هو ظلم و هو سبحانه لا يأذن بالظلم لأنه ليس منها إلا ما أذن الله في وقوعه أو التمكن منه و ذلك إذن للملك الموكل به كأنه قيل لا يمنع من وقوع هذه المصيبة و قد يكون ذلك بفعل التمكين من الله فكأنه يأذن له بأن يكون و قيل معناه إلا بتخلية الله بينكم و بين من يريد فعلها عن البلخي و قيل أنه خاص فيما يفعله الله تعالى أو يأمر به و قيل معناه بعلم الله أي لا يصيبكم مصيبة إلا و الله عالم بها «وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ» أي يصدق به و يرخي بقضائه «يَهْدِ قَلْبَهُ» أي يهد الله قلبه حتى يعلم أن ما أصابه فبعلم الله فيصبر عليه و لا يجزع لينال الثواب و الأجر و قيل معناه و من يؤمن بتوحيد الله و يصبر لأمر الله يعني عند نزول المصيبة يهد قلبه للاسترجاع حتى يقول إنا لله و إنا إليه راجعون عن ابن عباس. و قيل إن المعنى يهد

451
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 451

قلبه فإن ابتلي صبر و إن أعطي شكر و إن ظلم غفر عن مجاهد و قال بعضهم في معناه من يؤمن بالله عند النعمة فيعلم أنها فضل من الله يهد قلبه للشكر و من يؤمن بالله عند البلاء فيعلم أنه عدل من الله يهد قلبه للصبر و من يؤمن بالله عند نزول القضاء يهد قلبه للاستسلام و الرضاء «وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَلِيمٌ» فيجازي كل امرئ بما عمله «وَ أَطِيعُوا اللَّهَ» في جميع ما أمركم به «وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ» في جميع ما أتاكم به و دعاكم إليه و فيما أمركم به و نهاكم عنه «فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ» أي فإن أعرضتم عن القبول منه «فَإِنَّما عَلى‏ رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ» أي ليس عليه إلا تبليغ الرسالة و قد فعل و المراد ليس عليه قهركم على الرد إلى الحق و إنما عليه البلاغ الظاهر البين فحذف للإيجاز و الاختصار «اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ» و لا تحق العبادة إلا له «وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ» و التوكل تفويض الأمور إليه و الرضاء بتقديره و الثقة بتدبيره و قد أمر الله عباده بذلك فينبغي لهم أن يستشعروا ذلك في سائر أحوالهم «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَ أَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ» يعني أن بعضهم بهذه الصفة و لذلك أتى بلفظة من و هي للتبعيض يقول أن من هؤلاء من هو عدو لكم في الدين فاحذروهم أن تطيعوهم و قيل إنه سبحانه إنما قال ذلك لأن من الأزواج من يتمنى موت الزوج و من الأولاد من يتمنى موت الوالد ليرث ماله و ما من عدو أعدى ممن يتمنى موت غيره ليأخذ ماله و كذلك يكون من يحملك على معصية الله لمنفعة نفسه و لا عدو أشد عداوة ممن يختار ضررك لمنفعته قال عطاء يعني قوما أرادوا الغزو فمنعهم هؤلاء و قال مجاهد يريد قوما أرادوا طاعة الله فمنعوهم «وَ إِنْ تَعْفُوا» أي تتركوا عقابهم «وَ تَصْفَحُوا وَ تَغْفِرُوا» أي تتجاوزوا عنهم و تستروا ما سبق منهم إن عادوا إلى الحالة الجميلة و ذلك أن الرجل من هؤلاء إذا هاجر و رأى الناس قد سبقوه بالهجرة و فقهوا في الدين هم أن يعاقب زوجته و ولده الذين ثبطوه عن الهجرة و أن يلحقوا به في دار الهجرة لم ينفق عليهم فأمر سبحانه بالعفو و الصفح «فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» يغفر لكم ذنوبكم و يرحمكم و قيل هو عام أي إن تعفوا و تصفحوا عمن ظلمكم فإن الله يغفر بذلك كثيرا من ذنوبكم عن الجبائي «إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَ أَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ» أي محنة و ابتلاء و شدة للتكليف عليكم و شغل عن أمر الآخرة فإن الإنسان بسبب المال و الولد يقع في الجرائم عن ابن مسعود قال لا يقولن أحدكم اللهم إني أعوذ بك من الفتنة فإنه ليس أحد منكم يرجع إلى مال و أهل و ولد إلا و هو مشتمل على فتنة و لكن ليقل اللهم إني أعوذ بك من مضلات الفتن. و
روى عبد الله بن بريدة عن أبيه قال كان رسول الله ص يخطب فجاء الحسن و الحسين (ع) و عليهما قميصان أحمران يمشيان و يعثران فنزل رسول الله ص إليهما فأخذهما فوضعهما في حجره على المنبر و قال صدق الله عز و جل «إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَ أَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ»

452
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 451

نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان و يعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي و رفعتهما ثم أخذ في خطبته‏
 «وَ اللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ» أي ثواب جزيل و هو الجنة يعني فلا تعصوه بسبب الأموال و الأولاد و لا تؤثروهم على ما عند الله من الأجر و الذخر «فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ» أي ما أطقتم و الاتقاء الامتناع من الردى باجتناب ما يدعو إليه الهوى و لا تنافي بين هذا و بين قوله «اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ» لأن كل واحد منهما إلزام لترك جميع المعاصي فمن فعل ذلك فقد اتقى عقاب الله لأن من لم يفعل قبيحا و لا أخل بواجب فلا عقاب عليه إلا أن في أحد الكلامين تبيينا أن التكليف لا يلزم العبد إلا فيما يطيق و كل أمر أمر الله به فلا بد أن يكون مشروطا بالاستطاعة و قال قتادة قوله «فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ» ناسخ لقوله «اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ» و كأنه يذهب إلى أن فيه رخصة لحال التقية و ما جرى مجراها مما يعظم فيه المشقة و إن كانت القدرة حاصلة معه و قال غيره ليس هذا بناسخ و إنما هو مبين لإمكان العمل بهما جميعا و هو الصحيح «وَ اسْمَعُوا» من الرسول ما يتلو عليكم و ما يعظكم به و يأمركم و ينهاكم «وَ أَطِيعُوا» الله و الرسول «وَ أَنْفِقُوا» من أموالكم في حق الله «خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ» مثله فآمنوا خيرا لكم و انتهوا خيرا لكم و قد مضى ذكر ذلك و قال الزجاج معناه قدموا خيرا لأنفسكم من أموالكم «وَ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ» حتى يعطي حق الله من ماله «فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» أي المنجحون الفائزون بثواب الله و
قال الصادق (ع) من أدى الزكاة فقد وقى شح نفسه‏
 «إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً» قد مضى معناه و إطلاق اسم القرض هنا تلطف في الاستدعاء إلى الإنفاق «يُضاعِفْهُ لَكُمْ» أي يعطي بدله أضعاف ذلك من واحد إلى سبعمائة إلى ما لا يتناهى فإن ثواب الصدقة يدوم «وَ يَغْفِرْ لَكُمْ» ذنوبكم «وَ اللَّهُ شَكُورٌ» أي مثيب مجاز على الشكر «حَلِيمٌ» لا يعاجل العباد بالعقوبة و هذا غاية الكرم «عالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ» أي السر و العلانية و قيل المعدوم و الموجود و قيل غير المحسوس و المحسوس «الْعَزِيزُ» القادر «الْحَكِيمُ» العالم و قيل المحكم لأفعاله.

453
مجمع البيان في تفسير القرآن10

سورة الطلاق مدنية و آياتها اثنتا عشرة ص 454

(65) سورة الطلاق مدنية و آياتها اثنتا عشرة (12)
[توضيح‏]
و تسمى سورة النساء القصرى قال ابن مسعود في حديث العدة من شاء باهلته أن سورة النساء القصرى نزلت بعد قوله «وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً»* و إنما أراد قوله «وَ أُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ» فإذا كانت حاملة فعدتها وضع الحمل و هي مدنية بالإجماع.
عدد آيها
إحدى عشرة آية بصري و اثنتا عشرة آية في الباقين.
اختلافها
ثلاث آيات «يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً» كوفي مكي و المدني الأخير «وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ» شامي «يا أُولِي الْأَلْبابِ» المدني الأول.
فضلها
أبي ابن كعب عن النبي ص قال و من قرأ سورة الطلاق مات على سنة رسول الله ص‏
أبو بصير عن أبي عبد الله (ع) قال من قرأ سورة الطلاق و التحريم في فريضته أعاذه الله تعالى من أن يكون يوم القيامة ممن يخاف أو يحزن و عوفي من النار و أدخله الله الجنة بتلاوته إياهما و محافظته عليهما لأنهما للنبي ص.
تفسيرها
لما ختم الله سورة التغابن بذكر النساء و التحذير منهن افتتح هذه السورة بذكرهن و ذكر أحكامهن و أحكام فراقهن فقال:

454
مجمع البيان في تفسير القرآن10

سورة الطلاق الآيات 1 الى 5 ص 455

[سورة الطلاق (65): الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَ أَحْصُوا الْعِدَّةَ وَ اتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَ لا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَ مَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً (1) فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَ أَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2) وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدْراً (3) وَ اللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَ اللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَ أُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (4)
ذلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَ يُعْظِمْ لَهُ أَجْراً (5)

القراءة
قرأ حفص عن عاصم «بالِغُ» بغير تنوين «أَمْرِهِ» بالجر على الإضافة و الباقون بالغ بالتنوين أمره بالنصب و في الشواذ قراءة داود بن أبي هند أن الله بالغ بالتنوين أمره بالرفع و
روي عن ابن عباس و أبي بن كعب و جابر بن عبد الله و علي بن الحسين (ع) و زيد بن علي و جعفر بن محمد و مجاهد فطلقوهن في قبل عدتهن.
الحجة
قال أبو علي قوله بالغ أمره على سيبلغ أمره فيما يريده فيكم فهذا هو الأصل‏

455
مجمع البيان في تفسير القرآن10

الحجة ص 455

و هو حكاية حال و من أضاف حذف التنوين استخفافا و المعنى معنى ثبات التنوين مثل عارِضٌ مُمْطِرُنا و أما قوله في قبل عدتهن فإنه تفسير للقراءة المشهورة «فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ» أي عند عدتهن و مثله قوله «لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها» أي عند وقتها و من قرأ بالغ أمره فالمعنى أمره بالغ ما يريده الله به و قد بلغ أمر الله ما أراده فالمفعول على ما رأيت محذوف.
الإعراب                                                                                                                                                                                                ‏«وَ اللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ» مبتدأ خبره محذوف لدلالة الكلام عليه فإذا جاز حذف الجملة بأسرها جاز حذف بعضها و قد جاء أيضا في الصفة و إن قل نحو قوله «وَ أُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْ‏ءٍ» تقديره من كل شي‏ء تؤتاه.
المعنى‏
نادى سبحانه نبيه فقال «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ» ثم خاطب أمته فقال «إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ» لأنه السيد المقدم فإذا نودي و خوطب خطاب الجمع كانت أمته داخلة في ذلك الخطاب عن الحسن و غيره و قيل إن تقديره يا أيها النبي قل لأمتك إذا طلقتم النساء عن الجبائي فعلى هذا يكون النبي ص خارجا عن الحكم و على القول الأول حكمه حكم أمته في أمر الطلاق و على هذا انعقد الإجماع و المعنى إذا أردتم طلاق النساء مثل قوله سبحانه إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ و قوله فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ «فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ» أي لزمان عدتهن و ذلك أن يطلقها في طهر لم يجامعها فيه عن ابن عباس و ابن مسعود و الحسن و مجاهد و ابن سيرين و قتادة و الضحاك و السدي فهذا هو الطلاق للعدة لأنها تعتد بذلك الطهر من عدتها و تحصل في العدة عقيب الطلاق فالمعنى فطلقوهن لطهرهن الذي يحصينه من عدتهن و لا تطلقوهن لحيضهن الذي لا يعتددن به من قرئهن فعلى هذا يكون العدة الطهر على ما ذهب إليه أصحابنا و هو مذهب الشافعي و قيل إن المعنى قبل عدتهن أي في طهر لم يجامعها فيه العدة الحيض كما يقال توضأت للصلاة و لبست السلاح للحرب و هو مذهب أبي حنيفة و أصحابه و قيل إن اللام للسبب فكأنه قال فطلقوهن ليعتددن و لا شبهة أن هذا الحكم للمدخول بها لأن المطلقة قبل المسيس لا عدة عليها و قد ورد به التنزيل في سورة الأحزاب و هو قوله فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها و ظاهر الآية يقتضي أنه إذا طلقها في الحيض أو في طهر قد جامعها فيه فلا يقع الطلاق لأن الأمر يقتضي الإيجاب و به قال سعيد بن المسيب و ذهبت إليه الشيعة الإمامية و قال باقي الفقهاء يقع الطلاق و إن كان بدعة و خلاف المأمور به و كذلك أن جمع بين التطليقات الثلاث فإنها بدعة عند أبي حنيفة و أصحابه و إن كانت واقعة و عند المحققين من أصحابنا يقع واحدة عند حصول شرائط صحة الطلاق و الطلاق في الشرع عبارة عن تخلية المرأة بحل عقدة من عقد النكاح و ذلك أن يقول أنت طالق يخاطبها أو يقول هذه طالق و يشير

456
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 456

إليها أو يقول فلانة بنت فلان طالق و لا يقع الطلاق عندنا إلا بهذا اللفظ لا بشي‏ء من كنايات الطلاق سواء أراد بها الطلاق أو لم يرد بها و في تفصيل ذلك اختلافات بين الفقهاء ليس هاهنا موضعه و قد يحصل الفراق بغير الطلاق كالارتداد و اللعان كالخلع عند كثير من أصحابنا و إن لم يسم ذلك طلاقا و يحصل أيضا بالفسخ للنكاح بأشياء مخصوصة و بالرد بالعيب و إن لم يكن ذلك طلاقا و
روى البخاري و مسلم عن قتيبة عن الليث بن سعد عن نافع عن عبد الله بن عمر أنه طلق امرأته و هي حائض تطليقة واحدة فأمر رسول الله ص أن يراجعها ثم يمسكها حتى تطهر و تحيض عنده حيضة أخرى ثم يمهلها حتى تطهر من حيضها فإذا أراد أن يطلقها فليطلقها حين تطهر من قبل أن يجامعها فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن تطلق لها النساء
و
روى البخاري عن سليمان بن حرب و روى مسلم عن عبد الرحمن بن بشر عن بهر و كلاهما عن شعبة عن أنس بن سيرين قال سمعت ابن عمر يقول طلق ابن عمر امرأته و هي حائض فذكر ذلك عمر للنبي ص فقال مرة فليراجعها فإذا طهرت فليطلقها إن شاء
و
جاءت الرواية عن علي بن أبي طالب (ع) عن النبي ص أنه قال تزوجوا و لا تطلقوا فإن الطلاق يهتز منه العرش‏
و
عن ثوبان رفعه إلى النبي ص فقال أيما امرأة سألت زوجها الطلاق في غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة
و
عن أبي موسى الأشعري عن النبي ص قال لا تطلقوا النساء إلا من ريبة فإن الله لا يحب الذواقين و الذواقات‏
و
عن أنس عن النبي ص أنه قال ما حلف بالطلاق و لا استحلف به إلا منافق هذه الأحاديث الأربعة منقولة عن تفسير الثعلبي‏
ثم قال سبحانه «وَ أَحْصُوا الْعِدَّةَ» أي عدوا الأقراء التي تعتد بها و قيل معناه عدوا أوقاف الطلاق لتطلقوا للعدة و إنما أمر الله سبحانه بإحصاء العدة لأن لها فيها حقا و هي النفقة و السكنى و للزوج فيها حقا و هي المراجعة و منعها عن الأزواج لحقه و ثبوت نسب الولد فأمره تعالى بإحصائها ليعلم وقت المراجعة و وقت فوت المراجعة و تحريمها عليه و رفع النفقة و السكنى و لكيلا تطول العدة لاستحقاق زيادة النفقة أو تقصرها لطلب الزوج و العدة هي قعود المرأة عن الزوج حتى تنقضي المدة المرتبة في الشريعة و هي على ضروب فضرب يكون بالأقراء لمن تحيض و ضرب يكون بالأشهر للصغيرة التي لم تبلغ المحيض و مثلها تحيض و هي التي بلغت تسع سنين و إذا كان سنها أقل من ذلك فلا عدة عليها عند أكثر أصحابنا و قال بعضهم عدتها بالشهور و به قال الفقهاء و كذلك الكبيرة الآيسة من المحيض و مثلها تحيض عدتها بالشهور و حده أصحابنا بأن‏

457
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 456

يكون سنها أقل من خمسين سنة و من ستين سنة للقرشيات فإن كان سنها أكثر من ذلك فلا عدة عليها عند أكثر أصحابنا و المتوفى عنها زوجها عدتها بالشهور أيضا و الضرب الثالث من العدة يكون بوضع الحمل في الجميع إلا في المتوفى عنها زوجها فإن عدتها عند أصحابنا أبعد الأجلين و في ذلك اختلاف بين الفقهاء ثم إن عدة الطلاق للحرة ثلاثة قروء أو ثلاثة أشهر و للأمة قرءان أو شهر و نصف و وضع الحمل لا يختلف قال سبحانه «وَ اتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ» و لا تعصوه فيما أمركم به و «لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَ لا يَخْرُجْنَ» هن أيضا يعني في زمان العدة لا يجوز للزوج أن يخرج المطلقة المعتدة من مسكنه الذي كان يسكنها فيه قبل الطلاق و على المرأة أيضا أن لا تخرج في عدتها إلا لضرورة ظاهرة فإن خرجت أثمت «إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ» أي ظاهرة و من قرأ بفتح الياء فالمراد بفاحشة مظهرة أظهرتها و اختلف في الفاحشة فقيل إنها الزنا فتخرج لإقامة الحد عليها عن الحسن و مجاهد و الشعبي و ابن زيد و
قيل هي البذاء على أهلها فيحل لهم إخراجها عن ابن عباس و هو المروي عن أبي جعفر و أبي عبد الله (ع)
و
روى علي بن أسباط عن أبي الحسن الرضا قال الفاحشة أن تؤذي أهل زوجها و تسبهم‏
و قيل هي النشوز فإن طلقها على نشوز فلها أن تتحول من بيت زوجها عن قتادة و قيل هي خروجها قبل انقضاء العدة عن ابن عمر و في رواية أخرى عن ابن عباس أنه قال إن كل معصية لله تعالى ظاهرة فهي فاحشة «وَ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ» يعني ما ذكره سبحانه من أحكام الطلاق و شروطه «وَ مَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ» بأن يطلق على غير ما أمر الله تعالى به «فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ» أي أثم فيما بينه و بين الله عز و جل و خرج عن الطاعة إلى المعصية و فعل ما يستحق به العقاب «لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً» أي بغير رأي الزوج في محبة الطلاق و يوقع في قلبه المحبة لرجعتها فيما بين الطلقة الواحدة و الثانية و فيما بين الثالثة قال الضحاك و السدي و ابن زيد لعل الله يحدث الرجعة في العدة و قال الزجاج و إذا طلقها ثلاثا في وقت واحد فلا معنى له لقوله «لَعَلَّ اللَّهَ» يحدث بعد ذلك أمرا و في هذه الآية دلالة على أن الواجب في التطليق أن يوقع متفرقا و لا يجوز الجمع بين الثلاث لأن الله تعالى أكد قوله «فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ» بقوله «وَ أَحْصُوا الْعِدَّةَ» ثم زاد في التأكيد بقوله «وَ اتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ» فيما حده الله لكم فلا تعتدوه ثم قرر سبحانه حق الزوج في المراجعة بقوله «لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ» فإن الزوجة إذا لم ترم بيتها تمكن الزوج من مراجعتها ثم دل بقوله «وَ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ» على أن من تعدى حدود الله تعالى في الطلاق بطل حكمه و صار قوله «لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً» تأكيدا لحدود الله في الطلاق و إعلاما بأن حق الرجعة لا ينقطع بجمع الطلاق فكأنه قال كونوا على رجاء الفائدة بالرجعة.

458
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 456

فقد يحدث الله الرغبة بعد الطلاق فإن قالوا قد أمر الله سبحانه في الآية بطلاق العدة فكيف تقدمون أنتم طلاق السنة على طلاق العدة فالجواب أن طلاق السنة أيضا طلاق العدة إلا أن أصحابنا رضي الله عنهم قد اصطلحوا على أن يسموا الطلاق الذي لا يزاد عليه بعد المراجعة طلاق السنة و الطلاق الذي يزاد عليه بشرط المراجعة طلاق العدة و مما يعضد ما ذكرته ما اشتهر من الأخبار في كتبهم و رواياتهم و نقل عن متقدميهم مثل زرارة بن أعين و بكير ابن أعين و محمد بن مسلم و غيرهم فمن ذلك‏
ما رواه يونس عن بكير بن أعين عن أبي جعفر (ع) قال الطلاق أن يطلق الرجل المرأة على طهر من غير جماع و يشهد رجلين عدلين على تطليقه ثم هو أحق برجعتها ما لم تمض ثلاثة قروء فهذا الطلاق الذي أمر الله به في القرآن و أمر به رسول الله ص في سنة و كل طلاق لغير مدة فليس بطلاق‏
و
عن جرير قال سألت أبا عبد الله (ع) عن طلاق السنة فقال على طهر من غير جماع بشاهدي عدل و لا يجوز الطلاق إلا بشاهدين و العدة و هو قوله «فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَ أَحْصُوا الْعِدَّةَ» الآية
و روى الحسن بن محبوب عن علي بن رئاب عن زرارة عن أبي جعفر (ع) أنه قال كل طلاق لا يكون على السنة أو طلاق على العدة فليس بشي‏ء قال زرارة قلت لأبي جعفر فسر لي طلاق السنة و طلاق العدة فقال أما طلاق السنة فهو إن الرجل إذا أراد أن يطلق امرأته فلينتظر بها حتى تطمث و تطهر فإذا خرجت من طمثها طلقها تطليقة من غير جماع و يشهد شاهدين عدلين على ذلك ثم يدعها حتى تمضي أقراؤها و قد بانت منه و كان خاطبا من الخطاب إن شاءت تزوجته و إن شاءت لم تتزوجه و عليه نفقتها و السكنى ما دامت في العدة و هما يتوارثان حتى تنقضي العدة و أما طلاق العدة فإذا أراد الرجل أن يطلق امرأته طلاق العدة فلينتظر بها حتى تحيض و تخرج من حيضها ثم يطلقها تطليقة من غير جماع و يشهد شاهدين عدلين و يراجعها من يومه ذلك إن أحب أو بعد ذلك بأيام قبل أن تحيض و يشهد على رجعتها و يواقعها و تكون معه حتى تحيض فإذا حاضت و خرجت من حيضها طلقها تطليقة أخرى من غير جماع و يشهد على ذلك أيضا متى شاء قبل أن تحيض و يشهد على رجعتها و يواقعها و تكون معه حتى تحيض الحيضة الثالثة فإذا خرجت من حيضها طلقها الثالثة بغير جماع و يشهد على ذلك فإذا فعل ذلك فقد بانت منه و لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره‏
و الروايات في هذا كثيرة عن أئمة الهدى (ع) فعلى هذا فإنه يتركها في طلاق السنة حتى تعتد ثلاثة قروء فإذا مضى ثلاثة قروء فإنها تبين منه بواحدة و إذا تزوجها بعد ذلك بمهر جديد كانت عنده على تطليقتين باقيتين فإن طلقها أخرى طلاق السنة و تركها حتى تمضي أقراؤها فلا يراجعها فقد بانت منه باثنتين فإن تزوجها بعد ذلك و طلقها لم تحل له حتى تنكح زوجا غيره و لو شاء أن يراجعها بعد الطلقة الأولى و الثانية لكان ذلك إليه‏

459
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 456

فقد تبين أن هذا الطلاق هو طلاق للعدة أيضا إلا أن الفرق بينهما ما ذكرناه «فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ» معناه فإذا قاربن أجلهن الذي هو الخروج من العدة «فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ» أي راجعوهن بما يجب لهن من النفقة و الكسوة و المسكن و حسن الصحبة «أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ» بأن تتركوهن حتى يخرجن من العدة فتبين منكم و لا يجوز أن يكون المراد بقوله «فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ» إذا انقضى أجلهن لأن الزوج لا يملك الرجعة بعد انقضاء العدة بل هي تملك نفسها و تبين منه بواحدة و لها أن تتزوج من شاءت من الرجال «وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ» قال المفسرون أمروا أن يشهدوا عند الطلاق و عند الرجعة شاهدي عدل حتى لا تجحد المرأة المراجعة بعد انقضاء العدة و لا الرجل الطلاق و
قيل معناه و أشهدوا على الطلاق صيانة لدينكم و هو المروي عن أئمتنا (ع)
و هذا أليق بالظاهر لأنا إذا حملناه على الطلاق كان أمرا يقتضي الوجوب و هو من شرائط صحة الطلاق و من قال إن ذلك راجع إلى المراجعة حمله على الندب «وَ أَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ» هذا خطاب للشهود أي أقيموها لوجه الله و اقصدوا بأدائها التقرب إلى الله لا الطلب لرضا المشهود له و الإشفاق من المشهود عليه «ذلِكُمْ» الأمر بالحق يا معشر المكلفين «يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ» أي يؤمر به المؤمنون لينزجروا به عن الباطل و خص المؤمنين لأنهم الذين انتفعوا به فالطاعة الواجبة فيها وعظ بأن رغب فيها باستحقاق الثواب و في تركها العقاب و المندوبة فيها وعظ باستحقاق المدح و الثواب على فعلها و المعاصي فيها وعظ بالزجر عنها و التخويف من فعلها باستحقاق العقاب و الترغيب في تركها بما يستحق على الإخلال بها من الثواب «وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ» فيما أمره به و نهاه عنه «يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً» من كل كرب في الدنيا و الآخرة عن ابن عباس و
روي عن عطاء بن يسار عن ابن عباس قال قرأ رسول الله ص «وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً» قال من شبهات الدنيا و من غمرات الموت و شدائد يوم القيامة
و عنه قال من أكثر الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجا و من كل ضيق مخرجا
و قيل معناه و من يطلق للسنة يجعل الله له مخرجا في الرجعة «وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ» عن عكرمة و الشعبي و الضحاك و
قيل إنها نزلت في عوف بن مالك الأشجعي أسر العدو ابنا له فأتى النبي ص فذكر له ذلك و شكا إليه الفاقة فقال له اتق الله و اصبر و أكثر من قول لا حول و لا قوة إلا بالله ففعل الرجل ذلك فبينا هو في بيته إذ أتاه ابنه و قد غفل عنه العدو فأصاب إبلا و جاء بها إلى أبيه فذلك قوله «وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ»
و
روي عن الصادق (ع) أنه قال «وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ» أي يبارك له فيما أتاه‏
و
عن أبي ذر الغفاري عن النبي ص قال إني لأعلم آية لو أخذ بها الناس لكفتهم «وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ» الآية فما زال يقولها و يعيدها
 «وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ» أي و من يفوض أمره إلى الله‏

460
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 456

و وثق بحسن تدبيره و تقديره فهو كافيه يكفيه أمر دنياه و يعطيه ثواب الجنة و يجعله بحيث لا يحتاج إلى غيره و
في الحديث من سره أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله‏
 «إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ» أي يبلغ ما أراد من قضاياه و تدابيره على ما أراده و لا يقدر أحد على منعه عما يريده و قيل معناه أنه منفذ أمره فيمن يتوكل عليه و فيمن لم يتوكل عليه «قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدْراً» أي قدر الله لكل شي‏ء مقدارا و أجلا لا زيادة فيها و لا نقصان و قيل بين لكل شي‏ء مقدارا بحسب المصلحة في الإباحة و الإيجاب و الترغيب و الترهيب كما بين في الطلاق و العدة و غيرهما و قيل قد جعل الله لكل شي‏ء من الشدة و الرخاء وقتا و غاية و منتهى ينتهي إليه ثم بين سبحانه اختلاف أحكام العدة باختلاف أحوال النساء فقال «وَ اللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ» فلا يحضن‏
 «إِنِ ارْتَبْتُمْ» فلا تدرون لكبر ارتفع حيضهن أم لعارض ثلاثة أشهر و هن اللواتي أمثالهن يحضن لأنهن لو كن في سن من لا تحيض لم يكن للارتياب معنى و هذا هو المروي عن أئمتنا (ع)
و قيل معناه إن شككتم فلم تدروا أ دمهن دم حيض أو استحاضة «فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ» عن مجاهد و الزهري و ابن زيد و قيل معناه إن ارتبتم في حكمهن فلم تدروا ما الحكم فيهن «وَ اللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ» تقديره و اللائي لم يحضن إن ارتبتم فعدتهن أيضا ثلاثة أشهر و حذف لدلالة الكلام الأول عليه و هن اللواتي لم يبلغن المحيض و مثلهن تحيض على ما مر بيانه‏
 «وَ أُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ» قال ابن عباس هي في المطلقات خاصة و هو المروي عن أئمتنا (ع)
فأما المتوفى عنها زوجها إذا كانت حاملا فعدتها أبعد الأجلين فإذا مضت بها أربعة أشهر و عشر و لم تضع انتظرت وضع الحمل و قال ابن مسعود و أبي بن كعب و قتادة و أكثر الفقهاء أنه عام في المطلقات و المتوفى عنها زوجها فعدتهن وضع الحمل فإن كانت المرأة حاملا باثنين و وضعت واحد لم يحل للأزواج حتى تضع جميع الحمل لقوله «أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ»
و روى أصحابنا أنها إذا وضعت واحدا انقطعت عصمتها من الزوج و لا يجوز لها أن تعقد على نفسها لغيره حتى تضع الآخر فأما إذا كانت قد توفي عنها زوجها فوضعت قبل الأشهر الأربعة و العشر وجب عليها أن تستوفي أربعة أشهر و عشرا
 «وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ» في جميع ما أمره بطاعته فيه «يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً» أي يسهل عليه أمور الدنيا و الآخرة إما بفرج عاجل أو عوض آجل و قيل يسهل عليه فراق أهله و يزيل الهموم عن قلبه «ذلِكَ» يعني ما ذكره سبحانه من الأحكام في الطلاق و الرجعة و العدة «أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ» بطاعته «يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ» من الصلاة إلى الصلاة و من الجمعة إلى الجمعة قال الربيع إن الله قد قضى على نفسه أن من توكل عليه كفاه و من آمن به هداه و من أقرضه جازاه و من وثق به أنجاه و من دعاه أجابه و لباه و تصديق ذلك‏

461
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 456

في كتاب الله عز و جل «وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ» وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ «إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ» «وَ مَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» «وَ إِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ» الآية «وَ يُعْظِمْ لَهُ أَجْراً» في الآخرة و هو ثواب الجنة.
[سورة الطلاق (65): الآيات 6 الى 10]
أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَ لا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَ إِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَ أْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَ إِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى‏ (6) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَ مَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (7) وَ كَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَ رُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَ عَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً (8) فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَ كانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (10)
القراءة
قرأ روح عن يعقوب مختلفا عنه من وجدكم بكسر الواو و القراءة بضم الواو و قرأ ابن كثير و كائن بالمد و الهمز و الباقون «وَ كَأَيِّنْ» بالهمز و التشديد.
الحجة
يقال وجدت في المال جدة و وجدا و وجدا و وجدا بتعاقب الحركات الثلاث على الواو و وجدت الضالة وجدانا و وجدت من الحزن وجدا و من الغضب موجدة و وجدانا و كأين أصله أي دخلت عليها الكاف الجارة كما دخلت على ذا في كذا فموضع كأين رفع‏

462
مجمع البيان في تفسير القرآن10

الحجة ص 462

بالابتداء كما أن كذا كذلك و لا موضع للكاف كما أن الكاف في كذا كذلك قال أبو علي مثقل هذا في أنه دخل على المبتدأ حرف الجر فصار مع المجرور في موضع رفع قولهم بحسبك أن تفعل كذا يريدون حسبك فعل كذا فالجار مع المجرور في موضع رفع و أنشد أبو زيد:
         بحسبك في القوم أن يعلموا             بأنك فيهم غني مضر
و أكثر العرب تستعملها مع من و كذلك ما جاء في التنزيل و مما جاء منه في الشعر قوله:
         و كائن بالأباطح من صديق             يراني إن أصبت هو المصابا
و قول الآخر:
         و كائن إليكم قاد من رأس فتنة             جنودا و أمثال الجبال كتائبه.
المعنى‏
ثم بين سبحانه حال المطلقة في النفقة و السكنى فقال «أَسْكِنُوهُنَّ» أي في بيوتكم «مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ» من المساكن «مِنْ وُجْدِكُمْ» أي من ملككم و ما تقدرون عليه عن السدي و أبي مسلم و قيل هو من الوجدان أي مما تجدونه من المساكن عن الحسن و الجبائي و قيل من سعتكم و طاقتكم من الوجد الذي هو المقدرة قال الفراء يعول على ما يجد فإن كان موسعا وسع عليها في المسكن و النفقة و إن كان فقيرا فعلى قدر ذلك و يجب السكنى و النفقة للمطلقة الرجعية بلا خلاف فأما المبتوتة ففيها خلاف فذهب أهل العراق إلى أن لها السكنى و النفقة معا و روي ذلك عن عمر بن الخطاب و ابن مسعود و ذهب الشافعي إلى أن لها السكنى بلا نفقة
و ذهب الحسن و أبو ثور إلى أنه لا سكنى لها و لا نفقة و هو المروي عن أئمة الهدى (ع)
و ذهب إليه أصحابنا و يدل عليه‏
ما رواه الشعبي قال دخلت على فاطمة بنت قيس بالمدينة فسألتها عن قضاء رسول الله ص فقالت طلقني زوجي البتة فخاصمته إلى رسول الله ص في السكنى و النفقة فلم يجعل لي سكنى و لا نفقة و أمرني أن أعتد في بيت ابن أم مكتوم‏
و
روى الزهري عن عبد الله أن فاطمة بنت قيس كانت تحت أبي عمرو بن حفص بن المغيرة المخزومي و أنه خرج مع علي بن أبي طالب (ع) إلى اليمن حين أمره رسول الله ص‏

463
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 463

على اليمن فأرسل إلى امرأته فاطمة بنت قيس بتطليقة كانت بقيت لها من طلاقها فأمر عياش ابن أبي ربيعة و الحرث بن هشام أن ينفقا عليها فقالا و الله ما لك من نفقة فأتت النبي ص فذكرت له قولهما فلم يجعل لها نفقة إلا أن تكون حاملا فاستأذنته في الانتقال فأذن لها فقالت إني أنتقل يا رسول الله قال عند ابن أم مكتوم و كان أعمى تضع ثيابها عنده و لا يراها فلم تزل هناك حتى مضت عدتها فأنكحها النبي ص أسامة بن زيد قال فأرسل إليها مروان بن الحكم قبيصة بن ذؤيب فسألها عن هذا الحديث ثم قال مروان لم نسمع هذا الحديث إلا من امرأة و سنأخذ بالعصمة التي وجدنا الناس عليها فقالت فاطمة حين بلغها قول مروان بيني و بينكم القرآن قال الله تعالى لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ إلى قوله لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً قالت هذا لمن كانت له مراجعة و أي أمر يحدث بعد الثلاث‏
ثم قال سبحانه «وَ لا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ» أي لا تدخلوا الضرر عليهن بالتقصير في السكنى و النفقة و الكسوة طالبين بالإضرار التضييق عليهن ليخرجن و قيل المعنى أعطوهن من المسكن ما يكفيهن لجلوسهن و مبيتهن و طهارتهن و لا تضايقوهن حتى يتعذر عليهن السكنى عن أبي مسلم «وَ إِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ» أي كن حوامل «فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ»، لأن عدتهن إنما تنقضي بوضع حملهن أمر الله سبحانه بالإنفاق على المطلقة الحامل سواء كانت رجعية أو مبتوتة «فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ» أي فإن أرضعن الولد لأجلكم بعد البينونة فأعطوهن أجر الرضاع يعني أجرة المثل «وَ أْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ» هذا خطاب للرجل و المرأة و الائتمار قبول الأمر و ملاقاته بالتقبل أمر الله تعالى المرضعة و المرضع له بالتلقي لأمره عز و جل و لأمر صاحبه إذا كان حسنا و قيل معناه و ليأمر بعضكم بعضا بالجميل في إرضاع الوالد أي بتراضي الوالد و الوالدة بعد وقوع الفرقة في الأجرة على الأب و إرضاع الولد بحيث لا يضر بمال الوالد و لا بنفس الولد و لا يزاد على الأجر المتعارف و لا ينقص الولد عن الرضاع المعتاد قال الكسائي أصله التشاور و منه يَأْتَمِرُونَ بِكَ أي يتشاورون و الأقوى عندي أن يكون المعنى دبروا بالمعروف بينكم في أمر الولد و مراعاة أمه حتى لا يفوت الولد شفقتها و غير ذلك و يدل عليه قول امرئ القيس:
         أ حار بن عمرو كأني خمر             و يعدو على المرء ما يأتمر
يعني ما يدبره في نفسه لأن الرجل بما دبر أمرا ليس برشد فيعدو عليه و يهلكه «وَ إِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى‏» و المعنى فإن اختلفتم في الرضاع و في الأجر فسترضع له امرأة

464
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 463

أخرى أجنبية أي فليسترضع الوالد غير والدة الصبي ثم قال سبحانه «لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ» أمر سبحانه أهل التوسعة أن يوسعوا على نسائهم المرضعات أولادهن على قدر سعتهم «وَ مَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ» أي ضيق عليه «رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ» و المعنى و من كان رزقه بمقدار القوت فلينفق على قدر ذلك و على حسب إمكانه و طاقته «لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها» أي إلا بقدر ما أعطاها من الطاقة و في هذا دلالة على أنه سبحانه لا يكلف أحدا ما لا يقدر عليه و ما لا يطيقه «سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً» أي بعد ضيق سعة و بعد فقر غنى و بعد صعوبة الأمر سهولة و في هذا تسلية للصحابة فإن الغالب على أكثرهم في ذلك الوقت الفقر ثم فتح الله تعالى عليهم البلاد فيما بعد «وَ كَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَ رُسُلِهِ» أي و كم من أهل قرية عتوا على الله و على أنبيائه يعني جاوزوا الحد في العصيان و المخالفة «فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً» بالمناقشة و الاستقصاء باستيفاء الحق و إيفائه قال مقاتل حاسبها الله تعالى بعملها في الدنيا فجازاها بالعذاب و هو قوله «وَ عَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً» فجعل المجازاة بالعذاب محاسبة و هو عذاب الاستئصال و قيل هو عذاب النار فإن اللفظ ماض بمعنى المستقبل و النكر المنكر الفظيع الذي لم ير مثله و قيل إن في الآية تقديما و تأخيرا تقديره فعذبناها في الدنيا بالجوع و القحط و السيف و سائر المصائب و البلايا و حاسبناها في الآخرة حسابا شديدا و قيل الحساب الشديد هو الذي ليس فيه عفو «فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها» أي ثقل عاقبة كفرها «وَ كانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً» أي خسرانا في الدنيا و الآخرة و هو قوله «أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً» يعني عذاب النار و هذا يدل على أن المراد بالعذاب الأول عذاب الدنيا ثم قال «فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ» أي يا أصحاب العقول و لا تفعلوا مثل ما فعل أولئك فينزل بكم مثل ما نزل بهم ثم وصف أولي الألباب بقوله «الَّذِينَ آمَنُوا» و خص المؤمنين بالذكر لأنهم المنتفعون بذلك دون الكفار ثم ابتدأ سبحانه فقال «قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً» يعني القرآن و
قيل يعني الرسول عن الحسن و روي ذلك عن أبي عبد الله (ع).
النظم‏
الوجه في اتصال قوله «وَ كَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها» الآية بما قبله أنه سبحانه بين أن الخوف في مقابلة الرجاء و سبيل العاقل أن يحترز من المخوف و يقدم الاحتراز عن الخوف على الرجاء و الذي يقوي جانب الخوف أنه أهلك الأمم الماضية بسبب عصيانها و تمردها عن أمر ربها.

465
مجمع البيان في تفسير القرآن10

سورة الطلاق الآيات 11 الى 12 ص 466

[سورة الطلاق (65): الآيات 11 الى 12]
رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَ يَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً (11) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَ مِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ وَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عِلْماً (12)
القراءة
قرأ أهل المدينة و الشام ندخله بالنون و الباقون بالياء لتقدم الاسم على لفظ الغيبة و النون معناها معنى الياء.
الإعراب‏
رسولا ينتصب على ثلاثة أوجه (أحدها) أن يكون بدلا من ذكرا بدل الكل من الكل فعلى هذا يجوز أن يكون الرسول جبرائيل (ع) و يجوز أن يكون محمدا ص (و الثاني) أن يكون مفعول فعل محذوف تقديره أرسل رسولا و يدل على إضماره قوله قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً فعلى هذا يكون الرسول معناه محمدا ص (و الثالث) أن يكون مفعول قوله ذِكْراً و يكون تقديره أنزل الله إليكم إن ذكر رسولا و يكون الرسول يحتمل الوجهين.
المعنى‏
 «رَسُولًا» إذا كان المراد به الوجه الأول و هو أن يكون بدلا من ذكرا و المراد به النبي ص أو جبرائيل (ع) فيجوز أن يكون المراد بالذكر الشرف أي ذا ذكر رسولا «يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ مُبَيِّناتٍ» أي واضحات «لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ» أي من ظلمات الكفر «إِلَى النُّورِ» أي نور الإيمان و قيل من ظلمات الجهل إلى نور العلم و إنما شبه الإيمان بالنور لأنه يؤدي إلى نور القبر و القيامة و الجنة و شبه الكفر بالظلمة لأنه يؤدي إلى ظلمة القبر و ظلمة جهنم «وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَ يَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً» أي يعطيه أحسن ما يعطي أحدا و ذلك مبالغة في وصف نعيم الجنة «اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَ مِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ» أي و خلق من الأرض مثلهن في العدد لا في الكيفية لأن كيفية السماء مخالفة لكيفية الأرض و ليس في القرآن آية تدل على أن الأرضين سبع مثل السماوات إلا هذه الآية و لا خلاف في السماوات أنها سماء فوق سماء و أما الأرضون فقال قوم إنها سبع أرضين طباقا بعضها فوق بعض كالسماوات لأنها لو كانت مصمتة لكانت أرضا واحدة و في كل أرض خلق خلقهم الله‏

466
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 466

كما شاء و روى أبو صالح عن ابن عباس أنها سبع أرضين ليس بعضها فوق بعض يفرق بينهن البحار و يظل جميعهن السماء و الله سبحانه أعلم بصحة ما استأثر بعلمه و اشتبه على خلقه و
قد روى العياشي بإسناده عن الحسين بن خالد عن أبي الحسن (ع) قال بسط كفه ثم وضع اليمني عليها فقال هذه الأرض الدنيا و السماء الدنيا عليها قبة و الأرض و الثانية فوق السماء الدنيا و السماء الثانية فوقها قبة و الأرض الثالثة فوق السماء الثانية و السماء الثالثة فوقها قبة حتى ذكر الرابعة و الخامسة و السادسة فقال و الأرض السابعة فوق السماء السادسة و السماء السابعة فوقها قبة و عرش الرحمن فوق السماء السابعة و هو قوله «سَبْعَ سَماواتٍ وَ مِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ»
 «يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ» و إنما صاحب الأمر النبي ص و هو على وجه الأرض و إنما يتنزل الأمر من فوق بين السماوات و الأرضين فعلى هذا يكون المعنى تتنزل الملائكة بأوامره إلى الأنبياء و قيل معناه يتنزل الأمر بين السماوات و الأرضين من الله سبحانه بحياة بعض و موت بعض و سلامة حي و هلاك آخر و غنى إنسان و فقر آخر و تصريف الأمور على الحكمة «لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ» بالتدبير في خلق السماوات و الأرض و الاستدلال بذلك على أن صانعهما قادر لذاته عالم لذاته و ذلك قوله «وَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عِلْماً» و معناه أن معلوماته متميزة له بمنزلة ما قد أحاط به فلم يفته شي‏ء منها و كذلك قوله «وَ لا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً» معناه أنه ليس بمنزلة ما يحضره العلم بمكانه فيكون كأنه قد أحاط به.

467
مجمع البيان في تفسير القرآن10

سورة التحريم مدنية و آياتها اثنتا عشرة ص 468

(66) سورة التحريم مدنية و آياتها اثنتا عشرة (12)
[توضيح‏]
مدنية اثنتا عشرة آية بالإجماع.
فضلها
أبي بن كعب عن النبي ص قال و من قرأ سورة يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك أعطاه الله توبة نصوحا.
تفسيرها
لما تقدم في تلك السورة أحكام النساء في الطلاق و غيره افتتح سبحانه هذه السورة بأحكامهن أيضا فقال.

468
مجمع البيان في تفسير القرآن10

سورة التحريم الآيات 1 الى 5 ص 469

[سورة التحريم (66): الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) وَ إِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى‏ بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَ أَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَ أَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَ إِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَ جِبْرِيلُ وَ صالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (4)
عَسى‏ رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَ أَبْكاراً (5)

القراءة
قرأ الكسائي وحده عرف بالتخفيف و الباقون «عَرَّفَ» بالتشديد و اختار التخفيف أبو بكر بن عياش و هو من الحروف العشر التي قال إني أدخلتها في قراءة عاصم من قراءة علي بن أبي طالب (ع) حتى استخلصت قراءته يعني قراءة علي (ع) و هي قراءة الحسن و أبي عبد الرحمن السلمي و كان أبو عبد الرحمن إذا قرأ إنسان بالتشديد حصبه و قرأ أهل الكوفة «تَظاهَرا عَلَيْهِ» خفيفة الظاء و الباقون تظاهرا بالتشديد.
الحجة
قال أبو علي التخفيف في عرف أنه جازى عليه لا يكون إلا كذلك و لا يجوز أن يكون بمعنى العلم لأن النبي ص إذا أظهره الله على ما كان أسره إليه علم ذلك و لم يجز أن يعلم من ذلك بعضه مع إظهار الله إياه عليه و لكن يعلم جميعه و هذا كما تقول لمن يسي‏ء أو يحسن أنا أعرف لأهل الإساءة أي لا يخفى علي ذلك و لا مقابلته مما يكون وفقا له فالمعنى جازى على بعض ذلك و أعرض عن بعض و مثله وَ ما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ أي يرى جزاءه و قوله يرى من رؤية العين و كان مما جازى عليه:
تطليقه حفصة تطليقة واحدة و أما «عَرَّفَ» بالتشديد فمعناه عرف بعضه و أعرض عن بعض فلم يعرفه إياه على وجه التكرم و الإغضاء و أما تظاهرا فالأصل فيه و أن تتظاهرا بتائين فخفف في القراءة الأولى بالحذف و في القراءة الآخرة بالإدغام.
اللغة
الحرام القبيح الممنوع منه بالنهي و نقيضه الحلال و هو الحسن المطلق بالإذن فيه و التحريم تبيين أن الشي‏ء حرام لا يجوز و التحريم إيجاب المنع و الابتغاء الطلب و منه البغي طلب الاستعلاء بغير الحق و التحلة و التحليل بمعنى و هما مصدران لقولهم حللت له كذا و تحلة اليمين فعل ما يسقط التبعة فيه و اليمين واحد الأيمان و هو الحلف و كأنه مأخوذ من القوة لأنه يقوي كلامه بالحلف و قيل إنه مأخوذ من الجارحة لأن عادتهم كانت عند الحلف ضرب الأيدي على الأيدي و الإسرار إلقاء المعنى إلى نفس المحدث على وجه الإخفاء عن غيره و التظاهر التعاون و الظهير المعين و أصله من الظهر و السائح الجاري و العرب تصف‏

469
مجمع البيان في تفسير القرآن10

اللغة ص 469

بذلك الماء الجاري الدائم الجرية ثم تصف به الرجل الذي يضرب في الأرض و يقطع البلاد فتقول سائح و الثيب الراجعة من عند الزوج بعد الافتضاض من ثاب يثوب إذا رجع و البكر هي التي على أول حالها قبل الافتضاض.
الإعراب‏
قيل في جمع القلوب في قوله «صَغَتْ قُلُوبُكُما» وجوه (أحدها) أن التثنية جمع في المعنى فوضع الجمع موضع التثنية كما قال «وَ كُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ» و إنما هو داود و سليمان (و الثاني) أن أكثر ما في الإنسان اثنان اثنان نحو اليدين و الرجلين و العينين و إذا جمع اثنان إلى اثنين صار جمعا فيقال أيديهما و أعينهما ثم حمل ما كان في الإنسان واحدا على ذلك لئلا يختلف حكم لفظ أعضاء الإنسان (و الثالث) أن المضاف إليه مثنى فكرهوا أن يجمعوا بين تثنيتين فصرفوا الأول منهما إلى لفظ الجمع لأن لفظ الجمع أخف لأنه أشبه بالواحد فإنه يعرب بإعراب الواحد و يستأنف كما يستأنف الواحد و ليست التثنية كذلك لأنها لا تكون إلا على حد واحد و لا يختلف و من العرب من يثني فيقول قلباهما قال الراجز فجمع بين اللغتين‏
         " ظهراهما مثل ظهور الترسين"
و قال الفرزدق:
         بما في فؤادينا من البث و الهوى             فيبرئ منهاض الفؤاد المشغف‏
و من العرب من يفرد و يروى أن بعضهم قرأ فبدت لهما سوأتهما و الوجه في الإفراد أن الإضافة إلى التثنية تغني عن تثنية المضاف و في جبريل أربع لغات جبريل على وزن قنديل و جبرئيل على وزن عندليب و جبرئل على وزن جحمرش و جبريل بفتح الجيم و كسر الراء من غير همز و هو خارج عن أوزان العرب لأنه ليس في العربية مثل قنديل و قد قرئ بذلك كله و قد ذكرنا اختلاف القراءة فيه في سورة البقرة و من العرب من يقول جبرال بتشديد اللام و منهم من يبدل من اللام نونا و قوله «هُوَ مَوْلاهُ» يجوز في هو وجهان (أحدهما) أن يكون فصلا دخل ليفصل بين النعت و الخبر و الكوفيون يسمونه عمادا (و الثاني) أن يكون مبتدأ و مولاه الخبر و الجملة خبر إن و من جعل مولاه بمعنى السيد و الخالق كان الوقف على قوله «مَوْلاهُ» و جبريل مبتدأ «وَ صالِحُ الْمُؤْمِنِينَ» عطف عليه و الملائكة عطف أيضا و ظهير خبره و جاز ذلك لأن‏

470
مجمع البيان في تفسير القرآن10

الإعراب ص 470

فعيلا يقع على الواحد و الجمع كفعول قال سبحانه خَلَصُوا نَجِيًّا فظهير كنجي و قال فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي و من جعل مولاه بمعنى ولي و ناصر جاز أن يكون الوقف على قوله «وَ جِبْرِيلُ» و على «صالِحُ الْمُؤْمِنِينَ» و يبتدئ و الملائكة بعد ذلك فيكون ظهير عائدا إلى الملائكة.
النزول‏
اختلف أقوال المفسرين في سبب نزول الآيات فقيل إن رسول الله ص كان إذا صلى الغداة يدخل على أزواجه امرأة امرأة و كان قد أهديت لحفصة بنت عمر بن الخطاب عكة من عسل فكانت إذا دخل عليها رسول الله ص حبسته و سقته منها و إن عائشة أنكرت احتباسه عندها فقالت لجويرية حبشية عندها إذا دخل رسول الله ص على حفصة فادخلي عليها فانظري ما ذا تصنع فأخبرتها الخبر و شأن العسل فغارت عائشة و أرسلت إلى صواحبها فأخبرتهن و قالت إذا دخل عليكن رسول الله ص يكره و يشق عليه أن يوجد منه ريح غير طيبة لأنه يأتيه الملك قال فدخل رسول الله على سودة قالت فما أردت أن أقول ذلك لرسول الله ص ثم إني فرقت من عائشة فقلت يا رسول الله ما هذه الريح التي أجدها منك أكلت المغافير فقال لا و لكن حفصة سقتني عسلا ثم دخل على امرأة امرأة و هن يقلن له ذلك فدخل على عائشة فأخذت بأنفها فقال لها ما شأنك قالت أجد ريح المعافير أكلتها يا رسول الله قال لا بل سقتني حفصة عسلا فقالت جرست إذا نحلها العرفط فقال و الله لا أطعمه أبدا فحرمه على نفسه و قيل إن التي كانت تسقي رسول الله ص العسل أم سلمة عن عطاء بن أبي مسلم و قيل بل كانت زينب بنت جحش قال عائشة أن رسول الله ص كان يمكث عند زينب بنت جحش و يشرب عندها عسلا فتواطأت أنا و حفصة أيتنا دخل عليها النبي ص فلتقل إني أجد منك ريح المغافير أكلت مغافير فدخل على إحداهما فقالت له ذلك فقال لا بل شربت عسلا عند زينب بنت جحش و لن أعود إليه فنزلت الآيات و قيل إن رسول الله ص. قسم الأيام بين نسائه فلما كان يوم حفصة قالت يا رسول الله إن لي إلى أبي حاجة فأذن لي أن أزوره فأذن لها فلما خرجت أرسل رسول الله ص إلى جاريته مارية القبطية و كان قد أهداها له المقوقس فأدخلها بيت حفصة فوقع عليها فأتت حفصة فوجدت الباب مغلقا فجلست عند الباب فخرج رسول الله ص و وجهه يقطر عرقا فقالت حفصة إنما أذنت لي من أجل هذا أدخلت أمتك بيتي ثم وقعت عليها في يومي و على فراشي أما ما رأيت لي حرمة و حقا فقال ص أ ليس هي جاريتي قد أحل الله ذلك لي اسكتي فهو حرام علي ألتمس بذلك رضاك‏

471
مجمع البيان في تفسير القرآن10

النزول ص 471

فلا تخبري بهذا امرأة منهن و هو عندك أمانة فلما خرج رسول الله ص قرعت حفصة الجدار الذي بينها و بين عائشة فقالت أ لا أبشرك أن رسول الله قد حرم عليه أمته مارية و قد أراحنا الله منها و أخبرت عائشة بما رأت و كانتا متصافيتين متظاهرتين على سائر أزواجه فنزلت «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ» فطلق حفصة و اعتزل سائر نسائه تسعة و عشرين يوما و قعد في مشربة أم إبراهيم مارية حتى نزلت آية التخيير عن قتادة و الشعبي و مسروق و قيل إن النبي ص خلا في يوم لعائشة مع جاريته أم إبراهيم مارية القبطية فوقفت حفصة على ذلك فقال لها رسول الله ص لا تعلمي عائشة ذلك و حرم مارية على نفسه فأعلمت حفصة عائشة الخبر و استكتمتها إياه فأطلع الله نبيه ص على ذلك و هو قوله «وَ إِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى‏ بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً» يعني حفصة عن الزجاج قال و لما حرم مارية القبطية أخبر حفصة أنه يملك من بعده أبو بكر ثم عمر فعرفها بعض ما أفشت من الخبر و أعرض عن بعض أن أبا بكر و عمر يملكان بعدي و قريب من ذلك ما
رواه العياشي بالإسناد عن عبد الله بن عطاء المكي عن أبي جعفر (ع) إلا أنه زاد في ذلك أن كل واحدة منهما حدثت أباها بذلك فعاتبهما رسول الله في أمر مارية و ما أفشتا عليه من ذلك و أعرض عن أن يعاتبهما في الأمر الآخر.
المعنى‏
 «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ» ناداه سبحانه بهذا النداء تشريفا له و تعليما لعباده كيف يخاطبونه في أثناء محاوراتهم و يذكرونه في خلال كلامهم «لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ» من الملاذ «تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ» أي تطلب به رضاء نسائك و هن أحق بطلب مرضاتك منك و ليس في هذا دلالة على وقوع ذنب منه صغيرا أو كبيرا لأن تحريم الرجل بعض نسائه أو بعض الملاذ لسبب أو لغير سبب ليس بقبيح و لا داخلا في جملة الذنوب و لا يمتنع أن يكون خرج هذا القول مخرج التوجع له ص إذا بالغ في إرضاء أزواجه و تحمل في ذلك المشقة و لو أن إنسانا أرضى بعض نسائه بتطليق بعضهن لجاز أن يقال له لم فعلت ذلك و تحملت فيه المشقة و إن كان لم يفعل قبيحا و لو قلنا إنه عوتب على ذلك لأن ترك التحريم كان أفضل من فعله لم يمتنع لأنه يحسن أن يقال لتارك النفل لم لم تفعله و لم عدلت عنه و لأن تطييب قلوب النساء مما لا تنكره العقول و قد حكي أن عبد الله بن رواحة و كان من النقباء كانت له جارية فاتهمته زوجته ليلة فقال قولا بالتعريض فقالت إن كنت لم تقربها فاقرأ القرآن قال فأنشدت‏
         شهدت فلم أكذب بأن محمدا             رسول الذي فوق السماوات من عل‏
         و أن أبا يحيى و يحيى كلاهما             له عمل في دينه متقبل‏

472
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 472

         و أن التي بالجزع من بطن نخلة             و من دانها فل عن الخير معزل‏
فقالت زدني فأنشدت:
         و فينا رسول الله نتلو كتابه             كما لاح معروف مع الصبح ساطع‏
         أتى بالهدى بعد العمى فنفوسنا             به موقنات أن ما قال واقع‏
         يبيت يجافي جنبه عن فراشه             إذا رقدت بالكافرين المضاجع‏
فقالت زدني فأنشدت:
         شهدت بأن وعد الله حق             و أن النار مثوى الكافرينا
         و أن محمدا يدعو بحق             و أن الله مولى المؤمنينا
فقالت أما إذا قرأت القرآن فقد صدقتك فأخبرت به رسول الله ص فقال بعد أن تبسم خيركم خيركم لنسائه و اختلف العلماء فيمن قال لامرأته أنت علي حرام فقال مالك هو ثلاث تطليقات و قال أبو حنيفة إن نوى به الظهار فهو ظهار و إن نوى الإيلاء فهو إيلاء و إن نوى الطلاق فهو طلاق بائن و إن نوى ثلاثا كان ثلاثا و إن نوى اثنتين فواحدة بائنة و إن لم يكن له نية فهو يمين قال الشافعي إن نوى الطلاق كان طلاقا و الظهار كان ظهارا و إن لم يكن له نية فهو يمين و روي عن ابن مسعود و ابن عباس و عطاء أنه يمين و قال أصحابنا أنه لا يلزم به شي‏ء و وجوده كعدمه و هو قول مسروق و إنما أوجب الله فيه الكفارة لأن النبي ص كان حلف أن لا يقرب جاريته و لا يشرب الشراب المذكور فأوجب الله عليه أن يكفر عن يمينه و يعود إلى استباحة ما كان حرمه و بين أن التحريم لا يحصل إلا بأمر الله و نهيه و لا يصير الشي‏ء حراما بتحريم من يحرمه على نفسه إلا إذا حلف على تركه «وَ اللَّهُ غَفُورٌ» لعباده «رَحِيمٌ» بهم إذا رجعوا إلى ما هو الأولى و الأليق بالتقوى يرجع لهم إلى التولي «قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ» أي قد قدر الله تعالى لكم ما تحللون به أيمانكم إذا فعلتموها و شرع لكم الحنث فيها لأن اليمين ينحل بالحنث فسمي ذلك تحلة و قيل معناه قد بين الله لكم كفارة أيمانكم في سورة المائدة عن مقاتل قال أمر الله نبيه أن يكفر يمينه و يراجع وليدته فأعتق رقبة و عاد إلى‏

473
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 472

مارية و قيل معناه فرض الله عليكم كفارة أيمانكم كما قال و إن أسأتم فلها أي فعليها فسمى الكفارة تحلة لأنها تجب عند انحلال اليمين و في هذا دلالة على أنه قد حلف و لم يقتصر على قوله هي علي حرام لأن هذا القول ليس بيمين «وَ اللَّهُ» هو «مَوْلاكُمْ» أي وليكم يحفظكم و ينصركم و هو أولى بكم و أولى بأن تبتغوا رضاه «وَ هُوَ الْعَلِيمُ» بمصالحكم «الْحَكِيمُ» في أوامره و نواهيه لكم و قيل هو العليم بما قالت حفصة لعائشة الحكيم في تدبيره «وَ إِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى‏ بَعْضِ أَزْواجِهِ» و هي حفصة «حَدِيثاً» أي كلاما أمرها بإخفائه فالإسرار نقيض الإعلان «فَلَمَّا نَبَّأَتْ» أي أخبرت غيرها بما خبرها «بِهِ» فأفشت سره «وَ أَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ» أي و أطلع الله نبيه ص على ما جرى من إفشاء سره «عَرَّفَ بَعْضَهُ وَ أَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ» أي عرف النبي ص حفصة بعض ما ذكرت و أخبرها ببعض ما ذكرت و أعرض عن بعض ما ذكرت و عن بعض ما جرى من الأمر فلم يخبرها و كان ص قد علم جميع ذلك لأن الإعراض إنما يكون بعد المعرفة لكنه أخذ بمكارم الأخلاق و التغافل من خلق الكرام قال الحسن ما استقصى كريم قط و أما عرف بالتخفيف فمعناه غضب عليها و جازاها بأن طلقها تطليقة ثم راجعها بأمر الله و قيل جازاها بأن هم بطلاقها «فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ» أي فلما أخبر رسول الله ص حفصة بما أظهره الله عليه «قالَتْ» حفصة «مَنْ أَنْبَأَكَ هذا» أي من أخبرك بهذا «قالَ» رسول الله ص «نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ» بجميع الأمور «الْخَبِيرُ» بسرائر الصدور ثم خاطب سبحانه عائشة و حفصة فقال «إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ» من التعاون على النبي ص بالإيذاء و التظاهر عليه فقد حق عليكما التوبة و وجب عليكم الرجوع إلى الحق «فَقَدْ صَغَتْ» أي مالت «قُلُوبُكُما» إلى الإثم عن ابن عباس و مجاهد و قيل معناه ضاقت قلوبكما عن سبيل الاستقامة و عدلت عن الثواب إلى ما يوجب الإثم و قيل تقديره إن تتوبا إلى الله يقبل توبتكما و قيل إنه شرط في معنى الأمر أي توبا إلى الله فقد صغت قلوبكما «وَ إِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ» أي و إن تتعاونا على النبي ص بالإيذاء عن ابن عباس قال قلت لعمر بن الخطاب من المرأتان اللتان تظاهرتا على رسول الله ص قال عائشة و حفصة أورده البخاري في الصحيح «فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ» الذي يتولى حفظه و حياطته و نصرته «وَ جِبْرِيلُ» أيضا معين له و ناصر يحفظه «وَ صالِحُ الْمُؤْمِنِينَ» يعني خيار المؤمنين عن الضحاك و قيل يعني الأنبياء عن قتادة و قال الزجاج صالح هنا ينوب عن الجميع كما تقول يفعل هذا الخير من الناس تريد كل خير قال أبو مسلم هو صالحوا المؤمنين على الجمع و سقطت الواو في المصحف لسقوطها في اللفظ و وردت الرواية من طريق الخاص و العام أن المراد بصالح المؤمنين أمير المؤمنين علي (ع) و هو قول مجاهد و
في كتاب شواهد التنزيل بالإسناد عن‏

474
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 472

سدير الصيرفي عن أبي جعفر (ع) قال لقد عرف رسول الله ص عليا (ع) أصحابه مرتين أما مرة فحيث قال من كنت مولاه فعلي مولاه و أما الثانية فحيث نزلت هذه الآية «فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَ جِبْرِيلُ وَ صالِحُ الْمُؤْمِنِينَ» الآية أخذ رسول الله ص بيد علي (ع) فقال أيها الناس هذا صالح المؤمنين‏
و
قالت أسماء بنت عميس سمعت أن النبي ص يقول «وَ صالِحُ الْمُؤْمِنِينَ» علي بن أبي طالب (ع)
 «وَ الْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ» أي بعد الله و جبريل و صالح المؤمنين عن مقاتل «ظَهِيرٌ» أي أعوان للنبي ص و هذا من الواحد الذي يؤدي معنى الجمع كقوله «وَ حَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً» «عَسى‏ رَبُّهُ» أي واجب من الله ربه «إِنْ طَلَّقَكُنَّ» يا معشر أزواج النبي «أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ» أي أصلح له منكن ثم نعت تلك الأزواج اللائي كان يبدله بهن لو طلق نساءه فقال «مُسْلِماتٍ» أي مستسلمات لما أمر الله به «مُؤْمِناتٍ» أي مصدقات لله و رسوله مستحقات للثواب و التعظيم و قيل مصدقات في أفعالهن و أقوالهن «قانِتاتٍ» أي مطيعات لله تعالى و لأزواجهن و قيل خاضعات متذللات لأمر الله تعالى و قيل ساكتات عن الخنا و الفضول عن قتادة «تائِباتٍ» عن الذنوب و قيل راجعات إلى أمر الرسول تاركات لمحاب أنفسهن و قيل نادمات على تقصير وقع منهن «عابِداتٍ» لله تعالى بما تعبدهن به من الفرائض و السنن على الإخلاص و قيل متذللات للرسول بالطاعة «سائِحاتٍ» أي ماضيات في طاعة الله تعالى و قيل صائمات عن ابن عباس و قتادة و الضحاك و قيل مهاجرات عن ابن زيد و أبيه زيد بن أسلم و الجبائي و إنما قيل للصائم سائح لأنه يستمر في الإمساك عن الطعام كما يستمر السائح في الأرض «ثَيِّباتٍ» و هن الراجعات من عند الأزواج بعد افتضاضهن «وَ أَبْكاراً» أي عذارى لم يكن لهن أزواج.

475
مجمع البيان في تفسير القرآن10

سورة التحريم الآيات 6 الى 12 ص 476

[سورة التحريم (66): الآيات 6 الى 12]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَ أَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَ الْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (6) يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى‏ رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَ يُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى‏ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَ اغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ (8) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَ الْمُنافِقِينَ وَ اغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ (9) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَ امْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَ قِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10)
وَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَ نَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَ عَمَلِهِ وَ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَ مَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَ صَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَ كُتُبِهِ وَ كانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ (12)

القراءة
قرأ حماد و يحيى عن أبي بكر نصوحا بضم النون و الباقون بفتح النون و قرأ أهل البصرة و حفص «وَ كُتُبِهِ» بضم الكاف و التاء على الجمع و الباقون و كتابه على الواحد.
الحجة
قال أبو علي يشبه أن يكون النصوح بالضم مصدرا و ذلك إن ذا الرمة قال:
         " أحبك حبا خالطته نصاحة"
فالنصاحة على فعالة و ما كان على فعال من المصادر فقد يكون منه الفعول نحو الذهاب و الذهوب و يكون قد وصف بالمصدر نحو عدل و رضا قال أبو الحسن نصحته في معنى صدقته و توبة نصوح أي صادقة و الفتح كلام العرب و لا أعرف الضم‏

476
مجمع البيان في تفسير القرآن10

الحجة ص 476

و حجة من قال «وَ كُتُبِهِ» أنه في موضع جمع أ لا ترى أنها قد صدقت بجميع كتب الله تعالى و من قال و كتابه أراد الكثرة و الشياع و قد يجي‏ء ذلك في الأسماء المضافة كما يجي‏ء في الأسماء المفردة كما قال «وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها».
الإعراب‏
 «وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ» مبتدأ نورهم مبتدأ ثاني و «يَسْعى‏ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ» في موضع الخبر و الجملة خبر المبتدأ الأول و قوله «امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ» تقديره مثل امرأة فرعون فحذف المضاف و هو بدل من قوله مثلا.
المعنى‏
لما أدب سبحانه نساء النبي ص أمر عقبيه المؤمنين بتأديب نسائهم فقال مخاطبا لهم «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا» أي احفظوا و احرسوا و امنعوا «أَنْفُسَكُمْ وَ أَهْلِيكُمْ ناراً» و المعنى قوا أنفسكم و أهليكم النار بالصبر على طاعة الله و عن معصيته و عن اتباع الشهوات و قوا أهليكم النار بدعائهم إلى الطاعة و تعليمهم الفرائض و نهيهم عن القبائح و حثهم على أفعال الخير و قال مقاتل بن حيان و هو أن يؤدب الرجل المسلم نفسه و أهله و يعلمهم الخير و ينهاهم عن الشر فذلك حق على المسلم أن يفعل بنفسه و أهله و عبيده و إمائه في تأديبهم و تعليمهم ثم وصف سبحانه النار التي حذرهم منها فقال «وَقُودُهَا النَّاسُ وَ الْحِجارَةُ» أي حطب تلك النار الناس و حجارة الكبريت و هي تزيد في قوة النار و قد مر تفسيره «عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ» أي غلاظ القلوب لا يرحمون أهل النار أقوياء يعني الزبانية التسعة عشر و أعوانهم «لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ» و في هذا دلالة على أن الملائكة الموكلين بالنار معصومون عن القبائح لا يخالفون الله في أوامره و نواهيه و قال الجبائي إنما عنى أنهم لا يعصونه و يفعلون ما يأمرهم به في دار الدنيا لأن الآخرة ليست بدار تكليف و إنما هي دار جزاء و إنما أمرهم الله تعالى بتعذيب أهل النار على وجه الثواب لهم بأن جعل سرورهم و لذاتهم في تعذيب أهل النار كما جعل سرور المؤمنين و لذاتهم في الجنة ثم حكى سبحانه ما يقال للكفار يوم القيامة فقال «يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ» و ذلك أنهم إذا عذبوا يأخذون في الاعتذار فلا يلتفت إلى معاذيرهم و يقال لهم لا تعتذروا اليوم فهذا جزاء فعلكم و ذلك قوله «إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» ثم عاد سبحانه إلى خطاب المؤمنين في دار التكليف فقال «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ» من معاصيه و ارجعوا إلى طاعته «تَوْبَةً نَصُوحاً» أي خالصة لوجه الله‏
و روى عكرمة عن ابن عباس قال قال معاذ بن جبل يا رسول الله ما التوبة النصوح قال أن يتوب التائب ثم لا يرجع في ذنب كما لا يعود اللبن إلى الضرع‏
و قال ابن مسعود التوبة النصوح هي التي تكفر كل‏

477
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 477

سيئة و هو في القرآن ثم تلا هذه الآية و قيل أن التوبة النصوح هي التي يناصح الإنسان فيها نفسه بإخلاص الندم مع العزم على أن لا يعود إلى مثله في القبح و قيل هي أن يكون العبد نادما على ما مضى مجمعا على أن لا يعود فيه عن الحسن و قيل هي الصادقة الناصحة عن قتادة و قيل هي أن يستغفر باللسان و يندم بالقلب و يمسك بالبدن عن الكلبي و قيل هي التوبة المقبولة و لا تقبل ما لم يكن فيها ثلاث خوف أن لا تقبل و رجاء أن تقبل و إدمان الطاعة عن سعيد بن جبير و قيل هي أن يكون الذنب نصب عينيه و لا يزال كأنه ينظر إليه و قيل هي من النصح و هو الخياطة لأن العصيان يخرق الدين و التوبة ترقعه و قيل لأنها جمعت بينه و بين أولياء الله كما جمع الخياط الثوب و ألصق بعضه ببعض و قيل لأنها أحكمت طاعته و أوثقتها كما أحكم الخياط الثوب و أوثقه «عَسى‏ رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَ يُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ» أي يحطها عنكم و يدخلكم الجنة و عسى من الله واجب ثم قال «يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ» أي لا يعذبهم الله بدخول النار و لا يذلهم بذلك بل يعزهم بإدخالهم الجنة و قيل لا يخزي الله النبي أي لا يشوره فيما يريده من الشفاعة بل يشفعه في ذلك «نُورُهُمْ يَسْعى‏ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمانِهِمْ» مفسر في سورة الحديد و
قال أبو عبد الله (ع) يسعى أئمة المؤمنين يوم القيامة بين أيديهم و بأيمانهم حتى ينزلوهم منازلهم في الجنة
 «يَقُولُونَ رَبَّنا» و هو في موضع نصب على الحال تقديره قائلين ربنا «أَتْمِمْ لَنا نُورَنا» و قيل أن قوله «وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ» مبتدأ و «نُورُهُمْ يَسْعى‏» خبره و «يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا» خبر آخر من «الَّذِينَ آمَنُوا» و حال منهم و فيه وجه آخر ذكرناه في الإعراب و قيل «أَتْمِمْ لَنا نُورَنا» معناه وفقنا للطاعة التي هي سبب النور «وَ اغْفِرْ لَنا» أي استر علينا معاصينا و لا تهلكنا بها «إِنَّكَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ» من إطفاء نور المنافقين و إثبات نور المؤمنين ثم خاطب سبحانه النبي ص فقال «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ» بالقتال و الحرب «وَ الْمُنافِقِينَ» بالقول الرادع عن القبيح لا بالحرب إلا أن فيه بذل المجهود فلذلك سماه جهادا و
روي عن أبي عبد الله (ع) أنه قرأ جاهد الكفار بالمنافقين و قال أن رسول الله ص لم يقاتل منافقا قط إنما كان يتألفهم‏
 «وَ اغْلُظْ عَلَيْهِمْ» أي اشدد عليهم من غير محاباة و قيل اشدد عليهم في إقامة الحد عليهم قال الحسن أكثر من يصيب الحدود في ذلك الزمان المنافقون فأمر الله تعالى أن يغلظ عليهم في إقامة الحد «وَ مَأْواهُمْ» أي مآل الكفار و المنافقين «جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ» أي المال و المستقر ثم ضرب الله المثل لأزواج النبي حثا لهن على الطاعة و بيانا لهن أن مصاحبة الرسول مع مخالفته لا تنفعهن فقال «ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَ امْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا» أي نبيين من أنبيائنا «صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما» قال ابن عباس‏

478
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 477

كانت امرأة نوح كافرة تقول للناس أنه مجنون و إذا آمن بنوح أحد أخبرت الجبابرة من قوم نوح به و كانت امرأة لوط تدل على أضيافه فكان ذلك خيانتهما و ما بغت امرأة نبي قط و إنما كانت خيانتهما في الدين و قال السدي كانت خيانتهما أنهما كانتا كافرتين و قيل كانتا منافقتين و قال الضحاك خيانتهما النميمة إذا أوحى الله إليهما أفشتاه إلى المشركين «فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً» أي و لم يغن نوح و لوط مع نبوتهما عن امرأتيهما من عذاب الله شيئا «وَ قِيلَ» أي و يقال لهما يوم القيامة «ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ» و قيل أن اسم امرأة نوح واغلة و اسم امرأة لوط واهلة و قال مقاتل والغة و والهة «وَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ» و هي آسية بنت مزاحم قيل إنها لما عاينت المعجز من عصا موسى و غلبته السحرة أسلمت فلما ظهر لفرعون إيمانها نهاها فأبت فأوتد يديها و رجليها بأربعة أوتاد و ألقاها في الشمس ثم أمر أن يلقى عليها صخرة عظيمة فلما قرب أجلها «قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ» فرفعها الله تعالى إلى الجنة فهي فيها تأكل و تشرب عن الحسن و ابن كيسان و قيل أنها أبصرت بيتا في الجنة من درة و انتزع الله روحها فألقيت الصخرة على جسدها و ليس فيه روح فلم تجد ألما من عذاب فرعون و قيل أنها كانت تعذب بالشمس و إذا انصرفوا عنها أظلتها الملائكة و جعلت ترى بيتها في الجنة عن سلمان «وَ نَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَ عَمَلِهِ» أي دينه و قيل و جماعة عن ابن عباس «وَ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» من أهل مصر قالوا قطع الله بهذه الآية طمع من ركب المعصية رجاء أن يقطعه صلاح غيره و أخبر أن معصية الغير لا تضر من كان مطيعا قال مقاتل يقول الله سبحانه لعائشة و حفصة لا تكونا بمنزلة امرأة نوح و امرأة لوط في المعصية و كونا بمنزلة امرأة فرعون و مريم و هو قوله «وَ مَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها» أي منعت فرجها من دنس المعصية و عفت عن الحرام و قيل معناه منعت فرجها من الأزواج لم تبتغ زوجا و لا غيره «فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا» أي فنفخ جبرائيل بأمرنا في جيبها من روحنا عن قتادة و قال الفراء كل شق فهو فرج و «أَحْصَنَتْ فَرْجَها» منعت جيب درعها من جبرائيل و قيل نفخ جبرائيل في فرجها و خلق الله منه المسيح و هو الظاهر و لذلك ذكره و قال في سورة الأنبياء فيها و عاد الضمير إلى التي أحصنت فرجها و قيل معناه خلقنا المسيح في بطنها و نفخنا فيه الروح حتى صار حيا فالضمير في فيه يعود إلى المسيح «وَ صَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها» أي بما تكلم الله تعالى و أوحاه إلى أنبيائه و ملائكته و قيل صدقت بوعد الله و وعيده و أمره و نهيه «وَ كُتُبِهِ» أي و صدقت بكتب الله المنزلة على أنبيائه مثل التوراة و الإنجيل و من وحد فالمراد به الإنجيل «وَ كانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ» أي المطيعين لله سبحانه و الدائمين على طاعته و يجوز أن يكون من القنوت في الصلاة و يجوز أن يريد بالقانتين رهطها و عشيرتها الذين كانت مريم‏

479
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 477

منهم و كانوا أهل بيت صلاح و طاعة و لم يقل من القانتات لتغليب المذكر على المؤنث و
جاءت الرواية عن معاذ بن جبل قال دخل رسول الله ص على خديجة و هي تجود بنفسها فقال أكره ما نزل بك يا خديجة و قد جعل الله في الكره خيرا كثيرا فإذا قدمت على ضراتك فأقرئيهن مني السلام قالت يا رسول الله و من هن قال مريم بنت عمران و آسية بنت مزاحم و حليمة أو كليمة أخت موسى شك الراوي فقالت بالرفاء و البنين‏
و
عن أبي موسى عن النبي ص قال كمل من الرجال كثير و لم يكمل من النساء إلا أربع آسية بنت مزاحم امرأة فرعون و مريم بنت عمران و خديجة بنت خويلد و فاطمة بنت محمد ص.

480
مجمع البيان في تفسير القرآن10

سورة الملك مكية و آياتها ثلاثون ص 481

(67) سورة الملك مكية و آياتها ثلاثون (30)
[توضيح‏]
و
تسمى سورة المنجية لأنها تنجي صاحبها من عذاب القبر و قد ورد به الخبر
و تسمى الواقية لما روي عن النبي ص أنها الواقية من عذاب القبر
و هي مكية.
عدد آيها
إحدى و ثلاثون آية مكي و المدني الأخير و ثلاثون آية في الباقين.
اختلافها
آية واحدة «قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ» مكي و المدني الأخير.
فضلها
أبي بن كعب عن النبي ص قال و من قرأ سورة تبارك فكأنما أحيا ليلة القدر
و
عن ابن عباس قال قال رسول الله ص وددت أن تبارك الملك في قلب كل مؤمن‏
و
عن أبي هريرة أن رسول الله ص قال أن سورة من كتاب الله ما هي إلا ثلاثون آية شفعت لرجل فأخرجته يوم القيامة من النار و أدخلته الجنة و هي سورة تبارك‏
و عن ابن مسعود قال إذا وضعت الميت في قبره يؤتى من قبل رجليه فيقال له ليس لكم عليه سبيل لأنه قد كان يقوم بسورة الملك ثم يؤتى من قبل رأسه فيقول لسانه ليس لكم عليه سبيل لأنه كان يقرأ بي سورة الملك ثم قال هي الممانعة من عذاب القبر و هي في التوراة سورة الملك من قرأها في ليلة فقد أكثر و أطيب و
روى الحسن بن محبوب عن جميل بن صالح عن سدير الصيرفي عن أبي جعفر (ع) قال
سورة الملك هي المانعة تمنع من عذاب القبر و هي مكتوبة في التوراة سورة الملك و من قرأها في ليلة فقد أكثر و أطاب و لم يكتب من الغافلين و إني لأركع بها بعد العشاء الآخرة و أنا جالس و إن الذي كان يقرأها في حياته في يومه و ليلته إذا دخل عليه في قبره ناكر و نكير من قبل رجليه قالت رجلاه لهما ليس لكما إلى ما قبلي سبيل قد كان هذا العبد يقوم علي فيقرأ سورة الملك في كل يوم و ليلة فإذا أتياه من قبل جوفه قال لهما ليس لكما إلى ما

481
مجمع البيان في تفسير القرآن10

فضلها ص 481

قبلي سبيل كان هذا العبد و قد وعى سورة الملك و إذا أتياه من قبل لسانه قال لهما ليس لكما إلى ما قبلي سبيل قد كان هذا العبد يقرأ في كل يوم و ليلة سورة الملك.
أبو بصير عن أبي عبد الله (ع) قال من قرأ سورة تبارك الذي بيده الملك في المكتوبة قبل أن ينام لم يزل في أمان الله حتى يصبح و في أمانه يوم القيامة حتى يدخل الجنة إن شاء الله.
تفسيرها
لما ختم الله سبحانه تلك السورة بأن الوصلة لا تنفع إلا بالطاعة و أصل الطاعة المعرفة و التصديق بالكلمات الإلهية افتتح هذه السورة بدلائل المعرفة و آيات الربوبية فقال:
[سورة الملك (67): الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏
تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَ هُوَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَ الْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى‏ فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى‏ مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَ هُوَ حَسِيرٌ (4)
وَ لَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَ جَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ (5)

القراءة
قرأ حمزة و الكسائي من تفوت بتشديد الواو من غير ألف و هي قراءة الأعمش و الباقون «تَفاوُتٍ» بالألف.
الحجة
قال أبو الحسن تفاوت أجود لأنهم يقولون تفاوت الأمر و لا يكادون يقولون تفوت الأمر قال و هي أظن لغة قال سيبويه قد يكون فاعل و فعل بمعنى نحو ضاعف و ضعف و تفاعل مطاوع فاعل كما أن تفعل مطاوع فعل فعلى هذا القياس يكون تفاعل و تفعل بمعنى و تفاوت و تفوت بمعنى.

482
مجمع البيان في تفسير القرآن10

اللغة ص 483

اللغة
تبارك أصله من البرك و هو ثبوت الطائر على الماء و البركة ثبوت الخير بنمائه و قوله «طِباقاً» مصدر طوبقت طباقا فهي مطبق بعضها على بعض عن الزجاج و قيل هو جمع طبق مثل جمل و جمال و التفاوت الاختلاف و الاضطراب و الفطور الشقوق و الصدوع من الفطر و هو الشق الخاسئ الذليل الصاغر و قيل هو البعيد مما يريده منه و قيل للكلب اخسأ و الحسير من الإبل المعيي الذي لا فضل فيه للسير قال:
         بها جيف الحسرى فأما عظامها             فبيض و أما جلدها فصليب‏
و السعير النار المسعرة و أعتدنا أصله أعددنا أي هيأنا فأبدلت الدال تاء.
الإعراب‏
 «الَّذِي خَلَقَ» بدل من «الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ» و يجوز أن يكون خبر مبتدإ محذوف فعلى هذا الوجه يجوز الوقف على ما قبله و على الوجه الأول لا يجوز و قوله «أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا» تعليق لأن التقدير ليبلوكم فيعلم أيكم أحسن عملا و ارتفع أي بالابتداء و إنما لم يعمل فيه ما قبله لأنه على أصل الاستفهام و طباقا نصب على الحال إذا أردنا في سماوات معنى الألف و اللام و إن جعلناها نكرة كان طباقا صفتها و قوله «كَرَّتَيْنِ» منصوب على المصدر أي رجعتين.
المعنى‏
أخبر سبحانه عن عظمته و علو شأنه و كمال قدرته فقال «تَبارَكَ» أي تعالى و جل عما لا يجوز عليه في ذاته و أفعاله عن أبي مسلم و قيل معناه تعالى بأنه الثابت الذي لم يزل و لا يزال و قيل معناه تعاظم بالحق من ثبوت الأشياء به إذ لولاه لبطل كل شي‏ء لأنه لا يصح سواه شي‏ء إلا و هو مقدوره أو مقدور مقدوره الذي هو القدرة و قيل معناه تعالى من جميع البركات منه إلا أن هذا المعنى مضمر في الصفة غير مصرح به و إنما المصرح به أنه تعالى باستحقاق التعظيم «الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ» و الملك هو اتساع المقدور لمن له السياسة و التدبير و معناه الذي هو المالك و له الملك يؤتيه من يشاء و يتصرف فيه كما يشاء و إنما ذكر اليد تأكيدا و لأن أكثر التصرفات و العطايا باليد «وَ هُوَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ» من إنعام و انتقام و قيل معناه أنه قادر على كل شي‏ء يصح أن يكون مقدورا له و هو أخص من قولنا وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَلِيمٌ* لأنه لا شي‏ء إلا و يجب أن يعلمه إذ لا شي‏ء إلا و يصح أن يكون معلوما في نفسه و لا يوصف سبحانه بكونه قادرا على ما لا يصح أن يكون مقدورا في نفسه مثل ما تقضي وقته مما لا يبقى ثم وصف سبحانه نفسه فقال «الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَ الْحَياةَ» أي خلق الموت‏

483
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 483

للتعبد بالصبر عليه و الحياة للتعبد بالشكر عليها و قيل خلق الموت للاعتبار و الحياة للتزود و قيل إنما قدم ذكر الموت على الحياة لأنه إلى القهر أقرب كما قدم البنات على البنين في قوله «يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً» الآية و قيل إنما قدمه لأنه أقدم فإن الأشياء في الابتداء كانت في حكم الأموات كالنطفة و التراب ثم اعترضت الحياة «لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا» أي ليعاملكم معاملة المختبر بالأمر و النهي فيجازي كل عامل بقدر عمله و قيل ليبلوكم أيكم أكثر للموت ذكرا و أحسن له استعدادا و أحسن صبرا على موته و موت غيره و أيكم أكثر امتثالا للأوامر و اجتنابا عن النواهي في حال حياته‏
قال أبو قتادة سألت النبي ص عن قوله تعالى «أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا» ما عنى به فقال يقول أيكم أحسن عقلا ثم قال أتمكم عقلا و أشدكم لله خوفا و أحسنكم فيما أمر الله به و نهى عنه نظرا و إن كان أقلكم تطوعا
و
عن ابن عمر عن النبي ص أنه تلا قوله تعالى «تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ» إلى قوله «أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا» ثم قال أيكم أحسن عقلا و أورع عن محارم الله و أسرع في طاعة الله‏
و عن الحسن أيكم أزهد في الدنيا و أترك لها «وَ هُوَ الْعَزِيزُ» في انتقاله ممن عصاه «الْغَفُورُ» لمن تاب إليه أو لمن أراد التفضل عليه بإسقاط عقابه و التكليف إنما يصح بالترغيب و الترهيب لأن معناه تحمل المشقة في الأمر و النهي ثم عاد سبحانه إلى وصف نفسه فقال «الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ» أي أنشأهن و اخترعهن «طِباقاً» واحدة فوق الأخرى و قيل أراد بالمطابقة المشابهة أي يشبه بعضها بعضا في الإتقان و الأحكام و الاتساق و الانتظام «ما تَرى‏ فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ» أي اختلاف و تناقض من طريق الحكمة بل ترى أفعاله كلها سواء في الحكمة و إن كانت متفاوتة في الصور و الهيئات يعني في خلق الأشياء على العموم و في هذا دلالة على أن الكفر و المعاصي لا يكون من خلق الله تعالى لكثرة التفاوت في ذلك و قيل معناه ما ترى يا ابن آدم في خلق السماوات من عيب و اعوجاج بل هي مستقيمة مستوية كلها مع عظمها «فَارْجِعِ الْبَصَرَ» أي فرد البصر و أدره في خلق الله و استقص في النظر مرة بعد أخرى و التقدير أنظر ثم ارجع النظر في السماء «هَلْ تَرى‏ مِنْ فُطُورٍ» أي شقوق و فتوق عن سفيان و قيل من وهن و خلل عن ابن عباس و قتادة «ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ» أي ثم كرر النظر مرتين لأن من نظر في الشي‏ء كرة بعد أخرى بأن له ما لم يكن بائنا و قيل معناه أدم النظر و التقدير ارجع البصر مرة بعد أخرى و لا يريد حقيقة التثنية لقوله «وَ هُوَ حَسِيرٌ» و لا يصير حسيرا بمرتين و نظيره قولهم لبيك و سعديك أي إلبابا بعد إلباب و إسعادا بعد إسعاد يعني كلما دعوتني فأنا ذو إجابة بعد إجابة و ذو ثبات بمكاني بعد ثبات من قولهم لب بالمكان و ألب إذا ثبت و أقام و هو نصب على المصدر أي أجيبك إجابة بعد إجابة «يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَر

484
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 483

خاسِئاً» أي يرجع إليك بصرك بعيدا عن نيل المراد ذليلا صاغرا عن ابن عباس كأنه ذل كذلة من طلب شيئا فلم يجده و أبعد عنه «وَ هُوَ حَسِيرٌ» أي كال معي عن قتادة و التحقيق أن بصر هذا الناظر بعد الإعياء يرجع إليه بعيدا عن طلبته خائبا في بغيته ثم أقسم سبحانه فقال «وَ لَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا» لأن هذه اللام هي التي يتلقى بها القسم أي حسنا السماء الدنيا يعني التي هي أدنى إلى الأرض و هي التي يراها الناس «بِمَصابِيحَ» واحدها مصباح يعني الكواكب سماها المصابيح لإضاءتها و هي السرج «وَ جَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ» الذين يسترقون السمع و قيل ينفصل من الكواكب شهب تكون رجوما للشياطين فأما الكواكب أنفسها فليست تزول إلى أن يريد الله تعالى إفناءها عن الجبائي «وَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ» يعني أنا جعلنا مع الكواكب رجوما للشياطين هيأنا لهم و ادخرنا لأجلهم عذاب النار المسعرة المشعلة و في هذا دلالة على أن الشياطين مكلفة.
[سورة الملك (67): الآيات 6 الى 11]
وَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَ هِيَ تَفُورُ (7) تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَ لَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قالُوا بَلى‏ قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَ قُلْنا ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ (9) وَ قالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ (10)
فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ (11)

القراءة
قرأ أبو جعفر و الكسائي فسحقا بضمتين و الباقون بالتخفيف.
الحجة
سحق و سحق مثل عنق و عنق و طنب و طنب و نحو ذلك و كلاهما حسن.
اللغة
الشهيق صوت تقطيع النفس كالنزع و إذا اشتد لهيب النار سمع منها ذلك الصوت كأنها تطلب الوقود قال رؤبة:

485
مجمع البيان في تفسير القرآن10

اللغة ص 485

         حشرج في الجوف سحيلا أو شهق             حتى يقال ناهق و ما نهق‏
و قيل إن الشهيق في الصدر و الزفير في الحلق و الفور ارتفاع الشي‏ء بالغليان يقال فارت القدر تفور و منه الفوارة لارتفاعها بالماء ارتفاع الغليان و منه فار الدم من الجرح و فار الماء من الأرض و السحق البعد يقال أسحقهم الله إسحاقا و سحقا أي ألزمهم الله سحقا عن الخير فجاء المصدر على غير لفظه كما قال وَ اللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً و تقديره فأسحقهم إسحاقا و أما سحقته سحقا فمعناه باعدته بالتفريق عن حال اجتماعه حتى صار كالغبار.
المعنى‏
لما تقدم وعيد الشياطين الذين دعوا إلى الكفر و الضلال أتبعه سبحانه بذكر الكفار الضلال فقال «وَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ» أي بئس المال و المرجع و إنما وصف ببئس و هو من صفات الذم و العقاب حسن لما في ذلك من الضرر الذي يجب على كل عاقل أن يتقيه بغاية الجهد و لا يجوز قياسا على ذلك أن يوصف به فاعل العقاب لأنه لا يقال بئس الرجل إلا على وجه الذم و وجه الحكمة في فعل العقاب ما فيه من الزجر المتقدم للمكلف و لا يمكن أن يكون مزجورا إلا به و لولاه لكان مغرى بالقبيح «إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً» أي إذا طرح الكفار في النار سمعوا للنار صوتا فظيعا مثل صوت القدر عند فورانها و غليانها فيعظم بسماع ذلك عذابهم لما يرد على قلوبهم من قوله «وَ هِيَ تَفُورُ» أي تغلي بهم كغلي المرجل «تَكادُ تَمَيَّزُ» أي تتقطع و تتفرق «مِنَ الْغَيْظِ» أي شدة الغضب سمى سبحانه شدة التهاب النار غيظا على الكفار لأن المغتاظ هو المتقطع مما يجد من الألم الباعث على الإيقاع بغيره فحال جهنم كحال المتغيظ «كُلَّما أُلْقِيَ فِيها» أي كلما طرح في النار «فَوْجٌ» من الكفار «سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَ لَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ» أي تقول لهم الملائكة الموكلون بالنار على وجه التبكيت لهم في صيغة الاستفهام أ لم يجئكم مخوف من جهة الله سبحانه يخوفكم عذاب هذه النار «قالُوا بَلى‏ قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَ قُلْنا ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْ‏ءٍ» أي فيقولون في جوابهم بلى قد جاءنا مخوف فلم نصدقه و كذبناه و لم نقبل منه بل قلنا له ما نزل الله شيئا مما تدعونا إليه و تحذرنا منه فتقول لهم الملائكة «إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ» أي لستم اليوم إلا في عذاب عظيم و قيل معناه قلنا للرسل ما أنتم إلا في ضلال أي ذهاب عن الصواب كبير في قولكم أنزل الله علينا كتابا «وَ قالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ» من النذر ما جاءونا به و دعونا إليه و عملنا بذلك «ما كُنَّا فِي‏

486
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 486

أَصْحابِ السَّعِيرِ» و قال الزجاج لو كنا نسمع سمع من يعي و يفكر و نعقل عقل من يميز و ينظر ما كنا من أهل النار و
في الحديث عن ابن عمر أن النبي ص قال إن الرجل ليكون من أهل الجهاد و من أهل الصلاة و الصيام و ممن يأمر بالمعروف و ينهى عن المنكر و ما يجزي يوم القيامة إلا على قدر عقله‏
و
عن أنس بن مالك قال أثنى قوم على رجل عند رسول الله ص فقال رسول الله ص كيف عقل الرجل قالوا يا رسول الله نخبرك عن اجتهاده في العبادة و أصناف الخير و تسألنا عن عقله فقال إن الأحمق يصيب بحمقه أعظم من فجور الفاجر و إنما يرتفع العباد غدا في الدرجات و ينالون الزلفى من ربهم على قدر عقولهم‏
ثم قال سبحانه «فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ» في ذلك الوقت الذي لا ينفعهم فيه الإقرار و الاعتراف و الإقرار مشتق من قر الشي‏ء يقر قرارا إذا ثبت و الاعتراف مأخوذ من المعرفة و الذنب مصدر لا يثنى و لا يجمع و متى جمع فلاختلاف جنسه «فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ» هذا دعاء عليهم أي أسحقهم الله و أبعدهم من النجاة سحقا و إذا قيل ما وجه اعترافهم بالذنب مع ما عليهم من الفضيحة به فالجواب أنهم قد علموا حصولهم على الفضيحة اعترفوا أم لم يعترفوا فليس يدعوهم إلى أحد الأمرين إلا مثل ما يدعوهم إلى الآخر في أنه لا فرج فيه فاستوى الأمران عليهم الاعتراف و ترك الاعتراف و الجزع و ترك الجزع.

487
مجمع البيان في تفسير القرآن10

سورة الملك الآيات 12 الى 21 ص 488

 [سورة الملك (67): الآيات 12 الى 21]
إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ كَبِيرٌ (12) وَ أَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (13) أَ لا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَ هُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَ كُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَ إِلَيْهِ النُّشُورُ (15) أَ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ (16)
أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَ لَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (18) أَ وَ لَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَ يَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ بَصِيرٌ (19) أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إِنِ الْكافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ (20) أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَ نُفُورٍ (21)

القراءة
قرأ ابن كثير النشور و أمنتم و قرأ أبو جعفر و نافع و أبو عمرو و يعقوب بهمزة واحدة ممدودة و هو تحقيق الهمزة الأولى و تخفيف الثانية بأن تجعل بين بين و قرأ الباقون «أَ أَمِنْتُمْ» بهمزتين.
الحجة
أما الأول فهو تخفيف الهمزة الأولى بأن جعلت واوا و هذا في المنفصل نظير قولهم في المتصل التؤدة و جون في جمع جؤنة فأما الهمزة التي هي فاء من قولهم «أَ أَمِنْتُمْ» بعد تخفيف الأولى بقلبها واوا فإنه يجوز فيه التحقيق و التخفيف فإن حقق كان لفظه النشور و أمنتم و إن خفف كان القياس أن تجعل بين بين أعني بين الألف و الهمزة لتحركها بالفتحة و من قال‏
         " لا هناك المرتع"
و قلبها ألفا كان القياس أن يقول هنا النشور و أمنتم بقلبها ألفا محضة و سيبويه يجيز هذا القلب في الشعر و غير حال السعة و كان قياس قول أبي عمرو على ما حكاه عنه سيبويه من أنه إذا اجتمع همزتان خفف الأولى منهما دون الثانية أن يقلب الأولى منهما هنا واوا كما فعله ابن كثير فأما الثانية فإن شاء حققها و إن شاء خففها و تخفيفها أن تجعل بين الهمزة و الألف و لعل أبا عمرو ترك هذا القول في هذا الموضع فأخذ فيه بالوجه الآخر و هو تخفيف الثانية منهما إذا التقتا دون الأولى.
اللغة
اللطف من الله الرأفة و الرحمة و الرفق و اللطيف الرفيق بعبادة يقال لطف به يلطف لطفا إذا رفق به و الذلول من المراكب ما لا صعوبة فيه و مناكب الأرض ظهورها و منكب كل شي‏ء أعلاه و أصله الجانب و منه منكب الرجل و الريح النكباء و النشور الحياة بعد الموت يقال نشر الميت ينشر نشورا إذا عاش و أنشره الله أحياه قال الأعشى:

488
مجمع البيان في تفسير القرآن10

اللغة ص 488

         حتى يقول الناس مما رأوا             يا عجبا للميت الناشر
و أصله من النشر ضد الطي و الحاصب الحجارة التي ترمي بها كالحصاء و حصبه بالحصاة يحصبه حصبا إذا رماه بها و يقال للذي يرمي به حاصب أي ذو حصب.
الإعراب‏
 «بِالْغَيْبِ» في موضع نصب على الحال «" أَ لا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ"» فيه وجوه (أحدها) أن يكون «مَنْ خَلَقَ» في موضع رفع بأنه فاعل يعلم و التقدير أ لا يعلم من خلق الخلق ضمائر صدورهم (الثاني) أن يكون «مَنْ خَلَقَ» في موضع نصب بأنه مفعول به و تقديره أ لا يعلم الله من خلقه (و الثالث) أن يكون استفهاما في موضع نصب بأنه مفعول و فاعل خلق الضمير المستكن فيه العائد إلى الله تعالى و الأول أصح الوجوه و قوله «أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ» في موضع نصب بأنه بدل من في قوله «مَنْ فِي السَّماءِ» و هو بدل الاشتمال «فَإِذا هِيَ تَمُورُ» إذا ظرف المفاجاة و هو معمول. قوله «هِيَ تَمُورُ» جملة في موضع نصب على الحال من «يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ» و ذو الحال الأرض و «أَنْ يُرْسِلَ» بدل أيضا مثل قوله «أَنْ يَخْسِفَ» و قوله «كَيْفَ نَذِيرِ» مبتدأ و خبر و الخبر مقدم و الجملة متعلقة بقوله «فَسَتَعْلَمُونَ» و التقدير فستعلمون محذور إنذاري أم لا و قوله «فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ» كيف هنا خبر كان و قوله «وَ يَقْبِضْنَ» معطوف على «صافَّاتٍ» و إنما عطف الفعل على الاسم و من الأصل المقرر أن الفعل لا يعطف إلا على الفعل كما أن الاسم لا يعطف إلا على الاسم لأنه و إن كان فعلا فهو في موضع الحال فتقديره تقدير اسم فاعل و صافات حال فجاز أن يعطف عليه فكأنه قال صافات و قابضات و قد جاء مثل هذا في الشعر قال:
         بات يعشيها بعضب باتر             يعدل في أسوقها و جائر
 «أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ» من هنا استفهام في موضع رفع بالابتداء دخل عليه أم المنقطعة و هذا مبتدأ ثان و الذي خبره و قد وصل بالمبتدإ و الخبر و هو قوله «هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ» و «يَنْصُرُكُمْ» صفة الجند.

489
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 490

المعنى‏
لما تقدم الوعيد عقبه سبحانه بالوعد فقال «إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ» أي يخافون عذاب ربهم باتقاء معاصيه و فعل طاعاته على وجه الاستسرار بذلك لأن الخشية متى كانت بالغيب على ما ذكرنا كانت بعيدة من الرياء خالصة لوجه الله و خشية الله بالغيب تنفع بأن يستحق عليها الثواب و خشيته في الظاهر بترك المعاصي لا يستحق بها الثواب فإذا الخشية بالغيب أفضل لا محالة و قيل بالغيب معناه أنه يخشونه و لم يروه فيؤمنون به خوفا من عذابه و قيل يخافونه حيث لا يراهم مخلوق لأن أكثر ما ترتكب المعاصي إنما ترتكب في حال الخلوة فهم يتركون المعصية لئلا يجعلوا الله سبحانه أهون الناظرين إليهم و لأن من تركها في هذه الحال تركها في حال العلانية أيضا «لَهُمْ مَغْفِرَةٌ» لذنوبهم «وَ أَجْرٌ كَبِيرٌ» أي عظيم في الآخرة لا فناء له ثم قال سبحانه مهددا للعصاة «وَ أَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ» يعني أنه عالم بإخلاص المخلص و نفاق المنافق فإن شئتم فأظهروا القول و إن شئتم فأبطنوه فإنه عليم بضمائر القلوب و من علم إضمار القلب علم أسرار القول قال ابن عباس كانوا ينالون من رسول الله ص فيخبره به جبرئيل فقال بعضهم لبعض أسروا قولكم لكيلا يسمع آل محمد فنزلت الآية «أَ لا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ» قيل في معناه وجوه (أحدها) أ لا يعلم ما في الصدور من خلق الصدور (و ثانيها) أ لا يعلم سر العبد من خلقه أي من خلق العبد فعلى الوجهين يكون «مَنْ خَلَقَ» بمعنى الخالق (و ثالثها) أن يكون من خلق بمعنى المخلوق و المعنى أ لا يعلم الله مخلوقة «وَ هُوَ اللَّطِيفُ» أي العالم بما لطف و دق و قيل اللطيف بعباده من حيث يدبرهم بألطف التدبير و اللطيف التدبير من يدبر تدبيرا نافذا لا يجفو عن شي‏ء يدبره به و قيل اللطيف من كان فعله في اللطف بحيث لا يهتدي إليه غيره و هو فعيل بمعنى فاعل كالقدير و العليم و قيل هو بمعنى الملطف كالبديع بمعنى المبدع و قيل اللطيف الذي يكلف اليسير و يعطي الكثير «الْخَبِيرُ» العالم بالعباد و أعمالهم ثم عدد سبحانه أنواع نعمه ممتنا على عباده بذلك فقال «هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا» أي سهلة ساكنة مسخرة تعملون فيها ما تشتهون و قيل ذلولا لم يجعلها بحيث يمتنع المشي فيها بالحزونة و الغلظ و قيل ذلولا موطأة للتصرف فيها و المسير عليها و يمكنكم زراعتها «فَامْشُوا فِي مَناكِبِها» أي في طرقها و فجاجها عن مجاهد و قيل في جبالها لأن منكب كل شي‏ء أعلاه عن ابن عباس و قتادة ثم إن كان هذا أمر ترغيب فالمراد فامشوا في طاعة الله و إن كان للإباحة فقد أباح المشي فيها لطلب المنافع في التجارات «وَ كُلُوا مِنْ رِزْقِهِ» أي كلوا مما أنبت الله في الأرض و الجبال من الزروع و الأشجار حلالا «وَ إِلَيْهِ النُّشُورُ» أي و إلى حكمه المرجع في القيامة و قيل معناه و إليه الإحياء للمحاسبة فهو مالك النشور و القادر عليه عن الجبائي ثم‏

490
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 490

هدد سبحانه الكفار زاجرا لهم عن ارتكاب معصيته و الجحود لربوبيته فقال «أَ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ» أي أمنتم عذاب من في السماء سلطانه و أمره و نهيه و تدبيره لا بد أن يكون هذا معناه لاستحالة أن يكون الله جل جلاله في مكان أو في جهة و قيل يعني بقوله «مَنْ فِي السَّماءِ» الملك الموكل بعذاب العصاة «أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ» يعني أن يشق الأرض فيغيبكم فيها إذا عصيتموه «فَإِذا هِيَ تَمُورُ» أي تضطرب و تتحرك و المعنى أن الله يحرك الأرض عند الخسف بهم حتى تضطرب فوقهم و هم يخسفون فيها حتى تلقيهم إلى أسفل و المور التردد في الذهاب و المجي‏ء مثل الموج «أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً» أي ريحا ذات حجر كما أرسل على قوم لوط حجارة من السماء و قيل سحابا يحصب عليكم الحجارة «فَسَتَعْلَمُونَ» حينئذ «كَيْفَ نَذِيرِ» أي كيف إنذاري إذا عاينتم العذاب «وَ لَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» رسلي و جحدوا وحدانيتي «فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ» أي عقوبتي و تغييري ما بهم من النعم و قيل كيف رأيتم إنكاري عليهم بإهلاكهم و استئصالهم ثم نبه سبحانه على قدرته على الخسف و إرسال الحجارة فقال «أَ وَ لَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ» تصف أجنحتها في الهواء فوق رءوسهم «وَ يَقْبِضْنَ» أجنحتهن بعد البسط و هذا معنى الطيران و هو بسط الجناح و قبضه بعد البسط أي يضربن بأرجلهن و يبسطن أجنحتهن تارة و يقبضن أخرى فالجو للطائر كالماء للسابح و قيل معناه أن من الطير ما يضرب بجناحه فيصف و منه ما يمسكه فيدف و منه الصفيف و الدفيف «ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ» بتوطئة الهواء لهن و لو لا ذلك لسقطن و في ذلك أعظم دلالة و أوضح برهان و حجة بأن من سخر الهواء هذا التسخير على كل شي‏ء قدير و الصف وضع الأشياء المتوالية على خط مستقيم و القبض جمع الأشياء عن حال البسط و الإمساك اللزوم المانع من السقوط عن علي بن عيسى «إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ بَصِيرٌ» أي بجميع الأشياء عليم «أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ» هذا استفهام إنكار أي لا جند لكم ينصركم مني و يمنعكم من عذابي إن أردت عذابكم عن ابن عباس و لفظ الجند موحد و لذلك قال «هذَا الَّذِي» و كأنه سبحانه يقول للكفار بأي قوة تعصونني أ لكم جند يدفع عنكم عذابي بين بذلك أن الأصنام لا يقدرون على نصرتهم «إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ» أي ما الكافرون إلا في غرور من الشيطان يغرهم بأن العذاب لا ينزل بهم و قيل معناه ما هم إلا في أمر لا حقيقة له من عبادة الأوثان يتوهمون أن ذلك ينفعهم و الأمر بخلافه «أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ» أي الذي يرزقكم إن أمسك الله الذي هو رازقكم أسباب رزقه عنكم و هو المطر هاهنا «بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَ نُفُورٍ» أي ليسوا يعتبرون فينظرون بل تمادوا و استمروا في اللجاج و جاوزوا الحد في‏

491
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 490

تماديهم و نفورهم عن الحق و تباعدهم عن الإيمان لما كان للمشركين صوارف كثيرة عن عبادة الأوثان و هم كانوا يتقحمون بذلك على العصيان فقد لجوا في عتوهم قال الفراء قوله «أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ» الآية تعريف حجة ألزمها الله العباد فعرفوا فأقروا بها و لم يردوا لها جوابا فقال سبحانه «بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَ نُفُورٍ».
[سورة الملك (67): الآيات 22 الى 30]
أَ فَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى‏ وَجْهِهِ أَهْدى‏ أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَ جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ وَ الْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَ يَقُولُونَ مَتى‏ هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَ إِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26)
فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ قِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27) قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَ مَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (29) قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ (30)

القراءة
قرأ يعقوب تدعون ساكنة الدال خفيفة و هو قراءة الحسن و الضحاك و قتادة و الباقون «تَدَّعُونَ» بالتشديد و قرأ الكسائي فسيعلمون بالياء و الباقون بالتاء.
الحجة
أما قوله تدعون فالمعنى هذا الذي كنتم به تدعون الله كقوله تعالى «سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ» و أما «تَدَّعُونَ» بالتشديد فمعناه تتداعون بوقوعه قال ابن جني‏

492
مجمع البيان في تفسير القرآن10

الحجة ص 492

يعني كان الدعوة بوقوعه فاشية بينكم كقوله تعالى في معنى العموم «وَ لا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ» أي لا يفش هذا فيكم و ليس معنى تدعون هنا من ادعاء الحقوق و إنما بمعنى تتداعون من الدعاء لا من الدعوى كما في قول الشاعر
         " فما برحت خيل تثوب و تدعي"
يعني تتداعى بينهما يا لفلان.
اللغة
يقال كببته فأكب و هو نادر مثل قشعت الريح السحاب فأقشعت و نزفت البئر فأنزفت أي ذهب ماؤها و نسلت ريش الطائر فأنسل و الزلفة القربة و هو مصدر يستوي فيه الواحد و الجمع و منه المزدلفة لقربه من مكة و قد تجمع الزلفة زلفا قال العجاج:
         ناج طواه الأين مما وجفا             طي الليالي زلفا فزلفا
و ساءه الأمر يسوؤه سوءا أي غمه و حزنه و منه أساء يسي‏ء إذا فعل ما يؤدي إلى الغم و ماء غور أي غائر وصف بالمصدر مبالغة كما يقال هؤلاء زور فلان و ضيفه و المعين قيل أنه مفعول مأخوذ من العين فعلى هذا يكون مثل مبيع من البيع و قيل أنه من الإمعان في الجري فعلى هذا يكون على وزن فعيل فكأنه قيل ممعن في الإسراع و الظهور.
الإعراب‏
قليلا صفة مصدر محذوف أي تشكرون شكرا قليلا و ما مزيدة «فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» يحتمل أن يكون من استفهاما فيكون اسما موصولا قال أبو علي دخلت الفاء في قوله «فَمَنْ يُجِيرُ» و قوله «فَمَنْ يَأْتِيكُمْ» لأن أ رأيتم بمعنى انتبهوا أي انتبهوا فمن يجير و انتبهوا فمن يأتيكم كما تقول قم فزيد قائم قال و لا يكون الفاء جواب الشرط و إنما يكون جواب الشرط مدلول «أَ رَأَيْتُمْ» قال و إن شئت كان الفاء زائدة مثلها في قوله «فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ» و يكون الاستفهام سادا مسدة مفعولي أ رأيتم كقولهم أ رأيت زيدا ما فعل و هذا من دقائقه.
المعنى‏
ثم ضرب سبحانه مثلا للكافر و المؤمن فقال «أَ فَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى‏ وَجْهِهِ» أي منكسا رأسه إلى الأرض فهو لا يبصر الطريق و لا من يستقبله ينظر أمامه و لا يمينه و لا شماله و هو الكافر المقلد لا يدري أ محق هو أم مبطل هذا «أَهْدى‏ أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا» أي مستويا قائما يبصر الطريق و جميع جهاته كلها فيضع قدمه حيث لا يعثر و هو المؤمن الذي سلك طريق الحق و عرفه و استقام عليه و أمكنه دفع المضار عن نفسه و جلب المنافع إليها «عَلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» أي على طريق واضح قيم و هذا معنى قول ابن عباس و مجاهد و قيل‏

493
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 493

أن هذا في الآخرة يحشر الله الكافر مكبا على وجهه يوم القيامة كما قال وَ نَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى‏ وُجُوهِهِمْ عن قتادة «قُلْ» يا محمد لهؤلاء الكفار «هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ» بأن أخرجكم من العدم إلى الوجود «وَ جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ» تسمعون به المسموعات «وَ الْأَبْصارَ» تبصرون بها المبصرات «وَ الْأَفْئِدَةَ» يعني القلوب تعقلون بها و تتدبرون فأعطاكم آلات التفكر و التمييز و الوصول إلى العلم «قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ» أي تشكرون قليلا و قيل معناه قليلا شكركم فتكون ما مصدرية «قُلْ» لهم يا محمد «هُوَ» الله تعالى «الَّذِي ذَرَأَكُمْ» أي خلقكم «فِي الْأَرْضِ وَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ» منها أي تبعثون إليه يوم القيامة فيجازيكم على أعمالكم ثم حكى سبحانه ما كان يقوله الكفار مستبطئين عذاب الله مستهزئين بذلك فقال «وَ يَقُولُونَ مَتى‏ هذَا الْوَعْدُ» من الخسف و الحاصب أو البعث و الجزاء «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» في أن ذلك يكون «قُلْ» يا محمد «إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ» يعني علم الساعة «وَ إِنَّما أَنَا نَذِيرٌ» مخوف لكم به «مُبِينٌ» أي مبين لكم ما أنزل الله إلى من الوعد و الوعيد و الأحكام ثم ذكر سبحانه حالهم عند نزول العذاب و معاينته فقال «فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً» أي فلما رأوا العذاب قريبا يعني يوم بدر عن مجاهد و قيل معاينة عن الحسن و قيل أن اللفظ ماض و المراد به المستقبل و المعنى إذا بعثوا و رأوا القيامة قد قامت و رأوا ما أعد لهم من العذاب و هذا قول أكثر المفسرين «سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا» أي اسودت وجوههم و علتها الكآبة يعني قبحت وجوههم بالسواد و قيل معناه ظهرت على وجوههم آثار الغم و الحسرة و نالهم السوء و الخزي «وَ قِيلَ» لهؤلاء الكفار إذا شاهدوا العذاب «هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ» قال الفراء تدعون و تدعون واحد مثل تدخرون و تدخرون و المعنى كنتم به تستعجلون و تدعون الله بتعجيله و هو قولهم إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ الآية عن ابن زيد و قيل هو تدعون من الدعوى أي تدعون أن لا جنة و لا نار عن الحسن و روى الحاكم أبو القاسم الحسكاني بالأسانيد الصحيحة عن الأعمش قال لما رأوا لعلي بن أبي طالب (ع) عند الله من الزلفى سيئت وجوه الذين كفروا و
عن أبي جعفر (ع) فلما رأوا مكان علي (ع) من النبي ص سيئت وجوه الذين كفروا يعني الذين كذبوا بفضله‏
 «قُلْ» لهؤلاء الكفار «أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَ مَنْ مَعِيَ» بأن يميتنا «أَوْ رَحِمَنا» بتأخير آجالنا «فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ» استحقوه بكفرهم و ما الذي ينفعهم في دفع العذاب عنهم و قيل أن الكفار كانوا يتمنون موت النبي ص و موت أصحابه فقيل له قل لهم إن أهلكني الله و من معي ذلك بأن يميتني و يميت أصحابي فمن الذي ينفعكم و يؤمنكم من العذاب فإنه واقع بكم لا محالة و قيل معناه أ رأيتم أن عذبني الله و من معي أو رحمنا أي غفر لنا فمن يجيركم أي نحن مع إيماننا

494
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 493

بين الخوف و الرجاء فمن يجيركم مع كفركم من العذاب و لا رجاء لكم كما للمؤمنين عن ابن عباس و ابن كيسان ثم قال «قُلْ» لهؤلاء الكفار على وجه التوبيخ لهم «هُوَ الرَّحْمنُ» أي إن الذي أدعوكم إليه هو الرحمن الذي عمت نعمته جميع الخلائق «آمَنَّا بِهِ وَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْنا» أي عليه اعتمدنا و جميع أمورنا إليه فوضنا «فَسَتَعْلَمُونَ» معاشر الكفار يوم القيامة «مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» اليوم أ نحن أم أنتم و من قرأ بالياء فمعناه فسيعلم الكفار ذلك «قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً» أي غائرا ناضبا في الآبار و العيون «فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ» أي ظاهر للعيون عن أبي مسلم و الجبائي و قيل بماء جار عن ابن عباس و قتادة أراد سبحانه أنه المنعم بالأرزاق فاشكروه و اعبدوه و لا تشركوا به شيئا و ذكر مقاتل أنه أراد بقوله «ماؤُكُمْ» بئر زمزم و بئر ميمون و هي بئر عادية قديمة و كان ماؤهم من هاتين البئرين و المعين الذي تناله الدلاء و تراه العيون.

495
مجمع البيان في تفسير القرآن10

سورة القلم مكية و آياتها ثنتان و خمسون ص 496

(68) سورة القلم مكية و آياتها ثنتان و خمسون (52)
[توضيح‏]
و تسمى أيضا سورة ن و هي مكية عن الحسن و عكرمة و عطاء و قال ابن عباس و قتادة من أولها إلى قوله «سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ» مكي و ما بعده إلى قوله «لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ» مدني و ما بعده إلى قوله «يَكْتُبُونَ» مكي و ما بعده مدني و هي اثنتان و خمسون آية بالإجماع.
فضلها
أبي بن كعب قال قال النبي ص و من قرأ سورة ن و القلم أعطاه ثواب الذين حسن أخلاقهم‏
علي بن ميمون عن أبي عبد الله (ع) قال من قرأ سورة ن و القلم في فريضة أو نافلة آمنه الله أن يصيبه في حياته فقر أبدا و أعاذه إذا مات من ضمة القبر إن شاء الله.
تفسيرها
ختم الله سبحانه سورة الملك بذكر تكذيب الكفار و وعيدهم و افتتح هذه السورة بمثل ذلك فقال:

496
مجمع البيان في تفسير القرآن10

سورة القلم الآيات 1 الى 16 ص 497

[سورة القلم (68): الآيات 1 الى 16]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏
ن وَ الْقَلَمِ وَ ما يَسْطُرُونَ (1) ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَ إِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَ إِنَّكَ لَعَلى‏ خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)
فَسَتُبْصِرُ وَ يُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7) فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9)
وَ لا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كانَ ذا مالٍ وَ بَنِينَ (14)
إِذا تُتْلى‏ عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16)

القراءة
مضى ذكر اختلاف القراء في إظهار النون و إخفائها من نون في سورة ياسين فلا وجه لإعادته و قرأ أبو جعفر و ابن عامر و يعقوب و سهل آن كان بهمزة واحدة ممدودة على الاستفهام و قرأ أبو بكر عن عاصم و حمزة أ إن كان بهمزتين و قرأ الباقون «أَنْ كانَ» بفتح الهمزة من غير استفهام.
الحجة
قال أبو علي «أَنْ كانَ ذا مالٍ» لا يخلو من أن يكون العامل فيه تتلى من قوله «إِذا تُتْلى‏ عَلَيْهِ آياتُنا» أو قال من قوله «قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ» أو شي‏ء ثالث فلا يجوز أن يعمل واحد منهما فيه أ لا ترى أن تتلى قد أضيفت إذا إليه و المضاف إليه لا يعمل فيما قبله لا تقول القتال زيدا حين يأتي و لا يجوز أن يعمل فيه قال أيضا لأن قال جواب إذا و حكم الجواب أن يكون بعد ما هو جواب له و لا يتقدم عليه فكما لا يعمل فيه الفعل الأول فكذلك لا يعمل فيه الثاني فإذا لم يعمل فيه واحد من هذين الفعلين و ليس في الكلام غيرهما علمت أنه محمول على شي‏ء آخر مما دل باقي الكلام عليه و الذي يدل عليه هذا الكلام من المعنى هو يجحد أو يكفر أو يستكبر عن قبول الحق و نحو ذلك و إنما جاز أن يعمل فيه المعنى و إن كان متقدما عليه لشبهه بالظرف و الظرف قد تعمل فيه المعاني و إن تقدم عليه و يدلك على مشابهته الظرف تقدير اللام معه و إن من النحويين من يقول أنه في موضع جر كما أنه لو كانت اللام معه ظاهرة كان كذلك و من قرأ بهمزة ممدودة فإنه يزيد همزة بعدها همزة مخففة.
اللغة
السطر الكتابة و هو وضع الحروف على خط مستقيم و استطر اكتتب و المسطر آلة التسطير و الممنون المقطوع يقال منه السير يمنه منا إذا قطعه و المنين الضعيف و الخلق المرور في الفعل على عادة فالخلق الكريم الصبر على الحق و تدبير الأمور على مقتضى العقل و في ذلك الأناة و الرفق و الحلم و المداراة و المفتون المبتلى بتخبيل الرأي كالمجنون يقال فتن فلان بفلانة و أصل الفتنة الابتلاء و الاختبار و المهين الضعيف الذليل و المهانة الذلة

497
مجمع البيان في تفسير القرآن10

اللغة ص 497

و القلة و الهماز الوقاع في الناس بما ليس له أن يعيبهم به و الأصل فيه الدفع بشدة اعتماد و منه الهمزة حرف من الحروف المعجمة فهي نبرة تخرج من الصدر بشدة اعتماد و النميم التضريب بين الناس بنقل الكلام الذي يغيظ بعضهم على بعض و النميم و النميمة بمعنى و منه النمام المشموم لأنه بحدة ريحه كالمخبر عن نفسه و العتل الجافي الغليظ و أصله الدفع عتله يعتله إذا زعزعه بغلظة و جفاء و الزنيم الدعي الملصق بالقوم و ليس منهم و أصله الزنمة و هي الهنية المتدلية تحت حلق الجدي و يقال للتيس له زنمتان قال الشاعر:
         زنيم ليس يعرف من أبوه             بغي الأم ذو حسب لئيم‏
و قال حسان:
         و أنت زنيم نيط في آل هاشم             كما نيط خلف الراكب القدح الفرد
و يقال وسمه يسمه وسما و سمة و الخرطوم ما نتا من الأنف و هو الذي يقع به الشم و منه قيل خرطوم الفيل و خرطمه إذا قطع أنفه.
الإعراب‏
 «بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ» فيه وجوه (أحدها) أن المفتون مصدر بمعنى الفتنة كما يقال ليس له معقول و ما له محصول قال الراعي:
         حتى إذا لم يتركوا لعظامه             لحما و لا لفؤاده معقولا
(و ثانيها) أن يكون المفتون اسم المفعول و الباء مزيدة و التقدير أيكم المفتون و يكون مبتدأ و خبرا و تكون الجملة معلقة بقوله «يُبْصِرُونَ» (و ثالثها) أن الباء بمعنى في و المعنى في أيكم المفتون أي في أي الفريقين في فرقة الإسلام أو في فرقة الكفر المجنون و هذا قول الفراء و قال الراجز في زيادة الباء:
         نحن بني جعدة أصحاب الفلج             نضرب بالسيف و نرجو بالفرج‏
أي و نرجو الفرج.

498
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 499

المعنى‏
«ن» اختلفوا في معناه فقيل هو اسم من أسماء السورة مثل حم و ص و ما أشبه ذلك و قد ذكرنا ذلك مع غيره من الأقوال في مفتتح سورة البقرة و قيل هو الحوت الذي عليه الأرضون عن ابن عباس و مجاهد و مقاتل و السدي و قيل هو حرف من حروف الرحمن في رواية أخرى عن ابن عباس و قيل هو الدواة عن الحسن و قتادة و الضحاك و
قيل نون لوح من نور و روي مرفوعا إلى النبي ص‏
و
قيل هو نهر في الجنة قال الله له كن مدادا فجمد و كان أبيض من اللبن و أحلى من الشهد ثم قال للقلم اكتب فكتب القلم ما كان و ما هو كائن إلى يوم القيامة عن أبي جعفر الباقر (ع)
و قيل المراد به الحوت في البحر و هو من آيات الله إذ خلقها في الماء فإذا فارق الماء مات كما أن حيوان البر إذا خالط الماء مات «وَ الْقَلَمِ» الذي يكتب به أقسم الله به لمنافع الخلق فيه إذ هو أحد لساني الإنسان يؤدي عنه ما في جنانه و يبلغ البعيد عنه ما يبلغ القريب بلسانه و به تحفظ أحكام الدين و به تستقيم أمور العالمين و قد قيل إن البيان بيانان بيان اللسان و بيان البنان و بيان اللسان تدرسه الأعوام و بيان الأقلام باق على مر الأيام و قيل إن قوام أمور الدين و الدنيا بشيئين القلم و السيف و السيف تحت القلم و قد نظمه بعض الشعراء و أحسن فيما قال:
         إن يخدم القلم السيف الذي خضعت             له الرقاب و دانت حذره الأمم‏
         فالموت و الموت شي‏ء لا يغالبه             ما زال يتبع ما يجري به القلم‏
         كذا قضى الله للأقلام مذ بريت             إن السيوف لها مذ أرهفت خدم‏
 «وَ ما يَسْطُرُونَ» أي و ما يكتبه الملائكة مما يوحى إليهم و ما يكتبونه من أعمال بني آدم فكان القسم بالقلم و ما يسطر بالقلم و قيل إن ما مصدرية و تقديره و القلم و سطرهم فيكون القسم بالكتابة و على القول الأول يكون القسم بالمكتوب «ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ» هو جواب القسم و معناه لست يا محمد بمجنون بنعمة ربك كما تقول ما أنت بنعمة ربك بجاهل و جاز تقديم معمولها به الباء لأنها زائدة مؤكدة و تقديره انتفى عنك الجنون بنعمة ربك و قيل هو كما يقال ما أنت بمجنون بحمد الله و قيل معناه بما أنعم عليك ربك من كمال العقل و النبوة و الحكمة لست بمجنون أي لا يكون مجنونا من أنعمنا عليه بهذه النعم و قيل معناه ما أنت بمجنون و النعمة لربك كما يقال سبحانك اللهم و بحمدك أي و الحمد لك و هذا تقرير لنفي الجنون عنه و قالوا إن هذا جواب لقول المشركين يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّك‏

499
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 499

لَمَجْنُونٌ «وَ إِنَّ لَكَ» يا محمد «لَأَجْراً» أي ثوابا من الله على قيامك بالنبوة و تحملك أعباء الرسالة «غَيْرَ مَمْنُونٍ» أي غير مقطوع و هو ثواب الجنة يعني لا تبال بكلامهم مع ما لك عند الله من الثواب الدائم و الأجر العظيم و قيل غير ممنون أي لا يمن به عليك عن أبي مسلم و المعنى غير مكدر بالمن الذي يقطع عن لزوم الشكر فقد قيل المنة تكدر الصنيعة و قال ابن عباس ليس من نبي إلا و له مثل أجر من آمن به و دخل في دينه ثم وصف سبحانه نبيه ص فقال «وَ إِنَّكَ» يا محمد «لَعَلى‏ خُلُقٍ عَظِيمٍ» أي على دين عظيم و هو دين الإسلام عن ابن عباس و مجاهد و الحسن و قيل معناه إنك متخلق بأخلاق الإسلام و على طبع كريم و حقيقة الخلق ما يأخذ به الإنسان نفسه من الآداب و إنما سمي خلقا لأنه يصير كالخلقة فيه فأما ما طبع عليه من الآداب فإنه الخيم فالخلق هو الطبع المكتسب و الخيم هو الطبع الغريزي و قيل الخلق العظيم الصبر على الحق و سعة البذل و تدبير الأمور على مقتضى العقل بالصلاح و الرفق و المداراة و تحمل المكاره في الدعاء إلى الله سبحانه و التجاوز و العفو و بذل الجهد في نصرة المؤمنين و ترك الحسد و الحرص و نحو ذلك عن الجبائي و قالت عائشة كان خلق النبي ص ما تضمنه العشر الأول من سورة المؤمنين و من مدحه الله سبحانه بأنه على خلق عظيم فليس وراء مدحه مدح و قيل سمي خلقه عظيما لأنه عاشر الخلق بخلقه و زايلهم بقلبه فكان ظاهره مع الخلق و باطنه مع الحق و قيل لأنه امتثل تأديب الله سبحانه إياه بقوله خُذِ الْعَفْوَ وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ و قيل سمي خلقه عظيما لاجتماع مكارم الأخلاق فيه و يعضده ما
روي عنه قال إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق‏
و
قال أدبني ربي فأحسن تأديبي‏
و
قال ص إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة قائم الليل و صائم النهار
و
عن أبي الدرداء قال قال النبي ص ما من شي‏ء أثقل في الميزان من خلق حسن‏
و
عن الرضا علي بن موسى (ع) عن آبائه عن النبي ص قال عليكم بحسن الخلق فإن حسن الخلق في الجنة لا محالة و إياكم و سوء الخلق فإن سوء الخلق في النار لا محالة
و
عن أبي هريرة عن النبي ص قال أحبكم إلى الله أحسنكم أخلاقا الموطؤن أكنافا الذين يألفون و يؤلفون و أبغضكم إلى الله المشاؤون بالنميمة المفرقون بين الإخوان الملتمسون للبراء العثرات‏
 «فَسَتُبْصِرُ وَ يُبْصِرُونَ» أي فسترى يا محمد و يرون يعني الذين رموه بالجنون «بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ» أي أيكم المجنون الذي فتن بالجنون أ أنت أم هم و قيل بأيكم الفتنة و هو الجنون يريد أنهم يعلمون عند العذاب أن الجنون كان بهم حين كذبوك و تركوا دينك لا بك و قيل معناه فستعلم و يعلمون في أي الفريقين المجنون الذي فتنة

500
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 499

الشيطان ثم أخبر سبحانه أنه عالم بالفريقين فقال «إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ» الذي هو سبيل الحق و عدل عنه و جار عن السلوك فيه «وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ» إليه العالمين بموجبه فيجازي كلا بما يستحقه و يستوجبه أخبرنا السيد أبو الحمد مهدي بن نزار الحسيني القائني رحمه الله قال حدثنا الحاكم أبو القاسم عبيد الله بن عبد الله الحسكاني قال حدثنا أبو عبد الله الشيرازي قال حدثنا أبو بكر الجرجاني قال حدثنا أبو أحمد البصري قال حدثني عمرو بن محمد بن تركي قال حدثنا محمد بن الفضل قال حدثنا محمد بن شعيب عن عمرو ابن شمر عن دلهم بن صالح عن الضحاك بن مزاحم قال: لما رأت قريش تقديم النبي ص عليا (ع) و إعظامه له نالوا من علي و قالوا قد افتتن به محمد فأنزل الله تعالى «ن وَ الْقَلَمِ وَ ما يَسْطُرُونَ» قسم أقسم الله به «ما أَنْتَ» يا محمد «بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ» «وَ إِنَّكَ لَعَلى‏ خُلُقٍ عَظِيمٍ» يعني القرآن إلى قوله «بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ» و هم النفر الذين قالوا ما قالوا و هو أعلم بالمهتدين علي ابن أبي طالب ع ثم قال سبحانه للنبي ص «فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ» بتوحيد الله عز و جل الجاحدين لنبوتك و لا تجبهم إلى ما يلتمسون منك و لا توافقهم فيما يريدون «وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ» أي ود هؤلاء الكفار أن تلين لهم في دينك فيلينون في دينهم شبه التليين في الدين بتليين الدهن عن ابن عباس و قيل معناه ودوا لو تكفر فيكفرون عن الضحاك و عطاء و ابن عباس في رواية أخرى و قيل معناه ودوا لو تركن إلى عبادة الأصنام فيمالئونك و الإدهان الجريان في ظاهر الحال على المقاربة مع إضمار العداوة و هو مثل النفاق و قيل ودوا لو تصانعهم في دينك فيصانعونك عن الحسن ثم قال «وَ لا تُطِعْ» يا محمد «كُلَّ حَلَّافٍ» أي كثير الحلف بالباطل لقلة مبالاته بالكذب «مَهِينٍ» فعيل من المهانة و هي القلة في الرأي و التمييز و قيل ذليل عند الله تعالى و عند الناس و قيل كذاب لأن من عرف بالكذب كان ذليلا حقيرا عن ابن عباس و قيل يعني الوليد بن المغيرة قال عرض على النبي ص المال ليرجع عن دينه و قيل يعني الأخنس ابن شريق عن عطاء و قيل يعني الأسود بن عبد يغوث عن مجاهد «هَمَّازٍ» أي وقاع في الناس مغتاب عن ابن عباس «مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ» أي قتات يسعى بالنميمة و يفسد بين الناس و يضرب بعضهم على بعض «مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ» أي بخيل بالمال و قيل مناع عشيرته عن الإسلام بأن يقول من دخل دين محمد لا أنفعه بشي‏ء أبدا عن ابن عباس «مُعْتَدٍ» أي مجاوز عن الحق غشوم ظلوم عن قتادة «أَثِيمٍ» أي آثم فاجر فاعل ما يأثم به و قيل معتد في فعله أثيم في معتقده و قيل معتد في ظلم غيره أثيم في ظلم نفسه‏
 «عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ» أي هو عتل مع كونه مناعا للخير معتديا أثيما و هو الفاحش السيئ الخلق روي ذلك في خبر مرفوع‏
و قيل هو القوي في كفره عن عكرمة و قيل الجافي الشديد الخصومة بالباطل‏

501
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 499

عن الكلبي و قيل الأكول المنوع عن الخليل و قيل هو الذي يعتل الناس فيجرهم إلى حبس أو عذاب و منه قول الشاعر:
         فيا ضيعة الفتيان إذ يعتلونه             ببطن الشري مثلب الفنيق المسدم‏
 «زَنِيمٍ» أي دعي ملصق إلى قوم ليس منهم في النسب قال الشاعر:
         زنيم تداعاه الرجال تداعيا             كما زيد في عرض الأديم الأكارع‏
و قيل هو الذي له علامة في الشر و هو معروف بذلك فإذا ذكر بالشر سبق القلب إليه كما أن العنز يعرف بين الأغنام بالزنمة في عنقه عن الشعبي و قيل هو الهجين المعروف بالشر عن سعيد بن جبير و
قيل هو الذي لا أصل له عن علي (ع)
و قيل هو المعروف بلؤمه كما تعرف الشاة بزنمتها عن عكرمة و
روي أنه سأل النبي ص عن العتل الزنيم فقال هو الشديد الخلق الشحيح الأكول الشروب الواجد للطعام و الشراب الظلوم للناس الرحيب الجوف‏
و
عن شداد ابن أوس قال قال رسول الله ص لا يدخل الجنة جواظ و لا جعظري و لا عتل زنيم قلت فما الجواظ قال كل جماع مناع قلت فما الجعظري قال الفظ الغليظ قلت فما العتل الزنيم قال كل رحيب الجوف سي‏ء الخلق أكول شروب غشوم ظلوم زنيم‏
قال ابن قتيبة لا نعلم أن الله وصف أحدا و بلغ من ذكر عيوبه ما بلغ من ذكر عيوب الوليد بن المغيرة لأنه وصف بالحلف و المهانة و العيب للناس و المشي بالنمائم و البخل و الظلم و الإثم و الجفاء و الدعوة فالحق به عارا لا يفارقه في الدنيا و الآخرة «أَنْ كانَ ذا مالٍ وَ بَنِينَ» أي لا تطعه لأن كان ذا مال و بنين يعني لماله و بنيه عن الزجاج و الفراء و من قرأ بالاستفهام فلا بد أن يكون صلة ما بعده لأن الاستفهام لا يتقدم عليه ما كان في حيزه فيكون المعنى أ لأن كان ذا مال و بنين يجحد آياتنا أي جعل مجازاة النعم التي خولها من البنين و المال الكفر بآياتنا و هو قوله «إِذا تُتْلى‏ عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ» أي أحاديث الأوائل التي سطرت و كتبت لا أصل لها ثم أوعده سبحانه فقال «سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ» أي سنسمه يوم القيامة بسمة تشوه خلقته فيعرف من‏

502
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 499

رآه أنه من أهل النار و إنما خص الأنف لأن الإنسان يعرف بوجهه و الأنف وسط الوجه و هذا على عادة العرب فإنهم يقولون شمخ فلان بأنفه و أرغم الله أنفه و حمي فلان أنفه و قيل معناه سيجعل له في الآخرة العلم الذي يعرف به أهل النار من اسوداد وجوههم و جائز أن يفرد بسمة لمبالغته في عداوة النبي ص فيخص من التشويه بما يتبين به من غيره كما كانت عداوته للرسول عداوة يتبين بها من غيره عن الزجاج و قال الفراء الخرطوم قد خص بالسمة لأنه في مذهب الوجه فإن بعض الوجه يؤدي عن الكل و قيل إن المعنى سنخطمه بالسيف في القتال حتى يبقى أثره ففعل ذلك يوم بدر عن ابن عباس و قيل سنعلمه بشين يبقى على الأبد عن قتادة و قال القتيبي العرب تقول قد وسمه ميسم سوء يريدون ألصق به عارا لا يفارقه لأن السمة لا تنمحق و لا يعفو أثرها و قد ألحق الله بمن ذكر عارا لا يفارقه بما وسمه به من العيوب التي هي كالوسم في الوجه و قيل إن الخرطوم الخمر فالمعنى سنسمه على شرب الخمر قال الشاعر:
         أبا حاضر من يزن يعرف زناؤه             و من يشرب الخرطوم يصبح مسكرا.

503
مجمع البيان في تفسير القرآن10

سورة القلم الآيات 17 الى 33 ص 504

[سورة القلم (68): الآيات 17 الى 33]
إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ (17) وَ لا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَ هُمْ نائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ (21)
أَنِ اغْدُوا عَلى‏ حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَ هُمْ يَتَخافَتُونَ (23) أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَ غَدَوْا عَلى‏ حَرْدٍ قادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26)
بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قالَ أَوْسَطُهُمْ أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ (28) قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى‏ بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ (30) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ (31)
عَسى‏ رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى‏ رَبِّنا راغِبُونَ (32) كَذلِكَ الْعَذابُ وَ لَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (33)

القراءة
قرأ أهل المدينة و أبو عمرو أن يبدلنا بالتشديد و الباقون بالتخفيف و قد مر ذكره في سورة الكهف.
اللغة
الصرم و الجداد في النخل بمنزلة الحصاد و القطاف في الزرع و الكرم يقال صرمت النخلة و جددتها و أصرم النخل و أجدت حان ذلك منها و الصريم الليل الأسود و أنشد أبو عمرو:
         ألا بكرت و عاذلتي تلوم             تجهلني و ما انكشف الصريم‏
و قال الآخر:
         تطاول ليلك الجون البهيم             فما ينجاب عن صبح صريم‏
         إذا ما قلت أقشع أو تناهى             جرت من كل ناحية غيوم‏
و يسمى النهار أيضا صريما فهو من الأضداد لأن الليل ينصرم عند مجي‏ء النهار و النهار ينصرم عند مجي‏ء الليل و الصريم أيضا المصروم أي صرم جميع ثمارها و قيل الصريم منقطع الرمل الذي لا نبات فيه قال امرؤ القيس:
         و ظل لصيران الصريم غماغم             تدعسها بالسمهري المغلب‏
و الطائف الطارق بالليل و إذا قيل طاف به صلح في الليل و النهار و أنشد الفراء:

504
مجمع البيان في تفسير القرآن10

اللغة ص 504

         أطفت بها نهارا غير ليل             و ألهى ربها طلب الرخال‏
و الرخال الإناث من أولاد الضأن واحدتها رخل و الحرد المنع من قولهم حاردت السنة إذا منعت قطرها و حاردت الناقة إذا منعت لبنها قال الكميت:
         و حاردت المكد الجلاد و لم يكن             بعقبة قدر المستعيرين معقب‏
و يروى النكد و هي النوق الغزيرات الألبان و قيل إن أصل الحرد القصد قال:
         أقبل سيل جاء من عند الله             يحرد حرد الجنة المغلة
أي يقصد و حرد يحرد حردا و قيل الحرد الغضب و الحنق قال الأشهب بن رميلة:
         أسود شرى لاقت أسود خفية             تساقوا على حرد دماء الأساود
المعنى‏
ثم قال سبحانه «إِنَّا بَلَوْناهُمْ» يعني أهل مكة أي اختبرناهم بالجوع و القحط «كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ» أي البستان الذي فيه الشجر قال سعيد بن جبير و هذه الجنة حديقة كانت باليمن في قرية يقال لها صروان بينها و بين صنعاء اثنا عشر ميلا كانت لشيخ و كان يمسك منها قدر كفايته و كفاية أهله و يتصدق بالباقي فلما مات قال بنوه نحن أحق بها لكثرة عيالنا و لا يسعنا أن نفعل كما فعل أبونا و عزموا على حرمان المساكين فصارت عاقبتهم إلى ما قص الله تعالى في كتابه و هو قوله «إِذْ أَقْسَمُوا» أي حلفوا فيما بينهم «لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ» أي ليقطعن ثمرتها إذا دخلوا في وقت الصباح «وَ لا يَسْتَثْنُونَ» أي غير مستثنين في أيمانهم فلم يقولوا إن شاء الله فإن قول القائل لأفعلن كذا إلا أن يشاء الله استثناء و معناه إلا أن يشاء الله منعي أو تمكين مانعي «فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ» أي أحاطت بها النار فاحترقت عن ابن عباس و قيل معناه طرقها طارق من أمر الله عن قتادة «وَ هُمْ نائِمُونَ» أي في حال نومهم قال مقاتل بعث الله نارا بالليل على جنتهم فأحرقتها حتى صارت مسودة فذلك قوله «فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ» أي كالليل المظلم و الصريمان الليل و النهار

505
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 505

لانصرام إحداهما من الآخر عن ابن عباس و أبي عمرو بن العلاء و قيل الصريم المصروم ثماره أي المقطوع و المعنى أنها صارت كأن جميع ثمارها قطعت عن الجبائي و قيل الصريم الذي صرم عنه الخير فليس فيه شي‏ء منه عن الحسن و قيل كالصريم أي كالرملة انصرمت عن معظم الرمل عن مؤرج و قيل كالرماد الأسود بلغة خزيمة «فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ» أي نادى بعضهم بعضا وقت الصباح و أصل التنادي من الندى بالقصر لأن النداء الدعاء بندى الصوت الذي يمتد على طريقة يا فلان لأن الصوت إنما يمتد للإنسان بندى حلقه «أَنِ اغْدُوا عَلى‏ حَرْثِكُمْ» أي تنادوا بأن غدوا معناه قال بعضهم لبعض اغدوا على حرثكم و الحرث الزروع و الأعناب «إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ» أي قاطعين النخل «فَانْطَلَقُوا» أي فمضوا إليها «وَ هُمْ يَتَخافَتُونَ» أي يتسارون بينهم و أصله من خفت فلان يخفت إذا أخفى نفسه «أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ» هذا ما كانوا يتخافتون به «وَ غَدَوْا عَلى‏ حَرْدٍ» أي على قصد منع الفقراء «قادِرِينَ» عند أنفسهم و في اعتقادهم على منعهم و إحراز ما في جنتهم و قيل على حرد أي على جد و جهد من أمرهم عن مجاهد و قتادة و أبي العالية و قيل على جد في المنع عن أبي عبيدة و قيل على حنق و غضب من الفقراء عن سفيان و قيل قادرين مقدرين موافاتهم في الجنة في الوقت الذي قدروا إصرامها فيه و هو وقت الصبح و التقدير قصدوا الجنة للوقت الذي قدروا إصرامها فيه عن أبي مسلم «فَلَمَّا رَأَوْها» أي رأوا الجنة على تلك الصفة «قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ» ضللنا عن الطريق فليس هذا بستاننا عن قتادة و قيل معناه إنا لضالون عن الحق في أمرنا فلذلك عوقبنا بذهاب ثمر جنتنا ثم استدركوا فقالوا «بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ» و المعنى أن هذه جنتنا و لكن حرمنا نفعها و خيرها لمنعنا حقوق المساكين و تركنا الاستثناء «قالَ أَوْسَطُهُمْ» أي أعدلهم قولا عن ابن عباس و الحسن و مجاهد و قيل معناه أفضلهم و أعقلهم و قيل أوسطهم في السن «أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ» كأنه كان حذرهم سوء فعالهم قال لو لا تستثنون عن مجاهد لأن في الاستثناء التوكل على الله و التعظيم لله و الإقرار بأنه لا يقدر أحد على فعل شي‏ء إلا بمشيئة الله فلذلك سماه تسبيحا و قيل معناه هلا تعظمون الله بعبادته و اتباع أمره و قيل معناه هلا تذكرون نعم الله عليكم فتؤدوا شكرها بأن تخرجوا حق الفقراء من أموالكم و قيل معناه هلا نزهتم الله تعالى عن الظلم و اعترفتم بأنه لا يظلم و لا يرضى منكم بالظلم و قيل معناه لم لا تصلون ثم حكى عنهم أنهم «قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ» في عزمنا على حرمان المساكين من حصتهم عند الصرام فحرمنا قطعها و بالانتفاع بها و المعنى أنه سبحانه منزه عن الظلم فلم يفعل بنا ما فعله ظلما و إنما الظلم وقع منا حيث منعنا الحق «فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى‏ بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ» أي يلوم بعضهم بعضا على ما فرط منهم «قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا

506
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 505

كُنَّا طاغِينَ» قد غلونا في الظلم و تجاوزنا الحد فيه و الويل غلظ المكروه الشاق على النفس و الويس دونه و الويح بينهما قال عمرو بن عبيد يجوز أن يكون ذلك منهم توبة و يجوز أن يكون على حد ما يقول الكافر إذا وقع في الشدة «عَسى‏ رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها» أي لما تابوا و رجعوا إلى الله قالوا لعل الله يخلف علينا و يولينا خيرا من الجنة التي هلكت «إِنَّا إِلى‏ رَبِّنا راغِبُونَ» أي نرغب إلى الله و نسأله ذلك و نتوب إليه مما فعلناه و قرئ يبدلنا بالتشديد و التخفيف و معناهما واحد «كَذلِكَ الْعَذابُ» في الدنيا للعاصين «وَ لَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ» و الأكبر هو الذي يصغر مقدار غيره بالإضافة إليه و روي عن عبد الله بن مسعود أنه قال بلغني أن القوم أخلصوا و عرف الله تعالى منهم الصدق فأبدلهم بها جنة يقال لها الحيوان فيها عنب يحمل البغل منها عنقودا و قال أبو خالد اليمامي رأيت تلك الجنة و رأيت كل عنقود منها كالرجل الأسود القائم.
[سورة القلم (68): الآيات 34 الى 45]
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَ فَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ (38)
أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى‏ يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (41) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَ يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (42) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَ قَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَ هُمْ سالِمُونَ (43)
فَذَرْنِي وَ مَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (44) وَ أُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45)

507
مجمع البيان في تفسير القرآن10

اللغة ص 508

اللغة
الزعيم و الكفيل و الضمين و القبيل نظائر و الساق للإنسان و ساق الشجرة ما تقوم عليه و كل نبت له ساق و يبقى صيفا و شتاء فهو شجرة قال طرفة:
         للفتى عقل يعيش به             حيث تهدي ساقه قدمه‏
و تقول العرب قامت الحرب على ساق و كشفت عن ساق يريدون شدتها و قال جد أبي طرفة:
         كشفت لكم عن ساقها             و بدا من الشر الصراح‏
و قال آخر:
         قد شمرت عن ساقها فشدوا             و جدت الحرب بكم فجدوا
         و القوس فيها وتر عرد
الإعراب‏
كيف في محل نصب على الحال تقديره أ جائرين تحكمون أم عادلين و يجوز أن يكون في محل المصدر و تقديره أي حكم تحكمون و تحكمون في موضع النصب على الحال من معنى الفعل في قوله «لَكُمْ» لأن معنى قوله «ما لَكُمْ» أي شي‏ء ثبت لكم و أم في جميع ذلك منقطعة «إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ» كسرت أن المكان اللام في لما و لولاها لوجب فتحها لأنه مفعول تدرسون و هو كقوله وَ اللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ و قوله «إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ» مثله و إن شئت قلت إنما كسرت إن لأن ما قبله يمين و هي تكسر في جواب القسم و قوله «يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ» العامل في الظرف قوله «فَلْيَأْتُوا» و «خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ» حال و «مَنْ يُكَذِّبُ» يجوز أن يكون مفعولا معه و يجوز أن يكون عطفا على ضمير المتكلم من ذرني.
المعنى‏
لما ذكر سبحانه ما أعده بالآخرة للكافرين عقبه بذكر ما أعده للمتقين فقال «إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ» يتنعمون فيها و يختارونها على جنات الدنيا التي يحتاج صاحبها إلى المشقة و العناء ثم استفهم سبحانه على وجه الإنكار فقال «أَ فَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ» أي لا نجعل المسلمين كالمشركين في الجزاء و الثواب و ذلك أنهم كانوا يقولون إن كان بعث و جزاء كما يقوله محمد فإن حالنا يكون أفضل في الآخرة كما في‏

508
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 508

الدنيا فأخبر سبحانه أن ذلك لا يكون أبدا «ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ» هذا تهجين لهم و توبيخ و معناه أي عقل يحملكم على تفضيل الكفار حتى صار سببا لإصراركم على الكفر و لا يحسن في الحكمة التسوية بين الأولياء و الأعداء في دار الجزاء «أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ» معناه بل أ لكم كتاب تدرسون فيه ذلك فأنتم متمسكون به لا تلتفتون إلى خلافه فإذا قد عدمتم الثقة بما أنتم عليه و في الكتاب الذي هو القرآن عليكم أكبر الحجة لأنه الدلالة القائمة إلى وقت قيام الساعة و المعجزة الشاهدة بصدق من ظهرت على يده «إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ» فيه وجهان (أحدهما) أن تقديره أم لكم كتاب فيه تدرسون بأن لكم فيه ما تخيرون إلا أنه حذف الباء و كسرت إن لدخول اللام في الخبر (و الثاني) إن معناه أن لكم لما تخيرونه عند أنفسكم و الأمر بخلاف ذلك و لا يجوز أن يكون ذلك على سبيل الخير المطلق «أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى‏ يَوْمِ الْقِيامَةِ» أي بل لكم عهود و مواثيق علينا عاهدناكم بها فلا ينقطع ذلك إلى يوم القيامة «إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ» لأنفسكم به من الخير و الكرامة عند الله تعالى و قيل بالغة معناها مؤكدة و كل شي‏ء متناه في الجودة و الصحة فهو بالغ ثم قال سبحانه لنبيه ص «سَلْهُمْ» يا محمد «أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ» يعني أيهم كفيل بأن لهم في الآخرة ما للمسلمين «أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ» معناه أم لهم شركاء في العبادة مع الله و هي الأصنام فليأتوا بهؤلاء الشركاء أن كانوا صادقين في أنها شركاء الله و قيل معناه أم لهم شهداء يشهدون لهم بالصدق فتقوم به الحجة فليأتوا بهم يوم القيامة يشهدون لهم على صحة دعواهم إن كانوا صادقين في دعواهم «يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ» أي فليأتوا بهم في ذلك اليوم الذي تظهر فيه الأهوال و الشدائد و قيل معناه يوم يبدو عن الأمر الشديد الفظيع عن ابن عباس و الحسن و مجاهد و قتادة و سعيد بن جبير قال عكرمة سأل ابن عباس عن قوله «يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ» فقال إذا خفي عليكم شي‏ء في القرآن فابتغوه في الشعر فإنه ديوان العرب أ ما سمعتم قول الشاعر
          (و قامت الحرب بنا على ساق)
هو يوم كرب و شدة و قال القتيبي أصل هذا أن الرجل إذا وقع في أمر عظيم يحتاج إلى الجد فيه يشمر عن ساقه فاستعير الكشف عن الساق في موضع الشدة و أنشد لدريد بن الصمة:
         كميش الإزار خارج نصف ساقه             بعيد من الآفات طلاع أنجد
فتأويل الآية يوم يشتد الأمر كما يشتد ما يحتاج فيه إلى أن يكشف عن ساق «وَ يُدْعَوْن‏

509
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 508

إِلَى السُّجُودِ» أي يقال لهم على وجه التوبيخ اسجدوا «فَلا يَسْتَطِيعُونَ» و قيل معناه أن شدة الأمر و صعوبة ذلك اليوم تدعوهم إلى السجود و إن كانوا لا ينتفعون به ليس إنهم يؤمرون به و هكذا كما يفزع الإنسان إلى السجود إذا أصابه هول من أهوال الدنيا «خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ» أي ذليلة أبصارهم لا يرفعون نظرهم عن الأرض ذلة و مهانة «تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ» أي تغشاهم ذلة الندامة و الحسرة «وَ قَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَ هُمْ سالِمُونَ» أي أصحاء يمكنهم السجود فلا يسجدون يعني أنهم كانوا يؤمرون بالصلاة في الدنيا فلم يفعلوا قال سعيد بن جبير كانوا يسمعون حي على الفلاح فلا يجيبون و قال كعب الأحبار و الله ما نزلت هذه الآية إلا في الذين يتخلفون عن الجماعات و قد ورد عن الربيع بن خثيم أنه عرض له الفالج فكان يهادي بين رجلين إلى المسجد فقيل له يا أبا يزيد لو جلست فإن لك رخصة قال من سمع حي على الفلاح فليجب و لو حبوا و
روي عن أبي جعفر و أبي عبد الله (ع) أنهما قالا في هذه الآية أفحم القوم و دخلتهم الهيبة و شخصت الأبصار و بلغت القلوب الحناجر لما رهقهم من الندامة و الخزي و المذلة و قد كانوا يدعون إلى السجود و هم سالمون أي يستطيعون الأخذ بما أمروا به و الترك لما نهوا عنه و لذلك ابتلوا
و قال مجاهد و قتادة يؤذن المؤذن يوم القيامة فيسجد المؤمن و تصلب ظهور المنافقين فيصير سجود المسلمين حسرة على المنافقين و ندامة و
في الخبر أنه تصير ظهور المنافقين كالسفافيد
ثم قال سبحانه «فَذَرْنِي وَ مَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ» هذا تهديد معناه فذرني و المكذبين أي كل أمرهم إلي كما يقول القائل دعني و إياه يقول خل بيني و بين من يكذب بهذا القرآن و لا تشغل قلبك به فإني أكفيك أمره «سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ» أي سنأخذهم إلى العقاب حالا بعد حال و قد مر تفسيره في سورة الأعراف و
روي عن أبي عبد الله (ع) أنه قال إذا أحدث العبد ذنبا جدد له نعمة فيدع الاستغفار فهو الاستدراج‏
 «وَ أُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ» أي و أطيل آجالهم و لا أبادر إلى عذابهم مبادرة من يخشى الفوت فإنما يعجل من يخاف الفوت أن عذابي لشديد.

510
مجمع البيان في تفسير القرآن10

سورة القلم الآيات 46 الى 52 ص 511

[سورة القلم (68): الآيات 46 الى 52]
أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَ لا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى‏ وَ هُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَ هُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50)
وَ إِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَ يَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَ ما هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (52)

القراءة
قرأ أهل المدينة ليزلقونك بفتح الياء و الباقون «لَيُزْلِقُونَكَ» بضم الياء.
الحجة
من قرأ بفتح الياء جعله من زلقه و زلقته أنا مثل حزن و حزنته و شترت عينه و شترتها قال أبو علي و الخليل يذهب في ذلك إلى أن المعنى جعلت فيه شترا و جعلت فيه حزنا كما أنك إذا قلت كحلته و دهنته أردت جعلت ذلك فيه و من قرأ أزلقه الفعل بالهمزة و معنى «لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ» ينظرون إليك نظر البغضاء كما ينظر الأعداء و مثله قول الشاعر:
         يتقارضون إذا التقوا في مجلس             نظرا يزيل مواقع الأقدام.
اللغة
المغرم ما يلزم من الدين الذي يلح في اقتضائه و أصله من اللزوم بالإلحاح و منه قوله إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً أي لازما ملحا قال الشاعر:
         و يوم الجفار و يوم النسار             كانا عذابا و كانا غراما
و المثقل المحمل الثقل و هو مثقل بالدين و مثقل بالعيال و مثقل بما عليه من الحقوق اللازمة و أمور الواجبة و المكظوم المحبوس عن التصرف في الأمور و منه كظمت رأس القربة إذا شددته و كظم غيظه إذا حبسه بقطعه عما يدعو إليه و كظم خصمه إذا أجابه بالمسكت و العراء الأرض العارية من النبات قال قيس بن جعدة:
         و رفعت رجلا لا أخاف عثارها             و نبذت بالبلد العراء ثيابي‏
المعنى‏
ثم خاطب سبحانه النبي ص فقال على وجه التوبيخ للكفار «أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً» هذا عطف على قوله أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ ذكر سبحانه جميع ما يحتج به فقال أم‏

511
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 511

تسأل يا محمد هؤلاء الكفار أجزاء على أداء الرسالة و الدعاء إلى الله «فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ» أي هم من لزوم ذلك «مُثْقَلُونَ» أي محملون الأثقال «أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ» أي هل عندهم علم بصحة ما يدعونه اختصموا به لا يعلمه غيرهم فهم يكتبونه و يتوارثونه و ينبغي أن يبرزوه ثم قال للنبي ص «فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ» في إبلاغ الرسالة و ترك مقابلتهم بالقبيح و قيل اللام تجري مجرى إلى و المعنى اصبر إلى أن يحكم الله بنصر أوليائك و قهر أعدائك و قيل معناه فاصبر لحكم الله في التخلية بين الظالم و المظلوم حتى يبلغ الكتاب أجله «وَ لا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ» يعني يونس أي لا تكن مثله في استعجال عقاب قومه و إهلاكهم و لا تخرج من بين قومك من قبل أن يأذن لك الله كما خرج هو «إِذْ نادى‏ وَ هُوَ مَكْظُومٌ» أي دعا ربه في جوف الحوت و هو محبوس عن التصرف في الأمور و الذي نادى به قوله لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ و قيل مكظوم أي مخنق بالغم إذ لم يجد لغيظه شفاء «لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ» أي لو لا أن أدركته رحمة من ربه بإجابة دعائه و تخليصه من بطن الحوت و تبقيته فيه حيا و إخراجه منه حيا «لَنُبِذَ» أي طرح «بِالْعَراءِ» أي الفضاء «وَ هُوَ مَذْمُومٌ» ملوم مليم قد أتى بما يلام عليه و لكن الله تعالى تداركه بنعمة من عنده فطرح بالعراء و هو غير مذموم «فَاجْتَباهُ رَبُّهُ» أي اختاره الله نبيا «فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ» أي من جملة المطيعين لله التاركين لمعاصيه «وَ إِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا» إن هذه هي المخففة من الثقيلة و التقدير و أنه يكاد أي قارب الذين كفروا «لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ» أي ليزهقونك أي يقتلونك و يهلكونك عن ابن عباس و كان يقرأها كذلك و قيل ليصرعونك عن الكلبي و قيل يصيبونك بأعينهم عن السدي و الكل يرجع في المعنى إلى الإصابة بالعين و المفسرون كلهم على أنه المراد في الآية و أنكر الجبائي ذلك و قال إن إصابة العين لا تصح و قال علي بن عيسى الرماني و هذا الذي ذكره غير صحيح لأنه غير ممتنع أن يكون الله تعالى أجرى العادة لصحة ذلك لضرب من المصلحة و عليه إجماع المفسرين و جوزه العقلاء فلا مانع منه و
جاء في الخبر أن أسماء بنت عميس قالت يا رسول الله إن بني جعفر تصيبهم العين أ فأسترقي لهم قال نعم فلو كان شي‏ء يسبق القدر لسبقه العين‏
و قيل إن الرجل منهم كان إذا أراد أن يصيب صاحبه بالعين تجوع ثلاثة أيام ثم كان يصفه فيصرعه بذلك و ذلك بأن يقول للذي يريد أن يصيبه بالعين لا أرى كاليوم إبلا أو شاء أو ما أراد أي كإبل أراها اليوم فقالوا

512
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 511

للنبي ص كما كانوا يقولون لما يريدون أن يصيبوه بالعين عن الفراء و الزجاج و قيل معناه أنهم ينظرون إليك عند تلاوة القرآن و الدعاء إلى التوحيد نظر عداوة و بغض و إنكار لما يسمعونه و تعجب منه فيكادون يصرعونك بحدة نظرهم و يزيلونك عن موضعك و هذا مستعمل في الكلام يقولون نظر إلي فلان نظرا يكاد يصرعني و نظرا يكاد يأكلني فيه و تأويله كله أنه نظر إلي نظرا لو أمسكنه معه أكلي أو يصرعني لفعل عن الزجاج و قوله «لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ» يعني القرآن «وَ يَقُولُونَ» مع ذلك «إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ» أي مغلوب على عقله مع علمهم بوقاره و وفور عقله تكذيبا عليه و معاندة له «وَ ما هُوَ» أي و ما القرآن «إِلَّا ذِكْرٌ» أي شرف «لِلْعالَمِينَ» إلى أن تقوم الساعة و قيل معناه و ما محمد ص إلا شرف للخلق حيث هداهم إلى الرشد و أنقذهم من الضلالة لما نسبوه إلى الجنون و صفة بما ينفي ذلك عنه و قيل المراد بالذكر أنه يذكرهم أمر آخرتهم و الثواب و العقاب و الوعد و الوعيد قال الحسن دواء إصابة العين أن يقرأ الإنسان هذه الآية.

513
مجمع البيان في تفسير القرآن10

سورة الحاقة مكية و آياتها ثنتان و خمسون ص 514

(69) سورة الحاقة مكية و آياتها ثنتان و خمسون (52)
عدد آيها
إحدى و خمسون آية بصري و شامي و آيتان في الباقين.
اختلافها
آيتان «الْحَاقَّةُ» الأولى كوفي «كِتابَهُ بِشِمالِهِ» حجازي.
فضلها
أبي بن كعب عن النبي ص قال و من قرأ سورة الحاقة حاسبه الله حسابا يسيرا
و
روى جابر الجعفي عن أبي جعفر (ع) قال أكثروا من قراءة الحاقة فإن قراءتها في الفرائض و النوافل من الإيمان بالله و رسوله و لم يسلب قارئها دينه حتى يلقى الله.
تفسيرها
لما ذكر في آخر سورة القلم حديث القيامة و وعيد الكفار افتتح هذه السورة بذكر القيامة أيضا و أحوال أهل النار فقال:

514
مجمع البيان في تفسير القرآن10

سورة الحاقة الآيات 1 الى 10 ص 515

[سورة الحاقة (69): الآيات 1 الى 10]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏
الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَ ما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَ عادٌ بِالْقارِعَةِ (4)
فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَ أَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ (6) سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَ ثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى‏ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرى‏ لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ (8) وَ جاءَ فِرْعَوْنُ وَ مَنْ قَبْلَهُ وَ الْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ (9)
فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً (10)

القراءة
قرأ أهل البصرة و الكسائي و من قبله بكسر القاف و فتح الباء و الباقون «وَ مَنْ قَبْلَهُ» بفتح القاف و سكون الباء.
الحجة
قال سيبويه قبل لما ولي الشي‏ء تقول ذهبت قبل السوق و لي قبلك حق أي فيما يليك و اتسع فيه حتى صار بمنزلة لي عليك حق و حجة من قرأ أنهم زعموا أن في قراءة أبي و جاء فرعون و من معه و هذا يقوي و من قبله لأن قبل لما ولي الشي‏ء مما لم يتخلف عنه و هو يتبعه و يحف به و حجة من قال «وَ مَنْ قَبْلَهُ» أن معناه و من قبله من الأمم التي كفرت كما كفر هو.
اللغة
قال ابن الأنباري الحاقة الواجبة حق أي وجب يحق حقا و حقوقا فهو حاق و قال الفراء تقول العرب لما عرفت الحق مني هربت و الحقة و الحاقة بمعنى و قيل سميت القيامة الحاقة لأنها تحق الكفار من قولهم حاقته فحققته مثل خاصمته فخصمته و سميت القارعة لأنها تقرع قلوب العباد بالمخافة إلى أن يصير المؤمنون إلى الأمن و دريت الشي‏ء دراية و درية علمته و أدريته أعلمته و الطاغية الطغيان مصدر مثل العافية و الصرصر الريح الشديدة الصوت و الحسوم المتوالية مأخوذ من حسم الداء بمتابعة الكي عليه فكأنه تتابع الشر عليهم حتى استأصلهم و قيل هو من القطع فكأنها حسمتهم حسوما أي أذهبتهم و أفنتهم و قطعت دابرهم و الخاوية الخالية التي لا شي‏ء في أجوافها.
الإعراب‏
العامل في «الْحَاقَّةُ» أحد شيئين إما الابتداء و الخبر «مَا الْحَاقَّةُ» كما تقول زيد ما زيد و إما أن يكون خبر مبتدإ محذوف أي هذه الحاقة ثم قيل أي شي‏ء الحاقة تفخيما لشأنها و حسوما نصب على المصدر الموضوع موضع الصفة لثمانية أي تحسمهم حسوما و يجوز أن يكون جمع حاسم فيكون مثل راقد و رقود و ساجد و سجود و على هذا فيكون منصوبا على أنه صفة لثمانية أيضا و صرعى نصب على الحال و قوله «كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ» جملة في موضع الحال من صرعى أي صرعوا أمثال نخل خاوية و من مزيدة في قوله «مِنْ باقِيَةٍ».
المعنى‏
 «الْحَاقَّةُ» اسم من أسماء القيامة في قول جميع المفسرين و سميت بذلك لأنها ذات الحواق من الأمور و هي الصادقة الواجبة الصدق لأن جميع أحكام القيامة واجبة

515
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 515

الوقوع صادقة الوجود «مَا الْحَاقَّةُ» استفهام معناه التفخيم لحالها و التعظيم و لشأنها ثم زاد سبحانه في التهويل فقال «وَ ما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ» أي كأنك لست تعلمها إذ لم تعاينها و لم تر ما فيها من الأهوال قال الثوري يقال للمعلوم ما أدراك و لما ليس بمعلوم ما يدريك في جميع القرآن و إنما قال لمن يعلمها ما أدراك لأنه إنما يعلمها بالصفة ثم أخبر سبحانه عن المكذبين بها فقال «كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَ عادٌ بِالْقارِعَةِ» أي بيوم القيامة و إنما حسن أن توضع القارعة موضع الكناية لتذكر بهذه الصفة الهائلة بعد ذكرها بأنها الحاقة إلا فقد كان يكفي أن يقول كذبت ثمود و عاد بها ثم أخبر سبحانه عن كيفية إهلاكهم فقال «فَأَمَّا ثَمُودُ» و هم قوم صالح «فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ» أي أهلكوا بطغيانهم و كفرهم عن ابن عباس و مجاهد و قيل معناه أهلكوا بالصيحة الطاغية و هي التي جاوزت المقدار حتى أهلكتهم عن قتادة و الجبائي و أبي مسلم و قال الزجاج أهلكوا بالرجفة الطاغية و قيل بالخصلة المتجاوزة لحال غيرها في الشدة التي أهلك الله بها أهل الفساد «وَ أَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ» أي باردة عن ابن عباس و قتادة كأنه تصطك الأسنان بما يسمع من صوتها لشدة بردها و قيل الصرصر الشديدة العصوف المتجاوزة لحدها المعروف «عاتِيَةٍ» عتت على خزانها في شدة الهبوب روى الزهري عن قبيصة بن ذؤيب أنه قال ما يخرج من الريح شي‏ء إلا عليها خزان يعلمون قدرها و عددها و كيلها حتى كانت التي أرسلت على عاد فاندفق منها فهم لا يعلمون قدر غضب الله فلذلك سميت عاتية «سَخَّرَها عَلَيْهِمْ» أي سلطها الله و أرسلها عليهم «سَبْعَ لَيالٍ وَ ثَمانِيَةَ أَيَّامٍ» قال وهب و هي التي تسميها العرب أيام العجوز ذات برد و رياح شديدة و إنما نسبت هذه الأيام إلى العجوز لأن عجوزا دخلت سربا فتبعتها الريح فقتلتها اليوم الثامن من نزول العذاب فانقطع العذاب في اليوم الثامن و قيل سميت أيام العجوز لأنها في عجز الشتاء و لها أسامي مشهورة قالوا لليوم" الأول" صن" و للثاني" صنبر" و الثالث" وبر" و للرابع" مطفئ الجمر" و للخامس" مكفي الظعن و قيل" للسادس" الآمر" و للسابع" المؤتمر" و الثامن" المعلل" و قال في ذلك شاعرهم:
         كسع الشتاء بسبعة غبر             أيام شهلتنا مع الشهر
         فبأمر و أخيه مؤتمر             و معلل و بمطفئ الجمر

516
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 515

         فإذا انقضت أيام شهلتنا             بالصن و الصنبر و الوبر
         ذهب الشتاء موليا هربا             و أتتك وافدة من النجر
 «حُسُوماً» أي ولاء متتابعة ليست لها فترة عن ابن عباس و ابن مسعود و الحسن و مجاهد و قتادة كأنه تتابع عليهم الشر حتى استأصلهم و قيل دائمة عن الكلبي و مقاتل و قيل قاطعة قطعتهم قطعا حتى أهلكتهم عن الخليل و قيل مشائيم نكداء قليلة الخير حسمت الخير عن أهلها عن عطية «فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها» أي في تلك الأيام و الليالي «صَرْعى‏» أي مصروعين «كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ» أي أصول نخل بالية نخرة عن قتادة و قيل خاوية فارغة خالية الأجواف عن السدي و قيل ساقطة مثل قوله أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ «فَهَلْ تَرى‏ لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ» أي من نفس باقية و قيل من بقاء و الباقية بمعنى المصدر مثل العافية و الطاغية و المعنى هل ترى لهم من بقية أي لم يبق منهم أحد «وَ جاءَ فِرْعَوْنُ وَ مَنْ قَبْلَهُ» مر معناه «وَ الْمُؤْتَفِكاتُ» أي و جاء أهل القرى المؤتفكات أي المنقلبات بأهلها عن قتادة و هي قرى قوم لوط يريد الأمم و الجماعات الذين ائتفكوا «بِالْخاطِئَةِ» أي بخطيئتهم التي هي الشرك و الكفر فالخاطئة مصدر كالخطأ و الخطيئة و قيل معناه بالأفعال الخاطئة أي بالنفس الخاطئة «فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ» فيما أمرهم به و قيل إن المراد بالرسول الرسالة كما في قول الشاعر:
         لقد كذب الواشون ما بحت عندهم             بسر و لا أرسلتهم برسول‏
أي برسالة عن أبي مسلم و الأول أظهر «فَأَخَذَهُمْ» الله العقوبة «أَخْذَةً رابِيَةً» أي زائدة في الشدة عن ابن عباس و قيل نامية زائدة على عذاب الأمم و قيل عالية مذكورة خارجة عن العادة.

517
مجمع البيان في تفسير القرآن10

سورة الحاقة الآيات 11 الى 24 ص 518

[سورة الحاقة (69): الآيات 11 الى 24]
إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَ تَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ (12) فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ (13) وَ حُمِلَتِ الْأَرْضُ وَ الْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (15)
وَ انْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ (16) وَ الْمَلَكُ عَلى‏ أَرْجائِها وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى‏ مِنْكُمْ خافِيَةٌ (18) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ (20)
فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (22) قُطُوفُها دانِيَةٌ (23) كُلُوا وَ اشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ (24)

القراءة
قرأ ابن كثير في رواية القواس و تعيها بسكون العين مختلسا و هو بين الكسر و السكون و الباقون بكسر العين و قرأ حمزة و الكسائي لا يخفى بالياء و الباقون بالتاء.
الحجة
الوجه في سكون العين من تعيها إنه جعل حرف المضارعة مع ما بعده بمنزلة فخذ فأسكن لأن حرف المضارعة لا تنفصل من الفعل فصار كقولك فهو و فهي و الياء و التاء في قوله لا يخفى حسن.
اللغة
الجارية السفينة التي من شأنها أن تجري على الماء و الجارية المرأة الشابة لأنه يجري فيها ماء الشباب يقال وعيت العلم أعيه وعيا و أوعيت المتاع جعلته في الوعاء قال:
         إذا لم تكن حافظا واعيا             فجمعك للكتب لا ينفع‏
و الدك البسط و منه الدكان و اندك سنام البعير إذا انفرش على ظهره و الأرجاء النواحي واحدها رجا مقصور و التثنية رجوان و هاؤم أمر للجماعة بمنزلة هاكم تقول للواحد هاء يا رجل و للاثنين هاؤما يا رجلان و للجماعة هاؤم يا رجال و للمرأة هاء يا امرأة بكسر الهمزة و ليس بعدها ياء و للمرأتين هاؤما و للنساء هاؤن هذه لغة أهل الحجاز و تميم و قيس يقولون هاء يا رجل مثل قول أهل الحجاز و للاثنين هاء و للجماعة هاؤا و للمرأة هائي و للنساء هان و بعض‏

518
مجمع البيان في تفسير القرآن10

اللغة ص 518

العرب يجعل مكان الهمزة كافأ فيقول هاك هاكما هاكم هاك هاكما هاكن و معناه خذ و تناول و يؤمر بها و لا ينهى و وقف الكسائي على هاؤم و ابتدأ «اقْرَؤُا كِتابِيَهْ» إعلاما منه أنه لا يذهب إلى إعمال الفعل الأول و إنما العمل للثاني و الراضية المرضية فاعلة بمعنى مفعول لأنها في معنى ذات رضى كما قيل لابن و تأمر أي ذو لبن و ذو تمر قال النابغة:
         كليني لهم يا أميمة ناصب             و ليل أقاسيه بطي‏ء الكواكب‏
يعني ذو نصب فكان العيشة أعطيت حتى رضيت لأنها بمنزلة الطالبة كما أن الشهوة بمنزلة الطالبة للمشتهي و قيل هو مثل ليل نائم و سر كاتم و ماء دافق على وجه المبالغة في الصفة من غير التباس في المعنى و القطوف جمع قطف و هو ما يقطف من الثمر و القطف بالفتح المصدر.
الإعراب‏
كتابي مفعول اقرأوا لأنه يليه «قُطُوفُها دانِيَةٌ» جملة مجرورة الموضع لأنها صفة جنة.
المعنى‏
ثم بين سبحانه قصة نوح (ع) فقال «إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ» أي جاوز الحد المعروف حتى غرقت الأرض بمن عليها إلا من شاء الله نجاته «حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ» أي حملنا آباءكم في السفينة عن ابن عباس و ابن زيد «لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً» أي لنجعل تلك الفعلة التي فعلناها من إغراق قوم نوح و نجاة من حملناه عبرة لكم و موعظة تتذكرون بها نعم الله تعالى و تشكرونه عليها و تتفكرون فيها فتعرفون كمال قدرته و حكمته «وَ تَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ» أي و تحفظها أذن حافظة لما جاء من عند الله عن ابن عباس و قيل سامعة قائلة لما سمعت عن قتادة و قال الفراء لتحفظها كل أذن فتكون عظة لمن يأتي بعد و
روى الطبري بإسناده عن مكحول أنه لما نزلت هذه الآية قال النبي ص اللهم اجعلها أذن علي ثم قال علي (ع) فما سمعت شيئا من رسول الله ص فنسيته‏
و
روى بإسناده عن عكرمة عن بريدة الأسلمي أن رسول الله ص قال لعلي (ع) يا علي إن الله تعالى أمرني أن أدنيك و لا أقصيك و أن أعلمك و تعي و حق على الله أن تعي فنزل «وَ تَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ»

أخبرني فيما كتب بخطه إلي المفيد أبو الوفاء عبد الجبار عبد الله بن علي الرازي قال حدثني الشيخ السعيد أبو جعفر محمد بن الحسن بن علي الطوسي و الرئيس أبو الجوائز الحسن بن علي بن محمد الكاتب و الشيخ أبو عبد الله حسن بن أحمد بن حبيب الفارسي قالوا حدثنا أبو بكر محمد بن أحمد بن محمد المفيد

519
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 519

الجرجاني قال سمعت أبا عمرو عثمان بن خطاب المعمر المعروف بأبي الدنيا الأشج قال سمعت علي بن أبي طالب (ع) يقول لما نزلت «وَ تَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ» قال النبي ص سألت الله عز و جل أن يجعلها أذنك يا علي‏
 «فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ» و هي النفخة الأولى عن عطا و النفخة الأخيرة عن مقاتل و الكلبي «وَ حُمِلَتِ الْأَرْضُ وَ الْجِبالُ» أي رفعت من أماكنها «فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً» أي كسرتا كسرة واحدة لا تثنى حتى يستوي ما عليها من شي‏ء مثل الأديم الممدود و قيل ضرب بعضها ببعض حتى تفتت الجبال و سفتها الرياح و بقيت الأرض شيئا واحدا لا جبل فيها و لا رابية بل تكون قطعة مستوية و إنما قال دكتا لأنه جعل الأرض جملة واحدة و الجبال دكة واحدة «فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ» أي قامت القيامة «وَ انْشَقَّتِ السَّماءُ» أي انفرج بعضها من بعض «فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ» أي شديدة الضعف بانتقاض بنيتها و قيل هو أن السماء تنشق بعد صلابتها فتصير بمنزلة الصوف في الوهي و الضعف «وَ الْمَلَكُ عَلى‏ أَرْجائِها» أي على أطرافها و نواحيها عن الحسن و قتادة و الملك اسم يقع على الواحد و الجمع و السماء مكان الملائكة فإذا وهت صارت في نواحيها و قيل إن الملائكة يومئذ على جوانب السماء تنتظر ما يؤمر به في أهل النار من السوق إليها و في أهل الجنة من التحية و التكرمة فيها «وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ» يعني فوق الخلائق «يَوْمَئِذٍ» يعني يوم القيامة «ثَمانِيَةٌ» من الملائكة عن ابن زيد و
روي ذلك عن النبي ص أنهم اليوم أربعة فإذا كان يوم القيامة أيدهم بأربعة آخرين فيكونون ثمانية
و قيل ثمانية صفوف من الملائكة لا يعلم عددهم إلا الله تعالى عن ابن عباس «يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ» يعني يوم القيامة تعرضون معاشر المكلفين «لا تَخْفى‏ مِنْكُمْ خافِيَةٌ» أي نفس خافية أو فعلة خافية و قيل الخافية مصدر أي خافية أحد و روي في الخبر عن ابن مسعود و قتادة أن الخلق يعرضون ثلاث عرضات ثنتان فيها معاذير و جدال و الثالثة تطير الصحف في الأيدي فأخذ بيمينه و آخذ بشماله و ليس يعرض الله الخلق ليعلم من حالهم ما لم يعلمه فإنه عز اسمه العالم لذاته يعلم جميع ما كان منهم و لكن ليظهر ذلك لخلقه ثم قسم سبحانه حال المكلفين في ذلك اليوم فقال «فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ» لأهل القيامة «هاؤُمُ» أي تعالوا «اقْرَؤُا كِتابِيَهْ» و إنما يقوله سرورا به لعلمه بأنه ليس فيه إلا الطاعات فلا يستحيي أن ينظر فيه غيره و أهل اللغة يقولون إن معنى هاؤم خذوا «إِنِّي ظَنَنْتُ» أي علمت و أيقنت في الدنيا «أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ» و الهاء لنظم رءوس الآي و هي هاء الاستراحة و المعنى إني كنت مستيقنا في دار الدنيا بأني ألقى حسابي يوم القيامة عالما بأني أجازي على الطاعة بالثواب و على المعصية بالعقاب فكنت أعمل بما أصل به إلى هذه المثوبة «فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ» أي في حالة من العيش راضية يرضاها بأن لقي الثواب‏

520
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 519

و آمن العقاب «فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ» أي رفيعة القدر و المكان «قُطُوفُها دانِيَةٌ» أي ثمارها قريبة ممن يتناولها قال البراء بن عازب يتناول الرجل من الثمرة و هو نائم و
قد ورد في الخبر عن عطاء بن يسار عن سلمان قال قال رسول الله ص لا يدخل الجنة أحدكم إلا بجوازبسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من الله لفلان بن فلان أدخلوه جنة عالية قطوفها دانية
و قيل معناه لا يرد أيديهم عن ثمرها بعد و لا شوك عن قتادة «كُلُوا وَ اشْرَبُوا» أي يقال لهم كلوا و اشربوا في الجنة «هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ» أي قدمتم من أعمالكم الصالحة «فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ» الماضية يعني أيام الدنيا و يعني بقوله «هَنِيئاً» إنه ليس فيه ما يؤذي فلا يحتاج فيه إلى إخراج فصل بغائط أو بول.
[سورة الحاقة (69): الآيات 25 الى 37]
وَ أَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ (25) وَ لَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ (26) يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ (27) ما أَغْنى‏ عَنِّي مالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ (29)
خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَ لا يَحُضُّ عَلى‏ طَعامِ الْمِسْكِينِ (34)
فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ (35) وَ لا طَعامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ (36) لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخاطِؤُنَ (37)

اللغة
القاضية الفاصلة بالإماتة يقال قضى فلان إذا مات و أصله فصل الأمر و منه قضية الحاكم و منه قضاء الله و هو في الإخبار بما يكون على القطع و التصلية إلزام النار و منه الاصطلاء و هو القعود عند النار للدفاء و الجحيم النار العظيمة و السلسلة حلق منتظمة كل واحدة منها في الأخرى و يقال سلسل كلامه إذا عقد شيئا منه بشي‏ء و تسلسل الشي‏ء إذا استمر على الولاء شيئا قبل شي‏ء و ذرع الثوب يذرعه ذرعا مأخوذ من الذراع و الغسلين الصديد الذي ينغسل بسيلانه من أبدان أهل النار و وزنه فعلين من الغسل.

521
مجمع البيان في تفسير القرآن10

الإعراب ص 522

الإعراب‏
قوله «كِتابِيَهْ» و «حِسابِيَهْ» و «مالِيَهْ» و «سُلْطانِيَهْ» قال الزجاج الوجه أن يوقف على هذه الهاءات و لا توصل لأنها أدخلت للوقف و قد حذفها قوم في الوصل و لا أحب مخالفة المصحف و لا أن أقرأ و أثبت الهاءات في الوصل و هذه رءوس آيات فالوجه أن يوقف عندها و كذلك قوله ما هِيَهْ «فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ» الجار و المجرور خبر ليس ليصح قوله «وَ لا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ» أي و لا له طعام و لا يكون الخبر هاهنا لأن التقدير يصير و لا طعام هاهنا إلا من غسلين و هذا غير جائز إذ هنا طعام غير غسلين و لا يكون الخبر اليوم لأن حميم جثة و ظرف الزمان لا يكون خبرا عن الجثة.
المعنى‏
ثم ذكر سبحانه حال أهل النار فقال «وَ أَمَّا مَنْ أُوتِيَ» أي أعطي «كِتابَهُ» الذي هو صحيفة أعماله «بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ» أي تمنى أنه لم يؤته لما يرى فيه مقابح أعماله التي يسود لها وجهه «وَ لَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ» أي و لم أدر أي شي‏ء حسابي لأنه لا حاصل له في ذلك الحساب و إنما هو كله عليه «يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ» الهاء في ليتها كناية عن الحال التي هم فيها و قيل هي كناية عن الموتة الأولى و القاضية القاطعة للحياة أي ليت الموتة الأولى التي متنا لم نحيي بعدها عن الفراء يتمنى دوام الموت و أنه لم يبعث للحساب و قال قتادة تمنى يومئذ الموت و لم يكن في الدنيا شي‏ء عنده أكره من الموت «ما أَغْنى‏ عَنِّي مالِيَهْ» أي ما دفع عني مالي من عذاب الله شيئا و قيل معناه إني قصرت همتي على تحصيل المال ليكشف الكرب عني فما نفعني اليوم «هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ» أي حجتي عن ابن عباس و مجاهد أي ضل عني ما كنت أعتقده حجة و قيل معناه هلك عني تسلطي و أمري و نهيي في دار الدنيا على ما كنت مسلطا عليه فلا أمر لي و لا نهي ثم أخبر سبحانه أنه يقول للملائكة «خُذُوهُ فَغُلُّوهُ» أي أوثقوه بالغل و هو أن تشد إحدى يديه و رجليه إلى عنقه بجامعة «ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ» أي ثم أدخلوه النار العظيمة و ألزموه إياها «ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها» أي طولها «سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ» أي اجعلوه فيها لأنه يؤخذ عنقه فيها ثم يجر بها قال الضحاك إنما تدخل في فيه و تخرج من دبره فعلى هذا يكون المعنى ثم اسلكوا السلسلة فيه فقلب كما يقال أدخلت القلنسوة في رأسي و قال الأعشى:
         " إذا ما السراب ارتدى بالأكم"
و إنما ارتدى الأكم بالسراب و لكنه قلب و قال نوف البكالي كل ذراع سبعون باعا و الباع أبعد مما بينك و بين مكة و كان في رحبة الكوفة و قال الحسن الله أعلم بأي ذراع هو و قال سويد بن نجيح إن جميع أهل النار في تلك السلسلة و لو أن حلقة منها وضعت على جبل لذاب من‏

522
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 522

حرها ثم قال سبحانه «إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ» شأنه أي لم يكن يوحد الله في دار التكليف و لا يصدق به «وَ لا يَحُضُّ عَلى‏ طَعامِ الْمِسْكِينِ» و هو المحتاج الفقير و المعنى أنه كان يمنع الزكاة و الحقوق الواجبة «فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ» أي صديق ينفعه «وَ لا طَعامٌ» أي و لا له اليوم طعام «إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ» و هو صديد أهل النار و ما يجري منهم فالطعام هو ما هيئ للأكل و لذلك لا يسمى التراب طعاما للإنسان فلما هيئ الصديد لأكل أهل النار كان ذلك طعاما لهم و قيل إن أهل النار طبقات فمنهم من طعامه غسلين و منهم من طعامه الزقوم و منهم من طعامه الضريع لأنه قال في موضع آخر لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ و قيل يجوز أن يكون الضريع هو الغسلين فعبر عنه بعبارتين عن قطرب و قيل يجوز أن يكون المراد ليس لهم طعام إلا من ضريع و لا شراب إلا من غسلين كما قال الشاعر:
         علفتها تبنا و ماء باردا             حتى شقت همالة عيناها
 «لا يَأْكُلُهُ» أي لا يأكل الغسلين «إِلَّا الْخاطِؤُنَ» و هم الجائرون عن طريق الحق عامدين و الفرق بين الخاطئ و المخطئ أن المخطئ قد يكون من غير تعمد و الخاطئ المذنب المتعمد الجائر عن الصراط المستقيم قال امرؤ القيس:
         يا لهف هند إذ خطئن كاهلا             القاتلين الملك الحلاحلا

523
مجمع البيان في تفسير القرآن10

سورة الحاقة الآيات 38 الى 52 ص 524

[سورة الحاقة (69): الآيات 38 الى 52]
فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (38) وَ ما لا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَ ما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ (41) وَ لا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (42)
تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (43) وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (44) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (47)
وَ إِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَ إِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَ إِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ (50) وَ إِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)

القراءة
قرأ ابن كثير و ابن عامر و يعقوب و سهل يؤمنون و يذكرون بالياء كناية عن الكفار و الباقون بالتاء خطابا لهم و كلاهما حسن.
اللغة
الوتين نياط القلب و إذا انقطع مات الإنسان قال الشماخ بن ضرار:
         إذا بلغتني و حملت رحلي             عرابة فاسرقي بدم الوتين‏
الإعراب‏
قليلا في الموضعين صفة مصدر محذوف و ما مزيدة و تقديره إيمانا قليلا تؤمنون و تذكرا قليلا تذكرون و يجوز أن يكون صفة لظرف محذوف أي وقتا قليلا تؤمنون و وقتا قليلا تذكرون و يجوز أن تكون ما مصدرية و يكون التقدير قليلا إيمانكم و قليلا تذكركم يكون ما في موضع رفع بقليل و قوله «مِنْ أَحَدٍ» في موضع رفع لأنه اسم ما و من مزيدة لتأكيد النفي تقديره فما منكم أحد و الأصل فما أحد منكم فمنكم في موضع رفع بكونه صفة على الموضع أو في موضع جر على اللفظ فلما تقدم الموصوف صار في موضع النصب على الحال حاجزين منصوب بأنه خبر ما و لم يبطل قوله «مِنْكُمْ» عمل ما و إن فصل بينهما لأنه ظرف و الفصل بالظرف في هذا الباب كلا فصل قال أبو علي إن جعلت منكم مستقرا كان حاجزين صفة أحد و إن جعلت منكم غير مستقر كان حاجزين خبر ما و على الوجهين فقوله «حاجِزِينَ»

524
مجمع البيان في تفسير القرآن10

الإعراب ص 524

محمول على المعنى و أقول في بيانه أنه إن كان في منكم ضمير لأحد و يكون خبرا له متقدما عليه فيكون حاجزين صفة لأحد و تقديره ما منكم قوم حاجزون عنه و يكون ما غير عاملة هنا على غير لغة تميم أيضا و يكون حاجزين مجرورا حملا على اللفظ و كونه غير مستقر هو أن يكون على ما ذكرناه قبل.
المعنى‏
ثم أكد سبحانه ما تقدم فقال «فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَ ما لا تُبْصِرُونَ» قيل فيه وجوه (أحدها) أن يكون قوله «لا» ردا لكلام المشركين فكأنه قال ليس الأمر كما يقول المشركون أقسم بالأشياء كلها ما يبصر منها و ما لا يبصر و يدخل فيها جميع المكونات «" إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ"» يعني محمدا ص عن الفراء و قتادة و (ثانيها) أن لا مزيدة مؤكدة و التقدير فأقسم بما ترون و ما لا ترون (و ثالثها) أنه نفي للقسم و معناه لا يحتاج إلى القسم لوضوح الأمر في أنه رسول كريم فإنه أظهر من أن يحتاج في إثباته إلى قسم عن أبي مسلم و (رابعها) أنه كقول القائل لا و الله لا أفعل ذلك و لا و الله لأفعلن ذلك و قال الجبائي إنما أراد أنه لا يقسم بالأشياء المخلوقات ما يرى و ما لا يرى و إنما أقسم بربها لأن القسم لا يجوز إلا بالله «إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ» قال إنه قول الله على الحقيقة و إنما الملك و جبرائيل و الرسول يحكون ذلك و إنما أسنده إليهم من حيث إن ما يسمع منهم كلامهم فلما كان حكاية كلام الله قيل هو كلام الله على الحقيقة في العرف قال الجبائي و الرسول الكريم جبرائيل و الكريم الجامع لخصال الخير «وَ ما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ وَ لا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ» قول الشاعر ما ألفه بوزن و جعله مقفى و له معنى و قول الكاهن السجع و هو كلام متكلف يضم إلى معنى يشاكله طهره الله سبحانه من الشعر و الكهانة و عصمه عنهما و إنما منعه سبحانه من الشعر و نزهه عنه لأن الغالب من حال الشعر أن يدعو إلى الهوى و يبعث على الشهوة و النبي ص إنما يأتي بالحكم التي يدعو إليها العقل للحاجة إلى العمل عليها و الاهتداء بها و أيضا فإنه سبحانه منعه من قول الشعر دلالة على أن القرآن ليس بصفة الكلام المعتاد بين الناس و أنه ليس بشعر بل هو صنف من الكلام خارج عن الأنواع المعتادة و إذا بعد عما جرت به العادة في تأليف الكلام فذلك أدل على إعجازه و قوله «قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ» معناه لا تصدقون بأن القرآن من عند الله تعالى يريد بالقليل نفي إيمانهم أصلا كما تقول لمن لا يزورك قل ما تأتينا و أنت تريد لا تأتينا أصلا فالمعنى لا تؤمنون به و لا تتذكرون و لا تتفكرون فتعلموا المعجز و تفصلوا بينه و بين الشعر و الكهانة «تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ» بين أنه منزل من عنده على لسان جبرائيل حتى لا يتوهم أنه كلام جبرائيل «وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا» محمد ص «بَعْضَ الْأَقاوِيلِ» معناه و لو

525
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 525

كذب علينا و اختلق ما لم نقله أي لو تكلف القول و أتى به من عند نفسه «لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ» أي لأخذنا بيده التي هي اليمين على وجه الإذلال كما يقول السلطان يا غلام خذ بيده فأخذها إهانة عن ابن جرير و قيل معناه لقطعنا يده اليمني عن الحسن و أبي مسلم فعلى هذا تكون الباء مزيدة أي لأخذنا منه اليمين و قيل معناه لأخذنا منه بالقوة و القدرة أي لأخذناه و نحن قادرون عليه مالكون له عن الفراء و المبرد و الزجاج و إنما أقام اليمين مقام القوة و القدرة لأن قوة كل شي‏ء في ميامنه عن ابن قتيبة «ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ» أي و لكنا نقطع منه وتينه و نهلكه قال مجاهد و قتادة هو عرق في القلب متصل بالظهر و قيل هو حبل القلب «فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ» أي فما منكم أحد يحجزنا عنه و المعنى أنه لا يتكلف الكذب لأجلكم مع علمه أنه لو تكلف ذلك لعاتبناه ثم لم تقدروا أنتم على دفع عقوبتنا عنه ثم ذكر سبحانه أن القرآن ما هو فقال «وَ إِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ» أي و إنه لعظة لمن اتقى عقاب الله بطاعته «وَ إِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ» بالقرآن أي علمنا أن بعضكم يكذبه أشار سبحانه إلى أن منهم من يصدق و منهم من يكذب «وَ إِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ» أي إن هذا القرآن حسرة عليهم يوم القيامة حيث لم يعملوا به في الدنيا «وَ إِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ» معناه و إن القرآن للمتقين لحق اليقين و الحق هو اليقين و إنما إضافة إلى نفسه كما يقال مسجد الجامع و دار الآخرة و بارحة الأولى و يوم الخميس و ما أشبه ذلك فيضاف الشي‏ء إلى نفسه إذا اختلف لفظه و قيل إن الحق هو الذي معتقده على ما اعتقد و اليقين هو الذي لا شبهة فيه «فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ» الخطاب للنبي ص و المراد به جميع المكلفين و معناه نزه الله سبحانه عما لا يجوز عليه من الصفات و العظيم هو الجليل الذي يصغر شأن غيره في شأنه و يتضاءل كل شي‏ء لعظمته و سلطانه.

526
مجمع البيان في تفسير القرآن10

سورة المعارج مكية و آياتها أربع و أربعون ص 527

(70) سورة المعارج مكية و آياتها أربع و أربعون (44)
[توضيح‏]
قال الحسن إلا قوله «وَ الَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ».
عدد آيها
أربع و أربعون آية غير الشامي ثلاث شامي.
اختلافها
آية «أَلْفَ سَنَةٍ» غير الشامي.
فضلها
أبي بن كعب عن النبي ص قال قال رسول الله ص و من قرأ سأل سائل أعطاه الله ثواب الذين هم لأماناتهم و عهدهم راعون و الذين هم على صلواتهم يحافظون‏
و
عن جابر عن أبي جعفر (ع) قال من أدمن قراءة سأل سائل لم يسأله الله يوم القيامة عن ذنب عمله و أسكنه جنته مع محمد ص.
تفسيرها
لما ختم الله سورة الحاقة بوعيد الكفار افتتح هذه السورة بمثل ذلك فقال:

527
مجمع البيان في تفسير القرآن10

سورة المعارج الآيات 1 الى 10 ص 528

[سورة المعارج (70): الآيات 1 الى 10]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏
سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (1) لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4)
فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (6) وَ نَراهُ قَرِيباً (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ (8) وَ تَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ (9)
وَ لا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (10)

القراءة
قرأ أهل المدينة و ابن عامر سأل بغير همز و الباقون بالهمز و قرأ الكسائي يعرج بالياء و قرأ الباقون بالتاء و قرأ ابن كثير في رواية البزي و عاصم في رواية البرجمي عن أبي بكر و لا يسأل بضم الياء و الباقون «لا يَسْئَلُ» بفتح الياء.
الحجة
قال أبو علي من قرأ سأل جعل الألف منقلبة عن الواو التي هي عين مثل قال و خاف و حكى أبو عثمان عن أبي زيد أنه سمع من يقول هما يتساولان فمن قال سأل كان على هذه اللغة و من قرأ «سَأَلَ» فجعل الهمزة عين الفعل فإن حقق قال سأل و إن خفف جعلها بين الألف و الهمزة و أما قول الشاعر:
         سألت هذيل رسول الله فاحشة             ضلت هذيل بما قالت و لم تصب‏
و يمكن فيه الوجهان و كل القراء على همز سائل لأنه لا يخلو إما أن يكون من يتساولان أو من اللغة الأخرى فإن كان من الأول لم يكن فيه إلا الهمز كما يكون في قائل و خائف لأن العين إذا اعتلت بالفعل اعتلت في اسم الفاعل و اعتلالها لا يكون بالحذف للالتباس فقلب إلى الهمزة و إن كانت في لغة من همز فليس فيه إلا الهمز كما يكون في ثائر إلا أنك إن شئت خففت الهمزة فجعلتها بين بين و كذلك في الوجه الآخر و أما يعرج و «تَعْرُجُ» فالياء و التاء فيه حسنتان و من ضم قوله و لا يسئل حميم حميما فالمعنى و الله أعلم لا يسئل حميم عن حميمه ليعرف شأنه من جهته كما يتعرف الخبر الصديق من جهة صديقه و القريب عن قريبه فإذا كان كذلك فالكلام إذا بنيت الفعل للفاعل قلت سألت زيدا عن حميمه و إذا بنيت الفعل للمفعول به قلت سئل زيد عن حميمه و قد يحذف الجار فيصل الفعل إلى الاسم الذي كان مجرورا قبل حذف الجار فينتصب بأنه مفعول الاسم الذي أسند إليه الفعل المبني للمفعول به فعلى هذا انتصب قوله «حَمِيماً» و يدل على هذا المعنى قوله يُبَصَّرُونَهُمْ أي يبصر الحميم الحميم تقول بصرت به فإذا ضعفت عين الفعل صار الفاعل مفعولا فتقول بصرني زيد بكذا فإذا حذفت الجار قلت بصرني زيد كذا فإذا بنيت الفعل للمفعول به و قد حذفت الجار قلب بصرت زيدا فعلى هذا قوله يُبَصَّرُونَهُمْ فإذا بصروهم لم يحتج إلى تعرف شأن الحميم من حميمه و إنما جمع فقيل يبصروهم لأن الحميم و إن كان مفردا في اللفظ فالمراد به الكثرة

528
مجمع البيان في تفسير القرآن10

الحجة ص 528

و الجمع يدلك على ذلك قوله فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَ لا صَدِيقٍ حَمِيمٍ و من قرأ «وَ لا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً» فالمعنى لا يسأل الحميم عن حميمه في ذلك اليوم لأنه يذهل عن ذلك و يشغل عنه بشأنه كما قال يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ إلى قوله لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ.
اللغة
المعارج مواضع العروج و هو الصعود مرتبة بعد مرتبة و منه الأعرج لارتفاع إحدى رجليه عن الأخرى قال الزجاج المهل دردي الزيت و قيل هو الجاري بغلظة و عكزه على رفق من أمهله إمهالا و العهن الصوف المنقوش و الحميم القريب النسب إلى صاحبه و أصله من القرب قال:
         أحم الله ذلك من لقاء             أحاد أحاد في الشهر الحلال‏
الإعراب‏
بعذاب الباء تتعلق بسال لأن معناه دعا داع بعذاب و قيل إن الباء بمعنى عن و تقديره عن عذاب قال:
         دع المعمر لا تسأل بمصرعه             و أسأل بمصقلة البكري ما فعلا
يريد عن مصرعه و عن مصقله و اللام في قوله «لِلْكافِرينَ» بمعنى على و يتعلق بواقع أي واقع على الكافرين و قيل إنه يتعلق بمحذوف فيكون صفة لسائل تقديره سأل سائل كائن للكافرين أي منهم.
المعنى‏
 «سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ» قيل إن هذا السائل هو الذي قال اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك الآية و هو النضر بن الحارث بن كلدة فيكون المعنى دعا داع على نفسه بعذاب واقع مستعجلا له و هو واقع بهم لا محالة عن مجاهد و قيل سأل المشركون فقالوا لمن هذا العذاب الذي تذكر يا محمد فجاء جوابه بأنه «لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ» عن الحسن و قيل معناه دعا داع بعذاب على الكافرين و ذلك الداعي هو النبي ص عن الجبائي و تكون الباء في بعذاب مزيدة على التوكيد كما في قوله وَ هُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ و التقدير سأل سائل عذابا واقعا و قيل هي بمعنى عن و عليه تأويل قول الحسن لأنهم سألوا عن العذاب لمن هو و قيل الباء للتعدي أي بإنزال عذاب و عليه تأويل قول مجاهد و قيل إن معنى سأل سائل على قراءة من قرأ بالألف من سال يسيل سيلا و التقدير سال سيل سائل بعذاب واقع و قيل سائل اسم واد في جهنم سمي به لأنه يسيل بالعذاب عن ابن زيد و
أخبرنا السيد أبو الحمد

529
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 529

قال حدثنا الحاكم أبو القاسم الحسكاني قال حدثنا أبو عبد الله الشيرازي قال حدثنا أبو بكر الجرجاني قال حدثنا أبو أحمد البصري قال حدثنا محمد بن سهل قال حدثنا زيد بن إسماعيل مولى الأنصار قال حدثنا محمد بن أيوب الواسطي قال حدثنا سفيان بن عيينة عن جعفر بن محمد الصادق عن آبائه ع قال لما نصب رسول الله ص عليا (ع) يوم غدير خم و قال من كنت مولاه فعلي مولاه طار ذلك في البلاد فقدم على النبي ص النعمان بن الحرث الفهري فقال أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلا الله و أنك رسول الله و أمرتنا بالجهاد و الحج و الصوم و الصلاة و الزكاة فقبلناها ثم لم ترض حتى نصبت هذا الغلام فقلت من كنت مولاه فعلي مولاه فهذا شي‏ء منك أو أمر من عند الله فقال و الله الذي لا إله إلا هو أن هذا من الله فولى النعمان بن الحرث و هو يقول اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء فرماه الله بحجر على رأسه فقتله و أنزل الله تعالى «سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ»
و قوله «لَيْسَ لَهُ دافِعٌ مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعارِجِ» أي ليس لعذاب الله دافع من الله و قيل معناه بعذاب للكافرين واقع من الله أي وقوعه من الله و ذي المعارج صفة الله سبحانه و قيل فيه وجوه (أحدها) أن معناه ذي الفواضل العالية و الدرجات التي يعطيها للأنبياء و الأولياء في الجنة لأنه يعطيهم المنازل الرفيعة و الدرجات العلية و هو معنى قول قتادة و الجبائي (و ثانيها) أنها معارج السماء أي مواضع عروج الملائكة عن ابن عباس و مجاهد و قال الكلبي معناه ذي السماوات لأن الملائكة تعرج فيها (و ثالثها) أنه بمعنى ذي الملائكة أي مالك الملائكة التي تعرج إلى السماء و منه ليلة المعراج لأنه عرج بالنبي ص إلى السماء فيها «تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ» أي تصعد الملائكة و يصعد الروح أيضا معهم و هو جبرائيل خصه بالذكر من بين الملائكة تشريفا له «إِلَيْهِ» أي إلى الموضع الذي لا يجري لأحد سواه فيه حكم جعل سبحانه عروجهم إلى ذلك الموضع عروجا إليه كقول إبراهيم (ع) إِنِّي ذاهِبٌ إِلى‏ رَبِّي إلى الموضع الذي وعدني ربي «فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ» اختلف في معناه فقيل تعرج الملائكة إلى الموضع الذي يأمرهم الله به في يوم كان مقداره من عروج غيرهم خمسين ألف سنة و ذلك من أسفل الأرضين إلى فوق السماوات السبع و قوله في سورة السجدة فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ هو لما بين السماء الدنيا و الأرض في الصعود و النزول خمسمائة سنة في الصعود و خمسمائة سنة في النزول عن مجاهد و المراد أن الآدميين لو احتاجوا إلى قطع هذا المقدار الذي قطعته الملائكة في يوم واحد لقطعوه في هذه المدة و قيل أنه يعني يوم القيامة و أنه يفعل فيه من الأمور و يقضي فيه من الأحكام بين العباد ما لو فعل في الدنيا لكان مقداره خمسين ألف سنة عن الجبائي و هو معنى قول قتادة و عكرمة و
روى أبو

530
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 529

سعيد الخدري قال قيل يا رسول الله ما أطول هذا اليوم فقال و الذي نفس محمد بيده إنه ليخف على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا
و
روي عن أبي عبد الله (ع) أنه قال لو ولي الحساب غير الله لمكثوا فيه خمسين ألف سنة من قبل أن يفرغوا و الله سبحانه يفرغ من ذلك في ساعة
و
عنه أيضا قال لا ينتصف ذلك اليوم حتى يقبل أهل الجنة في الجنة و أهل النار في النار
و قيل معناه أن أول نزول الملائكة في الدنيا و أمره و نهيه و قضائه بين الخلائق إلى آخر عروجهم إلى السماء و هو القيامة هذه المدة فيكون مقدار الدنيا خمسين ألف سنة لا يدري كم مضى و كم بقي و إنما يعلمه الله عز و جل و قال الزجاج يجوز أن يكون قوله «فِي يَوْمٍ» من صلة واقع فيكون المعنى سأل سائل بعذاب واقع في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة و ذلك العذاب يقع يوم القيامة «فَاصْبِرْ» يا محمد على تكذيبهم إياك «صَبْراً جَمِيلًا» لا جزع فيه و لا شكوى على ما تقاسيه «إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَ نَراهُ قَرِيباً» أخبر سبحانه أنه يعلم مجي‏ء يوم القيامة و حلول العقاب بالكفار قريبا و يظنه الكفار بعيدا لأنهم لا يعتقدون صحته و كل ما هو آت فهو قريب دان فالرؤية الأولى بمعنى الظن و الثانية بمعنى العلم ثم أخبر سبحانه أنه متى يقع العذاب بهم فقال «يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ» أي كدردي الزيت عن ابن عباس و قيل كعكر القطران عن عطاء و قيل مثل الفضة إذا أذيبت عن الحسن و قيل مثل الصفر المذاب عن أبي مسلم «وَ تَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ» أي كالصوف المصبوغ و قيل كالصوف المنفوش عن مقاتل و قيل كالصوف الأحمر عن الحسن يعني إنها تلين بعد الشدة و تتفرق بعد الاجتماع قال الحسن إنها أولا تصير كئيبا مهيلا ثم تصير عهنا منفوشا ثم هباء منثورا «وَ لا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً» لشغل كل إنسان بنفسه عن غيره عن مجاهد و قيل لا يسأل حميم حميما أن يتحمل عنه من أوزاره ليأسه منه ذلك في الآخرة عن الحسن و قال الأخفش الحميم من يخصه الرجل مودة و شفقة من قريب الرحم و بعيدة و الحامة الخاصة و قيل معناه أنه لا يحتاج إلى سؤاله لأنه يكون لكل علامة يعرف بها فعلامة الكافرين سواد الوجوه و زرقة العيون و علامة المؤمنين نضارة اللون و بياض الوجوه.

531
مجمع البيان في تفسير القرآن10

سورة المعارج الآيات 11 الى 35 ص 532

[سورة المعارج (70): الآيات 11 الى 35]
يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَ صاحِبَتِهِ وَ أَخِيهِ (12) وَ فَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ (14) كَلاَّ إِنَّها لَظى‏ (15)
نَزَّاعَةً لِلشَّوى‏ (16) تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَ تَوَلَّى (17) وَ جَمَعَ فَأَوْعى‏ (18) إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20)
وَ إِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21) إِلاَّ الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلى‏ صَلاتِهِمْ دائِمُونَ (23) وَ الَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَ الْمَحْرُومِ (25)
وَ الَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَ الَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَ الَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (29) إِلاَّ عَلى‏ أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30)
فَمَنِ ابْتَغى‏ وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (31) وَ الَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَ عَهْدِهِمْ راعُونَ (32) وَ الَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ (33) وَ الَّذِينَ هُمْ عَلى‏ صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (34) أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35)

القراءة
قرأ حفص «نَزَّاعَةً» بالنصب و الباقون بالرفع و قرأ ابن كثير لأمانتهم بغير ألف بعد النون و الباقون «لِأَماناتِهِمْ» بالجمع و قرأ حفص و يعقوب و سهل «بِشَهاداتِهِمْ» على الجمع و الباقون بشهادتهم و كلهم قرءوا «عَلى‏ صَلاتِهِمْ» على التوحيد.
الحجة
قال أبو علي من قرأ إنها لظى نزاعة للشوى فرفع نزاعة جاز في رفعه ما جاز في قولك هذا زيد منطلق و هذا بعلي شيخ و من نصب فعلى وجهين (أحدهما) أن يكون حالا (و الآخر) أن يحمل على فعل فحمله على الحال يبعد لأنه ليس في الكلام ما يعمل في الحال فإن قلت فإن في قوله «لَظى‏» معنى التلظي و التلهب فإن ذلك لا يستقيم لأن لظى معرفة

532
مجمع البيان في تفسير القرآن10

الحجة ص 532

لا ينتصب عنها الأحوال أ لا ترى أن ما استعمل استعمال الأسماء من اسم فاعل أو مصدر لم يعمل هذا النحو من حيث جرى مجرى الأسماء فبأن يعمل الاسم المعرفة عمله أولى و يدلك على تعريف هذا الاسم و كونه علما أن التنوين لم يلحقه فإذا كان كذلك لم ينتصب الحال عنه فإن جعلتها مع تعريفها قد صارت معروفة بشدة التلظي جاز أن تنصبه بهذا المعنى الحادث في العلم و على هذا قوله تعالى وَ هُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَ فِي الْأَرْضِ علقت الظرف بما دل عليه الاسم من التدبير و الألطاف فإن علقت الحال بالمعنى الحادث في العلم كما علقت الظرف بما دل عليه الاسم من التدبير و الألطاف لم يمتنع لأن الحال كالظرف في تعلقها بالمعنى كتعلق الظرف به و كان وجها و إن علقت نزاعة بفعل مضمر نحو أعينها نزاعة للشوى لم يمتنع أيضا و أما قوله لأمانتهم على الإفراد و إن كان مضافا إلى جماعة و لكل واحد منهم أمانة فلأنه مصدر يقع على جميع الجنس و يتناوله و من جمع فلاختلاف الأمانات و كثرة ضروبها فأشبهت بذلك الأسماء التي ليست للجنس و القول في الشهادة و الشهادات مثل القول في الأمانة و الأمانات.
اللغة
المودة مشتركة بين التمني و بين المحبة يقال وددت الشي‏ء أي تمنيته و وددته أي أحببته أود فيهما جميعا و الافتداء افتداء الضرر عن الشي‏ء ببدل منه و الفصيلة الجماعة المنقطعة عن جملة القبيلة برجوعها إلى أبوة خاصة عن أبوة عامة و لظى اسم من أسماء جهنم مأخوذة من التوقد و النزاعة الكثيرة النزع و هو اقتلاع عن شدة ضم و الاقتلاع أخذ بشدة اعتماد و الشوى جلدة الرأس واحدتها شواة قال الأعشى:
         قالت قتيلة ما له             قد جللت شيبا شواته‏
و الشوى الأكارع و الأطراف و الشوى ما عدا المقاتل من كل حيوان يقال رماه فأشواه أي أصاب غير مقتله و رمى فأصمى أي أصاب المقتل و الشوى أيضا الخسيس من المال و الهلوع الشديد الحرص الشديد الجزع و الإشفاق رقة القلب عن تحمل ما يخاف من الأمور فإذا قسا قلب الإنسان بطل الإشفاق و العادي الخارج عن الحق يقال عدا فلان إذا اعتدى و عدا في مشيه إذا أسرع و هو الأصل و العادي الظالم بالإسراع إلى الظلم.
الإعراب‏
يجوز أن يكون العامل في الظرف من قوله يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ قوله «يُبَصَّرُونَهُمْ» و قوله «يَوَدُّ الْمُجْرِمُ» يجوز أن يكون استئناف كلام و يجوز أن يكون في محل الجر

533
مجمع البيان في تفسير القرآن10

الإعراب ص 533

بدلا من تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ. هلوعا و منوعا و جزوعا منصوبة على الحال و التقدير خلق هلوعا، جزوعا إذا مسه الشر، منوعا إذا مسه الخير و المصلين منصوب على الاستثناء و قوله «إِلَّا عَلى‏ أَزْواجِهِمْ» قيل أن على هذه محمولة على المعنى و التقدير فإنهم يلامون على غير أزواجهم و يدل عليه قوله «فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ» عن الزجاج و قيل تقديره إلا من أزواجهم فيكون على بمعنى من.
المعنى‏
لما وصف سبحانه القيامة و أخبر أن الحميم فيه لا يسأل حميمه لشغله بنفسه قال «يُبَصَّرُونَهُمْ» أي يعرف الكفار بعضهم بعضا ساعة ثم لا يتعارفون و يفر بعضهم من بعض عن ابن عباس و قتادة و قيل يعرفهم المؤمنون عن مجاهد أي يبصر المؤمن أعداءه على حالهم من العذاب فيشمت بهم و يسر و قيل يعرف أتباع الضلالة رؤساءهم و قيل إن الضمير يعود إلى الملائكة و قد تقدم ذكرهم أي يعرفهم الملائكة و يجعلون بصراء بهم فيسوقون فريقا إلى الجنة و فريقا إلى النار «يَوَدُّ الْمُجْرِمُ» أي يتمنى العاصي «لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ» يتمنى سلامته من العذاب النازل به بإسلام كل كريم عليه من أولاده الذين هم أعز الناس عليه «وَ صاحِبَتِهِ» أي زوجته التي كانت سكنا له و ربما آثرها على أبويه «وَ أَخِيهِ» الذي كان ناصرا له و معينا «وَ فَصِيلَتِهِ» أي و عشيرته «الَّتِي تُؤْوِيهِ» في الشدائد و تضمه و يأوي إليها في النسب «وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً» أي و بجميع الخلائق يقول يود لو يفتدي بجميع هذه الأشياء «ثُمَّ يُنْجِيهِ» ذلك الفداء «كَلَّا» لا ينجيه ذلك قال الزجاج كلا ردع و تنبيه أي لا يرجع أحد من هؤلاء فارتدعوا «إِنَّها لَظى‏» يعني أن نار جهنم أو القصة لظى نزاعة للشوى و سميت لظى لأنها تتلظى أي تشتعل و تلتهب على أهلها و قيل لظى اسم من أسماء جهنم و قيل هي الدركة الثانية منها و هي «نَزَّاعَةً لِلشَّوى‏» تنزع الأطراف فلا تترك لحما و لا جلدا إلا أحرقته عن مقاتل و قيل تنزع الجلد و أم الرأس عن ابن عباس و قيل تنزع الجلد و اللحم عن العظم عن الضحاك و قال الكلبي يعني تأكل الدماغ كله ثم يعود كما كان و قال أبو صالح الشوى لحم الساق و قال سعيد بن جبير العصب و العقب و قال أبو العالية محاسن الوجه «تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَ تَوَلَّى» يعني النار تدعو إلى نفسها من أدبر عن الإيمان و تولى عن طاعة الله و رسوله عن قتادة و المعنى أنه لا يفوت هذه النار كافر فكأنها تدعوه فيجيبها كرها و قيل إن الله تعالى ينطق النار حتى تدعوهم إليها و قيل معناه تدعو زبانية النار من أدبر و تولى عن الحق فجعل ذلك سبحانه دعاء من النار عن الجبائي و قيل تدعو أي تعذب رواه المبرد عن الخليل قال يقال دعاك الله أي عذبك «وَ جَمَعَ» المال «فَأَوْعى‏» أي أمسكه في الوعاء فلم ينفقه في طاعة الله فلم يؤد زكاة و لم يصل رحما و قيل جمعه من باطل و منعه عن الحق‏

534
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 534

 «إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً» أي ضجورا شحيحا جزوعا من الهلع و هو شدة الحرص و قال أهل البيان تفسيره فيما بعده «إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَ إِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً» يعني إذا أصابه الفقر لا يحتسب لا يصبر و إذا أصابه الغنى منعه من البر ثم استثنى سبحانه الموحدين المطيعين فقال «إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلى‏ صَلاتِهِمْ دائِمُونَ» مستمرون على أدائها لا يخلون بها و لا يتركونها و
روي عن أبي جعفر (ع) أن هذا في النوافل‏
و قوله «وَ الَّذِينَ هُمْ عَلى‏ صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ» في الفرائض و الواجبات و قيل هم الذين لا يزيلون وجوههم عن سمت القبلة عن عقبة عن عامر و الزجاج «وَ الَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَ الْمَحْرُومِ» يعني الزكاة المفروضة و السائل الذي يسأل و المحروم الفقير الذي يتعفف و لا يسأل و قد سبق تفسيرها و
روي عن أبي عبد الله (ع) أنه قال الحق المعلوم ليس من الزكاة و هو الشي‏ء الذي تخرجه من مالك إن شئت كل جمعة و إن شئت كل يوم و لكل ذي فضل فضله‏
و
روي عنه أيضا أنه قال هو أن تصل القرابة و تعطي من حرمك و تصدق على من عاداك‏
 «وَ الَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ» أي يؤمنون بأن يوم الجزاء و الحساب حق لا يشكون في ذلك «وَ الَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ» أي خائفون «إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ» أي لا يؤمن حلوله بمستحقيه و هم العصاة و قيل معناه يخافون أن لا تقبل حسناتهم و يؤخذون بسيئاتهم و قيل غير مأمون لأن المكلف لا يدري هل أدى الواجب كما أمر به و هل انتهى عن المحظور على ما نهي عنه و لو قدرنا أن إنسانا يعلم ذلك من نفسه لكان آمنا «وَ الَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى‏ أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ» يعني الذين يحفظون فروجهم عن المناكح على كل وجه و سبب إلا على الأزواج أو ملك الأيمان من الإماء «فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ» على ترك حفظ الفروج عنهم «فَمَنِ ابْتَغى‏ وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ» فمن طلب وراء ما أباحه الله له من الفروج فأولئك هم الذين تعدوا حدود الله و خرجوا عما أباحه لهم و معنى وراء ذلك ما خرج عن حده من أي جهة كان «وَ الَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَ عَهْدِهِمْ راعُونَ» أي حافظون و الأمانة ما يؤتمن المرء عليه مثل الوصايا و الودائع و الحكومات و نحوها و قيل الأمانة الإيمان و ما أخذ الله عباده من التصديق بما أوجبه عليهم و العمل بما يجب عليهم العمل به «وَ الَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ» أي يقيمون الشهادات التي تلزمهم إقامتها و الشهادة الإخبار بالشي‏ء أنه على ما شاهدوه ذلك أنه قد يكون عن مشاهدة للمخبر به و قد يكون عن مشاهدة ما يدعو إليه «وَ الَّذِينَ هُمْ عَلى‏ صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ» أي يحفظون أوقاتها و أركانها فيؤدونها بتمامها و لا يضيعون شيئا منها و
روى محمد بن الفضيل عن أبي الحسن (ع) أنه قال أولئك أصحاب الخمسين صلاة من شيعتنا
و
روى زرارة عن أبي جعفر (ع)

535
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 534

قال هذه الفريضة من صلاها لوقتها عارفا بحقها لا يؤثر عليها غيرها كتب الله له بها براءة لا يعذبه و من صلاها لغير وقتها مؤثرا عليها غيرها فإن ذلك إليه إن شاء غفر له و إن شاء عذبه‏
و «أُولئِكَ» من وصفوا بهذه الصفات «فِي جَنَّاتٍ» أي بساتين يجنها الشجر «مُكْرَمُونَ» معظمون مبجلون بما يفعل بهم من الثواب.
[سورة المعارج (70): الآيات 36 الى 44]
فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَ عَنِ الشِّمالِ عِزِينَ (37) أَ يَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلاَّ إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39) فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَ الْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ (40)
عَلى‏ أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَ ما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَ يَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى‏ نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (44)

القراءة
قرأ ابن عامر و حفص و سهل «إِلى‏ نُصُبٍ» بضمتين و الباقون إلى نصب بفتح النون و سكون الصاد.
الحجة
قال أبو علي يجوز أن يكون نصب جمع نصب مثل سقف و سقف و ورد و من ثقل فقال نصب كان بمنزلة أسد و يمكن أن يكون النصب و النصب لغتين كالضعف و الضعف و ما أشبه ذلك و يكون الثقيل كشغل و شغل و طنب و طنب.
اللغة
قال الزجاج المهطع المقبل ببصره على الشي‏ء لا يزايله و ذلك من نظر العدو و قال أبو عبيدة الإهطاع الإسراع و عزين جماعات في تفرقة واحدتهم عزة و إنما جمع بالواو و النون لأنه عوض مثل سنة و سنون و أصل عزة عزوة من عزاه يعزوه إذا أضافه إلى غيره فكل جماعة من هذه الجماعات مضافة إلى الأخرى.

536
مجمع البيان في تفسير القرآن10

اللغة ص 536

قال الراعي:
         أ خليفة الرحمن إن عشيرتي             أمسى سوامهم عزين فلولا
و قال عنترة:
        و قرن قد تركت لدي مكر             عليه الطير كالعصب العزينا
و قيل إن المحذوف من عزة هاء و الأصل عزهة و هو من العزهاة و هو المنقبض عن النساء و عن اللهو معهن قال الأحوص:
         إذا كنت عزهاة عن اللهو و الصبي             فكن حجرا من يابس الصخر جلمدا
و
عن أبي هريرة قال خرج النبي ص على أصحابه و هم حلق حلق متفرقون فقال ما لي أراكم عزين‏
و الأجداث القبور واحدها جدث و جدف بمعناه و الإيفاض الإسراع و النصب الصنم الذي كانوا يعبدونه قال الأعشى:
         و ذا النصب المنصوب لا تنسكنه             لعاقبة و الله ربك فاعبدا
الإعراب‏
 «فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا» ما رفع بالابتداء و اللام خبره و فيه ضميره و قبلك في موضع الحال من كفروا أو من المجرور على تقدير فما لهم ثابتين قبلك و مهطعين حال من الضمير في قبلك و يجوز في قبلك أن يكون ظرفا للأم و أن يكون ظرفا لمهطعين و يجوز أن يكون مهطعين حالا بعد حال و عن اليمين يتعلق به و عزين حال بعد حال و يجوز أن يتعلق عن اليمين بعزين و معناه مجتمعين عن اليمين و عن الشمال. «كَأَنَّهُمْ إِلى‏ نُصُبٍ يُوفِضُونَ» جملة منصوبة الموضع على الحال من قوله «سِراعاً» «خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ» حال من الضمير في يوفضون.
المعنى‏
ثم قال سبحانه على وجه الإنكار على الكفار «فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا» يعني‏

537
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 537

أي شي‏ء للذين كفروا بتوحيد الله أي ما بالهم و ما حملهم على ما فعلوا «قِبَلَكَ» أي عندك يا محمد «مُهْطِعِينَ» مسرعين إليك عن أبي عبيدة و قيل متطلعين عن الحسن و قيل مقبلين عنك بوجوههم لا يلتفتون عنك أي ناظرين إليك بالعداوة و المراد بالذين كفروا هنا المنافقون «عَنِ الْيَمِينِ وَ عَنِ الشِّمالِ» أي عن يمينك و عن شمالك «عِزِينَ» أي جماعات متفرقين عصبة عصبة و جماعة جماعة «أَ يَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ» أي من هؤلاء المنافقين ب «أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ» كما يدخل أولئك الموصوفون قبل هذا و إنما قال هذا لأنهم كانوا يقولون إن كان الأمر على ما قال محمد فإن لنا في الآخرة عند الله أفضل مما للمؤمنين كما أعطانا في الدنيا أفضل مما أعطاهم «كَلَّا» أي لا يكون و لا يدخلونها «إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ» أي من النطفة عن الحسن أي من كان أصله من هذا الماء المهين فكيف استوجب الجنة بأصله و بنفسه إنما يستوجبها بالأعمال الصالحة نبه سبحانه بهذا على أن الناس كلهم من أصل واحد و إنما يتفاضلون بالإيمان و الطاعة و تحقيقه إنما خلقناهم من المقاذر و الأنجاس فمتى يدخلون الجنة و لم يؤمنوا بي و لم يصدقوا رسولي و قيل معناه خلقناهم من الجنس الذين يعلمون أو من الخلق الذين يعلمون و يفقهون و يلزمهم الحجة و لم نخلقهم من الجنس الذي لا يفقه كالبهائم و الطير و قيل معناه خلقناهم من أجل ما يعلمون من الثواب و العقاب و التكليف للطاعات تعريضا للثواب كما يقول القائل غضبت عليك مما تعلم أي من أجل ما تعلم قال الأعشى:
         أ أزمعت من آل ليلى ابتكارا             و شطت على ذي هوى أن تزارا
أي من أجل آل ليلى و دل قوله و شطت على ذي هوى أنه لم يزمع من عندهم و إنما أزمع من أجلهم للمصير إليهم «فَلا أُقْسِمُ» هو مفسر في سورة الحاقة «بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَ الْمَغارِبِ» يعني مشارق الشمس و مغاربها فإن لها ثلاثمائة و ستين مطلعا لكل يوم مطلع لا تعود إليه إلى قابل عن ابن عباس «إِنَّا لَقادِرُونَ عَلى‏ أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ» هذا جواب‏

538
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 537

القسم يعني أنا نقدر على أن نهلكهم و نأتي بدلهم بقوم آخرين خيرا منهم «وَ ما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ» هذا عطف على جواب القسم أي و إن هؤلاء الكفار لا يفوتون بأن يتقدموا على وجه يمنع لحاق العذاب بهم فإنهم لم يكونوا سابقين و لا العقاب مسبوقا منهم و التقدير و ما نحن بمسبوقين يفوت عقابنا إياهم فإنهم لو سبقوا عقابنا لسبقونا و قيل معناه و ما نحن بمغلوبين عن أبي مسلم «فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا» في باطلهم «وَ يَلْعَبُوا» فإن وبال ذلك عائد عليهم «حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ» يعني يوم القيامة «يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ» أي القبور «سِراعاً» مسرعين لشدة السوق «كَأَنَّهُمْ إِلى‏ نُصُبٍ يُوفِضُونَ» أي كأنهم يسعون و يسرعون إلى علم نصب لهم عن الجبائي و أبي مسلم و قيل كأنهم إلى أوثانهم يسعون للتقرب إليها عن ابن عباس و قتادة «خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ» أي ذليلة خاضعة لا يستطيعون النظر من هول ذلك اليوم «تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ» أي تغشاهم مذلة «ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي» وصفه اليوم الذي «كانُوا يُوعَدُونَ» به دار التكليف فلا يصدقون به و يجحدونه قد شاهدوه في تلك الحال.

539
مجمع البيان في تفسير القرآن10

سورة نوح مكية و آياتها ثمان و عشرون ص 540

(71) سورة نوح مكية و آياتها ثمان و عشرون (28)
عدد آيها
ثمان و عشرون آية كوفي تسع بصري شامي ثلاثون في الباقين.
اختلافها
أربع آيات سُواعاً فَأُدْخِلُوا ناراً كلاهما غير الكوفي وَ نَسْراً كوفي و المدني الأخير أَضَلُّوا كَثِيراً مكي و المدني الأول.
فضلها
أبي بن كعب عن النبي ص قال و من قرأ سورة نوح كان من المؤمنين الذين تدركهم دعوة نوح‏
أبو عبد الله (ع) قال من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر و يقرأ كتابه فلا يدع أن يقرأ سورة إنا أرسلنا نوحا فأي عبد قرأها محتسبا صابرا في فريضة أو نافلة أسكنه الله مساكن الأبرار و أعطاه ثلاث جنان مع جنته كرامة من الله و زوجه مائتي حوراء و أربعة آلاف ثيب إن شاء الله تعالى.
تفسيرها
لما ختم سبحانه تلك السورة بوعيد أهل التكذيب افتتح هذه السورة بذكر قصة نوح و قومه و ما نالهم بالتكذيب تسلية للنبي ص فقال:

540
مجمع البيان في تفسير القرآن10

سورة نوح الآيات 1 الى 14 ص 541

[سورة نوح (71): الآيات 1 الى 14]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏
إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى‏ قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (1) قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَ اتَّقُوهُ وَ أَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَ يُؤَخِّرْكُمْ إِلى‏ أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4)
قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَ نَهاراً (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاَّ فِراراً (6) وَ إِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَ اسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَ أَصَرُّوا وَ اسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَ أَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً (9)
فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (10) يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (11) وَ يُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَ بَنِينَ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً (12) ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (13) وَ قَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً (14)

اللغة
الاستغشاء طلب التغشي و الإصرار الإقامة على الأمر بالعزيمة عليه و المدرار الكثير الدرور بالغيث و المطر و الأمداد إلحاق الثاني بالأول على النظام حالا بعد حال يقال أمده بكذا و مد النهر نهر آخر و الأموال جمع المال و هو عند العرب النعم و أصل الوقار الثبوت و ما به يكون الشي‏ء عظيما من الحلم الذي يمتنع معه الخرق و الرجاء بمعنى الخوف قال أبو ذويب:
         إذا لسعته النحل لم يرج لسعها             و خالفها في بيت نوب عواسل.
الإعراب‏
 «أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ» في موضع نصب بأرسلنا لأن الأصل بأن أنذر قومك فلما سقطت الباء أفضى الفعل و قيل إن موضعه جر و إن سقطت الباء و قد تقدم بيانه و يجوز أن يكون أن هذه المفسرة بمعنى أي. و جهارا مصدر وضع موضع الحال أي دعوتهم مجاهرا لهم بالدعاء إلى التوحيد و قوله «مِدْراراً» نصب على الحال. لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً» جملة في موضع الحال أيضا و العامل في الحال ما في لكم في معنى الفعل. وقارا منصوب بأنه مفعول ترجون.

541
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 542

المعنى‏
أخبر سبحانه عن نفسه فقال «إِنَّا أَرْسَلْنا» أي بعثنا «نُوحاً» رسولا «إِلى‏ قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» معناه أرسلنا لينذرهم بالعذاب إن لم يؤمنوا قال الحسن أمره أن ينذرهم عذاب الدنيا قبل عذاب الآخرة ثم حكى أن نوحا امتثل ما أمر الله سبحانه به بأن قال «قالَ يا قَوْمِ» أضافهم إلى نفسه فكأنه قال أنتم عشيرتي يسوؤني ما يسوؤكم «إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ» أي مخوف مبين وجوه الأدلة في الوعيد و بيان الدين و التوحيد «أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَ اتَّقُوهُ» أي اعبدوا الله وحده و لا تشركوا به شيئا و اتقوا معاصيه «وَ أَطِيعُونِ» فيما أمركم به لأن طاعتي مقرونة بطاعة الله و طاعة الله واجبة عليكم لمكان نعمه السابقة التي لا توازيها نعمة منعم «يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ» أي فإنكم إن فعلتم ذلك يغفر لكم ذنوبكم و من مزيدة و قيل إن من هاهنا للتبعيض و المعنى يغفر لكم ذنوبكم السالفة و هي بعض الذنوب التي تضاف إليكم و لما كانت ذنوبهم التي يستأنفونها لا يجوز الوعد بغفرانها على الإطلاق لما يكون في ذلك من الإغراء بالقبيح قيد سبحانه هذا التقييد «وَ يُؤَخِّرْكُمْ إِلى‏ أَجَلٍ مُسَمًّى» و في هذا دلالة على ثبوت أجلين كأنه شرط في الوعد بالأجل المسمى عبادة الله و التقوى فلما لم يقع ذلك منهم اقتطعوا بعذاب الاستيصال قبل الأجل الأقصى بالأجل الأدنى ثم قال «إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ» يعني الأقصى «إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» صحة ذلك و تؤمنون به قال الحسن يعني بأجل الله يوم القيامة جعله أجلا للبعث و يجوز أن يكون هذا حكاية عن قول نوح (ع) لقومه أن يكون إخبارا منه سبحانه عن نفسه «قالَ» نوح «رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَ نَهاراً» إلى عبادتك و خلع الأنداد من دونك و إلى الإقرار بنبوتي «فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً» أي لم يزدادوا بدعائي إياهم إلا فرارا من قبوله و نفارا منه و إدبارا عنه و إنما سمي كفرهم عند دعائه زيادة في الكفر لأنهم كانوا على كفر و ضلال فلما دعاهم نوح (ع) إلى الإقلاع عن ذلك و الإقرار به و لم يقبلوه فكفروا بذلك كان ذلك زيادة في الكفر لأن الزيادة هي إضافة الشي‏ء إلى مقدار قد كان حاصلا و لو حصلا جميعا في وقت واحد لم يكن لأحدهما زيادة على الآخر «وَ إِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ» إلى إخلاص عبادتك «لِتَغْفِرَ لَهُمْ» سيئاتهم «جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ» لئلا يسمعوا كلامي و دعائي «وَ اسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ» أي غطوا بها وجوههم لئلا يروني «وَ أَصَرُّوا» أي داموا على كفرهم «وَ اسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً» أي تكبروا و أنفوا عن قبول الحق و الإصرار الإقامة على الأمر بالعزيمة عليه فلما كانوا عازمين على الكفر كانوا مصرين و قيل إن الرجل منهم كان يذهب بابنه إلى نوح فيقول له احذر هذا لا يغوينك فإن أبي قد ذهب بي إليه و أنا مثلك فحذرني مثل ما حذرتك عن قتادة «ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً» أي بأعلى صوتي عن ابن عباس و قيل مجاهرة

542
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 542

يرى بعضهم بعضا أي ظاهرا غير خفي «ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَ أَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً» أي دعوتهم في العلانية و في السر و قيل معناه إني أعلنت جماعة بالدعوة و أسررت جماعة ثم أعلنت للذين أسررت و أسررت للذين أعلنت لهم و معناه إني سلكت معهم في الدعوة كل مذهب و تلطفت لهم في ذلك غاية التلطف فلم يجيبوا «فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ» أي اطلبوا منه المغفرة على كفركم و معاصيكم «إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً» لكل من طلب منه المغفرة فمتى رجعتم عن كفركم و أطعتموه «يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً» أي كثيرة الدرور بالغيث و قيل إنهم كانوا قد قحطوا و أسنتوا و هلكت أموالهم و أولادهم فلذلك رغبهم في رد ذلك بالاستغفار مع الإيمان و الرجوع إلى الله قال الشعبي قحط المطر على عهد عمر بن الخطاب فصعد المنبر ليستسقي فلم يذكر إلا الاستغفار حتى نزل فلما نزل قيل له ما سمعناك استسقيت قال لقد طلبت الغيث بمجاديح السماء التي بها يستنزل القطر ثم قرأ هذه الآية «وَ يُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَ بَنِينَ» أي يكثر أموالكم و أولادكم الذكور عن عطا «وَ يَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ» أي بساتين في الدنيا «وَ يَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً» تسقون بها جناتكم قال قتادة علم نبي الله نوح أنهم كانوا أهل حرص على الدنيا فقال هلموا إلى طاعة الله فإن فيها درك الدنيا و الآخرة و روى الربيع بن صبيح أن رجلا أتى الحسن فشكا إليه الجدوبة فقال له الحسن استغفر الله و أتاه آخر فشكا إليه الفقر فقال له استغفر الله و أتاه آخر فقال ادع الله أن يرزقني ابنا فقال له استغفر الله فقلنا أتاك رجال يشكون أبوابا و يسألون أنواعا فأمرتهم كلهم بالاستغفار فقال ما قلت ذلك من ذات نفسي إنما اعتبرت فيه قول الله تعالى حكاية عن نبيه نوح إنه قال لقومه «اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً» إلى آخره و
روى علي بن مهزيار عن حماد بن عيسى عن محمد بن يوسف عن أبيه قال سأل رجل أبا جعفر (ع) و أنا عنده فقال له جعلت فداك إني كثير المال و ليس يولد لي ولد فهل من حيلة قال نعم استغفر ربك سنة في آخر الليل مائة مرة فإن ضيعت ذلك بالليل فاقضه بالنهار فإن الله يقول «اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ» إلى آخره‏
ثم قال نوح (ع) لهم على وجه التبكيت «ما لَكُمْ» معاشر الكفار «لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً» أي لا تخافون لله عظمة فالوقار العظمة اسم من التوقير و هو التعظيم و الرجاء الخوف هنا و المعنى لا تعظمون الله حق عظمته فتوحدوه و تطيعوه عن ابن عباس و مجاهد و قيل معناه ما لكم لا ترجون لله‏

543
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 542

عاقبة عن قتادة أي لا تطمعون في عاقبة لعظمة الله تعالى و قيل معناه ما لكم لا تخافون الله عذابا و لا ترجون منه ثوابا في رواية أخرى عن ابن عباس و قيل معناه ما لكم لا ترجون لله عاقبة الإيمان و توحدون الله عن الزجاج و قيل معناه ما لكم لا تعتقدون لله إثباتا عن أبي مسلم «وَ قَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً» أي خلقكم طورا نطفة ثم طورا علقة ثم مضغة ثم عظاما ثم كسا العظام لحما ثم أنشأه خلقا آخر نبت له الشعر و كمل له الصورة عن ابن عباس و مجاهد و قتادة و قيل أطوارا أحوالا حالا بعد حال و قيل معناه صبيانا ثم شبانا ثم شيوخا و قيل خلقكم مختلفين في الصفات أغنياء و فقراء و زمناء و أصحاء و طوالا و قصارا و الآية محتملة للجميع.

544
مجمع البيان في تفسير القرآن10

سورة نوح الآيات 15 الى 28 ص 545

[سورة نوح (71): الآيات 15 الى 28]
أَ لَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً (15) وَ جَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَ جَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً (16) وَ اللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَ يُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً (18) وَ اللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً (19)
لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً (20) قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَ اتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَ وَلَدُهُ إِلاَّ خَساراً (21) وَ مَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (22) وَ قالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَ لا تَذَرُنَّ وَدًّا وَ لا سُواعاً وَ لا يَغُوثَ وَ يَعُوقَ وَ نَسْراً (23) وَ قَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَ لا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالاً (24)
مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً (25) وَ قالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَ لا يَلِدُوا إِلاَّ فاجِراً كَفَّاراً (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ لِوالِدَيَّ وَ لِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ وَ لا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَباراً (28)

القراءة
قرأ أهل المدينة ودا بالضم و الباقون بالفتح و قرأ أبو عمرو مما خطاياهم و الباقون «مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ» بالتاء و المد و الهمزة و قد ذكرنا الاختلاف في ولده في سورة مريم (ع).
الحجة
قال أبو عبيدة زعموا أن ودا كان صنم لهذا الحي من كلب و حكاه بالفتح قال و سمعت قول الشاعر:
         فحياك ود ما هداك لفتية             و خوص بأعلى ذي طوالة هجد
و قال أبو الحسن ضم أهل المدينة الواو و عسى أن يكون لغة في اسم الصنم و سمعت هذا البيت:
         حياك ودا فإنا لا يحل لنا             لهو النساء و أن الدين قد عزما
الواو مضمومة و خطاياهم جمع التكسير و خطيئات جمع التصحيح و ما زائدة كالتي في قوله فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ و قوله فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ*.
اللغة
الفجاج الطرق المتسعة المتفرقة واحدها فج و قيل الفج المسلك بين جبلين و السواع هنا صنم و في غيره الساعة من الليل و مثله السعواء و الكبار الكبير جدا يقال كبير ثم كبار ثم كبار و مثله عجيب و عجاب و عجاب و حسن و حسان و حسان و
روي أن أعرابيا سمع النبي ص يقرأ «وَ مَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً» فقال ما أفصح ربك يا محمد
و هذا من جفاء الأعراب لأن الله تعالى سبحانه لا يوصف بالفصاحة و ديارا فيعال من الدوران و نحوه القيام و الأصل قيوام و ديوار فقلبت الواو ياء و أدغمت إحداهما في الأخرى قال الزجاج يقال ما بالدار ديار أي ما بها أحد يدور في الأرض قال الشاعر:

545
مجمع البيان في تفسير القرآن10

اللغة ص 545

         و ما نبالي إذا ما كنت جارتنا             أن لا يجاورنا إلاك ديار
فجعل المتصل موضع المنفصل ضرورة.
الإعراب‏
طباقا منصوبا على أحد وجهين أن يكون على تقدير خلقهن طباقا و أن يكون نعتا لسبع أي سبع سماوات ذات طباق نباتا مصدر فعل محذوف تقديره أنبتكم فنبتم نباتا و قال الزجاج هو محمول على المعنى لأن معنى أنبتكم جعلكم تنبتون نباتا و ما من قوله «مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ» مزيدة لتأكيد الكلام.
المعنى‏
ثم خاطب سبحانه المكلفين منبها لهم على توحيده فقال «أَ لَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً» أي واحدة فوق الأخرى كالقباب «وَ جَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً» قيل فيه وجوه (أحدها) أن المعنى و جعل القمر نورا في السماوات و الأرض عن ابن عباس قال يضي‏ء ظهره لما يليه من السماوات و يضي‏ء وجهه لأهل الأرض و كذلك الشمس (و ثانيها) أن معنى فيهن معهن يعني و جعل القمر معهن أي مع خلق السماوات نورا لأهل الأرض (و ثالثها) أن معنى فيهن في حيزهن و إن كان في واحدة منها كما تقول أتيت بني تميم و إنما أتيت بعضهم «وَ جَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً» أي مصباحا يضي‏ء لأهل الأرض كما كانت الشمس جعل فيها النور للاستضاءة به كانت سراجا فهي سراج العالم كما أن المصباح سراج الإنسان «وَ اللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً» يعني مبتدأ خلق آدم و آدم خلق من الأرض و الناس ولده و هذا كقوله «وَ بَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَ نِساءً» و قيل معناه أنه أنشأ جميع الخلق باغتذاء ما تنبته الأرض و نما فيها و قيل معناه أنبتكم من الأرض بالكبر بعد الصغر و بالطول بعد القصر «ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها» أي في الأرض أمواتا «وَ يُخْرِجُكُمْ» منها عند البعث أحياء «إِخْراجاً» و إنما ذكر المصدر تأكيدا «وَ اللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً» أي مبسوطة ليمكنكم المشي عليها و الاستقرار فيها ثم بين أنه إنما جعلها كذلك «لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلًا فِجاجاً» أي طرقا واسعة و قيل طرقا مختلفة عن ابن عباس و قيل سبلا في الصحاري و فجاجا في الجبال و إنما عدد سبحانه هذه الضروب من النعم امتنانا على خلقه و تنبيها لهم على استحقاقه للعبادة خالصة من كل شرك و دلالة لهم على أنه عالم بمصالحهم و مدبر لهم على ما تقتضيه الحكمة فيجب أن لا يقابلوا هذه النعم الجليلة بالكفر و الجحود ثم عاد سبحانه إلى ذكر نوح (ع) بقوله «قالَ نُوحٌ» على سبيل الدعاء «رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي» فيما أمرتهم به و نهيتهم عنه يعني قومه «وَ اتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَ وَلَدُهُ إِلَّا خَساراً» أي و اتبعوا أغنياء

546
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 546

قومهم اغترارا بما آتاهم الله من المال و الولد فقالوا لو كان هذا رسولا لله لكان له ثروة و غنى و قرئ «وَلَدُهُ» و ولده بالضم و الفتح فالولد الجماعة من الأولاد و الولد الواحد و قيل هما سواء و الخسار الهلاك بذهاب رأس المال و قيل إن معناه اتبع الفقراء و السفلة الرؤساء الذين لم يزدهم كثرة المال و الأولاد إلا هلاكا في الدنيا و عقوبة في الآخرة «وَ مَكَرُوا» في دين الله «مَكْراً كُبَّاراً» أي كبيرا عظيما عن الحسن و قيل معناه قالوا قولا عظيما عن ابن عباس و قيل اجترءوا على الله و كذبوا رسله عن الضحاك و قيل مكرهم تحريشهم سفلتهم على قتل نوح (ع) «وَ قالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ» أي لا تتركوا عبادة أصنامكم ثم خصوا أصناما لهم معروفة بعد دخولها في الجملة الأولى تعظيما لها فقالوا «لا تَذَرُنَّ وَدًّا وَ لا سُواعاً وَ لا يَغُوثَ وَ يَعُوقَ وَ نَسْراً» و هذه أسماء أصنام كانوا يعبدونها ثم عبدتها العرب فيما بعد عن ابن عباس و قتادة و قيل إن هذه أسماء قوم صالحين كانوا بين آدم و نوح (ع) فنشأ قوم بعدهم يأخذون أخذهم في العبادة فقال لهم إبليس لو صورتم صورهم كان أنشط لكم و أشوق إلى العبادة ففعلوا فنشأ بعدهم قوم فقال لهم إبليس إن الذين كانوا قبلكم كانوا يعبدونهم فعبدوهم فمبدأ عبادة الأوثان كان ذلك الوقت عن محمد بن كعب و قيل كان نوح يحرس جسد آدم على جبل بالهند و يحول بينه و بين الكفار لئلا يطوفوا بقبره فقال لهم إبليس إن هؤلاء يفخرون عليكم و يزعمون أنهم بنو آدم دونكم و إنما هو جسد و أنا أصور لكم مثله تطيفون به فنحت خمسة أصنام و حملهم على عبادتها و هي ود و سواع و يعوق و يغوث و نسر فلما كان أيام الغرق دفن الطوفان تلك الأصنام و طمها التراب فلم تزل مدفونة حتى أخرجها الشيطان لمشركي العرب فاتخذت قضاعة ودا فعبدوها بدومة الجندل ثم توارثها بنوه الأكابر فالأكابر حتى صارت إلى كلب فجاء الإسلام و هو عندهم و أخذ بطنان من طي يغوث فذهبوا به إلى مراد فعبدوه زمانا ثم أن بني ناجية أرادوا أن ينزعوه منهم ففروا به إلى بني الحرث بن كعب و أما يعوق فكان لكهلان ثم توارثه بنوه الأكبر فالأكبر حتى صار إلى همدان و أما نسر فكان لخثعم يعبدونه و أما سواع فكان لآل ذي الكلاع يعبدونه عن ابن عباس و قيل إن أوثان قوم نوح صارت إلى العرب فكانت ود بدومة الجندل و سواع برهاط لهذيل و كان يغوث لبني غطيف من مراد و كان يعوق لهمدان و كان نسر لآل ذي الكلاع من حمير و كان اللات لثقيف و أما العزى فلسليم و غطفان و جشم و نضر و سعد بن بكر و أما مناة فكانت لفديد و أما إساف و نائلة و هبل فلأهل مكة و كان إساف حيال الحجر الأسود و كانت نائلة حيال الركن اليماني و كان هبل في جوف الكعبة
                       

547
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 546

ثمانية عشر ذراعا عن عطا و قتادة و الثمالي و قال الواقدي كان ود على صورة رجل و سواع على صورة امرأة و يغوث على صورة أسد و يعوق على صورة فرس و نسر على صورة نسر من الطير «وَ قَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً» أي ضل بعبادتها و بسببها كثير من الناس نظيره رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ و قيل معناه و قد أضل كبراؤهم كثيرا من الناس عن مقاتل و أبي مسلم و على هذا فإن الضمير في أضلوا يعود إلى أكابر قوم نوح «وَ لا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالًا» أي هلاكا كما في قوله «إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَ سُعُرٍ» و قيل إلا فتنة بالمال و الولد و قيل إلا ذهابا عن الجنة و الثواب قال البلخي لا تزدهم إلا منعا من الطاعات عقوبة لهم على كفرهم فإنهم إذا ضلوا استحقوا منع الألطاف التي تفعل بالمؤمنين فيطيعون عندها و يمتثلون و لا يجوز أن يفعل بهم الضلال عن الحق و الإيمان لأن ذلك لا يجوز في صفة الحكيم تعالى الله عن ذلك «مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا» أي من خطيئاتهم و ما مزيدة و التقدير من أجل ما ارتكبوه من الخطايا و الكبائر «أُغْرِقُوا» على وجه العقوبة «فَأُدْخِلُوا ناراً» بعد ذلك ليعاقبوا فيها «فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً» أي لم يجدوا أحدا يمنعهم من عذاب الله و إنما أتى سبحانه بألفاظ المضي على معنى الاستقبال لصدق الوعد به و قال الضحاك أغرقوا فادخلوا نارا في الدنيا في حالة واحدة كانوا يغرقون من جانب و يحترقون في النار من جانب و أنشد ابن الأنباري:
         الخلق مجتمع طورا و مفترق             و الحادثات فنون ذات أطوار
         لا تعجبن لأضداد إذا اجتمعت             فالله يجمع بين الماء و النار
 «وَ قالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً» أي نازل دار يعني لا تدع منهم أحدا إلا أهلكته قال قتادة ما دعا بهذا عليهم إلا بعد أن أنزل عليه أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلذلك قال «إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ» أي إن تتركهم و لم تهلكهم يضلوا عبادك عن الدين بالإغواء و الدعاء إلى خلافه «وَ لا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً» و إلا فلم يعلم نوح الغيب و إنما قال ذلك بعد أن أعلمه الله إياه و المعنى و لا يلدوا إلا من يكون عند بلوغه كافرا لأنه لا يذم على الكفر من لم يقع منه فعل الكفر و قال مقاتل و الربيع و عطاء إنما قال ذلك نوح (ع) لأن الله تعالى أخرج من أصلابهم كل من يكون مؤمنا و أعقم أرحام نسائهم و أيبس أصلاب رجالهم قبل العذاب بأربعين سنة و أخبر الله تعالى نوحا بأنهم لا يؤمنون و لا يلدون مؤمنا فحينئذ دعا عليهم فأجاب الله دعاءه فأهلكهم كلهم و لم يكن فيهم صبي وقت العذاب ثم دعا لنفسه و للمؤمنين و المؤمنات فقال «رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ لِوالِدَيَّ»

548
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 546

و اسم أبيه لمك بن متوشلخ و اسم أمه سمحاء بنت أنوش و كانا مؤمنين و قيل يريد آدم و حواء «وَ لِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً» أي دخل داري و قيل مسجدي عن الضحاك و قيل سفينتي و قيل يريد بيت محمد ص «وَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ» عامة و قيل من أمة محمد ص عن الكلبي «وَ لا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً» أي هلاكا و دمارا قال أهل التحقيق دعا نوح (ع) دعوتين دعوة على الكافرين و دعوة للمؤمنين فاستجاب الله دعوته على الكافرين فأهلك من كان منهم على وجه الأرض و نرجو أن يستجيب أيضا دعوته للمؤمنين فيغفر لهم.

549
مجمع البيان في تفسير القرآن10

سورة الجن مكية و آياتها ثمان و عشرون ص 550

(72) سورة الجن مكية و آياتها ثمان و عشرون (28)
[توضيح‏]
و هي ثمان و عشرون آية
فضلها
أبي بن كعب عن النبي ص قال و من قرأ سورة الجن أعطي بعدد كل جني و شيطان صدق بمحمد و كذب به عتق رقبة.
حنان بن سدير عن أبي عبد الله (ع) قال من أكثر قراءة قل أوحي لم يصبه في حياة الدنيا شي‏ء من أعين الجن و لا من نفثهم و لا من سحرهم و لا من كيدهم و كان مع محمد ص فيقول يا رب لا أريد بهم بدلا و لا أريد بدرجتي حولا.
تفسيرها
لما تقدم في سورة نوح (ع) أتباع قومه أكابرهم افتتح سبحانه في هذه السورة اتباع الجن نبينا ص ليعلم الفرق بين من ربحت صفقته و بين من خسرت بيعته فقال:

550
مجمع البيان في تفسير القرآن10

سورة الجن الآيات 1 الى 10 ص 551

[سورة الجن (72): الآيات 1 الى 10]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏
قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَ لَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (2) وَ أَنَّهُ تَعالى‏ جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَ لا وَلَداً (3) وَ أَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً (4)
وَ أَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً (5) وَ أَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً (6) وَ أَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً (7) وَ أَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَ شُهُباً (8) وَ أَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً (9)
وَ أَنَّا لا نَدْرِي أَ شَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (10)

القراءة
قرأ أبو جعفر «قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ» بفتح الألف و لم يختلفوا فيه ثم قرأ في الآية الثالثة و «أَنَّهُ تَعالى‏» بالفتح و في الرابعة «وَ أَنَّهُ كانَ يَقُولُ» بالفتح و في السادسة «وَ أَنَّهُ كانَ رِجالٌ» بالفتح و يقرأ ما سواها بالكسر إلا قوله «وَ أَنْ لَوِ اسْتَقامُوا» «وَ أَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ» «وَ أَنَّهُ لَمَّا قامَ» فإنه يقرأ هذه الثلاثة بالفتح و قال الرواة عنه ما كان مردودا على الوحي فهو أنه بالفتح و ما كان من قول الجن فهو بالكسر و هذا قول غير مستقيم على قراءته و يمكن أن يكون قد وقع خلل في روايته و قرأ ابن عامر و أهل الكوفة غير أبي بكر بالفتح من قوله أنه تعالى إلى قوله و أنا منا المسلمون و قرأ الباقون كله بالكسر إلا قوله «وَ أَنْ لَوِ اسْتَقامُوا» «وَ أَنَّ الْمَساجِدَ» فإنهما بالفتح لم يختلفوا فيه و قرأ نافع و عاصم برواية أبي بكر و إنه لما قام بالكسر و الباقون بالفتح و قرأ يعقوب أن لن تقول بتشديد الواو و فتحها و فتح القاف و روي ذلك عن الجحدري و الحسن و الباقون «أَنْ لَنْ تَقُولَ» بالتخفيف و في الشواذ قراءة جوية بن عابد قل أحي إلي على وزن فعل.
الحجة
قال أبو علي أما قوله «أَنْ لَوِ اسْتَقامُوا» فإنه يجوز فيه أمران (أحدهما) أن تكون أن المخففة من الثقيلة فيكون محمولا على الوحي كأنه أوحي إلي أن لو استقاموا و فصل لو بينها و بين الفعل كفصل السين و لا في قوله «أَ فَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ» و عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ (و الآخر) أن يكون أن قبل لو بمنزلة اللام في قوله «لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ» إلى قوله «لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ» و قوله «لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَ يَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ» فتلحق مرة و تسقط أخرى لأن لو بمنزلة فعل الشرط فكما لحقت اللام زائدة قبل أن الداخلة على الشرط كذلك لحقت أن هذه قبل لو و معنى أَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ قد قيل فيه قولان (أحدهما) لو استقاموا على طريقة الهدى (و الآخر) لو استقاموا على الطريقة الكفر

551
مجمع البيان في تفسير القرآن10

الحجة ص 551

و يستدل على القول الأول بقوله تعالى «وَ لَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ» و قوله «وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى‏ آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ» و يستدل على الآخر بقوله تعالى «وَ لَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ»" و أما" قوله «وَ أَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ» فزعم سيبويه أن المفسرين حملوه على أوحي كأنه و أوحي إلي أن المساجد لله و مذهب الخليل أنه على قوله و لأن المساجد لله فلا تدعوا كما أن قوله «إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ»* على قوله و لأن هذه أمتكم أمة واحدة و أنا ربكم فاعبدون أي لهذا فاعبدون و مثله في قول الخليل لِإِيلافِ قُرَيْشٍ كأنه قال لهذا فليعبدوا قال سيبويه و لو قرأ و إن المساجد بالكسر لكان جيدا فأما قوله «وَ أَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ» فإنه على «أُوحِيَ إِلَيَّ» و يكون أن يقطع من قوله «أُوحِيَ» و يستأنف به كما جوز سيبويه القطع من أوحي في قوله و إن المساجد لله و على هذا يحمل قراءة من كسر إن من قوله «وَ أَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ» و من قرأ كل ذلك بالفتح فإنه للحمل على أوحي و يجوز أن يكون على غيره كما حمل المفسرون وَ أَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ على الوحي و حمله الخليل على ما ذكرناه عنه فأما ما جاء من ذلك بعد قول فحكاية كما حكى قوله «قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ» و كذلك ما بعد فاء الجزاء لأن ما بعد فاء الجزاء موضع ابتداء و لذلك حمل سيبويه وَ مَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَ مَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ على أن الابتداء فيها مضمر و مثل ذلك في هذه السورة وَ مَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ و من قرأ لن تقول فيكون قوله «كَذِباً» منصوبا على المصدر من غير حذف موصوف و ذلك أن لن تقول في معنى تكذب فجرى مجرى تبسمت و ميض البرق فإنه منصوب بفعل مضمر دل عليه تبسمت أي أو مضت فكأنه قال إن لن تكذب الإنس و الجن على الله كذبا قال ابن جني و من رأى أن ينتصب وميض البرق بنفس تبسمت لأنه في معنى أومضت أيضا كذبا بنفس تقول لأنه بمعنى كذب و من قرأ «أَنْ لَنْ تَقُولَ» على وزن تقوم فإن كذبا وصف مصدر محذوف أي قولا كذبا فكذبا هاهنا وصف لا مصدر كما في قوله «وَ جاؤُ عَلى‏ قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ» أي كاذب فإن جعلته هاهنا مصدرا نصبته نصب المفعول به أي لن تقول كذبا كقولك قلت حقا و قلت شعرا و لا يحسن أن تجعله مع تقول وصفا أي تقول تقولا كذبا لأن التقول لا يكون إلا كذبا فلا فائدة فيه و من قرأ أحي فهو من وحيت إليه بمعنى أوحيت و أصله وحي فلما انضمت الواو ضما لازما همزت و نحوه وَ إِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ أي وقتت قال العجاج‏
         " وحي لها القرار

 

552
مجمع البيان في تفسير القرآن10

الحجة ص 551

         فاستقرت"
اللغة
الجد أصله القطع و منه الجد العظمة لانقطاع كل عظمة عنها لعلوها عليه و منه الجد أبو الأب لانقطاعه بعلو أبوته و كل من فوقه لهذا الولد أجداد و الجد الحظ لانقطاعه بعلو شأنه و الجد خلاف الهزل لانقطاعه عن السخف و منه الجديد لأنه حديث عهد بالقطع في غالب الأمر و الرهق لحاق الإثم و أصله اللحوق و منه راهق الغلام إذا لحق حال الرجال قال الأعشى:
         لا شي‏ء ينفعني من دون رؤيتها             هل يشتفي وامق ما لم يصب رهقا
أي لم يغش إثما.
الإعراب‏
حرسا منصوب على التمييز و هو جمع حارس و يجوز أن يكون جمع حرسي فيكون مثل عربي و عرب و شديدا مذكر محمول على اللفظ و يمكن أن يكون على النسبة أي ذات شدة و مقاعد نصب لأنه ظرف مكان. «أَ شَرٌّ أُرِيدَ» مبتدأ و خبر و إنما جاز أن تكون النكرة مبتدأ من غير تخصيص لأجل همزة الاستفهام كما يجوز ذلك بعد حرف النفي لأن كليهما يفيد معنى العموم.
المعنى‏
أمر سبحانه نبيه محمدا ص أن يخبر قومه بما لم يكن لهم به علم فقال «قُلْ» يا محمد «أُوحِيَ إِلَيَّ» إنما ذكره على لفظ ما لم يسم فاعله تفخيما و تعظيما و الله سبحانه أوحى إليه و أنزل الملك عليه «أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ» أي استمع القرآن طائفة من الجن و هم جيل رقاق الأجسام خفيفة على صورة مخصوصة بخلاف صورة الإنسان و الملائكة فإن الملك مخلوق من النور و الإنس من الطين و الجن من النار «فَقالُوا» أي قالت الجن بعضها لبعض «إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً» و العجب ما يدعو إلى التعجب منه لخفاء سببه و خروجه عن العادة في مثله فلما كان القرآن قد خرج بتأليفه المخصوص عن العادة في الكلام و خفي سببه عن الأنام كان عجبا لا محالة و أيضا فإنه مباين لكلام الخلق في‏

553
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 553

المعنى و الفصاحة و النظام لا يقدر أحد على الإتيان بمثله و قد تضمن أخبار الأولين و الآخرين و ما كان و ما يكون أجراه الله على يد رجل أمي من قوم أميين فاستعظموه و سموه عجبا «يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ» أي يدل على الهدى و يدعو إليه و الرشد ضد الضلال «فَآمَنَّا بِهِ» أي صدقنا بأنه من عند الله «وَ لَنْ نُشْرِكَ» فيما بعد «بِرَبِّنا أَحَداً» فنوجه العبادة إليه بل نخلص العبادة لله تعالى و المعنى أنا قد بدأنا بأنفسنا فقبلنا الرشد و الحق و تركنا الشرك و اعتقدنا التوحيد و في هذا دلالة على أنه ص كان مبعوثا إلى الجن و الإنس و على أن الجن عقلاء مخاطبون و بلغات العرب عارفون و على أنهم يميزون بين المعجز و غير المعجز و أنهم دعوا قومهم إلى الإسلام و أخبروهم بإعجاز القرآن و أنه كلام الله تعالى لأن كلام العباد لا يتعجب منه و
روى الواحدي بإسناده عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال ما قرأ رسول الله ص على الجن و ما رآهم انطلق رسول الله ص في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ و قد حيل بين الشياطين و بين خبر السماء فرجعت الشياطين إلى قومهم فقالوا ما لكم قالوا حيل بيننا و بين خبر السماء و أرسلت علينا الشهب قالوا ما ذاك إلا من شي‏ء حدث فاضربوا مشارق الأرض و مغاربها فمر النفر الذين أخذوا نحو تهامة بالنبي ص و هو بنخل عامدين إلى سوق عكاظ و هو يصلي بأصحابه صلاة الفجر فلما سمعوا القرآن استمعوا له و قالوا هذا الذي حال بيننا و بين خبر السماء فرجعوا إلى قومهم و قالوا «إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَ لَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً» فأوحى الله تعالى إلى نبيه ص «قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ» و رواه البخاري و مسلم أيضا في الصحيح‏
و
عن علقمة بن قيس قال قلت لعبد الله بن مسعود من كان منكم مع النبي ص ليلة الجن فقال ما كان منا معه أحد فقدناه ذات ليلة و نحن بمكة فقلنا اغتيل رسول الله ص أو استطير فانطلقنا نطلبه من الشعاب فلقيناه مقبلا من نحو حراء فقلنا يا رسول الله أين كنت لقد أشفقنا عليك و قلنا له بتنا الليلة بشر ليلة بات بها قوم حين فقدناك فقال لنا أنه أتاني داعي الجن فذهبت أقرئهم القرآن فذهب بنا فأرانا آثارهم و آثار نيرانهم فأما أن يكون صحبه منا أحد فلم يصحبه‏
و عن أبي روق قال هم تسعة نفر من الجن قال أبو حمزة الثمالي و بلغنا أنهم من بني الشيصبان هم أكثر الجن عددا و هم عامة جنود إبليس و قيل كانوا سبعة نفر من جن نصيبين رآهم النبي ص فآمنوا به و أرسلهم إلى سائر الجن «وَ أَنَّهُ تَعالى‏ جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَ لا وَلَداً» الاختيار كسر إن لأنه من قول الجن لقومهم و هو معطوف على قوله «فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً» أي و قالوا تعالى جد ربنا و قال الفراء من فتح فتقديره فآمنا به و آمنا بأنه تعالى جد ربنا و كذلك كل ما كان بعده ففتح أن بوقوع الإيمان عليه و المعنى تعالى جلال ربنا و عظمته عن اتخاذ الصحابة و الولد عن الحسن‏

554
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 553

و مجاهد و قيل معناه تعالت صفات الله التي هي له خصوصا و هي الصفات العالية التي ليست للمخلوقين عن أبي مسلم و قيل معناه جل ربنا في صفاته فلا تجوز عليه صفات الأجسام و الأعراض عن الجبائي و قيل تعالى قدرة ربنا عن ابن عباس و قيل تعالى ذكره عن مجاهد و قيل فعله و أمره عن الضحاك و قيل علا ملك ربنا عن الأخفش و قيل تعالى آلاؤه و نعمه على الخلق عن القرظي و الجميع يرجع إلى معنى واحد و هو العظمة و الجلال على ما تقدم ذكرهما و منه قول أنس بن مالك كان الرجل إذا قرأ سورة البقرة جد في أعيننا أي عظم و
قال الربيع بن أنس أنه قال ليس لله تعالى جد و إنما قالته الجن بجهالة فحكاه سبحانه كما قالت و روي ذلك عن أبي جعفر الباقر (ع) و أبي عبد الله (ع)
 «وَ أَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا» أي جاهلنا «عَلَى اللَّهِ شَطَطاً» أرادوا بسفيههم إبليس عن مجاهد و قتادة و الشطط السرف في ظلم النفس و الخروج عن الحق فاعترفوا بأن إبليس كان يخرج عن الحد في إغواء الخلق و دعائهم إلى الضلال و قيل شططا أي قولا بعيدا من الحق و هو الكذب في التوحيد و العدل «وَ أَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً» اعترفوا بأنهم ظنوا أن لن يقول أحد من الإنس و الجن كذبا على الله في اتخاذ الشريك معه و الصاحبة و الولد أي حسبنا أن ما يقولونه من ذلك صدق و أنا على حق حتى سمعنا القرآن و تبينا الحق به و في هذا دلالة على أنهم كانوا مقلدة حتى سمعوا الحجة و انكشف لهم الحق فرجعوا عما كانوا عليه و في إشارة إلى بطلان التقليد و وجوب اتباع الدليل «وَ أَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ» أي يعتصمون و يستجيرون و كان الرجل من العرب إذا نزل الوادي في سفره ليلا قال أعوذ بعزيز هذا الوادي من شر سفهاء قومه عن الحسن و مجاهد و قتادة و كان هذا منهم على حسب اعتقادهم أن الجن تحفظهم قال مقاتل و أول من تعوذ بالجن قوم من اليمن ثم بنو حنيفة ثم فشا في العرب و قيل معناه و أنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من أجل الجن و من معرة الجن عن البلخي قال لأن الرجال لا تكون إلا في الناس و قال الأولون في الجن رجال مثل ما في الناس «فَزادُوهُمْ رَهَقاً» أي فزاد الجن الإنس إثما على إثمهم الذي كانوا عليه من الكفر و المعاصي عن ابن عباس و قتادة و قيل رهقا أي طغيانا عن مجاهد و قيل فرقا و خوفا عن الربيع و ابن زيد و قيل شرا عن الحسن و قيل زادوهم ذلة و ضعفا قال الزجاج يجوز أن يكون الإنس الذين كانوا يستعيذون بالجن زادوا الجن رهقا و ذلك أن الجن كانوا يزدادون طغيانا في قومهم بهذا التعوذ فيقولون سدنا الإنس و الجن و يجوز أن يكون الجن زاد الإنس رهقا «وَ أَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً» قيل معناه قال مؤمنوا الجن لكفارهم‏

555
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 553

إن كفار الإنس الذين يعوذون برجال من الجن في الجاهلية حسبوا كما حسبتم يا معشر الجن أن لن يبعث الله رسولا بعد موسى أو عيسى و وراء هذا أن الجن مع تمردهم و عتوهم لما سمعوا القرآن آمنوا و اهتدوا به فأنتم معاشر العرب أولى بالتفكر و التدبر لتؤمنوا و تهتدوا مع أن الرسول من جنسكم و لسانه لسانكم و قيل إن هذه الآية مع ما قبلها اعتراض من إخبار الله تعالى يقول إن الجن ظنوا كما ظننتم معاشر الإنس أن الله لا يحشر أحدا يوم القيامة و لا يحاسبه عن الحسن و قيل يعني لن يبعث الله أحدا رسولا عن قتادة ثم حكى عن الجن قولهم «وَ أَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ» أي مسسناها و قيل معناه طلبنا الصعود إلى السماء فعبر عن ذلك باللمس مجازا عن الجبائي و قيل التمسنا قرب السماء لاستراق السمع عن أبي مسلم «فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً» أي حفظة من الملائكة شدادا «وَ شُهُباً» و التقدير ملئت السماء من الحرس و الشهب و هو جمع شهاب و هو نور يمتد من السماء كالنار «وَ أَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ» أي لاستراق السمع أي كان يتهيأ لنا فيما قبل القعود في مواضع الاستماع فنسمع منها صوت الملائكة و كلامهم «فَمَنْ يَسْتَمِعِ» منا «الْآنَ» ذلك «يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً» يرمى به و يرصد له و شهبا مفعول به و رصدا صفته قال معمر قلت للزهري أ كان يرمى بالنجوم في الجاهلية قال نعم قلت أ فرأيت قوله «أَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها» الآية قال غلظ و شدد أمرها حين بعث النبي ص قال البلخي إن الشهب كانت لا محالة فيما مضى من الزمان غير أنه لم يكن يمنع بها الجن عن صعود السماء فلما بعث النبي ص منع بها الجن من الصعود «وَ أَنَّا لا نَدْرِي أَ شَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ» أي بحدوث الرجم بالشهب و حراسة السماء جوزوا هجوم انقطاع التكليف أو تغيير الأمر بتصديق نبي من الأنبياء و ذلك قوله «أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً» أي صلاحا و قيل معناه إن هذا المنع لا يدري العذاب سينزل بأهل الأرض أم لنبي يبعث و يهدي إلى الرشد فإن مثل هذا لا يكون إلا لأحد هذين الأمرين و سمي العذاب شرا لأنه مضرة و سمي بعثة الرسول رشدا لأنه منفعة.

556
مجمع البيان في تفسير القرآن10

سورة الجن الآيات 11 الى 20 ص 557

[سورة الجن (72): الآيات 11 الى 20]
وَ أَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَ مِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً (11) وَ أَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَ لَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً (12) وَ أَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى‏ آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَ لا رَهَقاً (13) وَ أَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَ مِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (14) وَ أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (15)
وَ أَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَ مَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً (17) وَ أَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً (18) وَ أَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (19) قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَ لا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (20)

القراءة
قرأ أهل العراق غير أبي عمرو يسلكه بالياء و الباقون بالنون و قرأ ابن عامر برواية هشام لبدا بضم اللام و الباقون بكسرها و قرأ أبو جعفر و عاصم و حمزة «قُلْ إِنَّما أَدْعُوا» و الباقون قال و في الشواذ قراءة الأعمش و يحيى بن وثاب لو استقاموا بضم الواو و قراءة الحسن و الجحدري لبدا بالتشديد و في رواية أخرى عن الجحدري لبدا بضمتين.
الحجة
من قرأ «يَسْلُكْهُ» بالياء فلتقدم ذكر الغيبة في قوله «وَ مَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ» و من قرأ بالنون فهو مثل قوله وَ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ بعد قوله سبحانه الَّذِي أَسْرى‏ و من قرأ قال إنما أدعوا فلتقدم ذكر الغيبة أيضا في قوله «وَ أَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ» و من قرأ «قُلْ» فلأن بعده قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ* قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ و من قرأ لبدا فإن اللبد الكثير من قوله مالًا لُبَداً و كأنه قيل له لبد لركوب بعضه على بعض و لصوق بعضه ببعض لكثرته و اللبد جمع لبدة و هي الجماعة و قد يقال ذلك للجراد الكثير قال بعض الهذليين:
         صابوا بستة أبيات و واحدة             حتى كان عليهم جابيا لبدا
قال الجبائي هو الجراد لأنه يجبي كل شي‏ء بأكله و قال الزجاج اللبدة و اللبدة بمعنى‏

557
مجمع البيان في تفسير القرآن10

الحجة ص 557

و من قرأ لبدا بالتشديد فإنه وصف على فعل كالجبا و الزمل و يجوز أن يكون جمع لأبد فيكون مثل راكع و ركع و اللبد من الأوصاف التي جاءت على فعل كناقة سرح و رجل طلق و من قرأ لو استقاموا فإنه على التشبيه بواو الجماعة نحو قوله اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ* كما شبهت تلك بهذه فقيل اشتروا الضلالة و قد مضى هذا في سورة البقرة.
اللغة
الصالح عامل الصلاح الذي يصلح به حاله في دينه و أما المصلح فهو فاعل الصلاح الذي يقوم به أمر من الأمور و لهذا يوصف سبحانه بأنه مصلح و لا يوصف بأنه صالح و الطرائق جمع طريقة و هي الجهة المستمرة مرتبة بعد مرتبة و القدد القطع جمع قدة و هي المستمرة بالقد في جهة واحدة و الرهق لحاق السرف في الأمر و هو الظلم و القاسط الجائر و المقسط العادل و نظيره الترب الفقير و المترب الغني و أصله التراب فالأول ذهب ماله حتى لصق بالتراب و الآخر كثر ماله حتى صار بعدد التراب و كذلك القاسط هو العادل عن الحق و المقسط العادل إلى الحق قال:
         قوم هم قتلوا ابن هند عنوة             عمرا و هم قسطوا على النعمان‏
و قال آخر:
         قسطنا على الأملاك في عهد تبع             و من قبل ما أردى النفوس عقابها
و التحري تعمد إصابة الحق و أصله طلب الشي‏ء و القصد له قال امرؤ القيس:
         ديمة هطلاء فيها وطف             طبق الأرض تحري و تدر
و ماء غدق كثير و غدق المكان يغدق غدقا كثر فيه الماء و الندى و هو غدق عن الزجاج و قال أمية بن أبي الصلت:
         مزاجها سلسبيل ماؤها غدق             عذب المذاقة لا ملح و لا كدر

558
مجمع البيان في تفسير القرآن10

اللغة ص 558

و الصعد الغليظ الصعب المتصعب في العظم و منه التنفس الصعداء و الصعود العقبة الكؤود الشاقة.
المعنى‏
ثم قال سبحانه في تمام الحكاية عن الجن الذين آمنوا عند سماع القرآن «وَ أَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ» و هم الذين عملوا الصالحات المخلصون «وَ مِنَّا دُونَ ذلِكَ» أي دون الصالحين في الرتبة عن ابن عباس و قتادة و مجاهد «كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً» أي فرقا شتى على مذاهب مختلفة و أهواء متفرقة من مسلم و كافر و صالح و دون الصالح عن ابن عباس و مجاهد و قيل قددا ألوانا شتى مختلفين عن سعيد بن جبير و الحسن و قيل فرقا متباينة كل فرقة تباين صاحبتها كما يبين المقدود بعضه من بعض قال السدي الجن أمثالكم فيهم قدرية و مرجئة و رافضة و شيعة «وَ أَنَّا ظَنَنَّا» أي علمنا و تيقنا «أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ» أي لن نفوته إذا أراد بنا أمرا «وَ لَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً» أي أنه يدركنا حيث كنا «وَ أَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى‏ آمَنَّا بِهِ» اعترفوا بأنهم لما سمعوا القرآن الذي فيه الهدى صدقوا به ثم قالوا «فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ» أي يصدق بتوحيد ربه و عرفه على صفاته «فَلا يَخافُ» تقديره فإنه لا يخاف «بَخْساً» أي نقصانا فيما يستحقه من الثواب «وَ لا رَهَقاً» أي لحاق ظلم و غشيان مكروه و كأنه قال لا يخاف نقصا قليلا و لا كثيرا و ذلك أن أجره و ثوابه موفر على أتم ما يمكن فيه و قيل معناه فلا يخاف نقصا من حسناته و لا زيادة في سيئاته عن ابن عباس و الحسن و قتادة و ابن زيد قالوا لأن البخس النقصان و الرهق العدوان و هذه حكاية عن قوة إيمان الجن و صحة إسلامهم ثم قالوا «وَ أَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ» الذين استسلموا لما أمرهم الله سبحانه به و انقادوا لذلك «وَ مِنَّا الْقاسِطُونَ» أي الجائرون عن طريق الحق «فَمَنْ أَسْلَمَ» لما أمره الله به «فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً» أي توجهوا الرشد و التمسوا الثواب و الهدى و تعمدوا إصابة الحق و ليسوا كالمشركين الذين ألفوا ما يدعوهم إليه الهوى و زاغوا عن طريق الهدى «وَ أَمَّا الْقاسِطُونَ» العادلون عن طريق الحق و الدين «فَكانُوا» في علم الله و حكمه «لِجَهَنَّمَ حَطَباً» يلقون فيها فتحرقهم كما تحرق النار الحطب أو يكون معناه فسيكونون لجهنم حطبا توقد بهم كما توقد النار بالحطب «وَ أَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً» هذا ابتداء حكم من الله سبحانه أي لو استقام الإنس و الجن على طريقة الإيمان عن ابن عباس و السدي و قيل أراده مشركي مكة أي لو آمنوا و استقاموا على الهدى لأسقيناهم ماء كثيرا من السماء و ذلك بعد ما رفع ماء المطر عنهم سبع سنين عن مقاتل و قيل لو آمنوا و استقاموا لوسعنا عليهم في الدنيا و ضرب الماء الغدق مثلا لأن الخير كله و الرزق يكون في المطر و هذا كقوله «وَ لَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ» إلى قوله «لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ» و قوله «لَفَتَحْنا عَلَيْهِم‏

559
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 559

بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ» و قيل معناه لو استقاموا على طريقة الكفر فكانوا كفارا كلهم لأعطيناهم مالا كثيرا و لوسعنا عليهم تغليظا للمحنة في التكليف و لذلك قال «لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ» أي لنختبرهم بذلك عن الفراء و هو قول الربيع و الكلبي و الثمالي و أبي مسلم و ابن مجلز و دليله فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ الآية و قيل لنفتنهم معناه لنعاملهم معاملة المختبر في شدة التعبد بتكليف الانصراف عما تدعو شهواتهم إليه و في ذلك المحنة الشديدة و هي الفتنة و المثوبة على قدر المشقة في الصبر عما تدعو إليه الشهوات و روي عن عمر بن الخطاب أنه قال في هذه الآية أينما كان الماء كان المال و أينما كان المال كانت الفتنة و قيل معناه لتختبرهم كيف يكون شكرهم للنعم عن سعيد بن المسيب و قتادة و مقاتل و الحسن و الأولى أن تكون الاستقامة على الطريقة محمولة على الاستقامة في الدين و الإيمان لأنها لا تطلق إلا على ذلك و لأنها في موضع التلطف و الاستدعاء إلى الإيمان و الحث على الطاعة و
في تفسير أهل البيت (ع) عن أبي بصير قال قلت لأبي جعفر (ع) قول الله «إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا»* قال هو و الله ما أنتم عليه و لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا
و
عن بريد العجلي عن أبي عبد الله (ع) قال معناه لأفدناهم علما كثيرا يتعلمونه من الأئمة
ثم قال سبحانه على وجه التهديد و الوعيد «وَ مَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ» أي و من يعدل عن الفكر فيما يؤديه إلى معرفة الله و توحيده و الإخلاص في عبادته و قيل عن شكر الله و طاعته «يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً» أي يدخله عذابا شاقا شديدا متصعدا في العظم و إنما قال يسلكه لأنه تقدم ذكر الطريقة و قيل معناه عذابا ذا صعد أي ذا مشقة «وَ أَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً» تقديره و لأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا سوى الله عن الخليل و المعنى لا تذكروا مع الله في المواضع التي بنيت للعبادة و الصلاة أحدا على وجه الإشراك في عبادته كما تفعل النصارى في بيعهم و المشركون في الكعبة قال الحسن من السنة عند دخول المساجد أن يقال لا إله إلا الله لا أدعو مع الله أحدا و قيل المساجد مواضع السجود من الإنسان و هي الجبهة و الكفان و أصابع الرجلين و عينا الركبتين و هي لله تعالى إذ خلقها و أنعم بها فلا ينبغي أن يسجد بها لأحد سوى الله تعالى عن سعيد بن جبير و الزجاج و الفراء و
روي أن المعتصم سأل أبا جعفر محمد بن علي بن موسى الرضا (ع) عن قوله تعالى «وَ أَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ» فقال هي الأعضاء السبعة التي يسجد عليها
و قيل إن المراد بالمساجد البقاع كلها و ذلك لأن الأرض كلها جعلت للنبي ص مسجدا عن الحسن و قال سعيد بن جبير قالت الجن للنبي ص كيف لنا أن نأتي المسجد و نشهد معك الصلاة و نحن ناءون عنك فنزلت الآية و روي عن الحسن أيضا أن المساجد الصلوات و هي لله و المراد أخلصوا لله العبادة

560
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 559

و أقروا له بالتوحيد و لا تجعلوا فيها لغير الله نصيبا «وَ أَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ» يريد به محمدا ص «يَدْعُوهُ» بقول لا إله إلا الله و يدعو إليه و يقرأ القرآن «كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً» أي كاد الجن يركب بعضهم بعضا يزدحمون عليه حرصا منهم على استماع القرآن عن ابن عباس و الضحاك و قيل هو من قول الجن لأصحابهم حين رجعوا إليهم و المراد أن أصحاب النبي ص يتزاحمون عليه لاستماع القرآن منه يود كل واحد منهم أن يكون أقرب من صاحبه فيتلبد بعضهم على بعض عن سعيد بن جبير و قيل هو من جملة ما أوحى الله إلى النبي ص بما كان من حرص الجن على استماع القرآن و قيل معناه أنه لما دعا قريشا إلى التوحيد كادوا يتراكبون عليه بالزحمة جماعات متكاثرات ليزيلوه بذلك عن الدعوة و أبى الله إلا أن ينصره و يظهره على ما ناواه عن قتادة و الحسن و على هذا فيكون ابتداء كلام «قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَ لا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً» و ذلك أنهم قالوا للنبي ص إنك جئت بأمر عظيم لم يسمع مثله فارجع عنه فأجابهم بهذا عن مقاتل و أمره سبحانه بأن يجيبهم بهذا فقال «قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي» و هذا يعضد قول الحسن و قتادة لأنه كالذم لهم على ذلك.

561
مجمع البيان في تفسير القرآن10

سورة الجن الآيات 21 الى 28 ص 562

[سورة الجن (72): الآيات 21 الى 28]
قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَ لا رَشَداً (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَ لَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (22) إِلاَّ بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَ رِسالاتِهِ وَ مَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً (23) حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَ أَقَلُّ عَدَداً (24) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَ قَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (25)
عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى‏ غَيْبِهِ أَحَداً (26) إِلاَّ مَنِ ارْتَضى‏ مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَ أَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَ أَحْصى‏ كُلَّ شَيْ‏ءٍ عَدَداً (28)

القراءة
قرأ يعقوب ليعلم بضم الياء و الباقون «لِيَعْلَمَ» بفتح الياء و المعنيان متقاربان.
اللغة
الملتحد الملتجأ بالميل إلى جهة و الرصد جمع راصد و هو الحافظ.
الإعراب‏
بلاغا منصوب لأنه بدل من ملتحد أي لن أجد ملجأ إلا أن أبلغ عن الله ما أرسلني به فهو ملجإي و رسالاته منصوبة بالعطف على محذوف و التقدير إلا بلاغا من الله و آياته و رسالاته قوله «مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً» جملة من مبتدإ و خبر هي تعليق و ناصرا نصب على التمييز و كذلك قوله «عَدَداً» و قوله «أَ قَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ» الاستفهام مع ما في حيزه تعليق «إِلَّا مَنِ ارْتَضى‏» يجوز أن يكون من مبتدأ و قوله «فَإِنَّهُ يَسْلُكُ» خبره و يجوز أن يكون استثناء منقطعا و عددا انتصابه على ضربين (أحدهما) على معنى و أحصى كل شي‏ء في حال العدد فلم يخف عليه سقوط ورقة و لا حبة و لا رطب و لا يابس (و الآخر) أن يكون في موضع المصدر لأن معناه و عد كل شي‏ء عددا عن الزجاج.
المعنى‏
ثم خاطب سبحانه نبيه ص فقال «قُلْ» يا محمد للمكلفين «إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَ لا رَشَداً» أي لا أقدر على دفع الضرر عنكم و لا إيصال الخير إليكم و إنما القادر على ذلك هو الله تعالى و لكني رسول ليس علي إلا البلاغ و الدعاء إلى الدين و الهداية إلى الرشاد و هذا اعتراف بالعبودية و إضافة الحول و القوة إليه تعالى ثم قال «قُلْ» لهم يا محمد «إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ» أي لا يمنعني أحد مما قدره الله علي «وَ لَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ» أي من دون الله «مُلْتَحَداً» أي ملتجأ إليه أطلب به السلامة «إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ» أي تبليغا من الله آياته «وَ رِسالاتِهِ» فإنه ملجإي و منجاي و ملتحدي و لي فيه الأمن و النجاة عن الحسن و الجبائي و قيل معناه لا أملك لكم ضرا و لا رشدا فما علي إلا البلاغ عن الله فكأنه قال لا أملك شيئا سوى تبليغ وحي الله بتوفيقه و عونه عن قتادة و قيل أن قوله «إِلَّا بَلاغاً» يحتمل معنيين (أحدهما) إلا ما بلغني من الله أي لا يجيرني شي‏ء إلا ما أتاني من الله فلا فرق بين أن يقول بلغني كتابه و أن يقول أتاني كتابه (و الثاني) إلا تبليغ ما أنزل إلي فأما القبول و الإيمان فليس إلي و إنما ذلك إليكم عن أبي مسلم و قيل أنه عطف رسالاته على البلاغ فوجب أن يكون غيره فالأولى أن يكون أراد بالبلاغ ما بلغه من توحيد الله و عدله و ما يجوز عليه و ما لا يجوز و أراد بالرسالة ما أرسل لأجله من بيان الشرائع و لما بين سبحانه أنه لا

562
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 562

ملجأ من عذابه إلا طاعته عقبه بوعيد من قارف معصيته فقال «وَ مَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ» أي خالف أمره في التوحيد و ارتكب الكفر و المعاصي «فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً» جزاء على ذلك «حَتَّى إِذا رَأَوْا» في الآخرة «ما يُوعَدُونَ» به من العقاب في الدنيا و قيل هو عذاب الاستئصال «فَسَيَعْلَمُونَ» عند ذلك «مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَ أَقَلُّ عَدَداً» المشركون أم المؤمنون و قيل أ جند الله أم الذي عبده المشركون و إنما قال «مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً» و لا ناصر لهم في الآخرة لأنه جاء على جواب من توهم أنه إن كانت الآخرة فناصرهم أقوى و عددهم أكثر و في هذا دلالة على أن المراد بقوله «وَ مَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ» الكفار و كانوا يفتخرون على النبي ص بكثرة جموعهم و يصفونه بقلة العدد فبين سبحانه أن الأمر سينعكس عليهم «قُلْ» يا محمد «إِنْ أَدْرِي» أي لست أعلم «أَ قَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ» به من العذاب «أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً» أي مهلة و غاية ينتهي إليها قال عطاء أراد أنه لا يعرف يوم القيامة إلا الله وحده «عالِمُ الْغَيْبِ» أي هو عالم الغيب يعلم متى تكون القيامة «فَلا يُظْهِرُ عَلى‏ غَيْبِهِ أَحَداً» أي لا يطلع على الغيب أحدا من عباده ثم استثنى فقال «إِلَّا مَنِ ارْتَضى‏ مِنْ رَسُولٍ» يعني الرسل فإنه يستدل على نبوتهم بأن يخيروا بالغيب لتكون آية معجزة لهم و معناه أن من ارتضاه و اختاره للنبوة و الرسالة فإنه يطلعه على ما شاء من غيبه على حسب ما يراه من المصلحة و هو قوله «فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ رَصَداً» و الرصد الطريق أي يجعل له إلى علم ما كان قبله من الأنبياء و السلف و علم ما يكون بعده طريقا و قيل معناه أنه يحفظ الذي يطلع عليه الرسول فيجعل من بين يديه و من خلفه رصدا من الملائكة يحفظون الوحي من أن تسترقه الشياطين فتلقيه إلى الكهنة و قيل رصدا من بين يدي الرسول و من خلفه و هم الحفظة من الملائكة يحرسونه عن شر الأعداء و كيدهم فلا يصل إليه شرهم و قيل المراد به جبرائيل (ع) أي يجعل من بين يديه و من خلفه رصدا كالحجاب تعظيما لما يتحمله من الرسالة كما جرت عادة الملوك بأن يضموا إلى الرسول جماعة من خواصهم تشريفا له و هذا
كما روي أن سورة الأنعام نزلت و معها سبعون ألف ملك‏
 «لِيَعْلَمَ» الرسول «أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا» يعني الملائكة قال سعيد بن جبير ما نزل جبرائيل بشي‏ء من الوحي إلا و معه أربعة من الملائكة حفظة فيعلم الرسول أنه قد أبلغ الرسالة على الوجه الذي قد أمر به و قيل ليعلم من كذب الرسل أن الرسل قد أبلغوا رسالات الله عن مجاهد و قيل ليعلم محمد ص أن الرسل قبله قد أبلغ جميعهم «رِسالاتِ رَبِّهِمْ» كما أبلغ هو إذ كانوا محروسين محفوظين بحفظ الله عن قتادة و قيل ليعلم الله أن قد أبلغوا عن الزجاج و قيل معناه ليظهر المعلوم على ما كان سبحانه عالما و يعلمه واقعا كما كان يعلم أنه سيقع و قيل أراد

563
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 562

ليبلغوا فجعل بدل ذلك قوله «لِيَعْلَمَ» إبلاغهم توسعا عن الجبائي و هذا كما يقول الإنسان ما علم الله ذلك مني أي ما كان ذلك أصلا لأنه لو كان لعلم الله ذلك فوضع العلم موضع الكون «وَ أَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ» أي أحاط الله علما بما لدى الأنبياء و الخلائق و هم لا يحيطون إلا بما يطلعهم الله عليه مما هو عند الله «وَ أَحْصى‏ كُلَّ شَيْ‏ءٍ عَدَداً» أي أحصى ما خلق و عرف عدد ما خلق لم يفته علم شي‏ء حتى مثاقيل الذر و الخردل عن ابن عباس و قيل معناه عد جميع المعلومات المعدومة و الموجودة عدا فعلم صغيرها و كبيرها و قليلها و كثيرها و ما يكون و ما لا يكون و ما كان و ما لم يكن و لو كان كيف كان و قيل معناه لا شي‏ء يعلمه عالم أو يذكره ذاكر إلا و هو تعالى عالم به و محص إياه عن الجبائي قال الإحصاء فعل و ليس هو بمنزلة العلم فلا يجوز أن يقال أحصى ما لا يتناهى كما يجوز أن يقال علم ما لا يتناهى فإن حمل على العلم تناول جميع المعلومات و إن حمل على العد تناول الموجودات.

564
مجمع البيان في تفسير القرآن10

سورة المزمل مكية و آياتها عشرون ص 565

(73) سورة المزمل مكية و آياتها عشرون (20)
[توضيح‏]
و هي مدنية و قيل بعضها مكي و بعضها مدني.
عدد آيها
ثماني عشرة آية المدني الأخير و تسع عشرة بصري عشرون في الباقين.
اختلافها
ثلاث آيات «الْمُزَّمِّلُ» كوفي شامي و المدني الأول «شِيباً» غير المدني الأخير «إِلَيْكُمْ رَسُولًا» مكي.
فضلها
أبي بن كعب قال قال رسول الله ص و من قرأ سورة المزمل رفع عنه العسر في الدنيا و الآخرة
منصور بن حازم عن أبي عبد الله (ع) قال و من قرأ سورة المزمل في العشاء الآخرة أو في آخر الليل كان له الليل و النهار شاهدين مع السورة و أحياه الله حياة طيبة و أماته ميتة طيبة.
تفسيرها
لما ختم الله سورة الجن بذكر الرسل افتتح هذه السورة بذكر نبينا ص خاتم الرسل فقال:

565
مجمع البيان في تفسير القرآن10

سورة المزمل الآيات 1 الى 10 ص 566

[سورة المزمل (73): الآيات 1 الى 10]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏
يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَ رَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (4)
إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (5) إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَ أَقْوَمُ قِيلاً (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً (7) وَ اذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَ تَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً (9)
وَ اصْبِرْ عَلى‏ ما يَقُولُونَ وَ اهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (10)

القراءة
قرأ أبو عمرو و ابن عامر وطاء بكسر الواو و المد و الباقون «وَطْئاً» بفتح الواو و سكون الطاء مقصورا و قرأ أهل الكوفة غير حفص و ابن عامر و يعقوب رب المشرق بالجر و الباقون بالرفع و في الشواذ قراءة عكرمة المزمل و المدثر خفيفة الزاي و الدال مشددة الميم و الثاء و قراءة أبي السماك قم الليل بضم الميم.
الحجة
من قرأ أشد وطاء فمعناه مواطاة أي موافقة و ملاءمة و منه لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ أي ليوافقوا و المعنى أن صلاة ناشئة الليل و عمل ناشئة الليل يواطئ السمع القلب فيها أكثر مما يواطئ في ساعات النهار و لأن البال أفرغ لانقطاع كثير مما يشغل بالنهار و من قال «وَطْئاً» فالمعنى أنه أشق على الإنسان من القيام بالنهار لأن الليل للدعة و السكون و
جاء في الحديث اللهم اشدد وطأتك على مضر
 «وَ أَقْوَمُ قِيلًا» أي أشد استقامة و صوابا لفراغ البال و انقطاع ما يشغله قال:
         له و لها وقع بكل قرارة             و وقع بمستن الفضاء قويم‏
أي مستقيم.
و الناشئة ما يحدث و ينشأ من ساعات الليل و الرفع في «رَبُّ الْمَشْرِقِ» يحتمل أمرين (أحدهما) أنه لما قال «وَ اذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ» قطعه من الأول فقال هو «رَبُّ الْمَشْرِقِ» فيكون خبر مبتدإ محذوف (و الآخر) أن يكون مبتدأ و خبره الجملة التي هي «لا إِلهَ إِلَّا هُوَ» و من جر فعلى إتباعه قوله «اسْمَ رَبِّكَ» و أما قوله المزمل بتخفيف الزاي فعلى حذف المفعول به يا أيها المزمل نفسه و المدثر نفسه و حذف المفعول كثير قال الحطيئة:
         منعمة تصون إليك منها             كصونك من رداء شرعبي‏

566
مجمع البيان في تفسير القرآن10

الحجة ص 566

أي تصون حديثا و تخزنه كقول الشنفري:
         كان لها في الأرض نسيا نقصه             على أمها و إن تكلمك تبلت‏
و من قرأ قم الليل و ضم فيمكن أن يكون ضمه للاتباع.
اللغة
المزمل المتزمل في ثيابه أدغم التاء في الزاي لأن الزاي قريبة المخرج من التاء و هي أندى في المسموع من التاء و كل شي‏ء لفف فقد زمل قال امرؤ القيس:
         كان ثبيرا في عرانين وبله             كبير أناس في بجاد مزمل‏
و النصف أحد قسمي الشي‏ء المساوي للآخر في المقدار كما أن الثلث جزء من ثلاثة و الربع جزء من أربعة و هذه من صفات الأجسام فإذا رفعت التأليفات عنها بقيت أجزاء لا توصف بأن لها نصفا أو ثلثا أو ربعا و العرض لا يوصف بالنصف و الجزء. و القديم لا يوصف أيضا بذلك لأن هذه عبارات عن مؤلفات على وجوه فإن قيل فإذا يجب أن لا يكون وصف القديم تعالى بأنه واحد مدحا فالجواب أن معنى قولنا أنه واحد اختصاصه بصفات لا يستحقها غيره و هي كونه قادرا عالما لذاته قديما و نحو ذلك و إذا قيل أنه لا يتجزأ فليس بمدح إلا أن يقال أنه حي لا يتجزأ بخلاف غيره من الأحياء و الترتيل ترتيب الحروف على حقها في تلاوتها بتثبت فيها و الحدر هو الإسراع فيها و كلاهما حسن إلا أن الترتيل هنا هو المرغب فيه و الإلقاء مثل التلقية تقول ألقت على فلان مسألة و الأقوم الأخلص استقامة و السبح التقلب و منه السابح في الماء لتقلبه فيه و قرأ يحيى بن يعمر و الضحاك سبخا طويلا بالخاء و معناه التوسعة يقال سبخت القطن إذا وسعته للندف و منه‏
قول النبي ص لعائشة و قد سمعها تدعو على سارق لا تسبخي عنه بدعائك عليه‏
أي لا تخففي و يقال لقطع القطن إذا ندف سبائخ قال الأخطل يصف القناص و الكلاب:
         فأرسلوهن يذرين التراب كما             يذري سبائخ قطن ندف أوتار

567
مجمع البيان في تفسير القرآن10

اللغة ص 567

و قال ثعلب السبح التردد و الاضطراب و السبخ السكون و منه‏
قول النبي ص الحمى من فيح جهنم فسبخوها بالماء
أي أسكنوها و التبتل الانقطاع إلى الله عز و جل و إخلاص العبادة له قال امرؤ القيس:
         تضي‏ء الظلام بالعشي كأنها             منارة ممسي راهب متبتل‏
و أصله من تبلت الشي‏ء قطعته و صدقة بتة بتلة أي بائنة مقطوعة من صاحبها لا سبيل له عليها و منه البتول ع لانقطاعها إلى عبادة الله عز و جل.
الإعراب‏
الليل نصب على الظرف إلا قليلا نصب على الاستثناء تقديره إلا شيئا قليلا منه لا تقوم فيه ثم بين القدر فقال «نِصْفَهُ» قال الزجاج أن نصفه بدل من الليل كما تقول ضربت زيدا رأسه فإنما ذكرت زيدا لتوكيد الكلام و هو أوكد من قولك ضربت رأس زيد فالمعنى قم نصف الليل إلا قليلا أو أنقص من النصف أو زد على النصف و أنقص منه قليلا بمعنى إلا قليلا و لكنه ذكر مع الزيادة فالمعنى قم نصف الليل أو أنقص من نصف الليل أو زد على نصف الليل.
المعنى‏
 «يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ» معناه يا أيها المتزمل بثيابه المتلفف بها عن قتادة و قيل يا أيها المتزمل بعباءة النبوة أي المتحمل لأثقالها عن عكرمة و قيل معناه يا أيها النائم و كان قد تزمل للنوم عن السدي و قيل كان يتزمل بالثياب في أول ما جاء به جبرائيل خوفا حتى أنس به و إنما خوطب بهذا في بدء الوحي و لم يكن قد بلغ شيئا ثم خوطب ص بعد ذلك بالنبي و الرسول «قُمِ اللَّيْلَ» للصلاة «إِلَّا قَلِيلًا» و المعنى بالليل صل إلا قليلا من الليل فإن القيام بالليل عبارة عن الصلاة بالليل «نِصْفَهُ» هو بدل من الليل فيكون بيانا للمستثنى منه أي قم نصف الليل و معناه صل من الليل النصف إلا قليلا و هو قوله «أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا» أي من النصف «أَوْ زِدْ عَلَيْهِ» أي على النصف و قال المفسرون أو أنقص من النصف قليلا إلى الثلث أو زد على النصف إلى الثلثين و قيل أن نصفه بدل من القليل فيكون بيانا للمستثنى و المعنى فيهما سواء و يؤيد هذا القول‏
ما روي عن الصادق (ع) قال القليل النصف أو أنقص من القليل قليلا أو زد على القليل قليلا
و
قيل معناه قم نصف الليل إلا قليلا من الليالي و هي ليالي العذر كالمرض و غلبة النوم و علة العين و نحوها أو أنقص من النصف قليلا أو زد عليه‏

568
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 568

ذكره الإمام علي بن أبي الطالب (ع)
خير الله سبحانه نبيه ص في هذه الساعات القيام بالليل و جعله موكولا إلى رأيه و كان النبي ص و طائفة من المؤمنين معه يقومون على هذه المقادير و شق ذلك عليهم فكان الرجل منهم لا يدري كم صلى و كم بقي من الليل فكان يقوم الليل كله مخافة أن لا يحفظ القدر الواجب حتى خفف الله عنهم بآخر هذه السورة
و عن قتادة عن زرارة بن أوفى عن سعيد بن هشام قال قلت لعائشة أنبئيني عن قيام رسول الله ص فقال أ لست تقرأ «يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ» قلت بلى قالت فإن الله افترض قيام الليل في أول هذه السورة فقام نبي الله و أصحابه حولا و أمسك الله خاتمتها اثني عشر شهرا في السماء حتى أنزل الله في آخر هذه السورة التخفيف فصار قيام الليل تطوعا بعد أن كان فريضة
و قيل كان بين أول السورة و آخرها الذي نزل فيه التخفيف عشر سنين عن سعيد بن جبير و قيل كان هذا بمكة قبل فرض الصلوات الخمس ثم نسخ بالخمس عن ابن كيسان و مقاتل و قيل لما نزل أول المزمل كانوا يقومون نحوا من قيامهم في شهر رمضان فكان بين أولها و آخرها سنة عن ابن عباس و قيل أن الآية الأخيرة نسخت الأولى عن الحسن و عكرمة و ليس في ظاهر الآيات ما يقتضي النسخ فالأولى أن يكون الكلام على ظاهره فيكون القيام بالليل سنة مؤكدة مرغبا فيه و ليس بفرض «وَ رَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا» أي بينه بيانا و اقرأه على هينتك ثلاث آيات و أربعا و خمسا عن ابن عباس قال الزجاج و البيان لا يتم بأن تعجل في القرآن إنما يتم بأن تبين جميع الحروف و توفي حقها من الإشباع قال أبو حمزة قلت لابن عباس إني رجل في قراءتي و في كلامي عجلة فقال ابن عباس لأن أقرأ البقرة أرتلها أحب إلي من أن أقرأ القرآن كله و قيل معناه ترسل فيه ترسلا عن مجاهد و قيل معناه تثبت فيه تثبتا عن قتادة و
روي عن أمير المؤمنين (ع) في معناه أنه قال بينه بيانا و لا تهذه هذ الشعر و لا تنثره نثر الرمل و لكن أقرع به القلوب القاسية و لا يكونن هم أحدكم آخر السورة
و
عن أبي عبد الله (ع) قال إذا مررت بآية فيها ذكر الجنة فاسأل الله الجنة و إذا مررت بآية فيها ذكر النار فتعوذ بالله من النار
و قيل الترتيل هو أن تقرأ على نظمه و تواليه و لا تغير لفظا و لا تقدم مؤخرا و هو مأخوذ من ترتل الأسنان إذا استوت و حسن انتظامها و ثغر رتل إذا كانت أسنانه مستوية لا تفاوت فيها و قيل رتل معناه ضعف و الرتل اللين عن قطرب قال و المراد بهذا تحزين القرآن أي اقرأه بصوت حزين و يعضده‏
ما رواه أبو بصير عن أبي عبد الله (ع) في هذا قال هو أن تتمكث فيه و تحسن به صوتك‏
و
روي عن أم سلمة أنها قالت كان رسول الله ص يقطع قراءته آية آية
و
عن أنس قال كان يمد صوته مدا
و
عن عبد الله بن عمر قال قال رسول الله ص يقال لصاحب القرآن اقرأ و ارق و رتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلتك‏

569
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 568

عند آخر آية تقرؤها
 «إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا» أي سنوحي عليك قولا يثقل عليك و على أمتك أما ثقله عليه فلما فيه من تبليغ الرسالة و ما يلحقه من الأذى فيه و ما يلزمه من قيام الليل و مجاهدة النفس و ترك الراحة و الدعة و أما ثقله على أمته فلما فيه من الأمر و النهي و الحدود و هذا معنى قول قتادة و مقاتل و الحسن قال ابن زيد هو و الله ثقيل مبارك و كما ثقل في الدنيا ثقل في الموازين يوم القيامة و قيل ثقيلا لا يحمله إلا قلب مؤيد بالتوفيق و نفس مؤيدة بالتوحيد و قيل ثقيلا ليس بالسفساف الخفيف لأنه كلام ربنا جلت عظمته عن الفراء و قيل معناه قولا عظيم الشأن كما يقال هذا كلام رصين و هذا الكلام له وزن إذا كان واقعا موقعه و قيل معناه قولا ثقيلا نزوله فإنه ص كان يتغير حاله عند نزوله و يعرق و إذا كان راكبا يبرك راحلته و لا يستطيع المشي و
سأل الحرث بن هشام رسول الله ص فقال يا رسول الله كيف يأتيك الوحي فقال ص أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس و هو أشد علي فيفصم عني و قد وعيت ما قال و أحيانا يتمثل الملك رجلا فأعي ما يقول‏
قالت عائشة أنه كان ليوحى إلى رسول الله ص و هو على راحلته فيضرب بجرانها قالت و لقد رأيته ينزل عليه في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه و إن جبينه ليرفض عرقا
و قيل ثقيلا على الكفار لما فيه من الكشف عن جهلهم و ضلالهم و سفه أحلامهم و قبح أفعالهم «إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ» معناه إن ساعات الليل لأنها تنشأ ساعة بعد ساعة و تقديره أن ساعات الليل الناشئة و قال ابن عباس هو الليل كله لأنه ينشأ بعد النهار و قال مجاهد هي ساعات التهجد من الليل و قيل هي بالحبشية قيام الليل عن عبد الله بن مسعود و سعيد بن جبير و قيل هي القيام بعد النوم عن عائشة و قيل هي ما كان بعد العشاء الآخرة عن الحسن و قتادة و المروي‏
عن أبي جعفر و أبي عبد الله (ع) أنهما قالا هي القيام في آخر الليل إلى صلاة الليل‏
 «هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً» أي أكثر ثقلا و أبلغ مشقة لأن الليل وقت الراحة و العمل يشق فيه و من قال وطاء فالمعنى أشد مواطاة للسمع و البصر يتوافق فيها قلب المصلي و لسانه و سمعه على التفهم و التفكر إذ القلب غير مشتغل بشي‏ء من أمور الدنيا «وَ أَقْوَمُ قِيلًا» أي أصوب للقراءة و أثبت للقول لفراغ البال و انقطاع ما يشغل القلب عن أنس و مجاهد و ابن زيد و
قال أبو عبد الله (ع) هو قيام الرجل عن فراشه لا يريد به إلا الله تعالى‏
 «إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا» معناه أن لك يا محمد في النهار منصرفا و منقلبا إلى ما تقضي فيه حوائجك عن قتادة و المراد أن مذاهبك في النهار و مشاغلك كثيرة فإنك تحتاج فيه إلى تبليغ الرسالة و دعوة الخلق و تعليم الفرائض و السنن و إصلاح المعيشة لنفسك و عيالك و في الليل يفرغ القلب‏

570
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 568

للتذكر و القراءة فاجعل ناشئة الليل لعبادتك لتأخذ بحظك من خير الدنيا و الآخرة و في هذا دلالة على أنه لا عذر لأحد في ترك صلاة الليل لأجل التعليم و التعلم لأن النبي ص كان يحتاج إلى التعليم أكثر مما يحتاج الواحد منا إليه ثم لم يرض سبحانه أن يترك حظه من قيام الليل «وَ اذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ» يعني أسماء الله تعالى التي تعبد بالدعاء بها و قيل اقرأبسم الله الرحمن الرحيم في ابتداء صلاتك توصلك بركة قراءتها إلى ربك و تقطعك من كل ما سواه و قيل و اقصد بعملك وجه ربك «وَ تَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا» أي أخلص له إخلاصا عن ابن عباس و غيره يعني في الدعاء و العبادة و قيل انقطع إليه انقطاعا عن عطاء و هو الأصل و قيل توكل عليه توكلا عن شقيق و قيل تفرغ لعبادته عن ابن زيد و قد جاء في الحديث النهي عن التبتل و المراد به الانقطاع عن الناس و الجماعات و كان يجب أن يقول تبتلا لأن المراد بتلك الله من المخلوقين و اصطفاك لنفسه تبتيلا فتبتل أنت أيضا إليه و قيل إنما قال تبتيلا ليطابق أواخر آيات السورة و
روى محمد بن مسلم و زرارة و حمران عن أبي جعفر و أبي عبد الله (ع) أن التبتل هنا رفع اليدين في الصلاة
و
في رواية أبي بصير قال هو رفع يدك إلى الله و تضرعك إليه‏
 «رَبُّ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ» أي رب العالم بما فيه لأنه بين المشرق و المغرب و قيل رب مشرق الشمس و مغربها و المراد أول النهار و آخره فأضاف النصف الأول من النهار إلى المشرق و النصف الآخر منه إلى المغرب و قيل مالك المشرق و المغرب أي المتصرف فيما بينهما و المدبر لما بينهما «لا إِلهَ إِلَّا هُوَ» أي لا أحد تحق له العبادة سواه «فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا» أي حفيظا للقيام بأمرك و قيل معناه فاتخذه كافيا لما وعدك به و اعتمد عليه و فوض أمرك إليه تجده خير حفيظ و كاف «وَ اصْبِرْ عَلى‏ ما يَقُولُونَ» لك يعني الكفار من التكذيب و الأذى و النسبة إلى السحر و الكهانة «وَ اهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا» و الهجر الجميل إظهار الموجدة عليهم من غير ترك الدعاء إلى الحق على وجه المناصحة قال الزجاج هذا يدل على أنه نزل قبل الأمر بالقتال و قيل بل هو أمر بالتلطف في استدعائهم فيجب مع القتال و لا نسخ و في هذا دلالة على وجوب الصبر على الأذى لمن يدعو إلى الدين و المعاشرة بأحسن الأخلاق و استعمال الرفق ليكونوا أقرب إلى الإجابة.

571
مجمع البيان في تفسير القرآن10

سورة المزمل الآيات 11 الى 19 ص 572

[سورة المزمل (73): الآيات 11 الى 19]
وَ ذَرْنِي وَ الْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَ مَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (11) إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَ جَحِيماً (12) وَ طَعاماً ذا غُصَّةٍ وَ عَذاباً أَلِيماً (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَ الْجِبالُ وَ كانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً (14) إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى‏ فِرْعَوْنَ رَسُولاً (15)
فَعَصى‏ فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً (17) السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً (18) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى‏ رَبِّهِ سَبِيلاً (19)

اللغة
يذر و يدع بمعنى يترك و لا يقال وذر و لا ودع و استغني بترك عن ذلك لأن الابتداء بالواو عندهم مكروه و لذلك أبدلوا منها الهمزة في أقتت و التاء في تخمة و تراث و النعمة بفتح النون لين اللمس و ضدها الخشونة و النعمة الثروة و المنة أيضا و النعمة بضم النون المسرة يقال نعم و نعمة عين و نعمى عين و الأنكال القيود واحدها نكل و الغصة تردد اللقمة في الحلق و لا يسيغها آكلها يقال غص بريقه يغص غصصا و في قلبه غصة من كذا و هي كاللدغة التي لا يسوغ معها الطعام و الشراب قال عدي بن زيد:
         لو بغير الماء حلقي شرق             كنت كالغصان بالماء اعتصاري‏
و الكثيب الرمل المجتمع الكثير و هلت الرمل أهيله هيلا فهو مهيل إذا حرك أسفله فسال أعلاه و
منه الحديث كيلوا و لا تهيلوا و كل ثقيل وبيل‏
و منه كلأ مستوبل أي مستوخم لا يستمرأ لثقله و منه الوبل و الوابل و هو المطر العظيم القطر و منه الوبال و هو ما يغلظ على النفس و الوبيل أيضا الغليظ من العصي قال طرفة:
         فمرت كهاة ذات خيف جلالة             عقيلة شيخ كالوبيل يلندد

572
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 573

المعنى‏
ثم قال سبحانه مهددا للكفار «وَ ذَرْنِي» يا محمد «وَ الْمُكَذِّبِينَ» الذين يكذبونك فيما تدعوهم إليه من التوحيد و إخلاص العبادة و في البعث و الجزاء و هذا كما يقول القائل دعني و إياه إذا أراد أن يهدده و هو نصب على أنه مفعول معه «أُولِي النَّعْمَةِ» يعني المتنعمين ذوي الثروة في الدنيا أي كل جزاءهم إلي و لا تشغل قلبك بمجازاتهم «وَ مَهِّلْهُمْ قَلِيلًا» و هذا أيضا وعيد لهم و لم يكن إلا يسيرا حتى كانت وقعة بدر و المعنى و أخرهم في المدة قليلا قال مقاتل نزلت في المطعمين ببدر و هم عشرة ذكرناهم في الأنفال و قيل نزلت في صناديد قريش و المستهزءين «إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالًا» أي عندنا قيودا في الآخرة عظاما لا تفك أبدا عن مجاهد و قتادة و قيل أغلالا «وَ جَحِيماً» و هو اسم من أسماء جهنم و قيل يعني و نارا عظيمة و لا يسمى القليل به «وَ طَعاماً ذا غُصَّةٍ» أي ذا شوك يأخذ الحلق فلا يدخل و لا يخرج عن ابن عباس و قيل طعاما يأخذ بالحلقوم لخشونته و شدة تكرهه و قيل يعني الزقوم و الضريع و
روي عن حمران بن أعين عن عبد الله بن عمر أن النبي ص سمع قارئا يقرأ هذه فصعق‏
 «وَ عَذاباً أَلِيماً» أي عقابا موجعا مؤلما ثم بين سبحانه متى يكون ذلك فقال «يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ» أي تتحرك باضطراب شديد «وَ الْجِبالُ» أي و ترجف الجبال معها أيضا و تضطرب بمن عليها «وَ كانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلًا» أي رملا سائلا متناثرا عن ابن عباس و قيل المهيل الذي إذا وطأته القدم زل من تحتها و إذا أخذت أسفله انهار أعلاه عن الضحاك و المعنى أن الجبال تنقلع من أصولها فتصير بعد صلابتها كالرمل السائل ثم أكد سبحانه الحجة على أهل مكة فقال «إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولًا» يعني محمدا ص «شاهِداً عَلَيْكُمْ» أي يشهد عليكم في الآخرة بما يكون منكم لا في الدنيا «كَما أَرْسَلْنا إِلى‏ فِرْعَوْنَ» بمصر «رَسُولًا» يعني موسى ابن عمران «فَعَصى‏ فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ» و لم يقبل منه ما دعاه إليه «فَأَخَذْناهُ» بالعذاب «أَخْذاً وَبِيلًا» أي شديدا ثقيلا مع كثرة جنوده و سعة ملكه يعني الغرق حذرهم سبحانه أن ينالهم مثل ما نال فرعون و قومه «فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ» و لم تؤمنوا برسولكم «يَوْماً» أي عقاب يوم «يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً» و هو جمع أشيب و هذا وصف لذلك اليوم و شدته كما يقال هذا أمر يشيب منه الوليد و تشيب منه النواصي إذا كان عظيما شديدا و المعنى بأي شي‏ء تتحصنون من عذاب ذلك اليوم إن كفرتم و كيف تدفعون عنكم ذلك قال النابغة:

573
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 573

         سقط النصيف و لم ترد إسقاطه             فتناولته و اتقتنا باليد
أي دفعتنا ثم زاد سبحانه في وصف شدة ذلك اليوم فقال «السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ» الهاء تعود إلى اليوم و هذا كما يقال فلان بالكوفة أي هو فيها و المعنى أن السماء تنفطر و تنشق في ذلك اليوم من هوله و قيل سبب ذلك اليوم و هوله و شدته و قيل بأمر الله و قدرته و لم يقل منفطرة لأن لفظة السماء مذكر فيجوز أن يذكر و يؤنث و من ذكر أراد السقف و قيل معناه ذات انفطار كما يقال امرأة مطفل أي ذات أطفال و مرضع ذات رضاع فيكون على طريق النسبة «كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا» أي كائنا لا خلف فيه و لا تبديل «إِنَّ هذِهِ» الصفة التي ذكرناها و بيناها «تَذْكِرَةٌ» أي عظة لمن أنصف من نفسه و التذكرة الموعظة التي يذكر بها ما يعمل عليه «فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى‏ رَبِّهِ سَبِيلًا» أي فمن شاء من المكلفين اتخذ إلى ثواب ربه سبيلا لأنه قادر على الطاعة التي لو فعلها وصل إلى الثواب و قد رغبه الله تعالى فيه و دعاه إلى فعل ما يوصله إليه و بعث رسولا يدعوه إليه فمن لم يصل إليه فبسوء اختياره انصرف عنه.

574
مجمع البيان في تفسير القرآن10

سورة المزمل آية 20 ص 575

[سورة المزمل (73): آية 20]
إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى‏ مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَ نِصْفَهُ وَ ثُلُثَهُ وَ طائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَ اللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى‏ وَ آخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَ آخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ وَ أَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَ ما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَ أَعْظَمَ أَجْراً وَ اسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)
القراءة
قرأ ابن كثير و أهل الكوفة نصفه و ثلثه بالنصب و الباقون بالجر.
الحجة
قال أبو علي من نصب حمله على أدنى و أدنى في موضع نصب قال أبو عبيدة أدنى أقرب فكأنه قال إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل و تقوم نصفه و ثلثه و من جر فإنه يحمله على الجار قال أبو الحسن و ليس المعنى عليه فيما بلغنا لأن المعنى يكون على أدنى من نصفه و أدنى من ثلثه قال و كان الذي افترض الثلث و أكثر من الثلث قال فأما الذين قرءوا بالجر فعلى أن يكون المعنى أنكم إن لم تؤدوا ما فرض الله عليكم فقوموا أدنى من ثلثي الليل و من نصفه و من ثلثه.
المعنى‏
ثم خاطب سبحانه نبيه ص فقال «إِنَّ رَبَّكَ» يا محمد «يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى‏» أي أقرب و أقل «مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَ نِصْفَهُ وَ ثُلُثَهُ» أي أقل من نصفه و ثلثه و الهاء تعود إلى الليل أي نصف الليل و ثلث الليل و المعنى أنك تقوم في بعض الليالي قريبا من الثلثين و في بعضها قريبا من نصف الليل و قريبا من ثلثه و قيل إن الهاء تعود إلى الثلثين أي و أقرب من نصف الثلثين و من ثلث الثلثين و إذا نصبت فالمعنى تقوم نصفه و ثلثه «وَ» تقوم «طائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ» على الإيمان و روى الحاكم أبو القاسم إبراهيم الحسكاني بإسناده عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله «وَ طائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ» قال علي و أبو ذر «وَ اللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ» أي يقدر أوقاتهما لتعلموا فيها على ما يأمركم به و قيل معناه لا يفوته علم ما تفعلون عن عطاء و المراد أنه يعلم مقادير الليل و النهار فيعلم القدر الذي تقومونه من الليل «عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ» قال مقاتل كان الرجل يصلي الليل كله مخافة أن لا يصيب ما أمر به من القيام فقال سبحانه «عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ» أي لن تطيقوا معرفة ذلك و قال الحسن قاموا حتى انتفخت أقدامهم فقال سبحانه إنكم لا تطيقون إحصاءه على الحقيقة و قيل معناه لن تطيقوا المداومة على قيام الليل و يقع منكم التقصير فيه «فَتابَ عَلَيْكُمْ» بأن جعله تطوعا و لم يجعله فرضا عن الجبائي و قيل معناه فلم يلزمكم إثما كما لا يلزم التائب أي رفع التبعة فيه كرفع التبعة عن التائب و قيل فتاب عليكم أي فخفف عليكم «فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ» الآن يعني في صلاة الليل عن أكثر المفسرين و أجمعوا أيضا على أن المراد بالقيام المتقدم في قوله قُمِ اللَّيْلَ هو القيام إلى الصلاة إلا أبا مسلم فإنه قال أراد القيام لقراءة القرآن لا غير و قيل‏

575
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 575

معناه فصلوا ما تيسر من الصلاة و عبر عن الصلاة بالقرآن لأنها تتضمنه و من قال إن المراد به قراءة القرآن في غير الصلاة فهو محمول على الاستحباب عند الأكثرين دون الوجوب لأنه لو وجبت القراءة لوجب الحفظ و قال بعضهم هو محمول على الوجوب لأن القارئ يقف على إعجاز القرآن و ما فيه من دلائل التوحيد و إرسال الرسل و لا يلزم حفظ القرآن لأنه من القرب المستحبة المرغب فيها ثم اختلفوا في القدر الذي تضمنه هذا الأمر من القراءة فقال سعيد بن جبير خمسون آية و قال ابن عباس مائة آية و عن الحسن قال من قرأ مائة آية في ليلة لم يحاجه القرآن و قال كعب من قرأ مائة آية في ليلة كتب من القانتين و قال السدي مائتا آية و قال جويبر ثلث القرآن لأن الله يسره على عباده و الظاهر أن معنى ما تيسر مقدار ما أردتم و أحببتم «عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى‏» و ذلك يقتضي التخفيف عنكم «وَ آخَرُونَ» أي و منكم قوم آخرون «يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ» أي يسافرون للتجارة و طلب الأرباح عن ابن عباس «وَ آخَرُونَ» أي و منكم قوم آخرون «يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» فكل ذلك يقتضي التخفيف عنكم «فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ» و
روي عن الرضا (ع) عن أبيه عن جده (ع) قال ما تيسر منه لكم فيه خشوع القلب و صفاء السر
 «وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ» بحدودها التي أوجبها الله عليكم «وَ آتُوا الزَّكاةَ» المفروضة «وَ أَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً» أي و أنفقوا في سبيل الله و الجهات التي أمركم الله و ندبكم إلى النفقة فيها و قد مر معنى القرض فيما تقدم «وَ ما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ» أي طاعة «تَجِدُوهُ» أي تجدوا ثوابه «عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً» لكم من الشح و التقصير «وَ أَعْظَمَ أَجْراً» أي أفضل ثوابا و هو هنا يسمى فصلا عند البصريين و عمادا عند الكوفيين و يجوز أن يكون صفة للهاء في تجدوه «وَ اسْتَغْفِرُوا اللَّهَ» أي اطلبوا مغفرته «إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» أي ستار لذنوبكم صفوح عنكم رحيم بكم منعم عليكم قال عبد الله ابن مسعود أيما رجل جلب شيئا إلى مدينة من مدائن المسلمين صابرا محتسبا فباعه بسعر يومه كان عند الله بمنزلة الشهداء ثم قرأ «وَ آخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ» الآية و قال ابن عمر ما خلق الله موتة أموتها بعد القتل في سبيل الله أحب إلي من أن أموت بين شقي رحل أضرب في الأرض أبتغي من فضل الله و قيل إن هذه الآية مدنية و يدل عليها أن الصلاة و الزكاة لم توجبا بمكة و قيل أوجبتا بمكة و الآية مكية.

576
مجمع البيان في تفسير القرآن10

سورة المدثر مكية و آياتها ست و خمسون ص 577

(74) سورة المدثر مكية و آياتها ست و خمسون (56)
عدد آيها
خمسون و ست آيات عراقي و البزي و المدني الأول و خمس شامي و المدني الأخير و المكي غير البزي.
اختلافها
 «يَتَساءَلُونَ» غير المدني الأخير «عَنِ الْمُجْرِمِينَ» غير الشامي و المكي إلا البزي.
فضلها
أبي بن كعب عن النبي ص قال و من قرأ المدثر أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من صدق بمحمد ص و كذب به بمكة
محمد بن مسلم عن أبي جعفر (ع) قال من قرأ في الفريضة سورة المدثر كان حقا على الله أن يجعله مع محمد ص في درجته و لا يدركه في حياة الدنيا شقاء أبدا.
تفسيرها
لما أمر سبحانه نبيه ص في آخر المزمل بالصلاة و غيرها أمره في مفتتح هذه السورة بالإنذار فكأنه أمره أن يبدأ بنفسه ثم بالناس فقال:

577
مجمع البيان في تفسير القرآن10

سورة المدثر الآيات 1 الى 10 ص 578

[سورة المدثر (74): الآيات 1 الى 10]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏
يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَ رَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَ ثِيابَكَ فَطَهِّرْ (4)
وَ الرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَ لا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَ لِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9)
عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10)

القراءة
قرأ أبو جعفر و حفص و يعقوب و سهل و الرجز بالضم و الباقون بكسر الراء و قرأ الحسن تستكثر بالجزم و قرأ الأعمش تستكثر بالنصب و القراءة بالرفع.
الحجة
 «الرُّجْزَ» بالضم قراءة الحسن و هو اسم صنم فيما زعموا و قال قتادة هما صنمان إساف و نائلة و من كسر فهو العذاب و المعنى ذات العذاب فاهجر لأن عبادتها تؤدي إلى العذاب و يجوز أن يكون الرجز و الرجز لغتين كالذكر و الذكر و قال ابن جني الجزم في تستكثر يحتمل أمرين (أحدهما) أن يكون بدلا من تمنن فكأنه قال لا تستكثر فإن قيل فعبرة البدل أن يصلح إقامة الثاني مقام الأول و أنت لو قلت لا تستكثر لا يدلك النهي على المن للاستكثار و إنما المعنى لا تمنن من مستكثر قيل قد يكون البدل على حذف الأول و قد يكون على نية ثباته و ذلك كقولك زيد مررت به أبي محمد فتبدل أبا محمد من الهاء و لو قلت زيد مررت مررت بأبي محمد كان قبيحا فقوله «وَ لا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ» من هذا القبيل و أنكر أبو حاتم الجزم على البدل (و الآخر) أن يكون أراد تستكثر فأسكن الراء لثقل الضمة مع كثرة الحركات كما حكى أبو زيد من قولهم بَلى‏ وَ رُسُلُنا بإسكان اللام و أما تستكثر بالنصب فبأن مضمرة و ذلك أن يكون بدلا من قوله «وَ لا تَمْنُنْ» في المعنى أ لا ترى أن معناه لا يكن منك من فاستكثار فكأنه قال لا يكن منك من أن تستكثر فتضمر أن لتكون مع الفعل المنصوب بها بدلا عن المن في المعنى الذي دل عليه الفعل و مما وقع فيه الفعل موقع المصدر قوله:
         فقالوا ما تشاء فقلت ألهو             إلى الأصباح آثر ذي أثير
أراد فقلت للهو فوضع ألهو موضع اللهو.
اللغة
المدثر المتفعل من الدثار إلا أن الثاء أدغمت في الدال و هو المتغطي بالثياب عند النوم و التكبير وصف الأكبر على اعتقاد معناه كتكبير المكبر في الصلاة بقوله الله أكبر و التكبير نقيض التصغير و الكبير الشأن هو المختص باتساع للمقدور و المعلوم و الطهارة النظافة بانتفاء النجاسة لأن النظافة قد تكون بانتفاء الوسخ من غير نجاسة و قد تكون بانتفاء النجاسة فالطهارة في الآية هو القسم الأخير و المن ذكر النعمة بما يكدرها و يقطع حق الشكر بها يقال من بعطائه يمن منا إذا فعل ذلك فأما المن على الأسير فهو إطلاقه بقطع أسباب‏

578
مجمع البيان في تفسير القرآن10

اللغة ص 578

الاعتقال عنه و الاستكثار طلب الكثرة و هو هنا طلب ذكر الاستكثار للعطية و الناقور فاعول من النقر كهاضوم من الهضم و حاطوم من الحطم و هو الذي من شأنه أن ينقر فيه للتصويت به و اليسير و القليل الكلفة و منه اليسار و هو كثرة المال لقلة الكلفة به في الإنفاق و منه تيسير الأمور لسهولته.
الإعراب‏
«وَ رَبَّكَ فَكَبِّرْ» تقديره قم فكبر ربك و كذلك ما بعده و فائدة تقديم المفعول عنها التخصيص لأنك إذا قلت و كبر ربك لم يدل ذلك على أنه لا يجوز تكبير غير الرب إذا قلت ربك فكبر دل على أنه لا يجوز تكبير غيره و تستكثر في موضع نصب على الحال فذلك مبتدأ و يوم عسير خبره و يومئذ يجوز أن يكون رفعا و يجوز أن يكون نصبا فإذا كان رفعا فإنما يبنى على الفتح لإضافته إلى إذ لأن إذ غير متمكنة و إذا كان نصبا فعلى الظرف و تقديره فذلك يوم عسير في يوم ينفخ في الصور قاله الزجاج و قال أبو علي في بعض كتبه لا يجوز أن ينتصب يومئذ بقوله «عَسِيرٌ» لأن الصفة لا تعمل فيما قبل الموصوف و إنما انتصب يومئذ على أنه صلة قوله «فَذلِكَ» لأن ذلك كناية عن المصدر فكأنه قال فذلك النقر يومئذ و على هذا فيكون التقدير فذلك النقر في ذلك الوقت نقر يوم عسير و قوله «عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ» على يتعلق بعسير و لا يتعلق بيسير لأن ما يعمل فيه المضاف إليه لا يتقدم على المضاف على أنهم قالوا إن غيرا في حكم حرف النفي فيجوز أن يعمل ما بعده فيما قبله نحو أن تقول أنت زيدا غير ضارب و لا يجوز أن تقول أنت زيدا مثل ضارب فتعمل ضاربا في زيد و إنما أجازوا أنت زيدا غير ضارب حملا على أنت زيدا لا ضارب.
المعنى‏
خاطب سبحانه نبيه ص فقال «يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ» أي المتدثر بثيابه قال الأوزاعي سمعت يحيى بن أبي كثير يقول سألت أبا سلمة أي القرآن أنزل من قبل قال «يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ» فقلت أو اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ فقال سألت جابر بن عبد الله أي القرآن أنزل قبل قال «يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ» فقلت أو اقْرَأْ
فقال جابر أحدثكم ما حدثنا رسول الله ص قال جاورت بحراء شهرا فلما قضيت جواري نزلت فاستبطنت الواد فنوديت فنظرت أمامي و خلفي و عن يميني و شمالي فلم أر أحدا ثم نوديت فرفعت رأسي فإذا هو على العرش في الهواء يعني جبرائيل فقلت دثروني دثروني فصبوا علي ماء فأنزل الله عز و جل «يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ»
و
في رواية فحييت منه فرقا حتى هويت إلى الأرض فجئت إلى أهلي فقلت زملوني فنزل «يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ»
 «قُمْ فَأَنْذِرْ» أي ليس بك ما تخافه من الشيطان إنما أنت نبي فأنذر الناس و ادعهم إلى التوحيد و في هذا ما فيه لأن الله تعالى لا يوحي إلى رسوله إلا بالبراهين النيرة و الآيات البينة الدالة على أن ما يوحى إليه‏

579
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 579

إنما هو من الله تعالى فلا يحتاج إلى شي‏ء سواها و لا يفزع و لا يفرق و قيل معناه يا أيها الطالب صرف الأذى بالدثار اطلبه بالإنذار و خوف قومك بالنار و إن لم يؤمنوا و قيل إنه كان قد تدثر بشملة صغيرة لينام فقال يا أيها النائم قم من نومك فأنذر قومك و قيل إن المراد به الجد في الأمر و القيام بما أرسل به و ترك الهوينا فيه فكأنه قيل له لا تنم عما أمرتك به و هذا كما تقول العرب فلان لا ينام في أمره إذا وصف بالجلد و الانكماش و صدق العزيمة و كأنهم يخطرون النوم على ذي الحاجة حتى يبلغ حاجته و بذلك نطقت أشعارهم كما قيل:
         ألا أيها الناهي فزارة بعد ما             أجدت لأمر إنما أنت حالم‏
         أرى كل ذي وتر يقوم بوتره             و يمنع عنه النوم إذ أنت نائم‏
و يقال لمن أدرك ثاره هذا هو الثأر المنيم و قال الشاعر يصف من أورد إبلا له:
         أوردها سعد و سعد مشتمل             ما هكذا تورد يا سعد الإبل‏
و الاشتمال مثل التدثر «وَ رَبَّكَ فَكَبِّرْ» أي عظمه و نزهه عما لا يليق به و قيل كبره في الصلاة فقل الله أكبر «وَ ثِيابَكَ فَطَهِّرْ» أي و ثيابك الملبوسة فطهرها من النجاسة للصلاة و قيل معناه و نفسك فطهر من الذنوب و الثياب عبارة عن النفس عن قتادة و مجاهد و على هذا فيكون التقدير و ذا ثيابك فطهر فحذف المضاف و مما يؤيد هذا القول قول عنترة:
         فشككت بالرمح الأصم ثيابه             ليس الكريم على القنا بمحرم‏
و قيل معناه طهر ثيابك من لبسها على معصية أو غدرة كما قال سلامة بن غيلان الثقفي أنشده ابن عباس:
         و إني بحمد الله لا ثوب فاجر             لبست و لا من غدرة أتقنع‏
قال الزجاج معناه و يقال للغادر دنس الثياب و في معناه قول من قال و عملك فأصلح.

580
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 579

قال السدي يقال للرجل إذا كان صالحا أنه لطاهر الثياب و إذا كان فاجرا إنه لخبيث الثياب و
قيل معناه و ثيابك فقصر عن طاووس و روي ذلك عن أبي عبد الله (ع)
قال الزجاج لأن تقصير الثوب أبعد من النجاسة فإنه إذا انجر على الأرض لم يؤمن أن يصيبه ما ينجسه و قيل معناه و ثيابك فاغسلها عن النجاسة بالماء لأن المشركين كانوا لا يتطهرون عن ابن زيد و ابن سيرين و قيل لا يكن ثيابك من حرام عن ابن عباس و قيل معناه و أزواجك فطهرهن عن الكفر و المعاصي حتى يصرن مؤمنات صالحات و العرب تكني بالثياب عن النساء عن أبي مسلم و
روى أبو بصير عن أبي عبد الله (ع) قال قال أمير المؤمنين (ع) غسل الثياب يذهب الهم و الحزن و هو طهور الصلاة و تشمير الثياب طهور لها و قد قال الله سبحانه «وَ ثِيابَكَ فَطَهِّرْ» أي فشمر
 «وَ الرُّجْزَ فَاهْجُرْ» أي اهجر الأصنام و الأوثان عن ابن عباس و مجاهد و قتادة و الزهري و قيل معناه اجتنب المعاصي عن الحسن قال الكسائي الرجز بالكسر العذاب و بالضم الصنم و قال المعنى أهجر ما يؤدي إلى العذاب و لم يفرق غيره بينهما و قيل معناه جانب الفعل القبيح و الخلق الذميم عن الجبائي و قيل معناه أخرج حب الدنيا من قلبك لأنه رأس كل خطيئة «وَ لا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ» أي لا تعط عطية لتعطى أكثر منها و هذا للنبي ص خاصة أدبه الله سبحانه بأكرم الآداب و أشرفها عن ابن عباس و مجاهد و قتادة و النخعي و الضحاك و قيل معناه و لا تمنن حسناتك على الله تعالى مستكثرا لها فينقصك ذلك عند الله عن الحسن و ربيع بن أنس و قيل معناه لا تمنن ما أعطاك الله من النبوة و القرآن مستكثرا به الأجر من الناس عن ابن زيد و قيل هو نهي عن الربا المحرم أي لا تعط شيئا طالبا أن تعطي أكثر مما أعطيت عن أبي مسلم و قيل لا تضعف في عملك مستكثرا لطاعاتك عن مجاهد و قيل و لا تمنن بعطائك على الناس مستكثرا ما أعطيته فإن متاع الدنيا قليل و لأن المن يكدر الصنيعة و قيل معناه إذا أعطيت عطية فأعطها لربك و اصبر حتى يكون هو الذي يثيبك عليها عن زيد بن أسلم و قيل معناه لا تمنن بإبلاغ الرسالة على أمتك عن الجبائي «وَ لِرَبِّكَ» أي لوجه ربك «فَاصْبِرْ» على أذى المشركين عن مجاهد و قيل فاصبر على ما أمرك الله به من أداء الرسالة و تعظيم الشريعة و على ما ينالك من التكذيب و الأذى لتنال الفوز و الذخر و قيل فاصبر عن المعاصي و على الطاعات و المصائب و قيل فاصبر لله على ما حملت من الأمور الشاقة في محاربة العرب و العجم عن ابن زيد «فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ» معناه إذا نفخ في الصور و هي كهيئة البوق عن مجاهد و قيل إن ذلك في النفخة الأولى و هو أول الشدة الهائلة العامة و قيل إنه النفخة الثانية و عندها يحيي الله الخلق و تقوم القيامة و هي صيحة الساعة عن الجبائي «فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ» قد مر معناه في الأعراف «يَوْمٌ عَسِيرٌ» أي شديد «عَلَى الْكافِرِينَ» لنعم الله الجاحدين لآياته «غَيْرُ يَسِيرٍ»

581
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 579

غير هين و لا سهل و هو بمعنى قوله «عَسِيرٌ» إلا أنه أعاده بلفظ آخر للتأكيد كما تقول إني واد لفلان غير مبغض و قيل معناه عسير في نفسه و غير عسير على المؤمنين لما يرون من حسن العاقبة.
[سورة المدثر (74): الآيات 11 الى 31]
ذَرْنِي وَ مَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11) وَ جَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً (12) وَ بَنِينَ شُهُوداً (13) وَ مَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15)
كَلاَّ إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَ قَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20)
ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَ بَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَ اسْتَكْبَرَ (23) فَقالَ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هذا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ (25)
سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَ ما أَدْراكَ ما سَقَرُ (27) لا تُبْقِي وَ لا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ (30)
وَ ما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَ ما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَ يَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَ لا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ لِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ الْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَ ما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَ ما هِيَ إِلاَّ ذِكْرى‏ لِلْبَشَرِ (31)

582
مجمع البيان في تفسير القرآن10

اللغة ص 583

اللغة
التمهيد و التوطئة و التذليل و التسهيل نظائر و العنيد الذاهب عن الشي‏ء على طريق العداوة له يقال عند العرق يعند عنودا فهو عاند إذا نفر و المعاندة منافرة المضادة و كذلك العناد و بعير عنود أي نافر قال الشاعر:
         إذا نزلت فاجعلوني وسطا             إني كبير لا أطيق العندا
و الإرهاق الإعجاز بالعنف و الصعود العقبة التي يصعب صعودها و هي الكؤود و عبس يعبس عبوسا إذا قبض وجهه و العبوس و التكليح و التقطيب نظائر و ضدها الطلاقة و البشاشة و البسور بدو التكره في الوجه و أصله من بسر بالأمر إذا عجل به و منه البسر لتعجيل حاله قبل الإرطاب قال توبة:
         و قد رابني منها صدود رأيته             و إعراضها عن حاجتي و بسورها
و الإصلاء إلزام موضع النار يقال أصليته فاصطلى و سقر اسم من أسماء جهنم لم يصرف للتأنيث و التعريف و أصله من سقرته الشمس سقرا إذا ألمت دماغه و الإبقاء ترك شي‏ء مما أخذ و التلويح تغيير اللون إلى الاحمرار و لوحته الشمس تلويحا فهي لواحة على المبالغة و البشر جمع بشرة و هي ظاهر الجلد و منه سمي الإنسان بشرا لأنه ظاهر الجلد بتعريه من الوبر و الريش و الصوف الذي يكون في غيره من الحيوان.
الإعراب‏
وحيدا منصوب على الحال و هو على وجهين أحدهما أن يكون من صفة الله أي ذرني و من خلقته وحدي و الآخر أن يكون من صفة المخلوق.
النزول‏
نزلت الآيات في الوليد بن المغيرة المخزومي و ذلك أن قريشا اجتمعت في دار الندوة فقال لهم الوليد إنكم ذوو أحساب و ذوو أحلام و إن العرب يأتونكم فينطلقون من عندكم على أمر مختلف فاجمعوا أمركم على شي‏ء واحد ما تقولون في هذا الرجل قالوا نقول إنه شاعر فعبس عندها و قال قد سمعنا الشعر فما يشبه قوله الشعر فقالوا نقول إنه كاهن قال إذا تأتونه فلا تجدونه يحدث بما تحدث به الكهنة قالوا نقول إنه لمجنون فقال إذا تأتونه فلا تجدونه مجنونا قالوا نقول إنه ساحر قال و ما الساحر فقالوا بشر يحببون بين المتباغضين‏

583
مجمع البيان في تفسير القرآن10

النزول ص 583

و يبغضون بين المتحابين قال فهو ساحر فخرجوا فكان لا يلقى أحد منهم النبي ص إلا قال يا ساحر يا ساحر و اشتد عليه ذلك فأنزل الله تعالى أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ إلى قوله «إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ» عن مجاهد و يروى أن النبي ص لما أنزل عليه حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ غافِرِ الذَّنْبِ وَ قابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ قام إلى المسجد و الوليد بن المغيرة قريب منه يسمع قراءته فلما فطن النبي ص لاستماعه لقراءته أعاد قراءة الآية فانطلق الوليد حتى أتى مجلس قومه بني مخزوم فقال و الله لقد سمعت من محمد آنفا كلاما ما هو من كلام الإنس و لا من كلام الجن و إن له لحلاوة و إن عليه لطلاوة و إن أعلاه لمثر و إن أسفله لمغدق و إنه ليعلو و ما يعلى ثم انصرف إلى منزله فقال قريش صبا و الله و الوليد و الله لتصبان قريش كلهم و كان يقال للوليد ريحانة قريش فقال لهم أبو جهل أنا أكفيكموه فانطلق فقعد إلى جانب الوليد حزينا فقال لي ما أراك حزينا يا ابن أخي قال هذه قريش يعيبونك على كبر سنك و يزعمون أنك زينت كلام محمد فقام مع أبي جهل حتى أتى مجلس قومه فقال أ تزعمون أن محمدا مجنون فهل رأيتموه يخنق قط فقالوا اللهم لا قال أ تزعمون أنه كاهن فهل رأيتم عليه شيئا من ذلك قالوا اللهم لا قال أ تزعمون أنه شاعر فهل رأيتموه أنه بنطق بشعر قط قالوا اللهم لا قال أ تزعمون أنه كذاب فهل جربتم عليه شيئا من الكذب فقالوا اللهم لا و كان يسمى الصادق الأمين قبل النبوة من صدقه فقالت قريش للوليد فما هو فتفكر في نفسه ثم نظر و عبس فقال ما هو إلا ساحر ما رأيتموه يفرق بين الرجل و أهله و ولده و مواليه فهو ساحر و ما يقوله سحر يؤثر.
المعنى‏
ثم قال سبحانه لنبيه ص على وجه التهديد للكافر الذي وصفه «ذَرْنِي وَ مَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً» أي دعني و إياه فإني كاف له في عقابه كما يقول القائل دعني و إياه و معناه دعني و من خلقته متوحدا بخلقه لا شريك لي في خلقه و إن حملته على صفة المخلوق فمعناه دعني و من خلقته في بطن أمه واحد لا مال له و لا ولد يعني الوليد بن المغيرة قال مقاتل معناه خل بيني و بينه فأنا أفرد بهلكته و قال ابن عباس كان الوليد يسمى الوحيد في قومه و
روى العياشي بإسناده عن زرارة و حمران و محمد بن مسلم عن أبي عبد الله و أبي جعفر ع أن الوحيد ولد الزنا
قال زرارة ذكر لأبي جعفر ع عن أحد بني هشام أنه قال في خطبته أنا ابن الوحيد فقال ويله لو علم ما الوحيد ما فخر بها فقلنا له و ما هو من لا يعرف له أب‏
ثم ذكر سبحانه رزقه المال و الولد فقال «وَ جَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُوداً» ما بين مكة إلى‏

584
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 584

الطائف من الإبل المؤبلة و الخيل المسومة و النعم المرحلة و المستغلات التي لا تنقطع غلتها و الجواري و العبيد و العين الكثيرة عن عطاء عن ابن عباس و قيل الممدود الكثير الذي لا تنقطع غلته عنه سنة حتى يدرك غلة سنة أخرى فهو ممدود على الأيام و كان له بستان بالطائف لا ينقطع خيره في شتاء و لا صيف و عشرة بنين و مائة ألف دينار عن مجاهد و قيل ستة آلاف دينار عن قتادة و قيل أربعة آلاف دينار عن سفيان «وَ بَنِينَ شُهُوداً» حضورا معه بمكة لا يغيبون عنه لغناهم عن ركوب السفر للتجارة قال سعيد بن جبير كانوا ثلاثة عشر و قال مقاتل كانوا سبعة الوليد و خالد و عمارة و هشام و العاص و قيس و عبد شمس أسلم منهم ثلاثة خالد و هشام و عمارة قالوا فما زال الوليد بعد هذه الآية في نقصان من ماله و ولده حتى هلك «وَ مَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً» أي بسطت له في العيش بسطا حتى صار مكفي المئونة من كل وجه حتى صارت أحواله متناسبة عن الحسن و غيره و قيل سهلت له و قيل سهلت له التصرف في الأمور تسهيلا «ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ» أي لم يشكرني على هذه النعم بل كفر نعمائي و هو مع ذلك يطمع أن أزيد في إنعامه ثم قال على وجه الردع و الزجر «كَلَّا» أي لا يكون كما ظن و لا أزيده مع كفره و قيل كلا معناه انزجر و ارتدع فليس الأمر على ما تتوهم ثم بين سبحانه كفره فقال «إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً» أي إنما لم نفعل به ذلك لأنه كان بحججنا و أدلتنا معاندا ينكرها مع معرفته بها و قيل عنيدا جحودا عن ابن عباس و قتادة «سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً» أي سأكلفه مشقة من العذاب لا راحة فيه و
قيل صعود جبل في جهنم من نار يؤخذ بارتقائه فإذا وضع يده عليه ذابت فإذا رفعها عادت و كذلك رجله في خبر مرفوع‏
و قيل هو جبل من صخرة ملساء في النار يكلف أن يصعدها حتى إذا بلغ أعلاها أحدر إلى أسفلها ثم يكلف أيضا أن يصعدها فذلك دأبه أبدا يجذب من أمامه بسلاسل الحديد و يضرب من خلفه بمقاطع الحديد فيصعدها في أربعين سنة عن الكلبي «إِنَّهُ فَكَّرَ» و دبر ما ذا يقول في القرآن «وَ قَدَّرَ» القول في نفسه و إنما فكر ليحتال به للباطل لأنه لو فكر على وجه طلب الرشاد لكان ممدوحا و قدر فقال إن قلنا شاعر كذبتنا العرب باعتبار ما أتى به و إن قلنا كاهن لم يصدقونا لأن كلامه لا يشبه كلام الكهان فنقول ساحر يؤثر ما أتى به عن غيره من السحرة «فَقُتِلَ» أي لعن و عذب و قيل لعن بما يجري مجرى القتل و قيل استحق العذاب عن الجبائي «كَيْفَ قَدَّرَ» قال صاحب النظم معناه لعن على أي حال قدر ما قدر من الكلام كما يقال في الكلام لأضربنه كيف صنع أي على أي حال كان منه «ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ» هذا تكرير للتأكيد و قيل معناه كيف‏

585
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 584

قدر في آياتنا ما قدر مع وضوح الحجة ثم لعن و عوقب بعقاب آخر كيف قدر في إبطال الحق تقدير آخر و قيل معناه عوقب في الآخرة مرة بعد مرة «ثُمَّ نَظَرَ» في طلب ما يدفع به القرآن و يرده «ثُمَّ عَبَسَ وَ بَسَرَ» أي كلح و كره وجهه و نظر بكراهة شديدة كالمتهم المتفكر في الشي‏ء «ثُمَّ أَدْبَرَ» عن الإيمان «وَ اسْتَكْبَرَ» أي تكبر حين دعا إليه «فَقالَ إِنْ هذا» أي ما هذا القرآن «إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ» أي يروي عن السحرة و قيل هو من الإيثار أي سحر تؤثره النفوس و تختاره لحلاوته فيها «إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ» أي ما هذا إلا كلام الإنس و ليس من عند الله و لو كان القرآن سحرا أو من كلام البشر كما قاله الملعون لأمكن السحرة أن يأتوا بمثله و لقدر هو و غيره مع فصاحتهم على الإتيان بسورة مثله ثم قال سبحانه مهددا له «سَأُصْلِيهِ سَقَرَ» أي سأدخله جهنم و ألزمه إياها و قيل سقر دركة من دركات جهنم و قيل باب من أبوابها «وَ ما أَدْراكَ» أيها السامع «ما سَقَرُ» في شدتها و هولها و ضيقها ثم وصف بعض صفاتها فقال «لا تُبْقِي وَ لا تَذَرُ» أي لا تبقي لهم لحما إلا أكلته و لا تذرهم إذا أعيدوا خلقا جديدا عن مجاهد و قيل لا تبقي شيئا إلا أحرقته و لا تذر أي لا تبقي عليهم بل يبلغ مجهودهم في أنواع العذاب عن الجبائي «لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ» أي مغيرة للجلود و قيل لافحة للجلود حتى تدعها أشد سوادا من الليل «عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ» من الملائكة هم خزنتها مالك و معه ثمانية عشر أعينهم كالبرق الخاطف و أنيابهم كالصياصي يخرج لهب النار من أفواههم ما بين منكبي أحدهم مسيرة سنة تسع كف أحدهم مثل ربيعة و مضر نزعت منهم الرحمة يرفع أحدهم سبعين ألفا فيرميهم حيث أراد من جهنم و قيل معناه على سقر تسعة عشر ملكا و هم خزان سقر و للنار و دركاتها الآخر خزان آخرون و قيل إنما خصوا بهذا العدد ليوافق المخبر الخبر لما جاء به الأنبياء قبله و ما كان من الكتب المتقدمة و يكون في ذلك مصلحة للمكلفين و قال بعضهم في تخصيص هذا العدد أن تسعة عشر يجمع أكثر القليل من العدد و أقل الكثير منه لأن العدد آحاد و عشرات و مئات و ألوف فأقل العشرات عشرة و أكثر الآحاد تسعة قالوا و لما نزلت هذه الآية قال أبو جهل لقريش ثكلتكم أمهاتكم أ تسمعون ابن أبي كبشة يخبركم أن خزنة النار تسعة عشر و أنتم الدهم الشجعان أ فيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا برجل من خزنة جهنم فقال أبو الأسد الجمحي أنا أكفيكم سبعة عشر عشرة على ظهري و سبعة على بطني فاكفوني أنتم اثنين فنزل «وَ ما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً» الآية عن ابن عباس و قتادة و الضحاك و معناه و ما جعلنا الموكلين بالنار المتولين تدبيرها إلا ملائكة جعلنا شهوتهم في تعذيب أهل‏

586
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 584

النار و لم نجعلهم من بني آدم كما تعهدون أنتم فتطيقونهم «وَ ما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا» أي لم نجعلهم على هذا العدد إلا محنة و تشديدا في التكليف للذين كفروا نعم الله و جحدوا وحدانيته حتى يتفكروا فيعلموا أن الله سبحانه حكيم لا يفعل إلا ما هو حكمة و يعلموا أنه قادر على أن يزيد في قواهم ما يقدرون به على تعذيب الخلائق و لو راجع الكفار عقولهم لعلموا أن من سلط ملكا واحدا على كافة بني آدم لقبض أرواحهم فلا يغلبونه قادر على سوق بعضهم إلى النار و جعلهم فيها بتسعة عشر من الملائكة «لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ» من اليهود و النصارى أنه حق و إن محمدا ص صادق من حيث أخبر بما هو في كتبهم من غير قراءة لها و لا تعلم منهم «وَ يَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً» أي يقينا بهذا العدد و بصحة نبوة محمد ص إذا أخبرهم أهل الكتاب أنه مثل ما في كتابهم «وَ لا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَ الْمُؤْمِنُونَ» أي و لئلا يشك هؤلاء في عدد الخزنة و المعنى و ليستيقن من لم يؤمن بمحمد ص و من آمن به صحة نبوته إذا تدبروا و تفكروا «وَ لِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ الْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا» اللام هنا لام العاقبة أي عاقبة أمر هؤلاء أن يقولوا هذا يعني المنافقين و الكافرين و قيل معناه و لأن يقولوا ما ذا أراد الله بهذا الوصف و العدد و يتدبروه فيؤدي بهم التدبر في ذلك إلى الإيمان «كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ» أي مثل ما جعلنا خزنة أصحاب النار ملائكة ذوي عدد محنة و اختبارا تكلف الخلق ليظهر الضلال و الهدى و أضافهما إلى نفسه لأن سبب ذلك التكليف و هو من جهته و قيل يضل عن طريق الجنة و الثواب من يشاء و يهدي من يشاء إليه «وَ ما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ» أي ما يعلم جنود ربك من كثرتها أحد إلا هو و لم يجعل خزنة النار تسعة عشر لقلة جنوده و لكن الحكمة اقتضت ذلك و قيل هذا جواب أبي جهل حين قال ما لمحمد أعوان إلا تسعة عشر عن مقاتل و قيل معناه و ما يعلم عدة الملائكة الذين خلقهم الله لتعذيب أهل النار إلا الله عن عطاء و المعنى أن التسعة عشر هم خزنة النار و لهم من الأعوان و الجنود ما لا يعلمه إلا الله ثم رجع إلى ذكر سقر فقال «وَ ما هِيَ إِلَّا ذِكْرى‏ لِلْبَشَرِ» أي تذكرة و موعظة للعالم ليتذكروا فيتجنبوا ما يستوجبون به ذلك و قيل معناه و ما هذه النار في الدنيا إلا تذكرة للبشر من نار الآخرة حتى يتفكروا فيها فيحذروا نار الآخرة و قيل ما هذه السورة إلا تذكرة للناس و قيل و ما هذه الملائكة التسعة عشر إلا عبرة للخلق يستدلون بذلك على كمال قدرة الله تعالى و ينزجرون عن المعاصي.

587
مجمع البيان في تفسير القرآن10

سورة المدثر الآيات 32 الى 56 ص 588

[سورة المدثر (74): الآيات 32 الى 56]
كَلاَّ وَ الْقَمَرِ (32) وَ اللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَ الصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ (34) إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيراً لِلْبَشَرِ (36)
لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37) كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلاَّ أَصْحابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41)
ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَ لَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَ كُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (45) وَ كُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46)
حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ (47) فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51)
بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى‏ صُحُفاً مُنَشَّرَةً (52) كَلاَّ بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (55) وَ ما يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى‏ وَ أَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)

القراءة
قرأ نافع و حمزة و يعقوب و خلف «إِذْ» بغير ألف «أَدْبَرَ» بالألف و الباقون إذا بالألف دبر بغير الألف و قرأ أهل المدينة و ابن عامر مستنفرة بفتح الفاء و الباقون بكسر الفاء و في الشواذ قراءة بعضهم يرويه عن ابن كثير أنها لحد الكبر بلا همزة و قراءة سعيد بن جبير صحفا منشرة بسكون الحاء و النون.
الحجة
أبو علي قال يونس دبر انقضى و أدبر تولى قال قتادة الليل إذ أدبر إذا ولى و يقال دبر و أدبر و قال و التخفيف في «لَإِحْدَى الْكُبَرِ» أن يجعل فيها الهمزة بين بين نحو سيم فأما حذف الهمزة فليس بقياس و وجه ذلك أن الهمزة حذفت حذفا كما حذفت في قوله:

588
مجمع البيان في تفسير القرآن10

الحجة ص 588

         و يلمها في هواء الجو طالبها             و لا كهذا الذي في الأرض مطلوب‏
و قد جاء ذلك في مواضع من الشعر قال أبو الأسود لزياد:
         يا با المغيرة رب أمر معضل             فرجته بالنكر مني و الدهاء
و قال آخر:
         إن لم أقاتل فالبسوني برقعا             و فتخات في اليدين أربعا
و أنشد أحمد بن يحيى:
         إن كان حزن لك با فقيمة             باعك عبدا بأخس قيمة
و قال الفرزدق:
         و عليك إثم عطية بن الخطفي             و إثم التي زجرتك إن لم تجهد
قال و الكسر في «مُسْتَنْفِرَةٌ» أولى لقوله «فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ» فهذا يدل على أنها هي استنفرت و يقال نفر و استنفر مثل سخر و استسخر و عجب و استعجب و من قال مستنفرة فكان القسورة استنفرتها و الرامي قال أبو عبيدة مستنفرة مذعورة و أنشد الزجاج:
         أمسك حمارك إنه مستنفر             في إثر أحمرة عمدن لغرب‏
و رويت بالكسر أيضا قال ابن سلام سألت أبا سوار العرني و كان أعرابيا فصيحا قارئا للقرآن فقلت «كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ» ما ذا قال حمر مستنفرة طردها قسورة قلت إنما هو فرت من قسورة فقال أ فرت قلت نعم فقال «مُسْتَنْفِرَةٌ» قال ابن جني أما سكون الحاء من صحف فلغة تميمية و أما منشرة بسكون النون فإن العرف في الاستعمال نشرت الثوب و غيره و أنشر الله الموتى فنشروا هم قال و قد جاء عنهم أيضا نشر الله الميت قال المتنبي:
         ردت صنائعه إليه حياته             فكأنه من نشرها منشور
و لم نعلمهم قالوا أنشرت الثوب و نحوه إلا أنه يجوز أن يشبه بشي‏ء و كما جاز أن يشبه‏

589
مجمع البيان في تفسير القرآن10

الحجة ص 588

الميت بالشي‏ء المطوي حتى قال المتنبي منشور فكذلك يجوز أن يشبه المطوي بالميت فيقال صحف منشرة أي كأنها بطيها ميتة فلما نشرت قيل منشرة.
اللغة
اليقين العلم الذي يوجد برد الثقة به في الصدر و يقال وجد فلان برد اليقين و ثلج اليقين في صدره و لذلك لا يوصف سبحانه بأنه متيقن و القسورة الأسد و قيل هم الرماة من قسره يقسره قسرا إذا قهره و أصل الفرار الانكشاف عن الشي‏ء و منه يقال فر الفرس يفر فرا إذا كشف عن سنة و الصحف جمع الصحيفة و هي الورقة التي من شأنها أن تقلب من جهة إلى جهة لما فيها من الكتابة و منه المصحف و جمعه مصاحف.
الإعراب‏
 «نَذِيراً لِلْبَشَرِ» اختلف في وجه انتصابه فقيل نصب على الحال و هو اسم فاعل بمعنى منذر و ذو الحال الضمير في إحدى الكبر العائد إلى الهاء في أنها و هي كناية عن النار فالمعنى أنها لكبيرة في حال الإنذار و أنا ذكره لأن معناه معنى العذاب و يجوز أن يكون التذكير على قولهم امرأة طالق أي ذات طلاق و كذلك نذير بمعنى ذات إنذار و قيل هو حال يتعلق بأول السورة فكأنه قال يا أيها المدثر قم نذيرا للبشر فأنذر و قيل إن النذير هنا بمعنى الإنذار و تقديره إنذارا للبشر فيكون نصبا على المصدر لأنه لما قال «إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ» دل على أنه أنذرهم بها إنذارا و قوله «مُعْرِضِينَ» منصوب على الحال مما في اللام من قوله «فَما لَهُمْ» من معنى الفعل و التقدير أي شي‏ء ثبت لهم معرضين عن التذكرة و «كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ» جملة في موضع الحال من معرضين و هي حال من حال أو حال بعد حال أي مشابهين حمرا.
المعنى‏
ثم أقسم سبحانه على عظيم ما ذكره من الوعيد فقال «كَلَّا» أي حقا و قيل معناه ليس الأمر على ما يتوهمونه من أنهم يمكنهم دفع خزنة النار و غلبتهم «وَ الْقَمَرِ» أقسم بالظهر لما فيه من الآيات العجيبة في طلوعه و غروبه و مسيره و زيادته و نقصانه «وَ اللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ» و أقسم بالليل إذا ولى و ذهب عن قتادة و قيل أدبر إذا جاء بعد غيره و أدبر إذا ولى مدبرا فعلى هذا يكون المعنى في إذ أدبر إذا جاء الليل في أثر النهار و في إذا أدبر إذا ولى الليل فجاء الصبح عقيبة و على القول الأول فهما لغتان معناهما ولى و انقضى «وَ الصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ» أي إذا أضاء و أنار عن قتادة و هم قسم آخر و قيل معناه إذا كشف الظلام و أضاء الأشخاص و قال قوم التقدير في هذه الأقسام و رب هذه الأشياء لأن اليمين لا يكون إلا بالله تعالى «إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ» هذا جواب القسم يعني أن سقر التي هي النار لإحدى العظائم و الكبر جمع الكبرى و هي العظمى عن ابن عباس و مجاهد و قتادة و قيل معناه أن آيات القرآن لإحدى الكبر في الوعيد «نَذِيراً لِلْبَشَرِ» أي منذرا و مخوفا معلما مواضع المخافة

590
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 590

و النذير الحكيم بالتحذير عما ينبغي أن يحذر منه فكل نبي نذير لأنه حكيم بتحذيره عقاب الله تعالى على معاصيه و اختلف فيه فقيل إنه من صفة النار عن الحسن و قيل من صفة النبي ص فكأنه قال قم نذيرا عن ابن زيد و قيل من صفة الله تعالى عن ابن رزين و على هذا يكون حالا من فعل القسم المحذوف «لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ» أي يتقدم في طاعة الله أو يتأخر عنها بالمعصية عن قتادة و المشيئة هي الإرادة فيكون المعنى أن هذا الإنذار متوجه إلى من يمكنه أن يتقي عذاب النار بأن يتجنب المعاصي و يفعل الطاعات فيقدر على التقدم و التأخر في أمره بخلاف قول أهل الجبر القائلين ما لا يطاق و قيل إنه سبحانه عبر عن الإيمان و الطاعة بالتقدم لأن صاحبه متقدم في العقول و الدرجات و عن الكفر و المعصية بالتأخير لأنه متأخر في العقول و الدرجات و
روى محمد بن الفضيل عن أبي الفضل عن أبي الحسن (ع) أنه قال كل من تقدم إلى ولايتنا تأخر عن سقر و كل من تأخر عن ولايتنا تقدم إلى سقر
 «كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ» أي مرهونة بعملها محبوسة به مطالبة بما كسبته من طاعة أو من معصية فالرهن أخذ الشي‏ء بأمر على أن لا يرد إلا بالخروج منه قال زهير:
         و فارقتك برهن لا فكاك له             يوم الوداع فأمسى الرهن قد غلقا
فكذلك هؤلاء الضلال قد أخذوا برهن لا فكاك له و الكسب هو كل ما يجتلب به نفع أو يدفع به ضرر و يدخل فيه الفعل و أن لا يفعل ثم استثنى سبحانه أصحاب اليمين فقال «إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ» و هم الذين يعطون كتبهم بأيمانهم و قيل هم الذين يسلك بهم ذات اليمين قال قتادة غلق الناس كلهم إلا أصحاب اليمين و هم الذين لا ذنب لهم فهم ميامين على أنفسهم و قيل هم المؤمنون المستحقون للثواب عن الحسن و قيل هم الملائكة عن ابن عباس و
قال الباقر (ع) نحن و شيعتنا أصحاب اليمين‏
 «فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ» أي يسأل بعضهم بعضا و قيل يساءلون «عَنِ الْمُجْرِمِينَ» أي عن حالهم و عن ذنوبهم التي استحقوا بها النار «ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ» هذا سؤال توبيخ أي تطلع أهل الجنة على أهل النار فيقولون لهم ما أوقعكم في النار «قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ» أي كنا لا نصلي الصلاة المكتوبة على ما قررها الشرع و في هذا دلالة على أن الإخلال بالجواب يستحق به الذم و العقاب لأنهم علقوا استحقاقهم العقاب بالإخلال في الصلاة و فيه دلالة أيضا على أن الكفار مخاطبون بالعبادات الشرعية لأنه حكاية عن الكفار بدلالة قوله «وَ كُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ» و قوله «وَ لَمْ نَك‏

591
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 590

نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ» معناه لم نك نخرج الزكوات التي كانت واجبة علينا و الكفارات التي وجب دفعها إلى المساكين و هم الفقراء «وَ كُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ» أي كلما غوى غاو بالدخول في الباطل غوينا معه عن قتادة و المعنى كنا نلوث أنفسنا بالمرور في الباطل كتلويث الرجل بالخوض فلما كان هؤلاء يجرون مع من يكذب بالحق مشيعين لهم في القول كانوا خائضين معهم «وَ كُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ» مع ذلك أي نجحد يوم الجزاء و هو يوم القيامة و الجزاء هو الإيصال إلى كل من له شي‏ء أم عليه شي‏ء ما يستحقه فيوم الدين هو يوم أخذ المستحق بالعدل «حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ» أي أتانا الموت على هذه الحالة و قيل حتى جاءنا العلم اليقين من ذلك بأن عايناه «فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ» أي شفاعة الملائكة و النبيين كما نفعت الموحدين عن ابن عباس في رواية عطاء و قال الحسن لم تنفعهم شفاعة ملك و لا شهيد و لا مؤمن و يعضد هذا الإجماع على أن عقاب الكفر لا يسقط بالشفاعة و قد صحت الرواية عن عبد الله بن مسعود قال يشفع نبيكم ص رابع أربعة جبريل ثم إبراهيم ثم موسى أو عيسى ثم نبيكم ص لا يشفع أحد أكثر مما يشفع فيه نبيكم ص ثم النبيون ثم الصديقون ثم الشهداء و يبقى قوم في جهنم فيقال لهم «ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ» إلى قوله «فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ» قال ابن مسعود فهؤلاء الذين يبقون في جهنم و
عن الحسن عن رسول الله ص قال يقول الرجل من أهل الجنة يوم القيامة أي رب عبدك فلان سقاني شربة من ماء في الدنيا فشفعني فيه فيقول اذهب فأخرجه من النار فيذهب فيتجسس في النار حتى يخرجه منها
و
قال ص إن من أمتي من سيدخل الله الجنة بشفاعته أكثر من مضر
 «فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ» أي أي شي‏ء لهم و لم أعرضوا و تولوا عن القرآن فلم يؤمنوا به و التذكرة التذكير بمواعظ القرآن و المعنى لا شي‏ء لهم في الآخرة إذا أعرضوا عن القرآن و نفروا عنه «كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ» أي كأنهم حمر وحشية نافرة «فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ» يعني الأسد عن عطاء و الكلبي قال ابن عباس الحمر الوحشية إذا عاينت الأسد هربت منه كذلك هؤلاء الكفار إذا سمعوا النبي ص يقرأ القرآن هربوا منه و قيل القسورة الرماة و رجال القنص عن ابن عباس بخلاف و الضحاك و مقاتل و مجاهد و قال سعيد بن جبير هم القناص «بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى‏ صُحُفاً مُنَشَّرَةً» أي كتبا من السماء تنزل إليهم بأسمائهم أن آمنوا بمحمد ص عن الحسن و قتادة و ابن زيد و قيل معناه أنهم يريدون صحفا من الله تعالى بالبراءة من العقوبة و إسباغ النعمة حتى يؤمنوا و إلا قاموا على كفرهم و قيل يريد كل واحد منهم أن يكون رسولا يوحى إليه متبوعا و أنف من‏

592
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 590

أن يكون تابعا و قيل هو تفسيرها ما ذكره الله تعالى في قوله وَ لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ فقال سبحانه «كَلَّا» أي حقا ليس الأمر على ما قالوا و لا يكون كذلك «بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ» بجحدهم صحتها و لو خافوا عذاب الآخرة لما اقترحوا الآيات بعد قيام الدلالات و المعجزات «كَلَّا» أي حقا «إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ» أي إن القرآن تذكير و موعظة «فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ» أي اتعظ به لأنه قادر عليه «وَ ما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ» هذه المشيئة غير الأولى إذ لو كانت واحدة لتناقض فالأولى مشيئة اختيار و الثانية مشيئة إكراه و إجبار و المعنى أن هؤلاء الكفار لا يذكرون إلا أن يجبرهم الله تعالى على ذلك و قيل معناه إلا أن يشاء الله من حيث أمر به و نهى عن تركه و وعد الثواب على فعله و أوعد بالعقاب إن لم تفعله فكانت مشيئته سابقة أي لا تشاءون إلا و الله قد شاء ذلك «هُوَ أَهْلُ التَّقْوى‏ وَ أَهْلُ الْمَغْفِرَةِ» أي هو أهل أن يتقي محارمه و أهل أن يغفر الذنوب عن قتادة و
روي مرفوعا عن أنس قال إن رسول الله ص تلا هذه الآية فقال قال الله سبحانه أنا أهل أن أتقى فلا يجعل معي إليه فمن اتقى أن يجعل معي إلها فأنا أهل أن أغفر له‏
و قيل معناه و هو أهل أن يتقى عقابه و أهل أن يعمل له بما يؤدي إلى مغفرته.

593
مجمع البيان في تفسير القرآن10

سورة القيامة مكية و آياتها أربعون ص 594

(75) سورة القيامة مكية و آياتها أربعون (40)
[توضيح‏]
أربعون آية كوفي و تسع و ثلاثون في الباقين.
اختلافها
آية «لِتَعْجَلَ بِهِ» كوفي.
فضلها
أبي بن كعب عن النبي ص و من قرأ سورة القيامة شهدت أنا و جبريل له يوم القيامة أنه كان مؤمنا بيوم القيامة و جاء و وجهه مسفر على وجوه الخلائق يوم القيامة
أبو بصير عن أبي عبد الله (ع) قال من أدمن قراءة لا أقسم و كان يعمل بها بعثها الله يوم القيامة معه في قبره في أحسن صورة تبشر و تضحك في وجهه حتى يجوز الصراط و الميزان.
تفسيرها
لما ختم الله سبحانه سورة المدثر بذكر القيامة و أن الكافر لا يؤمن بها افتتح هذه السورة بذكر القيامة و ذكر أهوالها فقال:

594
مجمع البيان في تفسير القرآن10

سورة القيامة الآيات 1 الى 15 ص 595

[سورة القيامة (75): الآيات 1 الى 15]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏
لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (1) وَ لا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (3) بَلى‏ قادِرِينَ عَلى‏ أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (4)
بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ (5) يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ (6) فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَ خَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَ جُمِعَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ (9)
يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلاَّ لا وَزَرَ (11) إِلى‏ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَ أَخَّرَ (13) بَلِ الْإِنْسانُ عَلى‏ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14)
وَ لَوْ أَلْقى‏ مَعاذِيرَهُ (15)

القراءة
قرأ القواس لأقسم و الباقون «لا أُقْسِمُ» و لم يختلفوا في الثاني أنه «وَ لا أُقْسِمُ» و قرأ أهل المدينة برق البصر بفتح الراء و الباقون «بَرِقَ» بالكسر و في الشواذ قراءة ابن عباس و عكرمة و أيوب السختياني و الحسن المفر بفتح الميم و كسر الفاء و قراءة الزهري المفر بكسر الميم و فتح الفاء.
الحجة
قال أبو علي من قرأ «لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ» كانت لا على قوله صلة كالتي في قوله لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ فإن قلت لا و ما و الحروف التي هن زوائد إنما تكون بين كلامين كقوله مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ و فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ و فَبِما نَقْضِهِمْ* و لا تكاد تزاد أولا فقد قالوا إن مجاري القرآن مجاري الكلام الواحد و السورة الواحدة قال و الذي يدل على ذلك أنه قد يذكر الشي‏ء في سورة و يجي‏ء جوابه في سورة أخرى كقوله يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ جاء جوابه في سورة أخرى ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ فلا فصل على هذا بين قوله لِئَلَّا يَعْلَمَ و بين قوله «لا أُقْسِمُ» فأما من قرأ لأقسم فإن اللام تجوز أن تكون اللام التي تصحبها إحدى النونين في أكثر الأمر و قد حكى ذلك سيبويه و أجازه و كما لم يلحق النون مع الفعل الآتي في لأقسم كذلك لم يحلق اللام مع النون في نحو قول الشاعر:
         و قتل مرة أثأرن فإنه             فرع و إن أخاكم لم يثأر
يريد لأثأرن فحذف اللام و يجوز أن يكون اللام لحقت فعل الحال و إذا كان المثال للحال لم يتبعها النون لأن هذه النون التي تلحق الفعل في أكثر الأمر إنما هي للفصل بين فعل الحال و الفعل الآتي و قد يمكن أن يكون لا ردا لكلام و زعموا أن الحسن قرأ «لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ وَ لا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ» و قال أقسم بالأولى و لم يقسم بالثانية و حكي نحو ذلك عن ابن أبي إسحاق أيضا و ذكر أبو علي في غير كتاب الحجة أن اللام زيادة لأن القسم لا يدخل‏

595
مجمع البيان في تفسير القرآن10

الحجة ص 595

على القسم و قال ابن جني ينبغي أن تكون هذه اللام لام الابتداء أي لأنا أقسم بيوم القيامة و حذف المبتدأ للعلم به و قال أبو الحسن برق البصر أكثر في كلام العرب و المفتوحة لغة قال الزجاج من قرأ «بَرِقَ» فمعناه فزع و تحير و من قرأ برق فهو من بريق العينين و قال أبو عبيدة برق البصر إذا شق و أنشد:
         لما أتاني ابن صبيح راغبا             أعطيته عيساء منها فبرق‏
و المفر الفرار و المفر بكسر الفاء الموضع الذي يفر إليه و المفر بكسر الميم و فتح الفاء الإنسان الجيد الفرار و قال امرؤ القيس:
         مكر مفر مقبل مدبر معا             كجلمود صخر حطه السيل من عل‏
الإعراب‏
 «بَلى‏ قادِرِينَ» نصب على الحال و التقدير بلى بجمعها قادرين فالعامل في الحال محذوف لدلالة ما تقدم عليه كما في قوله فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالًا أي فصلوا رجالا و مفعول يريد محذوف تقديره بل يريد الإنسان الحياة ليفجر و يسأل جملة في موضع الحال و «لا وَزَرَ» خبره محذوف و تقديره لا وزر في الوجود و قوله «بَلِ الْإِنْسانُ عَلى‏ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ» قيل في تفسيره أقوال (أحدها) أن المعنى بل الإنسان على نفسه عين بصيرة (و الثاني) حجة بصيرة أي بينة (و الثالث) أن الهاء للمبالغة كما يقال رجل علامة و نسابة و قال علي بن عيسى تقديره بل الإنسان على نفسه من نفسه بصيرة أي جوارحه شاهدة عليه يوم القيامة فأنت بصيرة لأنه حمل الإنسان على النفس و جواب لو محذوف تقديره و لو ألقى معاذيره و لم ينفعه ذلك و يجوز أن يكون جوابه فيما سبق.
المعنى‏
 «لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ» قيل إن لا صلة و معناه أقسم بيوم القيامة عن ابن عباس و سعيد بن جبير و قيل إن لا رد على الذين أنكروا البعث و النشور من المشركين فكأنه قال لا كما تظنون ثم ابتدأ القسم فقال أقسم بيوم القيامة أنكم مبعوثون ليكون فرقا بين اليمين التي تكون جحدا و بين اليمين المستأنفة و قيل معناه لا أقسم بيوم القيامة لظهورها بالدلائل العقلية و السمعية و قيل معناه لا أقسم بيوم القيامة فإنكم لا تقرون بها «وَ لا أُقْسِمُ بِالنَّفْس‏

596
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 596

اللَّوَّامَةِ» فإنكم لا تقرون بأن النفس تلوم صاحبها يوم القيامة و لكن استخبركم فأخبروني هل أقدر على أن أجمع العظام المتفرقة و هذان الوجهان عن أبي مسلم و قيل معناه أقسم بيوم القيامة و لا أقسم بالنفس اللوامة أقسم بالأول و لم يقسم بالثاني عن الحسن قال علي بن عيسى و هذا ضعيف لأنه يخرج عن تشاكل الكلام و الأولى أن يكونا قسمين و هو قول الأكثرين و جواب القسم محذوف تقديره ما الأمر على ما تتوهمون و إنكم تبعثون أو لتبعثن و من قرأ لأقسم فإنه يجعلها جواب القسم و حذف النون لأنه أراد الحال و قد ذكرنا ما قيل فيه و النفس اللوامة الكثيرة اللوم و ليس من نفس برة و لا فاجرة إلا و هي تلوم نفسها يوم القيامة إن كانت عملت خيرا قالت هلا ازددت و إن كانت عملت سوءا قالت يا ليتني لم أفعل عن ابن عباس في رواية عطاء و قال مجاهد تلوم على ما مضى تقول لم فعلت و لم لم أفعل و قيل النفس اللوامة الكافرة الفاجرة عن قتادة و مجاهد و معناه ذات اللوم الكثير لما سلف منها و قيل هي النفس المؤمنة تلوم نفسها في الدنيا و تحاسبها فتقول ما ذا فعلت و لم قصرت فتكون مفكرة في العواقب أبدا و الفاجر لا يفكر في أمر الآخرة و لا يحاسب نفسه عن الحسن «أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ» صورته صورة الاستفهام و معناه الإنكار على منكري البعث و معناه أ يحسب الكافر بالبعث و النشور يعني جنس الكفار «أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ» أي أنه لن نعيده إلى ما كان أولا خلقا جديدا بعد أن صار رفاتا فكني عن البعث بجمع العظام ثم قال سبحانه «بَلى‏» نجمعها «قادِرِينَ عَلى‏ أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ» على ما كانت و إن قلت عظامها و صغرت فنردها كما كانت و نؤلف بينها حتى يستوي البنان و من قدر على جمع صغار العظام فهو على جمع كبارها أقدر عن الزجاج و الجبائي و أبي مسلم و قيل معناه نقدر على أن نجعل بنانه كالخلف و الحافر فيتناول المأكول بفيه و لكنا مننا عليه بالأنامل ليكمل بها المنفعة و يتهيأ له القبض و البسط و الارتفاق بالأعمال اللطيفة كالكتابة و غيرها عن ابن عباس و قتادة «بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ» أي يريد الكافر «لِيَفْجُرَ أَمامَهُ» هذا إخبار من الله تعالى أن الإنسان يمضي قدما في معاصي الله تعالى راكبا رأسه لا ينزع عنها و لا يتوب عن مجاهد و الحسن و عكرمة و السدي أي فهذا هو الذي يحمله على الإعراض عن مقدورات ربه فلذلك لا يقر بالبعث و ينكر النشور و قيل ليفجر أمامه أي ليفكر بما قدامه من البعث و يكذب به فالفجور و هو التكذيب و عن الزجاج قال و يجوز أن يريد أنه يسوف التوبة و يقدم الأعمال السيئة و قال ابن الأنباري يريد أن يفجر ما امتد عمره و ليس في نيته أن يرجع عن ذنب يرتكبه و قيل معناه أنه يقول أعمل ثم أتوب عن عطية و المراد أنه يتعجل المعصية ثم يسوف التوبة يقول غدا و بعد غد «يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ» معناه أن الذي يفجر أمامه يسأل متى تكون القيامة فإن معنى أيان متى إلا أن السؤال بمتى أكثر من السؤال بأيان‏

597
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 596

فلذلك حسن أن يفسر بها و إنما يسأل عن ذلك تكذيبا و اشتغالا بالدنيا من غير تفكر في العاقبة فإذا خوف بالقيامة قال متى يكون ذلك ثم قال سبحانه «فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ» أي شخص البصر عند معاينة ملك الموت فلا يطرف من شدة الفزع و قيل إذا فزع و تحير لما يرى من أهوال القيامة و أحوالها مما كان يكذب به في الدنيا و هذا كقوله لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ عن قتادة و أبي مسلم «وَ خَسَفَ الْقَمَرُ» أي ذهب نوره و ضوءه «وَ جُمِعَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ» جمع بينهما في ذهاب ضوئهما بالخسوف ليتكامل ظلام الأرض على أهلها حتى يراها كل أحد بغير نور و ضياء عن مجاهد و هو اختيار الفراء و الزجاج و الجمع على ثلاثة أقسام جمع في المكان و جمع في الزمان و جمع الأعراض في المحل فأما جمع الشيئين في حكم أو صفة فمجاز لأن حقيقة الجمع جعل أحد الشيئين مع الآخر و قيل جمع بينهما في طلوعهما من المغرب كالبعيرين القرينين عن ابن مسعود «يَقُولُ الْإِنْسانُ» المكذب بالقيامة «يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ» أي أين الفرار و يجوز أن يكون معناه أين موضع الفرار عن الفراء و قال الزجاج المفر بالفتح الفرار و المفر بالكسر مكان الفرار قال الله سبحانه «كَلَّا لا وَزَرَ» أي لا مهرب و لا ملجأ لهم يلجئون إليه و الوزر ما يتحصن به من جبل أو غيره و منه الوزير الذي يلجأ إليه في الأمور و قيل معناه لا حصن عن الضحاك «إِلى‏ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ» أي المنتهى عن قتادة أي ينتهي الخلق يومئذ إلى حكمه و أمره فلا حكم و لا أمر لأحد غيره و قيل المستقر المكان الذي يستقر فيه المؤمن و الكافر و ذلك إلى الله لا إلى العباد و قيل المستقر المصير و المرجع عن ابن مسعود و المستقر على وجهين مستقر إلى أمد و مستقر إلى الأبد «يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَ أَخَّرَ» أي يخبر الإنسان يوم القيامة بأول عمله و آخره فيجازى به عن مجاهد و قيل معناه بما قدم من العمل في حياته و ما سنه فعمل به بعد موته من خير أو شر و قيل بما قدم من المعاصي و أخر من الطاعات عن ابن عباس و قيل بما أخذ و ترك عن ابن زيد و قيل بما قدم من طاعة الله و أخر من حق الله فضيعه عن قتادة و قيل بما قدم من ماله لنفسه و ما خلقه لورثته بعده عن زيد بن أسلم و حقيقة النبإ الخبر بما يعظم شأنه و إنما حسن في هذا الموضع لأن ما جرى مجرى المباح لا يعتد به في هذا الباب و إنما هو ما يستحق عليه الجزاء فأما ما وجوده كعدمه فلا اعتبار به «بَلِ الْإِنْسانُ عَلى‏ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ» أي إن جوارحه تشهد عليه بما عمل فهو شاهد على نفسه بشهادة جوارحه عليه عن ابن عباس و عكرمة و مقاتل و قال القتيبي أقام جوارحه مقام نفسه و لذلك أنث لأن المراد بالإنسان هاهنا الجوارح و قال الأخفش هي كقولك فلان حجة و عبرة و دليله قوله تعالى كَفى‏ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً و قيل معناه أن الإنسان بصير بنفسه و عمله و
روى العياشي بإسناده عن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (ع) قال ما يصنع‏

598
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 596

أحدكم أن يظهر حسنا و يسر سيئا أ ليس إذا رجع إلى نفسه يعلم أنه ليس كذلك و الله سبحانه يقول «بَلِ الْإِنْسانُ عَلى‏ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ» إن السريرة إذا صلحت قويت العلانية
عن عمر بن يزيد عن أبي عبد الله (ع) أنه تلا هذه الآية ثم قال ما يصنع الإنسان أن يتعذر إلى الناس خلاف ما يعلم الله منه أن رسول الله ص كان يقول من أسر سريرة رداه الله رداءها إن خيرا فخير و إن شرا فشر
و
عن زرارة قال سألت أبا عبد الله ما حد المرض الذي يفطر صاحبه قال «بَلِ الْإِنْسانُ عَلى‏ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ» هو أعلم بما يطيق و في رواية أخرى هو أعلم بنفسه ذاك إليه‏
 «وَ لَوْ أَلْقى‏ مَعاذِيرَهُ» أي و لو اعتذر و جادل عن نفسه لم ينفعه ذلك يقال معذرة و معاذر و معاذير و هي ذكر موانع تقطع عن الفعل المطلوب و قيل معناه و لو أرخى الستور و أغلق الأبواب عن الضحاك و السدي قال الزجاج معناه و لو أدلى بكل حجة عنده و جاء في التفسير المعاذير الستور واحدها معذار و قال المبرد هي لغة طائية و المعنى على هذا القول و إن أسبل الستور ليخفي ما يعمل فإن نفسه شاهدة عليه.
[سورة القيامة (75): الآيات 16 الى 25]
لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ (17) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (19) كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ (20)
وَ تَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (22) إِلى‏ رَبِّها ناظِرَةٌ (23) وَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ (25)

القراءة
قرأ أهل المدينة و الكوفة تحبون و تذرون بالتاء و الباقون بالياء.
الحجة
من قرأ بالتاء فعلى معنى قل لهم بل تحبون و تذرون و من قرأ بالياء فعلى معنى هم يحبون و يذرون قال أبو علي الياء على ما تقدم من ذكر الإنسان فإن المراد به الكثرة و العموم كقوله إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً ثم قال إِلَّا الْمُصَلِّينَ.
اللغة
التحريك تصيير الشي‏ء من مكان إلى مكان أو من جهة إلى جهة بفعل الحركة

599
مجمع البيان في تفسير القرآن10

اللغة ص 599

فيه و الحركة ما به يتحرك المتحرك و المتحرك هو المنتقل من جهة إلى غيرها و اللسان آلة الكلام و العجلة طلب عمل الشي‏ء قبل وقته الذي ينبغي أن يعمل فيه و نقيضه الإبطاء و السرعة عمل الشي‏ء في أول الوقت الذي هو له و ضده الأناة و القرآن أصله الضم و الجمع و هو مصدر كالرجحان و النقصان و البيان إظهار المعنى للنفس بما يتميز به عن غيره و نقيض البيان الإخفاء و الإغماض و النصرة مثل البهجة و الطلاقة و ضده العبوس و البسور نضر وجهه ينضر نضارة و نضرة فهو ناضر و النظر تقليب الحدقة الصحيحة نحو المرئي طلبا لرؤيته و يكون النظر بمعنى الانتظار كما قال عز شأنه وَ إِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ أي منتظرة و قال الشاعر:
         وجوه يوم بدر ناظرات             إلى الرحمن تنتظر الفلاحا
ثم يستعمل في الفكر فيقال نظرت في هذه المسألة أي تفكرت و منه المناظرة و تكون من المقابلة يقال دور بني فلان تتناظر أي تتقابل و الفاقرة الكاسرة لفقار الظهر شدة و قيل الفاقرة الداهية و الآبدة.
المعنى‏
ثم خاطب سبحانه نبيه ص فقال «لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ» قال ابن عباس كان النبي ص إذا نزل عليه القرآن عجل بتحريك لسانه لحبه إياه و حرصه على أخذه و ضبطه مخافة أن ينساه فنهاه الله عن ذلك و في رواية سعيد بن جبير عنه أنه ص كان يعاجل من التنزيل شدة و كان يشتد عليه حفظه فكان يحرك لسانه و شفتيه قبل فراغ جبريل من قراءة الوحي فقال سبحانه «لا تُحَرِّكْ بِهِ» أي بالوحي أو بالقرآن لسانك يعني بالقراءة لتعجل به أي لتأخذه كما قال و لا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضي إليك وحيه «إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ» في صدرك حتى تحفظه «وَ قُرْآنَهُ» أي و تأليفه على ما نزل عليك عن قتادة و قيل معناه إن علينا جمعه و قرآنه عليك حتى تحفظه و يمكنك تلاوته فلا تخف فوت شي‏ء منه عن ابن عباس و الضحاك «فَإِذا قَرَأْناهُ» أي قرأه جبريل عليك بأمرنا «فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ» أي قراءته عن ابن عباس و المعنى اقرأه إذا فرغ جبريل عن قراءته قال فكان النبي ص بعد هذا إذا نزل عليه جبريل (ع) أطرق فإذا ذهب قرأ و قيل «فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ» أي فاعمل بما فيه من الأحكام و الحلال و الحرام عن قتادة و الضحاك و قال البلخي الذي اختاره أنه لم يرد القرآن و إنما أراد قراءة العباد لكتبهم يوم القيامة يدل على ذلك ما قبله و ما بعده و ليس فيه شي‏ء يدل على أنه القرآن و لا شي‏ء من أحكام الدنيا و في ذلك تقريع للعبد و توبيخ له حين لا تنفعه العجلة يقول لا تحرك لسانك بما تقرأه من صحيفتك التي فيها أعمالك يعني اقرأ كتابك و لا تعجل فإن هذا الذي هو على نفسه‏

600
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 600

بصيرة إذا رأى سيئاته ضجر و استعجل فيقال له توبيخا لا تعجل و تثبت لتعلم الحجة عليك فإنا نجمعها لك فإذا جمعناه فاتبع ما جمع عليك بالانقياد لحكمه و الاستسلام للتبعة فيه فإنه لا يمكنك إنكاره «ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ» لو أنكرت و قال الحسن معناه ثم إن علينا بيان ما أنبأناك أنا فاعلون في الآخرة و تحقيقه و قيل يريد أنا نبين لك معناه إذا حفظته عن قتادة و قيل معناه ثم إن علينا أن نحفظه عليك حتى تبين للناس بتلاوتك إياه عليهم و قيل معناه علينا أن ننزله قرآنا عربيا فيه بيان للناس عن الزجاج و في هذا دلالة على أنه لا تعمية في القرآن و لا الغاز و لا دلالة فيه على جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة و إنما يدل على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب «كَلَّا» أي لا تتدبرون القرآن و ما فيه من البيان «بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَ تَذَرُونَ الْآخِرَةَ» أي تختارون الدنيا على العقبي فيعلمون للدنيا لا للآخرة جهلا منهم و سوء اختيار ثم بين سبحانه حال الناس في الآخرة فقال «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ» يعني يوم القيامة «ناضِرَةٌ» أي ناعمة بهجة حسنة عن ابن عباس و الحسن و قيل مسرورة عن مجاهد و قيل مضيئة بيض يعلوها النور عن السدي و مقاتل جعل الله سبحانه وجوه المؤمنين المستحقين للثواب بهذه الصفة علامة للخلق و الملائكة على أنهم الفائزون «إِلى‏ رَبِّها ناظِرَةٌ» اختلف فيه على وجهين (أحدهما) أن معناه نظر العين (و الثاني) أنه الانتظار و اختلف من حمله على نظر العين على قولين (أحدهما) أن المراد إلى ثواب ربها ناظرة أي هي ناظرة إلى نعيم الجنة حالا بعد حال فيزداد بذلك سرورها و ذكر الوجوه و المراد أصحاب الوجوه روي ذلك عن جماعة من علماء المفسرين من الصحابة و التابعين لهم و غيرهم فحذف المضاف و أقيم المضاف إليه مقامه كما في قوله تعالى وَ جاءَ رَبُّكَ أي أمر ربك و قوله وَ أَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ أي إلى طاعة العزيز الغفار و توحيده و قوله إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ أي أولياء الله (و الآخر) أن النظر بمعنى الرؤية و المعنى تنظر إلى الله معاينة رووا ذلك عن الكلبي و مقاتل و عطاء و غيرهم و هذا لا يجوز لأن كل منظور إليه بالعين مشار إليه بالحدقة و اللحاظ و الله يتعالى عن أن يشار إليه بالعين كما يجل سبحانه عن أن يشار إليه بالأصابع و أيضا فإن الرؤية بالحاسة لا تتم إلا بالمقابلة و التوجه و الله يتعالى عن ذلك بالاتفاق و أيضا فإن رؤية الحاسة لا تتم إلا باتصال الشعاع بالمرئي و الله منزه عن اتصال الشعاع به على أن النظر لا يفيد الرؤية في اللغة فإنه إذا علق بالعين أفاد طلب الرؤية كما أنه إذا علق بالقلب أفاد طلب المعرفة بدلالة قولهم نظرت إلى الهلال فلم أره فلو أفاد النظر الرؤية لكان هذا القول ساقطا متناقضا و قولهم ما زلت أنظر إليه حتى رأيته و الشي‏ء لا يجعل غاية لنفسه فلا يقال ما زلت أراه حتى رأيته و لأنا نعلم الناظر ناظرا بالضرورة و لا نعلمه رائيا بالضرورة بدلالة أنا نسأله‏

601
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 600

هل رأيت أم لا و أما من حمل النظر في الآية على الانتظار فإنهم اختلفوا في معناه على أقوال (أحدها)
أن المعنى منتظرة لثواب ربها و روي ذلك عن مجاهد و الحسن و سعيد بن جبير و الضحاك و هو المروي عن علي (ع)
و من اعترض على هذا بأن قال إن النظر بمعنى الانتظار لا يتعدى بإلى فلا يقال انتظرت إليه و إنما يقال انتظرته فالجواب عنه على وجوه منها أنه قد جاء في الشعر بمعنى الانتظار معدي بإلى كما في البيت الذي سبق ذكره:
         ناظرات إلى الرحمن‏
و كقول جميل بن معمر:
         و إذا نظرت إليك من ملك             و البحر دونك جدتني نعما
و قول الآخر:
        إني إليك لما وعدت لناظر             نظر الفقير إلى الغني الموسر
و نظائره كثيرة و منها أن تحمل إلى في قوله «إِلى‏ رَبِّها ناظِرَةٌ» على أنها اسم فهو واحد الآلاء التي هي النعم فإن في واحدها أربع لغات إلي و ألى مثل معا و قفا و إلي و إلي مثل جدي و حسي و سقط التنوين بالإضافة و قال أعشى وائل:
         أبيض لا يرهب الهزال و لا             يقطع رحما و لا يخون إلى‏
أي لا يخون نعمة من أنعم عليه و ليس لأحد أن يقول إن هذا من أقوال المتأخرين و قد سبقهم الإجماع فإنا لا نسلم ذلك لما ذكرناه من‏
أن عليا (ع) و مجاهدا و الحسن و غيرهم قالوا المراد بذلك تنتظر الثواب و منها أن لفظ النظر
يجوز أن يعدى بإلى في الانتظار على المعنى كما أن الرؤية عديت بإلى في قوله تعالى أَ لَمْ تَرَ إِلى‏ رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ فأجرى الكلام على المعنى و لا يقال رأيت إلى فلان و من إجراء الكلام على المعنى قول الفرزدق:
         و لقد عجبت إلى هوازن أصبحت             مني تلوذ ببطن أم جرير
فعدي عجبت بإلى لأن المعنى نظرت (و ثانيها) أن معناه مؤملة لتجديد الكرامة كما يقال عيني ممدودة إلى الله تعالى و إلى فلان و أنا شاخص الطرف إلى فلان و لما كانت العيون بعض أعضاء الوجوه أضيف الفعل الذي يقع بالعين إليها عن أبي مسلم (و ثالثها) أن المعنى‏

602
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 600

أنهم قطعوا آمالهم و أطماعهم عن كل شي‏ء سوى الله تعالى و وجوده دون غيره فكنى سبحانه عن الطمع بالنظر أ لا ترى أن الرعية تتوقع نظر السلطان و تطمع في إفضاله عليها و إسعافه في حوائجها فنظر الناس مختلف فناظر إلى سلطان و ناظر إلى تجارة و ناظر إلى زراعة و ناظر إلى ربه يؤمله و هذه الأقوال متقاربة في المعنى و على هذا فإن هذا الانتظار متى يكون فقيل إنه بعد الاستقرار في الجنة و قيل إنه قبل استقرار الخلق في الجنة و النار فكل فريق ينتظر ما هو له أهل و هذا اختيار القاضي عبد الجبار و ذكر جمهور أهل العدل أن النظر يجوز أن يحمل على المعنيين جميعا و لا مانع لنا من حمله على الوجهين فكأنه سبحانه أراد أنهم ينظرون إلى الثواب المعد لهم في الحال من أنواع النعيم و ينتظرون أمثالها حالا بعد حال ليتم لهم ما يستحقونه من الإجلال و يسأل على هذا فيقال إذا كان بمعنى النظر بالعين حقيقة و بمعنى الانتظار مجازا فكيف يحمل عليهما و الجواب أن عند أكثر المتكلمين في أصول الفقه يجوز أن يراد بلفظة واحدة إذ لا تنافي بينهما و هو اختيار المرتضى قدس الله روحه و لم يجوز ذلك أبو هاشم إلا إذا تكلم به مرتين مرة يريد النظر و مرة يريد الانتظار و أما قولهم المنتظر لا يكون نعيمه خالصا فكيف يوصف أهل الجنة بالانتظار فالجواب عنه أن من ينتظر شيئا لا يحتاج إليه في الحال و هو واثق بوصوله إليه عند حاجته فإنه لا يهتم بذلك و لا يتنغص سروره به بل ذلك زائد في نعيمه و إنما يلحق الهم المنتظر إذا كان يحتاج إلى ما ينتظره في الحال و يلحقه بفوته مضرة و هو غير واثق بالوصول إليه و قد قيل في إضافة النظر إلى الوجوه إن الغم و السرور إنما يظاهران في الوجوه فبين الله سبحانه أن المؤمن إذا ورد يوم القيامة تهلل وجهه و أن الكافر العاصي يخاف مغبة أفعاله القبيحة فيكلح وجهه و هو قوله «وَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ» أي كالحة عابسة متغيرة «تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ» أي تعلم و تستيقن أنه يعمل بها داهية تفقر ظهورهم أي تكسرها و قيل إنه على حقيقة الظن أي يظنون حصولها جملة و لا يعلمون تفصيلها و هذا أولى من الأول لأنه لو كان بمعنى العلم لكان أن بعده مخففة من أن الثقيلة على ما ذكر في غير موضع و ذكر سبحانه هذه الوجوه الظانة في مقابلة الوجوه الناظرة فهؤلاء يرجون تجديد الكرامة و هؤلاء يظنون حلول الفاقرة فيكون حال الوجوه الراجية للأحوال السارة على الضد من حال الوجوه الظانة للفاقرة.
النظم‏
وجه اتصال قوله «لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ» بما قبله أنه لما تقدم ذكر القيامة و الوعيد خاطب سبحانه نبيه ص فقال لا تحرك به لسانك لتعجل قراءته بل كررها عليهم ليتقرر في قلوبهم فإنهم غافلون عن الأدلة ألهاهم حب العاجلة فاحتاجوا إلى زيادة تنبيه و تقرير.

603
مجمع البيان في تفسير القرآن10

سورة القيامة الآيات 26 الى 40 ص 604

[سورة القيامة (75): الآيات 26 الى 40]
كَلاَّ إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ (26) وَ قِيلَ مَنْ راقٍ (27) وَ ظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ (28) وَ الْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلى‏ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (30)
فَلا صَدَّقَ وَ لا صَلَّى (31) وَ لكِنْ كَذَّبَ وَ تَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلى‏ أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلى‏ لَكَ فَأَوْلى‏ (34) ثُمَّ أَوْلى‏ لَكَ فَأَوْلى‏ (35)
أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (36) أَ لَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى‏ (37) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى‏ (39) أَ لَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى‏ أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى‏ (40)

القراءة
قرأ حفص و رويس يمنى بالياء و الباقون بالتاء.
الحجة
قال أبو علي من قرأ بالتاء حمله على النطفة أي لم يك نطفة تمنى من مني و من قرأ بالياء حمله على المني أي من مني يمني يقدر خلق الإنسان و غيره منها قال:
         منت لك أن تلقى ابن هند منية             و فارس مياس إذا ما تلببا
و قال آخر:
         لعمر أبي عمرو لقد ساقه المنى             إلى جدث يؤزى له بالأهاضب‏
أي ساقه القدر.
اللغة
التراقي جمع الترقوة و هو مقدم الحلق من أعلى الصدر تترقى إليه النفس عند

604
مجمع البيان في تفسير القرآن10

اللغة ص 604

الموت و إليه يتراقى البخار من الجوف و هناك تقع الحشرجة قال ذو الرمة:
         و رب عظيمة دافعت عنها             و قد بلغت نفوسهم التراقي‏
و الراقي طالب الشفاء رقاه يرقيه رقية إذا طلب له شفاء بأسماء الله الشريفة و آيات كتابه العظيمة و أما العوذة فهي دفع البلية بكلمات الله تعالى و تقول العرب قامت الحرب على ساق يعنون شدة الأمر قال:
         فإذ شمرت لك عن ساقها             فويها ربيع و لا تسأم‏
و المطي تمدد البدن من الكسل و أصله أن يلوي مطاه أي ظهره و قيل أصله يتمطط فجعل إحدى الطائين ياء و هو من المط بمعنى المد كقولهم تظنيت و أمليت و نحو ذلك و نهى عن مشية المطيطاء و ذلك أن يلقي الرجل يديه مع التكفي في مشيته. أولى لك كلمة وعيد و تهديد قالت الخنساء:
         هممت بنفسي كل الهموم             فأولى بنفسي أولى لها
و السدي المهمل و العلقة القطعة من الدم المنعقد.
الإعراب‏
في إعراب أولى وجوه (أحدها) أن يكون مبتدأ و خبره لك (و الآخر) أن يكون خبر مبتدإ محذوف تقديره الشر أولى لك فعلى هذا يكون اللام في لك للاختصاص كأنه قال الشر أولى لك من الخير و يجوز أن يكون بمعنى من تقديره الشر أقرب منك و سدى منصوب على الحال من قوله «يُتْرَكَ».
المعنى‏
ثم بين سبحانه حالهم عند النزع فقال «كَلَّا» أي ليس يؤمن الكافر بهذا و قيل معناه حقا «إِذا بَلَغَتِ» النفس أو الروح و لم يذكره لدلالة الكلام عليه كما قال ما ترك على ظهرها من دابة يعني على ظهر الأرض «التَّراقِيَ» أي العظام المكتنفة بالحلق و كنى بذلك عن الإشفاء على الموت «وَ قِيلَ مَنْ راقٍ» أي و قال من حضره من أهله هل من راق أي طبيب شاف يرقيه و يداويه فلا يجدونه عن أبي قلابة و الضحاك و قتادة و ابن زيد قال قتادة التمسوا له الأطباء فلم يغنوا عنه من عذاب الله شيئا و قيل إن معناه قالت الملائكة من يرقى بروحه أ ملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب عن ابن عباس و مقاتل قال أبو العالية تختصم فيه ملائكة الرحمة و ملائكة العذاب أيهم يرقي روحه و قال الضحاك أهل الدنيا يجهزون البدن‏

605
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 605

و أهل الآخرة يجهزون الروح «وَ ظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ» أي و علم عند ذلك هذا الذي بلغت روحها تراقيها أنه الفراق من الدنيا و الأهل و المال و الولد و الفراق ضد الوصال و هو بعاد الألاف و
جاء في الحديث أن العبد ليعالج كرب الموت و سكراته و مفاصله يسلم بعضها على بعض يقول عليك السلام تفارقني و أفارقك إلى يوم القيامة
 «وَ الْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ» قيل فيه وجوه (أحدها) التفت شدة أمر الآخرة بأمر الدنيا عن ابن عباس و مجاهد (و الثاني) التفت حال الموت بحال الحياة عن الحسن (و الثالث) التفت ساقاه عند الموت عن الشعبي و أبي مالك لأنه يذهب القوة فيصير كجلد يلتف بعضه ببعض و قيل هو أن يضطرب فلا يزال يمد إحدى رجليه و يرسل الأخرى و يلف إحداهما بالأخرى عن قتادة و قيل هو التفاف الساقين في الكفن (و الرابع) التف ساق الدنيا بساق الآخرة و هو شدة كرب الموت بشدة هول المطلع و المعنى في الجميع أنه تتابعت عليه الشدائد فلا يخرج من شدة إلا جاءه أشد منها «إِلى‏ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ» أي مساق الخلائق إلى المحشر الذي لا يملك فيه الأمر و النهي غير الله تعالى و قيل يسوق الملك بروحه إلى حيث أمر الله تعالى به إن كان من أهل الجنة فإلى عليين و إن كان من أهل النار فإلى سجين و المساق موضع السوق «فَلا صَدَّقَ وَ لا صَلَّى» أي لم يتصدق بشي‏ء و لم يصل لله «وَ لكِنْ كَذَّبَ» بالله «وَ تَوَلَّى» عن طاعته عن الحسن و قيل معناه لم يصدق بكتاب الله و لا صلى الله و لكن كذب بالكتاب و الرسول و أعرض عن الإيمان عن قتادة «ثُمَّ ذَهَبَ إِلى‏ أَهْلِهِ يَتَمَطَّى» أي يرجع إليهم يتبختر و يختال في مشيته و قيل إن المراد بذلك أبو جهل بن هشام «أَوْلى‏ لَكَ فَأَوْلى‏» و هذا تهديد من الله له و المعنى وليك المكروه يا أبا جهل و قرب منك و
جاءت الرواية أن رسول الله أخذ بيد أبي جهل ثم قال له أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى فقال أبو جهل بأي شي‏ء تهددني لا تستطيع أنت و لا ربك أن تفعلا بي شيئا و إني لأعز أهل هذا الوادي فأنزل الله سبحانه كما قال له رسول الله ص‏
و قيل معناه الذم أولى لك من تركه إلا أنه حذف و كثر في الكلام حتى صار بمنزلة الويل لك و صار من المحذوف الذي لا يجوز إظهاره و قيل هو وعيد على وعيد عن قتادة و معناه وليك الشر في الدنيا وليك ثم وليك الشر في الآخرة وليك و التكرار للتأكيد و قيل بعدا لك من خيرات الدنيا و بعدا لك من خيرات الآخرة عن الجبائي و قيل أولى لك ما تشاهده يا أبا جهل يوم بدر فأولى لك في القبر ثم أولى لك يوم القيامة فلذلك أدخل ثم فأولى لك في النار «أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ» يعني أبا جهل «أَنْ يُتْرَكَ سُدىً» مهملا لا يؤمر و لا ينهى عن ابن عباس و مجاهد و الألف للاستفهام و المراد الإنكار أي لا ينبغي أن يظن ذلك و قيل أنه عام أي أ يظن الإنسان الكافر بالبعث الجاحد لنعم الله أن يترك مهملا من غير أمر يؤخذ به فيكون فيه‏

606
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 605

تقويم له و إصلاح لما هو أعود عليه في عاقبة أمره و أجمل به في دنياه و آخرته «أَ لَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى‏» أي كيف يظن أن يهمل و هو يرى في نفسه و من تنقل الأحوال ما يمكنه أن يستدل به على أن له صانعا حكيما أكمل عقله و أقدره و خلق فيه الشهوة فيعلم أنه لا يجوز أن يخليه من التكليف و معنى قوله «يُمْنى‏» أي يقدر و قيل معناه يصب في الرحم «ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ» منها خلقا في الرحم «فَسَوَّى» خلقه و صورته و أعضاءه الباطنة و الظاهرة في بطن أمه و قيل فسواه إنسانا بعد الولادة و أكمل قوته و قيل معناه فخلق الأجسام فسواها للأفعال و جعل لكل جارحة عملا يختص بها «فَجَعَلَ مِنْهُ» أي من الإنسان «الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى‏» و قيل من المني و هذا إخبار من الله سبحانه أنه لم يخلق الإنسان من المني و لم ينقله من حال إلى حال ليتركه مهملا فإنه لا بد من غرض في ذلك و هو التعريض للثواب بالتكليف «أَ لَيْسَ ذلِكَ» الذي فعل هذا «بِقادِرٍ عَلى‏ أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى‏» هذا تقرير لهم على أن من قدر على الابتداء قدر على البعث و الإحياء فإن من قدر على جعل النطفة علقة و العلقة مضغة إلى أن يجعلها حيا سليما مركبا فيه الحواس الخمس و الأعضاء الشريفة التي يصلح كل منها لما لا يصلح له الآخر و خلق الزوجين الذكر و الأنثى الذين يصح بهما التناسل فإنه يقدر على إعادته بعد الموت إلى ما كان عليه من كونه حيا و
جاء في الحديث عن البراء بن عازب قال لما نزلت هذه الآية «أَ لَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى‏ أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى‏» قال رسول الله ص سبحانك اللهم و بلى و هو المروي عن أبي جعفر و أبي عبد الله ع‏
و في الآية دلالة على صحة القياس العقلي فإنه سبحانه اعتبر النشأة الثانية بالنشأة الأولى.

607
مجمع البيان في تفسير القرآن10

سورة الإنسان مدنية و آياتها إحدى و ثلاثون ص 608

(76) سورة الإنسان مدنية و آياتها إحدى و ثلاثون (31)
[توضيح‏]
و تسمى سورة الدهر و تسمى سورة الأبرار و منهم من يسميها بفاتحتها و اختلفوا فيها فقيل مكية كلها و قيل مدنية كلها عن مجاهد و قتادة و قيل إنها مدنية إلا قوله «وَ لا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً» فإنه مكي عن الحسن و عكرمة و الكلبي و قيل إن قوله «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا» إلى آخر السورة مكي و الباقي مدني.
عدد آيها
إحدى و ثلاثون آية بالإجماع.
فضلها
أبي بن كعب عن النبي ص قال و من قرأ سورة (هل أتى) كان جزاؤه على الله جنة و حريرا
و
قال أبو جعفر (ع) من قرأ سورة هل أتى في كل غداة خميس زوجه الله من الحور العين مائة عذراء و أربعة آلاف ثيب و كان مع محمد ص.
تفسيرها
ختم الله سبحانه يوم القيامة بأن دل على صحة البعث بخلق الإنسان من نطفة و افتتح هذه السورة بمثل ذلك فقال:

608
مجمع البيان في تفسير القرآن10

سورة الإنسان الآيات 1 الى 10 ص 609

[سورة الإنسان (76): الآيات 1 الى 10]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏
هَلْ أَتى‏ عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً (2) إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَ إِمَّا كَفُوراً (3) إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَ أَغْلالاً وَ سَعِيراً (4)
إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً (5) عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَ يَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (7) وَ يُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى‏ حُبِّهِ مِسْكِيناً وَ يَتِيماً وَ أَسِيراً (8) إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَ لا شُكُوراً (9)
إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (10)

القراءة
قرأ أهل المدينة و أبو بكر عن عاصم و الكسائي سلاسلا بالتنوين و كذلك قواريرا قواريرا و يقفون بالألف على الجميع و قرأ ابن كثير و خلف سلاسل بغير تنوين و قواريرا قوارير الأول بالتنوين و الثاني بغير تنوين و يقفان على سلاسل و قوارير الثانية بغير الألف و قرأ حمزة و يعقوب بغير تنوين في الجميع و يقفان بغير ألف عليها و قرأ أبو عمرو و ابن عامر و حفص بغير تنوين فيها أيضا إلا أنهم يقفون على سلاسل و قواريرا الأولى بالألف و على قوارير الثانية بغير ألف غير أن شجاعا يقف على سلاسل أيضا بغير ألف.
الحجة
قال أبو علي حجة من صرف سلاسلا و قواريرا في الوصل و الوقف أمران (أحدهما) أن أبا الحسن قال سمعنا من العرب من يصرف هذا و يصرف جميع ما لا ينصرف قال و هذه لغة أهل الشعر لأنهم اضطروا إليه في الشعر فصرفوه فجرت ألسنتهم على ذلك و احتملوا ذلك في الشعر لأنه يحتمل الزيادة كما يحتمل النقص فاحتملوا زيادة التنوين و الأمر الآخر أن هذه الجموع أشبهت الآحاد لأنهم قالوا صواحبات يوسف فلما جمعت جمع الآحاد المنصرفة جعلوه في حكمها فصرفوها قال أبو الحسن و كثير من العرب يقول مواليات يريد الموالي و أنشد للفرزدق:
         فإذا الرجال رأوا يزيد رأيتهم             خضع الرقاب نواكسي الأبصار

609
مجمع البيان في تفسير القرآن10

الحجة ص 609

فهذا كأنه جمع نواكس و من قرأ بغير تنوين و لا ألف فإنه جعله كقوله «لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَ بِيَعٌ وَ صَلَواتٌ وَ مَساجِدُ» و إلحاق الألف في سلاسل و قوارير كالحاقة في قوله «الظُّنُونَا» و «السَّبِيلَا» و «الرَّسُولَا» يشبه ذلك بالإطلاق في القوافي من حيث كانت مثلها في أنها كلام تام.
اللغة
الدهر مرور الليل و النهار و جمعه أدهر و دهور و أصل النطفة الماء القليل و قد تقع على الكثير
قال أمير المؤمنين (ع) حين ذكر الخوارج مصارعهم دون النطفة
يريد النهروان و الجمع نطاف و نطف قال الشاعر:
         و ما النفس إلا نطفة بقرارة             إذا لم تكدر كان صفوا غديرها
و واحد الأمشاج مشيج و مشجت هذا بهذا أي خلطته و هو ممشوج و مشيج و واحد الأبرار بار نحو ناصر و أنصار و بر أيضا و الكأس الإناء إذا كان فيه شراب قال عمرو بن كلثوم:
         صددت الكأس عنا أم عمرو             و كان الكأس مجراها اليمينا
و أوفى بالعقد و وفى به فأوفى لغة أهل الحجاز و وفى لغة تميم و أهل نجد و النذر عقد عملي فعل بر يوجبه الإنسان على نفسه نذر ينذر قال عنترة:
         الشاتمي عرضي و لم أشتمهما             و الناذرين إذا لم ألقهما دمي‏
أي يقولان إن لقينا عنترة لنقتلنه و المستطير المنتشر قال الأعشى:
         فبانت و قد أسأرت في الفؤاد             صدعا على نأيها مستطيرا
و القمطرير الشديد في الشر و قد اقمطر اليوم اقمطرارا و يوم قمطرير و قماطر كأنه قد التف شره بعضه على بعض قال الشاعر:

610
مجمع البيان في تفسير القرآن10

اللغة ص 610

         بني عمنا هل تذكرون بلاءنا             عليكم إذا ما كان يوم قماطر
قيل إن هل هنا بمعنى قد قال الشاعر:
         أم هل كبير بكى لم يقض عبرته             إثر الأحبة يوم البين مشكوم‏
الإعراب‏
 «لَمْ يَكُنْ شَيْئاً» جملة في محل الرفع لأنها صفة حين و التقدير لم يكن فيه شيئا مذكورا و أمشاج يجوز أن يكون صفة لنطفة و يجوز أن يكون بدلا و الوصف بالجمع مثل قولهم برمة أعشار و ثوب أسمال و نبتليه في موضع نصب على الحال. «إِمَّا شاكِراً وَ إِمَّا كَفُوراً» حالان من الهاء في هديناه أي هديناه شاكرا أو كفورا و قوله «عَيْناً» في انتصابه وجوه (أحدها) أن يكون بدلا من كافورا إذا جعلت الكافور اسم عين فيكون بدل الكل من الكل (و الثاني) أن يكون بدلا من قوله «مِنْ كَأْسٍ» أي يسقون من عين ثم حذف الجار فوصل الفعل إليه فنصبه (و الثالث) أن يكون منصوبا على المدح و التقدير أعني عينا يشرب بها الباء مزيدة أي يشربها و المعنى يشرب ماؤها لأن العين لا تشرب و إنما يشرب ماؤها.
النزول‏
قد روى الخاص و العام أن الآيات من هذه السورة و هي قوله «إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ» إلى قوله «وَ كانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً» نزلت في علي و فاطمة و الحسن و الحسين ع و جارية لهم تسمى فضة و هو المروي عن ابن عباس و مجاهد و أبي صالح.
[و القصة طويلة]
جملتها أنهم قالوا مرض الحسن و الحسين (ع) فعادهما جدهما ص و وجوه العرب و قالوا يا أبا الحسن لو نذرت على ولديك نذرا فنذر صوم ثلاثة أيام إن شفاهما الله سبحانه و نذرت فاطمة (ع) كذلك و كذلك فضة فبرءا و ليس عندهم شي‏ء فاستقرض علي (ع) ثلاثة أصوع من شعير من يهودي و روي أنه أخذها ليغزل له صوفا و جاء به إلى فاطمة (ع) فطحنت صاعا منها فاختبزته و صلى علي المغرب و قربته إليهم فأتاهم مسكين يدعو لهم و سألهم فأعطوه و لم يذوقوا إلا الماء فلما كان اليوم الثاني أخذت صاعا فطحنته و خبزته و قدمته إلى علي (ع) فإذا يتيم في الباب يستطعم فأعطوه و لم يذوقوا إلا الماء فلما كان اليوم الثالث عمدت إلى الباقي فطحنته و اختبزته و قدمته إلى علي (ع) فإذا أسير بالباب يستطعم فأعطوه‏

611
مجمع البيان في تفسير القرآن10

و القصة طويلة ص 611

و لم يذوقوا إلا الماء فلما كان اليوم الرابع و قد قضوا نذورهم أتى علي (ع) و معه الحسن و الحسين (ع) إلى النبي ص و بهما ضعف فبكى رسول الله ص و نزل جبرائيل (ع) بسورة هل أتى و
في رواية عطاء عن ابن عباس أن علي ابن أبي طالب (ع) آجر نفسه ليستقي نخلا بشي‏ء من شعير ليلة حتى أصبح فلما أصبح و قبض الشعير طحن ثلثه فجعلوا منه شيئا ليأكلوه يقال له الحريرة فلما تم إنضاجه أتى مسكين فأخرجوا إليه الطعام ثم عمل الثلث الثاني فلما تم إنضاجه أتى يتيم فسأل فأطعموه ثم عمل الثلث الثالث فلما تم إنضاجه أتى أسير من المشركين فسأل فأطعموه و طووا يومهم ذلك ذكره الواحدي في تفسيره‏
و
ذكر علي بن إبراهيم أن أباه حدثه عن عبد الله بن ميمون عن أبي عبد الله (ع) قال كان عند فاطمة شعير فجعلوه عصيدة فلما أنضجوها و وضعوها بين أيديهم جاء مسكين فقال المسكين رحمكم الله فقام علي فأعطاه ثلثها فلم يلبث أن جاء يتيم فقال اليتيم رحمكم الله فقام علي (ع) فأعطاه الثلث ثم جاء أسير فقال الأسير رحمكم الله فأعطاه علي (ع) الثلث الباقي و ما ذاقوها فأنزل الله سبحانه الآيات فيهم‏
و هي جارية في كل مؤمن فعل ذلك لله عز و جل و في هذا دلالة على أن السورة مدنية و قال أبو حمزة الثمالي في تفسيره حدثني الحسن بن الحسن أبو عبد الله بن الحسن أنها مدنية نزلت في علي و فاطمة السورة كلها
[النزول‏]
حدثنا السيد أبو الحمد مهدي بن نزار الحسيني القايني قال أخبرنا الحاكم أبو القسم عبيد الله بن عبد الله الحسكاني قال حدثنا أبو نصر المفسر قال حدثني عمي أبو حامد إملاء قال حدثني الفزاري أبو يوسف يعقوب بن محمد المقري قال حدثنا محمد بن يزيد السلمي قال حدثنا زيد بن موسى قال حدثنا عمرو بن هارون عن عثمان بن عطاء عن أبيه عن ابن عباس قال أول ما أنزل بمكة (اقرأ باسم ربك) ثم (ن و القلم) ثم (المزمل) ثم (المدثر) ثم (تبت) ثم (إذا الشمس كورت) ثم (سبح اسم ربك الأعلى) ثم (و الليل إذا يغشى) ثم (و الفجر) ثم (و الضحى) ثم (أ لم نشرح) ثم (و العصر) ثم (و العاديات) ثم (إنا أعطيناك الكوثر) ثم (ألهيكم التكاثر) ثم (أ رأيت) ثم (الكافرون) ثم (أ لم تر كيف) ثم (قل أعوذ برب الفلق) ثم (قل أعوذ برب الناس) ثم (قل هو الله أحد) ثم (و النجم) ثم (عبس) ثم (إنا أنزلناه) ثم (و الشمس) ثم (البروج) ثم (و التين) ثم (لإيلاف) ثم (القارعة) ثم (القيامة) ثم (الهمزة) ثم (و المرسلات) ثم (ق).

612
مجمع البيان في تفسير القرآن10

النزول ص 612

ثم (لا أقسم بهذا البلد) ثم (الطارق) ثم (اقتربت الساعة) ثم (ص) ثم (الأعراف) ثم (قل أوحي) ثم (يس) ثم (الفرقان) ثم (الملائكة) ثم (كهيعص) ثم (طه) ثم (الواقعة) ثم (الشعراء) ثم (النمل) ثم (القصص) ثم (بني إسرائيل) ثم (يونس) ثم (هود) ثم (يوسف) ثم (الحجر) ثم (الأنعام) ثم (الصافات) ثم (لقمان) ثم (القمر) ثم (سبأ) ثم (الزمر) ثم (حم المؤمن) ثم (حم السجدة) ثم (حمعسق) ثم (الزخرف) ثم (الدخان) ثم (الجاثية) ثم (الأحقاف) ثم (الذاريات) ثم (الغاشية) ثم (الكهف) ثم (النحل) ثم (نوح) ثم (إبراهيم) ثم (الأنبياء) ثم (المؤمنون) ثم (الم تنزيل) ثم (الطور) ثم (الملك) ثم (الحاقة) ثم (ذو المعارج) ثم (عم يتساءلون) ثم (النازعات) ثم (انفطرت) ثم (انشقت) ثم (الروم) ثم (العنكبوت) ثم (المطففين) فهذه أنزلت بمكة و هي خمس و ثمانون سورة ثم أنزلت بالمدينة (البقرة) ثم (الأنفال) ثم (آل عمران) ثم (الأحزاب) ثم (الممتحنة) ثم (النساء) ثم (إذا زلزلت) ثم (الحديد) ثم سورة (محمد) ثم (الرعد) ثم سورة (الرحمن) ثم (هل أتى) ثم (الطلاق) ثم (لم يكن) ثم (الحشر) ثم (إذا جاء نصر الله) ثم (النور) ثم (الحج) ثم (المنافقون) ثم (المجادلة) ثم (الحجرات) ثم (التحريم) ثم (الجمعة) ثم (التغابن) ثم سورة (الصف) ثم سورة (الفتح) ثم سورة (المائدة) ثم سورة (التوبة) فهذه ثمان و عشرون سورة و قد رواه الأستاذ أحمد الزاهد بإسناده عن عثمان بن عطاء عن أبيه عن ابن عباس في كتاب الإيضاح و زاد فيه و كانت إذا نزلت فاتحة سورة بمكة كتبت بمكة ثم يزيد الله فيها ما يشاء بالمدينة و بإسناده عن عكرمة و الحسن بن أبي الحسن البصري إن أول ما أنزل الله من القرآن بمكة على الترتيب (اقرأ باسم ربك و ن و المزمل) إلى قوله و ما نزل بالمدينة (ويل للمطففين) (و البقرة و الأنفال و آل عمران و الأحزاب و المائدة و الممتحنة و النساء و إذا زلزلت و الحديد و سورة محمد) ص (و الرعد و الرحمن و هل أتى على الإنسان) إلى آخره و
بإسناده عن سعيد بن المسيب عن علي بن أبي طالب (ع) أنه قال سألت النبي عن ثواب القرآن فأخبرني بثواب سورة سورة على نحو ما نزلت من السماء فأول ما نزل عليه بمكة (فاتحة الكتاب) ثم (اقرأ باسم ربك) ثم (ن) إلى أن قال و أول ما نزل بالمدينة سورة (البقرة) ثم (الأنفال) ثم (آل عمران) ثم (الأحزاب) ثم (الممتحنة) ثم (النساء) ثم (إذا زلزلت) ثم (الحديد) ثم (سورة محمد) ثم‏

613
مجمع البيان في تفسير القرآن10

النزول ص 612

 (الرعد) ثم (سورة الرحمن) ثم (هل أتى) إلى قوله فهذا ما أنزل بالمدينة ثم قال النبي ص جميع سور القرآن مائة و أربع عشرة سورة و جميع آيات القرآن ستة آلاف آية و مائتا آية و ست و ثلاثون آية و جميع حروف القرآن ثلاثمائة ألف حرف واحد و عشرون ألف حرف و مائتان و خمسون حرفا لا يرغب في تعلم القرآن إلا السعداء و لا يتعهد قراءته إلا أولياء الرحمن‏
 (أقول) قد اتسع نطاق الكلام في هذا الباب حتى كاد يخرج عن أسلوب الكتاب و ربما نسبنا به إلى الإطناب و لكن الغرض فيه أن بعض أهل العصبية قد طعن في هذه القصة بأن قال هذه السورة مكية فكيف يتعلق بها ما كان بالمدينة و استدل بذلك على أنها مخترعة جرأة على الله سبحانه و عداوة لأهل بيت رسوله فأحببت إيضاح الحق في ذلك و إيراد البرهان في معناه و كشف القناع عن عناد هذا المعاند في دعواه على أنه كما ترى يحتوي على السر المخزون و الدر المكنون من هذا العلم الذي يستضاء بنوره و يتلألأ بزهوره و هو معرفة ترتيب السور في التنزيل و حصر عددها على الجملة و التفصيل اللهم أمددنا بتأييدك و أيدنا بتوفيقك فأنت الرجاء و الأمل و على فضلك المعول و المتكل.
المعنى‏
 «هَلْ أَتى‏» معناه قد أتى «عَلَى الْإِنْسانِ» أي أ لم يأت على الإنسان «حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ» و قد كان شيئا إلا أنه «لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً» لأنه كان ترابا و طينا إلى أن نفخ فيه الروح عن الزجاج و على هذا فهل هنا استفهام يراد به التقرير قال الجبائي و هو تقرير على ألطف الوجوه و تقديره أيها المنكر للصانع و قدرته أ ليس قد أتى عليك دهور لم تكن شيئا مذكورا ثم ذكرت و كل أحد يعلم من نفسه أنه لم يكن موجودا ثم وجد فإذا تفكر في ذلك علم أن له صانعا صنعه و محدثا أحدثه و المراد بالإنسان هنا آدم (ع) و هو أول من سمي به عن الحسن و قتادة و سفيان و الجبائي و قيل إن المراد به كل إنسان و الألف و اللام للجنس عن أبي مسلم و قيل أنه أتى على آدم (ع) أربعون سنة لم يكن شيئا مذكورا لا في السماء و لا في الأرض بل كان جسدا ملقى من طين قبل أن ينفخ فيه الروح و روى عطاء عن ابن عباس أنه تم خلقه بعد عشرين و مائة سنة و
روى العياشي بإسناده عن عبد الله بن بكير عن زرارة قال سألت أبا جعفر (ع) عن قوله «لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً» قال كان شيئا و لم يكن مذكورا
و
بإسناده عن سعيد الحداد عن أبي جعفر (ع) قال كان مذكورا في العلم و لم يكن مذكورا في الخلق و عن عبد الأعلى مولى آل سام عن أبي عبد الله (ع) مثله‏
و
عن حمران بن أعين قال سألت عنه فقال كان شيئا مقدورا و لم يكن مكونا
و في هذا دلالة على أن المعدوم معلوم و إن لم يكن مذكورا و إن المعدوم يسمى شيئا فإذا حملت الإنسان على الجنس فالمراد أنه‏

614
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 614

قبل الولادة لا يعرف و لا يذكر و لا يدري من هو و ما يراد به بل يكون معدوما ثم يوجد في صلب أبيه ثم في رحم أمه إلى وقت الولادة و قيل المراد به العلماء لأنهم كانوا لا يذكرون فصيرهم الله سبحانه بالعلم مذكورين بين الخاص و العام في حياتهم و بعد مماتهم و سمع عمر بن الخطاب رجلا يقرأ هذه الآية فقال ليت ذلك ثم يعني ليت آدم بقي على ما كان فكان لا يلد و لا يبتلي أولاده ثم قال سبحانه «إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ» يعني ولد آدم (ع) «مِنْ نُطْفَةٍ» و هي ماء الرجل و المرأة الذي يخلق منه الولد «أَمْشاجٍ» أي أخلاط من ماء الرجل و ماء المرأة في الرحم فأيهما علا ماء صاحبه كان الشبه له عن ابن عباس و الحسن و عكرمة و مجاهد و قيل أمشاج أطوار طورا نطفة و طورا علقة و طورا مضغة و طورا عظاما إلى أن صار إنسانا عن قتادة و قيل أراد اختلاف ألوان النطفة فنطفة الرجل بيضاء و حمراء و نطفة المرأة خضراء و صفراء فهي مختلفة الألوان عن مجاهد و الضحاك و الكلبي و روي أيضا عن ابن عباس و قيل نطفة مشجت بدم الحيض فإذا حبلت ارتفع الحيض عن الحسن و قيل هي العروق التي تكون في النطفة عن ابن مسعود و قيل أمشاج أخلاط من الطبائع التي تكون في الإنسان من الحرارة و البرودة و اليبوسة و الرطوبة جعلها الله في النطفة ثم بناه الله البنية الحيوانية المعدلة الأخلاط ثم جعل فيه الحياة ثم شق له السمع و البصر فتبارك الله رب العالمين و ذلك قوله «فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً» و قوله «نَبْتَلِيهِ» أي نختبره بما نكلفه من الأفعال الشاقة ليظهر إما طاعته و إما عصيانه فنجازيه بحسب ذلك قال الفراء معناه «فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً» لنبتليه أي لنتعبده و نأمره و ننهاه و المراد فأعطيناه آلة السمع و البصر ليتمكن من السمع و البصر و معرفة ما كلف «إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ» أي بينا له الطريق و نصبنا له الأدلة و أزحنا له العلة حتى يتمكن من معرفة الحق و الباطل و قيل هو طريق الخير و الشر عن قتادة و قيل السبيل هو طريق معرفة الدين الذي به يتوصل إلى ثواب الأبد و يلزم كل مكلف سلوكه و هو أدلة العقل و الشرع التي يعم جميع المكلفين «إِمَّا شاكِراً وَ إِمَّا كَفُوراً» قال الفراء معناه أن شكر و أن كفر على الجزاء و قال الزجاج معناه ليختار إما السعادة و إما الشقاوة و المراد إما أن يختار بحسن اختياره الشكر لله تعالى و الاعتراف بنعمه فيصيب الحظ و إما أن يكفر نعم الله و يجحد إحسانه فيكون ضالا عن الصواب فأيهما اختار جوزي عليه بحسبه و هذا كقوله «فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَ مَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ» و في هذه الآية دلالة على أن الله قد هدى جميع خلقه لأن اللفظ عام ثم بين سبحانه ما أعده للكافرين فقال «إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ» أي هيأنا و ادخرنا لهم جزاء على كفرانهم و عصيانهم «سَلاسِلَ» يعني في جهنم كما قال فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً «وَ أَغْلالًا وَ سَعِيراً» نار موقدة نعذبهم بها و نعاقبهم فيها ثم ذكر ما أعده‏

615
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 614

للشاكرين المطيعين فقال «إِنَّ الْأَبْرارَ» و هو جمع البر المطيع لله المحسن في أفعاله و قال الحسن هم الذين لا يؤذون الذر و لا يرضون الشر و قيل هم الذين يقضون الحقوق اللازمة و النافلة و قد أجمع أهل البيت (ع) و موافقوهم و كثير من مخالفيهم إن المراد بذلك علي و فاطمة و الحسن و الحسين ع و الآية مع ما بعدها متعينة فيهم و أيضا فقد انعقد الإجماع على أنهم كانوا أبرارا و في غيرهم خلاف «يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ» إناء فيه شراب «كانَ مِزاجُها» أي ما يمازجها «كافُوراً» و هو اسم عين ماء في الجنة عن عطاء و الكلبي و اختاره الفراء قال و يدل عليه قوله «عَيْناً» و هي كالمفسرة للكافور و قيل يعني الكافور الذي له رائحة طيبة و المعنى يمازجه ريح الكافور و ليس ككافور الدنيا عن مجاهد و مقاتل قال قتادة يمزج بالكافور و يختم بالمسك و قيل معناه طيب بالكافور و المسك و الزنجبيل عن ابن كيسان «عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ» أي أولياؤه عن ابن عباس أي هذا الشراب من عين يشرب بها أولياء الله و خصهم بأنهم عباد الله تشريفا و تبجيلا قال الفراء شربها و شرب بها سواء في المعنى كما يقولون تكلمت بكلام حسن و كلاما حسنا قال عنترة:
         شربت بماء الدحرضين فأصبحت             عسرا علي طلابها ابنة مخرم‏
و أنشد الفراء:
         شربن بماء البحر ثم ترفعت             متى لجج خضر لهن نئيج‏
أي صوت.
 «يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً» أي يقودون تلك العين حيث شاءوا من منازلهم و قصورهم عن مجاهد و التفجير تشقيق الأرض بجري الماء قال و أنهار الجنة تجري بغير أخدود فإذا أراد المؤمن أن يجري نهرا خط خطا فينبع الماء من ذلك الموضع و يجري بغير تعب ثم وصف سبحانه هؤلاء الأبرار فقال «يُوفُونَ بِالنَّذْرِ» أي كانوا في الدنيا بهذه الصفة و الإيفاء بالنذر هو أن يفعل ما نذر عليه فإذا نذر طاعة تممها و وفى بها عن مجاهد و عكرمة و قيل يتمون ما فرض الله عليهم من الواجبات عن قتادة «وَ يَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً»

616
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 614

أي فاشيا منتشرا ذاهبا في الجهات بلغ أقصى المبالغ و سمي العذاب شرا لأنه لا خير فيه للمعاقبين و إن كان في نفسه حسنا لكونه مستحقا و قيل المراد بالشر هنا أهوال يوم القيامة و شدائده «وَ يُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى‏ حُبِّهِ» أي على حب الطعام و المعنى يطعمون الطعام أشد ما تكون حاجتهم إليه وصفهم الله سبحانه بالأثرة على أنفسهم و
في الحديث عن أبي سعيد الخدري أن النبي ص قال ما من مسلم أطعم مسلما على جوع إلا أطعمه الله من ثمار الجنة و ما من مسلم كسا أخاه على عري إلا كساه الله من خضر الجنة و من سقى مسلما على ظمإ سقاه الله من الرحيق‏
قال ابن عباس يطعمون الطعام على شهوتهم له و محبتهم إياه و قيل الهاء كناية عن الله تعالى أي يطعمون الطعام على حب الله «مِسْكِيناً» و هو الفقير الذي لا شي‏ء له «وَ يَتِيماً» و هو الذي لا والد له من الأطفال «وَ أَسِيراً» و هو المأخوذ من أهل دار الحرب عن قتادة و قيل هو المحبوس من أهل القبلة عن مجاهد و سعيد بن جبير و قيل الأسير المرأة «إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ» أي لطلب رضا الله خالصا لله مخلصا من الرياء و طلب الجزاء و هو قوله «لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَ لا شُكُوراً» و هو مصدر مثل القعود و الجلوس و قيل إنهم لم يتكلموا بذلك و لكن علم الله سبحانه ما في قلوبهم فأثنى به عليهم ليرغب في ذلك الراغب عن سعيد بن جبير و مجاهد و المراد لا نطلب بهذا الطعام مكافاة عاجلة و لا نريد أن تشكرونا عليه عند الخلق بل فعلناه لله «إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً» أي عذاب يوم «عَبُوساً» أي مكفهرا تعبس فيه الوجوه و وصف اليوم بالعبوس توسعا لما فيه من الشدة و هذا كما يقال يوم صائم و ليل قائم قال ابن عباس يعبس فيه الكافر حتى يسيل من بين عينيه عرق مثل القطران «قَمْطَرِيراً» أي صعبا شديدا عن أبي عبيدة و المبرد و قال الحسن سبحان الله ما أشد اسمه و هو من اسمه أشد و قيل القمطرير الذي يقلص الوجوه و يقبض الجباه و ما بين الأعين من شدته عن قتادة.

617
مجمع البيان في تفسير القرآن10

سورة الإنسان الآيات 11 الى 22 ص 618

[سورة الإنسان (76): الآيات 11 الى 22]
فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَ لَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَ سُرُوراً (11) وَ جَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَ حَرِيراً (12) مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَ لا زَمْهَرِيراً (13) وَ دانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَ ذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً (14) وَ يُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَ أَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (15)
قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً (16) وَ يُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً (17) عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً (18) وَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً (19) وَ إِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَ مُلْكاً كَبِيراً (20)
عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَ إِسْتَبْرَقٌ وَ حُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَ سَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً (21) إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَ كانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً (22)

القراءة
قرأ الشعبي و عبيد بن عمير قدروها بضم القاف و القراءة المشهورة «قَدَّرُوها» بفتح القاف و قرأ أهل المدينة و حمزة عاليهم ساكنة الياء و الباقون «عالِيَهُمْ» بفتح الياء و قرأ أهل البصرة و أبو جعفر و ابن عامر خضر بالرفع و إستبرق بالجر و قرأ ابن كثير و أبو بكر خضر بالجر و إستبرق بالرفع و قرأ نافع و حسن بالرفع فيهما و قرأ حمزة و الكسائي و خلف بالجر فيهما.
الحجة
من قرأ «قَدَّرُوها» بالفتح فالمعنى قدروها في أنفسهم فجاءت كما قدروها و من قرأ بالضم أراد أن ذلك قدر لهم أي قدره الله لهم كذلك قال أبو علي الضمير في «قَدَّرُوها» للخزان أو الملائكة أي قدروها على ربهم لا ينقص من ذلك و لا يزيد عليه و من قرأ قدروها فهو على هذا المعنى يريد كان اللفظ قدروا عليها فحذف الجار كما حذف من قوله:
         كأنه واضح الأقراب في لقح             أسمى بهن و عزته الأناصيل‏
فلما حذف الحرف وصل الفعل فكذلك قوله قدروها إلا أن المعنى قدرت عليهم أي على ربهم فقلب كما قال:
         لا تحسبن دراهما سرقتها             تمحو مخازيك التي بعمان‏
و على هذا يتأول قوله «ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ» و مثل هذا ما حكاه أبو زيد إذا طلعت الجوزاء أوفى السود في الجرباء قال و من نصب «عالِيَهُمْ» فإن النصب يحتمل أمرين‏

618
مجمع البيان في تفسير القرآن10

الحجة ص 618

 (أحدهما) أن يكون حالا (و الآخر) أن يكون ظرفا فأما الحال فيحتمل أن يكون العامل فيها أحد شيئين (أحدهما) لقاهم (و الآخر) جزاهم و مثله في كونه حالا «مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ» فإن قلت لم لا يكون متكئين صفة جنة و فيها ذكر لها قيل لا يجوز ذلك أ لا ترى أنه لو كان كذلك للزمك أن تبرز الضمير الذي في اسم الفاعل من حيث كان صفة للجنة و ليس الفعل لها فإذا لم يجز ذلك كان حالا و كذلك قوله «وَ دانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها» إلا أنه يجوز في قوله «وَ دانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها» أمران (أحدهما) الحال (و الآخر) أن ينتصب على أنه مفعول به و يكون المعنى و جزاهم جنة و حريرا أي لبس حرير و دخول جنة و دانية عليهم ظلالها فيكون على هذا التقدير كقوله وَ لِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ فإن لم تحمله على هذا و قلت إنه يعرض فيه إقامة الصفة مقام الموصوف و إن ذلك ليس بالمطرح في كلامهم و إذا حملته على الحال يكون مثل ما عطفته عليه من قوله «مُتَّكِئِينَ» «وَ دانِيَةً عَلَيْهِمْ» و كذلك يكون «عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ» معطوفا على ما انتصب على الحال في السورة فيكون ثياب سندس مرتفعة باسم الفاعل و الضمير عائد إلى ذي الحال من قوله «عالِيَهُمْ» و في الشواذ عاليتهم قراءة الأعمش و يكون بمنزلة قوله خاشعا أبصارهم و خاشعة أبصارهم و من جعله ظرفا فإنه لما كان عالي بمعنى فوق أجري مجراه في هذا و من قرأ عاليهم بسكون الياء جعله مبتدأ و ثياب سندس خبره و يكون عاليهم المبتدأ في موضع الجماعة كما أن الخبر جماعة و قد جاء اسم الفاعل في موضع جماعة قال:
         ألا إن جيراني العشية رائح             دعتهم دواع من هوى و منادح‏
و في التنزيل مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا فكأنه أفرد من حيث جعل بمعنى المصدر من نحو قوله‏
         " و لا خارجا من في زور كلام"
و قد قالوا الجامل و الباقر يراد بهما الكثرة و أخذ عليه البصير النحوي الملقب بجامع العلوم هذا الكلام و نسبه فيه إلى سوء التأمل و قال عاليهم بسكون الياء صفة الولدان أي يطوف عليهم ولدان عاليهم ثياب سندس فيرتفع ثياب سندس باسم الفاعل الجاري صفة على الموصوف و أقول و بالله التوفيق إني لأرى أن نظر هذا الفاضل قد اختل كما أن بصره قد اعتل فرمى أبا علي بدائه و أنسل أ لم ينظر في خاتمة هذه الآية إلى قوله سبحانه «وَ سَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً» ثم قوله عقيب ذلك «إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً» فيعرف أن الضمير في عاليهم هو بعينه في و سقاهم و هو ضمير المخاطبين في لكم و هذا الضمير لا يمكن أن يعود إلا إلى الأبرار

619
مجمع البيان في تفسير القرآن10

الحجة ص 618

المثابين المجازين دون الولدان المخلدين الذين هم من جملة ثوابهم و جزائهم اللهم لك الحمد على تأييدك و تسديدك رجعنا إلى كلام أبي علي قال و يجوز على قياس قول أبي الحسن في قائم أخواك و إعمال اسم الفاعل عمل الفعل و إن لم يعتمد على شي‏ء أن يكون ثياب سندس مرتفعة بعاليهم و أفردت عاليا لأنه فعل متقدم قال أبو علي و الأوجه قراءة من قال خضر بالرفع و إستبرق بالجر لأن خضرا صفة مجموعة لموصوف مجموع و هو ثياب و أما إستبرق فجر من حيث كان جنسا أضيفت إليه الثياب كما أضيفت إلى سندس كما يقال ثياب خز و كتان و يدل على ذلك قوله «وَ يَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ» و إستبرق و من قرأ «خُضْرٌ وَ إِسْتَبْرَقٌ» فإنه أجرى الخضر و هو جمع على السندس لما كان المعنى أن الثياب من هذا الجنس و أجاز أبو الحسن وصف هذه الأجناس بالجمع فقال تقول أهلك الناس الدينار الصفر و الدرهم البيض على استقباح له و من رفع إستبرق فإنما أراد عطف الاستبراق على الثياب كأنه ثياب سندس و ثياب إستبرق فحذف المضاف الذي هو ثياب و أقام إستبرق مقامه كما إنك إذا قلت عليه خز بمعنى عليه ثوب خز و ليس المعنى أن عليه الدابة التي هي الخز و على هذا قوله:
         كان خزا تحته و قزا             و فرشا محشوة اوزا.
اللغة
الوقاية الحفظ و المنع من الأذى وقاه يقيه وقاية و وقاه توقية قال رؤبة
         " أن الموقي مثل ما وقيت"
و منه اتقاه و توقاه و أصل الشر الظهور فهو ظهور الضرر و منه شررت الثوب إذا ظهرته للشمس أو الريح قال‏
         " و حتى أشرت بالأكف المصاحف"
أي أظهرت و منه شرر النار لظهوره بتطايره و النضرة حسن الألوان و نبت ناضر و نضير و نضر و السرور اعتقاد وصول المنافع إليه في المستقبل و قال قوم هو لذة في القلب فحسب متعلقة بما فيه النفع و كل سرور فلا بد له من متعلق كالسرور بالمال و الولد و السرور بالإكرام و الإجلال و السرور بالحمد و الشكر و السرور بالثواب و الأرائك الحجال فيها الأسرة واحدتها أريكة قال الزجاج الأريكة كل ما يتكأ عليه من مسورة أو غيرها و الزمهرير أشد ما يكون من البرد و الزنجبيل ضرب من القرفة طيب الطعم يحذو اللسان و يربى بالعسل و يستدفع به المضار و إذا مزج به الشراب فاق في الإلذاذ و العرب تستطيب الزنجبيل جدا قال الشاعر:

620
مجمع البيان في تفسير القرآن10

اللغة ص 620

         كان القرنفل و الزنجبيل             باتا بفيها واريا مشورا
و السلسبيل الشراب السهل اللذيذ يقال شراب سلسل و سلسال و سلسبيل و الولدان الغلمان جمع وليد و السندس الديباج الرقيق الفاخر الحسن و الإستبرق الديباج الغليظ الذي له بريق.
الإعراب‏
 «وَ إِذا رَأَيْتَ ثَمَّ» قال الزجاج العامل في ثم معنى رأيت و المعنى و إذا رأيت ببصرك ثم قال الفراء المعنى و إذا رأيت ما ثم و غلطه الزجاج في ذلك و قال إن ما تكون موصولة بقوله ثم على هذا التفسير و لا يجوز إسقاط الموصول و ترك الصلة و لكن رأيت يتعدى في المعنى إلى ثم و أقول يجوز أن يكون مفعول رأيت محذوفا و يكون ثم ظرفا و التقدير و إذا رأيت ما ذكرناه ثم.
المعنى‏
ثم أخبر سبحانه بما أعد للأبرار الموصوفين في الآيات الأولى من الجزاء فقال «فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ» أي كفاهم الله و منع منهم أهوال يوم القيامة و شدائده «وَ لَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَ سُرُوراً» أي استقبلهم بذلك «وَ جَزاهُمْ» أي و كافأهم «بِما صَبَرُوا» أي بصبرهم على طاعته و اجتناب معاصيه و تحمل محن الدنيا و شدائدها «جَنَّةً» يسكنونها «وَ حَرِيراً» من لباس الجنة يلبسونه و يفرشونه «مُتَّكِئِينَ» أي جالسين جلوس الملوك «فِيها» أي في الجنة «عَلَى الْأَرائِكِ» أي الأسرة في الحجال عن ابن عباس و مجاهد و قتادة و قيل كلما يتكأ عليه فهو أريكة عن الزجاج و قيل الأرائك الفرش فوق الأسرة عن أبي مسلم «لا يَرَوْنَ فِيها» أي في تلك الجنة «شَمْساً» يتأذون بحرها «وَ لا زَمْهَرِيراً» يتأذون ببرده «وَ دانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها» يعني أن أفياء أشجار تلك الجنة قريبة منهم و قيل إن ظلال الجنة لا تنسخها الشمس كما تنسخ ظلال الدنيا «وَ ذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلًا» أي و سخرت و سهل أخذ ثمارها تسخيرا إن قام ارتفعت بقدره و إن قعد نزلت عليه حتى ينالها و إن اضطجع تدلت حتى تنالها يده عن مجاهد و قيل معناه لا يرد أيديهم عنها بعد و لا شوك «وَ يُطافُ عَلَيْهِمْ» أي على هؤلاء الأبرار الموصوفين قبل «بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَ أَكْوابٍ» جمع كوب و هو إناء للشرب من غير عروة و قيل الأكواب الأقداح عن مجاهد «كانَتْ» تلك الأكواب «قَوارِيرَا» أي زجاجات «مِنْ فِضَّةٍ»
قال الصادق (ع) ينفذ البصر في فضة الجنة كما ينفذ في الزجاج‏
و المعنى أن أصلها من فضة فاجتمع لها بياض الفضة و صفاء

621
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 621

القوارير فيرى من خارجها ما في داخلها قال أبو علي إن سئل فقيل كيف تكون القوارير من فضة و إنما القوارير من الرمل دونها فالقول في ذلك أن الشي‏ء إذا قاربه شي‏ء و اشتدت ملابسته له قيل أنه من كذا و إن لم يكن منه في الحقيقة كقول البعيث:
         ألا أصبحت خنساء خارمة الوصل             و ضنت علينا و الضنين من البخل‏
         و صدت فأعدانا بهجر صدودها             و هن من الأخلاف قبلك و المطل‏
و قال:
         ألا في سبيل الله تغيير لمتي             و وجهك مما في القوارير أصفر
فعلى هذا يجوز قوارير من فضة أي هي في صفاء الفضة و نقائها و يجوز تقدير حذف المضاف أي من صفاء الفضة و قوارير الثانية بدل من الأولى و ليست بتكرار و قيل أن قوارير كل أرض من تربتها و أرض الجنة فضة فلذلك كانت قواريرها مثل الفضة عن ابن عباس «قَدَّرُوها تَقْدِيراً» أي قدروا الكأس على قدر ربهم لا يزيد و لا ينقص من الري و الضمير في قدروها للسقاة و الخدم الذين يسقون فإنهم يقدرونها ثم يسقون و قيل قدروها على قدر مل‏ء الكف أي كانت الأكواب على قدر ما اشتهوا لم تعظم و لم يثقل الكف عن حملها عن الربيع و القرظي و قيل قدروها في أنفسهم قبل مجيئها على صفة فجاءت على ما قدروا و الضمير في قدروا للشاربين «وَ يُسْقَوْنَ فِيها» أي في الجنة «كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلًا» قال مقاتل لا يشبه زنجبيل الدنيا و قال ابن عباس كل ما ذكره الله في القرآن مما في الجنة و سماه ليس له مثل في الدنيا و لكن سماه الله بالاسم الذي يعرف و الزنجبيل مما كانت العرب تستطيبه فلذلك ذكره في القرآن و وعدهم أنهم يسقون في الجنة الكأس الممزوجة بزنجبيل الجنة «عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا» أي تمزج الخمر بالزنجبيل و الزنجبيل من عين تسمى تلك العين سلسبيلا قال ابن الأعرابي لم أسمع السلسبيل إلا في القرآن و قال الزجاج هو صفة لما كان في غاية السلاسة يعني أنها سلسلة تتسلسل في الحلق و قيل سمي سلسبيلا لأنها تسيل عليهم في الطرق و في منازلهم تنبع من أصل العرش من جنة عدن إلى أهل الجنان عن أبي العالية و مقاتل و قيل سميت بذلك لأنها ينقاد ماؤها لهم يصرفونها حيث شاءوا عن قتادة «وَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ» مر تفسيره «إِذا رَأَيْتَهُمْ» يعني إذا رأيت أولئك الولدان «حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً» من الصفاء و حسن المنظر و الكثرة فذكر لونهم و كثرتهم و قيل إنما

622
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 621

شبههم بالمنثور لانتثارهم في الخدمة فلو كانوا صفا لشبهوا بالمنظوم «وَ إِذا رَأَيْتَ ثَمَّ» أي إذا رميت ببصرك ثم يعني الجنة و
قيل أن تقديره و إذا رأيت الأشياء ثم «رَأَيْتَ نَعِيماً» خطيرا «وَ مُلْكاً كَبِيراً» لا يزول و لا يفنى عن الصادق (ع)
و قيل كبيرا أي واسعا يعني أن نعيم الجنة لا يوصف كثرة و إنما يوصف بعضها و قيل الملك الكبير استئذان الملائكة عليهم و تحيتهم بالسلام و قيل هو أنهم لا يريدون شيئا إلا قدروا عليه و قيل هو أن أدناهم منزلة ينظر في ملكه من مسيرة ألف عام يرى أقصاه كما يرى أدناه و قيل هو الملك الدائم الأبدي في نفاذ الأمر و حصول الأماني «عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ» من جعله ظرفا فهو بمنزلة قولك فوقهم ثياب سندس و من جعله حالا فهو بمنزلة قولك يعلوهم ثياب سندس و هو ما رق من الثياب فيلبسونها و
روي عن الصادق (ع) أنه قال في معناه تعلوهم الثياب فيلبسونها
 «خُضْرٌ وَ إِسْتَبْرَقٌ» و هو ما غلظ منها و لا يراد به الغلظ في السلك إنما يراد به الثخانة في النسج قال ابن عباس أ ما رأيت الرجل عليه ثياب و الذي يعلوها أفضلها «وَ حُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ» الفضة الشفافة و هي التي يرى ما وراءها كما يرى من البلورة و هو أفضل من الدر و الياقوت و هما أفضل من الذهب و الفضة فتلك الفضة أفضل من الذهب و الفضة في الدنيا و هما أثمان الأشياء و قيل أنهم يحلون بالذهب تارة و بالفضة أخرى ليجمعوا محاسن الحلية كما قال الله تعالى يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ* و الفضة و إن كانت دنية الثمن في الدنيا فهي في غاية الحسن خاصة إذا كانت بالصفة التي ذكرناها و الغرض في الآخرة ما يكثر الاستلذاذ و السرور به لا ما يكثر ثمنه لأنه ليست هناك أثمان «وَ سَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً» أي طاهرا من الأقذار و الأقذاء لم تدنسها الأيدي و لم تدسها الأرجل كخمر الدنيا و قيل طهورا لا يصير بولا نجسا و لكن يصير رشحا في أبدانهم كريح المسك و إن الرجل من أهل الجنة يقسم له شهوة مائة رجل من أهل الدنيا و أكلهم و نهمتهم فإذا أكل ما شاء سقي شرابا طهورا فيطهر بطنه و يصير ما أكل رشحا يخرج من جلده أطيب ريحا من المسك الأذفر و يضمر بطنه و تعود شهوته عن إبراهيم التميمي و أبي قلابة و
قيل يطهرهم عن كل شي‏ء سوى الله إذ لا طاهر من تدنس بشي‏ء من الأكوان إلا الله رووه عن جعفر بن محمد (ع)
 «إِنَّ هذا» يعني ما وصف من النعيم و أنواع الملاذ «كانَ لَكُمْ جَزاءً» أي مكافاة على أعمالكم الحسنة و طاعتكم المبرورة «وَ كانَ سَعْيُكُمْ» في مرضاة الله و قيامكم بما أمركم الله به «مَشْكُوراً» أي مقبولا مرضيا جوزيتم عليه فكأنه شكر لكم فعلكم.

623
مجمع البيان في تفسير القرآن10

سورة الإنسان الآيات 23 الى 31 ص 624

[سورة الإنسان (76): الآيات 23 الى 31]
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَ لا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (24) وَ اذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَ أَصِيلاً (25) وَ مِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَ سَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً (26) إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَ يَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (27)
نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَ شَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَ إِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً (28) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى‏ رَبِّهِ سَبِيلاً (29) وَ ما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَ الظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (31)

القراءة
قرأ ابن كثير و أبو عمرو و ابن عامر و ما يشاءون بالياء و الباقون بالتاء و في الشواذ قراءة عبد الله بن الزبير و أبان بن عثمان و الظالمون بالواو.
الحجة
وجه الياء قوله تعالى «فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ» و وجه التاء أنه خطاب للكافة أي و ما تشاءون الطاعة و الاستقامة إلا أن يشاء الله أو يكون محمولا على الخطاب و أما قوله و الظالمون فإنه على ارتجال جملة مستأنفة قال ابن جني كأنه قال الظالمون أعد لهم عذابا أليما ثم أنه عطف الجملة على ما قبلها و قد سبق الرفع إلى مبتدئها غير أن قراءة الجماعة أسبق و هو النصب لأن معناه و يعذب الظالمين فلما أضمر هذا الفعل فسره بقوله «أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً» و هذا أكثر من أن يؤتى له بشاهد قال الزجاج يقول النحويون أعطيت زيدا و عمرا أعددت له برا فيختارون النصب على معنى و بررت عمرا أعددت له برا و أنشد غيره:
         أصبحت لا أحمل السلاح و لا             أملك رأس البعير إن نفرا
         و الذئب أخشاه إن مررت به             وحدي و أخشى الرياح و المطرا.
اللغة
الأسر أصله الشد و منه قتب مأسور أي مشدود و منه الأسير لأنهم كانوا يشدونه بالقدر قولهم خذ بأسره أي بشدة قبل أن يحل ثم كثر حتى صار بمعنى خذ جميعه قال الأخطل:

624
مجمع البيان في تفسير القرآن10

اللغة ص 624

         من كل مجتنب شديد أسره             سلس القياد تخاله مختالا.
الإعراب‏
قال الزجاج في قوله «وَ لا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً» أو هنا أوكد من الواو لأنك إذا قلت لا تطع زيدا و عمرا فأطاع أحدهما كان غير عاص لأنك أمرته أن لا يطيع الاثنين و إذا قلت لا تطع منهم آثما أو كفورا فأو قد دلت على أن كل واحد منهما أهل أن يعصي و أنهما أهل أن يعصيا كما أنك إذا قلت جالس الحسن أو ابن سيرين فقد قلت كل واحد منهما أهل أن يجالس قال البصير النحوي أو هذه التي للتخيير إذا قلت اضرب زيدا أو عمرا فمعناه اضرب أحدهما فإذا قلت لا تضرب زيدا أو عمرا فمعناه لا تضرب أحدهما فيحرم عليه ضربهما لأن أحدهما في النفي يعمم و ابن كيسان يحمل النهي على الأمر فيقول إذا قال لا تضرب أحدهما لم يحرم عليه ضربهما و إنما حرم في الآية طاعتهما لأن أحدهما بمنزلة الآخر في امتناع الطاعة له أ لا ترى أن الآثم مثل الكفور في هذا المعنى قال سيبويه و لو قال لا تطع آثما و لا تطع كفورا لانقلب المعنى إذ ذاك لأنه حينئذ لا تحرم طاعتهما كليهما.
المعنى‏
ثم أخبر سبحانه عن نفسه فقال «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا» فيه شرف و تعظيم لك و قيل معناه فصلناه في الإنزال آية بعد آية و لم ننزله جملة واحدة عن ابن عباس «فَاصْبِرْ» يا محمد على ما أمرتك به من تحمل أعباء الرسالة «لِحُكْمِ رَبِّكَ» أن تبلغ الكتاب و تعمل به و قيل أنه أمر لنبينا ص بالصبر و إن كذب فيما أتى به و وعيد لمن كذبه «وَ لا تُطِعْ مِنْهُمْ» أي من مشركي المكة «آثِماً» يعني عتبة بن ربيعة «أَوْ كَفُوراً» يعني الوليد بن المغيرة فإنهما قالا له ارجع عن هذا الأمر و نحن نرضيك بالمال و التزويج عن مقاتل و قيل الكفور أبو جهل نهى النبي ص عن الصلاة و قال لئن رأيت محمدا يصلي لأطأن عنقه فنزلت الآية عن قتادة و قيل إن ذلك عام في كل عاص فاسق و كافر منهم أي من الناس أي لا تطع من يدعوك إلى إثم أو كفر و هذا أولى لزيادة الفائدة و عدم التكرير «وَ اذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَ أَصِيلًا» أي أقبل على شأنك من ذكر الله و الدعاء إليه و تبليغ الرسالة صباحا و مساء أي دائما فإن الله ناصرك و مؤيدك و معينك و البكرة أول النهار و الأصيل العشي و هو أصل الليل «وَ مِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ» دخلت من للتبعيض و المعنى فاسجد له في بعض الليل لأنه لم يأمره بقيام الليل كله و قيل فاسجد له يعني صلاة المغرب و العشاء «وَ سَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا» أي‏

625
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 625

في ليل طويل يريد التطوع بعد المكتوبة و
روي عن الرضا (ع) أنه سأله أحمد بن محمد عن هذه الآية و قال ما ذلك التسبيح قال صلاة الليل‏
 «إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ» أي يؤثرون اللذات و المنافع العاجلة في دار الدنيا «وَ يَذَرُونَ وَراءَهُمْ» أي و يتركون أمامهم «يَوْماً ثَقِيلًا» أي عسيرا شديدا و المعنى أنهم لا يؤمنون به و لا يعملون له و قيل معنى وراءهم خلف ظهورهم و كلاهما محتمل ثم قال سبحانه «نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَ شَدَدْنا أَسْرَهُمْ» أي قوينا و أحكمنا خلقهم عن قتادة و مجاهد و قيل أسرهم أي مفاصلهم عن الربيع و قيل أوصالهم بعضها إلى بعض بالعروق و العصب عن الحسن و لو لا إحكامه إياها على هذا الترتيب لما أمكن العمل بها و الانتفاع منها و قيل شددنا أسرهم جعلناهم أقوياء عن الجبائي و قيل معناه كلفناهم و شددناهم بالأمر و النهي كيلا يجاوزوا حدود الله كما يشد الأسير بالقد لئلا يهرب «وَ إِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلًا» أي أهلكناهم و أتينا بأشباههم فجعلناهم بدلا منهم و لكن نبقيهم إتماما للحجة «إِنَّ هذِهِ» السورة «تَذْكِرَةٌ» أي تذكير و عظة يتذكر بها أمر الآخرة عن قتادة و قيل أن هذه الرسالة التي تبلغها «فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى‏ رَبِّهِ سَبِيلًا» أي فمن أراد اتخذ إلى رضا ربه طريقا بأن يعمل بطاعته و ينتهي عن معصيته و في هذا دلالة على أن الاستطاعة قبل الفعل «وَ ما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ» أي و ما تشاءون اتخاذ الطريق إلى مرضاة الله اختيارا إلا أن يشاء الله إجباركم عليه و إلجاءكم إليه فحينئذ تشاءون و لا ينفعكم ذلك و التكليف زائل و لم يشأ الله هذه المشيئة بل شاء أن تختاروا الإيمان لتستحقوا الثواب عن أبي مسلم و قيل معناه و ما تشاءون شيئا من العمل بطاعته إلا و الله يشاؤه و يريده و ليس المراد بالآية أنه سبحانه يشاء كل ما يشاء العبد من المعاصي و المباحات و غيرها لأن الدلائل الواضحة قد دلت على أنه سبحانه لا يجوز أن يريد القبائح و يتعالى عن ذلك و قد قال سبحانه وَ لا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَ مَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ «إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً» مر معناه «يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ» أي جنته يعني المؤمنين «وَ الظَّالِمِينَ» يعني و يجزي الكافرين و المشركين «أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً».

626
مجمع البيان في تفسير القرآن10

سورة المرسلات مكية و آياتها خمسون ص 627

(77) سورة المرسلات مكية و آياتها خمسون (50)
[توضيح‏]
و هي خمسون آية بلا خلاف.
فضلها
أبي بن كعب عن النبي ص قال و من قرأ سورة و المرسلات كتب أنه ليس من المشركين‏
و
روي عن أبي عبد الله (ع) قال من قرأها عرف الله بينه و بين محمد ص.
تفسيرها
لما ختم سبحانه سورة هل أتى بذكر القيامة و ما أعد فيها للظالمين افتتح هذه السورة بمثل ذلك فقال:
[سورة المرسلات (77): الآيات 1 الى 15]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏
وَ الْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (1) فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (2) وَ النَّاشِراتِ نَشْراً (3) فَالْفارِقاتِ فَرْقاً (4)
فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً (5) عُذْراً أَوْ نُذْراً (6) إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ (7) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَ إِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ (9)
وَ إِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ (10) وَ إِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ (14)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15)

القراءة
قرأ أهل الحجاز و الشام و أبو بكر و يعقوب و سهل «عُذْراً» ساكنة الذال أو نذرا

627
مجمع البيان في تفسير القرآن10

القراءة ص 627

بضمها و روى محمد بن الحبيب عن الأعشى و البرجمي عن أبي بكر بضم الذال فيهما و محمد بن خالد عن الأعشى عذرا بسكون الذال أو نذرا بضمها مثل رواية حماد و يحيى عن أبي بكر و قرأ الباقون بسكون الذال فيهما و قرأ أبو جعفر وقتت بالواو و التخفيف و قرأ أهل البصرة غير رويس بالواو و التشديد و قرأ الباقون «أُقِّتَتْ» بالألف و تشديد القاف.
الحجة
قال أبو علي النذر بالتثقيل و النذير مثل النكر و النكير و هما جميعا مصدران و يجوز في النذير ضربان (أحدهما) أن يكون مصدرا كالنكير و عذير الحي (و الآخر) أن يكون فعيلا يراد به المنذر كما أن الأليم بمعنى المؤلم و يجوز تخفيف النذر على حد التخفيف في العنق و العنق و الأذن و الأذن قال أبو الحسن «عُذْراً أَوْ نُذْراً» أي إعذارا أو إنذارا و قد خففتا جميعا و هما لغتان فأما انتصاب عذرا فعلى ثلاثة أضرب (أحدها) أن يكون بدلا من الذكر في قوله «فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً» (و الآخر) أن يكون مفعول ذكرا أي فالملقيات أن يذكر عذرا أو نذرا (و الثالث) أن يكون منصوبا على أنه مفعول له و يجوز في قول من ضم عذرا أو نذرا (و الثالث) أن يكون منصوبا على أنه مفعول له و يجوز في قول من ضم عذرا أو نذرا أن يكون عذرا جمع عاذر أو عذور و النذر جمع نذير قال حاتم:
         أ ماوي قد طال التجنب و الهجر             و قد عذرتني في طلابكم العذر
فيكون عذرا أو نذرا على هذا حالا من الإلقاء كأنهم يلقون الذكر في حال العذر و الإنذار و من قرأ وقتت بالواو فلان الكلمة أصلها من الوقت و من أبدل منها الهمزة فلانضمام الواو و الواو إذا انضمت أولا في نحو وجوه و وعود و ثالثة في نحو أدؤر فإنها تبدل على الاطراد همزة لكراهتهم الضمة على الواو.
المعنى‏
 «وَ الْمُرْسَلاتِ عُرْفاً» يعني الرياح أرسلت متتابعة كعرف الفرس عن ابن مسعود و ابن عباس و مجاهد و قتادة و أبي صالح فعلى هذا يكون عرفا نصبا على الحال من قولهم جاءوا إليه عرفا واحدا أي متتابعين و قيل إنها الملائكة أرسلت بالمعروف من أمر الله و نهيه و
في رواية أخرى عن ابن مسعود و عن أبي حمزة الثمالي عن أصحاب علي عنه (ع)
و على هذا يكون مفعولا له و قيل المراد بها الأنبياء جاءت بالمعروف و الإرسال نقيض الإمساك «فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً» يعني الرياح الشديدات الهبوب و العصوف مرور الريح بشدة

628
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 628

 «وَ النَّاشِراتِ نَشْراً» و هي الرياح التي تأتي بالمطر تنشر السحاب نشرا للغيث كما تلحقه للمطر و قيل أنها الملائكة تنشر الكتب عن الله تعالى عن أبي حمزة الثمالي و أبي صالح و قيل أنها الأمطار تنشر النبات عن أبي صالح في رواية أخرى و قيل الرياح ينشرها الله تعالى نشرا بين يدي رحمته عن الحسن و قيل الرياح تنشر السحاب في الهواء عن الجبائي «فَالْفارِقاتِ فَرْقاً» يعني الملائكة تأتي بما يفرق به بين الحق و الباطل و الحلال و الحرام عن ابن عباس و أبي صالح و قيل هي آيات القرآن تفرق بين الحق و الباطل و الهدى و الضلال عن الحسن و أبي حمزة و قتادة و قيل أنها الرياح التي تفرق بين السحاب فتبدده عن مجاهد «فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً» يعني الملائكة تلقي الذكر إلى الأنبياء و تلقيه الأنبياء إلى الأمم عن ابن عباس و قتادة كأنها الحاملات للذكر الطارحات له ليأخذه من خوطب به و الإلقاء طرح الشي‏ء على غيره «عُذْراً أَوْ نُذْراً» أي للإعذار و الإنذار و معناه إعذارا من الله و إنذارا إلى خلقه و قيل عذرا يعتذر الله به إلى عباده في العقاب أنه لم يكن إلا على وجه الحكمة و نذرا أي إعلاما بموضوع المخافة عن الحسن و هذه أقسام ذكرها الله تعالى و قيل أقسم الله سبحانه برب هذه الأشياء عن الجبائي قال لا يجوز القسم إلا بالله سبحانه و قال غيره بل أقسم بهذه الأشياء تنبيها على عظم موقعها «إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ» هذا جواب القسم و المعنى أن الذي وعدكم الله به من البعث و النشور و الثواب و العقاب لكائن لا محالة و قيل إن الفرق بين الواقع و الكائن أن الواقع لا يكون إلا حادثا تشبيها بالحائط الواقع لأنه من أبين الأشياء في الحدوث و الكائن أعم منه لأنه بمنزلة الموجود الثابت يكون حادثا و غير حادث ثم بين سبحانه وقت وقوعه فقال «فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ» أي محيت آثارها و أذهب نورها و أزيل ضوءها «وَ إِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ» أي شقت و صدعت فصار فيها فروج «وَ إِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ» أي قلعت من مكانها كقوله سبحانه يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً و قيل نسفت أذهبت بسرعة حتى لا يبقى لها أثر في الأرض «وَ إِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ» أي جمعت لوقتها و هو يوم القيامة لتشهد على الأمم و هو قوله «لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ» أي أخرت و ضرب لهم الأجل لجمعهم تعجب العباد من ذلك اليوم عن إبراهيم و مجاهد و ابن زيد و قيل أقتت معناه عرفت وقت الحساب و الجزاء لأنهم في الدنيا لا يعرفون متى تكون الساعة و قيل عرفت ثوابها في ذلك اليوم و
قال الصادق ع أقتت أي بعثت في أوقات مختلفة
ثم بين سبحانه ذلك اليوم فقال «لِيَوْمِ الْفَصْلِ» أي يوم يفصل الرحمن بين الخلائق ثم عظم ذلك اليوم فقال «وَ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ» ثم أخبر سبحانه حال من كذب به فقال «وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ» هذا تهديد و وعيد إنما خص الوعيد بمن جحدوا يوم القيامة و كذب به لأن التكذيب بذلك يتبعه خصال المعاصي كلها و إن لم يذكر معه و العامل‏

629
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 628

في الظرف محذوف يدل عليه قوله «إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ» و التقدير فإذا طمست النجوم و فرجت السماء و نسفت الجبال و أقتت الرسل وقعت القيامة.
[سورة المرسلات (77): الآيات 16 الى 28]
أَ لَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19) أَ لَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (20)
فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ (21) إِلى‏ قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24) أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (25)
أَحْياءً وَ أَمْواتاً (26) وَ جَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَ أَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28)

القراءة
قرأ أهل المدينة و الكسائي فقدرنا بالتشديد و الباقون «فَقَدَرْنا» بالتخفيف و في الشواذ قراءة الأعرج نتبعهم بالجزم.
الحجة
قد تقدم أن قدر و قدر بمعنى و التخفيف أليق بقوله «فَنِعْمَ الْقادِرُونَ» و من شد أراد أن يجي‏ء باللغتين كما يقال جاد مجد و كقوله سبحانه فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ و من جزم نتبعهم فإنه يحتمل أمرين (أحدهما) أنه أسكن العين استثقالا لتوالي الحركات (و الثاني) أن يكون عطفا على نهلك كما تقول أ لم أزرك ثم أحسن إليك فيكون معنى هذه القراءة أنه يريد قوما أهلكهم الله سبحانه بعد قوم قبلهم على اختلاف أوقات المرسلين إليهم نبيا بعد نبي و أما الرفع على القراءة المشهورة فلاستئناف الكلام أو على أن يجعل خبر مبتدإ محذوف.
اللغة
القرار المكان الذي يمكن طول المكث فيه و القدر المقدر المعلوم الذي لا زيادة فيه و لا نقصان و القدر المصدر من قولهم قدر يقدر قدرا و قدرا أي قدر فمن شدد جمع بين اللغتين كما قال الأعشى:

630
مجمع البيان في تفسير القرآن10

اللغة ص 630

         و أنكرتني و ما كان الذي نكرت             من الحوادث إلا الشيب و الصلعا
و كفت الشي‏ء يكفته كفتا و كفاتا إذا ضمه و
منه الحديث اكفتوا صبيانكم‏
أي ضموهم إلى أنفسكم و مثله‏
ضموا مواشيكم حتى تذهب فحمة العشاء
و يقال للوعاء كفت و كفيت و قال أبو عبيدة كفاتا أي أوعية و الرواسي الثوابت و الشامخات العاليات و منه شمخ بأنفه إذا رفعه كبرا و ماء فرات و زلال و عذب و نمير كله من العذوبة و الطيب و منه سمي النهر العظيم المعروف بالفرات قال الشاعر:
         إذا غاب عنا غاب عنا فراتنا             و إن شهد أجدى نيله و فواضله‏
قال ابن عباس أصول الأنهار العذبة أربعة جيحان و منه دجلة و سيحان نهر بلخ و فرات الكوفة و نيل مصر.
الإعراب‏
أحياء منصوب بأنه مفعول قوله «كِفاتاً» معناه أن يكفت أحياء و أمواتا فعلى هذا يكون كفاتا مصدرا و إن جعلته جمع كفت فيكون العامل في أحياء معناه و التقدير واعية أحياء أو تعي أحياء.
المعنى‏
ثم ذكر سبحانه ما فعله بالمكذبين الأولين فقال «أَ لَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ» يعني بالعذاب في الدنيا يريد قوم نوح و عاد و ثمود حين كذبوا رسلهم «ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ» قوم لوط و إبراهيم لم يعطف نتبعهم على نهلك فيجزم بل استأنف و قال المبرد تقديره ثم نحن نتبعهم لا يجوز غيره لأن قوله «أَ لَمْ نُهْلِكِ» ماض و قوله «ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ» مستقبل و يؤيده قول الحسن أن الآخرين هم الذين تقوم عليهم القيامة «كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ» أي كما فعلنا بمن تقدم نفعل بالمكذبين من أهل مكة و قد فعل بهم ذلك فقتلوا يوم بدر و قد يكون الإهلاك بتصيير الشي‏ء إلى حيث لا يدري أين هو إما بإعدامه أو بإخفاء مكانه و قد يكون بالأمانة و قد يكون بالنقل إلى حال الجمادية «وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ» يعني يوم الجزاء «لِلْمُكَذِّبِينَ» فإنهم يجازون باليم العقاب «أَ لَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ» أي حقير قليل الغناء و في خلق الإنسان على هذا الكمال من الحواس الصحيحة و العقل الشريف و التمييز و النطق من ماء ضعيف أعظم الاعتبار و أبين الحجة على أن له صانعا مدبرا حكيما و الجاحد لذلك كالمكابر لبداية العقول «فَجَعَلْناهُ» أي فجعلنا ذلك الماء المهين «فِي قَرارٍ مَكِينٍ» يعني الرحم‏

631
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 631

 «إِلى‏ قَدَرٍ مَعْلُومٍ» أي إلى مقدار من الوقت معلوم يعني مدة الحمل «فَقَدَرْنا» أي قدرنا خلقه كيف يكون قصيرا أو طويلا ذكرا أم أنثى «فَنِعْمَ الْقادِرُونَ» أي فنعم المقدرون نحن و يجوز أن يكون المعنى إذا خفف من القدرة أي قدرنا على جميع ذلك فنعم القادرون على تدبير ذلك و على ما لا يقدر عليه أحد إلا نحن فحذف المخصوص بالمدح «وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ» بأنا قد خلقنا الخلق و أنا نعيدهم «أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً» للعباد تكفتهم «أَحْياءً» على ظهرها في دورهم و منازلهم «وَ» تكفتهم «أَمْواتاً» في بطنها أي تحوزهم و تضمهم عن قتادة و مجاهد و الشعبي‏
قال بنان خرجنا في جنازة مع الشعبي فنظر إلى الجنازة فقال هذه كفات الأموات ثم نظر إلى البيوت فقال هذه كفات الأحياء و روي ذلك عن أمير المؤمنين (ع)
و قيل كفاتا أي وعاء و هذا كفته أي وعاءه و قوله «أَحْياءً وَ أَمْواتاً» أي منه ما ينبت و منه ما لا ينبت فعلى هذا يكون أحياء و أمواتا نصبا على الحال و على القول الأول على المفعول به «وَ جَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ» أي جبالا ثابتة عالية «وَ أَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً» أي و جعلنا لكم سقيا من الماء العذب عن ابن عباس «وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ» بهذه النعم و أنها من جهة الله و قيل بالأنبياء و القرآن و إنما كرر لأنه عدد النعم فذكره عند كل نعمة فلا يعد ذلك تكرارا و قد تقدم الوجه في التكرار في سورة الرحمن.
[سورة المرسلات (77): الآيات 29 الى 40]
انْطَلِقُوا إِلى‏ ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انْطَلِقُوا إِلى‏ ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (30) لا ظَلِيلٍ وَ لا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ (33)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34) هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (35) وَ لا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَ الْأَوَّلِينَ (38)
فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40)

القراءة
قرأ رويس عن يعقوب انطلقوا الثانية بفتح اللام و الباقون من القراء على كسر اللام فيهما و قرأ أهل الكوفة غير أبي بكر جِمالَتٌ بغير ألف و يعقوب «جمالات صفر» بالألف و ضم الجيم و روي ذلك عن ابن عباس و سعيد بن جبير و غيرهما و قرأ الباقون جمالات بالألف‏

632
مجمع البيان في تفسير القرآن10

القراءة ص 632

و كسر الجيم و في الشواذ قراءة ابن عباس و سعيد بن جبير بخلاف كالقصر بفتح القاف و الصاد.
الحجة
من قرأ انطلقوا الثانية بالفتح فإنه حمل الأول على الأمر و الثاني على الخبر و جمالات جمع جمال و جمع بالألف و التاء على تصحيح البناء كما جمع على تكسيره في قولهم جمائل قال ذو الرمة:
         و قربن بالزرق الجمائل بعد ما             تقوب عن غربان أوراكها الخطر
و أما جمالة فإن التاء لحقت جمالا لتأنيث الجمع كما لحقت في فحل و فحالة و ذكر و ذكارة و من قرأ جمالات بالضم فهي جمع جمالة و هو القلس من قلوس سفن البحر و يقال من قلوس الجسر قال الزجاج و يجوز أن يكون جمع جمل جمال و جمالات كما قيل رخال جمع رخل و من قرأ كالقصر بفتح الصاد فهو جمع قصرة أي كأنها أعناق الإبل و قيل القصر أصول الشجر واحدتها قصرة و كذا قرأها مجاهد قال و هي خرم الشجر قال الحسن قصرة و قصر مثل جمرة و جمر و هي أصول الشجر قال و العامة يجعلونها على القصور قال ابن جني و حدثنا أبو على أن القصر هنا بمعنى القصور و قال هي بيوت من أدم كان يضربون بها إذا نزلوا على الماء.
المعنى‏
ثم بين سبحانه ما يقال لهم جزاء على تكذيبهم فقال «انْطَلِقُوا إِلى‏ ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ» أي تقول لهم الخزنة اذهبوا و سيروا إلى النار التي كنتم تجحدونها و تكذبون بها و لا تعترفون بصحتها في الدنيا و الانطلاق الانتقال من مكان إلى مكان من غير مكث ثم ذكر الموضع الذي أمرهم بالانطلاق إليه فقال «انْطَلِقُوا إِلى‏ ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ» أي نار لها ثلاث شعب سماها ظلا لسواد نار جهنم و قيل هو دخان جهنم له ثلاث شعب تحيط بالكافر شعبة تكون فوقه و شعبة عن يمينه و شعبة عن شماله و سمي الدخان ظلا كما قال أحاط بهم سرادقها أي من الدخان الآخر بالأنفاث عن مجاهد و قتادة و قيل يخرج من النار لسان فيحيط بالكافر كالسرادق فيتشعب ثلاث شعب فيكون فيها حتى يفرغ من الحساب ثم وصف سبحانه ذلك الظل فقال «لا ظَلِيلٍ» أي غير مانع من الأذى بستره عنه و مثله الكنين فالظليل من‏

633
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 633

الظلة و هي السترة و الكنين من الكن فظل هذا الدخان لا يغني الكفار شيئا من حر النار و هو قوله «وَ لا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ» و اللهب ما يعلو على النار إذا اضطرمت من أحمر و أصفر و أخضر يعني أنهم إذا استظلوا بذلك الظل لم يدفع عنهم حر اللهب ثم وصف سبحانه النار فقال «إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ» و هو ما يتطاير من النار في الجهات «كَالْقَصْرِ» أي مثله في عظمه و تخويفه تتطاير على الكافرين من كل جهة نعوذ بالله منه و هو واحد القصور من البنيان عن ابن عباس و مجاهد و العرب تشبه الإبل بالقصور قال الأخطل:
         كأنه برج رومي يشيده             لز بجص و آجر و أحجار
قال عنترة:
         فوقفت فيها ناقتي و كأنها             فدن لأقضي حاجة المتلوم‏
و الفدن القصر و قيل كالقصر أي كأصول الشجر العظام عن قتادة و الضحاك و سعيد بن جبير ثم شبهه في لونه بالجمالات الصفر فقال «كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ» أي كأنها أينق سود لما يعتري سوادها من الصفرة عن الحسن و قتادة قال الفراء لا ترى أسود من الإبل إلا و هو مشرب صفرة و لذلك سمت العرب سود الإبل صفراء و قيل هو من الصفرة لأن النار تكون صفراء عن الجبائي «وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ» بنار هذه صفتها «هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَ لا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ» قيل في معناه قولان (أحدهما) أنهم لا ينطقون بنطق ينتفعون به فكأنهم لم ينطقوا (و الثاني) أن في القيامة مواقف ففي بعضها يختصمون و يتكلمون و في بعضها يختم على أفواههم و لا يتكلمون و عن قتادة قال جاء رجل إلى عكرمة قال أ رأيت قول الله تعالى «هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ» و قوله ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ فقال إنها مواقف فأما موقف منها فتكلموا و اختصموا ثم ختم على أفواههم و تكلمت أيديهم و أرجلهم فحينئذ لا ينطقون و أجاز النحويون «هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ» بالنصب على أنه يشير إلى الجزاء و لا يشير إلى اليوم و قوله «فَيَعْتَذِرُونَ» رفع عطفا على قوله «وَ لا يُؤْذَنُ لَهُمْ» تقديره فلا يعتذرون و لو قيل فلا يعتذروا فنصب لكان المعنى أن الإذن سبب لعذرهم و لكن المعنى لا يؤذن لهم في الاعتذار فهم لا يعتذرون «وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ» بهذا الخبر «هذا يَوْمُ الْفَصْلِ» بين أهل الجنة و النار و قيل هذا يوم الحكم و القضاء بين الخلق‏

634
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 633

و الانتصاف للمظلوم من الظالم و فصل القضاء يكون في الآخرة على ظاهر الأمر و باطنه بخلاف الدنيا لأن القاضي يحكم على ظاهر الأمر في الدنيا و لا يعرف البواطن «جَمَعْناكُمْ وَ الْأَوَّلِينَ» يعني مكذبي هذه الأمة مع مكذبي الأمم قبلها يجمع الله سبحانه الخلائق في يوم واحد و في صعيد واحد «فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ» أي إن كانت لكم حيلة فاحتالوا لأنفسكم و قيل إن هذا توبيخ من الله تعالى للكفار و تقريع لهم و إظهار لعجزهم عن الدفع عن أنفسكم فضلا عن أن يكيدوا غيرهم و إنما هو على أنكم كنتم تعملون في دار الدنيا ما يغضبني فالآن عجزتم عن ذلك و حصلتم على وبال ما عملتم «وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ» بهذا.
[سورة المرسلات (77): الآيات 41 الى 50]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَ عُيُونٍ (41) وَ فَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَ اشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45)
كُلُوا وَ تَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47) وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)

المعنى‏
ثم ذكر سبحانه المؤمنين فقال «إِنَّ الْمُتَّقِينَ» الذين اتقوا الشرك و الفواحش «فِي ظِلالٍ» من أشجار الجنة «وَ عُيُونٍ» جارية بين أيديهم في غير أخدود لأن ذلك أمتع لهم بما يرونه من حسن مياهها و صفائها و قيل عيون أي ينابيع بما يجري خلال الأشجار «وَ فَواكِهَ» جمع فاكهة و هي ثمار الأشجار «مِمَّا يَشْتَهُونَ» أي من جنس ما يشتهونه و الشهوة معنى في القلب إذا صادف المشتهى كان لذة و ضدها النفار ثم يقال لهم «كُلُوا وَ اشْرَبُوا» صورته صورة الأمر و المراد الإباحة و قيل إنه أمر على الحقيقة و هو سبحانه يريد منهم الأكل و الشرب في الجنة فإنهم إذا أعلموا ذلك ازداد سرورهم فلا يكون إرادته لذلك عبثا «هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» في دار الدنيا أي خالصا من التكدير و الهني‏ء النفع الخالص من شائب الأذى و قيل هو الأذى الذي لا أذى يتبعه «إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ» هذا ابتداء الإخبار من الله تعالى و يقال لهم ذلك أيضا «وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ» بهذا

635
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 635

الوعد، ثم عاد الكلام إلى ذكر المكذبين فقال سبحانه «كُلُوا» أي يقال لهم كلوا «وَ تَمَتَّعُوا» في الدنيا «قَلِيلًا» أي تمتعا قليلا أو زمانا قليلا فإن الموت كائن لا محالة «إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ» أي مشركون مستحقون للعقاب «وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ» بهذا الوعيد «وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا» أي صلوا «لا يَرْكَعُونَ» أي لا يصلون‏
قال مقاتل نزلت في ثقيف حين أمرهم رسول الله بالصلاة فقالوا لا ننحني و الرواية لا نحني فإن ذلك سبة علينا فقال ص لا خير في دين ليس فيه ركوع و سجود
و قيل إن المراد بذلك يوم القيامة حين يدعون إلى السجود فلا يستطيعون عن ابن عباس «وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ» بوجوب الصلاة و العبادات «فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ» أي فبأي كتاب بعد القرآن يصدقون و لم يصدقوا به مع إعجازه و حسن نظمه فإن من لم يؤمن به مع ما فيه من الحجة الظاهرة و الآية الباهرة لا يؤمن بغيره.

636
مجمع البيان في تفسير القرآن10

سورة النبإ مكية و آياتها أربعون ص 637

(78) سورة النبإ مكية و آياتها أربعون (40)
[توضيح‏]
و تسمى سورة النبإ و سورة المعصرات و منهم من يقول سورة التساؤل و هي مكية.
عدد آيها
إحدى و أربعون آية مكي و بصري و أربعون في الباقين.
اختلافها
آية واحدة «عَذاباً قَرِيباً» مكي بصري.
فضلها
أبي بن كعب عن النبي ص قال و من قرأ سورة (عم يتساءلون) سقاه الله برد الشراب يوم القيامة
و
روي عن أبي عبد الله (ع) أنه قال من قرأ عم يتساءلون لم يخرج سنته إذا كان يدمنها في كل يوم حتى يزور البيت الحرام.
تفسيرها
لما ختم الله سبحانه تلك السورة بذكر القيامة و وعيد المكذبين بها افتتح هذه السورة بذكرها و ذكر دلائل القدرة على البعث و الإعادة فقال:

637
مجمع البيان في تفسير القرآن10

سورة النبإ الآيات 1 الى 16 ص 638

[سورة النبإ (78): الآيات 1 الى 16]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏
عَمَّ يَتَساءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (4)
ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (5) أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً (6) وَ الْجِبالَ أَوْتاداً (7) وَ خَلَقْناكُمْ أَزْواجاً (8) وَ جَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً (9)
وَ جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً (10) وَ جَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً (11) وَ بَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً (12) وَ جَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً (13) وَ أَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً (14)
لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَ نَباتاً (15) وَ جَنَّاتٍ أَلْفافاً (16)

القراءة
في الشواذ قراءة عكرمة و عيسى بن عمر عما يتساءلون و قرأ ابن الزبير و ابن عباس و قتادة و أنزلنا بالمعصرات.
الحجة
قال ابن جني إثبات الألف في ما الاستفهامية إذا دخل عليها حرف جر أضعف اللغتين و روينا عن قطرب لحسان:
         على ما قام يشتمني لئيم             كخنزير تمرغ في رماد
و قال في قوله بالمعصرات إذا أنزل منها فقد أنزل بها كقولهم أعطيته من يدي شيئا و بيدي شيئا و المعنى واحد و معنى من هنا ابتداء الغاية أي كان مبتدأ العطية من يده.
اللغة
النبأ الخبر العظيم الشأن و منه النبي‏ء على مذهب من يهمز و المهاد الوطاء و مهد الشي‏ء تمهيدا أي وطأه توطية و الوتد المسمار إلا أنه أغلظ منه و السبات قطع العمل للراحة و منه سبت أنفه إذا قطعه و منه يوم السبت أي يوم قطع العمل على ما جرت به العادة في شرع موسى (ع) و الوهاج الوقاد و هو المشتغل بالنور العظيم و المعصرات السحائب تعتصر بالمطر كان السحاب يحمل الماء ثم تعصره الرياح و ترسله كإرسال الماء بعصر الثور و عصر القوم مطروا و الثجاج الدفاع في انصبابه كثج دماء البدن يقال ثججت دمه أثجه ثجا و قد ثج الدم يثج ثجوجا و
في الحديث أفضل الحج العج فالثج‏
فالعج رفع الصوت بالتلبية و الثج إسالة دم الهدي و الألفاف الأخلاط المتداخلة يدور بعضها على بعض واحدها لف و لفيف و قيل شجرة لفاء و أشجار لف بضم اللام و جنات ألفاف.
الإعراب‏
عم أصله عن ما جعل النون ميما و أدغم في الميم و حذفت الألف لاتصال ما بحرف الجر حتى صارت كالجزء منه و ليحصل الفرق بين الاستفهام و الخبر و هذه الحروف التي تسقط معها هذه الألف ثمانية عن تقول عم و من تقول مم و الباء نحو بم و اللام نحو لم‏

638
مجمع البيان في تفسير القرآن10

الإعراب ص 638

و في نحو فيم و إلى نحو إلى م و على نحو على م و حتى نحو حتى م قال البصير جامع العلوم النحوي «عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ» لا يكون بدلا من عم لأنه لو كان بدلا لوجب تكرار ما لأن الجار المتصل بحرف الاستفهام إذا أعيد أعيد مع الحرف المستفهم بها كقولك بكم ثوبك أ بعشرين أم بثلاثين و لا يجوز بعشرين من غير همزة فإذا كان كذلك كان قوله «عَنِ النَّبَإِ» متعلقا بفعل آخر دون هذا الظاهر.
المعنى‏
 «عَمَّ يَتَساءَلُونَ» قالوا لما بعث رسول الله ص و أخبرهم بتوحيد الله تعالى و بالبعث بعد الموت و تلا عليهم القرآن جعلوا يتساءلون بينهم أي يسأل بعضهم بعضا على طريق الإنكار و التعجب فيقولون ما ذا جاء به محمد و ما الذي أتى به فأنزل الله تعالى «عَمَّ يَتَساءَلُونَ» أي عن أي شي‏ء يتساءلون قال الزجاج اللفظ لفظ الاستفهام و المراد تفخيم القصة كما تقول أي شي‏ء زيد إذا عظمت شأنه ثم ذكر أن تساءلهم عن ما ذا فقال «عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ» و هو القرآن و معناه الخبر العظيم الشأن لأنه ينبئ عن التوحيد و تصديق الرسول و الخبر عما يجوز و عما لا يجوز و عن البعث و النشور و قيل يعني نبأ يوم القيامة عن الضحاك و قتادة و يؤيده قوله إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً و قيل النبأ العظيم ما كانوا يختلفون فيه من إثبات الصانع و صفاته و الملائكة و الرسل و البعث و الجنة و النار و الرسالة و الخلافة فإن النبأ معروف يتناول الكل «الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ» فمصدق به و مكذب «كَلَّا» أي ليس الأمر كما قالوا «سَيَعْلَمُونَ» عاقبة تكذيبهم حين تنكشف الأمور «ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ» هذا وعيد على إثر وعيد و قيل كلا أي حقا سيعلمون أي سيعلم الكفار عاقبة تكذيبهم و سيعلم المؤمنون عاقبة تصديقهم عن الضحاك و قيل كلا سيعلمون ما ينالهم يوم القيامة ثم كلا سيعلمون ما ينالهم في جهنم من العذاب فعلى هذا لا يكون تكرارا ثم نبههم سبحانه على وجه الاستدلال على صحة ذلك فقال «أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً» أي وطاء و قرارا مهيئا للتصرف فيه من غير أذية و قيل مهادا أي بساطا عن قتادة «وَ الْجِبالَ أَوْتاداً» للأرض لئلا تميد بأهلها «وَ خَلَقْناكُمْ أَزْواجاً» أي أشكالا كل واحد شكل للآخر و قيل معناه ذكرانا و إناثا حتى يصح منكم التناسل و يتمتع بعضكم ببعض و قيل أصنافا أسود و أبيض و صغيرا و كبيرا إلى غير ذلك «وَ جَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً» اختلف في معناه على وجوه (أحدها) أن معناه و جعلنا نومكم راحة و دعة لأجسادكم (و ثانيها) أن المعنى جعلنا نومكم قطعا لأعمالكم و تصرفكم عن ابن الأنباري (و ثالثها) جعلنا نومكم سباتا ليس بموت على الحقيقة و لا مخرجا عن الحياة و الإدراك «وَ جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً» أي غطاء و سترة يستر كل شي‏ء بظلمته و سواده «وَ جَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً» المعاش العيش أي جعلناه مطلب معاش أي مبتغي معاش و قيل معناه و جعلنا

639
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 639

النهار وقت معاشكم لتتصرفوا في معاشكم أو موضع معاشكم تبتغون فيه من فضل ربكم «وَ بَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً» أي سبع سماوات «شِداداً» محكمة أحكمنا صنعها و أوثقنا بناءها «وَ جَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً» يعني الشمس جعلها سبحانه سراجا للعالم وقادا متلألئا بالنور يستضيئون به فالنعمة عامة به لجميع الخلق قال مقاتل جعل فيه نورا و حرا و الوهج يجمع النور و الحر «وَ أَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ» أي الرياح ذوات الأعاصير عن مجاهد و قتادة و الكلبي و قال الأزهري و من معناه الباء فكأنه قال بالمعصرات أو ذلك أن الريح تستدر المطر و قيل المعصرات السحائب تتحلب بالمطر عن الربيع و أبي العالية و هو رواية الوالبي عن ابن عباس «ماءً ثَجَّاجاً» أي صبابا دفاعا في انصبابه و قيل مدرارا عن مجاهد و قيل متتابعا يتلو بعضه بعضا عن قتادة «لِنُخْرِجَ بِهِ» أي بالماء «حَبًّا وَ نَباتاً» فالحب كل ما تضمنه كمام الزرع الذي يحصد و النبات الكلأ من الحشيش و الزرع و نحوهما فجمع سبحانه بين جميع ما يخرج من الأرض و قيل حبا يأكل الناس و نباتا تنبته الأرض مما يأكله الأنعام «وَ جَنَّاتٍ أَلْفافاً» أي بساتين ملتفة بالشجر و التقدير و نخرج به شجر جنات ألفافا فحذف لدلالة الكلام عليه و إنما سمي جنة لأن الشجر تجنها أي تسترها.
[سورة النبإ (78): الآيات 17 الى 30]
إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً (18) وَ فُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً (19) وَ سُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً (20) إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً (21)
لِلطَّاغِينَ مَآباً (22) لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً (23) لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَ لا شَراباً (24) إِلاَّ حَمِيماً وَ غَسَّاقاً (25) جَزاءً وِفاقاً (26)
إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً (27) وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً (28) وَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذاباً (30)

القراءة
قرأ أهل الكوفة غير الأعشى و البرجمي «وَ فُتِحَتِ» بالتخفيف و الباقون بالتشديد

640
مجمع البيان في تفسير القرآن10

القراءة ص 640

و قرأ حمزة لبثين بغير الألف و الباقون «لابِثِينَ» بالألف و الخلاف في غساق مذكور في ص و
رووا عن علي بن أبي طالب (ع) و كذبوا بآياتنا كذابا خفيفة
و القراءة المشهورة «وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً» بالتثقيل و حكى أبو حاتم في الشواذ عن عبد الله بن عمر كذابا بضم الكاف و تشديد الذال.
الحجة
قال أبو علي فتحت بالتشديد أوفق لقوله تعالى «مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ» و من حجة التخفيف قوله فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْ‏ءٍ و حجة من قرأ «لابِثِينَ» بالألف مجي‏ء المصدر على اللبث فهو من باب شرب يشرب و لقم يلقم و ليس من باب فرق يفرق إذ لو كان منه لكان المصدر مفتوح العين فلما أسكن وجب أن يكون اسم الفاعل على فاعل كشارب و لاقم كما كان اللبث كاللقم و من قرأ لبثين جعل اسم الفاعل فعلا و قد جاء غير حرف من هذا النحو على فاعل و فعل و الكذاب مصدر كذب كما أن الكلام مصدر كلم و كذا القياس فيما زاد على الثلاثة أن تأتي بلفظ الفعل و تزيد في آخره الألف كقوله أكرمته إكراما و أما التكذيب فزعم سيبويه أن التاء عوض من التضعيف و الياء التي قبل الآخر كالألف فأما الكذاب فمصدر كذب قال الأعشى:
         فصدقته و كذبته             و المرء ينفعه كذابه‏
فهو مثل كتاب في مصدر كتب و أما الكذاب بضم الكاف فقد قال أبو حاتم لا وجه له إلا أن يكون كذاب جمع كاذب فينصبه على الحال أي و كذبوا بآياتنا في حال كذبهم قال طرفة:
         إذا جاء ما لا بد منه فمرحبا             به حين يأتي لا كذاب و لا علل.
اللغة
الميقات منتهى المقدار المضروب لحدوث أمر من الأمور و هو من الوقت كما أن الميعاد من الوعد و المقدار من القدر و المرصاد هو المعد لأمر على ارتقاب الوقوع فيه قال الأزهري المرصاد المكان الذي يرصد فيه العدو و الأحقاب جمع واحدها حقب من قوله «أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً» أي دهرا طويلا و قيل واحده حقب بفتح القاف و واحد الحقب حقبة قال:
         و كنا كندماني جذيمة حقبة             من الدهر حتى قيل لن يتصدعا
الإعراب‏
 «يَوْمَ يُنْفَخُ» منصوب لأنه بدل من «يَوْمَ الْفَصْلِ» و أفواجا نصب على الحال «لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً» جملة يجوز أن يكون حالا من لابثين و التقدير يلبثون غير ذائقين و يجوز أن‏

641
مجمع البيان في تفسير القرآن10

الإعراب ص 641

يكون صفة لقوله «أَحْقاباً» و التقدير أحقابا غير مذوق فيها و جزاء مصدر وضع موضع الحال و كل شي‏ء منصوب بفعل مضمر يفسره قوله «أَحْصَيْناهُ» و كتابا منصوب على المصدر لأن كتب في معنى أحصى و يجوز أن يكون في موضع الحال أي نكتبه و التقدير أحصيناه كاتبين.
المعنى‏
ثم ذكر سبحانه الإعادة و البعث تنبيها على أنه دل بذكر الآيات فيما تقدم على صحة البعث فقال «إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ» أي يوم القضاء الذي يفصل الله فيه الحكم بين الخلائق «كانَ مِيقاتاً» لما وعد الله من الجزاء و الحساب و الثواب و العقاب «يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ» قد مر معناه «فَتَأْتُونَ أَفْواجاً» أي جماعة جماعة إلى أن تتكاملوا في القيامة و قيل زمرا زمرا من كل مكان للحساب و كل فريق يأتي مع شكله و قيل إن كل أمة تأتي مع نبيها فلذلك جاءوا أفواجا أفواجا «وَ فُتِحَتِ السَّماءُ» أي شقت لنزول الملائكة «فَكانَتْ أَبْواباً» أي ذات أبواب و قيل صار فيها طرق و لم تكن كذلك من قبل «وَ سُيِّرَتِ الْجِبالُ» أي أزيلت عن أماكنها و ذهب بها «فَكانَتْ سَراباً» أي كالسراب يظن أنها جبال و ليست إياها و
في الحديث عن البراء بن عازب قال كان معاذ بن جبل جالسا قريبا من رسول الله ص في منزل أبي أيوب الأنصاري فقال معاذ يا رسول الله أ رأيت قول الله تعالى «يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً» الآيات فقال يا معاذ سألت عن عظيم من الأمر ثم أرسل عينيه ثم قال يحشر عشرة أصناف من أمتي أشتاتا قد ميزهم الله من المسلمين و بدل صورهم بعضهم على صورة القردة و بعضهم على صورة الخنازير و بعضهم منكسون أرجلهم من فوق و وجوههم من تحت ثم يسحبون عليها و بعضهم عمي يترددون و بعضهم صم بكم لا يعقلون و بعضهم يمضغون ألسنتهم فيسيل القيح من أفواههم لعابا يتقذرهم أهل الجمع و بعضهم مقطعة أيديهم و أرجلهم و بعضهم مصلبون على جذوع من نار و بعضهم أشد نتنا من الجيف و بعضهم يلبسون جبابا سابغة من قطران لازقة بجلودهم فأما الذين على صورة القردة فالقتات من الناس و أما الذين على صورة الخنازير فأهل السحت و أما المنكسون على رءوسهم فأكلة الربا و العمي الجائرون في الحكم و الصم و البكم المعجبون بأعمالهم و الذين يمضغون بألسنتهم فالعلماء و القضاة الذين خالف أعمالهم أقوالهم و المقطعة أيديهم و أرجلهم الذين يؤذون الجيران و المصلبون على جذوع من نار فالسعاة بالناس إلى السلطان و الذين هم أشد نتنا من الجيف فالذين يتمتعون بالشهوات و اللذات و يمنعون حق الله في أموالهم و الذين يلبسون الجباب فأهل الفخر و الخيلاء
 «إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً» يرصدون به أي هي معدة

642
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 642

لهم يرصد بها خزنتها الكفار عن المبرد و قيل مرصدا محبسا يحبس فيه الناس عن مقاتل و قيل طريقا منصوبا على العاصين فهو موردهم و منهلهم و هذا إشارة إلى أن جهنم للعصاة على الرصد لا يفوتونها «لِلطَّاغِينَ مَآباً» أي للذين جاوزوا حدود الله و طغوا في معصية الله مرجعا يرجعون إليه و مصيرا فكان المجرم قد كان بإجرامه فيها ثم رجع إليها «لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً» أي ماكثين فيها أزمانا كثيرة و ذكر فيها أقوال (أحدها) أن المعنى أحقابا لا انقطاع لها كلما مضى حقب جاء بعده حقب آخر و الحقب ثمانون سنة من سني الآخرة عن قتادة و الربيع (و ثانيها) أن الأحقاب ثلاثة و أربعون حقبا كل حقب سبعون خريفا كل خريف سبعمائة سنة كل سنة ثلاثمائة و ستون يوما و كل يوم ألف سنة عن مجاهد (و ثالثها) أن الله تعالى لم يذكر شيئا إلا و جعل له مدة ينقطع إليها و لم يجعل لأهل النار مدة بل قال «لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً» فو الله ما هو إلا أنه إذا مضى حقب دخل آخر ثم آخر كذلك إلى أبد الآبدين فليس للأحقاب عدة إلا الخلود في النار و لكن قد ذكروا أن الحقب الواحد سبعون ألف سنة كل يوم من تلك السنين ألف سنة مما نعده عن الحسن (و رابعها) أن مجاز الآية لابثين فيها أحقابا لا يذوقون في تلك الأحقاب بردا و لا شرابا إلا حميما و غساقا ثم يلبثون فيها لا يذوقون غير الحميم و الغساق من أنواع العذاب فهذا توقيت لأنواع العذاب لا لمكثهم في النار و هذا أحسن الأقوال (و خامسها) أنه يعني به أهل التوحيد عن خالد بن معدان و
روى نافع عن ابن عمر قال قال رسول الله ص لا يخرج من النار من دخلها حتى يمكث فيها أحقابا و الحقب بضع و ستون سنة و السنة ثلاثمائة و ستون يوما كل يوم كألف سنة مما تعدون فلا يتكلن أحد أن يخرج من النار
و
روى العياشي بإسناده عن حمران قال سألت أبا جعفر (ع) عن هذه الآية فقال هذه في الذين يخرجون من النار و روي عن الأحول مثله‏
و قوله «لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَ لا شَراباً» يريد النوم و الماء عن ابن عباس قال أبو عبيدة البرد النوم هنا و أنشد
         " فصدني عنها و عن قبلاتها البرد"
أي النوم و قيل لا يذوقون في جهنم بردا ينفعهم من حرها و لا شرابا ينفعهم من عطشها عن مقاتل «إِلَّا حَمِيماً» و هو الماء الحار الشديد الحر «وَ غَسَّاقاً» و هو صديد أهل النار «جَزاءً وِفاقاً» أي وافق عذاب النار الشرك لأنهما عظيمان فلا ذنب أعظم من الشرك و لا عذاب أعظم من النار عن مقاتل و قيل جوزوا جزاء وفق أعمالهم عن الزجاج و هو المروي عن ابن عباس و مجاهد و قتادة و الوفاق الجاري على المقدار فالجزاء وفاق لأنه جار على مقدار الأعمال في الاستحقاق «إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً» أي فعلنا ذلك بهؤلاء

643
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 642

الكفار لأنهم كانوا لا يخافون أن يحاسبوا و المعنى كانوا لا يؤمنون بالبعث و لا بأنهم محاسبون عن الحسن و قتادة و قيل لا يرجون المجازاة على الأعمال و لا يظنون أن لهم حسابا عن أبي مسلم و قال الهذلي في الرجاء بمعنى الخوف:
         إذا لسعته النحل لم يرج لسعها             و خالفها في بيت نوب عواسل‏
 «وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا» أي بما جاءت به الأنبياء و قيل بالقرآن و قيل بحجج الله و لم يصدقوا بها «كِذَّاباً» أي تكذيبا «وَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً» أي و كل شي‏ء من الأعمال بيناه في اللوح المحفوظ و مثله وَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ و قيل معناه و كل شي‏ء من أعمالهم حفظناه لنجازيهم به ثم بين أن ذلك الإحصاء و الحفظ وقع بالكتابة لأن الكتابة أبلغ في حفظ الشي‏ء من الإحصاء و يجوز أن يكون كتابا حالا مؤكدة أي أحصيناه في حال كونه مكتوبا عليهم و الكتاب بمعنى المكتوب «فَذُوقُوا» لهؤلاء الكفار ذوقوا ما أنتم فيه من العذاب «فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً» لأن كل عذاب يأتي بعد الوقت الأول فهو زائد عليه.
[سورة النبإ (78): الآيات 31 الى 40]
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً (31) حَدائِقَ وَ أَعْناباً (32) وَ كَواعِبَ أَتْراباً (33) وَ كَأْساً دِهاقاً (34) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَ لا كِذَّاباً (35)
جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً (36) رَبِّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَ الْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَ قالَ صَواباً (38) ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى‏ رَبِّهِ مَآباً (39) إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَ يَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً (40)

644
مجمع البيان في تفسير القرآن10

القراءة ص 645

القراءة
قرأ الكسائي و لا كذابا بتخفيف الذال و الباقون بالتشديد و قرأ أهل الحجاز و أبو عمرو رب السماوات بالرفع و الباقون بالجر و قرأ عاصم و ابن عامر و يعقوب و سهل الرحمن بالجر و الباقون بالرفع.
الحجة
و لا كذابا يجوز أن يكون مصدر كذب فيكون معناه و لا كذبا و يجوز أن يكون مصدر كاذبة مكاذبة و كذابا و بالتشديد قد يكون مصدر كذب قال الفراء قال أعرابي في طريق مكة يا با زكريا القصار أحب إليك أم الحلق يريد أقصر شعري أم أحلق و من قرأ رب السماوات و الأرض و ما بينهما الرحمن قطع الاسم الأول من الجر الذي قبله في قوله «جَزاءً مِنْ رَبِّكَ» فابتدأه و جعل الرحمن خبره ثم استأنف «لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ» و من قرأ «رَبِّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ» أتبع الاسمين الجر الذي قبلهما في قوله «مِنْ رَبِّكَ» و من قرأ «رَبِّ السَّماواتِ» الرحمن أتبع رب السماوات الجر الذي في قوله «مِنْ رَبِّكَ» و استأنف بقوله الرحمن و جعل قوله «لا يَمْلِكُونَ» خبر قوله «الرَّحْمنِ».
اللغة
الحديقة الجنة المحوطة و الجمع حدائق و منه أحدق القوم بفلان إذا طافوا به و منه الحدقة لأنه يحيط بها جفنها و الأعناب جمع عنب و هو ثمر الكرم قبل أن يجف فإذا جف فهو الزبيب و الكواعب جمع الكاعب و هي الجارية التي نهد ثدياها و الأتراب جمع الترب و هي اللدة التي تنشأ مع لدتها على سن الصبي الذي يلعب بالتراب و الدهاق الكأس الممتلئة التي لا مزيد فيها و أصل الدهق شدة الضغط أدهقت الكأس ملأتها قال‏
         " يلذه بكأسه الدهاق"
و «عَطاءً حِساباً» أي كثيرا كافيا يقال أحسبت فلانا أي أعطيته ما يكفيه حتى قال حسبي قال:
         و نقفي وليد الحي إن كان جائعا             و نحسبه إن كان ليس بجائع‏
قال الأصمعي يقال حسبت الرجل بالتشديد أي أكرمته و أنشد:
         إذا أتاه ضيفه يحسبه             من حاقن أو من صريح يحلبه‏
الإعراب‏
حدائق بدل من قوله «مَفازاً» بدل البعض من الكل و كذلك ما بعده و أترابا صفة لكواعب. جزاء منصوب بمعنى أن للمتقين مفازا أي جازاهم بذلك جزاء و أعطاهم عطاء فإن معنى جازاهم و أعطاهم واحد يوم يقوم الروح ظرف لقوله «لا يَمْلِكُونَ» و قوله «صَفًّا»

645
مجمع البيان في تفسير القرآن10

الإعراب ص 645

منصوب على الحال و «يَوْمَ يَنْظُرُ» ظرف لقوله «عَذاباً» لأنه بمعنى التعذيب.
المعنى‏
ثم عقب سبحانه وعيد الكفار بالوعد للمتقين الأبرار فقال «إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ» الذين يتقون الله باجتناب الشرك و المعاصي «مَفازاً» أي فوزا و نجاة إلى حال السلامة و السرور و قيل المفاز موضع الفوز و قالوا للمهلكة مفازة على طريق التفاؤل كأنهم قالوا و قيل مفازا منجى إلى متنزه و هو النجاة من النار إلى الجنة ثم بين ذلك الفوز فقال «حَدائِقَ وَ أَعْناباً» يعني أشجار الجنة و ثمارها «وَ كَواعِبَ أَتْراباً» أي جواري تكعب ثديهن مستويات في السن عن قتادة و معناه استواء الخلقة و القامة و الصورة و السن حتى يكن متشاكلات و قيل أترابا على مقدار أزواجهن في الحسن و الصورة و السن عن أبي علي الجبائي «وَ كَأْساً دِهاقاً» أي مترعة مملوءة عن ابن عباس و الحسن و قتادة و قيل متتابعة على شاربيها أخذ من متابعة الشد في الدهق عن مجاهد و سعيد بن جبير و قيل دمادم عن أبي هريرة و قيل على قدر ريهم عن مقاتل «لا يَسْمَعُونَ فِيها» أي في الجنة «لَغْواً» أي كلاما لغوا لا فائدة فيه «وَ لا كِذَّاباً» و لا تكذيب بعضهم لبعض و من قرأ بالتخفيف يريد و لا مكاذبة عن أبي عبيدة و قيل كذبا عن أبي علي الفارسي «جَزاءً مِنْ رَبِّكَ» أي فعل بالمتقين ما فعل بهم جزاء من ربك على تصديقهم بالله و نبيه ص «عَطاءً» أي أعطاهم الله عطاء «حِساباً» أي كافيا عن أبي عبيدة و الجبائي و قيل حسابا أي كثيرا و قيل حسابا على قدر الاستحقاق و بحسب العمل قال الزجاج معناه ما يكفيهم أي إن فيه ما يشتهون «رَبِّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ» مر ذكره و المعنى أن الذي يفعل بالمؤمنين ما تقدم ذكره هو رب السماوات و الأرض و مدبرهما و مدبر ما بينهما و المتصرف فيهما على ما يشاء الرحمن المنعم على خلقه مؤمنهم و كافرهم «لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً» أي لا يملكون أن يسألوه إلا فيما أذن لهم فيه كقوله وَ لا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى‏ و قوله لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ و الخطاب توجيه الكلام إلى مدرك له بصيغة منبئة عن المراد على طريقة أنت و ربك قال مقاتل لا يقدر الخلق على أن يكلموا الرب إلا بإذنه «يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَ الْمَلائِكَةُ صَفًّا» أي في ذلك اليوم اختلف في معنى الروح هنا على أقوال (أحدها) أن الروح خلق من خلق الله تعالى على صورة بني آدم و ليسوا بناس و ليسوا بملائكة يقومون صفا و الملائكة صفا هؤلاء جند و هؤلاء جند عن مجاهد و قتادة و أبي صالح قال الشعبي هما سماطا رب العالمين يوم القيامة سماط من الروح و سماط من الملائكة (و ثانيها) أن الروح ملك من الملائكة ما خلق الله مخلوقا أعظم منه فإذا كان يوم القيامة قام و هو وحده‏

646
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 646

صفا و قامت الملائكة كلهم صفا واحدا فيكون عظم خلقه مثل صفهم عن ابن مسعود و عن عطاء عن ابن عباس (و ثالثها) أن أرواح الناس تقوم مع الملائكة فيما بين النفختين قبل أن ترد الأرواح إلى الأجساد عن عطية عن ابن عباس (و رابعها) أنه جبريل (ع) عن الضحاك و قال وهب إن جبرائيل (ع) واقف بين يدي الله عز و جل ترتعد فرائصه يخلق الله عز و جل من كل رعدة مائة ألف ملك فالملائكة صفوف بين يدي الله تعالى منكسو رءوسهم فإذا أذن الله لهم في الكلام قالوا لا إله إلا أنت و قال صوابا أي لا إله إلا الله‏
و روى علي بن إبراهيم بإسناده عن الصادق (ع) قال هو ملك أعظم من جبرائيل و ميكائيل‏
 (و خامسها) أن الروح بنو آدم عن الحسن و قوله «صَفًّا» معناه مصطفين «لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ» و هم المؤمنون و الملائكة «وَ قالَ» في الدنيا «صَواباً» أي شهد بالتوحيد و قال لا إله إلا الله و قيل إن الكلام هاهنا الشفاعة أي لا يشفعون إلا لمن أذن له الرحمن أن يشفع عن الحسن و الكلبي و
روى معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (ع) قال سئل عن هذه الآية فقال نحن و الله المأذون لهم يوم القيامة و القائلون قال جعلت فداك ما تقولون قال نمجد ربنا و نصلي على نبينا ص و نشفع لشيعتنا فلا يردنا ربنا رواه العياشي مرفوعا
 «ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ» الذي لا شك في كونه و حصوله يعني القيامة «فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى‏ رَبِّهِ مَآباً» أي مرجعا للطاعة و المعنى فمن شاء عمل عملا صالحا يؤوب إلى ربه فقد أزيحت العلل و أوضحت السبل و بلغت الرسل و المآب مفعل من الأوب و هو الرجوع قال عبيد
         و كل ذي غيبة يؤوب             و غائب الموت لا يؤوب‏
ثم خوف سبحانه كفار مكة فقال «إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً» يعني العذاب في الآخرة فإن كل ما هو آت قريب «يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ» أي ينتظر جزاء ما قدمه فإن قدم الطاعة انتظر الثواب و إن قدم المعصية انتظر العقاب و قيل معناه أن كل أحد ينظر إلى عمله في ذلك اليوم من خير و شر مثبتا عليه في صحيفته فيرجو ثواب الله على صالح عمله و يخاف العقاب على سوء عمله «وَ يَقُولُ الْكافِرُ» في ذلك اليوم «يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً» أي ليتمنى أن لو كان ترابا لا يعاد و لا يحاسب ليتخلص من عقاب ذلك اليوم قال الزجاج إن معنى «يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً» يا ليتني لم أبعث قال عبد الله بن عمر إذا كان يوم القيامة مدت الأرض مد الأديم و حشر الدواب و البهائم و الوحوش ثم يجعل القصاص بين الدواب حتى يقتص للشاة الجماء من الشاة القرناء التي نطحتها و قال مجاهد يقاد يوم القيامة للمنطوحة من الناطحة

647
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 646

و قال المقاتلان إن الله يجمع الوحوش و الهوام و الطير و كل شي‏ء غير الثقلين فيقول من ربكم فيقولون الرحمن الرحيم فيقول لهم الرب بعد ما يقضي بينهم حتى يقتص للجماء من القرناء إنا خلقناكم و سخرناكم لبني آدم و كنتم مطيعين أيام حياتكم فارجعوا إلى الذي كنتم كونوا ترابا فتكون ترابا فإذا التفت الكافر إلى شي‏ء صار ترابا يتمنى فيقول يا ليتني كنت في الدنيا على صورة خنزير رزقي كرزقه و كنت اليوم أي في الآخرة ترابا و قيل إن المراد بالكافر هنا إبليس عاب آدم بأن خلق من تراب و افتخر بالنار فيوم القيامة إذا رأى كرامة آدم و ولده المؤمنين قال يا ليتني كنت ترابا.

648
مجمع البيان في تفسير القرآن10

سورة النازعات مكية و آياتها ست و أربعون ص 649

(79) سورة النازعات مكية و آياتها ست و أربعون (46)
عدد آيها
ست و أربعون آية كوفي و خمس في الباقين.
اختلافها
آيتان «وَ لِأَنْعامِكُمْ» حجازي كوفي «طَغى‏» عراقي شامي.
فضلها
أبي بن كعب عن النبي ص قال و من قرأ سورة و النازعات لم يكن حبسه و حسابه يوم القيامة إلا كقدر صلاة مكتوبة حتى يدخل الجنة
و
قال أبو عبد الله (ع) من قرأها لم يمت إلا ريان و لم يبعثه الله إلا ريان و لم يدخله الجنة إلا ريان.
تفسيرها
لما ختم الله سبحانه تلك السورة بذكر أحوال القيامة و أهوالها افتتح هذه السورة بمثله فقال:

649
مجمع البيان في تفسير القرآن10

سورة النازعات الآيات 1 الى 14 ص 650

[سورة النازعات (79): الآيات 1 الى 14]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏
وَ النَّازِعاتِ غَرْقاً (1) وَ النَّاشِطاتِ نَشْطاً (2) وَ السَّابِحاتِ سَبْحاً (3) فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً (4)
فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ (8) أَبْصارُها خاشِعَةٌ (9)
يَقُولُونَ أَ إِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ (10) أَ إِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً (11) قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ (12) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ (13) فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14)

القراءة
قرأ أهل الكوفة غير حفص و قتيبة و نصير و رويس عن يعقوب ناخرة بالألف و الباقون «نَخِرَةً» بغير ألف و روى أبو عمرو الدوري و حمدون عن الكسائي ناخرة و «نَخِرَةً» لا يبالي كيف قرأ و في الشواذ قراءة أبي حياة الحفرة بغير ألف و قرأ نافع غير قالون و يعقوب إنا لمردودون بهمزة واحدة غير ممدودة إذا كنا بغير استفهام و قرأ ابن عامر و الكسائي «أَ إِنَّا لَمَرْدُودُونَ» بهمزتين إذا كنا كما تقدم و قرأ ابن كثير إنا إذا كنا بالاستفهام فيهما بهمزة واحدة غير ممدودة و قرأ أبو عمرو بالاستفهام فيهما بهمزة ممدودة و قرأ عاصم و حمزة و خلف فيهما بهمزتين مميزتين و قد تقدم ذكر هذا مشروحا في مواضع.
الحجة
نخرة و ناخرة لغتان و قال الفراء النخرة البالية و الناخرة المجوفة قال الزجاج ناخرة أكثر و أجود لشبه أواخر الآي بعضها ببعض نحو الخاسرة و الحافرة و أما الوجه في الحفرة فهو أن يكون أراد الحافرة كقراءة الجماعة فحذف الألف تخفيفا كما في قوله:
         أصبح قلبي صردا             لا يشتهي أن يردا
         إلا عرادا عردا
أي عاردا.
اللغة
الغرق اسم أقيم مقام المصدر و هو الإغراق يقال أغرق في النزع إذا استوفى في مد القوس و بالغ فيه و النشط النزع أيضا و منه حديث أم سلمة فجاء عمار و كان أخاها من الرضاعة و نشط زينب من حجرها أي نزعها و نشط الوحش من بلد إلى بلد إذا خرج بنشاط و الهموم تنشط بصاحبها أي تخرج به من حال إلى حال قال هميان بن قحافة:
         أمست همومي تنشط المناشطا             الشام بي طورا و طورا واسطا
و أنشطت العقدة حللتها و نشطتها عقدتها قالوا كأنما أنشط من عقال و الأنشوطة العقدة تنحل إذا مد طرفاها يقال ما عقاله بأنشوطة و الرجف حركة الشي‏ء من تحت غيره بترديد و اضطراب و الرجفة الزلزلة العظيمة و أرجفوا أي أزعجوا الناس باضطراب الأمور و كل شي‏ء

650
مجمع البيان في تفسير القرآن10

اللغة ص 650

تبع شيئا فقد ردفه و أرداف النجوم تواليها يتبع بعضها بعضا و أرداف الملوك في الجاهلية الذين يخلفون الملوك و الردفان الليل و النهار و الوجيف شدة الاضطراب و قلب واجف مضطرب و الوجيف سرعة السير و أوجف في السير أسرع و أزعج الركاب فيه و الحافرة بمعنى المحفورة مثل ماء دافق أي مدفوق و قيل الحافرة الأرض المحفورة و رجع الشيخ في حافرته أي رجع من حيث جاء و ذلك كرجوع القهقرى قال:
        أ حافرة على صلع و شيب             معاذ الله من سفه و عار
أي أ رجوعا إلى حال الشباب و أوله و يقال النقد عند الحافر أي لا يزول حافر الفرس حتى ينقد الثمن لأنه لكرامته لا يباع نسيئة ثم كثر حتى قيل في غير الحافرة. و الساهرة وجه الأرض و العرب تسمي وجه الأرض من الفلاة ساهرة أي ذات سهر لأنه يسهر فيها خوفا منها قال أمية بن أبي الصلت:
         و فيها لحم ساهرة و بحر             و ما فاهوا به لهم مقيم‏
أي و فيها صيد البر و البحر و قال آخر:
         فإنما قصرك ترب الساهرة             ثم تعود بعدها في الحافرة
الإعراب‏
جواب القسم محذوف على تقدير ليبعثن و قبل الجواب في إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً «يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ» نصب باذكر و إن شئت كان نصبا بمدلول قوله «قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ» على تقدير يوم ترجف الراجفة رجفت قلوبهم و يكون يومئذ بدلا من «يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ».
المعنى‏
 «وَ النَّازِعاتِ غَرْقاً» اختلف في معناها على وجوه (أحدها)
أنه يعني الملائكة الذين ينزعون أرواح الكفار عن أبدانهم بالشدة كما يغرق النازع في القوس فيبلغ بها غاية المدى و روي ذلك عن علي (ع)
و مقاتل و سعيد بن جبير و قال مسروق هي الملائكة تنزع نفوس بني آدم و
قيل هو الموت ينزع النفوس عن مجاهد و روي ذلك عن الصادق (ع)
 (و ثانيها) أنها النجوم تنزع من أفق إلى أفق أي تطلع و تغيب عن الحسن و قتادة و أبي عبيدة و الأخفش و الجبائي قال أبو عبيدة تنزع من مطالعها و تغرق في مغاربها

651
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 651

 (و ثالثها) النازعات القسي تنزع بالسهم و الناشطات الأزهاق عن عطاء و عكرمة و على هذا فالقسم بفاعلها و هم الغزاة المجاهدون في سبيل الله «وَ النَّاشِطاتِ نَشْطاً» في معناها أقوال (أحدها) ما ذكرناه (و ثانيها)
أنها الملائكة تنشط أرواح الكفار بين الجلد و الأظفار حتى تخرجها من أجوافهم بالكرب و الغم عن علي (ع)
و النشط الجذب يقال نشطت الدلو نشطا نزعته (و ثالثها) أنها الملائكة تنشط أنفس المؤمنين فتقبضها كما تنشط العقال من يد البعير إذا حل عنها عن ابن عباس و حكى الفراء هذا القول ثم قال و الذي سمعت من العرب أن يقولوا كأنما أنشط من عقال و نشطت الحبل ربطته و أنشطته حللته (و رابعها) أنها أنفس المؤمنين عند الموت تنشط للخروج و ذلك أنه ما من مؤمن يحضره الموت إلا عرضت عليه الجنة قبل أن يموت فيرى موضعه فيها و أزواجه من الحور العين فنفسه تنشط أن تخرج عن ابن عباس أيضا (و خامسها) أنها النجوم تنشط من أفق إلى أفق أي تذهب يقال حمار ناشط عن قتادة و الأخفش و الجبائي «وَ السَّابِحاتِ سَبْحاً» فيها أقوال (أحدها)
أنها الملائكة يقبضون أرواح المؤمنين يسلونها سلا رفيقا ثم يدعونها حتى تستريح كالسابح بالشي‏ء في الماء يرمي به عن علي (ع)
و الكلبي (و ثانيها) أنها الملائكة ينزلون من السماء مسرعين و هذا كما يقال للفرس الجواد سابح إذا أسرع في جريه عن مجاهد و أبي صالح (و ثالثها) أنها النجوم تسبح في فلكها عن قتادة و الجبائي و قيل هي خيل الغزاة تسبح في عدوها كقوله وَ الْعادِياتِ ضَبْحاً عن أبي مسلم و قيل هي السفن تسبح في الماء عن عطاء «فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً» فيها أقوال أيضا (أحدها) أنها الملائكة لأنها سبقت ابن آدم بالخير و الإيمان و العمل الصالح عن مجاهد و قيل إنها تسبق الشياطين بالوحي إلى الأنبياء و
قيل إنها تسبق بأرواح المؤمنين إلى الجنة عن علي (ع)
و مقاتل (و ثانيها) أنها أنفس المؤمنين تسبق إلى الملائكة الذين يقبضونها و قد عاينت السرور شوقا إلى رحمة الله و لقاء ثوابه و كرامته عن ابن مسعود (و ثالثها) أنها النجوم يسبق بعضها بعضا في السير عن قتادة و الجبائي (و رابعها) أنها الخيل يسبق بعضها بعضا في الحرب عن عطاء و أبي مسلم «فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً» فيها أقوال أيضا (أحدها)
أنها الملائكة تدبر أمر العباد من السنة إلى السنة عن علي (ع)
 (و ثانيها) أن المراد بذلك جبرائيل و ميكائيل و ملك الموت و إسرافيل ع يدبرون أمور الدنيا فأما جبريل فموكل بالرياح و الجنود و أما ميكائيل فموكل بالقطر و النبات و أما ملك الموت فموكل بقبض الأنفس و أما إسرافيل فهو ينزل بالأمر عليهم عن عبد الرحمن بن سابط (و ثالثها) أنها الأفلاك يقع فيها أمر الله تعالى فيجري بها القضاء في الدنيا رواه علي بن إبراهيم أقسم الله تعالى بهذه الأشياء التي عددها و قيل تقديره و رب النازعات و ما ذكر بعدها و هذا ترك للظاهر

652
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 651

بغير دليل.
و قد قال الباقر و الصادق (ع) إن لله تعالى أن يقسم بما شاء من خلقه و ليس لخلقه أن يقسموا إلا به‏
و الوجه في ذلك أنه سبحانه يقسم بخلقه للتنبيه على موضع العبرة فيه لأن القسم يدل على عظم شأن المقسم به و جواب القسم محذوف فكأنه سبحانه أقسم فقال و هذه الأشياء لتبعثن و لتحاسبن «يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ» يعني النفخة الأولى التي يموت فيها جميع الخلائق و الراجفة صيحة عظيمة فيها تردد و اضطراب كالرعد إذا تمخض «تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ» يعني النفخة الثانية تعقب النفخة الأولى و هي التي يبعث معها الخلق و هو كقوله «وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى‏ فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ» و يوم منصوب على معنى «قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ» يوم ترجف الراجفة و معنى الواجفة الشديدة الاضطراب أيضا و هذا معنى قول الحسن و قتادة و غيرهما و قيل معناه يوم تضطرب الأرض اضطرابا شديدا و تحرك تحركا عظيما يعني يوم القيامة تتبعها الرادفة أي اضطرابة أخرى كائنة بعد الأولى في موضع الردف من الراكب فلا تزال تضطرب حتى تفنى كلها و قال ابن عباس معنى الواجفة خائفة و المراد بذلك أصحاب القلوب يعني أنها قلقة غير هادئة و لا ساكنة لما عاينت من أهوال يوم القيامة «أَبْصارُها خاشِعَةٌ» أي ذليلة من هول ذلك اليوم قال عطاء يريد أبصار من مات على غير الإسلام «يَقُولُونَ أَ إِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ» أي يقول هؤلاء المنكرون للبعث من مشركي قريش و غيرهم في الدنيا إذا قيل لهم إنكم مبعوثون من بعد الموت أ نرد إلى أول حالنا و ابتداء أمرنا فنصير أحياء كما كنا و الحافرة عند العرب اسم لأول الشي‏ء و ابتداء الأمر قال ابن عباس و السدي الحافرة الحياة الثانية و قيل الحافرة الأرض المحفورة و المعنى أ نرد من عبورنا بعد موتنا أحياء «أَ إِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً» أي بالية مفتتة و المعنى أنهم أنكروا البعث فقالوا أ نرد أحياء إذا متنا و تفتت عظامنا يقال نخر العظم ينخر فهو ناخر و نخر «قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ» أي قال الكفار تلك الكرة الكائنة بعد الموت كرة خسران و معناه أن أهلها خاسرون لأنهم نقلوا من نعيم الدنيا إلى عذاب النار و الخاسر الذاهب رأس ماله و إنما قالوا كرة خاسرة على معنى أنه لا يجي‏ء منها شي‏ء كالخسران الذي لا يجي‏ء منه فائدة فكأنهم قالوا هي كالخسران بذهاب رأس المال لا تجي‏ء به تجارة فكذلك لا تجي‏ء بتلك الكرة حياة و قيل معناه إن كان الأمر على ما يقوله محمد من أنا نبعث و نعاقب فتلك كرة ذات خسران علينا ثم أعلم سبحانه سهولة البعث عليه فقال «فَإِنَّما هِيَ» يعني النفخة الأخيرة «زَجْرَةٌ واحِدَةٌ» أي صيحة واحدة من إسرافيل يسمعونها و هم أموات في بطون الأرض فيحيون و هو قوله «فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ» و هي وجه الأرض و ظهرها عن الحسن و قتادة و مجاهد و غيرهم و قيل إنما سميت الأرض ساهرة لأن عملها في‏

653
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 651

النبت في الليل و النهار دائب و لذلك قيل خير المال عين خرارة في أرض خوارة تسهر إذا نمت و تشهد إذا غبت ثم صارت اسما لكل أرض و قيل المراد بذلك عرصة القيامة لأنها أول مواقف الجزاء و هم في سهر لا نوم فيه.
[سورة النازعات (79): الآيات 15 الى 26]
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى‏ (15) إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (16) اذْهَبْ إِلى‏ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى‏ (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى‏ أَنْ تَزَكَّى (18) وَ أَهْدِيَكَ إِلى‏ رَبِّكَ فَتَخْشى‏ (19)
فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى‏ (20) فَكَذَّبَ وَ عَصى‏ (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى‏ (22) فَحَشَرَ فَنادى‏ (23) فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى‏ (24)
فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَ الْأُولى‏ (25) إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى‏ (26)

القراءة
قرأ أهل الحجاز و البصرة طوى بغير تنوين و الباقون بالتنوين و قرأ أهل الحجاز و عباس و يعقوب تزكى بتشديد الزاء و الباقون بتخفيفها.
الحجة
قال أبو علي قال أبو عبيدة طوى مضمومة الأول و مكسورته فمن لم ينون جعله اسما مؤنثا و من نون جعله مثل ثنى على معنى المقدس مرة بعد مرة و روي عن الحسن أنه قرأ طوى بكسر الطاء و قال و طوي بالبركة و التقديس مرتين كما قال طرفة:
         أ عاذل إن اللوم في غير كنهه             علي طوى من غيك المتردد
أي أن لومك مكرر علي قال أبو علي من لم يصرف طوى احتمل قوله أمرين (أحدهما) أنه جعله اسم بلدة أو بقعة أو يكون معدولا كزفر و ممر و من صرف احتمل أيضا أمرين (أحدهما) أن يكون جعله اسم موضع أو بلد أو مكان (و الآخر) أن يكون مثل زحل‏

654
مجمع البيان في تفسير القرآن10

الحجة ص 654

و حطم و لكع و قوله «تَزَكَّى» معناه تطهر من الكفر و المبتدأ محذوف من اللفظ مراد في المعنى و التقدير هل لك إلى ذلك حاجة أو إربة قال الشاعر:
         فهل لكم فيها إلي فإنني             طبيب بما أعيى النطاسي حذيما
و من قال تزكى أراد تتزكى فأدغم تاء التفعل في الزاء لتقاربهما و من خفف حذف التاء التي أثبتها من أدغم و تخفيفها بالحذف أشبه.
المعنى‏
ثم ذكر سبحانه قصة موسى (ع) فقال «هَلْ أَتاكَ» يا محمد «حَدِيثُ مُوسى‏» استفهام يراد به التقرير «إِذْ ناداهُ رَبُّهُ» أي حين ناداه الله و دعاه فالنداء الدعاء بطريقة يا فلان فالمعنى قال له يا موسى «بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ» أي المطهر «طُوىً» اسم واد عن مجاهد و قتادة و قيل طوي بالتقديس مرتين و هو الموضع الذي كلم الله فيه موسى «اذْهَبْ إِلى‏ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى‏» أي علا و تكبر و كفر بالله و تجاوز الحد في الاستعلاء و التمرد و الفساد «فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى‏ أَنْ تَزَكَّى» أي تتطهر من الشرك و تشهد أن لا إله إلا الله عن ابن عباس و هذا تلطف في الاستدعاء و معناه هل لك رغبة إلى أن تسلم و تصلح و تطهر «وَ أَهْدِيَكَ إِلى‏ رَبِّكَ» أي و أدلك إلى معرفة ربك و أنه خلقك و رباك و قيل و أهديك أي أرشدك إلى طريق الحق الذي إذا سلكته وصلت إلى رضاء الله و ثوابه «فَتَخْشى‏» أي فتخافه فتفارق ما نهاك عنه و في الكلام حذف تقديره فأتاه و دعاه «فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى‏» يعني العصا و قال الحسن هي اليد البيضاء «فَكَذَّبَ» بأنها من الله «وَ عَصى‏» نبي الله و جحد نبوته «ثُمَّ أَدْبَرَ» فرعون أي ولى الدبر ليطلب ما يكسر به حجة موسى في المعجزة العظيمة فما ازداد إلا غواية «يَسْعى‏» أي يعمل بالفساد في الأرض و قيل إنه لما رأى الحية في عظمها خاف منها فأدبر و سعى هربا عن الجبائي «فَحَشَرَ» أي فجمع قومه و جنوده «فَنادى‏» فيهم «فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى‏» أي لا رب فوقي و قيل معناه أنا الذي أنال بالضرر من شئت و لا ينالني غيري و كذب اللعين إنما هذه صفة الله الذي خلقه و خلق جميع الخلائق و قيل إنه جعل الأصنام أربابا فقال أنا ربها و ربكم «فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَ الْأُولى‏» نكال مصدر مؤكد لأن معنى أخذه الله نكل به نكال‏

655
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 655

الآخرة و الأولى بأن أغرقه في الدنيا و يعذبه في الآخرة و قيل معناه فعاقبه الله بكلمته الآخرة و كلمته الأولى فالآخرة قوله «أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى‏» و الأولى قوله ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فنكل به نكال هاتين الكلمتين و
جاء في التفسير عن أبي جعفر (ع) أنه كان بين الكلمتين أربعون سنة
و قيل إنه إنما ناداهم «فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى‏» فامنعوني من هذا الثعبان و لم يعلم الجهال أن من يخاف ضرر حية و يستعين بأمثاله لا يكون إلها و
عن وهب عن ابن عباس قال قال موسى (ع) يا رب إنك أمهلت فرعون أربعمائة سنة و هو يقول أنا ربكم الأعلى و يجحد رسلك و يكذب بآياتك فأوحى الله تعالى إليه أنه كان حسن الخلق سهل الحجاب فأحببت أن أكافيه‏
و
روى أبو بصير عن أبي جعفر (ع) قال قال رسول الله ص قال جبرئيل (ع) قلت يا رب تدع فرعون و قد قال أنا ربكم الأعلى فقال إنما يقول هذا مثلك من يخاف الفوت‏
«إِنَّ فِي ذلِكَ» الذي فعل بفرعون حين كذب و عصى «لَعِبْرَةً» أي لعظة «لِمَنْ يَخْشى‏» الله تعالى و يخاف عقابه و نقمته و دلالة يمكن أن يعتبر بها العاقل و يميز بين الحق و الباطل.
النظم‏
وجه اتصال قصة موسى (ع) بما قبلها أنه لما تقدم ذكر المكذبين للأنبياء المنكرين للبعث عقبه بحديث موسى و تكذيب قومه إياه و ما قاساه من الشدائد تسلية لنبينا ص و عدة له بالنصر و حثا إياه على الصبر اقتداء بموسى و تحذيرا لقومه أن ينزل بهم ما نزل بأولئك و عظة بهم و تأكيدا للحجة عليهم.

656
مجمع البيان في تفسير القرآن10

سورة النازعات الآيات 27 الى 46 ص 657

[سورة النازعات (79): الآيات 27 الى 46]
أَ أَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (27) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (28) وَ أَغْطَشَ لَيْلَها وَ أَخْرَجَ ضُحاها (29) وَ الْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (30) أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَ مَرْعاها (31)
وَ الْجِبالَ أَرْساها (32) مَتاعاً لَكُمْ وَ لِأَنْعامِكُمْ (33) فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى‏ (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى‏ (35) وَ بُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى‏ (36)
فَأَمَّا مَنْ طَغى‏ (37) وَ آثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى‏ (39) وَ أَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَ نَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى‏ (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى‏ (41)
يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (43) إِلى‏ رَبِّكَ مُنْتَهاها (44) إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها (46)

القراءة
قرأ أبو جعفر و العباس عن العياشي عن أبي عمرو و إنما أنت منذر بالتنوين و الباقون بغير تنوين و في الشواذ قراءة الحسن و عمرو بن عبيد و الجبال أرساها بالرفع و قراءة مجاهد و الأرض مع ذلك دحاها و قراءة عكرمة و برزت الجحيم لمن ترى بالتاء.
الحجة
قال أبو علي حجة التنوين في قوله إنما أنت منذر أن اسم الفاعل هنا للحال و يدل عليه قوله «قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ» فليس المراد أنذر فيما استقبل و إنما يقول أنذر في الحال و اسم الفاعل على قياس الفعل و من أضاف استخف فحذف التنوين كما حذف من قوله فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ و نحو ذلك مما جاء على لفظ الإضافة و المراد به الانفصال و يجوز أن يكون منذر من على نحو هذا ضارب زيدا أمس لأنه قد فعل الإنذار و من قرأ و الجبال أرساها بالرفع فإنه مثل قراءة من قرأ و الظالمون أعد لهم و قد تقدم بيانه و من قرأ و الأرض مع ذلك فلعله قال ذلك تفسيرا للقراءة المشهورة لأنه ليس الغرض فيه ترتيب الزمان و إنما الغرض اجتماعهما أعني السماوات و الأرض في الخلق لا في أن زمان الفعلين واحد و هذا كقولك فلان كريم فيقول السامع و هو مع ذلك شجاع أي قد اجتمع له الوصفان و أما قوله لمن ترى بالتاء المفتوحة فيمكن أن يكون خطابا للنبي ص و المراد لمن ترى يا محمد من الناس فأشار إلى البعض و غرضه الجنس و الجميع كقول لبيد:
         و لقد سئمت من الحياة و طولها             و سؤال هذا الناس كيف لبيد
فأشار إلى جنس الناس و نحن نعلم أنه ليس جميعهم شاهدا حاضرا له و يمكن أن يكون التاء في ترى للجحيم أي لمن تراه النار.

657
مجمع البيان في تفسير القرآن10

اللغة ص 658

اللغة
السمك الارتفاع و هو مقابل العمق لأنه ذهاب الجسم بالتأليف إلى جهة العلو و بالعكس صفة العمق و المسموكات السماوات لارتفاعها و منه‏
قول أمير المؤمنين (ع) يا داعم المسموكات‏
قال الفرزدق:
         إن الذي سمك السماء بنى لنا             بيتا دعائمه أعز و أطول‏
و التسوية جعل أحد الشيئين على مقدار الآخر في نفسه أو في حكمه و الغطش الظلمة و أغطشه الله أظلمه و الأغطش الذي في عينيه شبه العمش و فلاة غطشاء لا يهتدى فيها و الدحو البسط دحوت أدحو دحوا و دحيت أدحي دحيا لغتان قال أمية بن أبي الصلت:
         دار دحاها ثم أعمر بابها             و أقام بالأخرى التي هي أمجد
و قال أوس:
         ينفي الحصى عن جديد الأرض مبترك             كأنه فاحص أو لاعب داح‏
و الطامة العالية الغالبة يقال هذا أطم من هذا أي أعلى منه و طم الطائر الشجرة علاها و تسمى الداهية التي لا يستطاع دفعها طامة.
الإعراب‏
و الأرض منصوب بفعل مضمر الذي ظهر تفسيره و كذا قوله «وَ الْجِبالَ أَرْساها مَتاعاً لَكُمْ» مفعول له لأن المعنى لإمتاعكم و يجوز أن يكون منصوبا على المصدر لأن معنى قوله «أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَ مَرْعاها» أمتع بذلك و قوله «فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى‏» و تقديره هي المأوى له قال الزجاج و قال قوم الألف و اللام بدل من الضمير العائد أي هي مأواه و المراد أن المعنى يؤول إلى التي هي مأواه لأن الألف و اللام بدل من الهاء و هذا كما يقول الإنسان غض الطرف يا هذا فليس الألف و اللام بدلا من الكاف و إن كان المعنى غض طرفك لأن المخاطب يعرف أنك لا تأمره بغض طرف غيره قال:
         فغض الطرف إنك من نمير             فلا سعدا بلغت و لا كلابا
و كذلك المعنى في الآية و جواب إذا في قوله «فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى‏» في قوله «فَأَمَّا

658
مجمع البيان في تفسير القرآن10

الإعراب ص 658

مَنْ طَغى‏» و ما بعده فإن المعنى إذا جاءت الطامة الكبرى فإن الأمر كذلك و قوله «أَوْ ضُحاها» أضاف الضحى إلى العشية و الغداة و العشي و الضحوة و الضحى لليوم الذي يكون فيه فإذا قلت أتيتك صباحا و مساء و مساءة و صباحة فالمعنى أتيتك صباحا و مساء يلي الصباح و أتيتك مساء و صباحا يلي المساء و تقول أتيتك العشية و غداتها.
المعنى‏
لما قدم سبحانه ما أتى به موسى و ما قابلة به فرعون و ما عوقب به في الدارين عظة لمن كان على عهد رسول الله ص و تحذيرا لهم من المثلات خاطب عقيب ذلك منكري البعث فقال «أَ أَنْتُمْ» أيها المشركون المنكرون للبعث «أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ» يعني أ خلقكم بعد الموت أشد عندكم و في تقديركم أم السماء و هما في قدرة الله تعالى واحد و هذا كقوله لَخَلْقُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ ثم ابتدأ فبين سبحانه كيف خلق السماء فقال «بَناها» الله تعالى الذي لا يكبر عليه خلق شي‏ء «رَفَعَ سَمْكَها» سقفها و ما ارتفع منها «فَسَوَّاها» بلا شقوق و لا فطور و لا تفاوت و قيل سواها أحكمها و جعلها متصرفا للملائكة «وَ أَغْطَشَ لَيْلَها» أي أظلم ليلها عن ابن عباس و مجاهد و قتادة «وَ أَخْرَجَ ضُحاها» أي أبرز نهارها و إنما أضاف الليل و الضحى إلى السماء لأن منها منشأ الظلام و الضياء بغروب الشمس و طلوعها على ما دبرها الله عز و جل «وَ الْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها» أي بعد خلق السماء بسطها من الدحو و هو البسط قال ابن عباس إن الله تعالى دحا الأرض بعد السماء و إن كانت الأرض خلقت قبل السماء و كانت ربوة مجتمعة تحت الكعبة فبسطها و قال مجاهد و السدي معناه و الأرض مع ذلك دحاها كما قال عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ أي مع ذلك «أَخْرَجَ مِنْها» أي من الأرض «ماءَها» و المعنى فجر الأنهار و البحار و العيون عن ابن عباس «وَ مَرْعاها» مما يأكل الناس و الأنعام بين سبحانه بذلك جميع المنافع المتعلقة بالأرض من المياه التي بها حياة كل شي‏ء من الحيوانات و الأشجار و الثمار و الحبوب و العيون عن ابن عباس و بها يحصل جميع الأرزاق و النبات التي تصلح للمواشي فهي ترعاه بأن تأكله في موضعه «وَ الْجِبالَ أَرْساها» أي أثبتها في أوساط الأرض «مَتاعاً لَكُمْ وَ لِأَنْعامِكُمْ» أي خلق سبحانه الأرض و أخرج منها المياه و المراعي و أثبت الجبال بما فيها من أنواع المعادن لمنفعتكم و منفعة أنعامكم تنتفعون بها و لما دل سبحانه بهذه الأشياء على صحة البعث وصف يوم البعث فقال «فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى‏» و هي القيامة لأنها تطم على كل داهية هائلة أي تعلو و تغلب و من ذلك يقال ما من طامة إلا و فوقها طامة و القيامة فوق كل طامة فهي الداهية العظمى قال الحسن هي النفخة الثانية و قيل هي الغاشية الغليظة المجللة التي تدقق‏

659
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 659

الشي‏ء بالغلظ و قيل إن ذلك حين يساق أهل الجنة إلى الجنة و أهل النار إلى النار «يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى‏» أي تجي‏ء الطامة في يوم يتذكر الإنسان ما عمله من خير أو شر «وَ بُرِّزَتِ الْجَحِيمُ» أي أظهرت النار «لِمَنْ يَرى‏» فيراها الخلق مكشوفا عنها الغطاء و يبصرونها مشاهدة «فَأَمَّا مَنْ طَغى‏» أي تجاوز الحد الذي حده الله و ارتكب المعاصي «وَ آثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا» على الآخرة «فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى‏» له و الإيثار إرادة الشي‏ء على طريقة التفضيل له على غيره «وَ أَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ» أي خاف مقام مسألة ربه عما يجب عليه فعله أو تركه «وَ نَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى‏» أي عن المحارم التي تشتهيها و تهواها و قيل إن الرجل يهم بالمعصية فيذكر مقامه للحساب فيتركها عن مقاتل «فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى‏» له أي هي مقره و مأواه ثم خاطب سبحانه نبيه ص فقال «يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها» أي متى يكون قيامها ثابتة على ما وصفتها «فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها» أي لست في شي‏ء من علمها و ذكراها و المعنى لا تعلمها قال الحسن أي ليس عندك علم بوقتها و إنما تعلم أنها تكون لا محالة و قيل معناه ليس هذا مما يتصل بما بعثت لأجله فإنما بعثت داعيا و قيل إنها من حكاية قولهم و المعنى أنك قد أكثرت من ذكراها فمتى يكون «إِلى‏ رَبِّكَ مُنْتَهاها» أي قل لهم إلى الله إجراؤها و المنتهى موضع بلوغ الشي‏ء فكأنه قيل إلى أمر ربك منتهى أمرها بإقامتها لأن منتهى أمرها بذكرها و وصفها و الإقرار بها إلى الرسول و منتهى أمرها بإقامتها إلى الله لا يقدر عليها إلا هو سبحانه و قيل معناه إلى ربك منتهى علمها أي لا يعلم وقتها إلا هو عن الحسن «إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها» أي إنما أنت مخوف من يخاف قيامها أي إنما ينفع إنذارك من يخافها فأما من لا يخشاها فكأنك لم تنذره «كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها» أي يعاينون القيامة «لَمْ يَلْبَثُوا» في الدنيا «إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها» أي إلا قدر آخر نهار و أوله و مثله كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ و قد مر بيانه و قيل إن معناه أنهم إذا رأوا الآخرة صغرت الدنيا في أعينهم حتى كأنهم لم يقيموا بها إلا مقدار عشية أو مقدار ضحى تلك العشية عن قتادة.

660
مجمع البيان في تفسير القرآن10

سورة عبس مكية و آياتها ثنتان و أربعون ص 661

(80) سورة عبس مكية و آياتها ثنتان و أربعون (42)
[توضيح‏]
و تسمى سورة السفرة مكية.
عدد آيها
اثنتان و أربعون آية حجازي كوفي و إحدى و أربعون بصري و أربعون شامي و المدني الأول.
اختلافها
ثلاث آيات «وَ لِأَنْعامِكُمْ» حجازي كوفي «إِلى‏ طَعامِهِ» غير يزيد «الصَّاخَّةُ» غير الشامي.
فضلها
أبي بن كعب عن النبي ص قال و من قرأ سورة عبس جاء يوم القيامة و وجهه ضاحك مستبشر
و
روى معاوية بن وهب عن أبي عبد الله (ع) قال و من قرأ سورة عبس و تولى و إذا الشمس كورت كان تحت الله من الجنان و في ظل الله و كرامته في جنانه و لا يعظم ذلك على ربه عز و جل.
تفسيرها
لما ختم الله سبحانه تلك السورة بذكر إنذاره من يخشى القيامة افتتح هذه السورة بذكر إنذاره قوما يرجو إسلامهم و إعراضه عمن يخشى فقال:

661
مجمع البيان في تفسير القرآن10

سورة عبس الآيات 1 الى 23 ص 662

[سورة عبس (80): الآيات 1 الى 23]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏
عَبَسَ وَ تَوَلَّى (1) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى‏ (2) وَ ما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى‏ (4)
أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى‏ (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَ ما عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (7) وَ أَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى‏ (8) وَ هُوَ يَخْشى‏ (9)
فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14)
بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرامٍ بَرَرَةٍ (16) قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْ‏ءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19)
ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ (23)

القراءة
قرأ عاصم غير الأعشى و البرجمي فتنفعه بالنصب و الباقون بالرفع و قرأ أهل الحجاز تصدى بالتشديد و الباقون «تَصَدَّى» بتخفيف الصاد و في الشواذ قراءة الحسن أن جاءه و
قراءة أبي جعفر الباقر (ع) تصدى بضم التاء و فتح الصاد
و تلهى بضم التاء أيضا و قراءة أبي حيوة و شعيب بن أبي حمزة نشره بغير ألف.
الحجة
قال أبو علي من قرأ فتنفعه بالرفع عطفه على ما تقدم من المرفوع و من قرأ بالنصب فعلى أنه جواب بالفاء لأن المتقدم غير موجب فكان قوله تعالى «يَذَّكَّرُ» المعطوف على «يَزَّكَّى» في معنى لعله يكون منه تذكر فانتفاع و كذا قوله لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ و قوله «تَصَدَّى» أي تعرض فمن قرأ بتشديد الصاد أدغم التاء في الصاد و من قرأ بالتخفيف أراد تتصدى فحذف التاء و لم يدغمها و قرأ ابن فليح و البزي عن ابن كثير تلهى بتشديد التاء على أنه شبه المنفصل بالمتصل و جاز وقوع الساكن بعد اللين كما جاز تمود الثوب في المتصل و حكى سيبويه فلا تناجوا و من قرأ أن جاءه بلفظ الاستفهام فتقديره الآن جاءه الأعمى و كان ذلك منه فعلق أن يفعل بمحذوف دل عليه «عَبَسَ وَ تَوَلَّى» و أما على القراءة المشهورة فإن جاءه في موضع نصب بتولي لأنه الفعل الأقرب منه فكأنه قال تولى لمجي‏ء الأعمى و هو مفعول به و من قرأ تصدى فالمعنى يدعوك داع من زينة الدنيا و بشارتها إلى‏

662
مجمع البيان في تفسير القرآن10

الحجة ص 662

التصدي له و الإقبال عليه و على ذلك قوله تلهى أيضا أي تصرف عنه و من قرأ نشره فعلى أنه لغة في أنشره.
اللغة
التصدي التعرض للشي‏ء كتعرض الصديان للماء و الصحف جمع صحيفة و العرب تسمي كل مكتوب فيه صحيفة كما تسميه كتابا رقا كان أو غيره و السفرة الكتب لأسفار الحكمة واحدهم سافر و واحد الأسفار سفر و أصله الكشف من قولهم سفرت المرأة إذا كشفت عن وجهها و سفرت القوم إذا أصلحت بينهم قال:
         و ما أدع السفارة بين قومي             و ما أمشي بغش إن مشيت‏
و البررة جمع بار و هو فاعل البر و البر فعل النفع اجتلابا للمودة و أصله اتساع النفع و منه البر سمي به تفاؤلا باتساع النفع به و أقبره جعل له قبرا فالإقبار جعل القبر لدفن الميت فيه و يقال أقبرني فلانا أي اجعلني أقبره و القابر الدافن للميت بيده قال الأعشى:
         لو أسندت ميتا إلى نحرها             عاش و لم ينقل إلى قابر
         حتى يقول الناس مما رأوا             يا عجبا للميت الناشر
و الإنشار الإحياء للتصرف بعد الموت كنشر الثوب بعد الطي.
الإعراب‏
 «ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ» انتصب السبيل بفعل مضمر يفسره هذا الظاهر تقديره ثم يسر السبيل يسره له أي للإنسان ثم حذف الجار و المجرور و قوله «كَلَّا لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ» أي ما أمره به فحذف الباء فصار التقدير ما أمره فحذف الهاء الأولى فصار ما أمره فالهاء الباقية لما الموصولة و الهاء المحذوفة للإنسان.
النزول‏
قيل نزلت الآيات في عبد الله بن أم مكتوم و هو عبد الله بن شريح بن مالك بن ربيعة الفهري من بني عامر بن لؤي و ذلك أنه أتى رسول الله ص و هو يناجي عتبة بن ربيعة و أبا جهل بن هشام و العباس بن عبد المطلب و أبيا و أمية ابني خلف يدعوهم إلى الله و يرجو إسلامهم فقال يا رسول الله أقرئني و علمني مما علمك الله فجعل يناديه و يكرر النداء و لا يدري أنه مشتغل مقبل على غيره حتى ظهرت الكراهة في وجه رسول الله ص لقطعه‏

663
مجمع البيان في تفسير القرآن10

النزول ص 663

كلامه و قال في نفسه يقول هؤلاء الصناديد إنما أتباعه العميان و العبيد فأعرض عنه و أقبل على القوم الذين يكلمهم فنزلت الآيات و كان رسول الله بعد ذلك يكرمه و إذا رآه قال مرحبا بمن عاتبني فيه ربي و يقول له هل لك من حاجة و استخلفه على المدينة مرتين في غزوتين‏
و قال أنس بن مالك فرأيته يوم القادسية و عليه درع و معه راية سوداء قال المرتضى علم الهدى قدس الله روحه ليس في ظاهر الآية دلالة على توجهها إلى النبي ص بل هو خبر محض لم يصرح بالمخبر عنه و فيها ما يدل على أن المعنى بها غيره لأن العبوس ليس من صفات النبي ص مع الأعداء المباينين فضلا عن المؤمنين و المسترشدين ثم الوصف بأنه يتصدى للأغنياء و يتلهى عن الفقراء لا يشبه أخلاقه الكريمة و يؤيد هذا القول قوله سبحانه في وصفه ص وَ إِنَّكَ لَعَلى‏ خُلُقٍ عَظِيمٍ و قوله وَ لَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فالظاهر أن قوله «عَبَسَ وَ تَوَلَّى» المراد به غيره و
قد روي عن الصادق (ع) أنها نزلت في رجل من بني أمية كان عند النبي ص فجاء ابن أم مكتوم فلما رآه تقذر منه و جمع نفسه و عبس و أعرض بوجهه عنه فحكى الله سبحانه ذلك و أنكره عليه‏
فإن قيل فلو صح الخبر الأول هل يكون العبوس ذنبا أم لا فالجواب أن العبوس و الانبساط مع الأعمى سواء إذ لا يشق عليه ذلك فلا يكون ذنبا فيجوز أن يكون عاتب الله سبحانه بذلك نبيه ص ليأخذه بأوفر محاسن الأخلاق و ينبهه بذلك على عظم حال المؤمن المسترشد و يعرفه أن تأليف المؤمن ليقيم على إيمانه أولى من تأليف المشرك طمعا في إيمانه و قال الجبائي في هذا دلالة على أن الفعل يكون معصية فيما بعد لمكان النهي فأما في الماضي فلا يدل على أنه كان معصية قبل أن ينهى عنه و الله سبحانه لم ينهه إلا في هذا الوقت و قيل أن ما فعله الأعمى نوعا من سوء الأدب فحسن تأديبه بالإعراض عنه إلا أنه كان يجوز أن يتوهم أنه أعرض عنه لفقره و أقبل عليهم لرياستهم تعظيما لهم فعاتبه الله سبحانه على ذلك و
روي عن الصادق (ع) أنه قال كان رسول الله ص إذا رأى عبد الله بن أم مكتوم قال مرحبا مرحبا لا و الله لا يعاتبني الله فيك أبدا و كان يصنع به من اللطف حتى كان يكف عن النبي ص مما يفعل به.
المعنى‏
 «عَبَسَ» أي بسر و قبض وجهه «وَ تَوَلَّى» أي أعرض بوجهه «أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى‏» أي لأن جاءه الأعمى «وَ ما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ» أي لعل هذا الأعمى «يَزَّكَّى» يتطهر بالعمل الصالح و ما يتعلمه منك «أَوْ يَذَّكَّرُ» أي يتذكر فيتعظ بما يعلمه من مواعظ القرآن «فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى‏» في دينه قالوا و في هذا لطف من الله عظيم لنبيه ص إذ لم يخاطبه في باب العبوس فلم يقل عبست فلما جاوز العبوس عاد إلى الخطاب فقال و ما يدريك.
ثم قال «أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى‏» أي من كان عظيما في قومه و استغنى بالمال «فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى» أي‏

664
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 664

تتعرض له و تقبل عليه بوجهك «وَ ما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى» أي أي شي‏ء يلزمك إن لم يسلم و لم يتطهر من الكفر فإنه ليس عليك إلا البلاغ «وَ أَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى‏» أي يعمل في الخير يعني ابن أم مكتوم «وَ هُوَ يَخْشى‏» الله عز و جل «فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى» أي تتغافل و تشتغل عنه بغيره «كَلَّا» أي لا تعد لذلك و انزجر عنه «إِنَّها تَذْكِرَةٌ» أي إن آيات القرآن تذكير و موعظة للخلق «فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ» أي ذكر التنزيل أو القرآن أو الوعظ و المعنى فمن شاء أن يذكره ذكره و في هذا دلالة على أن العبد قادر على الفعل مخير فيه و قوله «كَلَّا» فيه دلالة على أنه ليس له أن يفعل ذلك في المستقبل و أما الماضي فلم يتقدم النهي عن ذلك فيه فلا يكون معصية ثم أخبر سبحانه بجلالة قدر القرآن عنده فقال «فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ» أي هذا القرآن أو هذه التذكرة في كتب معظمة عند الله و هي اللوح المحفوظ عن ابن عباس و قيل يعني كتب الأنبياء المنزلة عليهم كقوله إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى‏ «مَرْفُوعَةٍ» في السماء السابعة و قيل مرفوعة قد رفعها الله عن دنس الأنجاس «مُطَهَّرَةٍ» لا يمسها إلا المطهرون و قيل مصونة عن أن تنالها أيدي الكفرة لأنها في أيدي الملائكة في أعز مكان عن الجبائي و قيل مطهرة من كل دنس عن الحسن و قيل مطهرة من الشك و الشبهة و التناقض «بِأَيْدِي سَفَرَةٍ» يعني الكتبة من الملائكة عن ابن عباس و مجاهد و قيل يعني السفراء بالوحي بين الله تعالى و بين رسله من السفارة و قال قتادة هم القراء يكتبونها و يقرءونها و
روى فضيل بن يسار عن الصادق ع قال الحافظ للقرآن العامل به مع السفرة الكرام البررة
ثم أثنى عليهم فقال «كِرامٍ» على ربهم «بَرَرَةٍ» مطيعين و قيل كرام عن المعاصي يرفعون أنفسهم عنها بررة أي صالحين متقين و قال مقاتل كان القرآن ينزل من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا ليلة القدر إلى الكتبة من الملائكة ثم ينزل به جبريل (ع) إلى النبي ص ثم ذكر سبحانه المكذبين بالقرآن فقال «قُتِلَ الْإِنْسانُ» أي عذب و لعن الإنسان و هو إشارة إلى كل كافر عن مجاهد و قيل هو أمية بن خلف عن الضحاك و قيل هو عتبة بن أبي لهب إذ قال كفرت برب النجم إذا هوى «ما أَكْفَرَهُ» أي ما أشد كفره و ما أبين ضلاله و هذا تعجب منه كأنه قد قال تعجبوا منه و من كفره مع كثرة الشواهد على التوحيد و الإيمان و قيل أن ما للاستفهام أي أي شي‏ء أكفره و أوجب كفره عن مقاتل و الكلبي فكأنه قال ليس هاهنا شي‏ء يوجب الكفر و يدعو إليه فما الذي دعاه إليه مع كثرة نعم الله عليه، ثم بين سبحانه من أمره ما كان ينبغي معه أن يعلم أن الله خالقه فقال «مِنْ أَيِّ شَيْ‏ءٍ خَلَقَهُ» لفظه استفهام و معناه التقرير و قيل معناه لم لا ينظر إلى أصل خلقته من أي شي‏ء خلقه الله ليدله على وحدانية الله تعالى ثم فسر فقال «مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ» أطوارا نطفة ثم علقة إلى آخر خلقة و على حد معلوم من طوله و قصره‏

665
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 664

و سمعه و بصره و حواسه و أعضائه و مدة عمره و رزقه و جميع أحواله «ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ» أي ثم يسر سبيل الخروج من بطن أمه حتى خرج منه عن ابن عباس و قتادة و ذلك أن رأسه كان إلى رأس أمه و كذلك رجلاه كانتا إلى رجليها فقلبه الله عند الولادة ليسهل خروجه منها و قيل ثم السبيل أي سبيل الدين يسره و طريق الخير و الشر بين له و خيره و مكنه من فعل الخير و اجتناب الشر و نظيره وَ هَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ عن مجاهد و الحسن و ابن زيد «ثُمَّ أَماتَهُ» أي خلق الموت فيه و قيل أزال عنه حياته «فَأَقْبَرَهُ» أي صيره بحيث يقبر و جعله ذا قبر عن أبي مسلم و قيل جعله مقبورا و لم يجعله ممن يلقى إلى السباع و الطير عن الفراء و قيل أمر بأن يقبر عن أبي عبيدة «ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ» أي أحياه من قبره و بعثه إذا شاء تعالى أن يحييه للجزاء و الحساب و الثواب و العقاب عن الحسن «كَلَّا» أي حقا «لَمَّا يَقْضِ» أي لم يقض «ما أَمَرَهُ» الله به من إخلاص عبادته و لم يؤد حق الله تعالى عليه مع كثرة نعمه قال مجاهد هو على العموم في الكافر و المسلم لم يعبده أحد حق عبادته.
[سورة عبس (80): الآيات 24 الى 42]
فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى‏ طَعامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (27) وَ عِنَباً وَ قَضْباً (28)
وَ زَيْتُوناً وَ نَخْلاً (29) وَ حَدائِقَ غُلْباً (30) وَ فاكِهَةً وَ أَبًّا (31) مَتاعاً لَكُمْ وَ لِأَنْعامِكُمْ (32) فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (33)
يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَ أُمِّهِ وَ أَبِيهِ (35) وَ صاحِبَتِهِ وَ بَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38)
ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (41) أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)

القراءة
قرأ أهل الكوفة أنا صببنا بالفتح و الباقون بالكسر و في الشواذ قراءة ابن محيصن يعنيه بالعين و فتح الياء.

666
مجمع البيان في تفسير القرآن10

الحجة ص 667

الحجة
قال أبو علي من كسر كان ذلك تفسيرا للنظر إلى طعامه كما أن قوله «لَهُمْ مَغْفِرَةٌ» تفسير للوعد و من فتح فقال أنا فالمعنى على البدل بدل الاشتمال لأن هذه الأشياء مشتملة على كون الطعام و حدوثه فهو من نحو «يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ» و «قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ» و قوله «وَ ما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ» لأن الذكر كالمشتمل على المذكور و معنى «إِلى‏ طَعامِهِ» إلى كون طعامه و حدوثه و هو موضع الاعتبار قال ابن جني قوله يعنيه بالعين قراءة حسنة إلا أن قراءة الجماعة أقوى معنى فإن الإنسان قد يعنيه الشي‏ء و لا يغنيه عن غيره أ لا ترى أن من كان له ألف درهم فيؤخذ منها مائة درهم يعنيه أمرها و لا يغنيه عن بقية ماله أن يهتم به و يراعيه فأما إذا أغناه الأمر عن غيره فإن ذلك أقوى فاعرفه.
اللغة
الحديقة البستان المحوط و جمعه حدائق و منه قولهم أحدق به القوم إذا أحاطوا به و الغلب الغلاظ شجرة غلباء غليظة قال الفرزدق:
         عوى فأثار أغلب ضيغميا             فويل ابن المراغة ما استثارا
و الأب المرعى من الحشيش و سائر النبات الذي ترعاه الأنعام و الدواب و يقال أب إلى سيفه فاستله أي بدر إليه وهب إليه فيكون كبدور المرعى بالخروج قال الأعشى:
         صرمت و لم أصرمكم و كصارم             أخ قد طوى كشحا و أب ليذهبا
و قال في الأب:
         جذمنا قيس و نجد دارنا             و لنا الأب بها و المكرع‏
و الصاخة الصاكة لشدة صوتها الآذان فتصمها و القترة ظلمة الدخان و منه القتار ريح الشواء لأنها كالدخان.
الإعراب‏
 «فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ» العامل في الظرف في قوله «لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ» أي ثبت لكل امرئ منهم ذلك في وقت مجي‏ء الصاخة.
المعنى‏
لما ذكر سبحانه خلق ابن آدم ذكر رزقه ليعتبر فقال «فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى‏ طَعامِهِ»

667
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 667

الذي يأكله و يتقوته من الأطعمة الشهية اللذيذة كيف خلقها سبحانه و هيأها لرزق عباده ليفكر كيف مكنه من الانتفاع بذلك ثم بين فقال «أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا» أي نزلنا الغيث إنزالا «ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا» بالنبات «فَأَنْبَتْنا فِيها» أي في الأرض «حَبًّا» أي جنس الحبوب التي يتغذى بها و تدخر «وَ عِنَباً» خص العنب لكثرة منافعه «وَ قَضْباً» و هو ألقت الرطب يقضب مرة بعد أخرى يكون علفا للدواب عن ابن عباس و الحسن «وَ زَيْتُوناً» و هو ما يعصر عنه الزيت «وَ نَخْلًا» جمع نخلة «وَ حَدائِقَ غُلْباً» أي و بساتين محوطة تشتمل على أشجار عظام غلاظ مختلفة و قيل غلبا ملتفة الشجر عن مجاهد «وَ فاكِهَةً» يعني سائر ألوان الفواكه «وَ أَبًّا» و هو المرعى و الكلأ الذي لم يزرعه الناس مما تأكله الأنعام و قيل أن الأب للأنعام كالفاكهة للناس «مَتاعاً» أي منفعة «لَكُمْ وَ لِأَنْعامِكُمْ» مر معناه ثم ذكر يوم القيامة فقال «فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ» يعني صيحة القيامة عن ابن عباس سميت بذلك لأنها تصخ الآذان أي تبالغ في إسماعها حتى تكاد تصمها و قيل لأنها يصخ لها الخلق أي يستمع و قد قلب حرف التضعيف ياء لكراهية التضعيف فقالوا صاخ كما قالوا تظنيت في تظننت و تقضي البازي في تقضض ثم ذكر سبحانه في أي وقت تجي‏ء الصاخة فقال «يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَ أُمِّهِ وَ أَبِيهِ وَ صاحِبَتِهِ» أي و زوجته «وَ بَنِيهِ» أي أولاده الذكور أي لا يلتفت إلى واحد من هؤلاء لعظم ما هو فيه و شغله بنفسه و إن كان في الدنيا يعتني بشأنهم و قيل يفر منهم حذرا من مطالبتهم إياه بما بينه و بينهم من التبعات و المظالم و قيل لعلمه بأنهم لا ينفعونه و لا يغنون عنه شيئا و يجوز أن يكون مؤمنا و أقرباؤه من أهل النار فيعاديهم و لا يلتفت إليهم أو يفر منهم لئلا يرى ما نزل بهم من الهوان «لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ» أي لكل إنسان منهم أمر عظيم يشغله عن الأقرباء و يصرفه عنهم و معنى يغنيه يكفيه من زيادة عليه أي ليس فيه فضل لغيره لما هو فيه من الأمر الذي قد اكتنفه و ملأ صدره فصار كالغني عن الشي‏ء في أمر نفسه لا ينازع إليه و
روي عن عطاء بن يسار عن سودة زوجة النبي ص قالت قال رسول الله ص يبعث الناس عراة حفاة غرلا يلجمهم العرق و يبلغ شحمة الآذان قالت قلت يا رسول الله وا سوأتاه ينظر بعضنا إلى بعض قال شغل الناس عن ذلك و تلا رسول الله «لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ»
ثم قسم سبحانه أحوال الناس في ذلك اليوم فقال «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ» أي مشرقة مضيئة «ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ» من سرورها و فرحها بما أعد لها من الثواب و أراد بالوجوه أصحاب الوجوه «وَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ» أي سواد و كآبة للهم‏

668
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 667

 «تَرْهَقُها» أي تعلوها و تغشاها «قَتَرَةٌ» أي سواد أو كسوف عند معاينة النار و قيل أن الغبرة ما انحطت من السماء إلى الأرض و القترة ما ارتفعت من الأرض إلى السماء عن زيد بن أسلم «أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ» في أديانهم «الْفَجَرَةُ» في أفعالهم و استدلت الخوارج بذلك على أن من ليس بمؤمن لا بد أن يكون كافرا فإن الله سبحانه قسم الوجوه هذين القسمين و لا تعلق لهم به لأنه سبحانه ذكر هنا قسمين من الوجوه متقابلين وجوه المؤمنين و وجوه الكفار و لم يذكر وجوه الفساق من أهل الصلاة فيجوز أن يكون لها صفة أخرى بأن يكون عليها غبرة لا تغشاها قترة أو يكون عليها صفرة أو لون آخر.

669
مجمع البيان في تفسير القرآن10

سورة التكوير مكية و آياتها تسع و عشرون ص 670

(81) سورة التكوير مكية و آياتها تسع و عشرون (29)
[توضيح‏]
و منهم من يقول سورة التكوير مكية.
عدد آيها
تسع و عشرون آية.
فضلها
أبي بن كعب عن النبي ص قال و من قرأ سورة إذا الشمس كورت أعاذه الله تعالى أن يفضحه حين تنشر صحيفته.
ابن عمر قال قال رسول الله ص من أحب أن ينظر إلي يوم القيامة فليقرأ إذا الشمس كورت‏
و
روى أبو بكر قال قلت لرسول الله ص يا رسول الله أسرع إليك الشيب قال شيبتني هود و الواقعة و المرسلات و عم يتساءلون و إذا الشمس كورت‏
فأما ما
روي عن أنس أنه سئل هل اختضب رسول الله ص فقال ما شأنه الشيب فقيل أ و شين هو يا أبا حمزة فقال كلكم يكرهه‏
فالوجه فيه أنه يجوز أن يكون المراد بقوله شيبتني أنه لو كان أمر يشيب منه إنسان لشبت من قراءة هذه السطور و
قد روي
أن عليا (ع) لما غسل رسول الله ص وجد في لحيته شعرات بيضا
و ما لا يظهر إلا بعد التفتيش لا يكون شيبا.
تفسيرها
لما ختم الله سبحانه سورة عبس بذكر يوم القيامة و أهوالها افتتح هذه السورة أيضا بذكر علاماتها و أحوالها فقال:

670
مجمع البيان في تفسير القرآن10

سورة التكوير الآيات 1 الى 14 ص 671

[سورة التكوير (81): الآيات 1 الى 14]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏
إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَ إِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَ إِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ (3) وَ إِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ (4)
وَ إِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَ إِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ (6) وَ إِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَ إِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9)
وَ إِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَ إِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ (11) وَ إِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَ إِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ (14)

القراءة
قرأ ابن كثير و أهل البصرة سجرت بالتخفيف و الباقون بالتشديد و قرأ أهل المدينة و ابن عامر و عاصم و يعقوب و سهل «نُشِرَتْ» بالتخفيف و الباقون بالتشديد و قرأ أهل المدينة و ابن عامر و رويس و عاصم غير يحيى و حماد «سُعِّرَتْ» بالتشديد و الباقون بالتخفيف و قرأ أبو جعفر قتلت بالتشديد و الباقون بالتخفيف و
روي عن أبي جعفر و أبي عبد الله (ع) و إذا المودة سئلت بفتح الميم و الواو
و روي ذلك عن ابن عباس أيضا و
روي عن أمير المؤمنين (ع) و إذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت‏
و هو قراءة ابن عباس و يحيى بن يعمر و مجاهد و أبي الضحى و جابر بن زيد.
الحجة
قال أبو علي حجة سجرت قوله وَ الْبَحْرِ الْمَسْجُورِ و قيل في البحر المسجور أنه الفارغ و المتتلئ و منه الممتلئ قول الشاعر في صفة وعل:
         إذا شاء طالع مسجورة             ترى حولها النبع و الساسما
و حجة تشديد نشرت قوله صُحُفاً مُنَشَّرَةً و حجة سعرت بالتخفيف قوله «وَ كَفى‏ بِجَهَنَّمَ سَعِيراً» فسعير فعيل بمعنى مفعول و هذا إنما يجي‏ء من فعل و حجة من قال «سُجِّرَتْ» أن الفعل مسند إلى ضمير كثرة من باب غَلَّقَتِ الْأَبْوابَ و حجة «نُشِرَتْ» خفيفة قوله فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ و حجة «سُعِّرَتْ» مشددة كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً فهذا يدل على كثرة و شي‏ء بعد شي‏ء فحقه التشديد و من قرأ و إذا الموءودة سألت بفتح السين جعل الموءودة موصوفة بالسؤال و بالقول «بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ» و يمكن أن يكون الله سبحانه أكملها في تلك الحال و أقدرها على النطق حتى قالت ذلك القول و يعضده‏
ما روي عن النبي ص أنه قال يجي‏ء المقتول ظلما يوم القيامة و أوداجه تشخب دما اللون لون الدم و الريح ريح المسك متعلقا بقاتله يقول يا رب سل هذا

671
مجمع البيان في تفسير القرآن10

الحجة ص 671

فيم قتلني‏
و من قرأ قتلت بالتشديد فالمراد به تكرار الفعل لأن المراد بالموءودة هنا الجنس فإرادة التكرار جائزة و أما من قرأ المودة بفتح الميم و الواو فالمراد بذلك الرحم و القرابة و أنه يسأل قاطعها عن سبب قطعها و روي عن ابن عباس أنه قال هو من قتل في مودتنا أهل البيت (ع) و
عن أبي جعفر (ع) قال يعني قرابة رسول الله ص و من قتل في جهاد
و
في رواية أخرى قال هو من قتل في مودتنا و ولايتنا.
اللغة
التكوير التلفيف على جهة الاستدارة و منه كور العمامة كرت العمامة على رأسي أكورها كورا و كورتها تكويرا و طعنه فكوره إذا ألقاه مجتمعا و نعوذ بالله من الحور بعد الكور أي من النقصان بعد الزيادة و الانكدار انقلاب الشي‏ء حتى يصير أعلاه أسفله بما لو كان ماء لتكدر و أصله الانصباب قال العجاج‏
         " أبصر خربان فضاء فانكدر"
و العشار جمع عشراء و هي الناقة التي قد أتى عليها عشرة أشهر من حملها و الناقة إذا وضعت لتمام ففي سنة و أصل السجر الملأ قال لبيد:
         فتوسطا عرض السري فصدعا             مسجورة متجاورا قلامها
أي مملوءة و تنور مسجور مملوء بالنار و الموءودة من وأد يئد وأدا و كانت العرب تئد البنات خوف الإملاق قال‏
قتادة جاء قيس بن عاصم التميمي إلى النبي ص فقال إني وأدت ثماني بنات في الجاهلية فقال فأعتق عن كل واحدة رقبة قال إني صاحب إبل قال فاهد إلى من شئت عن كل واحدة بدنة
قال الجبائي إنما سميت موءودة لأنها ثقلت في التراب الذي طرح عليها حتى ماتت و هذا خطأ لأن الموءودة من وأد يئد معتل الفاء و من الثقل آده يؤده أثقله و هو معتل العين و لو كانت مأخوذة منه لقيل موؤدة على وزن معوءدة و
روي عن النبي ص أنه سئل عن العزل فقال ذاك الوأد الخفي‏
قال الفرزدق:
         و منا الذي منع الوائدات             فأحيا الوئيد فلم تواد
و قال:

672
مجمع البيان في تفسير القرآن10

اللغة ص 672

         و منا الذي أحيا الوئيد و غالب             و عمرو و منا حاجب و الأقارع‏
و الكشط القلع عن شدة التزاق و الكشط و القشط واحد و في حرف عبد الله و إذا السماء قشطت و التسعير تهييج النار حتى تتأجج و منه السعر لأنه حال هيج الثمن بالارتفاع و الانحطاط.
الإعراب‏
ارتفعت الشمس بفعل مضمر تقديره إذا كورت الشمس كورت و لا يجوز إظهاره لأن ما بعده يفسره و إنما احتيج إلى إضمار فعل لأن في إذا معنى الشرط و الشرط يقتضي الفعل و جواب إذا قوله «عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ» فإذا في موضع النصب لأنه ظرف لعلمت و على هذا يجري أمثاله و الجملة التي هي الفعل المحذوف مع فاعله بعد إذا في موضع جر بإضافة إذا إليها و التقدير وقت تكوير الشمس تعلم كل نفس ما عملته و تجزى به و على هذا فهنا اثنا عشر ظرفا كلها إضافة إلى الجمل من قوله «إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ» إلى قوله «وَ إِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ» و العامل فيها كلها قوله «عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ».
المعنى‏
أخبر الله سبحانه عن القيامة و شدائدها فقال «إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ» أي ذهب ضوءها و نورها فأظلمت و اضمحلت عن ابن عباس و أبي و مجاهد و قتادة و قيل ألقيت و رمي بها عن أبي صالح و الربيع بن خثيم و قيل جمع ضوءها و لفت كما تلف العمامة عن الزجاج و المعنى أن الشمس تكور بأن يجمع نورها حتى تصير كالكارة الملقاء و يذهب ضوءها و يحدث الله تعالى للعباد ضياء غيرها «وَ إِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ» أي تساقطت و تناثرت عن مجاهد و قتادة و الربيع بن خثيم يقال انكدر الطائر من الهواء إذا انقض و قيل تغيرت من الكدورة عن الجبائي و الأول أولى لقوله «وَ إِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ» إلا أن تقول يذهب ضوءها ثم تتناثر «وَ إِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ» عن وجه الأرض فصارت هباء منبثا و سرابا «وَ إِذَا الْعِشارُ» و هي النوق الحوامل أتت عليها عشرة أشهر و بعد الوضع تسمى عشارا أيضا و هي أنفس مال عند العرب «عُطِّلَتْ» أي تركت هملا بلا راع و قيل العشار السحاب تعطل فلا تمطر عن الجبائي و حكي ذلك عن أبي عمرو قال الأزهري لا أعرف هذا في اللغة «وَ إِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ» أي جمعت حتى يقتص لبعضها من بعض فيقتص للجماء من القرناء و يحشر الله سبحانه الوحوش ليوصل إليها ما تستحقه من الأعواض على الآلام التي نالتها في الدنيا و ينتصف لبعضها من بعض فإذا وصل إليها ما استحقته من الأعواض فمن قال أن‏

673
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 673

العوض دائم تبقى منعمة إلى الأبد و من قال تستحق العوض منقطعا فقال بعضهم يديمه الله لها تفضلا لئلا يدخل على المعوض غم بانقطاعه و قال بعضهم إذا فعل الله بها ما استحقته من الأعواض جعلها ترابا «وَ إِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ» أي أرسل عذبها على مالحها و مالحها على عذبها حتى امتلأت و قيل إن المعنى فجر بعضها في بعض فصارت البحور كلها بحرا واحدا و يرتفع البرزخ عن مجاهد و مقاتل و الضحاك و قيل سجرت أي أوقدت فصارت نارا تضطرم عن ابن عباس و قيل يبست و ذهب ماؤها فلم يبق فيها قطرة عن الحسن و قتادة و قيل ملئت من القيح و الصديد الذي يسيل من أبدان أهل النار في النار و أراد بحار جهنم لأن بحور الدنيا قد فنيت عن الجبائي «وَ إِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ» أي قرن كل واحد منها إلى شكله و ضم إليه و النفس يعبر بها عن الإنسان و قد يعبر بها عن الروح فالمعنى قرن كل إنسان بشكله من أهل النار و بشكله من أهل الجنة عن عمر بن الخطاب و ابن عباس و مجاهد و الحسن و قتادة و قيل معناه ردت الأرواح إلى الأجساد فتصير أحياء عن عكرمة و الشعبي و أبي مسلم و قيل يقرن الغاوي بمن أغواه من إنسان أو شيطان عن الجبائي و قيل زوجت أي قرنت نفوس الصالحين من المؤمنين بالحور العين و قرنت نفوس الكافرين بالشياطين عن عطاء و مقاتل «وَ إِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ» يعني الجارية المدفونة حيا و كانت المرأة إذا حان وقت ولادتها حفرت حفرة و قعدت على رأسها فإن ولدت بنتا رمت بها في الحفرة و إن ولدت غلاما حبسته عن ابن عباس قال شاعرهم:
         سميتها إذ ولدت تموت             و القبر صهر ضامن زميت‏
و معنى قوله «سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ» أن الموءودة تسأل فيقال لها بأي ذنب قتلت و معنى سؤالها توبيخ قاتلها لأنها تقول قتلت بغير ذنب و يجري هذا مجرى قوله سبحانه لعيسى (ع) «أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ» على سبيل التوبيخ لقومه و إقامة الحجة عليهم عن الفراء و قيل إن معنى سئلت طولب قاتلها بالحجة في قتلها و سئل عن سبب قتلها فكأنه قيل و الموءودة يسأل قاتلها بأي ذنب قتلت هذه و نظيره قوله «إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا» أي مسئولا عنه عن أبي مسلم و على هذا فيكون القتلة هنا هم المسئولين على الحقيقة لا المقتولة و إنما المقتولة مسئول عنها «وَ إِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ» يعني صحف الأعمال التي كتبت الملائكة فيها أعمال أهلها من خير و شر تنشر ليقرأها أصحابها و لتظهر الأعمال فيجازوا بحسبها «وَ إِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ» أي أزيلت عن موضعها كالجلد يزال عن‏

674
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 673

الجزور ثم يطويها الله و قيل معناه قلعت كما يقلع السقف عن الزجاج و قيل كشفت عمن فيها و معنى الكشط رفعك شيئا عن شي‏ء قد غطاه كما يكشط الجلد عن السنام «وَ إِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ» أوقدت و أضرمت حتى ازدادت شدة على شدة و قيل سعرها غضب الله و خطايا بني آدم عن قتادة «وَ إِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ» أي قربت من أهلها للدخول و قيل قربت بما فيها من النعيم فيزداد المؤمن سرورا و يزداد أهل النار حسرة «عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ» أي إذا كانت هذه الأشياء التي تكون في القيامة علمت في ذلك الوقت كل نفس ما وجدت حاضرا من عملها كما قالوا أحمدته وجدته محمودا و قيل علمت ما أحضرته من خير و شر و إحضار الأعمال مجاز لأنها لا تبقى و المعنى أنه لا يشذ عنها شي‏ء فكان كلها حاضرة و قيل أن المراد صحائف الأعمال.
[سورة التكوير (81): الآيات 15 الى 29]
فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (16) وَ اللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (17) وَ الصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19)
ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَ ما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَ لَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَ ما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24)
وَ ما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (27) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَ ما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (29)

القراءة
قرأ أهل البصرة غير سهل و ابن كثير و الكسائي بظنين بالظاء و الباقون «بِضَنِينٍ» بالضاد.
الحجة
الظنين المتهم من قولهم ظننت أي اتهمت لا من ظننت المتعدي إلى‏

675
مجمع البيان في تفسير القرآن10

الحجة ص 675

مفعولين إذ لو كانت منه لكان لا بد من ذكر المفعول الثاني و في أنه لم يذكر المفعول الآخر دلالة على أنه من ظننت بمعنى اتهمت و كان النبي ص يعرف بالأمين و بذلك وصفه أبو طالب في قوله:
         إن ابن آمنة الأمين محمدا             عندي بمثل منازل الأولاد
و من قرأ «بِضَنِينٍ» فهو من البخل و المعنى أنه يخبر بالغيب فيبينه و لا يكتمه كما يمتنع الكاهن من إعلام ذلك حتى يأخذ عليه حلوانا.
اللغة
الخنس جمع خانس و الكنس جمع كانس و أصلهما الستر و الشيطان خناس لأنه يخنس إذا ذكر الله تعالى أي يذهب و يستتر و كناس الطير و الوحش بيت يتخذه و يختفي فيه و الكواكب تكنس في بروجها كالظباء تدخل في كناسها و عسعس الليل إذا أقبل من أوله و أظلم و عسعس إذا أدبر و هو من الأضداد قال علقمة بن قرط:
         حتى إذا الصبح لها تنفسا             و إنجاب عنها ليلها و عسعسا
و العس طلب الشي‏ء بالليل و منه أخذ العسس و يقال عسعس الليل و سعسع.
الإعراب‏
 «إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ» جواب القسم ثم وصف الرسول بأوصاف إلى قوله «أَمِينٍ» ثم قال «وَ ما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ» و هو معطوف على جواب القسم و كذلك ما بعده و قوله «فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ» اعتراض قال الفراء تقول العرب إلى أين تذهب و أين تذهب و تقولون ذهبت الشام و خرجت الشام و انطلقت السوق سمعناه في هذه الأحرف الثلاثة و أنشد الفراء:
         تصيح بنا حنيفة إذ رأتنا             و أي الأرض تذهب للصياح‏
يريد إلى أي الأرض و لم يحك سيبويه من هذا إلا ذهبت الشام و على هذا جاء «فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ» و المعنى فإلى أين تذهبون و قوله «إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ» جواب القسم أيضا و قوله «وَ ما تَشاؤُنَ» داخل في جواب القسم أيضا و قوله «لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ» بدل من قوله «لِلْعالَمِينَ» بدل البعض من الكل فإذا السورة كلها مركبة من فعل و فاعل و من قسم و أجوبة.
المعنى‏
ثم أكد سبحانه ما تقدم بالقسم فقال «فَلا أُقْسِمُ» أي فأقسم و لا زائدة

676
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 676

و قد ذكرنا اختلاف العلماء فيه عند قوله «لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ» «بِالْخُنَّسِ» و هي النجوم تخنس بالنهار و تبدو بالليل و «الْجَوارِ» صفة لها لأنها تجري في أفلاكها «الْكُنَّسِ» من صفتها أيضا لأنها تكنس أي تتوارى في بروجها كما تتوارى الظباء في كناسها و
هي خمسة أنجم زحل و المشتري و المريخ و الزهرة و عطارد عن علي (ع)
و قيل معناه أنها تخنس بالنهار فتختفي و لا ترى و تكنس في وقت غروبها فهذا خنوسها و كنوسها و قيل هي بقر الوحش عن ابن مسعود و قيل هي الظباء عن ابن جبير
 «وَ اللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ» أي إذا أدبر بظلامه عن علي (ع)
و ابن عباس و مجاهد و قتادة و قيل أقبل بظلامه عن الحسن و قيل أظلم عن الجبائي «وَ الصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ» أي إذا أسفر و أضاء و المعنى امتد ضوءه حتى يصير نهارا «إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ» هذا جواب القسم أي أن القرآن قول رسول كريم على ربه و هو جبرائيل و هو كلام الله تعالى أنزله على لسانه أي سمعه محمد من جبرائيل و لم يقله من قبل نفسه عن الحسن و قتادة و قيل إنما أضافه إلى جبرائيل لأن الله تعالى قال لجبرائيل ائت محمدا ص و قل له كذا ثم وصف جبرائيل (ع) فقال «ذِي قُوَّةٍ» أي فيما كلف و أمر به من العلم و العمل و تبليغ الرسالة و قيل ذي قدرة في نفسه و من قوته قلعه ديار قوم لوط بقوادم جناحه حتى بلغ بها السماء ثم قلبها «عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ» معناه متمكن عند الله صاحب العرش و خالقه رفيع المنزلة عظيم القدر عنده كما يقال فلان مكين عند السلطان و المكانة القرب «مُطاعٍ ثَمَّ» أي في السماء تطيعه ملائكة السماء قالوا و من طاعة الملائكة لجبرائيل أنه أمر خازن الجنة ليلة المعراج حتى فتح لمحمد ص أبوابها فدخلها و رأى ما فيها و أمر خازن النار ففتح له عنها حتى نظر إليها «أَمِينٍ» أي على وحي الله و رسالاته إلى أنبيائه و في‏
الحديث أن رسول الله ص قال لجبرائيل (ع) ما أحسن ما أثنى عليك ربك «ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ» فما كانت قوتك و ما كانت أمانتك فقال أما قوتي فإني بعثت إلى مداين لوط و هي أربع مداين في كل مدينة أربعمائة ألف مقاتل سوى الذراري فحملتهم من الأرض السفلى حتى سمع أهل السماوات أصوات الدجاج و نباح الكلاب ثم هويت بهن فقلبتهن و أما أمانتي فإني لم أومر بشي‏ء فعدوته إلى غيره‏
ثم خاطب سبحانه جماعة الكفار فقال «وَ ما صاحِبُكُمْ» الذي يدعوكم إلى الله و إخلاص طاعته «بِمَجْنُونٍ» و المجنون المغطى على عقله حتى لا يدرك الأمور على ما هي عليه للآفة الغامرة له و بغمور الآفة يتميز من النائم لأن النوم ليس بآفة و هذا أيضا من جواب القسم أقسم الله عز اسمه أن القرآن نزل به جبرائيل و أن محمدا ص ليس على ما يرميه به أهل مكة من الجنون «وَ لَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ» أي رأي محمدا ص جبرائيل (ع) على صورته التي خلقه الله تعالى عليها حيث تطلع الشمس و هو

677
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 676

الأفق الأعلى من ناحية المشرق عن قتادة و مجاهد و الحسن «وَ ما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ» أي ليس هو على وحي الله تعالى و ما يخبر به من الأخبار بمتهم فإن أحواله ناطقة بالصدق و الأمانة عن ابن عباس و سعيد بن جبير و إبراهيم و الضحاك و من قرأ بالضاد فالمعنى أنه ليس ببخيل فيما يؤدي عن الله أن يعلمه كما علمه الله «وَ ما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ» رجمه الله باللعنة عن الحسن و قيل رجم بالشهب طردا من السماء و المعنى و ليس القرآن بقول شيطان رجيم ألقاه إليه كما قال المشركون أن الشيطان يلقي إليه كما يلقي إلى الكهنة ثم بكتهم الله سبحانه فقال «فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ» أي فأي طريق تسلكون أبين من هذه الطريقة التي قد بينت لكم عن الزجاج و قيل معناه فأين تعدلون عن هذا القرآن و هو الشفاء و الهدى «إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ» معناه ما القرآن إلا عظة و تذكرة للخلق يمكنهم أن يتوصلوا به إلى الحق و الذكر هو ضد السهو و الذاكر لا يخلو من أن يكون عالما أو جاهلا أو مقلدا أو شاكا و لا يصح شي‏ء من ذلك مع السهو الذي يضاد الذكر «لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ» على أمر الله و طاعته ذكر سبحانه أنه ذكر لجميع الخلق على العموم ثم خص المستقيم لأن المنفعة راجعة إليهم كما قال إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ «وَ ما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ» فيه أقوال (أحدها) أن معناه و ما تشاءون الاستقامة على الحق إلا أن يشاء الله ذلك من حيث خلقكم لها و كلفكم بها فمشيئته بين يدي مشيئتكم عن الجبائي (و ثانيها) أنه خطاب للكفار و المراد لا تشاءون الإسلام إلا أن يشاء الله أن يجبركم عليه و يلجأكم إليه و لكنه لا يفعل لأنه يريد منكم أن تؤمنوا اختيارا لتستحقوا الثواب و لا يريد أن يحملكم عليه عن أبي مسلم (و ثالثها) إن المراد و ما تشاءون الإسلام إلا أن يشاء الله أن يلطف لكم في الاستقامة لما في الكلام من معنى النعمة.

678
مجمع البيان في تفسير القرآن10

سورة انفطرت مكية و آياتها تسع عشرة ص 679

(82) سورة انفطرت مكية و آياتها تسع عشرة (19)
[توضيح‏]
و تسمى سورة الانفطار مكية تسع عشرة آية.
فضلها
أبي بن كعب قال قال النبي ص و من قرأها أعطاه الله من الأجر بعدد كل قبر حسنة و بعدد كل قطرة مائة حسنة و أصلح الله شأنه يوم القيامة
و
روى الحسن بن أبي العلا عن أبي عبد الله (ع) قال من قرأ هاتين السورتين إذا السماء انفطرت و إذا السماء انشقت و جعلهما نصب عينه في صلاة الفريضة و النافلة لم يحجبه من الله حجاب و لم يحجزه من الله حاجز و لم يزل ينظر إلى الله و ينظر الله إليه حتى يفرغ من حساب الناس.
تفسيرها
لما كانت السورة المتقدمة في ذكر أهوال يوم القيامة افتتح سبحانه هذه السورة بمثل ذلك ليتصل بها اتصال النظير بالنظير فقال:

679
مجمع البيان في تفسير القرآن10

سورة الانفطار الآيات 1 الى 19 ص 680

[سورة الانفطار (82): الآيات 1 الى 19]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏
إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (1) وَ إِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَ إِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ (3) وَ إِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4)
عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَ أَخَّرَتْ (5) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ (8) كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9)
وَ إِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (10) كِراماً كاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ (12) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَ إِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14)
يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ (15) وَ ما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ (16) وَ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَ الْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)

القراءة
قرأ أهل الكوفة و أبو جعفر «فَعَدَلَكَ» خفيفة و الباقون بالتشديد و قرأ أبو جعفر بل يكذبون بالياء و الباقون بالتاء و قرأ ابن كثير و أهل البصرة يوم لا تملك بالرفع و الباقون بالنصب و في الشواذ قراءة سعيد بن جبير ما أغرك بربك.
الحجة
أما عدلك بالتشديد فمعناه عدل خلقك فأخرجك في أحسن تقويم و أما «فَعَدَلَكَ» بالتخفيف فمعناه عدل بعضك ببعض فكنت معتدل الخلقة متناسبها فلا تفاوت فيها و قوله يكذبون بالياء يكون إخبارا عن الكفار و بالتاء على خطابهم و أما وجه الرفع في قوله يوم لا تملك نفس أنه خبر مبتدإ محذوف أي هو يوم لا تملك و المعنى يوم الدين يوم لا تملك نفس و أما النصب فإنه لما قال وَ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ فجرى ذكر الدين و هو الجزاء قال «يَوْمَ لا تَمْلِكُ» يعني الجزاء يوم لا تملك نفس فصار «يَوْمَ لا تَمْلِكُ» خبر الجزاء المضمر لأنه حدث و تكون أسماء الزمان أخبارا عن الحدث و يجوز النصب على وجه آخر و هو أن اليوم لما جرى في أكثر الأمر ظرفا ترك على ما كان يكون عليه في أكثر أمره و الدليل على ذلك ما اجتمع عليه القراء و العرب في قوله تعالى «وَ أَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَ مِنَّا دُونَ ذلِكَ» و مما يقوي النصب في ذلك قوله «وَ ما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ» و قوله «يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ» فالنصب في «يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ» مثل هذا و نحوه قال أبو الحسن و لو رفع ذلك كله كان جيدا إلا أنا نختار ما عليه الناس و أما من قرأ ما أغرك فيجوز أن يكون معناه ما الذي دعاك إلى الاغترار به و يجوز أن يكون تعجبا و قد قيل في قوله «فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ» هذان الوجهان و أغرك يجوز أن يكون من الغر و الغرارة فيكون معناه ما أجهلك و ما أغفلك عما يراد بك و يجوز أن يكون من الغرور على غير القياس‏

680
مجمع البيان في تفسير القرآن10

الحجة ص 680

كما قيل في المثل أشغل من ذات النحيين.
اللغة
الانفطار و الانشقاق و الانصداع نظائر و الانتثار تساقط الشي‏ء في الجهات و التفجير خرق بعض مواضع الماء إلى بعض على التكثير و منه الفجور لانخراق صاحبه بالخروج إلى كثير من الذنوب و منه الفجر لانفجاره بالضياء و بعثرت الحوض و بحثرته إذا جعلت أسفله أعلاه و البعثرة و البحثرة إثارة الشي‏ء بقلب باطنه إلى ظاهره و الغرور ظهور أمر يتوهم به جهلا الأمان من المحذور يقال غره غرورا و اغتره اغترارا قال الحرث بن حلزة:
         لم يغروكم غرورا و لكن             رفع الآل جمعهم و الضحاء
الإعراب‏
قوله «فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ» يجوز أن تكون ما مزيدة مؤكدة و المعنى في أي صورة شاء ركبك إما طويلا و إما قصيرا و إما كذا و كذا يكون ركبك عطفا على عدلك فحذف الواو و يجوز أن يكون ما في معنى الشرط و الجزاء فيكون المعنى في أي صورة ما شاء أن يركبك فيها ركبك و لا يكون على هذا قوله «فِي أَيِّ صُورَةٍ» من صلة ركبك لأن سيبويه قال إن تضرب زيدا أضرب عمرا و لا يجوز تقديم عمرو على إن فوجب أن يكون قوله «فِي أَيِّ صُورَةٍ» من صلة مضمر و لا يكون من صلة عدلك لأنه استفهام فلا يعمل فيه ما قبله. يصلونها في موضع نصب على الحال و يجوز أن يكون في موضع رفع فيكون خبرا لأنه خبر بعد خبر و التقدير إن الفجار في جحيم صالون.
المعنى‏
 «إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ» أي انشقت و تقطعت و مثله يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ الآية «وَ إِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ» أي تساقطت و تهافتت قال ابن عباس سقطت سودا لا ضوء لها «وَ إِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ» أي فتح بعضها في بعض عذبها في ملحها و ملحها في عذبها فصارت بحرا واحدا عن قتادة و الجبائي و قيل معناه ذهب ماؤها عن الحسن «وَ إِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ» أي قلب ترابها و بعث الموتى الذين فيها و قيل معناه بحثت عن الموتى فاخرجوا منها

681
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 681

يريد عند البعث عن ابن عباس و مقاتل «عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَ أَخَّرَتْ» و هذا كقوله سبحانه يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَ أَخَّرَ و قد مر ذكره عن عبد الله بن مسعود قال ما قدمت من خير أو شر و ما أخرت من سنة حسنة استن بها بعده فله أجر من اتبعه من غير أن ينقص من أجورهم شي‏ء أو سنة سيئة عمل بها بعده فعليه وزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شي‏ء و يؤيد هذا القول ما
جاء في الحديث أن سائلا قام على عهد النبي ص فسأل فسكت القوم ثم أن رجلا أعطاه فأعطاه القوم فقال النبي ص من استن خيرا فاستن به فله أجره و مثل أجور من اتبعه من غير منتقص من أجورهم و من استن شرا فاستن به فعليه وزره و مثل أوزار من اتبعه غير منتقص من أوزارهم قال فتلا حذيفة بن اليمان «عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَ أَخَّرَتْ»
 «يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ» أي أي شي‏ء غرك بخالقك و خدعك و سول لك الباطل حتى عصيته و خالفته و
روي أن النبي ص لما تلا هذه الآية قال غره جهله‏
و اختلف في معنى الكريم فقيل هو المنعم الذي كل أفعاله إحسان و إنعام لا يجربه نفعا و لا يدفع به ضررا و قيل هو الذي يعطي ما عليه و ما ليس عليه و لا يطلب ماله و قيل هو الذي يقبل اليسير و يعطي الكثير و قيل إن من كرمه سبحانه أنه لم يرض بالعفو عن السيئات حتى بدلها بالحسنات و قيل للفضيل بن عياض لو أقامك الله يوم القيامة بين يديه فقال «ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ» ما ذا كنت تقول له قال أقول غرني ستورك المرخاة و قال يحيى بن معاذ لو أقامني الله بين يديه فقال ما غرك بي قلت غرني بك برك بي سالفا و آنفا و عن بعضهم قال غرني حلمك و عن أبي بكر الوراق غرني كرم الكريم و إنما قال سبحانه «الْكَرِيمِ» دون سائر أسمائه و صفاته لأنه كأنه لقنه الإجابة حتى يقول غرني كرم الكريم و قال عبد الله بن مسعود ما منكم من أحد إلا سيخلو الله به يوم القيامة فيقول يا ابن آدم يا ابن آدم ما غرك بي يا ابن آدم ما ذا عملت فيما عملت يا ابن آدم ما ذا أجبت المرسلين و
قال أمير المؤمنين (ع) كم مغرور بالستر عليه و مستدرج بالإحسان إليه‏
 «الَّذِي خَلَقَكَ» من نطفة و لم تك شيئا «فَسَوَّاكَ» إنسانا تسمع و تبصر «فَعَدَلَكَ» أي جعلك معتدلا و قيل معناه عدل خلقك في العينين و الأذنين و اليدين و الرجلين عن مقاتل و المعنى عدل بين ما خلق لك من الأعضاء التي في الإنسان منها اثنان لا تفضل يد على يد و لا رجل على رجل «فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ» أي في أي شبه من أب أو أم أو خال أو عم عن مجاهد و
روي عن الرضا (ع) عن آبائه عن النبي ص أنه قال لرجل ما ولد لك قال يا رسول الله و ما عسى أن يولد لي إما غلام و إما جارية قال فمن يشبه قال يشبه أمه و أباه فقال ص لا تقل هكذا إن النطفة إذا استقرت في الرحم أحضرها الله كل نسب بينها و بين آدم أ ما قرأت هذه الآية «فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ» أي فيما بينك و بين آدم.
و قيل في أي صورة ما

682
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 681

شاء من صور الخلق ركبك إن شاء في صورة إنسان و إن شاء في صورة حمار و إن شاء في صورة قرد عن عكرمة و أبي صالح و
قال الصادق (ع) لو شاء ركبك على غير هذه الصورة
و المعنى أنه سبحانه يقدر على جعلك كيف شاء و لكنه خلقك في أحسن تقويم حتى صرت على صورتك التي أنت عليها لا يشبهك شي‏ء من الحيوان و قيل في أي صورة شاء من ذكر أو أنثى أو جسيم أو نحيف حسن أو دميم طويل أو قصير «كَلَّا» أي ليس الأمر كما تزعمون أنه لا بعث و لا حساب و ليس هنا موضع الإنكار للبعث مع وضوح الأمر فيه و قيام الدلالة عليه «بَلْ تُكَذِّبُونَ» معاشر الكفار «بِالدِّينِ» الذي هو الجزاء لإنكاركم البعث و النشور عن مجاهد و قتادة و قيل تكذبون بالدين الذي جاء به محمد ص و هو الإسلام عن الجبائي «وَ إِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ» من الملائكة يحفظون عليكم ما تعلمونه من الطاعات و المعاصي ثم وصف الحفظة فقال «كِراماً» على ربهم «كاتِبِينَ» يكتبون أعمال بني آدم «يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ» من خير و شر فيكتبونه عليكم لا يخفى عليهم من ذلك شي‏ء و قيل إن الملائكة تعلم ما يفعله العبد إما باضطرار و إما باستدلال و قيل معناه يعلمون ما تفعلون من الله دون الباطن و في هذا دلالة على أن أفعال العبد حادثة من جهتهم و أنهم المحدثون لها دونه تعالى و إلا فلا يصح قوله «تَفْعَلُونَ إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ» و هو الجنة و الأبرار أولياء الله المطيعون في الدنيا «وَ إِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ» و هو العظيم من النار و المراد بالفجار هنا الكفار المكذبون للنبي ص لقوله «يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ» أي يلزمونها بكونهم فيها «وَ ما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ» أي لا يكونون غائبين عنها بل يكونون مؤبدين فيها و قد دل الدليل على أن أهل الكبيرة من المسلمين لا يخلدون في النار و لأنه سبحانه قد ذكر المكذبين بالدين فيما قبل هذه الآية فالأولى أن تكون لفظة الفجار مخصوصة بهم و أيضا فإذا احتمل الكلام ذلك بطل تعلق أهل الوعيد بعموم اللفظ ثم عظم سبحانه يوم القيامة فقال «وَ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ» تعظيما له لشدته و تنبيها على عظم حاله و كثرة أهواله «ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ» كرره تأكيدا لذلك و قيل أراد ما أدراك ما في يوم الدين من النعيم لأهل الجنة و ما أدراك ما في يوم الدين من العذاب لأهل النار عن الجبائي «يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً» أي لا يملك أحد الدفاع عن غيره ممن يستحق العقاب كما يملك كثير من الناس في دار الدنيا ذلك «وَ الْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ» وحده أي الحكم له في الجزاء و الثواب و العفو و الانتقام و
روى عمرو بن شمر عن جابر عن أبي جعفر (ع) أنه قال إن الأمر يومئذ و اليوم كله لله يا جابر إذا كان يوم القيامة بادت الحكام فلم يبق حاكم إلا الله‏
و قيل معناه يوم لا تملك نفس لنفس كافرة شيئا من المنفعة عن مقاتل و المعنى الصحيح في الآية أن الله‏

683
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 681

سبحانه قد ملك في الدنيا كثيرا من الناس أمورا و أحكاما و في القيامة لا أمر لسواه و لا حكم و متى قيل فيجب أن لا يصح على هذا شفاعة النبي ص فالجواب أن ذلك لا يكون إلا بأمره تعالى و بإذنه و هو من تدابيره.

684
مجمع البيان في تفسير القرآن10

سورة المطففين مكية و آياتها ست و ثلاثون ص 685

(83) سورة المطففين مكية و آياتها ست و ثلاثون (36)
[توضيح‏]
و تسمى سورة التطفيف مكية و قال المعدل مدنية عن الحسن و الضحاك و عكرمة قال و قال ابن عباس و قتادة إلا ثماني آيات منها و هي «إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا» إلى آخر السورة.
عدد آيها
ست و ثلاثون آية بالإجماع.
فضلها
أبي بن كعب قال قال النبي ص و من قرأها سقاه الله من الرحيق المختوم يوم القيامة
و
روى صفوان الجمال عن أبي عبد الله (ع) قال من كانت قراءته في الفريضة ويل للمطففين أعطاه الله الأمن يوم القيامة من النار و لا تراه و لا يراها و لا يمر على جسر جهنم و لا يحاسب يوم القيامة.
تفسيرها
ختم الله سبحانه تلك السورة بذكر القيامة و ما أعد فيها للأبرار و الفجار و بين في هذه السورة أيضا ذكر أحوال الناس في القيامة فقال:

685
مجمع البيان في تفسير القرآن10

سورة المطففين الآيات 1 الى 17 ص 686

[سورة المطففين (83): الآيات 1 الى 17]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏
وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَ إِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَ لا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4)
لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (6) كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَ ما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ (8) كِتابٌ مَرْقُومٌ (9)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَ ما يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذا تُتْلى‏ عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى‏ قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (14)
كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17)

القراءة
قرأ أهل الكوفة غير عاصم إلا يحيى ران بكسر الراء و الباقون بفتحها.
اللغة
التطفيف نقص المكيال و الميزان و الطفيف الشي‏ء النزر القليل مأخوذ من طف الشي‏ء و هو جانبه و
في الحديث كلكم بنو آدم طف الصاع لم تملؤوه فليس لأحد فضل إلا بالتقوى‏
و طف الصاع قريب من ملئه أي بعضكم قريب من بعض و إناء طفان إذا لم يكن ملآن و الاكتيال الأخذ بالكيل و نظيره الاتزان و هو الأخذ بالوزن و «إِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ» كان عيسى بن عمر يجعل" هم" فصلا في موضع رفع أو تأكيدا للضمير في كالوا أو وزنوا و الباقون يجعلونها ضمير المنصوب و هو الصحيح و أهل الحجاز يقولون وزنتك حقك و كلتك طعامك و عليه جاء التنزيل و غيرهم يقول وزنت لك و كلت لك و يقال أخسرت الميزان و خسرته أي نقصت في الوزن و السجين فعيل من السجن قال ابن مقبل‏
         " ضربا تواصي به الأبطال سجينا"
أي شديدا و قيل السجين هو السجن على التخليد فيه لأن هذا الوزن للمبالغة قالوا شريب و سكير و شرير و الرقم طبع الخط بما فيه علامة الأمر يقال رقمت الثوب أرقمه رقما و الرين أصله الغلبة ران على قلبه أي غلب عليه و الخمر ترين على قلب السكران و الموت يرين على الميت فيذب به و في حديث عمر بن الخطاب أنه قال في أسيفع جهينة لما ركبه الدين أدان معرضا فأصبح قد رين به أي أحاط الدين بماله حتى غلبه.

686
مجمع البيان في تفسير القرآن10

الإعراب ص 687

الإعراب‏
 «يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ» منصوب بقوله «مَبْعُوثُونَ» أي ألا يظنون أنهم مبعوثون يوم القيامة و قيل في أصل كلا قولان (أحدهما) أنها كلمة واحدة من غير تركيب وضعت للردع و الزجر و جرت مجرى الأصوات نحو صه و مه و نحوهما (و الثاني) أن يكون الكاف للتشبيه دخلت على لا و شددت للمبالغة في الزجر مع الإيذان بتركيب اللفظ.
النزول‏
قيل لما قدم رسول الله ص المدينة كانوا من أخبث الناس كيلا فأنزل الله عز و جل «وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ» فأحسنوا الكيل بعد ذلك عن عكرمة عن ابن عباس و قيل إنه ص قدم المدينة و بها رجل يقال له أبو جهينة و معه صاعان يكيل بأحدهما و يكتال بالآخر فنزلت الآيات عن السدي.
المعنى‏
 «وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ» و هم الذين ينقصون المكيال و الميزان و يبخسون الناس حقوقهم في الكيل و الوزن قال الزجاج و إنما قيل له مطفف لأنه لا يكاد يسرق في المكيال و الميزان إلا الشي‏ء اليسير الطفيف ثم فسر المطففين فقال «الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ» أي إذا كالوا ما على الناس ليأخذوه لأنفسهم «يَسْتَوْفُونَ» عليهم الكيل و لم يذكر اتزنوا لأن الكيل و الوزن بهما الشراء و البيع فأحدهما يدل على الآخر «وَ إِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ» أي كالوا لهم أو وزنوا لهم «يُخْسِرُونَ» أي ينقصون و المعنى أنهم إذا كالوا أو وزنوا لغيرهم نقصوا تقول كلتك و كلت لك كما تقول نصحتك و نصحت لك و يروى عن ابن مسعود أنه قال الصلاة مكيال فمن وفى وفى الله له و من طفف قد سمعتم ما قال الله في المطففين ثم عجب الله خلقه من غفلة هؤلاء حيث فارقوا أمر الله و طريقة العدل فقال «أَ لا يَظُنُّ» أي أ لا يعلم «أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ» و هو يوم القيامة يريد أ لا يستيقن من فعل هذا أنه مبعوث محاسب عن ابن عباس ثم أخبر عن ذلك اليوم فقال «يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ» و المعنى يوم يقوم الناس من قبورهم لأمر رب العالمين و لجزائه أو حسابه و
جاء في الحديث أنهم يقومون في رشحهم إلى إنصاف آذانهم‏
و
في حديث آخر يقومون حتى يبلغ الرشح إلى أطراف آذانهم‏
و يحتمل أن يكون المراد أيضا أ لا يحسب أولئك لأن من ظن الجزاء و البعث و قوي ذلك في نفسه و إن لم يكن عالما به فإنه يجب عليه أن يتحرز خوفا من العقاب الذي يجوزه و يظنه كما أن من ظن العطب في سلوك طريق فواجب عليه أن يتجنب سلوكه و
في الحديث عن سليم بن عامر عن المقداد بن الأسود قال سمعت رسول الله ص يقول إذا كان يوم القيامة أدنيت الشمس من العباد حتى تكون الشمس بقدر ميل أو ميلين قال سليم فلا أدري أ مسافة الأرض أم الميل الذي تكحل به العين ثم قال صهرتهم الشمس فيكونون في‏

687
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 687

العرق بقدر أعمالهم فمنهم من يأخذه إلى عقبه و منهم من يلجمه إلجاما قال فرأيت رسول الله ص يشير بيده إلى فيه قال يلجمه إلجاما أورده مسلم في الصحيح‏
و روي أن ابن عمر قرأ «وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ» حتى بلغ «يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ» فبكى حتى خر و امتنع من القراءة «كَلَّا» هو ردع و زجر أي ارتدعوا و انزجروا عن المعاصي فليس الأمر على ما أنتم عليه تم الكلام هاهنا و عند أبي حاتم و سهل كلا ابتداء يتصل بما بعده على معنى حقا «إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ» يعني كتابهم الذي فيه ثبت أعمالهم من الفجور و المعاصي عن الحسن و قيل معناه أنه كتب في كتابهم أنهم يكونون في سجين و هي في الأرض السابعة السفلى عن ابن عباس و مجاهد و قتادة و الضحاك و
عن البراء بن عازب قال قال رسول الله ص سجين أسفل سبع أرضين‏
و قال شمر بن عطية جاء ابن عباس إلى كعب الأحبار فقال أخبرني عن قول الله تعالى «إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ» قال إن روح الفاجر يصعد بها إلى السماء فتأبى السماء أن تقبلها ثم يهبط بها إلى الأرض فتأبى الأرض أن تقبلها فتدخل سبع أرضين حتى ينتهي بها إلى سجين و هو موضع جند إبليس و المعنى في الآية أن كتاب عملهم يوضع هناك و قيل‏
إن سجين جب في جهنم مفتوح و الفلق جب في جهنم مغطى رواه أبو هريرة عن النبي ص‏
و قيل السجين اسم لكتابهم و هو ظاهر التلاوة أي ما كتبه الله على الكفار بمعنى أوجبه عليهم من الجزاء في هذا الكتاب المسمى سجينا و يكون لفظه من السجن الذي هو الشدة عن أبي مسلم و الذي يدل على أن العرب ما كانت تعرفه و هو قوله «وَ ما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ» أي ليس ذلك مما كنت تعلمه أنت و لا قومك عن الزجاج ثم قال مفسرا لذلك «كِتابٌ مَرْقُومٌ» أي كتاب معلوم كتب فيه ما يسوءهم و يسخن أعينهم و قيل مرقوم معناه رقم لهم بشر كأنه أعلم بعلامة يعرف بها الكافر و الوجه الصحيح أن قوله «كِتابٌ مَرْقُومٌ» ليس تفسيرا لسجين لأنه ليس السجين من الكتاب المرقوم في شي‏ء و إنما هو تفسير للكتاب المذكور في قوله «إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ» على تقدير و هو كتاب مرقوم أي مكتوب قد تبينت حروفه «وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ» و هذا تهديد لمن كذب بالجزاء و البعث و لم يصدق و ذكر صاحب النظم أن هذا منتظم بقوله «يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ» و أن قوله «كَلَّا إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ» و ما اتصل به اعتراض بينهما ثم فسر سبحانه المكذبين فقال «الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ» أي يوم الجزاء فإن من كذب بالباطل لا يتوجه إليه الوعيد بل هو ممدوح ثم قال «وَ ما يُكَذِّبُ بِهِ» أي لا يكذب بيوم الجزاء «إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ» أي متجاوز للحق إلى الباطل «أَثِيمٍ» كثير الإثم مبالغ في ارتكابه ثم وصف المعتدي الأثيم بقوله «إِذا تُتْلى‏ عَلَيْهِ آياتُنا» و هي القرآن «قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ» أي أباطيل الأولين و التقدير قال هذا أساطير الأولين أي ما سطره الأولون و كتبوه مما لا أصل له «كَلَّا» لا

688
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 687

يؤمنون و قيل ليس الأمر على ما قالوه ثم استأنف فقال «بَلْ رانَ عَلى‏ قُلُوبِهِمْ» أي غلب عليها «ما كانُوا يَكْسِبُونَ» و المعنى غلب ذنوبهم على قلوبهم و قيل إن معنى الرين هو الذنب على الذنب حتى يموت القلب عن الحسن و قتادة و قال الفراء كثرت المعاصي منهم و الذنوب و أحاطت بقلوبهم فذلك الرين عليها و عن عبد الله بن مسعود قال إن الرجل ليذنب الذنب فتنكت على قلبه نكتة سوداء ثم يذنب الذنب فتنكت نكتة أخرى حتى يصير قلبه على لون الشاة السوداء و
روى العياشي بإسناده عن زرارة عن أبي جعفر (ع) قال ما من عبد مؤمن إلا و في قلبه نكتة بيضاء فإذا أذنب ذنبا خرج في تلك النكتة نكتة سوداء فإذا تاب ذهب ذلك السواد و إن تمادى في الذنوب زاد ذلك السواد حتى يغطي البياض فإذا غطى البياض لم يرجع صاحبه إلى خير أبدا و هو قول الله تعالى «كَلَّا بَلْ رانَ عَلى‏ قُلُوبِهِمْ» الآية
و
قال أبو عبد الله (ع) يصدأ القلب فإذا ذكرته بآلاء الله انجلى عنه‏
و قال أبو مسلم أن اعتيادهم الكفر و ألفتهم له و غفلتهم صار غطاء على قلوبهم فلا يعقلون ما ينفعهم لأن ترك النظر في العواقب و كثرة المعاصي و الانهماك في الفسق يقوي الدواعي في الإعراض عن التوبة و الإيلاع بالذنوب فصار ذلك كالغالب على القلوب الرائن عليها و قال أبو القاسم البلخي و في الآية دلالة على صحة ما يقوله أهل العدل في تفسير الطبع على القلوب و الختم عليها و الإضلال لأنه تعالى أخبر أن أعمالهم السيئة و ما كانوا يكسبونه من القبيح ران على قلوبهم «كَلَّا» يريد لا يصدقون عن ابن عباس ثم استأنف «إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ» يعني أن هؤلاء الذين وصفهم بالكفر و الفجور محجوبون يوم القيامة عن رحمة ربهم و إحسانه و كرامته عن الحسن و قتادة و قيل ممنوعون من رحمته مدفوعون عن ثوابه غير مقبولين و لا مرضيين عن أبي مسلم و قيل‏
محرومون عن ثوابه و كرامته عن علي (ع)
 «ثُمَّ إِنَّهُمْ» بعد أن منعوا من الثواب و الكرامة «لَصالُوا الْجَحِيمِ» أي لازموا الجحيم بكونهم فيها لا يغيبون عنها و قال أبو مسلم لصائرون صلاها أي وقودها «ثُمَّ يُقالُ» لهم توبيخا و تبكيتا «هذَا الَّذِي» فعل بكم من العذاب و العقاب «الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ» في دار التكليف و يسمى مثل هذا الخطاب تقريعا لأنه خبر بما يقرع بشدة الغم على وجه الذم.

689
مجمع البيان في تفسير القرآن10

سورة المطففين الآيات 18 الى 36 ص 690

[سورة المطففين (83): الآيات 18 الى 36]
كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَ ما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ (19) كِتابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (22)
عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتامُهُ مِسْكٌ وَ فِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ (26) وَ مِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27)
عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28) إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَ إِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ (30) وَ إِذَا انْقَلَبُوا إِلى‏ أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَ إِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ (32)

وَ ما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (36)
القراءة
قرأ أبو جعفر و يعقوب تعرف بضم التاء و فتح الراء نضرة بالرفع و الباقون «تَعْرِفُ» بفتح التاء و كسر الراء «نَضْرَةَ» بالنصب و قرأ الكسائي وحده‏
خاتمه و هي قراءة علي (ع)
و علقمة و الباقون «خِتامُهُ» و قرأ أبو جعفر و حفص «فَكِهِينَ» بغير ألف و الباقون فاكهين و قرأ حمزة و الكسائي هثوب الكفار بإدغام اللام في الثاء و قد روي نحوه عن أبي عمرو و الباقون بالإظهار.
الحجة
 «تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ» على الخطاب و المعنى في القراءتين سواء و قال أبو عبيدة ختامه أي عاقبته قال ابن مقبل:
         مما يفتق في الحانوت باطنها             بالفلفل الجون و الرمان مختوم‏
قال أبو علي «خِتامُهُ مِسْكٌ» و المراد به لذاذة المقطع و ذكاء الرائحة و أرجها مع طيب‏

690
مجمع البيان في تفسير القرآن10

الحجة ص 690

الطعم و هذا كقوله كانَ مِزاجُها كافُوراً و كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلًا أي يحذي اللسان و أما قول الكسائي خاتمه فإن معناه آخره كما كان خاتم النبيين معناه آخرهم فالختام المصدر و الخاتم اسم الفاعل كالطابع و التابل و العرب تقول خاتم بالفتح و خاتم و خاتام و خيتام قال سيبويه أدغم أبو عمرو هثوب الكفار و إدغامها فيها حسن و إن كان دون إدغام اللام في الراء في الحسن لتقاربهما و جاز إدغامها فيها لأنه قد أدغم في الشين فيما قد أنشده من قوله‏
هشي بكفيك لائق‏
يريد هل شي‏ء.
اللغة
عليون علو على علو مضاعف و لهذا جمع بالواو و النون تفخيما لشأنه و تشبيها بما يعقل في عظم الشأن و هي مراتب عالية محفوفة بالجلالة قال الشاعر:
         فأصبحت المذاهب قد أذاعت             به الأعصار بعد الوابلينا
يريد قطرا بعد قطر غير محدود العدد و كذلك تفخيم شأن العدد الذي ليس على الواحد نحو ثلاثون و أربعون إلى التسعين و جرت العشرون عليه و قال الزجاج عليون اسم لأعلى الأمكنة و إعرابه كأعراب الجمع لأنه على لفظ الجمع كما تقول هذا قنسرون و رأيت قنسرين و الأرائك الأسرة في الحجال و الرحيق الشراب الذي لا غش فيه قال حسان:
         يسقون من ورد البريص عليهم             بردي تصفق بالرحيق السلسل‏
قال الخليل هي أفضل الخمر و أجودها و التنافس تمني كل واحد من النفسين مثل الشي‏ء النفيس الذي للنفس الأخرى أن يكون له تنافسوا في الشي‏ء تنافسا و نافسه فيه منافسة و نفس عليه بالشي‏ء ينفس نفاسة إذا ضن به لجلالة قدره عنده و ذلك الشي‏ء الذي ينفس به نفيس و المزج خلط مائع بمائع على خلاف صفته كمزج الشراب بالماء و التسنيم عين ماء يجري من علو إلى أسفل يتسنم عليهم من الغرف و اشتقاقه من السنام و سنمت العين تسنيما إذا أجريتها عليهم من فوقهم و التغامز إشارة بعضهم إلى بعض بالأعين استهزاء و طلبا للعيب يقال غمز بجفنه إذا أشار و الفاكهون اللاهون و الفكهون المرحون الأشرون و الفكاهة المزاح و أصل الثواب من الرجوع كأنه يرجع على العامل بعمله و ثاب عليه عقله إذا رجع.
الإعراب‏
 «عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ» يجوز أن تكون منصوبة مفعولة لتسنيم أي مزاجه من ماء متسنم عينا كقوله تعالى «أَوْ إِطْعامٌ يَتِيماً» و يجوز أن تكون منصوبة على تقدير

691
مجمع البيان في تفسير القرآن10

الإعراب ص 691

و يسقون من عين و يجوز أن تكون منصوبة على الحال و يكون تسنيم معرفة و عينا نكرة.
المعنى‏
لما تقدم ذكر حال الفجار عقبه سبحانه بذكر حال الأبرار فقال «كَلَّا» أي لا يؤمنون بالعذاب الذي يصلونه فعلى هذا يتصل بما قبله و قيل معناه حقا و يتصل بما بعده «إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ» أي المطيعين لله «لَفِي عِلِّيِّينَ» أي مراتب عالية محفوفة بالجلالة و قيل في السماء السابعة و فيها أرواح المؤمنين عن قتادة و مجاهد و الضحاك و كعب و قيل في سدرة المنتهى و هي التي ينتهي إليها كل شي‏ء من أمر الله تعالى عن الضحاك في رواية أخرى و قيل العليون الجنة عن ابن عباس قال الفراء في ارتفاع بعد ارتفاع لا غاية له و قيل هو لوح من زبرجدة خضراء معلق تحت العرش أعمالهم مكتوبة فيها عن ابن عباس في رواية أخرى و
عن البراء بن عازب عن النبي ص قال في عليين في السماء السابعة تحت العرش‏
 «وَ ما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ» و هذا تعظيم لشأن هذه المنزلة و تفخيم لأمرها و تنبيه على أن تفصيل تفضيله لا يمكن العلم به إلا بالمشاهدة ثم قال «كِتابٌ مَرْقُومٌ» أي هو كتاب مكتوب فيه جميع طاعاتهم و ما تقر به أعينهم و يوجب سرورهم بضد الكتاب الذي للفجار لأن فيه ما يسوؤهم و ينوؤهم و يسخن عيونهم قال مقاتل مرقوم مكتوب لهم بالخيرات في ساق العرش و يدل عليه قوله «يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ» يعني الملائكة الذين هم في عليين يشهدون و يحضرون ذلك المكتوب أو ذلك الكتاب إذا صعد به إلى عليين و المقربون هم الذين قربوا إلى كرامة الله في أجل المراتب و قال عبد الله بن عمر أن أهل عليين لينظرون إلى أهل الجنة من كذا فإذا أشرف رجل منهم أشرقت الجنة و قالوا قد اطلع علينا رجل من أهل عليين «إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ» أي يحصلون في ملاذ و أنواع من النعمة في الجنة «عَلَى الْأَرائِكِ» قال الحسن ما كنا نعرف ما الأرائك حتى قدم إلينا رجل من أهل اليمن فزعم أن الأريكة عندهم الحجلة إذا كان فيها سرير «يَنْظُرُونَ» إلى ما أعطوا من النعيم و الكرامة و قيل ينظرون إلى عدوهم حين يعذبون عن مقاتل «تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ» أي إذا رأيتهم عرفت أنهم من أهل النعمة بما ترى في وجوههم من النور و الحسن و البياض و البهجة قال عطاء و ذلك أن الله تعالى قد زاد في جمالهم و ألوانهم ما لا يصفه واصف «يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ» أي خمر صافية خالصة من كل غش «مَخْتُومٍ» و هو الذي له ختام أي عاقبة و قيل مختوم في الآنية بالمسك و هو غير الخمر التي تجري في الأنهار و قيل مختوم أي ممنوع من أن تمسه يد حتى يفك ختمه للأبرار ثم فسر المختوم بقوله «خِتامُهُ مِسْكٌ» أي آخر طعمه ريح المسك إذا رفع الشارب فاه عن آخر شرابه وجد ريحه كريح المسك عن ابن عباس و الحسن و قتادة.
و قيل ختم‏

692
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 692

إناؤه بالمسك بدلا من الطين الذي يختم به الشراب في الدنيا عن مجاهد و ابن زيد قال مجاهد طينه مسك و عن أبي الدرداء قال هو شراب أبيض مثل الفضة يختمون به شرابهم و لو أن رجلا من أهل الدنيا أدخل إصبعه فيه ثم أخرجه لم يبق ذو روح إلا و نال طيبها ثم رغب فيها فقال «وَ فِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ» أي فليرغب الراغبون بالمبادرة إلى طاعة الله تعالى و مثله قوله سبحانه لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ و قيل فليتنازع المتنازعون عن مقاتل و قيل ليتشاح المتشاحون عن زيد بن أسلم و
في الحديث من صام لله في يوم صائف سقاه الله على الظمأ من الرحيق المختوم‏
و
في وصية النبي ص لأمير المؤمنين (ع) و من ترك الخمر لله سقاه الله من الرحيق المختوم‏
 «وَ مِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ» أي و مزاج ذلك الشراب الذي وصفناه و هو ما يمزج به من تسنيم و هو عين في الجنة و هو أشرف شراب في الجنة قال مسروق يشربها المقربون صرفا و يمزج بها كأس أصحاب اليمين فيطيب و روى ميمون بن مهران أن ابن عباس سئل عن تسنيم فقال هذا مما يقول الله عز و جل فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ و نحو هذا قول الحسن خفايا أخفاها الله لأهل الجنة و قيل هو شراب ينصب عليهم من علو انصبابا عن مقاتل و قيل هو نهر يجري في الهواء فينصب في أواني أهل الجنة بحسب الحاجة عن قتادة ثم فسره سبحانه فقال «عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ» أي هي خالصة للمقربين يشربونها صرفا و يمزج لسائر أهل الجنة عن ابن مسعود و ابن عباس «إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا» يعني كفار قريش و مترفيهم كأبي جهل و الوليد بن المغيرة و العاص بن وائل و أصحابهم «كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا» يعني أصحاب النبي ص مثل عمار و خباب و بلال و غيرهم «يَضْحَكُونَ» على وجه السخرية بهم و الاستهزاء في دار الدنيا و يحتمل أن يكون ضحكوا من جدهم في عبادتهم و كثرة صلاتهم و صيامهم لإنكارهم الجزاء و البعث و يجوز أن يكون كان ضحكهم إنكارا و تعجبا من قولهم بالإعادة و إحياء العظام الرميمة و يحتمل أن يكون ذلك لغلوهم في كفرهم و جهلهم و لإيهام العوام أنهم على حق و إن المسلمين على باطل فكانوا يضحكون «وَ إِذا مَرُّوا بِهِمْ» يعني و إذا مر المؤمنون بهؤلاء المشركين «يَتَغامَزُونَ» بأن يشير بعضهم إلى بعض بالأعين و الحواجب استهزاء بهم أي يقول هؤلاء إنهم على حق و إن محمدا ص أنزل عليه الوحي و أنه رسول و إنا نبعث و نحو ذلك و قيل نزلت في علي بن أبي طالب (ع) و ذلك أنه كان في نفر من المسلمين جاءوا إلى النبي ص فسخر منهم المنافقون و ضحكوا و تغامزوا ثم رجعوا إلى أصحابهم فقالوا رأينا اليوم الأصلع فضحكنا منه فنزلت الآية قبل أن يصل علي (ع) و أصحابه إلى النبي ص عن مقاتل و الكلبي و ذكر الحاكم أبو القاسم الحسكاني في كتاب شواهد التنزيل لقواعد التفضيل بإسناده عن أبي صالح‏

693
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 692

عن ابن عباس قال «إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا» منافقوا قريش و «الَّذِينَ آمَنُوا» علي بن أبي طالب (ع) و أصحابه «وَ إِذَا انْقَلَبُوا إِلى‏ أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ» يعني و إذا رجع هؤلاء الكفار إلى أهلهم رجعوا معجبين بما هم فيه يتفكهون بذكرهم «وَ إِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ» عن طريق الحق و الصواب تركوا التنعم رجاء ثواب لا حقيقة لهم خدعهم به محمد ص ثم قال سبحانه «وَ ما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ» أي و لم يرسل هؤلاء الكفار حافظين على المؤمنين ما هم عليه و ما كلفوا حفظ أعمالهم فكيف يطغون عليهم و لو اشتغلوا بما كلفوه كان ذلك أولى بهم و قيل معناه و ما أرسلوا عليهم شاهدين لأن شهادة الكفار لا تقبل على المؤمنين أي ليسوا شهداء عليهم بل المؤمنون شهداء على الكفار يشهدون عليهم يوم القيامة عن أبي مسلم «فَالْيَوْمَ» يعني يوم القيامة الذي يجازي الله كل أحد على عمله «الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ» كما ضحك الكفار منهم في الدنيا و ذلك أنه يفتح للكفار باب إلى الجنة و يقال لهم أخرجوا إليها فإذا وصلوا إليها أغلق دونهم يفعل ذلك بهم مرارا فيضحك منهم المؤمنون عن أبي صالح و قيل يضحكون من الكفار إذا رأوهم في العذاب و أنفسهم في النعيم و قيل أن الوجه في ضحك أهل الجنة من أهل النار أنهم لما كانوا أعداء الله و أعداء لهم جعل الله سبحانه لهم سرورا في تعذيبهم و لو كان العفو قد وقع عليهم لم يجز أن يجعل السرور في ذلك لأنه مضمن بالعداوة و قد زالت بالعفو «عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ» يعني المؤمنين ينظرون إلى عذاب أعدائهم الكفار على سرر في الحجال ثم قال سبحانه «هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ» أي هل جوزي الكفار إذا فعل بهم هذا الذي ذكره على ما كانوا يفعلونه من السخرية بالمؤمنين في الدنيا و هو استفهام يراد به التقرير و ثوب بمعنى أثيب و قيل معناه يتصل بما قبله و يكون التقدير إن الذين آمنوا ينظرون هل جوزي الكفار بأعمالهم و يكون الجملة متعلقة بينظرون و على القول الأول يكون استئناف كلام لا موضع له من الإعراب و إنما قال «هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ» فاستعمل لفظ الثواب في العقوبة لأن الثواب في أصل اللغة الجزاء الذي يرجع إلى العامل بعمله و إن كان في العرف اختص الجزاء بالنعيم على الأعمال الصالحة فاستعمل هنا على أصله و قيل لأنه جاء في مقابلة ما فعل بالمؤمنين أي هل ثوب الكفار كما ثوب المؤمنون و هذا القول يكون من قبل الله تعالى أو تقوله الملائكة للمؤمنين تنبيها لهم على أن الكفار جوزوا على كفرهم و استهزائهم بالمؤمنين ما استحقوه من أليم العذاب ليزدادوا بذلك سرورا إلى سرورهم و يحتمل أن يكون ذلك يقوله المؤمنون بعضهم لبعض سرورا بما ينزل بالكفار و كل هذه الوجوه إنما تتجه على القول الأول إذا كانت الجملة كلاما مستأنفا لا تعلق له بما قبله.

694
مجمع البيان في تفسير القرآن10

سورة انشقت مكية و آياتها خمس و عشرون ص 695

(84) سورة انشقت مكية و آياتها خمس و عشرون (25)
[توضيح‏]
و تسمى سورة الانشقاق مكية.
عدد آيها
ثلاث و عشرون آية بصري شامي و خمس في الباقين.
اختلافها
آيتان «كِتابَهُ بِيَمِينِهِ» «وَراءَ ظَهْرِهِ» كلاهما حجازي كوفي.
فضلها
أبي بن كعب عن النبي ص قال و من قرأ سورة انشقت أعاذه الله أن يعطيه كتابه وراء ظهره.
تفسيرها
ختم الله سبحانه تلك السورة بذكر أحوال القيامة و افتتح هذه السورة بمثل ذلك فاتصلت بها اتصال النظير بالنظير فقال:

695
مجمع البيان في تفسير القرآن10

سورة الانشقاق الآيات 1 الى 25 ص 696

[سورة الانشقاق (84): الآيات 1 الى 25]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏
إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (1) وَ أَذِنَتْ لِرَبِّها وَ حُقَّتْ (2) وَ إِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَ أَلْقَتْ ما فِيها وَ تَخَلَّتْ (4)
وَ أَذِنَتْ لِرَبِّها وَ حُقَّتْ (5) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى‏ رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (8) وَ يَنْقَلِبُ إِلى‏ أَهْلِهِ مَسْرُوراً (9)
وَ أَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً (11) وَ يَصْلى‏ سَعِيراً (12) إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14)
بَلى‏ إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً (15) فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَ اللَّيْلِ وَ ما وَسَقَ (17) وَ الْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (19)
فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20) وَ إِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (24)
إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)

القراءة
قرأ أبو جعفر و أهل العراق غير الكسائي «يَصْلى‏» بالتخفيف بفتح الياء و الباقون يصلى بضم الياء و التشديد و قرأ ابن كثير و أهل الكوفة غير عاصم لتركبن بفتح الباء و الباقون بضم الباء.
الحجة
قال أبو علي حجة يصلى مشددة اللام ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ و حجة «يَصْلى‏» وَ سَيَصْلَوْنَ سَعِيراً اصْلَوْهَا الْيَوْمَ و هذا كثير في التنزيل و حجة «لَتَرْكَبُنَّ» قول ابن عباس لتركبن السماء حالا بعد حال مرة كالمهل و مرة كالدهان و ابن مسعود لتركبن يا محمد طبقا عن طبق و مجاهد لتركبن أمرا بعد أمر و الحسن أي حالا عن حال و منزلا عن منزل أبو عبيدة لتركبن سنة من كان قبلكم أبو علي من فتح الباء أراد النبي ص و من ضم الباء أراد النبي ص و غيره و الضم يأتي على معنى المفتوحة و فسروا طبقا عن طبق حالا بعد حال و مثل ما فسروا من أن معنى عن معنى بعد قول الأعشى:
         ساد و ألفى رهطه سادة             و كابرا سادوك عن كابر

696
مجمع البيان في تفسير القرآن10

الحجة ص 696

المعنى كابرا بعد كابر فعن متعلق بسادوك و لا يكون متعلقا بكابر و قد بينوا ذلك في قول النابغة:
         بقية قدر من قدور تورثت             لآل الجلاح كابرا بعد كابر
و قالوا عرق عن الحمى أي بعدها.
اللغة
الانشقاق افتراق امتداد عن التئام فكل انشقاق افتراق و ليس كل افتراق انشقاقا و الأذن الاستماع تقول العرب أذن لك هذا الأمر أذنا بمعنى استمع لك قال عدي بن زيد:
        في سماع يأذن الشيخ له             و حديث مثل ماذي مشار
و قال أيضا:
         أيها القلب تعلل بددن             إن همي في سماع و أذن‏
و قال آخر
         " و إن ذكرت بشر عندهم أذنوا"
و الكدح السعي الشديد في الأمر و الدأب في العمل و يقال كدح الإنسان في عمله يكدح و ثور فيه كدوح أي آثار من شدة السعي قال ابن مقبل:
         و ما الدهر إلا تارتان فمنهما             أموت و أخرى أبتغي العيش أكدح‏
و الحور الرجوع حار يحور إذا رجع و كلمته فما حار جوابا أي ما رد جوابا و نعوذ بالله من الحور بعد الكور أي من الرجوع إلى النقصان بعد الزيادة و التمام و حوره إذا رده إلى البياض و المحور البكرة تدور حتى ترجع إلى مكانها و
الشفق هو الحمرة بين المغرب و العشاء الآخرة و هو قول مالك و الشافعي و الأوزاعي و أبي يوسف و محمد و هو قول الخليل و هو المروي عن أئمة الهدى (ع)
و قال ثعلب هو البياض و هو قول أبي حنيفة قال الفراء سمعت بعض العرب تقول الثوب أحمر كأنه الشفق و قال الشاعر
         " أحمر اللون كمحمر الشفق".
و قال آخر:
         قم يا غلام أعني غير محتشم             على الزمان بكأس حشوها شفق‏

697
مجمع البيان في تفسير القرآن10

اللغة ص 697

و أصل الشفق الرقة و مثله التشفيق و هو الرقة على خلل فيه و أشفق على كذا إذا رق عليه و خاف هلاكه و ثوب شفق رقيق فالشفق هو الحمرة الرقيقة في المغرب بعد مغيب الشمس و الوسق الجمع وسقته أسقه إذا جمعته و طعام موسوق أي مجموع و الوسق الطعام المجتمع الكثير مما يكال أو يوزن و مقداره ستون صاعا و الاتساق الاجتماع على تمام افتعال من الوسق و أصل الطبق الحال و العرب تسمي الدواهي أم طبق و بنات طبق قال‏
         " قد طرقت ببكرها أم طبق"
و قال في أن الطبق الحال:
         الصبر أحمد و الدنيا مفجعة             من ذا الذي لم يذق من عيشه رنقا
         إذا صفا لك من مسرورها طبق             أهدى لك الدهر من مكروهها طبقا
و قال آخر:
         إني امرؤ قد حلبت الدهر أشطره             و ساقني طبق منه إلى طبق‏
         فلست أصبو إلى خل يفارقني             و لا تقبض أحشائي من الفرق‏
الإعراب‏
قال الزجاج جواب إذا يدل عليه قوله «فَمُلاقِيهِ» و المعنى إذا كان يوم القيامة لقي الإنسان عمله و الهاء في قوله «فَمُلاقِيهِ» يجوز أن يكون تقديره فملاق ربك و يجوز أن يكون فملاق كدحك أي عملك و سعيك و قوله «كادِحٌ إِلى‏ رَبِّكَ كَدْحاً» قيل إن إلى هنا بمعنى اللام و الوجه الصحيح فيه أن يكون محمولا على المعنى لأن معناه ساع إلى ربك سعيا على أنه يحتمل أن يكون إلى متعلقة بمحذوف و يكون التقدير إنك كادح لنفسك صائر إلى ربك كما أن قوله «وَ تَبَتَّلْ إِلَيْهِ» يكون على معنى تبتل من الخلق راجعا إلى الله تعالى أو راغبا إليه و قوله «يَدْعُوا ثُبُوراً» معناه أنه يقول يا ثبوراه فكأنه يدعوه و يقول يا ثبور تعال فهذا أوانك مثل ما قيل في يا حسرتي فعلى هذا يكون ثبورا مفعولا به «أَنْ لَنْ يَحُورَ» تقديره أنه لن يحور فهي مخففة من الثقيلة و لا يجوز أن تكون أن الناصبة للفعل لأنه لا يجوز أن يجتمع عاملان على كلمة واحدة و قوله «فَما لَهُمْ» مبتدأ و خبر و «لا يُؤْمِنُونَ» جملة منصوبة الموضع على الحال و التقدير أي شي‏ء استقر لهم غير مؤمنين.

698
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 699

المعنى‏
 «إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ» أي تصدعت و انفرجت و انشقاقها من علامات القيامة و ذكر ذلك في مواضع من القرآن «وَ أَذِنَتْ لِرَبِّها» أي سمعت و أطاعت في الانشقاق عن ابن عباس و سعيد بن جبير و مجاهد و قتادة و هذا توسع أي كأنها سمعت و انقادت لتدبير الله «وَ حُقَّتْ» أي و حق لها أن تأذن بالانقياد لأمر ربها الذي خلقها و تطيع له «وَ إِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ» أي بسطت باندكاك جبالها و آكامها حتى تصير كالصحيفة الملساء و قيل إنها تمد مد الأديم العكاظي و تزاد في سعتها عن ابن عباس و قيل سويت فلا بناء و لا جبل إلا دخل فيها عن مقاتل «وَ أَلْقَتْ ما فِيها» من الموتى و الكنوز مثل وَ أَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها عن قتادة و مجاهد «وَ تَخَلَّتْ» أي خلت فلم يبق في بطنها شي‏ء و قيل معناه ألقت ما في بطنها من كنوزها و معادنها و تخلت مما على ظهرها من جبالها و بحارها «وَ أَذِنَتْ لِرَبِّها وَ حُقَّتْ» ليس هذا بتكرار لأن الأول في صفة السماء و الثاني في صفة الأرض و هذا كله من أشراط الساعة و جلائل الأمور التي تكون فيها و التقدير إذا كانت هذه الأشياء التي ذكرناها و عددناها رأي الإنسان ما قدم من خير أو شر و يدل على هذا المحذوف قوله «يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى‏ رَبِّكَ كَدْحاً» أي ساع إليه في عملك و قوله «يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ» خطاب لجميع المكلفين من ولد آدم يقول الله لهم سبحانه و لكل واحد منهم يا أيها الإنسان إنك عامل عملا في مشقة لتحمله إلى الله و توصله إليه «فَمُلاقِيهِ» أي ملاق جزاءه جعل لقاء جزاء العمل لقاء له تفخيما لشأنه و قيل معناه ملاق ربك أي صائر إلى حكمه حيث لا حكم إلا حكمه و قال ابن الأنباري و البلخي جواب إذا قوله «أَذِنَتْ لِرَبِّها وَ حُقَّتْ» و الواو زائدة كقوله «حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها» و هذا ضعيف و الأول هو الوجه ثم قسم سبحانه أحوال لخلق يوم القيامة فقال «فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ» أي من أعطي كتابه الذي ثبت فيه أعماله من طاعة أو معصية بيده اليمني «فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً» يريد أنه لا يناقش في الحساب و لا يواقف على ما عمل من الحسنات و ما له عليها من الثواب و ما حط عنه من الأوزار إما بالتوبة أو بالعفو و
قيل الحساب اليسير التجاوز عن السيئات و الإثابة على الحسنات و من نوقش الحساب عذب في خبر مرفوع‏
و
في رواية أخرى يعرف عمله ثم يتجاوز عنه‏
و
في حديث آخر ثلاث من كن فيه حاسبه الله حسابا يسيرا و أدخله الجنة برحمته قالوا و ما هي يا رسول الله قال تعطي من حرمك و تصل من قطعك و تعفو عمن ظلمك‏
 «وَ يَنْقَلِبُ» بعد الفراغ من الحساب «إِلى‏ أَهْلِهِ مَسْرُوراً» بما أوتي من الخير و الكرامة و المراد بالأهل هنا ما أعد الله له من الحور العين و قيل أهله أزواجه و أولاده و عشائره و قد سبقوه إلى الجنة و السرور هو الاعتقاد و العلم بوصول نفع إليه أو دفع ضرر عنه في المستقبل و قال قوم هو معنى في القلب يلتذ

699
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 699

لأجله بنيل المشتهى يقال سر بكذا من مال أو ولد أو بلوغ أمل فهو مسرور «وَ أَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ» لأن يمينه مغلولة إلى عنقه و تكون يده اليسرى خلف ظهره عن الكلبي و قيل تخلع يده اليسرى خلف ظهره عن مقاتل و الوجه في ذلك أن تكون إعطاء الكتاب باليمين أمارة للملائكة و المؤمنين لكون صاحبه من أهل الجنة و لطفا للخلق في الأخبارية و كناية عن قبول أعماله و إعطاؤه على الوجه الآخر أمارة لهم على أن صاحبه من أهل النار و علامة المناقشة في الحساب و سوء المآب ثم حكى سبحانه ما يحل به فقال «فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً» أي هلاكا إذا قرأ كتابه و هو أن يقول وا ثبوراه وا هلاكاه «وَ يَصْلى‏ سَعِيراً» أي يدخل النار و يعذب بها عن الجبائي و قيل يصير صلاء النار المسعرة و قيل يلزم النار معذبا على وجه التأبيد «إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً» في الدنيا ناعما لا يهمه أمر الآخرة و لا يتحمل مشقة العبادة فأبدله الله بسروره غما باقيا لا ينقطع و كان المؤمن مهتما بأمر الآخرة فأبدله الله بهمه سرورا لا يزول و لا يبيد و قيل كان مسرورا بمعاصي الله تعالى لا يندم عليها عن الجبائي و قيل إن من عصى و سر بمعصية الله فقد ظن أنه لا يرجع إلى البعث و لو كان موقنا بالبعث و الجزاء لكان بعيدا عن السرور بالمعاصي «إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ» أي ظن في دار التكليف أنه لم يرجع إلى حال الحياة في الآخرة للجزاء فارتكب المأثم و انتهك المحارم و قال مقاتل حسب أن لا يرجع إلى الله فقال سبحانه «بَلى‏» ليحورن و ليبعثن و ليس الأمر على ما ظنه «إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً» من يوم خلقه إلى أن يبعثه قال الزجاج كان به بصيرا قبل أن يخلقه عالما بأن مرجعه إليه ثم أقسم سبحانه فقال «فَلا أُقْسِمُ» سبق بيانه في سورة القيامة «بِالشَّفَقِ» أي بالحمرة التي تبقى عند المغرب في الأفق و قيل البياض «وَ اللَّيْلِ وَ ما وَسَقَ» أي و ما جمع و ضم مما كان منتشرا بالنهار في تصرفه و ذلك أن الليل إذا أقبل أوى كل شي‏ء إلى مأواه عن عكرمة و غيره و قيل و ما ساق لأن ظلمة الليل تسوق كل شي‏ء إلى مسكنه عن الضحاك و مقاتل و قيل «وَ ما وَسَقَ» أي طرد من الكواكب فإنها تظهر بالليل و تخفى بالنهار و أضاف ذلك إلى الليل لأن ظهورها فيه مطرد عن أبي مسلم «وَ الْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ» أي إذا استوى و اجتمع و تكامل و تم قال الفراء اتساقه امتلاءه و اجتماعه و استواؤه لثلاث عشرة إلى ست عشرة «لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ» هذا جواب القسم أي لتركبن يا محمد سماء بعد سماء تصعد فيها عن ابن عباس و ابن مسعود و مجاهد و الشعبي و الكلبي و يجوز أن يريد درجة بعد درجة و رتبة بعد رتبة في المقربة من الله و رفعة المنزلة عنده و روى مجاهد عن ابن عباس أنه كان يقرأ لتركبن بفتح الباء «طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ» قال يعني نبيكم حالا بعد حال رواه البخاري في الصحيح و من قرأ بالضم فالخطاب للناس أي لتركبن حالا بعد حال و منزلا بعد منزل و أمرا بعد أمر يعني في الآخرة

700
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 699

و المراد أن الأحوال تتقلب بهم فيصيرون على غير الحال التي كانوا عليها في الدنيا و عن بمعنى بعد كما قال سبحانه «عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ» أي بعد قليل.
و قال الشاعر:
         قربا مربط النعامة مني             لقحت حرب وائل عن حيال‏
أي بعد حيال و
قيل معناه شدة بعد شدة حياة ثم موت ثم بعث ثم جزاء و روي ذلك مرفوعا
و قيل أمرا بعد أمر و رخاء بعد شدة و شدة بعد رخاء و فقرا بعد غنى و غنى بعد فقر و صحة بعد سقم و سقما بعد صحة عن عطا و قيل حالا بعد حال نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظما ثم خلقا آخر ثم جنينا ثم وليدا ثم رضيعا ثم فطيما ثم يافعا ثم ناشئا ثم مترعرعا ثم حزورا ثم مراهقا ثم محتلما ثم بالغا ثم أمرد ثم طارا ثم باقلا ثم مسيطرا ثم مطرخما ثم مختطا ثم صملا ثم ملتحيا ثم مستويا ثم مصعدا ثم مجتمعا و الشاب يجمع ذلك كله ثم ملهوزا ثم كهلا ثم أشمط ثم شيخا ثم أشيب ثم حوقلا ثم صفتانا ثم هما ثم هرما ثم ميتا فيشتمل الإنسان من كونه نطفة إلى أن يموت على سبعة و ثلاثين اسما و قيل معناه لتحدثن أمرا لم تكونوا عليه في كل عشرين سنة عن مكحول و قيل معناه لتركبن منزلة عن منزلة و طبقة عن طبقة و ذلك أن من كان على صلاح دعاه ذلك إلى صلاح فوقه و من كان إلى فساد دعاه إلى فساد فوقه لأن كل شي‏ء يجر إلى شكله و
قيل لتركبن سنن من كان قبلكم من الأولين و أحوالهم عن أبي عبيدة و روي ذلك عن الصادق (ع)
و المعنى أنه يكون فيكم ما كان فيهم و يجري عليكم ما جرى عليهم حذو القذة بالقذة ثم قال سبحانه على وجه التقريع لهم و التبكيت «فَما لَهُمْ» يعني كفار قريش «لا يُؤْمِنُونَ» بمحمد ص و القرآن و المعنى أي شي‏ء لهم إذا لم يؤمنوا و هو استفهام إنكار أي لا شي‏ء لهم من النعيم و الكرامة إذا لم يؤمنوا و قيل معناه فما وجه الارتياب الذي يصرفهم عن الإيمان و هو تعجب منهم في تركهم الإيمان و المراد أي مانع لهم و أي عذر لهم في ترك الإيمان مع وضوح الدلائل «وَ إِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ» عطف على قوله «فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ» أي ما الذي يصرفهم عن الإيمان و عن‏

701
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 699

السجود لله تعالى إذا تلي عليهم القرآن و قيل معنى لا يسجدون لا يصلون لله تعالى عن عطا و الكلبي و
في خبر مرفوع عن أبي هريرة قال قرأ رسول الله ص إذا السماء انشقت فسجد
ثم قال سبحانه «بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ» أي لم يتركوا الإيمان لقصور في البيان أو لانقطاع من البرهان لكنهم قلدوا أسلافهم و رؤساءهم في التكذيب بالرسول و القرآن «وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ» أي يجمعون في صدورهم و يضمرون في قلوبهم من التكذيب و الشرك عن ابن عباس و قتادة و مقاتل و قيل بما يجمعون من الأعمال الصالحة و السيئة عن ابن زيد قال الفراء أصل الإيعاء جعل الشي‏ء في وعاء و القلوب أوعية لما يحصل فيها من علم أو جهل و
في كلام أمير المؤمنين (ع) إن هذه القلوب أوعية فخيرها أوعاها
ثم قال «فَبَشِّرْهُمْ» يا محمد «بِعَذابٍ أَلِيمٍ» أي اجعل ذلك لهم بدل البشارة للمؤمنين بالرحمة ثم استثنى سبحانه المؤمنين من جملة المخاطبين فقال «إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ» أي غير منقوص و لا مقطوع لأن نعيم الآخرة غير منقطع عن ابن عباس و قيل غير منقص و لا مكدر بالمن عن الجبائي و روي ذلك عن الحسن و قيل له من و لا منة و إنما قيل له من و له منة لأنه يقطع عن شكر النعمة و أصل المن القطع يقال مننت الحبل إذا قطعته قال لبيد:
         لمعفر قهد تنازع شلوه             غبس كواسب ما يمن طعامها
و قيل ليس لأحد عليها منة فيما يكسب و في قوله سبحانه «فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ» و «لا يَسْجُدُونَ» دلالة على أن الإيمان و السجود فعلهم لأن الحكيم لا يقول ما لك لا تؤمن و لا تسجد لمن يعلم أنه لا يقدر على الإيمان و السجود و لو وجد ذلك لم يكن من فعله و يدل قوله «لا يَسْجُدُونَ» على أن الكفار مخاطبون بالعبادات.
النظم‏
وجه اتصال قوله «إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً» بما قبله أنه سبحانه لما أخبر عن ظن الكافر أن لن يحور عقبه بالإخبار بأنه يحور و القطع عليه و ذكر أنه بصير به و قيل أن تقديره بلى سيرجع إلى الآخرة و ربه بصير بأحواله فسيجازيه بأعماله.

702
مجمع البيان في تفسير القرآن10

سورة البروج مكية و آياتها ثنتان و عشرون ص 703

(85) سورة البروج مكية و آياتها ثنتان و عشرون (22)
[توضيح‏]
مكية اثنتان و عشرون آية بالإجماع.
فضلها
أبي بن كعب عن النبي ص قال و من قرأها أعطاه الله من الأجر بعدد كل يوم جمعة و كل يوم عرفة يكون في دار الدنيا عشر حسنات‏
يونس بن ظبيان عن أبي عبد الله (ع) قال من قرأ و السماء ذات البروج في فرائضه فإنها سورة النبيين كان محشره و موقفه مع النبيين و المرسلين‏
تفسيرها
ختم الله سبحانه تلك السورة بذكر المؤمنين و افتتح هذه السورة أيضا بذكر المؤمنين من أصحاب الأخدود فقال:

703
مجمع البيان في تفسير القرآن10

سورة البروج الآيات 1 الى 22 ص 704

[سورة البروج (85): الآيات 1 الى 22]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏
وَ السَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ (1) وَ الْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَ شاهِدٍ وَ مَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ (4)
النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ (6) وَ هُمْ عَلى‏ ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَ ما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اللَّهُ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ شَهِيدٌ (9)
إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَ لَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَ يُعِيدُ (13) وَ هُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14)
ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (16) هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَ ثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19)
وَ اللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)

القراءة
قرأ أهل الكوفة غير عاصم و قتيبة المجيد بالجر و الباقون بالرفع و قرأ نافع في لوح محفوظ بالرفع و الباقون بالجر.
الحجة
قال أبو علي من رفع المجيد كان متبعا قوله «ذُو الْعَرْشِ» و من جر فمن النحويين من جعله وصفا لقوله «رَبِّكَ» في «إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ» قال و لا أجعله وصفا للعرش و منهم من قال صفة للعرش قال أبو زيد يقال مجدت الإبل تمجد مجودا إذا رعت في أرض مكلئة و شبعت و أمجدت الإبل إذا أشبعتها و قالوا في كل شجر نار و استمجد المرخ و العفار أي صار ماجدا في إيرائه النار و قيل استمجد العفار إذا كثر ناره و صفت و حجة نافع في قراءته محفوظ أن القرآن وصف بالحفظ في قوله «وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ»* و معنى حفظ القرآن أنه يؤمن من تحريفه و تبديله و تغييره فلا يلحقه شي‏ء من ذلك و حجة من جر محفوظا جعله وصفا للوح فإنهم يقولون اللوح المحفوظ.
اللغة
الأخدود الشق العظيم في الأرض و
منه ما روي في معجز النبي ص أنه دعا الشجرة فجعلت تخد الأرض خدا حتى أتته‏
و منه الخد لمجاري الدموع و تخدد لحمه إذا صار

704
مجمع البيان في تفسير القرآن10

اللغة ص 704

فيه طرائق كالشقوق و الوقود ما تشتعل به النار من الحطب و غيره بفتح الواو و الوقود بالضم الإيقاد يقال فتنت الشي‏ء أحرقته و الفتين حجارة سود كأنها محرقة و أصل الفتنة الامتحان ثم يستعمل في العذاب.
الإعراب‏
قال الفراء «قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ» جواب القسم كما كان جواب وَ الشَّمْسِ وَ ضُحاها قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها و قيل إن جواب القسم محذوف و تقديره أن الأمر حق في الجزاء على الأعمال و قيل جواب القسم قوله «إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ» الآية و قيل جواب القسم قوله «إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ» النار بدل من الأخدود و هو بدل الاشتمال لأن الأخدود يشتمل على ما فيه من النار أي النار منه و «ذاتِ الْوَقُودِ» صفة للنار و يسأل على هذا فيقال كيف خصت هذه النار بذا و كل نار لها وقود و أجيب عنها بجوابين (أحدهما) أنه قد يكون نار ليست بذات وقود كنار الحجر و نار الكبد (و الآخر) إن الوقود معرف فصار مخصوصا كأنه وقود بعينه كما قال وقودها الناس و الحجارة فكان الوقود هنا أبدان الناس، إذ هم عليها قعود إذ مضاف إلى الجملة و هي ظرف لقوله «قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ» إذا كان إخبارا لا دعاء و «أَنْ يُؤْمِنُوا» في موضع نصب بقوله «نَقَمُوا» و التقدير و ما نقموا إلا إيمانهم «فِرْعَوْنَ وَ ثَمُودَ» في موضع جر بدل من الجنود و يجوز أن يكونا في موضع نصب بإضمار فعل كأنه قال أعني فرعون و ثمود.
قصة أصحاب الأخدود
روى مسلم في الصحيح عن هدية بن خالد عن حماد بن سلمة عن ثابت بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن صهيب عن رسول الله ص قال كان ملك فيمن كان قبلكم له ساحر فلما مرض الساحر قال إني قد حضر أجلي فادفع إلي غلاما أعلمه السحر فدفع إليه غلاما و كان يختلف إليه و بين الساحر و الملك راهب فمر الغلام بالراهب فأعجبه كلامه و أمره فكان يطيل عنده القعود فإذا أبطأ عن الساحر ضربه و إذا أبطأ عن أهله ضربوه فشكا ذلك إلى الراهب فقال يا بني إذا استبطأك الساحر فقل حبسني أهلي و إذا استبطأك أهلك فقل حبسني الساحر فبينما هو ذات يوم إذا بالناس قد حبستهم دابة عظيمة فظيعة فقال اليوم أعلم أمر الساحر أفضل أم أمر الراهب فأخذ حجرا فقال اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك فاقتل هذه الدابة فرمى فقتلها و مضى الناس فأخبر بذلك الراهب فقال أي بني إنك ستبتلى و إذا ابتليت فلا تدل علي قال و جعل يداوي الناس فيبرئ الأكمه و الأبرص فبينما هو كذلك إذ عمي جليس للملك فأتاه و حمل إليه مالا كثيرا فقال اشفني و لك ما هاهنا فقال إني لا أشفي أحدا و لكن الله يشفي فإن آمنت بالله دعوت الله فشفاك قال فآمن فدعا الله له فشفاه فذهب‏

705
مجمع البيان في تفسير القرآن10

قصة أصحاب الأخدود ص 705

فجلس إلى الملك فقال يا فلان من شفاك قال ربي قال أنا قال لا ربي و ربك الله قال أ و إن لك ربا غيري قال نعم ربي و ربك الله فأخذه فلم يزل به حتى دله على الغلام فبعث إلى الغلام فقال لقد بلغ من أمرك أن تشفي الأكمه و الأبرص قال ما أشفي أحدا و لكن الله ربي يشفي قال أ و إن لك ربا غيري قال نعم ربي و ربك الله فأخذه فلم يزل به حتى دله على الراهب فوضع المنشار عليه فنشره حتى وقع شقين و قال للغلام ارجع عن دينك فأبى فأرسل معه نفرا و قال اصعدوا به جبل كذا و كذا فإن رجع عن دينه و إلا فدهدهوه منه قال فعلوا به الجبل فقال اللهم اكفنيهم بما شئت قال فرجف بهم الجبل فتدهدهوا أجمعون و جاء إلى الملك فقال ما صنع أصحابك قال كفانيهم الله فأرسل به مرة أخرى قال انطلقوا به فلججوه في البحر فإن رجع و إلا فغرقوه فانطلقوا به في قرقور فلما توسطوا به البحر قال اللهم اكفنيهم بما شئت قال فانكفأت بهم السفينة و جاء حتى قام بين يدي الملك فقال ما صنع أصحابك قال كفانيهم الله ثم قال إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به أجمع الناس ثم اصلبني على جذع ثم خذ سهما من كنانتي ثم ضعه على كبد القوس ثم قل باسم رب الغلام فإنك ستقتلني قال فجمع الناس و صلبه ثم أخذ سهما من كنانته فوضعه على كبد القوس و قال باسم رب الغلام و رمى فوقع السهم في صدغه و مات فقال الناس آمنا برب الغلام فقيل له أ رأيت ما كنت تخاف قد نزل و الله بك آمن الناس فأمر بالأخدود فخددت على أفواه السكك ثم أضرمها نارا فقال من رجع عن دينه فدعوه و من أبى فأقحموه فيها فجعلوا يقتحمونها و جاءت امرأة بابن لها فقال لها يا أمه اصبري فإنك على الحق‏
و قال ابن المسيب كنا عند عمر بن الخطاب إذ ورد عليه أنهم احتفروا فوجدوا ذلك الغلام و هو واضع يده على صدغه فكلما مدت يده عادت إلى صدغه فكتب عمر واروه حيث وجدتموه و
روى سعيد بن جبير قال لما انهزم أهل اسفندهان قال عمر بن الخطاب ما هم يهود و لا نصارى و لا لهم كتاب و كانوا مجوسا فقال علي بن أبي طالب (ع) بل قد كان لهم كتاب و لكنه رفع و ذلك أن ملكا لهم سكر فوقع على ابنته أو قال على أخته فلما أفاق قال لها كيف المخرج مما وقعت فيه قالت تجمع أهل مملكتك و تخبرهم أنك ترى نكاح البنات و تأمرهم أن يحلوه فجمعهم فأخبرهم فأبوا أن يتابعوه فخد لهم أخدودا في الأرض و أوقد فيه النيران و عرضهم عليها فمن أبى قبول ذلك قذفه في النار و من أجاب خلى سبيله‏
و
قال الحسن كان النبي ص إذا ذكر أمامه أصحاب الأخدود تعوذ بالله من جهد البلاء
و
روى العياشي بإسناده عن جابر عن أبي جعفر (ع) قال أرسل علي (ع) إلى أسقف‏

706
مجمع البيان في تفسير القرآن10

قصة أصحاب الأخدود ص 705

نجران يسأله عن أصحاب الأخدود فأخبره بشي‏ء فقال (ع) ليس كما ذكرت و لكن سأخبرك عنهم إن الله بعث رجلا حبشيا نبيا و هم حبشة فكذبوه فقاتلهم فقتلوا أصحابه و أسروه و أسروا أصحابه ثم بنوا له حيرا ثم ملأوه نارا ثم جمعوا الناس فقالوا من كان على ديننا و أمرنا فليعتزل و من كان على دين هؤلاء فليرم نفسه في النار معه فجعل أصحابه يتهافتون في النار فجاءت امرأة معها صبي لها ابن شهر فلما هجمت على النار هابت و رقت على ابنها فناداها الصبي لا تهابي و ارمي بي و بنفسك في النار فإن هذا و الله في الله قليل فرمت بنفسها في النار و صبيها و كان ممن تكلم في المهد
و
بإسناده عن ميثم التمار قال سمعت أمير المؤمنين (ع) و ذكر أصحاب الأخدود فقال كانوا عشرة و على مثالهم عشرة يقتلون في هذا السوق‏
و قال مقاتل كان أصحاب الأخدود ثلاثة واحد بنجران و الآخر بالشام و الآخر بفارس حرقوا بالنار أما الذي بالشام فهو أنطياخوس الرومي و أما الذي بفارس فهو بخت نصر و أما الذي بأرض العرب فهو يوسف بن ذي نواس فأما من كان بفارس و الشام فلم ينزل الله تعالى فيهما قرآنا و أنزل في الذي كان بنجران و ذلك أن رجلين مسلمين ممن يقرءون الإنجيل (أحدهما) بأرض تهامة (و الآخر) بنجران اليمن أجر أحدهما نفسه في عمل يعمله فجعل يقرأ الإنجيل فرأت ابنة المستأجر النور يضي‏ء من قراءة الإنجيل فذكرت لأبيها فرمق حتى رآه فسأله فلم يخبره فلم يزل به حتى أخبره بالدين و الإسلام فتابعه مع سبعة و ثمانين إنسانا من رجل و امرأة و هذا بعد ما رفع عيسى إلى السماء فسمع يوسف بن ذي نواس بن شراحيل بن تبع الحميري فخد لهم في الأرض و أوقد فيها فعرضهم على الكفر فمن أبى قذفه في النار و من رجع عن دين عيسى لم يقذف فيها و إذا امرأة جاءت و معها ولد صغير لا يتكلم فلما قامت على شفير الخندق نظرت إلى ابنها فرجعت فقال لها يا أماه إني أرى أمامك نارا لا تطفى فلما سمعت من ابنها ذلك قذفها في النار فجعلها الله و ابنها في الجنة و قذف في النار سبعة و سبعون إنسانا قال ابن عباس من أبى أن يقع في النار ضرب بالسياط فأدخل الله أرواحهم في الجنة قبل أن تصل أجسامهم إلى النار.
المعنى‏
إن الله سبحانه أقسم بالسماء فقال «وَ السَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ» فالبروج المنازل العالية و المراد هنا منازل الشمس و القمر و الكواكب و هي اثنا عشر برجا يسير القمر في كل برج منها يومين و ثلاث و تسير الشمس في كل برج شهرا «وَ الْيَوْمِ الْمَوْعُودِ» يعني‏

707
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 707

يوم القيامة في قول جميع المفسرين و هو اليوم الذي يجازى فيه الخلائق و يفصل فيه القضاء «وَ شاهِدٍ وَ مَشْهُودٍ» فيه أقوال (أحدها)
إن الشاهد يوم الجمعة و المشهود يوم عرفة عن ابن عباس و قتادة و روي ذلك عن أبي جعفر و أبي عبد الله (ع) و روي ذلك عن النبي ص‏
و سمي يوم الجمعة شاهدا لأنه يشهد على كل عامل بما عمل فيه و
في الحديث ما طلعت الشمس على يوم و لا غربت على يوم أفضل منه و فيه ساعة لا يوافقها من يدعو فيها الله بخير إلا استحباب له و لا استعاذ من شر إلا أعاذه منه‏
و يوم عرفة مشهود يشهد الناس فيه موسم الحج و تشهده الملائكة (و ثانيها) أن الشاهد يوم النحر و المشهود يوم عرفة عن إبراهيم (و ثالثها)
أن الشاهد محمد ص و المشهود يوم القيامة عن ابن عباس في رواية أخرى و سعيد بن المسيب و هو المروي عن الحسن بن علي‏
و
روي أن رجلا دخل مسجد رسول الله ص فإذا رجل يحدث عن رسول الله ص قال فسألته عن الشاهد و مشهود فقال نعم الشاهد يوم الجمعة و المشهود يوم عرفة فجزته إلى آخر يحدث عن رسول الله ص فسألته عن ذلك فقال أما الشاهد فيوم الجمعة و أما المشهود فيوم النحر فجزتهما إلى غلام كان وجهه الدينار و هو يحدث عن رسول الله ص فقلت أخبرني عن شاهد و مشهود فقال أما الشاهد فمحمد ص و أما المشهود فيوم القيامة أ ما سمعته سبحانه يقول «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً» و قال «ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَ ذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ»
فسألت عن الأول فقالوا ابن عباس و سألت عن الثاني فقالوا ابن عمر و سألت عن الثالث فقالوا الحسن بن علي (ع) (و رابعها) أن الشاهد يوم عرفة و المشهود يوم القيامة و
عن أبي الدرداء عن النبي ص قال أكثروا الصلاة علي يوم الجمعة فإنه يوم مشهود تشهده الملائكة و إن أحدا لا يصلي علي إلا عرضت علي صلاته حتى يفرغ منها قال فقلت و بعد الموت فقال إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء فنبي الله حي يرزق‏
 (و خامسها) إن الشاهد الملك يشهد على بني آدم و المشهود يوم القيامة عن عكرمة و تلا هاتين الآيتين وَ جاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَ شَهِيدٌ وَ ذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ و قد قيل في ذلك أقوال أخر كقول الجبائي الشاهد الذين يشهدون على الناس و المشهود هم الذين يشهد عليهم و قول الحسين بن الفضل الشاهد هذه الأمة و المشهود سائر الأمم لقوله «لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ» و قيل الشاهد أعضاء بني آدم و المشهود هم لقوله «يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ» الآية و قيل الشاهد الحجر الأسود و المشهود الحاج و قيل الشاهد الأيام و الليالي و المشهود بنو آدم و ينشد للحسين بن علي (ع):
         مضى أمسك الماضي شهيدا معدلا             و خلفت في يوم عليك شهيد
         فإن أنت بالأمس اقترفت إساءة             فقيد بإحسان و أنت حميد

708
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 707

         و لا ترج فعل الخير يوما إلى غد             لعل غدا يأتي و أنت فقيد.
و قيل الشاهد الأنبياء و المشهود محمد ص بيانه «وَ إِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ» إلى قوله «فَاشْهَدُوا وَ أَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ» و قيل الشاهد الله و المشهود لا إله إلا الله بيانه قوله «شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ» الآية و قيل الشاهد الخلق و المشهود الحق و إليه أشار الشاعر بقوله:
         أيا عجبا كيف يعصي الإله             أم كيف يجحده الجاحد
         و لله في كل تحريكة             و في كل تسكينة شاهد
         و في كل شي‏ء له آية             تدل على أنه واحد
فهذه ثمانية أقوال أخر «قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ» أي لعنوا بتحريقهم الناس في الدنيا قبل الآخرة و المراد به الكافرون الذين حفروا الأخدود و عذبوا المؤمنين بالنار و يحتمل أن يكون إخبارا عن المسلمين الذين عذبوا بالنار في الأخدود و المعنى أنهم قتلوا بالإحراق في النار ذكرهم الله سبحانه و أثنى عليهم بحسن بصيرتهم و صبرهم على دينهم حتى أحرقوا بالنار لا يعطون التقية بالرجوع عن الإيمان «النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ» أي أصحاب النار الذين أوقدوها بإحراق المؤمنين و قوله «ذاتِ الْوَقُودِ» إشارة إلى كثرة حطب هذه النار و تعظيم لأمرها فإن النار لا تخلو عن وقود «إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ» يعني الكفار إذ هم على أطراف هذه النار جلوس يعذبون المؤمنون عن ابن عباس و قيل يعني هم عندها قعود يعرضونهم على الكفر عن مقاتل قال مجاهد كانوا قعودا على الكراسي عند الأخدود و هو قوله «وَ هُمْ» يعني الملك و أصحابه الذين خدوا الأخدود «عَلى‏ ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ» من عرضهم على النار و إرادتهم أن يرجعوا إلى دينهم «شُهُودٌ» أي حضور قال الزجاج أعلم الله قصة قوم بلغت بصيرتهم و حقيقة إيمانهم إلى أن صبروا على أن أحرقوا بالنار في الله و قال الربيع بن أنس لما ألقوا في النار نجى الله المؤمنين بأن أخذ أرواحهم قبل أن تمسهم النار و خرجت النار إلى من على شفير الأخدود من الكفار فأحرقتهم و قيل أنهم كانوا فرقتين فرقة تعذب المؤمنين و فرقة تشاهد الحال لم يتولوا تعذيبهم لكنهم قعود رضوا بفعل أولئك و كانت الفرقة القاعدة مؤمنة لكنهم لم ينكروا على الكفار صنيعهم فلعنهم الله جميعا عن أبي مسلم و القعود جمع القاعد و كذلك الشهود جمع الشاهد و هم كل حاضر على ما شاهدوه إما بسمع أو بصر «وَ ما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ» أي ما كرهوا منهم إلا أنهم آمنوا عن ابن عباس و قيل ما أنكروا عليهم دينا و ما عابوا منهم شيئا إلا إيمانهم و هذا كقوله «هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ»

709
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 707

عن الزجاج و مقاتل و قال الجبائي ما فعلوا بهم ذلك العذاب إلا بإيمانهم «الْعَزِيزِ» القادر الذي لا يمتنع عليه شي‏ء القاهر الذي لا يقهر «الْحَمِيدِ» المحمود في جميع أفعاله «الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ» أي له التصرف في السماوات و الأرض لا اعتراض لأحد عليه «وَ اللَّهُ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ شَهِيدٌ» أي شاهد عليهم لم يخف عليه فعلهم بالمؤمنين فإنه يجازيهم و ينتصف للمؤمنين منهم «إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ» أي الذين أحرقوهم و عذبوهم بالنار عن ابن عباس و قتادة و الضحاك و مثله يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ «ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا» من فعلهم ذلك و من الشرك الذي كانوا عليه و إنما شرط عدم التوبة لأنهم لو تابوا لما توجه إليهم الوعيد «فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ» بكفرهم «وَ لَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ» بما أحرقوا المؤمنين يسأل فيقال كيف فصل بين عذاب جهنم و عذاب الحريف و هما واحد. أجيب عن ذلك بأن المراد لهم أنواع العذاب في جهنم سوى الإحراق مثل الزقوم و الغسلين و المقامع و لهم مع ذلك الإحراق بالنار و قيل لهم عذاب جهنم في الآخرة و لهم عذاب الحريق في الدنيا و ذلك أن النار ارتفعت من الأخدود فأحرقتهم عن الربيع بن أنس و هو قول الكلبي و قال الفراء ارتفعت النار عليهم فأحرقتهم فوق الأخاديد و نجا المؤمنون ثم ذكر سبحانه ما أعده للمؤمنين الذين أحرقوا بالنار فقال «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا» أي صدقوا بتوحيد الله «وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ» النجاة العظيم و النفع الخالص و إنما وصفه بالكبير لأن نعيم العاملين كبير بالإضافة إلى نعيم من لا عمل له من داخلي الجنة لما في ذلك من الإجلال و الإكرام و التبجيل و الإعظام ثم قال سبحانه متوعدا للكفار و العصاة «إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ» يا محمد «لَشَدِيدٌ» يعني أن أخذه بالعذاب إذا أخذ الظلمة و الجبابرة أليم شديد و إذا وصف البطش و هو الأخذ عنفا بالشدة فقد تضاعف مكروهه و تزايد إيلامه «إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ» الخلق يخلقهم أولا في الدنيا «وَ يُعِيدُ» هم أحياء بعد الموت للحساب و الجزاء فليس إمهاله لمن يعصيه لإهماله إياه و قيل أنه يبدئ بالعذاب في الدنيا و يعيده في الآخرة عن ابن عباس و ذلك لأن ما قبله يقتضيه «وَ هُوَ الْغَفُورُ» لذنوب المؤمنين من أهل طاعته و معناه كثير الغفران عادته مغفرة الذنوب «الْوَدُودُ» يود أولياءه و يحبهم عن مجاهد قال الأزهري في تفسير أسماء الله يجوز أن يكون ودود فعولا بمعنى مفعول كركوب و حلوب و معناه أن عباده الصالحين يودونه و يحبونه لما عرفوا من فضله و كرمه و لما أسبغ من آلائه و نعمه قال و كلتا الصفتين مدح لأنه سبحانه أن أحب عباده المطيعين فهو فضل منه و أن أحبوه فلما عرفوه من فضله و إحسانه «ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ» أكثر القراءة في المجيد الرفع لأن الله سبحانه هو الموصوف بالمجد و لأن المجيد لم يسمع في غير صفة الله‏

710
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 707

تعالى و إن سمع الماجد و من كسر المجيد جعله من صفة العرش و روي عن ابن عباس أنه قال يريد العرش و حسنه و يؤيده أن العرش وصف بالكرم في قوله «رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ» فجاز أيضا أن يوصف بالمجد لأن معناه الكمال و العلو و الرفعة و العرش أكمل كل شي‏ء و أعلاه و أجمعه لصفات الحسن «فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ» لا يعجزه شي‏ء طلبه و لا يمتنع منه شي‏ء أراده عن عطاء و قيل لما يريد من الإبداء و الإعادة ثم ذكر سبحانه خبر الجموع الكافرة فقال «هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ» الذين تجندوا على أنبياء الله أي هل بلغك أخبارهم و قيل أراد قد أتاك ثم بين سبحانه أصحاب الجنود فقال «فِرْعَوْنَ وَ ثَمُودَ» و المعنى تذكر يا محمد حديثهم تذكر معتبر كيف كذبوا أنبياء الله و كيف نزل بهم العذاب و كيف صبر الأنبياء و كيف نصروا فاصبر كما صبر أولئك ليأتيك النصر كما أتاهم و هذا من الإيجاز البديع و التلويح الفصيح الذي لا يقوم مقامه التصريح «بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا» يعني مشركي قريش «فِي تَكْذِيبٍ» لك و القرآن قد أعرضوا عما يوجبه الاعتبار و أقبلوا على ما يوجبه الكفر و الطغيان «وَ اللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ» معناه أنهم في قبضة الله و سلطانه لا يفوتونه كالمحاصر المحاط به من جوانبه لا يمكنه الفوات و الهرب و هذا من بلاغة القرآن «بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ» أي كريم لأنه كلام الرب عن ابن عباس أي ليس هو كما يقولون من أنه شعر أو كهانة و سحر بل هو قرآن كريم عظيم الكرم فيما يعطي من الخير جليل الخطر و القدر و قيل هو قرآن كريم لما يعطي من المعاني الجليلة و الدلائل النفيسة و لأن جميعه حكم و الحكم على ثلاثة أوجه لا رابع لها معنى يعمل عليه فيما يخشى أو يتقي و موعظة تلين القلب للعمل بالحق و حجة تؤدي إلى تميز الحق من الباطل في علم دين أو دنيا و علم الدين أشرفهما و جميع ذلك موجود في القرآن «فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ» من التغيير و التبديل و النقصان و الزيادة و هذا على قراءة من رفعه فجعله من صفة قرآن و من جره فجعله صفة للوح فالمعنى أنه محفوظ لا يطلع عليه غير فجعله من صفة قرآن و من جره فجعله صفة للوح فالمعنى أنه محفوظ لا يطلع عليه غير الملائكة و قيل محفوظ عند الله و هو أم الكتاب و منه نسخ القرآن و الكتب و هو الذي يعرف باللوح المحفوظ و هو من درة بيضاء طوله ما بين السماء و الأرض و عرضه ما بين المشرق و المغرب عن ابن عباس و مجاهد و قيل إن اللوح المحفوظ الذي ذكره الله في جبهة إسرافيل عن أنس و قيل اللوح المحفوظ عن يمين العرش عن مقاتل.

711
مجمع البيان في تفسير القرآن10

سورة الطارق مكية و آياتها سبع عشرة ص 712

(86) سورة الطارق مكية و آياتها سبع عشرة (17)
[توضيح‏]
مكية سبع عشرة آية.
فضلها
أبي بن كعب عن النبي ص قال من قرأها أعطاه الله بعدد كل نجم في السماء عشر حسنات‏
عن المعلى بن خنيس عن أبي عبد الله (ع) قال من كان قراءته في الفريضة بالسماء و الطارق كان له يوم القيامة عند الله جاه و منزلة و كان من رفقاء النبيين و أصحابهم في الجنة.
تفسيرها
ختم الله سبحانه تلك السورة بالوعيد و افتتح هذه السورة بمثله و أكد ذلك بأن أعمال الخلق محفوظة فقال:

712
مجمع البيان في تفسير القرآن10

سورة الطارق الآيات 1 الى 17 ص 713

[سورة الطارق (86): الآيات 1 الى 17]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏
وَ السَّماءِ وَ الطَّارِقِ (1) وَ ما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ (4)
فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَ التَّرائِبِ (7) إِنَّهُ عَلى‏ رَجْعِهِ لَقادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ (9)
فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَ لا ناصِرٍ (10) وَ السَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ (11) وَ الْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَ ما هُوَ بِالْهَزْلِ (14)
إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (15) وَ أَكِيدُ كَيْداً (16) فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (17)

القراءة
قرأ أبو جعفر و ابن عامر و عاصم و حمزة لما عليها بتشديد الميم و الباقون بالتخفيف و في الشواذ قراءة ابن عباس مهلهم رويدا بغير ألف.
الحجة
قال أبو علي من خفف لما كانت إن عنده المخففة من الثقيلة و اللام معها هي اللام التي تدخل مع هذه المخففة لتخلصها من أن النافية و ما صلة كالتي في قوله «فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ» و «عَمَّا قَلِيلٍ» و تكون إن متلقية للقسم كما تتلقاه مثقلة و من ثقل" لما" كانت أن عنده النافية كالتي في قوله «فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ» و لما في معنى إلا و هي متلقية للقسم كما يتلقاه" ما" قال أبو الحسن الثقيلة في معنى إلا و العرب لا تكاد تعرف ذا و قال الكسائي لا أعرف وجه التثقيل و عن ابن عوف قال قرأت عند ابن سيرين «إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا» بالتشديد فأنكره قال الزجاج استعملت لما في موضع إلا في موضعين (أحدهما) هذا و الآخر في باب القسم تقول سألتك لما فعلتك بمعنى إلا فعلت.
اللغة
طرقني فلان إذا أتاني ليلا و أصل الطرق الدق و منه المطرقة لأنها يدق بها و الطريق لأن المارة تدقه و الطارق الآتي ليلا يحتاج إلى الدق للتنبيه و
نهى رسول الله ص أن يطرق الرجل أهله ليلا حتى تستحد المغيبة و تمشط الشعثة
و قالت هند بنت عتبة
         " نحن بنات طارق             نمشي على النمارق"
تريد أن أبانا نجم في شرفه و علوه و قال الشاعر:
         يا راقد الليل مسرورا بأوله             إن الحوادث قد يطرقن أسحارا
         لا تأمنن بليل طاب أوله             فرب آخر ليل أجج النارا
و النجم الكواكب الطالعة في السماء يقال لكل طالع ناجم تشبيها به نجم النبت و نجم السن و القرن و الثاقب المضي‏ء النير و ثقوبة توقده بنوره و الثاقب العالي الشديد العلو و الدفق صب الماء الكثير باعتماد قوي و مثله الدفع فالماء الذي يكون منه الولد يكون دافقا و هو القاطر المصب و هي النطفة التي يخلق الله منها الولد و قيل ماء دافق معناه مدفوق و مثله سر كاتم و عيشة راضية و الترائب نواحي الصدر واحدتها تريبة و هو مأخوذ من تذليل حركتها كالتراب قال المثقب:

713
مجمع البيان في تفسير القرآن10

اللغة ص 713

         و من ذهب يسن على تريب             كلون العاج ليس بذي غضون‏
و قال آخر:
         و الزعفران على ترائبها             شرقا به اللبات و الصدر
و الرجع أصله من الرجوع و هو الماء الكثير تزدده الرياح تمر عليه قال المنخل في صفة السيف:
         أبيض كالرجع رسوب إذا             ما ثاخ في محتفل يختلي‏
قال الزجاج الرجع المطر لأنه يجي‏ء و يرجع و يتكرر و الصدع الشق فصدع الأرض انشقاقها بالنبات و ضروب الزروع و الأشجار.
الإعراب‏
 «مَا الطَّارِقُ» ما استفهام و الجملة مبتدأ و خبر و هي معلقة بإدراك في موضع المفعول الثاني و الثالث و قوله «يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ» العامل فيه فعل مضمر يدل عليه قوله «عَلى‏ رَجْعِهِ لَقادِرٌ» و التقدير يرجعه يوم إبلاء السرائر و لا يجوز أن يعمل فيه المصدر لأنه يكون من صلته و قد فرق بينه و بينه بقوله «لَقادِرٌ» و يجوز أن يكون العامل فيه قوله «لَقادِرٌ» و رويدا صفة لمصدر محذوف و تقديره إمهالا رويدا.
المعنى‏
أقسم الله سبحانه فقال «وَ السَّماءِ» أي بالسماء و قيل برب السماء و قد بينا القول في ذلك «وَ الطَّارِقِ» و هو الذي يجي‏ء ليلا «وَ ما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ» و ذلك أن هذا الاسم يقع على كل ما طرق ليلا و لم يكن النبي ص يدري ما المراد لو لم يبينه ثم بينه بقوله «النَّجْمُ الثَّاقِبُ» أي هو الكوكب المضي‏ء و يريد به العموم و هو جماع النجوم عن الحسن و قيل هو زحل و الثاقب العالي على النجوم عن ابن زيد و قيل أراد به الثريا و العرب تسميه النجم و قيل هو القمر لأنه يطلع بالليل عن الفراء و جواب القسم قوله «إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ» أي ما كل نفس إلا عليها حافظ من الملائكة يحفظ عملها و قولها و فعلها و يحصي ما يكتسبه من خير و شر و من قرأ لما بالتخفيف فالمعنى إن كل نفس‏

714
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 714

لعليها حافظ يحفظها و قال قتادة حافظ من الملائكة يحفظ عملها و رزقها و أجلها ثم نبه سبحانه على البعث بقوله «فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ» يعني المكذب بالبعث عن مقاتل «مِمَّ خُلِقَ» أي فلينظر نظر التفكر و الاستدلال من أي شي‏ء خلقه الله و كيف خلقه و أنشأه حتى يعرف أن الذي ابتدأه من نطفة قادر على إعادته ثم ذكر من أي شي‏ء خلقه فقال «خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ» أي من ماء مهراق في رحم المرأة يعني المني الذي يكون منه الولد عن ابن عباس قال الفراء و أهل الحجاز يجعلون الفاعل بمعنى المفعول في كثير من كلامهم نحو سر كاتم و هم ناصب و ليل نائم و قد ذكرناه قبل ثم وصف سبحانه ذلك الماء فقال «يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَ التَّرائِبِ» و هو موضع القلادة من الصدر عن ابن عباس قال عطاء يريد صلب الرجل و ترائب المرأة و الولد لا يكون إلا من الماءين و قيل الترائب اليدان و الرجلان و العينان عن الضحاك و سئل عكرمة عن الترائب فقال هذه و وضع يده على صدره بين ثدييه و قيل ما بين المنكبين و الصدر عن مجاهد و المشهور في كلام العرب أنها عظام الصدر و النحر «إِنَّهُ عَلى‏ رَجْعِهِ لَقادِرٌ» يعني أن الذي خلقه ابتداء من هذا الماء يقدر على أن يرجعه حيا بعد الموت عن الحسن و قتادة و الجبائي و قيل معناه أنه تعالى على رد الماء في الصلب لقادر عن عكرمة و مجاهد و قيل إنه على رد الإنسان ماء كما كان قادر عن الضحاك و قال مقاتل بن حيان يقول إن شئت رددته من الكبر إلى الشباب و من الشباب إلى الصبي و من الصبي إلى النطفة و الأصح القول الأول لقوله «يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ» أي أنه قادر على بعثه يوم القيامة و معنى الرجع رد الشي‏ء إلى أول حاله و السرائر أعمال بني آدم و الفرائض التي أوجبت عليه و هي سرائر بين الله و العبد و تبلى أي تختبر تلك السرائر يوم القيامة حتى يظهر خيرها من شرها و مؤديها من مضيعها
روي ذلك مرفوعا عن أبي الدرداء قال قال رسول الله ص ضمن الله خلقه أربع خصال الصلاة و الزكاة و صوم رمضان و الغسل من الجنابة و هي السرائر التي قال الله «يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ»
و
عن معاذ بن جبل قال سألت رسول الله ص و ما هذه السرائر التي تبلى بها العباد في الآخرة فقال سرائركم هي أعمالكم من الصلاة و الصيام و الزكاة و الوضوء و الغسل من الجنابة و كل مفروض لأن الأعمال كلها سرائر خفية فإن شاء قال الرجل صليت و لم يصل و إن شاء قال توضأت و لم يتوضأ فذلك قوله «يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ»
و قيل يظهر الله أعمال كل أحد لأهل القيامة حتى يعلموا على أي شي‏ء أثابه و يكون فيه زيادة سرور له و إن يكن من أهل العقوبة يظهر عمله ليعلموا على أي شي‏ء عاقبه و يكون ذلك زيادة غم له و السرائر ما أسره من خير أو شر و ما أضمره من إيمان أو كفر و روي عن عبد الله بن عمر أنه قال يبدي الله يوم القيامة كل سر و يكون زينا في الوجوه و شينا في الوجوه «فَما لَهُ» أي فما لهذا الإنسان المنكر للبعث و الحشر «مِنْ قُوَّةٍ»

715
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 714

يمتنع به من عذاب الله «وَ لا ناصِرٍ» ينصره من الله و القوة هي القدرة ثم ذكر سبحانه قسما آخر تأكيدا لأمر القيامة فقال «وَ السَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ» أي ذات المطر عن أكثر المفسرين و قيل يعني بالرجع شمسها و قمرها و نجومها تغيب ثم تطلع عن ابن زيد و قيل رجع السماء إعطاؤها الخير الذي يكون من جهتها حالا بعد حال على مرور الأزمان فترجع بالغيث و أرزاق العباد و غير ذلك «وَ الْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ» تتصدع بالنبات أي تنشق فيخرج منها النبات و الأشجار
 «إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ» هذا جواب القسم يعني أن القرآن يفصل بين الحق و الباطل بالبيان عن كل واحد منهما و روي ذلك عن الصادق (ع)
و قيل معناه إن الوعد بالبعث و الإحياء بعد الموت قول فصل أي مقطوع به لا خلاف و لا ريب فيه «وَ ما هُوَ بِالْهَزْلِ» أي هو الجد و ليس باللعب و قيل إن القرآن لم ينزل باللعب ثم أخبر سبحانه عن مشركي قريش فقال «إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً» أي يحتالون في الإيقاع بك و بمن معك و يريدون إطفاء نورك «وَ أَكِيدُ كَيْداً» أي أريد أمرا آخر على ضد ما يريدون و أدبر ما ينقض تدابيرهم و مكايدهم فسمى ذلك كيدا من حيث يخفى ذلك عليهم «فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ» أي انتظر بهم يا محمد و لا تعاجلهم و ارض بتدبير الله فيهم «أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً» أي إمهالا قليلا عن قتادة و إنما قلل الإمهال لأن ما هو كائن آت لا محالة فهو قليل و المراد به يوم القيامة و قيل أراد يوم بدر و المعنى لا تعجل علي في طلب هلاكهم بل اصبر عليهم قليلا فإن الله مجزيهم لا محالة إما بالقتل و الذل في الدنيا أو بالعذاب في الآخرة قال ابن جني قوله «فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ» غير اللفظ لأنه أثر التأكيد و كره التكرير فلما تجشم إعادة اللفظ انحرف عنه بعض الانحراف بتغييره المثال و انتقل عن لفظ فعل إلى لفظ افعل فقال «أَمْهِلْهُمْ» و لما تجشم التثليث جاء بالمعنى و ترك اللفظ البتة فقال «رُوَيْداً».

716
مجمع البيان في تفسير القرآن10

سورة الأعلى مكية و آياتها تسع عشرة ص 717

(87) سورة الأعلى مكية و آياتها تسع عشرة (19)
[توضيح‏]
مكية عن ابن عباس مدنية عن الضحاك و هي تسع عشرة آية بلا خلاف.
فضلها
أبي بن كعب قال قال النبي ص من قرأها أعطاه الله من الأجر عشر حسنات بعدد كل حرف أنزله الله على إبراهيم و موسى و محمد ص‏
و
روي عن علي بن أبي طالب (ع) قال كان رسول الله ص يحب هذه السورة سبح اسم ربك الأعلى و أول من قال سبحان ربي الأعلى ميكائيل‏
و
عن ابن عباس كان النبي ص إذا قرأ سبح اسم ربك الأعلى قال سبحان ربي الأعلى و كذلك روي عن علي (ع)
و ابن عمر و ابن الزبير أنهم كانوا يفعلون ذلك و روى جويبر عن الضحاك أنه كان يقول ذلك و كان يقول من قرأها فليفعل ذلك و
عن أبي بصير عن أبي عبد الله (ع) قال
من قرأ سبح اسم ربك الأعلى في فريضة أو نافلة قيل له يوم القيامة أدخل من أي أبواب الجنة شئت‏
و
روى العياشي بإسناده عن أبي حميصة عن علي (ع) قال صليت خلفه عشرين ليلة فليس يقرأ إلا سبح اسم ربك و قال لو يعلمون ما فيها لقرأها الرجل كل يوم عشرين مرة و إن من قرأها فكأنما قرأ صحف موسى و إبراهيم الذي وفى‏
و
عن عقبة بن عامر الجهني قال لما نزلت فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ* قال رسول الله ص اجعلوها في ركوعكم و لما نزلت «سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى» قال اجعلوها في سجودكم.
تفسيرها
لما ختم الله سبحانه تلك السورة بذكر الوعيد و التهديد للكفار افتتح هذه السورة بذكر صفاته العلى و قدرته على ما يشاء فقال:

717
مجمع البيان في تفسير القرآن10

سورة الأعلى الآيات 1 الى 19 ص 718

[سورة الأعلى (87): الآيات 1 الى 19]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَ الَّذِي قَدَّرَ فَهَدى‏ (3) وَ الَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى‏ (4)
فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى‏ (5) سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى‏ (6) إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَ ما يَخْفى‏ (7) وَ نُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى‏ (8) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى‏ (9)
سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى‏ (10) وَ يَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى‏ (12) ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَ لا يَحْيى‏ (13) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14)
وَ ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (16) وَ الْآخِرَةُ خَيْرٌ وَ أَبْقى‏ (17) إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى‏ (18) صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى‏ (19)

القراءة
قرأ الكسائي‏
قدر بالتخفيف و هو قراءة علي (ع)
و الباقون «قَدَّرَ» بالتشديد و قرأ أبو عمرو و روح و زيد و قتيبة يؤثرون بالياء و الباقون بالتاء.
الحجة
قد تقدم أن قدر في معنى قدر فكلا الوجهين حسن و تؤثرون بالتاء على الخطاب بل أنتم تؤثرون و الياء على أنه يريد الأشقين و روي أن ابن مسعود و الحسن قرءاه.
اللغة
الأعلى نظير الأكبر و معناه العالي بسلطانه و قدرته و كل من دونه في سلطانه و لا يقتضي ذلك المكان قال الفرزدق:
         إن الذي سمك السماء بنى لنا             بيتا دعائمه أعز و أطول‏
و الغثاء ما يقذف به السيل على جانب الوادي من الحشيش و النبات و أصله الأخلاط من أجناس شتى و العرب تسمي القوم إذا اجتمعوا من قبائل شتى أخلاطا و غثاء و الأحوى الأسود و الحوة السواد قال ذو الرمة:
         لمياء في شفتيها حوة لعس             و في اللثات و في أنيابها شنب‏

718
مجمع البيان في تفسير القرآن10

اللغة ص 718

و قال:
         قرحاء حواء أشراطية وكفت             فيها الذهاب و حفتها البراعيم‏
و الإقراء أخذ القراءة على القارئ بالاستماع لتقويم الزلل و القارئ التالي و أصله الجمع لأنه يجمع الحروف و النسيان ذهاب المعنى عن النفس و نظيره السهو و نقيضه الذكر و هو ذهاب العلم الضروري بما جرت به العادة أن يعلمه و ليس بمعنى و قال أبو علي الجبائي و هو معنى من فعل الله تعالى.
الإعراب‏
الأعلى يحتمل أن يكون جرا صفة لرب و أن يكون نصبا صفة لاسم أحوى نصب على الحال من المرعى و التقدير أخرج المرعى أحوى أي أسود لشدة خضرته «فَجَعَلَهُ غُثاءً» أي جففه حتى صار جافا كالغثاء و يجوز أن يكون نعتا لغثاء و التقدير فجعله غثاء أسود و الأول أوجه و هو قول الزجاج. «ما شاءَ اللَّهُ» في موضع نصب على الاستثناء و التقدير سنقرئك القرآن فلا تنساه إلا ما شاء الله أن تنساه برفع حكمه و تلاوته و هو قول الحسن و قتادة «إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى‏» شرط جزاؤه محذوف يدل عليه قوله «فَذَكِّرْ» و التقدير إن نفعت الذكرى فذكرهم.
المعنى‏
 «سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى» أي قل سبحان ربي الأعلى عن ابن عباس و قتادة و قيل معناه نزه ربك عن كل ما لا يليق به من الصفات المذمومة و الأفعال القبيحة لأن التسبيح هو التنزيه لله عما لا يليق به يجوز أن تقول لا إله إلا هو فتنفي ما لا يجوز في صفته من شريك في عبادته مع الإقرار بأنه الواحد في إلهيته و أراد بالاسم المسمى و قيل إنه ذكر الاسم و المراد به تعظيم المسمى كما قال لبيد
         " إلى الحول ثم اسم السلام عليكما"
و يحسن بالقارئ إذا قرأ هذه الآية أن يقول سبحان ربي الأعلى و إن كان في الصلاة
قال الباقر (ع) إذا قرأت «سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى» فقل سبحان ربي الأعلى و إن كان فيما بينك و بين نفسك‏
و الأعلى معناه القادر الذي لا قادر أقدر منه القاهر لكل أحد و قيل الأعلى صفة الاسم و المعنى سبح الله بذكر اسمه الأعلى و أسماؤه الحسنى كلها أعلى و قيل معناه صل باسم ربك الأعلى عن ابن عباس «الَّذِي خَلَقَ» الخلق «فَسَوَّى» بينهم في باب الأحكام و الإتقان و قيل خلق‏

719
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 719

كل ذي روح فسوى يديه و عينيه و رجليه عن الكلبي و قيل خلق الإنسان فعدل قامته عن الزجاج يعني أنه لم يجعله منكوسا كالبهائم و الدواب و قيل خلق الأشياء على موجب إرادته و حكمته فسوى صنعها لتشهد على وحدانيته «وَ الَّذِي قَدَّرَ فَهَدى‏» أي قدر الخلق على ما خلقهم فيه من الصور و الهيئات و أجرى لهم أسباب معايشهم من الأرزاق و الأقوات ثم هداهم إلى دينه بمعرفة توحيده بإظهار الدلالات و البينات و قيل معناه قدر أقواتهم و هداهم لطلبها و قيل قدرهم على ما اقتضته حكمته فهدى أي أرشد كل حيوان إلى ما فيه منفعته و مضرته حتى أنه سبحانه هدى الطفل إلى ثدي أمه و هدى الفرخ حتى طلب الزق من أبيه و أمه و الدواب و الطيور حتى فزع كل منهم إلى أمه و طلب الميمنة من جهته سبحانه و تعالى و قيل قدرهم ذكورا و إناثا و هدى الذكر كيف يأتي الأنثى عن مقاتل و الكلبي و قيل هدى إلى سبيل الخير و الشر عن مجاهد و قيل قدر الولد في البطن تسعة أشهر أو أقل أو أكثر و هدى للخروج منه للتمام عن السدي و قيل قدر المنافع في الأشياء و هدي الإنسان لاستخراجها منه فجعل بعضها غذاء و بعضها دواء و بعضها سما و هدى إلى ما يحتاج إلى استخراجها من الجبال و المعادن كيف تستخرج و كيف تستعمل «وَ الَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى‏» أي أنبت الحشيش من الأرض لمنافع جميع الحيوان و أقواتهم «فَجَعَلَهُ» بعد الخضرة «غُثاءً» أي هشيما جافا كالغثاء الذي تراه فوق السيل «أَحْوى‏» أي أسود بعد الخضرة و ذلك أن الكلأ إذا يبس اسود و قيل معناه أخرج العشب و ما ترعاه النعم أحوى أي شديد الخضرة يضرب إلى السواد من شدة خضرته فجعله غثاء أي يابسا بعد ما كان رطبا و هو قوت البهائم في الحالين فسبحان من دبر هذا التدبير و قدر هذا التقدير و قيل إنه مثل ضربه الله تعالى لذهاب الدنيا بعد نضارتها «سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى‏» أي سنأخذ عليك قراءة القرآن فلا تنسى ذلك و قيل معناه سيقرأ عليك جبريل القرآن بأمرنا فتحفظه و لا تنساه‏
قال ابن عباس كان النبي ص إذا نزل عليه جبرائيل (ع) بالوحي يقرأه مخافة أن ينساه فكان لا يفرغ جبرائيل ع من آخر الوحي حتى يتكلم هو بأوله فلما نزلت هذه الآية لم ينس بعد ذلك شيئا
 «إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ» أن ينسيكه بنسخه من رفع حكمه و تلاوته عن الحسن و قتادة و على هذا فالإنشاء نوع من النسخ و قد مر بيانه في سورة البقرة عند قوله ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها الآية و قيل معناه إلا ما شاء الله أن يؤخر إنزاله عليك فلا تقرأه و قيل إلا ما شاء الله كالاستثناء في الإيمان و إن لم يقع منه مشيئة النسيان قال الفراء لم يشأ الله أن ينسي عليه السلم شيئا فهو كقوله خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماوات‏

720
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 719

وَ الْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ* و لا يشاء و كقول القائل لأعطينك كل ما سألت إلا ما شئت و إلا أن أشاء أن أمنعك و النية أن لا يمنعه و مثله الاستثناء في الإيمان ففي الآية بيان لفضيلة النبي ص و إخبار أنه مع كونه ص أميا كان يحفظ القرآن و إن جبرائيل ع كان يقرأ عليه سورة طويلة فيحفظه بمرة واحدة ثم لا ينساه و هذه دلالة على الإعجاز الدال على نبوته.
 «إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَ ما يَخْفى‏» معناه إن الله سبحانه يعلم العلانية و السر. و الجهر رفع الصوت و نقيضه الهمس و المعنى أنه سبحانه يحفظ عليك ما جهرت به و ما أخفيته مما تريد أن تعيه «وَ نُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى‏» اليسرى هي الفعلى من اليسر و هو سهولة عمل الخير و المعنى نوفقك للشريعة اليسرى و هي الحنيفية و نهون عليك الوحي و نسهله حتى تحفظه و لا تنساه و تعمل به و لا تخالفه و قيل معناه نسهل لك من الألطاف و التأييد ما يثبتك على أمرك و يسهل عليك المستصعب من تبليغ الرسالة و الصبر عليه عن أبي مسلم و هذا أحسن ما قيل فيه فإنه يتصل بقوله «سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى‏» فكأنه سبحانه أمره بالتبليغ و وعده النصر و أمره بالصبر و قيل إن اليسرى عبادة عن الجنة فهي اليسرى الكبرى أي نيسر لك دخول الجنة عن الجبائي «فَذَكِّرْ» أمر النبي ص أن يذكر الخلق و يعظهم «إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى‏» و إنما قال ذلك و ذكراه تنفع لا محالة في عمل الإيمان و الامتناع من العصيان لأنه ليس بشرط حقيقة و إنما هو إخبار عن أنه ينفع لا محالة في زيادة الطاعة و الانتهاء عن المعصية كما يقال سله إن نفع السؤال و قيل معناه عظهم إن نفعت الموعظة أو لم تنفع لأنه ص بعث للإعذار و الإنذار فعليه التذكير في كل حال نفع أو لم ينفع و لم يذكر الحالة الثانية كقوله سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَ سَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ و قد نبه الله سبحانه على تفصيل الحالتين بقوله «سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى‏» أي سيتعظ بالقرآن من يخشى الله تعالى و يخاف عقابه «وَ يَتَجَنَّبُهَا» أي يتجنب الذكرى و الموعظة «الْأَشْقَى» أي أشقى العصاة فإن للعاصين درجات في الشقاوة فأعظمهم درجة فيها الذي كفر بالله و توحيده و عبد غيره و قيل الأشقى من الاثنين من يخشى و من يتجنب عن أبي مسلم «الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى‏» أي يلزم أكبر النيران و هي نار جهنم و النار الصغرى نار الدنيا عن الحسن و قيل إن النار الكبرى هي الطبقة السفلى من جهنم عن الفراء «ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها» فيستريح «وَ لا يَحْيى‏» حياة ينتفع بها بل صارت حياته وبالا عليه يتمنى زوالها لما هو معها من فنون العقاب و ألوان العذاب و قيل و لا يحيى أي و لا يجد روح الحياة «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى» أي قد فاز من تطهر من الشرك و قال لا إله إلا الله عن عطاء و عكرمة و قيل معناه قد ظفر بالبغية من صار زاكيا بالأعمال الصالحة و الورع عن ابن عباس و الحسن و قتادة و قيل زكى أي أعطى زكاة ماله عن ابن مسعود و كان يقول قد رحم الله امرأ تصدق ثم صلى و يقرأ هذه‏

721
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 719

الآية و
قيل أراد صدقة الفطرة و صلاة العيد عن أبي عمرو و أبي العالية و عكرمة و ابن سيرين و روي ذلك مرفوعا عن أبي عبد الله (ع)
و متى قيل على هذا القول كيف يصح ذلك و السورة مكية و لم يكن هناك صلاة عيد و لا زكاة و لا فطرة قلنا يحتمل إن يكون نزلت أوائلها بمكة و ختمت بالمدينة «وَ ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى» أي وحد الله عن ابن عباس و قيل ذكر الله بقلبه عند صلاته فرجا ثوابه و خاف عقابه فإن الخشوع في الصلاة بحسب الخوف و الرجاء و قيل ذكر اسم ربه بلسانه عند دخوله في الصلاة فصلى بذلك الاسم أي قال الله أكبر لأن الصلاة لا تنعقد إلا به و قيل هو أن يفتتح ببسم الله الرحمن الرحيم و يصلي الصلوات الخمس المكتوبة ثم قال سبحانه مخاطبا للكفار «بَلْ تُؤْثِرُونَ» أي تختارون «الْحَياةَ الدُّنْيا» على الآخرة فتعملون لها و تعمرونها و لا تتفكرون في أمر الآخرة و قيل هو عام في المؤمن و الكافر بناء على الأعم الأغلب في أمر الناس قال عبد الله بن مسعود إن الدنيا اخضرت لنا و عجل لنا طعامها و شرابها و نساؤها و لذتها و بهجتها و إن الآخرة نعتت لنا و زويت عنا فأخذنا بالعاجل و تركنا الآجل ثم رغب سبحانه في الآخرة فقال «وَ الْآخِرَةُ» أي و الدار الآخرة و هي الجنة «خَيْرٌ» أي أفضل «وَ أَبْقى‏» و أدوم من الدنيا و
في الحديث من أحب آخرته أضر بدنياه و من أحب دنياه أضر بآخرته‏
 «إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى‏» يعني أن هذا الذي ذكر من قوله «قَدْ أَفْلَحَ» إلى أربع آيات لفي الكتب الأولى التي أنزلت قبل القرآن ذكر فيها فلاح المصلي و المتزكي و إيثار الخلق الدنيا على الآخرة و إن الآخرة خير و قيل معناه أن من تزكى و ذكر اسم ربه فصلى فهو ممدوح في الصحف الأولى كما هو ممدوح في القرآن ثم بين سبحانه أن الصحف الأولى ما هي فقال «صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى‏» و في هذا دلالة على أن إبراهيم كان قد أنزل عليه الكتاب خلافا لمن يزعم أنه لم ينزل عليه كتاب و واحدة الصحف صحيفة و
روي عن أبي ذر أنه قال قلت يا رسول الله كم الأنبياء فقال مائة ألف نبي و أربعة و عشرون ألفا قلت يا رسول الله كم المرسلون منهم قال ثلاثمائة و ثلاثة عشر و بقيتهم أنبياء قلت كان آدم (ع) نبيا قال نعم كلمة الله و خلقه بيده يا أبا ذر أربعة الأنبياء عرب هود و صالح و شعيب و نبيك قلت يا رسول الله كم أنزل الله من كتاب قال مائة و أربعة كتب أنزل الله منها على آدم (ع) عشر صحف و على شيث خمسين صحيفة و على أخنوخ و هو إدريس ثلاثين صحيفة و هو أول من خط بالقلم و على إبراهيم عشر صحائف و التوراة و الإنجيل و الزبور و الفرقان‏
و
في الحديث أنه كان في صحف إبراهيم ينبغي للعاقل أن يكون حافظا للسانه عارفا بزمانه مقبلا على شأنه‏
و قيل إن كتب الله كلها أنزلت في شهر رمضان.

722
مجمع البيان في تفسير القرآن10

سورة الغاشية مكية و آياتها ست و عشرون ص 723

(88) سورة الغاشية مكية و آياتها ست و عشرون (26)
[توضيح‏]
مكية ست و عشرون آية بالإجماع.
فضلها
أبي بن كعب عن النبي ص من قرأها حاسبه الله حسابا يسيرا
أبو بصير عن أبي عبد الله (ع) قال من أدمن قراءة هل أتاك حديث الغاشية في فرائضه أو نوافله غشاه الله برحمته في الدنيا و الآخرة و أعطاه الأمن يوم القيامة من عذاب النار.
تفسيرها
ختم الله سبحانه تلك السورة بالترغيب في الآخرة و أنها خير من الدنيا و افتتح هذه أيضا ببيان أحوال الآخرة فقال:

723
مجمع البيان في تفسير القرآن10

سورة الغاشية الآيات 1 الى 26 ص 724

[سورة الغاشية (88): الآيات 1 الى 26]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (2) عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (3) تَصْلى‏ ناراً حامِيَةً (4)
تُسْقى‏ مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ (6) لا يُسْمِنُ وَ لا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (8) لِسَعْيِها راضِيَةٌ (9)
فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (10) لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً (11) فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ (12) فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَ أَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ (14)
وَ نَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَ زَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16) أَ فَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَ إِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَ إِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19)
وَ إِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَ كَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ (24)
إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ (26)

القراءة
قرأ أهل البصرة غير سهل و أبو بكر تصلى بضم التاء و الباقون بفتحها و قرأ ابن كثير و أهل البصرة غير سهل لا يسمع بضم الياء لاغية بالرفع و قرأ نافع لا تسمع بضم التاء لاغية بالرفع و قرأ الباقون «لا تَسْمَعُ» بفتح التاء «لاغِيَةً» بالنصب و قرأ أبو جعفر إيابهم بتشديد الياء و الباقون بالتخفيف و
روي عن علي (ع) أ فلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت و إلى السماء كيف رفعت و إلى الجبال كيف نصبت و إلى الأرض كيف سطحت بفتح أوائل هذه الحروف كلها و ضم التاء
و عن ابن عباس و قتادة و زيد بن أسلم و زيد بن علي إلا من تولى بالتخفيف.
الحجة
حجة من قال «تَصْلى‏» قوله سَيَصْلى‏ ناراً ذاتَ لَهَبٍ و قوله إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ و حجة من قال تصلى قوله ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ و صلوه مثل اصلوه و اللاغية مصدر بمنزلة العاقبة و العافية و يجوز أن تكون صفة نحو أن تقول لا تسمع فيها كلمة لاغية و الأول أوجه لقوله تعالى لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً* و لا تسمع على بناء الفعل للمفعول به حسن لأن الخطاب ليس بمصروف إلى واحد بعينه و بناء الفعل للفاعل أيضا حسن على الشياع في الخطاب و إن كان لواحد و على هذا وَ إِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً و يجوز أن يكون الخطاب للنبي ص و كل واحد من التاء و الياء في تسمع و يسمع حسن على اللفظ و على المعنى و أما قوله إيابهم على التشديد فقال أبو الفتح أنكر أبو حاتم هذه القراءة لأنه حملها على نحو كذبوا كذابا قال و هذا لا يجوز لأنه كان يجب أوابا لأنه فعال فيصح لاحتمال التغيير بالإدغام كقولهم اجلوذ اجلواذا قال أبو الفتح يجوز أن يكونوا قلبوا الواو ياء من أواب و إن كانت متحصنة بالإدغام استحسانا للتخفيف لا وجوبا كما قالوا ديمت السماء في دومت قال:

724
مجمع البيان في تفسير القرآن10

الحجة ص 724

         هو الجواد ابن الجواد ابن سبل             إن ديموا جاد و إن جادوا وبل‏
يريد دوموا و قال و يجوز أن يكون بني من آب فيعلت و أصله أيوبت و المصدر إيواب فقلبت الواو ياء لوقوع الياء ساكنة قبلها و يجوز أن يكون أوبت فوعلت و المصدر على الفيعال كالحيقال من حوقلت أنشد الأصمعي:
         يا قوم قد حوقلت أو دنوت             و بعد حيقال الرجال الموت‏
فصار إيوابا فقلبت الواو ياء فصار إيابا و أما قراءة علي (ع) فالمفعول جميعها محذوف لدلالة المعنى عليه أي كيف خلقتها و كيف رفعتها و كيف نصبتها و سطحتها و من قرأ إلا من تولي فإلا افتتاح كلام و من شرط و جوابه «فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ» أي فهو يعذبه الله و قد تقدم القول فيه في مواضع.
اللغة
الغاشية المجللة لجميع الجملة غشيه يغشاه غشيانا و أغشاه غيره إذا جعله يغشى و غشاه بمعناه و نصب الرجل ينصب نصبا فهو نصب و ناصب إذا تعب في العمل و الآنية البالغة النهاية في شدة الحر و الضريع نبت تأكله الإبل يضر و لا ينفع و إنما سمي ضريعا لأنه يشتبه عليها أمره فتظنه كغيره من النبت و الأصل من المضارعة و المشابهة و النمارق واحدتها نمرقة و الزرابي البسط الفاخرة واحدتها زربية و المصيطر المتسلط على غيره بالقهر له يقال تصيطر فلان على فلان و صيطر إذا تسلط و قال أبو عبيدة مصيطر و مبيطر لا ثالث لهما في كلام العرب.
الإعراب‏
 «كَيْفَ خُلِقَتْ» يجوز أن يكون في موضع نصب على الحال من خلقت و يجوز أن يكون على المصدر و تكون الجملة التي هي كيف خلقت معلقة بينظرون لأن النظر مؤد إلى العلم «إِلَّا مَنْ تَوَلَّى» هو استثناء منقطع و سيبويه يقدر الاستثناء المنقطع بلكن و الفراء يقدره بسوى.
المعنى‏
 «هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ» خطاب للنبي ص يريد قد أتاك حديث يوم القيامة لأنها تغشى الناس بأهوالها بغتة عن ابن عباس و الحسن و قتادة و قيل الغاشية النار تغشي وجوه الكفار بالعذاب و هذا كقوله تَغْشى‏ وُجُوهَهُمُ النَّارُ عن محمد بن كعب و سعيد بن جبير «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ» أي ذليلة بالعذاب الذي يغشاها و الشدائد التي تشاهدها و المراد

725
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 725

بذلك أرباب الوجوه و إنما ذكر الوجوه لأن الذل و الخضوع يظهر فيها و قيل المراد بالوجوه الكبراء تقول جاءني وجوه بني تميم أي ساداتهم و قيل عنى به وجوه الكفار كلهم لأنها تكبرت عن عبادة الله تعالى عن مقاتل «عامِلَةٌ ناصِبَةٌ» فيه وجوه (أحدها) أن المعنى عاملة في النار ناصبة فيها عن الحسن و قتادة قالا لم يعمل الله سبحانه في الدنيا فأعملها و أنصبها في النار بمعالجة السلاسل و الأغلال قال الضحاك يكلفون ارتقاء جبل من حديد في النار و قال الكلبي يجرون على وجوههم في النار (و ثانيها) أن المراد عاملة في الدنيا بالمعاصي ناصبة في النار يوم القيامة عن عكرمة و السدي (و ثالثها) عاملة ناصبة في الدنيا يعملون و ينصبون و يتعبون على خلاف ما أمرهم الله تعالى به و هم الرهبان و أصحاب الصوامع و أهل البدع و الآراء الباطلة لا يقبل الله أعمالهم في البدعة و الضلالة و تصير هباء لا يثابون عليها عن سعيد بن جبير و زيد بن أسلم و أبي الضحاك عن ابن عباس و
قال أبو عبد الله (ع) كل ناصب لنا و إن تعبد و اجتهد يصير إلى هذه الآية «عامِلَةٌ ناصِبَةٌ»
 «تَصْلى‏ ناراً حامِيَةً» قال ابن عباس قد حميت فهي تتلظى على أعداء الله و قيل المعنى إن هؤلاء يلزمون الإحراق بالنار التي في غاية الحرارة «تُسْقى‏ مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ» أي و تسقى أيضا من عين حارة قد بلغت إناها و انتهت حرارتها قال الحسن قد أوقدت عليها جهنم مذ خلقت فدفعوا إليها وردا عطاشا هذا شرابهم ثم ذكر طعامهم فقال «لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ» و هو نوع من الشوك يقال له الشبرق و أهل الحجاز يسمونه الضريع إذا يبس و هو أخبث طعام و أبشعه لا ترعاه دابة و
عن الضحاك عن ابن عباس قال قال رسول الله ص الضريع شي‏ء يكون في النار يشبه الشوك أمر من الصبر و أنتن من الجيفة و أشد حرا من النار سماه الله الضريع‏
و قال أبو الدرداء و الحسن إن الله يرسل على أهل النار الجوع حتى يعدل عندهم ما هم فيه من العذاب فيستغيثون فيغاثون بطعام ذي غصة فيذكرون أنهم كانوا يجيزون الغصص في الدنيا بالماء فيستقون فيعطشهم الله سبحانه ألف سنة ثم يسقون من عين آنية شربة لا هنيئة و لا مريئة كلما أدنوه إلى وجوههم سلخ جلود وجوههم و شواها فإذا وصل إلى بطونهم قطعها فذلك قوله وَ سُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ و لما نزلت هذه الآية قال المشركون إن إبلنا لتسمن على الضريع و كذبوا في ذلك لأن الإبل لا ترعاه فقال الله سبحانه تكذيبا لهم «لا يُسْمِنُ وَ لا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ» أي لا يدفع جوعا و لا يسمن أحدا قال الحسن لا أدري ما الضريع لم أسمع من أصحاب محمد ص شيئا فيه و قيل هو سم عن مجاهد و قتادة و قيل ضريع بمعنى مضرع أي يضرعهم و يذلهم و قيل يسمى ضريعا لأن آكله يضرع في الإعفاء منه لخشونته و شدة كراهته عن كيسان و قيل هو الحجارة عن سعيد بن جبير ثم وصف سبحانه أهل الجنة فقال «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ» أي‏

726
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 725

منعمة في أنواع اللذات ظاهر عليها إثر النعمة و السرور و مضيئة مشرقة «لِسَعْيِها» في الدنيا «راضِيَةٌ» حين أعطيت الجنة بعملها و المعنى لثواب سعيها و عملها من الطاعات راضية يريد أنه لما ظهر نفع أعمالهم و جزاء عباداتهم رضوه و حمدوه و هذا كما يقال عند الصباح يحمد القوم السري «فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ» أي مرتفعة القصور و الدرجات و قيل إن علو الجنة على وجهين علو الشرف و الجلالة و علو المكان و المنزلة بمعنى أنها مشرفة على غيرها و هي أنزه ما تكون و الجنة درجات بعضها فوق بعض كما أن النار دركات «لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً» أي كلمة ساقطة لا فائدة فيها و قيل لاغية ذات لغو كقولهم نابل و دارع أي ذو نبل و درع قال الحطيئة:
         " و غررتني و زعمت أنك لابن بالصيف تأمر"
 «فِيها» أي في تلك الجنة «عَيْنٌ جارِيَةٌ» قيل إنه اسم جنس و لكل إنسان في قصره من الجنة عين جارية من كل شراب يشتهيه و في العيون الجارية من الحسن و اللذة و المنفعة ما لا يكون في الواقفة و لذلك وصف بها عيون أهل الجنة و قيل إن عيون أهل الجنة تجري في غير أخدود و تجري كما يريد صاحبها «فِيها» أي في تلك الجنة «سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ» قال ابن عباس ألواحها من ذهب مكللة بالزبرجد و الدر و الياقوت مرتفعة ما لم يجي‏ء أهلها فإذا أراد أن يجلس عليها تواضعت له حتى يجلس عليها ثم ترتفع إلى موضعها و السرر جمع سرير و هو مجلس السرور و قيل إنما رفعت ليرى المؤمنون بجلوسهم عليها جميع ما حولهم من الملك «وَ أَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ» على حافات العيون الجارية كلما أراد المؤمن شربها وجدها مملوءة و هي الأباريق ليس لها خراطيم و لا عرى تتخذ للشراب و قيل هي أواني الشراب من الذهب و الفضة و الجواهر بين أيديهم و يشربون بها ما يشتهونه من الأشربة و يتمتعون بالنظر إليها لحسنها «وَ نَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ» أي وسائد يتصل بعضها ببعض على هيئة مجالس الملوك في الدنيا «وَ زَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ» و هي البسط الفاخرة و الطنافس المخملة و المبثوثة المبسوطة المنشورة و يجوز أن يكون المعنى أنها مفرقة في المجالس و
عن عاصم بن ضمرة عن علي (ع) أنه ذكر أهل الجنة فقال يجيئون فيدخلون فإذا أسس بيوتهم من جندل اللؤلؤ و سرر مرفوعة و أكواب موضوعة و نمارق مصفوفة و زرابي مبثوثة و لو لا أن الله تعالى قدرها لهم لالتمعت أبصارهم بما يرون و يعانقون الأزواج و يعقدون على السرر و يقولون الحمد لله الذي هدانا لهذا
قال قتادة و لما نعت الله الجنة و ما فيها عجب من ذلك أهل الضلال فأنزل الله سبحانه «أَ فَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ» و كانت عيشا من عيشهم فيقول أ فلا يتفكرون فيها و ما يخرج الله من ضروعها من بين فرث و دم لبنا خالصا سائغا للشاربين يقول كما صنعت هذا لهم فكذلك أصنع لأهل الجنة في الجنة و قيل معناه أ فلا يعتبرون بنظرهم إلى الإبل و ما ركبه الله عليه من عجيب الخلق فإنه مع‏

727
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 725

عظمته و قوته يذلله الصغير فينقاد له بتسخير الله إياه لعباده فيبركه و يحمل عليه ثم يقوم و ليس ذلك في غيره من ذوات الأربع فلا يحمل على شي‏ء منها إلا و هو قائم فأراهم الله سبحانه هذه الآية فيه ليستدلوا على توحيده بذلك عن أبي عمرو بن العلاء و الزجاج و سأل الحسن عن هذه الآية و قيل له الفيل أعظم من الإبل في الأعجوبة فقال أما الفيل فالعرب بعيدو العهد بها ثم هو خنزير لا يركب ظهرها و لا يؤكل لحمها و لا يحلب درها و الإبل من أعز مال العرب و أنفسه تأكل النوى و ألقت و تخرج اللبن و يأخذ الصبي بزمامها فيذهب بها حيث شاء مع عظمها في نفسها و يحكى أن فأرة أخذت بزمام ناقة فأخذت تجرها و هي تتبعها حتى دخلت الحجر فجرت الزمام فبركت الناقة فجرت فقربت فمها من جحر الفأر.
 «وَ إِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ» أي كيف رفعها الله فوق الأرض و جعل بينهما هذا الفضاء الذي به قوام الخلق و حياتهم ثم إلى ما خلقه فيها من بدائع الخلق من الشمس و القمر و الكواكب و علق بها منافع الخلق و أسباب معايشهم «وَ إِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ» أي أ و لا يتفكرون في خلق الله سبحانه الجبال أوتادا للأرض و مسكنة لها و أنه لولاها لمادت الأرض بأهلها «وَ إِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ» أي كيف بسطها الله و وسعها و لو لا ذلك لما صح الاستقرار عليها و الانتفاع بها و هذه من نعم الله سبحانه على عباده لا توازيها نعمة منعم و فيها دلائل على توحيده و لو تفكروا فيها لعلموا أن لهم صانعا صنعهم و موجدا أوجدهم و لما ذكر سبحانه الأدلة أمر نيته بالتذكير بها فقال «فَذَكِّرْ» يا محمد و التذكير التعريف للذكر بالبيان الذي يقع به الفهم و النفع بالتذكير عظيم لأنه طريق للعلم بالأمور التي يحتاج إليها «إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ» لهم بنعم الله تعالى عندهم و بما يجب عليهم في مقابلتها من الشكر و العبادة و قد أوضح الله تعالى طريق الحجج في الدين و أكده غاية التأكيد بما لا يسع فيه التقليد بقوله «إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ» و قوله وَ ذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى‏ تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ و قوله إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ و لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ و يَتَفَكَّرُونَ* و قيل إن المراد فذكرهم بهذه الأدلة و أمرهم بالاستدلال بها و نبههم عليها عن الجبائي و أبي مسلم «لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ» معناه لست عليهم بمتسلط تسليطا يمكنك أن تدخل الإيمان في قلوبهم و تجبرهم عليه و إنما الواجب عليك الإنذار فاصبر على الإنذار و التبليغ و الدعوة إلى الحق و قيل معناه لست عليهم بمتسلط الآن حتى تقاتلهم إن خالفوك و كان هذا قبل نزول آية الجهاد ثم نسخ بالأمر بالقتال و الوجه الصحيح أنه لا نسخ فيه لأن الجهاد ليس بأكره للقلوب و المراد أنك إنما بعثت للتذكير و ليس عليك من ترك قبولهم شي‏ء «إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَ كَفَرَ» أي أعرض عن الذكر و لم يقبل منك و كفر بالله و بما جئت به فكل أمره إلى الله عن الحسن و قيل معناه إلا من تولى و كفر فلست له بمذكر لأنه لا يقبل منك فكأنك لست تذكره «فَيُعَذِّبُهُ اللَّه‏

728
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 725

الْعَذابَ الْأَكْبَرَ» و هو الخلود في النار و لا عذاب أعظم منها ثم ذكر سبحانه أن مرجعهم إليه فقال «إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ» أي مرجعهم و مصيرهم بعد الموت «ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ» أي جزاءهم على أعمالهم فهذا جامع بين الوعد و الوعيد و معناه لا يهمنك أمرهم فإنهم و إن عاندوك و آذوك فمصير جميعهم إلى حكمنا لا يفوتوننا و مجازاتهم علينا و عن قريب تقر عينك بما تراه في أعدائك.
النظم‏
يسأل كيف يتصل ذكر الإبل و ما بعدها بذكر وصف الجنان و نعيمها (و الجواب) إنه يتصل بأول السورة و الضمير في قوله «يَنْظُرُونَ» عائد إلى الذين وصفهم بقوله «عامِلَةٌ ناصِبَةٌ» و أنه لما ذكر عقابهم و ثواب المؤمنين عاد عليهم بالاحتجاج بالإبل و السماء و الأرض و الجبال و كيفية دلالتها على وجود الصانع الحكيم يريد هلا نظر هؤلاء في صنائع الله فيعرفونه و يعبدونه عن أبي مسلم و قيل إنه لما ذكر سرر الجنة و ارتفاعها تعجبوا من ذلك و قالوا كيف يصعد عليها فأراهم الله سبحانه الإبل و أنه كيف سخرت لبني آدم مع عظمها حتى أنيخت للحمل عليها و تقوم بعد ذلك و كيف أحكم الله خلق السماوات و الأرض و الجبال ردا على أولئك القوم و إنما خص سبحانه هذه الأشياء بالذكر لاستواء الناس كلهم في معرفتها.

729
مجمع البيان في تفسير القرآن10

سورة الفجر مكية و آياتها ثلاثون ص 730

(89) سورة الفجر مكية و آياتها ثلاثون (30)
[توضيح‏]
مكية اثنتان و ثلاثون آية حجازي و ثلاثون كوفي شامي و تسع و عشرون بصري.
اختلافها
أربع آيات «وَ نَعَّمَهُ» «فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ» كلتهما حجازي «بِجَهَنَّمَ» حجازي شامي «فِي عِبادِي» كوفي.
فضلها
أبي بن كعب عن النبي ص قال و من قرأها في ليال عشر غفر الله له و من قرأها سائر الأيام كانت له نورا يوم القيامة
و
روى داود بن فرقد عن أبي عبد الله (ع) قال اقرأوا سورة الفجر في فرائضكم و نوافلكم فإنها سورة الحسين بن علي (ع) من قرأها كان مع الحسين بن علي (ع) يوم القيامة في درجته من الجنة.
تفسيرها
ختم الله سبحانه تلك السورة بأن إياب الخلق إليه و حسابهم عليه و افتتح هذه السورة بتأكيد ذلك المعنى حين أقسم أنه بالمرصاد فقال:

730
مجمع البيان في تفسير القرآن10

سورة الفجر الآيات 1 الى 30 ص 731

[سورة الفجر (89): الآيات 1 الى 30]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏
وَ الْفَجْرِ (1) وَ لَيالٍ عَشْرٍ (2) وَ الشَّفْعِ وَ الْوَتْرِ (3) وَ اللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (4)
هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (6) إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ (8) وَ ثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ (9)
وَ فِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (14)
فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَ نَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَ أَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ (16) كَلاَّ بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَ لا تَحَاضُّونَ عَلى‏ طَعامِ الْمِسْكِينِ (18) وَ تَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا (19)
وَ تُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا (20) كَلاَّ إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَ جاءَ رَبُّكَ وَ الْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَ جِي‏ءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَ أَنَّى لَهُ الذِّكْرى‏ (23) يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (24)
فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ (25) وَ لا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ (26) يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلى‏ رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبادِي (29)
وَ ادْخُلِي جَنَّتِي (30)

القراءة
قرأ أهل الكوفة غير عاصم و الوتر بكسر الواو و الباقون بالفتح و قرأ أبو جعفر و ابن عامر فقدر بالتشديد و الباقون بالتخفيف و قرأ لا يكرمون بالياء و كذلك ما بعده أهل البصرة و الباقون بالتاء و قرأ لا تحاضون أهل الكوفة و أبو جعفر و قرأ لا يعذب و لا يوثق بالفتح الكسائي و يعقوب و سهل و الباقون «لا يُعَذِّبُ» و «لا يُوثِقُ» و قرأ أهل المدينة و أبو عمرو و قتيبة عن‏

731
مجمع البيان في تفسير القرآن10

القراءة ص 731

الكسائي و الليل إذا يسري بإثبات الياء في الوصل و حذفها في الوقف و قرأ ابن كثير و يعقوب بإثبات الياء في الوصل و الوقف و الباقون بالحذف فيهما و قرأ القواس و البزي و يعقوب بالوادي بإثبات الياء في الوصل و الوقف و ورش بإثباتها في الوصل و حذفها في الوقف و الباقون بحذفها في الوصل و الوقف و قرأ أهل المدينة أكرمني و أهانني بإثبات الياء في الوصل و حذفها في الوقف و القواس و البزي و يعقوب بإثبات الياء في الوصل و الوقف و أبو عمرو لا يبالي كيف قرأ بالياء و غير الياء و روى العياشي عنه بحذف الياء من غير تخيير و الباقون بحذف الياء في الحرفين في الوصل و الوقف و في الشواذ قراءة ابن عباس بعاد إرم ذات العماد و روي ذلك عن الضحاك أيضا و قراءة ابن عباس و عكرمة و الضحاك و ابن السميقع فادخلي في عبدي.
الحجة
قال أبو علي حدثنا محمد بن السري أن الأصمعي قال لكل فرد وتر و أهل الحجاز يفتحون فيقولون وتر في الفرد و يكسرون الوتر في الذحل و قيس و تميم يسوونهما في الكسر و يقولون في الوتر الذي هو الإفراد أوترت و أنا أوتر إيثارا أي جعلت أمري وترا و في الذحل وترته أتره وترا وترة قال أبو بكر وترته في الذحل إنما هو أفردته من أهله و ماله و من قرأ يكرمون و ما بعده بالياء فلما تقدم من ذكر الإنسان و المراد به الجنس و الكثرة على لفظ الغيبة و لا يمتنع في هذه الأشياء الدالة على الكثرة أن يحمل على اللفظ مرة و على المعنى أخرى و من قرأ بالتاء فعلى معنى قل لهم ذلك و معنى لا تحضون على طعام المسكين لا تأمرون به و لا تبعثون عليه «وَ لا تَحَاضُّونَ» تتفاعلون منه و قوله «لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ» معناه لا يعذب تعذيبه فوضع العذاب موضع التعذيب كما وضع العطاء موضع الإعطاء في قوله‏
         " و بعد عطائك المائة الرتاعا"
فالمصدر الذي هو عذاب مضاف إلى المفعول به مثل دعاء الخير و المفعول به الإنسان المتقدم ذكره في قوله «يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ» و الوصاق أيضا موضع الإيثاق فأما من قرأ لا يعذب فقد قيل إن المعنى فيه أنه لا يتولى عذاب الله تعالى يومئذ أحد و الأمر يومئذ أمره و لا أمر لغيره هذا قول و قد قيل أيضا لا يعذب أحد في الدنيا مثل عذاب الله في الآخرة و كان الذي حمل قائل هذا القول على أن قاله إنه إن حمله على ظاهره كان المعنى لا يعذب أحد في الآخرة مثل عذاب الله و معلوم أنه لا يعذب أحد في الآخرة مثل‏

732
مجمع البيان في تفسير القرآن10

الحجة ص 732

عذاب الله إنما المعذب الله تعالى فعدل عن الظاهر لذلك.
و لو قيل إن المعنى فيومئذ لا يعذب أحد أحدا تعذيبا مثل تعذيب الكافر المتقدم ذكره فأضيف المصدر إلى المفعول به كما أضيف إليه في القراءة الأولى و لم يذكر الفاعل كما لم يذكره في مثل قوله تعالى مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ لكان المعنى في القراءتين سواء و الذي يرد بأحد الملائكة الذين يتولون تعذيب أهل النار و يكون ذلك كقوله يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى‏ وُجُوهِهِمْ و قوله وَ لَوْ تَرى‏ إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَ أَدْبارَهُمْ و قوله «وَ لَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ» لا شبهة أن يكون هذا القول أولى و الفاعل له هم الملائكة قال و وجه قول من قال يسري بالياء وصل أو وقف إن الفعل لا يحذف منه في الوقف كما يحذف من الأسماء نحو قاض و غاز فتقول هو يقضي و أنا أقضي فتثبت الياء و لا تحذف كما تحذف من الاسم نحو هذا قاض و ليس إثبات الياء بالأحسن في الوقف من الحذف و ذلك أنها فاصلة و جميع ما لا يحذف في الكلام و ما يختار فيه أن لا يحذف نحو القاضي بالألف و اللام يحذف إذا كان في قافية أو فاصلة قال سيبويه: و الفاصلة نحو «وَ اللَّيْلِ إِذا يَسْرِ» و يَوْمَ التَّنادِ و الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ فإذا كان شي‏ء من ذلك في كلام تام شبه بالفاصلة فحسن حذفها نحو قوله «ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ» فإن قلت كيف كان الاختيار فيه أن يحذف إذا كان في فاصلة أو قافية و هذه الحروف من أنفس الكلم و هلا لم يستحسن حذفها كما أثبت سائر الحروف و لم يحذف و القول في ذلك أن الفواصل و القوافي في مواضع الوقف و الوقف موضع تغير فلما كان الوقف تغير فيه الحروف الصحيحة بالتضعيف و الإسكان و روم الحركة غيرت فيه هذه الحروف المشابهة للزيادة بالحذف أ لا ترى أن النداء لما كان في موضع حذف بالترخيم و الحذف للحروف الصحيحة ألزموا الحذف في أكثر الكلام للحرف المتغير و هو تاء التأنيث فكذلك ألزم الحذف في الوقف لهذه الحروف المتغيرة فجعل تغييرها الحذف و لما يراع فيها ما روعي في الحروف الصحيحة فسووا بينها و بين الزائد في الحذف للجزم نحو لم يغز و لم يرم و لم يخش و أجروها مجرى الزائد في الإطلاق نحو
         " و بعض القوم يخلق ثم لا يفري"
و ما يمر و ما يحلو كما قالوا
         " أقوين من حجج و من دهر"
فلذلك اختير فيها الحذف في الفواصل و القوافي و كذلك قوله «جابُوا

733
مجمع البيان في تفسير القرآن10

الحجة ص 732

الصَّخْرَ بِالْوادِ» الأوجه فيه الحذف إذا كانت فاصلة و إن كان الأحسن إذا لم تكن فاصلة الإثبات و من قرأ في الوصل يسري بالياء و في الوقف بغير ياء فإنه ذهب إلى أنه إذا لم يقف عليها صار بمنزلة غيرها من المواضع التي لا يوقف عليها فلم تحذف من الفاصلة إذا لم يقف عليها كما لم يحذف من غيرها و حذفها إذا وقف عليها من أجل الوقف و من قرأ «أَكْرَمَنِ» و «أَهانَنِ» بغير ياء في وصل و لا وقف فهو كمن قرأ «يَسْرِ» في الوصل و الوقف لأن ما قبلها كسرة في فاصلة و من قرأهما بياء في الوصل كمثل من قرأ يسري في الوصل بإثبات الياء و بحذفها في الوقف و رواية سيبويه عن أبي عمرو أنه قرأ «رَبِّي أَكْرَمَنِ» و «رَبِّي أَهانَنِ» على الوقف و من قرأ أرم ذات العماد فالمعنى جعلها رميما رمت هي و استرمت و أرمها غيرها قال ابن جني و أما القراءة «بِعادٍ إِرَمَ» فعلى أنه أراد أهل إرم هذه المدينة فحذف المضاف و هو يريده كقوله تعالى بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ أي بزينة الكواكب قال و قوله في عبدي لفظه لفظ الواحد و معناه الجمع أي عبادي و ذلك أنه جعل عبادي كالواحد أي لا خلاف بينهم في عبوديته كما لا يخالف الإنسان فيصير
كقول النبي ص و هم يد على من سواهم‏
و قال غيره معناه فادخلي في جسم عبدي.
اللغة
الفجر شق عمود الصبح فجرة الله لعباده فجرا إذا أظهره في أفق المشرق مبشرا بإدبار الليل المظلم و إقبال النهار المضي‏ء و هما فجران (أحدهما) الفجر المستطيل و هو الذي يصعد طولا كذنب السرحان و لا حكم له في الشرع (و الآخر) هو المستطير المنتشر في أفق السماء و هو الذي يحرم عنده الأكل و الشرب لمن أراد أن يصوم في شهر رمضان و هو ابتداء اليوم و الحجر العقل و أصله المنع يقال حجر القاضي على فلان ماله أي منعه من التصرف فيه فالعقل يمنع من المقبحات و يزجر عن فعلها و العماد جمعه عمد و هو ما تبنى به الأبنية و يستعمل في القوة و الشرق يقال فلان رفيع العماد قال:
         و نحن إذا عماد البيت خرت             على الأخفاض نمنع من يلينا
و الجواب القطع قال النابغة:
         أتاك أبو ليلى تجوب به الدجى             دجى الليل جواب الفلاة غشمشم‏
و الغشمشم الطويل و السوط معروف قال الفراء السوط اسم للعذاب و إن لم يكن ثم ضرب بسوط و أصل السوط خلط الشي‏ء بعضه ببعض فكان السوط قسط عذاب يخالط اللحوم و الدماء كما يخالطهما السوط قال الشاعر:
         أ حارث أنا لو تساط دماؤنا             تزايلن حتى لا يمس دم دما

734
مجمع البيان في تفسير القرآن10

اللغة ص 734

و المرصاد الطريق مفعال من رصده يرصده رصدا إذا راعى ما يكون منه ليقابله بما يقتضيه و اللم الجمع و لممت ما على الخوان ألمه لما إذا أكلته أجمع كأنه يأكل ما ألم به و لا يميز شيئا من شي‏ء و الجم الكثير العظيم و جمة الماء معظمه و جم الماء في الحوض إذا اجتمع و كثر قال زهير:
         فلما وردن الماء زرقا جمامة             وضعن عصي الحاضر المتخيم‏
و الدك حط المرتفع بالبسط يقال اندك سنام البعير إذا انفرش في ظهره و ناقة دكاء إذا كانت كذلك و منه الدكان لاستوائه قال:
         ليت الجبال تداعت عند مصرعها             دكا فلم يبق من أحجارها حجر
و الوثاق الشد و أوثقته شددته.
الإعراب‏
جواب القسم قوله «إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ» و قيل جوابه محذوف تقديره ليقبضن على كل ظالم أو لينتصفن كل مظلوم من ظالمة أ ما رأيت كيف فعلنا بعاد و فرعون و ثمود لما ظلموا و أجري إرم على عاد عطف بيان أو على البدل و لا يجوز أن يكون صفة لأنه غير مشتق و إنما لا ينصرف إرم للتعريف و التأنيث أ لا ترى إلى قوله «ذاتِ الْعِمادِ» و من أضاف فقال بعاد إرم في الشواذ فإنه عنده بمنزلة قولهم زيد بطة لأنه لقب فيضاف إليه الاسم و ثمود في موضع جر أي و بثمود لا ينصرف لأنه أعجمي معرفة على طعام المسكين تقديره على إطعام طعام المسكين فحذف المضاف و يجوز أن يكون طعام اسما أقيم مقام الإطعام كقول لبيد:
         باكرت حاجتها الدجاج بسحرة             لأعل منها حين هب نيامها
أي لاحتياجي إليها فهو مفعول له و التراث أصله الوارث من ورثت و لكن التاء تبدل من الواو و مثله تجاه أصله وجاه من واجهه و جواب إذا في قوله «إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ» قوله «فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ» و قوله «صَفًّا صَفًّا» مصدر وضع موضع الحال أي مصطفين.
المعنى‏
 «وَ الْفَجْرِ» أقسم الله سبحانه بفجر النهار و هو انفجار الصبح كل يوم عن‏

735
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 735

عكرمة و الحسن و الجبائي و رواه أبو صالح عن ابن عباس و قيل هو فجر ذي الحجة لأن الله تعالى قرن الأيام به فقال «وَ لَيالٍ عَشْرٍ» و هي عشر ذي الحجة عن مجاهد و الضحاك و قيل فجر أول المحرم لأنه تتجدد عنده السنة عن قتادة و قيل يريد فجر يوم النحر لأنه يقع فيه القربان و يتصل بالليالي العشر عن أبي مسلم و قيل أراد بالفجر النهار كله عن ابن عباس و
ليال عشر يعني العشر من ذي الحجة عن ابن عباس و الحسن و قتادة و مجاهد و الضحاك و السدي و روي ذلك مرفوعا
شرفها الله ليسارع الناس فيها إلى عمل الخير و قيل هي العشر الأواخر من شهر رمضان في رواية أخرى عن ابن عباس و قيل إنها عشر موسى للثلاثين ليلة التي أتمها الله بها «وَ الشَّفْعِ وَ الْوَتْرِ» يعني الزوج و الفرد من العدد كله عن الحسن قال أبو مسلم هو تذكير بالحساب لعظم ما فيه من النفع و النعم بما يضبط به من المقادير و قيل الشفع و الوتر كل ما خلقه الله تعالى لأن جميع الأشياء إما زوج و إما فرد عن ابن زيد و الجبائي و
قيل الشفع الخلق لأنه قال وَ خَلَقْناكُمْ أَزْواجاً و الوتر الله تعالى عن عطية العوفي و أبي صالح و ابن عباس و مجاهد و هي رواية أبي سعيد الخدري عن النبي ص‏
و
قيل الشفع و الوتر الصلاة و منه شفع و منها وتر و هي رواية ابن حصين عن النبي ص‏
و
قيل الشفع يوم النحر و الوتر يوم عرفة عن ابن عباس و عكرمة و الضحاك و هي رواية جابر عن النبي ص‏
و الوجه فيه أن يوم النحر يشفع بيوم نفر بعده و ينفرد يوم عرفة بالموقف و
قيل الشفع يوم التروية و الوتر يوم عرفة و روي ذلك عن أبي جعفر و أبي عبد الله (ع)
و قيل إن الشفع و الوتر في قول الله عز و جل فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَ مَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ فالشفع النفر الأول و الوتر يوم النفر الأخير و هو الثالث و أما الليالي العشر فالثماني من ذي الحجة و عرفة و النحر عن ابن الزبير و قيل الوتر آدم شفع بزوجته عن ابن عباس و قيل الشفع الأيام و الليالي و الوتر اليوم الذي لا ليل بعده و هو يوم القيامة عن مقاتل بن حيان و قيل الشفع صفات المخلوقين و تضادها العز و الذل و الوجود و العدم و القدرة و العجز و العلم و الجهل و الحياة و الموت و الوتر صفة الله تعالى إذ هو الموجود لا يجوز عليه العدم و القادر لا يجوز عليه العجز و العالم لا يجوز عليه الجهل و الحي لا يجوز عليه الموت و قيل الشفع علي و فاطمة (ع) و الوتر محمد ص و قيل الشفع الصفا و المروة و الوتر البيت الحرام «وَ اللَّيْلِ إِذا يَسْرِ» اختلفوا في المراد به على وجهين (أحدهما) أنه أراد جنس الليالي كما قال وَ اللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ أقسم بالليل إذا يمضي بظلامه فيذهب حتى ينقضي بالضياء المبتدئ ففي سيره على المقادير المرتبة و مجيئه بالضياء عند تقضيه أدل دلالة على أن فاعله يختص بالعز و الجلال و يتعالى عن الأشباه و الأمثال و قيل إنه إنما أضاف السير إليه لأن الليل يسير بمسير الشمس في الفلك و انتقالها من أفق إلى أفق و قيل إذا يسري إذا جاء

736
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 735

و أقبل إلينا و يريد كل ليلة عن قتادة و الجبائي و الوجه الآخر أن المراد به ليلة بعينها تمييزا لها من بين الليالي ثم قيل إنها ليلة المزدلفة لاختصاصها باجتماع الناس فيها بطاعة الله تعالى و فيها يسري الحاج من عرفة إلى المزدلفة ثم يصلي الغداة بها و يغدو منها إلى منى عن مجاهد و عكرمة و الكلبي «هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ» أي هل فيما ذكر من الأقسام مقنع لذي عقل و لب يعقل القسم و المقسم به و هذا تأكيد و تعظيم لما وقع القسم به و المعنى أن من كان ذا لب علم أن ما أقسم الله به من هذه الأشياء فيه عجائب و دلائل على توحيد الله توضح عن عجائب صنعه و بدائع حكمته ثم اعترض بين القسم و جوابه بقوله «أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ» و هذا خطاب للنبي ص و تنبيه للكفار على ما فعله سبحانه بالأمم السالفة لما كفرت بالله و بأنبيائه و كانت أطول أعمارا و أشد قوة و عاد قوم هود و اختلفوا في إرم على أقوال (أحدها) أنه اسم لقبيلة قال أبو عبيدة هما عادان فالأولى هي إرم و هي التي قال الله تعالى فيهم وَ أَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى‏ و قيل هو جد عاد و هو عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح عن محمد بن إسحاق و قيل هو سام بن نوح نسب عاد إليه عن الكلبي و قيل إرم قبيلة من قوم عاد كان فيهم الملك و كانوا بمهرة و كان عاد أباهم عن مقاتل و قتادة (و ثانيها) أن إرم اسم بلد ثم قيل هو دمشق عن ابن سعيد المقري و سعيد بن المسيب و عكرمة و قيل هو مدينة الإسكندرية عن محمد بن كعب القرظي و قيل هو مدينة بناها شداد بن عاد فلما أتمها و أراد أن يدخلها أهلكه الله بصيحة نزلت من السماء (و ثالثها) أنه ليس بقبيلة و لا بلد بل هو لقب لعاد و كان عاد يعرف به عن الجبائي و روي عن الحسن أنه قرأ بعاد إرم على الإضافة و قيل هو اسم آخر لعاد و كان له اسمان و من جعله بلدا فالتقدير في الآية بعاد صاحب إرم و قوله «ذاتِ الْعِمادِ» يعني أنهم كانوا أهل عمد سيارة في الربيع فإذا هاج النبت رجعوا إلى منازلهم عن ابن عباس في رواية عطاء و الكلبي عن قتادة و قيل معناه ذات الطول و الشدة عن ابن عباس و مجاهد من قول العرب رجل معمد للطويل و رجل طويل العماد أي القامة ثم وصفهم سبحانه فقال «الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ» أي لم يخلق في البلاد مثل تلك القبيلة في الطول و القوة و عظم الأجسام و هم الذين قالوا من أشد منا قوة و روي أن الرجل منهم كان يأتي بالصخرة فيحملها على الحي فيهلكهم و قيل ذات العماد أي ذات الأبنية العظام المرتفعة عن الحسن و قال ابن زيد ذات العماد في أحكام البنيان التي لم يخلق مثلها أي مثل أبنيتها في البلاد.
[قصة إرم ذات العماد]
قال وهب بن منبه خرج عبد الله بن قلابة في طلب إبل له شردت فبينا هو في صحاري‏

737
مجمع البيان في تفسير القرآن10

قصة إرم ذات العماد ص 737

عدن إذ هو قد وقع في مدينة في تلك الفلوات عليها حصن و حول الحصن قصور كثيرة و أعلام طوال فلما دنا منها ظن أن فيها أحدا يسأله عن إبله فنزل عن دابته و عقلها و سل سيفه و دخل من باب الحصن فلما دخل الحصن فإذا هو ببابين عظيمين لم ير أعظم منهما و البابان مرصعان بالياقوت الأبيض و الأحمر فلما رأى ذلك دهش ففتح أحد البابين فإذا هو بمدينة لم ير أحد مثلها و إذا هو قصور كل قصر فوقه غرف و فوق الغرف غرف مبنية بالذهب و الفضة و اللؤلؤ و الياقوت و مصاريع تلك الغرف مثل مصراع المدينة يقابل بعضها بعضا مفروشة كلها باللآلئ و بنادق من مسك و زعفران فلما رأى الرجل ما رأى و لم ير فيها أحدا هاله ذلك ثم نظر إلى الأزقة فإذا هو بشجر في كل زقاق منها قد أثمرت تلك الأشجار و تحت الأشجار أنهار مطردة يجري ماؤها من قنوات من فضة كل قناة أشد بياضا من الشمس فقال الرجل و الذي بعث محمدا ص بالحق ما خلق الله مثل هذه في الدنيا و إن هذه هي الجنة التي وصفها الله تعالى في كتابه فحمل معه من لؤلؤها و من بنادق المسك و الزعفران و لم يستطع أن يقلع من زبرجدها و من ياقوتها شيئا و خرج و رجع إلى اليمن فأظهر ما كان معه و علم الناس أمره فلم يزل ينمو أمره حتى بلغ معاوية خبره فأرسل في طلبه حتى قدم عليه فقص عليه القصة فأرسل معاوية إلى كعب الأحبار فلما أتاه قال يا أبا إسحاق هل في الدنيا مدينة من ذهب و فضة قال نعم أخبرك بها و بمن بناها إنما بناها شداد بن عاد فأما المدينة فارم ذات العماد التي وصفها الله تعالى في كتابه و هي التي لم يخلق مثلها في البلاد قال معاوية فحدثني حديثها فقال إن عادا الأولى ليس بعاد قوم هود و إنما هود و قوم هود ولد ذلك و كاد عاد له ابنان شداد و شديد فهلك عاد فبقيا و ملكا فقهرا البلاد و أخذاها عنوة ثم هلك شديد و بقي شداد فملك وحده و دانت له ملوك الأرض فدعته نفسه إلى بناء مثل الجنة عتوا على الله سبحانه فأمر بصنعة تلك المدينة إرم ذات العماد و أمر على صنعتها مائة قهرمان مع كل قهرمان ألف من الأعوان و كتب إلى كل ملك في الدنيا أن يجمع له ما في بلاده من الجواهر و كان هؤلاء القهارمة أقاموا في بنيانها مدة طويلة فلما فرغوا منها جعلوا عليها حصنا و حول الحصن ألف قصر ثم سار الملك إليها في جنده و وزرائه فلما كان منها على مسيرة يوم و ليلة بعث الله عز و جل عليه و على من معه صيحة من السماء فأهلكتهم جميعا و لم يبق منهم أحدا و سيدخلها في زمانك رجل من المسلمين أحمر أشقر قصير على حاجبه خال و على عنقه خال يخرج في طلب إبل له في تلك الصحاري و الرجل عند معاوية فالتفت كعب إليه و قال هذا و الله ذلك الرجل‏
[المعنى‏]
ثم قال سبحانه «وَ ثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ» أي و كيف فعل بثمود الذين قطعوا الصخر و نقبوها بالوادي الذي كانوا ينزلونه يعني وادي القرى قال ابن عباس كانوا ينحتون الجبال‏

738
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 738

فيجعلون منها بيوتا كما قال الله تعالى وَ تَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ «وَ فِرْعَوْنَ» أي و كيف فعل فرعون الذي أرسل إليه موسى «ذِي الْأَوْتادِ» أي ذي الجنود الذين كانوا يشيدون أمره عن ابن عباس و سماهم أوتادا لأنهم قواد عسكره الذين بهم قوام أمره و قيل كان يشد الرجل بأربعة أوتاد على الأرض إذا أراد تعذيبه و يتركه حتى يموت عن مجاهد و عن ابن مسعود قال وتد امرأته بأربعة أوتاد ثم جعل على ظهرها رحى عظيمة حتى ماتت و قد مر بيانه في سورة ص «الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ» يعني عادا و ثمود و فرعون طغوا أي تجبروا في البلاد على أنبياء الله و عملوا فيها بمعصية الله «فَأَكْثَرُوا فِيهَا» أي في الأرض أو في البلاد «الْفَسادَ» أي القتل و المعصية عن الكلبي ثم بين سبحانه ما فعله بهم عاجلا بأن قال «فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ» أي فجعل سوطة الذي ضربهم به العذاب عن الزجاج و قيل معناه صب عليهم قسط عذاب كالعذاب بالسوط الذي يعرف أراد ما عذبوا به و قيل إن كل شي‏ء عذب الله به فهو سوط فأجري على العذاب اسم السوط مجازا عن قتادة شبه سبحانه العذاب الذي أحله بهم و ألقاه عليهم بانصباب السوط و تواتره على المضروب حتى يهلكه «إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ» أي عليه طريق العباد فلا يفوته أحد عن الكلبي و الحسن و عكرمة و المعنى أنه لا يفوته شي‏ء من أعمالهم لأنه يسمع و يرى جميع أقوالهم و أفعالهم كما لا يفوت من هو بالمرصاد و
روي عن علي (ع) أنه قال معناه إن ربك قادر على أن يجزي أهل المعاصي جزاءهم‏
و
عن الصادق (ع) أنه قال المرصاد قنطرة على الصراط لا يجوزها عبد بمظلمة عبد
و قال عطاء يعني يجازي كل واحد و ينتصف من الظالم للمظلوم و قيل لأعرابي أين ربك قال بالمرصاد و ليس يريد به المكان‏
فقد سئل علي (ع) أين كان ربنا قبل أن خلق السماوات و الأرض فقال أين سؤال عن مكان و كان الله و لا مكان‏
و روي عن ابن عباس في هذه الآية قال إن على جسر جهنم سبع محابس يسأل العبد عندها أولها عن شهادة أن لا إله إلا الله فإن جاء بها تامة جاز إلى الثاني فيسأل عن الصلاة فإن جاء بها تامة جاز إلى الثالث فيسأل عن الزكاة فإن جاء بها تامة جاز إلى الرابع فيسأل عن الصوم فإن جاء بها تامة جاز إلى الخامس فيسأل عن الحج فإن جاء به تاما جاز إلى السادس فيسأل عن العمرة فإن جاء بها تامة جاز إلى السابع فيسأل عن المظالم فإن خرج منها و إلا يقال انظروا فإن كان له تطوع أكمل به أعماله فإذا فرغ انطلق به إلى الجنة ثم قسم سبحانه أحوال البشر فقال «فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ» أي اختبره و امتحنه بالنعمة «فَأَكْرَمَهُ» بالمال «وَ نَعَّمَهُ» بما وسع عليه من أنواع الإفضال «فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ» فيفرح بذلك و يسر و يقول ربي أعطاني هذا لكرامتي عنده و منزلتي لديه أي يحسب أنه كريم على ربه حيث وسع الدنيا عليه «وَ أَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ» بالفقر و الفاقة «فَقَدَرَ» أي فضيق و

739
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 738

قتر «عَلَيْهِ رِزْقَهُ» و جعله على قدر البلغة «فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ» أي فيظن أن ذلك هوان من الله و يقول ربي أذلني بالفقر ثم قال «كَلَّا» أي ليس كما ظن فإني لا أغني المرء لكرامته علي و لا أفقره لمهانته عندي و لكني أوسع على من أشاء و أضيق على من أشاء بحسب ما توجبه الحكمة و يقتضيه الصلاح ابتلاء بالشكر و الصبر و إنما الإكرام على الحقيقة يكون بالطاعة و الإهانة تكون بالمعصية ثم بين سبحانه ما يستحق به الهوان فقال بل إنما أهنت من أهنت لأنهم عصوني.
ثم فصل العصيان فقال «بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ» و هو الطفل الذي لا أب له أي لا تعطونهم مما أعطاكم الله حتى تغنوهم عن ذل السؤال و خص اليتيم لأنهم لا كافل لهم يقوم بأمرهم و
قد قال ص أنا و كافل اليتيم كهاتين في الجنة و أشار بالسبابة و الوسطى‏
قال مقاتل: كان قدامة بن مظعون في حجر أمية بن خلف يتيما و كان يدفعه عن حقه فعلى هذا فإنه يحتمل معنيين (أحدهما) إنكم لا تحسنون إليه (و الآخر) إنكم لا تعطونه حقه من الميراث على ما جرت به عادة الكفار من حرمان اليتيم ما كان له من الميراث و لا تحضون على طعام المسكين أي و لا تحثون على إطعامه و لا تأمرون بالتصدق عليه و من قرأ «لا تَحَاضُّونَ» أراد لا يحض بعضكم بعضا على ذلك و المعنى أن الإهانة ما فعلتموه من ترك إكرام اليتيم و منع الصدقة من الفقير لا ما توهمتموه و قيل إن المراد إنما أعطيتكم المال لذلك فإذا لم تفعلوه فذلك يوجب إهانتكم «وَ تَأْكُلُونَ التُّراثَ» أي الميراث و قيل أموال اليتامى عن أبي مسلم قال و لم يرد الميراث الحلال لأنه لا يلام آكله عليه قال الحسن: يأكل نصيبه و نصيب اليتيم و ذلك أنهم كانوا لا يورثون النساء و الصبيان و يأكلون أموالهم و قيل يأكلون الميراث فيما يشتهون و لا يتفكرون في إخراج ما أوجب الله عليهم من الحقوق فيه «أَكْلًا لَمًّا» شديدا تلمون جميعه في الأكل و قيل هو أن يأكل نصيبه و نصيب غيره عن الحسن و قيل هو أن يأكل ما يجده و لا يفكر فيما يأكله من خبيث و طيب عن ابن زيد «وَ تُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا» أي كثيرا شديدا عن ابن عباس و مجاهد و المعنى تحبون جمع المال و تولعون به فلا تنفقونه في خير و قيل يحبون كثرة المال من فرط حرصهم فيجمعونه من غير وجهه و يصرفونه في غير وجهه و لا يتفكرون في العاقبة ثم قال سبحانه «كَلَّا» أي لا ينبغي أن يكون الأمر هكذا و قال مقاتل:
معناه لا يفعلون ما أمروا به في اليتيم و المسكين و قيل كلا زجر تقديره لا تفعلوا هكذا ثم خوفهم فقال «إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا» أي كسر كل شي‏ء على ظهرها من جبل أو بناء أو شجر حتى زلزلت فلم يبق عليها شي‏ء يفعل ذلك مرة بعد مرة و قيل دكت الأرض أي مدت يوم القيامة مد الأديم عن ابن عباس و قيل دقت جبالها و أنشازها حتى استوت عن ابن قتيبة و المعنى استوت في انفراشها و ذهب دورها و قصورها و سائر أبنيتها حتى تصير كالصحراء

740
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 738

الملساء «وَ جاءَ رَبُّكَ» أي أمر ربك و قضاؤه و محاسبته عن الحسن و الجبائي و قيل جاء أمره الذي لا أمر معه بخلاف حال الدنيا عن أبي مسلم و قيل جاء جلائل آياته فجعل مجيئها مجيئه تفخيما لأمرها و قال بعض المحققين: المعنى و جاء ظهور ربك لضرورة المعرفة به لأن ظهور المعرفة بالشي‏ء يقوم مقام ظهوره و رؤيته و لما صارت المعارف بالله في ذلك اليوم ضرورية صار ذلك كظهوره و تجليه للخلق فقيل جاء ربك أي زالت الشبهة و ارتفع الشك كما يرتفع عند مجي‏ء الشي‏ء الذي كان يشك فيه جل و تقدس عن المجي‏ء و الذهاب لقيام البراهين القاهرة و الدلائل الباهرة على أنه سبحانه ليس بجسم «وَ الْمَلَكُ» أي و تجي‏ء الملائكة «صَفًّا صَفًّا» يريد صفوف الملائكة و أهل كل سماء صف على حدة عن عطاء و قال الضحاك:
أهل كل سماء إذا زلزلوا يوم القيامة كانوا صفا محيطين بالأرض و بمن فيها فيكون سبع صفوف فذلك قوله «صَفًّا صَفًّا» و قيل معناه مصطفين كصفوف الناس في الصلاة يأتي الصف الأول ثم الصف الثاني ثم الصف الثالث ثم على هذا الترتيب لأن ذلك أشبه بحال الاستواء من التشويش فالتعديل و التقويم أولى «وَ جِي‏ءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ» أي و أحضرت في ذلك اليوم جهنم ليعاقب بها المستحقون لها و يرى أهل الموقف هولها و عظم منظرها و
روي مرفوعا عن أبي سعيد الخدري قال لما نزلت هذه الآية تغير وجه رسول الله ص و عرف في وجهه حتى اشتد على أصحابه ما رأوا من حاله و انطلق بعضهم إلى علي بن أبي طالب (ع) فقالوا يا علي لقد حدث أمر قد رأيناه في نبي الله ص فجاء علي (ع) فاحتضنه من خلفه و قبل بين عاتقيه ثم قال يا نبي الله بأبي أنت و أمي ما الذي حدث اليوم قال جاء جبرائيل (ع) فأقرأني «وَ جِي‏ءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ» قال فقلت كيف يجاء بها قال يجي‏ء بها سبعون ألف ملك يقودونها بسبعين ألف زمام فتشرد شردة لو تركت لأحرقت أهل الجمع ثم أتعرض لجهنم فتقول ما لي و لك يا محمد فقد حرم الله لحمك علي فلا يبقى أحد إلا قال نفسي نفسي و إن محمدا يقول رب أمتي أمتي‏
ثم قال سبحانه «يَوْمَئِذٍ» يعني يوما يجاء بجهنم «يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ» أي يتعظ و يتوب الكافر «وَ أَنَّى لَهُ الذِّكْرى‏» أي و من أين له التوبة عن الزجاج و قيل معناه يتذكر الإنسان ما قصر و فرط إذ يعلم يقينا ما قد توعد به فكيف ينفعه التذكر أثبت له التذكر ثم نفاه بمعنى أنه لا ينتفع به فكأنه لم يكن و كان ينبغي له أن يتذكر في وقت ينفعه ذلك فيه ثم حكى سبحانه ما يقول الكافر و المفرط الجاني على نفسه و يتمناه بقوله «يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي» أي يتمنى أن يكون قد كان عمل الطاعات و الحسنات لحياته بعد موته أو عملها للحياة التي تدوم له بقوله «يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي» العمل الصالح لآخرتي التي لا موت فيها ثم قال سبحانه «فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ» أي لا يعذب عذاب الله أحد من‏

741
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 738

الخلق «وَ لا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ» أي وثاق الله أحد من الخلق فالمعنى لا يعذب أحد في الدنيا مثل عذاب الله الكافر يومئذ و لا يوثق أحد في الدنيا بمثل وثاق الله الكافر يومئذ و أما القراءة بفتح العين في يعذب و يوثق‏
فقد وردت الرواية عن أبي قلابة قال أقرأني من أقرأه رسول الله ص فيومئذ لا يعذب عذابه أحد و لا يوثق وثاقه أحد
و المعنى لا يعذب أحد تعذيب هذا الكافر إن قلنا إنه كافر بعينه أو تعذيب هذا الصنف من الكفار و هم الذين ذكروا في قوله «لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ» الآيات و هذا و إن أطلق فالأولى أن يكون المراد التقييد لأنا نعلم أن إبليس أشد عذابا و وثاقا منه و قيل معناه لا يؤاخذ بذنبه غيره و التقدير لا يعذب أحد بعذابه لأنه المستحق بعذابه و لا يؤاخذ الله أحدا بجرم غيره «يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ» بالإيمان المؤمنة الموقنة المصدقة بالثواب و البعث و الطمأنينة حقيقة الإيمان عن الحسن و مجاهد و قيل المطمئنة الآمنة بالبشارة بالجنة عند الموت و يوم البعث عن ابن زيد و قيل النفس المطمئنة التي يبيض وجهها و يعطى كتابها بيمينها فحينئذ تطمئن عن الكلبي و أبي روق «ارْجِعِي إِلى‏ رَبِّكِ» أي يقال لها عند الموت عن أبي صالح و قيل عند البعث عن عكرمة و الضحاك ارجعي إلى ثواب ربك و ما أعده لك من النعيم عن الحسن و قيل ارجعي إلى الموضع الذي يختص الله سبحانه بالأمر و النهي فيه دون خلقه و قيل إن المراد ارجعي إلى صاحبك و جسدك فيكون الخطاب للروح أن ترجع إلى الجسد عن ابن عباس «راضِيَةً» بثواب الله «مَرْضِيَّةً» أعمالها التي عملتها و قيل راضية عن الله بما أعد الله لها مرضية رضي عنها ربها بما عملت من طاعته و قيل راضية بقضاء الله في الدنيا حتى رضي الله عنها و رضي بأفعالها و اعتقادها «فَادْخُلِي فِي عِبادِي» أي في زمرة عبادي الصالحين المصطفين الذين رضيت عنهم و هذه نسبة تشريف و تعظيم «وَ ادْخُلِي جَنَّتِي» التي وعدتكم بها و أعددت نعيمكم فيها.
النظم‏
وجه اتصال قوله «فَأَمَّا الْإِنْسانُ» الآية بما قبله فيه قولان (أحدهما) أنه يتصل بقوله «إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ» أي هو بالمرصاد لأعمالهم لا يخفى عليه شي‏ء من مصالحهم فإذا أكرم أحدا منهم بنوع من النعم التي هي الصحة و السلامة و المال و البنون امتحانا و اختبارا ظن ذلك واجبا و إذا قتر عليه رزقه ظن ذلك إهانة له و إنما يفعل سبحانه جميع ذلك للمصالح عن أبي مسلم (و الثاني) أن المعنى بالمرصاد لهم يتعبده بما هو الأصلح لهم و أنهم يظنون أنه يبتدئ عباده بالإكرام و الإهانة و ليس كذلك بل هما مستحقان و لا يدخل العباد تحت الاستحقاق إلا بعد التكليف و أما قوله «بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ» فوجه اتصاله بما قبله أنه رد عليهم ظنهم أنه ضيق عليهم أرزاقهم على وجه الإهانة فبين سبحانه أن الإهانة لما ذكره لا لما قالوه.

742
مجمع البيان في تفسير القرآن10

سورة البلد مكية و آياتها عشرون ص 743

(90) سورة البلد مكية و آياتها عشرون (20)
[توضيح‏]
مكية عشرون آية بالإجماع.
فضلها
أبي بن كعب قال قال رسول الله ص من قرأها أعطاه الله الأمن من غضبه يوم القيامة
أبو بصير عن أبي عبد الله (ع) قال من كان قراءته في الفريضة لا أقسم بهذا البلد كان في الدنيا معروفا أنه من الصالحين و كان في الآخرة معروفا أن له من الله مكانا و كان من رفقاء النبيين و الشهداء و الصالحين.
تفسيرها
لما ختم تلك السورة بذكر النفس المطمئنة بين في هذه السورة وجه الاطمئنان و أنه النظر في طريق معرفة الله و أكد ذلك بالقسم فقال:

743
مجمع البيان في تفسير القرآن10

سورة البلد الآيات 1 الى 20 ص 744

[سورة البلد (90): الآيات 1 الى 20]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏
لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (1) وَ أَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (2) وَ والِدٍ وَ ما وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (4)
أَ يَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً (6) أَ يَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَ لَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَ لِساناً وَ شَفَتَيْنِ (9)
وَ هَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (10) فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَ ما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14)
يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ تَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَ تَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ (19)
عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ (20)

القراءة
قرأ أبو جعفر لبدا بالتشديد و الباقون بالتخفيف و قرأ ابن كثير و أبو عمرو و الكسائي فك رقبة أو أطعم و الباقون «فَكُّ رَقَبَةٍ» بالرفع و الإضافة «أَوْ إِطْعامٌ» بالتنوين و قرأ أبو عمرو و أهل الكوفة غير عاصم مؤصدة بالهمزة و الباقون بغير همزة و يعقوب مختلف عنه و في الشواذ قراءة الحسن في يوم ذا مسغبة.
الحجة
لبد يجوز أن يكون واحدا على وزن زمل و جبا و يجوز أن يكون جمعا فيكون جمع لأبد و أما قوله «فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعامٌ» فقد قال أبو علي: المعنى فيه و ما أدراك ما اقتحام العقبة فك رقبة أو إطعام أي اقتحامها أحد هذين أو هذا الضرب من فعل القرب فلو لم تقدره و تركت الكلام على ظاهره كان المعنى العقبة فك رقبة و لا تكون العقبة الفك لأنه عين و الفك حدث و الخبر ينبغي أن يكون المبتدأ في المعنى و مثل هذا قوله «وَ ما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ» أي الحطمة نار الله و مثله «وَ ما أَدْراكَ ما هِيَهْ نارٌ حامِيَةٌ» و كذلك قوله «وَ ما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ» و المعنى القارعة يوم يكون الناس لأن القارعة مصدر فيكون اسم الزمان خبرا عنه فهذه الجمل من الابتداء و الخبر تفسير لهذه الأشياء المتقدم ذكرها من اقتحام العقبة و الحطمة و القارعة كما أن قوله تعالى «لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ عَظِيمٌ» تفسير للوعد و قوله «فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ» معناه فلم يقتحم و إذا كانت لا بمعنى لم لم يلزم تكريرها كما لا يلزم التكرير مع لم فإن تكررت في موضع نحو فَلا صَدَّقَ وَ لا صَلَّى فهو كتكرير لم في قوله لَمْ يُسْرِفُوا وَ لَمْ يَقْتُرُوا و قوله «ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا» أي كان مقتحم العقبة و فكاك الرقبة من الذين آمنوا فإنه إذا لم يكن منهم لم ينفعه قربه و جاز وصف‏

744
مجمع البيان في تفسير القرآن10

الحجة ص 744

اليوم بقوله «ذِي مَسْغَبَةٍ» كما جاز أن يقال ليله نائم و نهاره صائم و نحو ذلك و من قرأ فك رقبة أو أطعم فإنه يجوز أن يكون ما ذكر من الفعل تفسيرا لاقتحام العقبة فإن قلت إن هذا الضرب لم يفسر بالفعل و إنما فسر بالابتداء و الخبر كقوله «نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ» و قوله «نارٌ حامِيَةٌ» فهلا رجحت القراءة الأخرى قيل إنه قد يمكن أن يكون كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَ عادٌ بِالْقارِعَةِ تفسيرا لقوله وَ ما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ على المعنى و قد جاء إِنَّ مَثَلَ عِيسى‏ عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ و فسر المثل بقوله خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ و زعموا أن أبا عمرو احتج بقوله «ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا» لقراءة فك رقبة كأنه لما كان فعلا وجب أن يكون المعطوف عليه مثله و قد يجوز أن يكون ذلك كالقطع من الأول و الاستئناف كأنه أعلم أن فكاك الرقبة من الرق بأن كان من الذين آمنوا لأنه بالإيمان يحرز ثواب ذلك و يحوزه فإذا لم ينضم الإيمان إلى فعل القرب التي تقدم ذكرها لم ينفع ذلك و التقدير ثم كونه من الذين آمنوا فجاء هذا مجي‏ء قوله سبحانه كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَ شَهِدُوا يريد و إن شهدوا. و أوصدت الباب و أصدته لغتان فمن لم يهمز موصدة احتمل أمرين (أحدهما) أن يكون على لغة من قال أوصدت (و الوجه الآخر) أن يكون من آصدت ثم خففت الهمزة فقلبت واوا كما جاء في جونة و تووي و من همز مؤصدة فهو من أصدت و أبو عمرو يترك الهمزة الساكنة و يبدلها واوا إذا انضم ما قبلها نحو يؤمنون و مؤمنين و يبدلها ألفا إذا انفتح ما قبلها ياء إذا انكسر ما قبلها و لا يبدلها في نحو قوله «مُؤْصَدَةٌ» بل يهمزها لأن مؤصدة بالهمز هي لغة من قال آصدت الباب و الباب مؤصدة و أبو عمرو على هذه اللغة فلا يترك الهمز إذا احتاج أن يترك لغته و ينتقل عنها إلى لغة أخرى و كذلك لا يترك الهمز في قوله تؤوي إليك لأنه لو أبدلها واوا و بعدها واو اجتمع واوان و اجتماعهما أثقل من الهمزة و كذلك إذا كان الفعل مجزوما و لامها همزة بقاها على حالها و لا يبدلها بتة نحو قوله إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ لأنه لو أبدلها واوا وجب حذفها بالجزم كما تقول في يغزو لم يغز كذلك إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ لا يبدلها ألفا لهذا المعنى أيضا و كذلك قوله أَثاثاً وَ رِءْياً لا يقلبها ياء لأنه يشتبه بالري من روي من الماء فهذه أربعة أحوال لا يترك الهمز فيها إذا احتاج إلى ترك لغته و أن ينتقل إلى لغة أخرى و إذا كان الهمز في موضع الجزم و إذا اشتبه المعنى في الكلمة بكلمة أخرى و إذا كان ترك الهمز يؤدي إلى اجتماع الواوين فافهم ذلك و من قرأ ذا مسغبة جعله مفعول إطعام و يتيما بدل منه و يجوز أن يكون يتيما وصفا لذا مسغبة كقولك رأيت كريما عاقلا و جاز وصف الصفة الذي هو كريم لأنه لما لم يجر على الاسم الموصوف أشبه الاسم.
اللغة
الحل الحال و هو الساكن و الحل الحلال و رجل حل و حلال أي محل و الكبد

745
مجمع البيان في تفسير القرآن10

اللغة ص 745

في اللغة شدة الأمر و منه تكبد اللبن إذا غلظ و اشتد و منه الكبد لأنه دم يغلظ و يشتد و تكبد الدم إذا صار كالكبد قال لبيد:
         عين هلا بكيت أربد إذ             قمنا و قام الخصوم في كبد
و اللبد الكثير مأخوذ من تلبد الشي‏ء إذا تراكب بعضه على بعض و منه اللبد يقال ما له سبد و لا لبد و أصل النجد العلو و سمي نجد نجدا لعلوه عن انخفاض تهامة و كل عال من الأرض نجد و الجمع نجود قال امرؤ القيس:
         غداة غدوا فسألك بطن نخلة             و آخر منهم جازع نجد كبكب‏
أراد طريقه في ارتفاع و كبكب جبل و في المثل (أنجد من رأى حضنا) و رجل نجد بين النجدة إذا كان جلدا قويا لاستعلائه على قرنه و استنجدت فلانا فأنجدني أي استعنته للاستعلاء على قرني فأعانني و شبه طريق الخير و الشر بالطريقين العاليين لظهور ما فيهما و الاقتحام الدخول على الشدة بالضيق يقال اقتحم و تقحم و أقحمه و قحمه غيره و العقبة الطريقة التي ترتقي على صعوبة و يحتاج فيها إلى معاقبة الشدة بالضيق و المخاطرة و قيل العقبة الثنية الضيقة في رأس الجبل يتعاقبها الناس فشبهت النفقة في وجوه البر بها و عاقب الرجل صاحبه إذا صار في موضعه بدلا منه و الفك فرق يزيد المنع و يمكن معه أمر لم يكن متمكنا كفك القيد و الغل لأنه يزول به المنع و يمكن به تصرف لم يمكن قبل ففك الرقبة فرق بينها و بين حال الرق بإيجاب الحرية و إبطال العبودية و المسغبة المجاعة سغب يسغب سغبا فهو ساغب إذا جاع قال جرير:
         تعلل و هي ساغبة بنيها             بأنفاس من الشبم القراح‏
و المقربة القرابة و لا يقال فلان قرابتي و إنما يقال ذو قرابتي لأنه مصدر كما قال الشاعر:

746
مجمع البيان في تفسير القرآن10

اللغة ص 745

         يبكي الغريب عليه ليس يعرفه             و ذو قرابته في الحي مسرور
و المتربة الحاجة الشديدة من قولهم ترب الرجل إذا افتقر.
المعنى‏
 «لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ» أجمع المفسرون على أن هذا قسم بالبلد الحرام و هو مكة و قد تقدم بيان قوله «لا أُقْسِمُ» في سورة القيامة «وَ أَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ» أي و أنت يا محمد مقيم به و هو محلك و هذا تنبيه على شرف البلد بشرف من حل به من الرسول الداعي إلى توحيده و إخلاص عبادته و بيان أن تعظيمه له و قسمه به لأجله ص و لكونه حالا فيه كما سميت المدينة طيبة لأنها طابت به حيا و ميتا و قيل معناه و أنت محل بهذا البلد و هو ضد المحرم و المراد و أنت حلال لك قتل من رأيت به من الكفار و ذلك حين أمر بالقتال يوم فتح مكة فأحلها الله له ص حتى قاتل و قتل و
قد قال ص لا يحل لأحد قبلي و لا يحل لأحد من بعدي و لم يحل لي إلا ساعة من نهار
عن ابن عباس و مجاهد و قتادة و عطاء و هذا وعد من الله لنبيه ص أن يحل له مكة حتى يقاتل فيها و يفتحها على يده و يكون بها حلا يصنع بها ما يريد القتل و الأسر و قد فعل سبحانه ذلك فدخلها غلبة و كرها و قتل ابن أخطل و هو متعلق بأستار الكعبة و مقيس بن سبابة و غيرهما و
قيل معناه لا أقسم بهذا البلد و أنت حل فيه منتهك الحرمة مستباح العرض لا تحترم فلم يبن للبلد حرمة حيث هتكت حرمتك عن أبي مسلم و هو المروي عن أبي عبد الله (ع)
قال كانت قريش تعظم البلد و تستحل محمدا ص فيه فقال «لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ وَ أَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ» يريد أنهم استحلوك فيه فكذبوك و شتموك و كانوا لا يأخذ الرجل منهم فيه قاتل أبيه و يتقلدون لحاء شجر الحرم فيأمنون بتقليدهم إياه فاستحلوا من رسول الله ص ما لم يستحلوا من غيره فعاب الله ذلك عليهم ثم عطف على القسم فقال «وَ والِدٍ وَ ما وَلَدَ» يعني آدم (ع) و ذريته عن الحسن و مجاهد و قتادة و ذلك أنهم خليقة أعجب من هذه الخليقة و هم عمار الدنيا و
قيل آدم و ما ولد من الأنبياء و الأوصياء و أتباعهم عن أبي عبد الله (ع)
و قيل يريد إبراهيم (ع) و ولده عن ابن أبي عمران الجوني لما أقسم بالبلد أقسم بإبراهيم فإنه بانيه و بأولاده العرب إذ هم المخصصون بالبلد و قيل يعني كل والد و ولده عن ابن عباس و الجبائي و قيل و والد من يولد له و ما ولد يعني العاقر عن ابن جبير فيكون ما نفيا و هو بعيد لأنه يكون تقديره و ما ما ولد فحذف ما الأولى التي تكون موصولة أو موصوفة «لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ» أي في نصب و شدة عن ابن عباس و سعيد بن جبير و الحسن قال يكابد مصائب الدنيا و شدائد الآخرة و قال ابن آدم لا يزال يكابد أمرا حتى يفارق الدنيا و قيل في شدة خلق من حمله و ولادته و رضاعه و فطامه و معاشه و حياته و موته ثم أنه سبحانه لم‏

747
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 747

يخلق خلقا يكابد ما يكابد ابن آدم و هو أضعف الخلق و قيل في كبد أي قائما على قدميه منتصبا و كل شي‏ء خلق فإنه يمسي مكبا إلا الإنسان فإنه خلق منتصبا فالكبد الاستواء و الاستقامة و هو رواية مقسم عن ابن عباس و هو قول مجاهد و أبي صالح و عكرمة و قيل يريد شدة الأمر و النهي أي خلقناه ليعبدنا بالعبادات الشاقة مثل الاغتسال من الجنابة في البرد و القيام إلى الصلاة من النوم فينبغي له أن يعلم أن الدنيا دار كبد و مشقة و الجنة دار الراحة و النعمة «أَ يَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ» معناه أ يظن هذا الإنسان أنه لن يقدر على عقابه أحد إذا عصى الله تعالى و ركب القبائح فبئس الظن ذلك و هذا استفهام إنكار أي لا يظنن ذلك و قيل معناه أ يحسب هذا المغتر بماله أن لا يقدر عليه أحد يأخذ ماله عن الحسن و قيل أ يحسب أن لا يسأل عن هذا المال من أين اكتسبه و في ما ذا أنفقه عن قتادة و قيل أنه يعني أبا الأسد بن كلدة و هو رجل من جمح كان قويا شديد الخلق بحيث يجلس على أديم عكاظي فتجره العشرة من تحته فينقطع و لا يبرح من مكانه عن الكلبي ثم أخبر سبحانه عن مقالة هذا الإنسان فقال «يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالًا لُبَداً» أي أنفقت مالا كثيرا في عداوة النبي ص يفتخر بذلك و قيل هو الحرث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف و ذلك أنه أذنب ذنبا فاستفتى رسول الله ص فأمره أن يكفر فقال لقد ذهب مالي في الكفارات و النفقات منذ دخلت في دين محمد عن مقاتل «أَ يَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ» فيطالبه من أين اكتسبه و في ما ذا أنفقه عن قتادة و سعيد بن جبير و
روي عن ابن عباس عن النبي ص قال لا تزول قدما العبد حتى يسأل عن أربعة عن عمره فيما أفناه و عن ماله من أين جمعه و فيما ذا أنفقه و عن عمله ما ذا عمل به و عن حبنا أهل البيت‏
و قيل أنه كان كاذبا لم ينفق ما قاله فقال الله سبحانه أ يظن أن الله تعالى لم ير ذلك فعل أو لم يفعل أنفق أو لم ينفق عن الكلبي ثم ذكر سبحانه النعم التي أنعم بها عليه ليستدل بها على توحيده فقال «أَ لَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ» ليبصر بهما آثار حكمته «وَ لِساناً وَ شَفَتَيْنِ» لينطق بهما فيبين باللسان و يستعين بالشفتين على البيان قال قتادة: نعم الله عليك متظاهرة فقررك بها كيما تشكر و
روى عبد الحميد المدائني عن أبي حازم أن رسول الله ص قال إن الله تعالى يقول يا ابن آدم إن نازعك لسانك فيما حرمت عليك فقد أعنتك عليه بطبقتين فأطبق و إن نازعك بصرك إلى بعض ما حرمت عليك فقد أعنتك عليه بطبقتين فأطبق و إن نازعك فرجك إلى ما حرمت عليك فقد أعنتك عليه بطبقتين فأطبق‏
 «وَ هَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ» أي سبيل الخير و سبيل الشر عن علي (ع)
و ابن مسعود و ابن عباس و الحسن و مجاهد و قتادة و قيل معناه أرشدناه للثديين عن سعيد بن المسيب و الضحاك و
في رواية أخرى عن ابن عباس روي أنه قيل لأمير المؤمنين (ع) أن ناسا يقولون في قوله «وَ هَدَيْناه‏

748
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 747

النَّجْدَيْنِ» أنهما الثديان فقال لا هما الخير و الشر
و
قال الحسن بلغني أن رسول الله ص قال يا أيها الناس هما نجدان نجد الخير و نجد الشر فما جعل نجد الشر أحب إليكم من نجد الخير
و لو قيل كيف يكون نجد الشر مرتفعا كنجد الخير و معلوم أنه لا رفعة في الشر" و الجواب" أن الطريقين جميعا ظاهران باديان للمكلفين فسمى سبحانه كلاهما نجدا لظهوره و بروزه و يجوز أن يكون سمي طريق الشر نجدا من حيث يحصل في اجتناب سلوكه الرفعة و الشرف كما يحصل ذلك في طريق الخير و قيل أيضا أنه على عادة العرب في تثنية الأمرين إذا اتفقا على بعض الوجوه فيجري لفظ أحدهما على الآخر كقولهم القمرين في الشمس و القمر قال الفرزدق:
         أخذنا بآفاق السماء عليكم             لنا قمراها و النجوم الطوالع‏
و نظائره كثيرة «فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ» فيه أقوال (أحدها) أن المعنى فلم يقتحم هذا الإنسان العقبة و لا جاوزها و أكثر ما يستعمل هذا الوجه بتكرير لفظة لا كما قال سبحانه فَلا صَدَّقَ وَ لا صَلَّى أي لم يصدق و لم يصل و كما قال الحطيئة:
         و إن كانت النعماء فيهم جزوا بها             و إن أنعموا لأكدروها و لا كدوا
و قد جاء من غير تكرار في نحو قوله:
         إن تغفر اللهم تغفر جما             و أي عبد لك لا ألما
أي لم يلم بذنب (و الآخر) أن يكون على وجه الدعاء عليه بأن لا يقتحم العقبة كما يقال لا غفر الله له و لا نجا و لا سلم و المعنى لا نجا من العقبة و لا جاوزها (و الثالث) أن المعنى فهلا اقتحم العقبة أو أ فلا اقتحم العقبة عن ابن زيد و الجبائي و أبي مسلم قالوا و يدل على ذلك قوله تعالى «ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ تَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَ تَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ» و لو كان أراد النفي لم يتصل الكلام قال المرتضى قدس الله روحه: هذا الوجه ضعيف جدا لأن الكلام خال من لفظ الاستفهام و قبيح حذف حرف الاستفهام في مثل هذا الموضع و قد عيب على عمر بن أبي ربيعة قوله:
         ثم قالوا تحبها قلت بهرا             عدد الرمل و الحصى و التراب.

749
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 747

و أما قولهم لو أريد النفي لم يتصل الكلام فليس بشي‏ء لأن المعنى فلا اقتحم العقبة ثم كان من الذين آمنوا أي لم يقتحم و لم يؤمن و أما المراد بالعقبة ففيه وجوه (أحدها) أنه مثل ضربه الله تعالى لمجاهدة النفس و الهوى و الشيطان في أعمال الخير و البر فجعل ذلك كتكليف صعود العقبة الشاقة الكؤود فكأنه قال لم يحمل على نفسه المشقة بعتق الرقبة و الإطعام و هو قوله «وَ ما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ» أي ما اقتحام العقبة ثم ذكره فقال «فَكُّ رَقَبَةٍ» و هو تخليصها من إسار الرق إلى آخره (و ثانيها) أنها عقبة حقيقة قال الحسن و قتادة: هي عقبة شديدة في النار دون الجسر فاقتحموها بطاعة الله عز و جل و
روي أن النبي ص أنه قال إن أمامكم عقبة كؤودا لا يجوزها المثقلون و أنا أريد أن أخفف عنكم لتلك العقبة
و عن ابن عباس أنه قال:
هي النار نفسها و روي عنه أيضا أنها عقبة في النار (و ثالثها) ما روي عن مجاهد و الضحاك و الكلبي أنها الصراط يضرب على جهنم كحد السيف مسيرة ثلاثة آلاف سهلا و صعودا و هبوطا و إن في جنبيه كلاليب و خطاطيف كأنها شوك السعدان فمن بين مسلم و ناج و مخدوش في النار منكوس فمن الناس من يمر عليه كالبرق الخاطف و منهم من يمر عليه كالريح العاصف و منهم من يمر عليه كالفارس و منهم من يمر عليه كالرجل يعدو و منهم من يمر عليه كالرجل يسير و منهم من يزحف زحفا و منهم الزالون و الزالات و منهم من يكردس في النار و اقتحامه على المؤمن كما بين صلاة العصر إلى العشاء و قال سفيان بن عيينة: كل شي‏ء قاله سبحانه «وَ ما أَدْراكَ» فإنه أخبره به و كل شي‏ء قال فيه «وَ ما يُدْرِيكَ»* فإنه لم يخبره به و
روي مرفوعا عن البراء بن عازب قال جاء أعرابي إلى النبي ص فقال يا رسول الله علمني عملا يدخلني الجنة قال إن كنت أقصرت الخطبة لقد عرضت المسألة أعتق النسمة و فك الرقبة فقال أ و ليسا واحدا قال لا عتق النسمة أن تنفرد بعتقها و فك الرقبة أن تعين في ثمنها و الفي‏ء على ذي الرحم الظالم فإن لم يكن ذلك فأطعم الجائع و اسق الظمآن و أمر بالمعروف و أنه عن المنكر فإن لم تطق ذلك فكف لسانك إلا من الخير
و قيل أن معنى فك رقبة أن يفك رقبة من الذنوب بالتوبة عن عكرمة و قيل أراد فك نفسه من العقاب بتحمل الطاعات عن الجبائي «أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ» أي ذي مجاعة قال ابن عباس:
يريد بالمسغبة الجوع و
في الحديث عن معاذ بن جبل قال قال رسول الله ص من أشبع جائعا في يوم سغب أدخله الله يوم القيامة من باب من أبواب الجنة لا يدخلها إلا من فعل مثل ما فعل‏
و
عن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله ص من موجبات المغفرة إطعام المسلم‏

750
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 747

السغبان‏
و
روي عن محمد بن عمر بن يزيد قال قلت لأبي الحسن الرضا (ع) أن لي ابنا شديد العلة قال مرة يتصدق بالقبضة من الطعام بعد القبضة فإن الله تعالى يقول فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ و قرأ الآيات‏
 «يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ» أي ذا قربى من قرابة النسب و الرحم و هذا حث على تقديم ذوي القرابة المحتاجين على الأجانب في الإطعام و الإنعام «أَوْ مِسْكِيناً» أي فقيرا «ذا مَتْرَبَةٍ» قد لصق بالتراب من شدة فقره و ضره و روى مجاهد عن ابن عباس أنه قال: هو المطروح في التراب لا يقيه شي‏ء و هذا مثل قولهم فقير مدقع مأخوذ من الدقعاء و هو التراب ثم بين سبحانه أن هذه القربة إنما تنفع مع الإيمان فقال «ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا» أي ثم كان مع هذا من جملة المؤمنين الذين استقاموا على إيمانهم «وَ تَواصَوْا بِالصَّبْرِ» على فرائض الله و الصبر عن معصية الله أي وصى بعضهم بعضا بذلك «وَ تَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ» أي و أوصى بعضهم بعضا بالمرحمة على أهل الفقر و ذوي المسكنة و الفاقة و قيل تواصوا بالمرحمة فيما بينهم فرحموا الناس كلهم «أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ» يؤخذ بهم ناحية اليمين و يأخذون كتبهم بأيمانهم عن الجبائي و قيل هم أصحاب اليمن و البركة على أنفسهم عن الحسن و أبي مسلم «وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا» أي بحججنا و دلالاتنا و كذبوا أنبياءنا «هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ» أي يأخذون كتبهم بشمالهم و يؤخذ بهم ذات الشمال و قيل أنهم أصحاب الشؤم على أنفسهم «عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ» أي مطبقة عن ابن عباس و مجاهد و قيل يعني أن أبوابها عليهم مطبقة فلا يفتح لهم باب و لا يخرج عنها غم و لا يدخل فيها روح آخر الأبد عن مقاتل.
النظم‏
وجه اتصال قوله سبحانه «أَ لَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ» بما قبله أن المعنى كيف يحسب هذا الإنسان أن الله سبحانه لا يراه و هو الذي خلقه و جعل له عينين و كذا و كذا و قيل أنه اتصل بقوله «لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ» أي اختبرناه حيث كلفناه ثم أزحنا علته بأن جعلنا له عينين و قيل أنه يتصل بقوله «أَ يَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ» و المعنى كيف يظن ذلك و قد خلقناه و خلقنا أعضاءه التي يبصر الدلائل بها و يتكلم بها.

751
مجمع البيان في تفسير القرآن10

سورة الشمس مكية و آياتها خمس عشرة ص 752

(91) سورة الشمس مكية و آياتها خمس عشرة (15)
عدد آياتها
ست عشرة آية مكي و المدني الأول و خمس عشرة في الباقين.
اختلافها
آية فَعَقَرُوها مكي و المدني الأول.
فضلها
أبي بن كعب عنه ص قال من قرأها فكأنما تصدق بكل شي‏ء طلعت عليه الشمس و القمر.
معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (ع) قال من أكثر قراءة و الشمس و ضحاها و الليل إذا يغشى و الضحى و أ لم نشرح في يومه أو في ليلته لم يبق شي‏ء بحضرته إلا شهد له يوم القيامة حتى شعره و بشره و لحمه و دمه و عروقه و عصبه و عظامه و جميع ما أقلت الأرض منه و يقول الرب تبارك و تعالى قبلت شهادتكم لعبدي و أجزتها له انطلقوا به إلى جناني حتى يتخير منها حيث أحب فأعطوه إياها من غير من مني و لكن رحمة و فضلا مني عليه فهنيئا هنيئا لعبدي.
تفسيرها
لما ختم الله سبحانه تلك السورة بذكر النار المؤصدة بين في هذه السورة أن النجاة منها لمن زكى نفسه و أكده بأن أقسم عليه فقال:

752
مجمع البيان في تفسير القرآن10

سورة الشمس الآيات 1 الى 15 ص 753

[سورة الشمس (91): الآيات 1 الى 15]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏
وَ الشَّمْسِ وَ ضُحاها (1) وَ الْقَمَرِ إِذا تَلاها (2) وَ النَّهارِ إِذا جَلاَّها (3) وَ اللَّيْلِ إِذا يَغْشاها (4)
وَ السَّماءِ وَ ما بَناها (5) وَ الْأَرْضِ وَ ما طَحاها (6) وَ نَفْسٍ وَ ما سَوَّاها (7) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (9)
وَ قَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (10) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها (12) فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ناقَةَ اللَّهِ وَ سُقْياها (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها (14)
وَ لا يَخافُ عُقْباها (15)

القراءة
قرأ أهل المدينة و ابن عامر
فلا يخاف بالفاء و كذلك هو في مصاحف أهل المدينة و الشام و روي ذلك عن أبي عبد الله (ع)
و الباقون «وَ لا يَخافُ» بالواو و كذلك هو في مصاحفهم.
الحجة
قال أبو علي: الواو يجوز أن يكون في موضع حال أي فسواها غير خائف عقباها يعني غير خائف أن يتعقب عليه في شي‏ء مما فعله و فاعل يخاف الضمير العائد إلى قوله «رَبُّهُمْ» و قيل أن الضمير يعود إلى صالح النبي ص الذي أرسل إليهم و قيل إذا انبعث أشقاها و هو لا يخاف عقباها أي لا يخاف من إقدامه على ما أتاه مما نهي عنه ففاعل يخاف العاقر على هذا و الفاء للعطف على قوله «فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها» فلا يخاف كأنه يتبع تكذيبهم و عقرهم إن لم يخوفوا.
اللغة
ضحى الشمس صدر وقت طلوعها و ضحى النهار صدر وقت كونه و أضحى يفعل كذا إذا فعله في وقت الضحى و ضحى بكبش أو غيره إذا ذبحه في وقت الضحى من أيام الأضحى ثم كثر ذلك حتى لو ذبح في غير ذلك الوقت لقيل ضحى و الطحو و الدحو بمعنى يقال طحا بك همك يطحو طحوا إذا انبسط بك إلى مذهب بعيد قال علقمة:
         " طحا بك قلب في الحسان ظروب"
يقال طحا القوم بعضهم بعضا عن الشي‏ء إذا دفعوا دفعا

753
مجمع البيان في تفسير القرآن10

اللغة ص 753

شديد الانبساط و الطواحي النسور تنبسط حول القتلى و أصل الطحو البسط الواسع يقال دسا فلان يدسو دسوا فهو داس نقيض زكا يزكو زكا فهو زاك و قيل أن أصل دسا دس فأبدل من أحد السينين ياء كما قالوا تظنيت بمعنى تظننت و مثله:
         " تقضي البازي إذا البازي كسر"
بمعنى تقضض و إنما يفعلون ذلك كراهية التضعيف و الطغوى و الطغيان مجاوزة الحد في الفساد و بلوغ غايته و في قراءة الحسن و حماد بن مسلمة بطغواها بضم الطاء و على هذا فيكون مصدرا على فعلى كالرجعى و الحسنى و بعث مطاوع انبعث يقال بعثته على الأمر فانبعث له و السقيا الحظ من الماء و النصيب منه و العقر قطع اللحم بما يسيل الدم و هو من عقر الحوض أي أصله و العقر نقص شي‏ء من أصل بنية الحيوان و الدمدمة ترديد الحال المستكرة و هي مضاعفة ما فيه الشقة و قال مؤرج: الدمدمة هلاك باستئصال قال ابن الأعرابي: دمدم أي عذب عذابا تاما.
الإعراب‏
و الشمس هذه الواو الأولى هي التي للقسم و سائر الواوات فيما بعدها عطف عليها إلى قوله «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها» و هو جواب القسم و التقدير لقد أفلح و قوله «وَ ما بَناها» «وَ ما طَحاها» «وَ ما سَوَّاها» ما هاهنا مصدرية و تقديره و السماء و بنائها و الأرض و طحواها و نفس و تسويتها و قيل أن ما في هذه المواضع بمعنى من أي و الذي بناها و يحكى عن أهل الحجاز أنهم يقولون إذا سمعوا صوت الرعد سبحان ما سبحت له أي سبحان الذي سبحت له و من سبحت له و قوله «ناقَةَ اللَّهِ وَ سُقْياها» منصوب بفعل مضمر أي احذروا ناقة الله و ذروا سقياها.
المعنى‏
 «وَ الشَّمْسِ وَ ضُحاها» قد تقدم أن لله سبحانه أن يقسم بما يشاء من خلقه تنبيها على عظيم قدره و كثرة الانتفاع به و لما كان قوام العالم من الحيوان و النبات بطلوع الشمس و غروبها أقسم الله سبحانه بها و بضحاها و هو امتداد ضوئها و انبساطه عن مجاهد و الكلبي و قيل هو النهار كله عن قتادة و قيل حرها عن مقاتل كقوله تعالى في طه «وَ لا تَضْحى‏» أي لا يؤذيك حرها «وَ الْقَمَرِ إِذا تَلاها» أي إذا أتبعها فأخذ من ضوئها و سار خلفها قالوا و ذلك في النصف الأول من الشهر إذا غربت الشمس تلاها القمر في الإضاءة و خلفها في النور و قيل تلاها ليلة الهلال و هي أول ليلة من الشهر إذا سقطت الشمس رؤي القمر عند غيبوبتها عن الحسن و قيل في الخامس عشر يطلع القمر مع غروب الشمس و قيل في الشهر كله فهو في النصف الأول يتلوها و تكون أمامه و هو وراؤها و في النصف الأخير يتلو

754
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 754

غروبها بالطلوع «وَ النَّهارِ إِذا جَلَّاها» أي جلى الظلمة و كشفها و جازت الكناية عن الظلمة و لم تذكر لأن المعنى معروف غير ملتبس و قيل أن معناه و النهار إذا أظهر الشمس و أبرزها سمي النهار مجليا لها لظهور جرمها فيه «وَ اللَّيْلِ إِذا يَغْشاها» أي يغشى الشمس حتى تغيب فتظلم الآفاق و يلبسها سواده «وَ السَّماءِ وَ ما بَناها» أي و من بناها عن مجاهد و الكلبي و قيل و الذي بناها عن عطاء و قيل معناه و السماء و بنائها مع إحكامها و اتساقها و انتظامها «وَ الْأَرْضِ وَ ما طَحاها» في ما وجهان كما ذكرناه أي و طحوها و تسطيحها و بسطها ليمكن الخلق التصرف عليها «وَ نَفْسٍ وَ ما سَوَّاها» هو كما ذكرناه و سواها عدل خلقها و سوى أعضاءها و قيل سواها بالعقل الذي فضل به سائر الحيوان ثم قالوا يريد جميع ما خلق من الجن و الإنس عن عطاء و قيل يريد بالنفس آدم و من سواها الله تعالى عن الحسن «فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها» أي عرفها طريق الفجور و التقوى و زهدها في الفجور و رغبها في التقوى عن ابن عباس و مجاهد و قتادة و الضحاك و قيل علمها الطاعة و المعصية لتفعل الطاعة و تذر المعصية و تجتني الخير و تجتنب الشر «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها» على هذا وقع القسم أي قد أفلح من زكى نفسه عن الحسن و قتادة أي طهرها و أصلحها بطاعة الله و صالح الأعمال «وَ قَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها» بالعمل الطالح أي أخملها و أخفى محلها و قيل أضلها و أهلكها عن ابن عباس و قيل أفجرها عن قتادة و قيل معناه قد أفلحت نفس زكاها الله و خابت نفس دساها الله أي جعلها قليلة خسيسة و
جاءت الرواية عن سعيد بن أبي هلال قال كان رسول الله إذا قرأ هذه الآية «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها» وقف ثم قال اللهم آت نفسي تقواها أنت وليها و مولاها و زكها و أنت خير من زكاها
و
روى زرارة و حمران و محمد بن مسلم عن أبي جعفر و أبي عبد الله (ع) في قوله «فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها» قال بين لها ما تأتي و ما تترك و في قوله «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها» قال قد أفلح من أطاع «وَ قَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها» قال قد خاب من عصى‏
و قال ثعلب قد أفلح من زكى نفسه بالصدقة و الخير و خاب من دس نفسه في أهل الخير و ليس منهم ثم أخبر سبحانه عن ثمود و قوم صالح فقال «كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها» أي بطغيانها و معصيتها عن مجاهد و ابن زيد يعني أن الطغيان حملهم على التكذيب فالطغوى اسم من الطغيان كما أن الدعوى من الدعاء و قيل أن الطغوى اسم العذاب الذي نزل بهم فالمعنى كذبت ثمود بعذابها عن ابن عباس و هذا كما قال فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ و المراد كذبت بعذابها الطاغية فأتاها ما كذبت به «إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها» أي كان تكذيبها حين انبعث أشقى ثمود للعقر و معنى انبعث انتدب و قام و الأشقى عاقر الناقة و هو أشقى الأولين على لسان رسول الله ص و اسمه قدار بن سالف قال الشاعر و هو عدي بن زيد:

755
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 754

         فمن يهدي أخا لذناب لو             فأرشوه فإن الله جار
         و لكن أهلكت لو كثيرا             و قبل اليوم عالجها قدار
يعني حين نزل بها العذاب فقال لو فعلت و قد صحت‏
الرواية بالإسناد عن عثمان بن صهيب عن أبيه قال قال رسول الله ص لعلي بن أبي طالب (ع) من أشقى الأولين قال عاقر الناقة قال صدقت فمن أشقى الآخرين قال قلت لا أعلم يا رسول الله قال: الذي يضربك على هذه و أشار إلى يافوخة
و
عن عمار بن ياسر قال كنت أنا و علي بن أبي طالب (ع) في غزوة العسرة نائمين في صور من النخل و دقعاء من التراب فو الله ما أهبنا إلا رسول الله ص يحركنا برجله و قد تتربنا من تلك الدقعاء فقال أ لا أحدثكما بأشقى الناس رجلين قلنا بلى يا رسول الله قال أحيمر ثمود الذي عقر الناقة و الذي يضربك بالسيف يا علي على هذه و وضع يده على قرنه حتى تبل منها هذه و أخذ بلحيته‏
و قيل أن عاقر الناقة كان أشقر أزرق قصيرا ملتزق الحلق «فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ» صالح «ناقَةَ اللَّهِ» قال الفراء: حذرهم إياها و كل تحذير فهو نصب و التقدير احذروا ناقة الله فلا تعقروها عن الكلبي و مقاتل كما يقال الأسد الأسد أي احذروه «وَ سُقْياها» أي و شربها من الماء أو ما يسقيها أي فلا تزاحموها فيه كما قال سبحانه لَها شِرْبٌ وَ لَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ «فَكَذَّبُوهُ» أي فكذب قوم صالح صالحا و لم يلتفتوا إلى قوله و تحذيره إياهم بالعذاب بعقرها «فَعَقَرُوها» أي فقتلوا الناقة «فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ» أي فدمر عليهم ربهم عن عطاء و مقاتل و قيل أطبق عليهم بالعذاب و أهلكهم «بِذَنْبِهِمْ» لأنهم رضوا جميعا به و حثوا عليه و كانوا قد اقترحوا تلك الآية فاستحقوا بما ارتكبوه من العصيان و الطغيان عذاب الاستئصال «فَسَوَّاها» أي فسوى الدمدمة عليهم و عمهم بها فاستوت على صغيرهم و كبيرهم و لم يفلت منها أحد منهم و قيل معناه سوى الأمة أي أنزل العذاب بصغيرها و كبيرها فسوى بينها فيه عن الفراء و قيل جعل بعضها على مقدار بعض في الاندكاك و اللصوق بالأرض فالتسوية تصيير الشي‏ء على مقدار غيره و قيل سوى أرضهم عليهم «وَ لا يَخافُ عُقْباها» أي لا يخاف الله من أحد تبعة في إهلاكهم عن ابن عباس و الحسن و قتادة و مجاهد و الجبائي و المعنى لا يخاف أن يتعقب عليه في شي‏ء من فعله فلا يخاف عقبى ما فعل بهم من الدمدمة عليهم لأن أحدا لا يقدر على معارضته و الانتقام منه و هذا كقوله لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ و قيل معناه لا يخاف الذي عقرها عقباها عن الضحاك و السدي و الكلبي أي لا يخاف عقبى ما صنع بها لأنه كان مكذبا بصالح و قيل معناه و لا يخاف صالح عاقبة ما خوفهم به من العقوبات لأنه كان على ثقة من نجاته.

756
مجمع البيان في تفسير القرآن10

سورة الليل مكية و آياتها إحدى و عشرون ص 757

(92) سورة الليل مكية و آياتها إحدى و عشرون (21)
[توضيح‏]
مكية إحدى و عشرون آية بالإجماع.
فضلها
أبي بن كعب عن النبي ص قال من قرأها أعطاه الله حتى يرضى و عافاه من العسر و يسر له اليسر.
تفسيرها
لما قدم في تلك السورة بيان حال المؤمن و الكافر عقبه سبحانه بمثل ذلك في هذه السورة فاتصلت بها اتصال النظير بالنظير فقال:

757
مجمع البيان في تفسير القرآن10

سورة الليل الآيات 1 الى 21 ص 758

[سورة الليل (92): الآيات 1 الى 21]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏
وَ اللَّيْلِ إِذا يَغْشى‏ (1) وَ النَّهارِ إِذا تَجَلَّى (2) وَ ما خَلَقَ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى‏ (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4)
فَأَمَّا مَنْ أَعْطى‏ وَ اتَّقى‏ (5) وَ صَدَّقَ بِالْحُسْنى‏ (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى‏ (7) وَ أَمَّا مَنْ بَخِلَ وَ اسْتَغْنى‏ (8) وَ كَذَّبَ بِالْحُسْنى‏ (9)
فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى‏ (10) وَ ما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى (11) إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى‏ (12) وَ إِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَ الْأُولى‏ (13) فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى (14)
لا يَصْلاها إِلاَّ الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَ تَوَلَّى (16) وَ سَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَ ما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى‏ (19)
إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى‏ (20) وَ لَسَوْفَ يَرْضى‏ (21)

القراءة
في الشواذ قراء النبي ص و قراءة علي بن أبي طالب (ع) و ابن مسعود و أبي الدرداء و ابن عباس و النهار إذا تجلى و خلق الذكر و الأنثى بغير ما و روي ذلك عن أبي عبد الله (ع).
الحجة
قال ابن جني: في هذه القراءة شاهد لما أخبرنا به أبو بكر عن أبي العباس أحمد بن يحيى قراءة بعضهم و ما خلق الذكر و الأنثى بالجر و ذلك أنه جره لكونه بدلا من ما فقراءة النبي ص شاهد بصحة ذلك.
اللغة
شتى أي متفرق على تباعد ما بين الشيئين جدا و منه شتان أي بعد ما بينهما كبعد ما بين الثرى و الثريا و تشتت أمر القوم و شتتهم ريب الزمان و اليسرى تأنيث الأيسر و العسرى تأنيث الأعسر من اليسر و العسر و التلظي تلهب النار بشدة الإيقاد و تلظت النار تتلظى فحذف إحدى التاءين تخفيفا و قرأ ابن كثير تلظى بتشديد التاء أدغم إحدى التاءين في الأخرى و التجنب تصيير الشي‏ء في جانب من غيره.
الإعراب‏
 «وَ ما خَلَقَ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى‏» أن جعلت ما مصدرية فهو في موضع الجر و التقدير و خلق الذكر أي و خلقه الذكر و الأنثى و إن جعلتها بمعنى من فكذلك و الحسنى صفة حذف موصوفها أي و صدق بالخصلة الحسنى و كذا اليسرى و العسرى. التقدير فيهما للطريقة اليسرى و للطريقة العسرى و يتزكى في موضع نصب على الحال و يجوز أن يكون منصوب الموضع أو مرفوعا على تقدير حذف أن أي لأن يتزكى فحذف اللام فصار أن يتزكى ثم حذف أن أيضا كما في قول طرفة:
         أ لا أيهذا الزاجري أحضر الوغى             و أن أشهد اللذات هل أنت مخلدي‏
روي أحضر بالرفع و النصب «وَ ما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى‏» من نعمة الجار و المجرور

758
مجمع البيان في تفسير القرآن10

الإعراب ص 758

في موضع رفع، و من مزيدة لتأكيد النفي و إفادة العموم و تجزى جملة مجرورة الموضع لكونها صفة لنعمة و التقدير من نعمة مجزية و إن شئت كانت مرفوعة الموضع على محل كونه من نعمة و التقدير و ما لأحد عنده نعمة مجزية و ابتغاء منصوب لأنه مفعول له و العامل فيه يؤتي أي و ما يؤتي ماله إلا ابتغاء وجه ربه أي لطلب ثواب ربه و لم يفعل ذلك مجازاة ليد قد أسديت إليه.
المعنى‏
 «وَ اللَّيْلِ إِذا يَغْشى‏» أقسم الله سبحانه بالليل إذا يغشى بظلمته النهار و قيل إذا يغشى بظلمته الأفق و جميع ما بين السماء و الأرض و المعنى إذا أظلم و ادلهم و أغشى الأنام بالظلام لما في ذلك من الهول المحرك للنفس بالاستعظام «وَ النَّهارِ إِذا تَجَلَّى» أي بأن و ظهر من بين الظلمة و فيه أعظم النعم إذ لو كان الدهر كله ظلاما لما أمكن الخلق طلب معايشهم و لو كان ذلك كله ضياء لما انتفعوا بسكونهم و راحتهم فلذلك كرر سبحانه ذكر الليل و النهار في السورتين لعظم قدرهما في باب الدلالة على مواقع حكمته «وَ ما خَلَقَ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى‏» أي و الذي خلق عن الحسن و الكلبي و على هذا يكون ما بمعنى من و قيل معناه خلق الذكر و الأنثى عن مقاتل قال مقاتل و الكلبي: الذكر و الأنثى آدم و حواء (ع) و قيل أراد كل ذكر و أنثى من الناس و غيرهم «إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى» هذا جواب القسم و المعنى أن أعمالكم لمختلفة فعمل للجنة و عمل للنار عن ابن عباس و قيل أن سعيكم لمتفرق فساع في فكاك رقبته و ساع في هلاكه و ساع للدنيا و ساع للعقبى و
روى الواحدي بالإسناد المتصل المرفوع عن عكرمة عن ابن عباس أن رجلا كانت له نخلة فرعها في دار رجل فقير ذي عيال و كان الرجل إذا جاء فدخل الدار و صعد النخلة ليأخذ منها التمر فربما سقطت التمرة فيأخذها صبيان الفقير فينزل الرجل من النخلة حتى يأخذ التمر من أيديهم فإن وجدها في أحدهم أدخل إصبعه حتى يأخذ التمرة من فيه فشكا ذلك الرجل إلى النبي ص و أخبره بما يلقى من صاحب النخلة فقال له النبي ص اذهب و لقي رسول الله ص صاحب النخلة فقال تعطيني نخلتك المائلة التي فرعها في دار فلان و لك بها نخلة في الجنة فقال له الرجل إن لي نخلا كثيرا و ما فيه نخلة أعجب إلي تمرة منها قال ثم ذهب الرجل فقال رجل كان يسمع الكلام من رسول الله ص يا رسول الله أ تعطيني ما أعطيت الرجل نخلة في الجنة إن أنا أخذتها قال نعم فذهب الرجل و لقي صاحب النخلة فساومها منه فقال له أ شعرت أن محمدا أعطاني بها نخلة في الجنة فقلت له يعجبني تمرتها و إن لي نخلا كثيرا فما فيه نخلة أعجب إلي تمرة منها فقال له الآخر أ تريد بيعها فقال لا إلا أن أعطى ما لا أظنه أعطى قال فما مناك قال أربعون نخلة فقال الرجل جئت بعظيم تطلب بنخلتك المائلة أربعين نخلة ثم سكت عنه فقال له أنا أعطيك‏

759
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 759

أربعين نخلة فقال له اشهد إن كنت صادقا فمر إلى أناس فدعاهم فأشهد له بأربعين نخلة ثم ذهب إلى النبي ص فقال يا رسول الله إن النخلة قد صارت في ملكي فهي لك فذهب رسول الله ص إلى صاحب الدار فقال له النخلة لك و لعيالك فأنزل الله تعالى «وَ اللَّيْلِ إِذا يَغْشى‏» السورة
و عن عطاء قال اسم الرجل أبو الدحداح «فَأَمَّا مَنْ أَعْطى‏ وَ اتَّقى‏» هو أبو الدحداح «وَ أَمَّا مَنْ بَخِلَ وَ اسْتَغْنى‏» و هو صاحب النخلة و قوله «لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى» و هو صاحب النخلة «وَ سَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى» هو أبو الدحداح «وَ لَسَوْفَ يَرْضى‏» إذا دخل الجنة
قال و كان النبي ص يمر بذلك الحش و عذوقه دانية فيقول عذوق و عذوق لأبي الدحداح في الجنة
و عن ابن الزبير قال أن الآية نزلت في أبي بكر لأنه اشترى المماليك الذين أسلموا مثل بلال و عامر بن فهيرة و غيرهما و أعتقهم و الأولى أن تكون الآيات محمولة على عمومها في كل من يعطي حق الله من ماله و كل من يمنع حقه سبحانه و
روى العياشي ذلك بإسناده عن سعد الإسكاف عن أبي جعفر (ع) قال «فَأَمَّا مَنْ أَعْطى‏» مما أتاه الله «وَ اتَّقى‏ وَ صَدَّقَ بِالْحُسْنى‏» أي بأن الله يعطي بالواحد عشرا إلى كثير من ذلك و في رواية أخرى إلى مائة ألف فما زاد «فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى‏» قال لا يريد شيئا من الخير إلا يسره الله له «وَ أَمَّا مَنْ بَخِلَ بما أتاه الله وَ اسْتَغْنى‏ وَ كَذَّبَ بِالْحُسْنى‏» بأن الله يعطي بالواحد عشرا إلى أكثر من ذلك و في رواية أخرى إلى مائة ألف فما زاد «فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى‏» قال لا يريد شيئا من الشر إلا يسره الله له قال ثم قال أبو جعفر (ع) «وَ ما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى» أما و الله ما تردى من جبل و لا تردى من حائط و لا تردى في بئر و لكن تردى في نار جهنم‏
فعلى هذا يكون قوله «وَ صَدَّقَ بِالْحُسْنى‏» معناه بالعدة الحسنى و هو قول ابن عباس و قتادة و عكرمة و قيل بالجنة التي هي صواب المحسنين عن الحسن و مجاهد و الجبائي و قوله «فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى‏» معناه فسنهون عليه الطاعة مرة بعد مرة و قيل معناه سنهيؤه و نوفقه للطريقة اليسرى أي سنسهل عليه فعل الطاعة حتى يقوم إليها بجد و طيب نفس و قيل معناه سنيسره للخصلة اليسرى و الحالة اليسرى و هو دخول الجنة و استقبال الملائكة إياه بالتحية و البشرى و قوله «وَ أَمَّا مَنْ بَخِلَ» أي ضن بماله الذي لا يبقى له و بخل بحق الله فيه «وَ اسْتَغْنى‏» أي التمس الغنى بذلك المنع لنفسه و قيل معناه أنه عمل عمل من هو مستغن عن الله و عن رحمته «وَ كَذَّبَ بِالْحُسْنى‏» أي بالجنة و الثواب و الوعد و بالخلف «فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى‏» هو على مزاوجة الكلام و المراد به التمكين أي نخلي بينه و بين الأعمال الموجبة للعذاب و العقوبة «وَ ما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى» أي سقط في النار عن قتادة و أبي صالح.

760
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 759

و قيل إذا مات و هلك عن مجاهد و قيل للحسن أن فلانا جمع مالا فقال هل جمع لذلك عمرا قالوا لا قال فما تصنع الموتى بالأموال «إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى‏» معناه إن علينا لبيان الهدى بالدلالة عليه فأما الاهتداء فإليكم أخبر سبحانه أن الهدى واجب عليه و لو جاز الإضلال عليه لما وجب الهداية قال قتادة: معناه أن علينا بيان الطاعة و المعصية «وَ إِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَ الْأُولى‏» و إن لنا ملك الآخرة و ملك الأولى فلا يزيد في ملكنا اهتداء من اهتدى و لا ينقص منه عصيان من عصى و لو نشاء لمنعناهم عن ذلك قسرا و جبرا و لكن التكليف اقتضى أن نمنعهم بيانا و أمرا و زجرا ثم خوف سبحانه العادل عن الهدى فقال «فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى» أي خوفتكم نارا تتلهب و تتوهج و تتوقد «لا يَصْلاها» أي لا يدخل تلك النار و لا يلزمها «إِلَّا الْأَشْقَى» و هو الكافر بالله «الَّذِي كَذَّبَ» بآيات الله و رسله «وَ تَوَلَّى» أي أعرض عن الإيمان «وَ سَيُجَنَّبُهَا» أي سيجنب النار و يجعل منها على جانب «الْأَتْقَى» المبالغ في التقوى «الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ» أي ينفقه في سبيل الله «يَتَزَكَّى» يطلب أن يكون عند الله زكيا لا يطلب بذلك رياء و لا سمعة قال القاضي: قوله «لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَ تَوَلَّى» لا يدل على أنه تعالى لا يدخل النار إلا الكافر على ما يقوله الخوارج و بعض المرجئة و ذلك لأنه نكر النار المذكورة و لم يعرفها فالمراد بذلك أن نارا من جملة النيران لا يصلاها إلا من هذه حاله و النيران دركات على ما بينه سبحانه في سورة النساء في شأن المنافقين فمن أين عرف أن غير هذه النار لا يصلاها قوم آخرون و بعد فإن الظاهر من الآية يوجب أن لا يدخل النار إلا من كذب و تولى و جمع بين الأمرين فلا بد للقوم من القول بخلافه لأنهم يوجبون النار لمن يتولى عن كثير من الواجبات و إن لم يكذب و قيل أن الأتقى و الأشقى المراد بهما التقي و الشقي كما قال طرفة:
         تمنى رجال أن أموت و إن أمت             فتلك سبيل لست فيها بأوحد
أراد بواحد ثم وصف سبحانه الأتقى فقال «وَ ما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى‏» أي و لم يفعل الأتقى ما فعله من إيتاء المال و إنفاقه في سبيل الله ليد أسديت إليه يكافئ عليها و لا ليد يتخذها عند أحد من الخلق «إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى‏» أي و لكنه فعل ما فعل يبتغي به وجه الله و رضاه و ثوابه و إنما ذكر الوجه طلبا لشرف الذكر و المعنى إلا الله و لابتغاء ثواب الله «وَ لَسَوْفَ يَرْضى‏» أي و لسوف يعطيه الله من الجزاء و الثواب ما يرضى به فإنه يعطيه كل ما تمنى و لم يخطر بباله فيرضى به لا محالة.

761
مجمع البيان في تفسير القرآن10

سورة الضحى مكية و آياتها إحدى عشرة ص 762

(93) سورة الضحى مكية و آياتها إحدى عشرة (11)
[توضيح‏]
إحدى عشر آية بالإجماع.
فضلها
أبي بن كعب عن النبي ص قال و من قرأها كان ممن يرضاه الله و لمحمد ص أن يشفع له و له عشر حسنات بعدد كل يتيم و سائل.
تفسيرها
ختم الله سبحانه تلك السورة بأن الأتقى يعطيه من الثواب ما به يرضى و افتتح هذه السورة بأنه يرضي نبيه بما يؤتيه يوم القيامة من الكرامة و الزلفى فقال:
[سورة الضحى (93): الآيات 1 الى 11]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏
وَ الضُّحى‏ (1) وَ اللَّيْلِ إِذا سَجى‏ (2) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَ ما قَلى‏ (3) وَ لَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى‏ (4)
وَ لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى‏ (5) أَ لَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى‏ (6) وَ وَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى‏ (7) وَ وَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى‏ (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9)
وَ أَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (10) وَ أَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)

القراءة
في الشواذ
عن النبي ص و عروة بن الزبير ما ودعك بالتخفيف‏
و القراءة المشهورة بالتشديد و عن أشهب العقيلي فأوى بغير مد و عن ابن أبي السميقع عيلا بالتشديد

762
مجمع البيان في تفسير القرآن10

القراءة ص 762

و عن النخعي و الشعبي فلا تكهر بالكاف و كذلك هو في مصحف عبد الله.
الحجة
قال ابن جني: ودع بالتخفيف يقل استعماله و قال سيبويه: استغنوا عن وزر و ودع بقولهم ترك و أنشد أبو علي ذلك في شعر أبي الأسود قوله:
         ليت شعري عن خليلي ما الذي             غاله في الحب حتى ودعه‏
و أما قوله فآوى فإنه من أويته أي رحمته و أما عيلا فإنه فيعل من العيلة و هي الفقر و هو مثل العائل و معناها ذو العيلة من غير جدة يقال عال الرجل يعيل عيلة إذا كثر عياله و افتقر قال الشاعر:
         و ما يدري الفقير متى غناه             و ما يدري الغني متى يعيل‏
أي متى يفتقر و أما الكهر فهو مثل القهر و العرب قد تعاقب بين القاف و الكاف و في حديث معاوية بن الحكم الذي تكلم في الصلاة قال ما كهرني و لا ضربني.
اللغة
السجو السكون يقال سجى يسجو إذا هدئ و سكن و طرف ساج و بحر ساج قال الأعشى:
         فما ذنبنا إذ جاش بحر ابن عمكم             و بحرك ساج لا يواري الدعامصا
و قال الآخر:
         يا حبذا القمراء و الليل الساج             و طرق مثل ملإ النساج‏
و القلى البغض إذا كسرت القاف قصرت و إذا فتحت مددت قال:
         عليك سلام لا مللت قريبة             و ما لك عندي إن نأيت قلاء
و نهره و انتهره بمعنى و هو أن يصيح في وجه السائل الطالب للرفد.
الإعراب‏
«وَ ما قَلى‏» أي و ما قلاك و كذلك قوله «فَآوى‏» «فَأَغْنى‏» تقديره فآواك فأغناك فالمفعول في هذه الآي محذوف و قال «وَ لَسَوْفَ يُعْطِيكَ» و لم يقل و يعطينك و إن كان جواب‏

763
مجمع البيان في تفسير القرآن10

الإعراب ص 763

القسم لأن النون إنما تدخل لتؤذن بأن اللام لام القسم لا لام الابتداء و قد حصل هاهنا العلم بأن هذه اللام للقسم لا للابتداء لدخوله على سوف و لام الابتداء لا تدخل على سوف لأن سوف تختص بالأفعال و لام الابتداء إنما تدخل على الأسماء «فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ» تقديره فمهما يكن من شي‏ء فلا تقهر اليتيم ثم أقيم أما مقام الشرط فحصل أما فلا تقهر اليتيم ثم قدم المفعول على الفاء كراهة لأن يكون الفاء التي من شأنها أن تكون متبعة شيئا فشيئا في أول الكلام و إن كثر يجتمع في اللفظ مع أما فتكون على خلاف أصول كلامهم و كذلك «أَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ».
النزول‏
قال ابن عباس: احتبس الوحي عنه ص خمسة عشر يوما فقال المشركون أن محمدا قد ودعه ربه و قلاه و لو كان أمره من الله تعالى لتتابع عليه فنزلت السورة و قيل إنما احتبس الوحي اثني عشر يوما عن ابن جريج و قيل أربعين يوما عن مقاتل و
قيل إن المسلمين قالوا ما ينزل عليك الوحي يا رسول الله فقال و كيف ينزل علي الوحي و أنتم لا تنقون براجمكم و لا تقلمون أظفاركم و لما نزلت السورة قال النبي ص لجبرائيل (ع) ما جئت حتى اشتقت إليك فقال جبرائيل (ع) و أنا كنت أشد إليك شوقا و لكني عبد مأمور و ما نتنزل إلا بأمر ربك‏
و
قيل سألت اليهود رسول الله ص عن ذي القرنين و أصحاب الكهف و عن الروح فقال سأخبركم غدا و لم يقل إن شاء الله فاحتبس عنه الوحي هذه الأيام فاغتم لشماتة الأعداء فنزلت السورة تسلية لقلبه‏
و
قيل إن النبي ص رمي بحجر في إصبعه فقال" هل أنت إلا إصبع رميت، و في سبيل الله ما لقيت" فمكث ليلتين أو ثلاثا لا يوحى إليه فقالت له أم جميل بنت حرب امرأة أبي لهب يا محمد ما أرى شيطانك إلا قد تركك لم أره قربك منذ ليلتين أو ثلاث فنزلت السورة.
المعنى‏
 «وَ الضُّحى‏» أقسم سبحانه بنور النهار كله من قولهم ضحى فلان للشمس إذ ظهر لها و يدل عليه قوله في مقابلته «وَ اللَّيْلِ إِذا سَجى‏» أي سكن و استقر ظلامه و قيل إن المراد بالضحى أول ساعة من النهار و قيل صدر النهار و هي الساعة التي فيها ارتفاع الشمس و اعتدال النهار في الحر و البرد في الشتاء و الصيف و قيل معناه و رب الضحى و رب الليل إذا سجى عن الجبائي و قيل إذا سجى أي غطى بالظلمة كل شي‏ء عن عطاء و الضحاك و قيل إذا أقبل ظلامه عن الحسن «ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَ ما قَلى‏» هذا جواب القسم و معناه و ما

764
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 764

تركك يا محمد ربك و ما قطع عنك الوحي توديعا لك و ما قلاك أي ما أبغضك منذ اصطفاك «وَ لَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى‏» يعني أن ثواب الآخرة و النعيم الدائم فيها خير لك من الدنيا الفانية و الكون فيها و قيل إن له ص في الجنة ألف ألف قصر من اللؤلؤ ترابه من المسك و في كل قصر ما ينبغي له من الأزواج و الخدم و ما يشتهي على أتم الوصف عن ابن عباس و قيل معناه و لآخر عمرك الذي بقي خير لك من أوله لما يكون فيه من الفتوح و النصرة «وَ لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى‏» معناه و سيعطيك ربك في الآخرة من الشفاعة و الحوض و سائر أنواع الكرامة فيك و في أمتك ما ترضى به و روى حرث بن شريح عن محمد بن علي بن الحنفية أنه قال يا أهل العراق تزعمون أن أرجى آية في كتاب الله عز و جل «يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى‏ أَنْفُسِهِمْ» الآية و إنا أهل البيت (ع) نقول أرجى آية في كتاب الله «وَ لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى‏» و هي و الله الشفاعة ليعطينها في أهل لا إله إلا الله حتى يقول رب رضيت و
عن الصادق (ع) قال دخل رسول الله ص على فاطمة (ع) و عليها كساء من ثلة الإبل و هي تطحن بيدها و ترضع ولدها فدمعت عينا رسول الله ص لما أبصرها فقال يا بنتاه تعجلي مرارة الدنيا بحلاوة الآخرة فقد أنزل الله علي «وَ لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى‏»
و قال زيد بن علي إن من رضا رسول الله ص أن يدخل أهل بيته الجنة و
قال الصادق (ع) رضا جدي أن لا يبقى في النار موحد
ثم عدد سبحانه عليه نعمه في دار الدنيا فقال «أَ لَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى‏» قيل في معناه قولان (أحدهما) أنه تقرير لنعمة الله عليه حين مات أبوه و بقي يتيما فآواه الله بأن سخر له أولا عبد المطلب ثم لما مات عبد المطلب قيض له أبا طالب و سخره للإشفاق عليه و حببه إليه حتى كان أحب إليه من أولاده فكلفه و رباه و اليتيم من لا أب له و كان النبي ص مات أبوه و هو في بطن أمه و قيل أنه مات بعد ولادته بمدة قليلة و ماتت أمه ص و هو ابن سنتين و مات جده و هو ابن ثماني سنين فسلمه إلى أبي طالب (ع) لأنه كان أخا عبد الله لأمه فأحسن تربيته و
سئل الصادق (ع) لم أوتم النبي ص عن أبويه فقال لئلا يكون لمخلوق عليه حق‏
 (و الآخر) أن يكون المعنى أ لم يجدك واحدا لا مثل لك في شرفك و فضلك فآواك إلى نفسه و اختصك برسالته من قولهم درة يتيمة إذا لم يكن لها مثل قال:
         لا و لا درة يتيمة بحر             تتلألأ في جؤنة البياع‏
و قيل فآواك أي جعلك مأوى للأيتام بعد أن كنت يتيما و كفيلا للأنام بعد أن كنت‏

765
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 764

مكفولا عن الماوردي ثم ذكر نعمة أخرى فقال «وَ وَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى‏» قيل في معناه أقوال (أحدها) وجدك ضالا عما أنت عليه الآن من النبوة و الشريعة أي كنت غافلا عنهما فهداك إليهما عن الحسن و الضحاك و الجبائي و نظيره ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَ لَا الْإِيمانُ و قوله «وَ إِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ» فمعنى الضلال على هذا هو الذهاب عن العلم مثل قوله «أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى‏» (و ثانيها) إن المعنى وجدك متحيرا لا تعرف وجوه معاشك فهداك إلى وجوه معاشك فإن الرجل إذا لم يهتد طريق مكسبه و وجه معيشته يقال أنه ضال لا يدري إلى أين يذهب و من أي وجه يكتسب عن أبي مسلم و
في الحديث نصرت بالرعب و جعل رزقي في ظل رمحي يعني الجهاد
 (و ثالثها) إن المعنى وجدك لا تعرف الحق فهداك إليه بإتمام العقل و نصب الأدلة و الألطاف حتى عرفت الله بصفاته بين قوم ضلال مشركين و ذلك من نعم الله سبحانه عليك (رابعها) وجدك ضالا في شعاب مكة فهداك إلى جدك عبد المطلب‏
فروي أنه ص ضل في شعاب مكة و هو صغير فرآه أبو جهل و رده إلى جده عبد المطلب‏
فروي أنه ص ضل في شعاب مكة و هو صغير فرآه أبو جهل و رده إلى جده عبد المطلب فمن الله سبحانه بذلك عليه إذا رده إلى جده على يد عدوه‏
عن ابن عباس (و خامسها)
ما روي أن حليمة بنت أبي ذؤيب لما أرضعته مدة و قضت حق الرضاع ثم أرادت رده على جده جاءت به حتى قربت من مكة فضل في الطريق فطلبته جزعة و كانت تقول إن لم أره لأرمين نفسي من شاهق و جعلت تصيح وا محمداه قالت فدخلت مكة على تلك الحال فرأيت شيخا متوكئا على عصا فسألني عن حالي فأخبرته فقال لا تبكين فأنا أدلك على من يرده عليك فأشار إلى هبل صنمهم الأكبر و دخل البيت فطاف بهبل و قبل رأسه و قال يا سيداه لم تزل منتك جسيمة رد محمدا على هذه السعدية قال فتساقطت الأصنام لما تفوه باسم محمد ص و سمع صوت إن هلاكنا على يدي محمد فخرج و أسنانه تصطك و خرجت إلى عبد المطلب و أخبرته بالحال فخرج فطاف بالبيت و دعا الله سبحانه فنودي و أشعر بمكانه فأقبل عبد المطلب و تلقاه ورقة بن نوفل في الطريق فبينما هما يسيران إذ النبي ص قائم تحت شجرة يجذب الأغصان و يلعب بالورق فقال عبد المطلب فداك نفسي و حمله و رده إلى مكة
عن كعب (و سادسها)
ما روي أنه ص خرج مع عمه أبي طالب في قافلة ميسرة غلام خديجة فبينما هو راكب ذات ليلة ظلماء جاء إبليس فأخذ بزمام ناقته فعدل به عن الطريق فجاء جبرائيل (ع) فنفخ إبليس نفخة رفع بها إلى الحبشة و رده إلى القافلة فمن الله عليه بذلك‏
عن سعيد بن المسيب (و سابعها) إن المعنى وجدك مضلولا عنك في قوم لا يعرفون حقك فهداهم إلى معرفتك و أرشدهم إلى فضلك و الاعتراف بصدقك و المراد أنك كنت خاملا لا تذكر و لا تعرف فعرفك الله الناس حتى عرفوك و عظموك.
 «وَ وَجَدَكَ عائِلًا»

766
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 764

أي فقيرا لا مال لك «فَأَغْنى‏» أي فأغناك بمال خديجة و الغنائم و قيل فأغناك بالقناعة و رضاك بما أعطاك عن مقاتل و اختار الفراء قال لم يكن غنيا عن كثرة المال لكن الله سبحانه أرضاه بما أتاه من الرزق و ذلك حقيقة الغنى و
روى العياشي بإسناده عن أبي الحسن الرضا (ع) في قوله «أَ لَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى‏» قال فردا لا مثل لك في المخلوقين فآوى الناس إليك و وجدك ضالا أي ضالة في قوم لا يعرفون فضلك فهداهم إليك و وجدك عائلا تعول أقواما بالعلم فأغناهم بك‏
و
روي أن النبي ص قال من علي ربي و هو أهل المن‏
و قد طعن بعض الملحدين فقال كيف يحسن الامتنان بالإنعام و هل يكون هذا من فعل الكرام (و الجواب) أن المن إنما يقبح من المنعم إذا أراد به الغض من المنعم عليه و الأذى له فأما من أراد التذكير لشكر نعمته و الترغيب فيه ليستحق الشاكر المزيد فإنه في غاية الحسن و لأن من كمال الجود و تمام الكرم تعريف المنعم عليه أنه إنما أنعم عليه ليسأل جميع ما يحتاج إليه فيعطي ثم أوصاه سبحانه باليتامى و الفقراء فقال «فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ» أي فلا تقهره على ماله فتذهب بحقه لضعفه كما كانت تفعل العرب في أمر اليتامى عن الفراء و الزجاج و قيل معناه لا تحتقر اليتيم فقد كنت يتيما عن مجاهد و كان النبي ص يحسن إلى اليتامى و يبرهم و يوصي بهم و
جاء في الحديث عن أبي أوفى قال كنا جلوسا عند رسول الله ص فأتاه غلام فقال غلام يتيم و أخت لي يتيمة و أم لي أرملة أطعمنا مما أطعمك الله أعطاك الله مما عنده حتى ترضى قال ما أحسن ما قلت يا غلام اذهب يا بلال فأتنا بما كان عندنا فجاء بواحدة و عشرين تمرة فقال سبع لك و سبع لأختك و سبع لأمك فقام إليه معاذ بن جبل فمسح رأسه و قال جبر الله يتمك و جعلك خلفا من أبيك و كان من أبناء المهاجرين فقال رسول الله ص رأيتك يا معاذ و ما صنعت قال رحمته قال لا يلي أحد منكم يتيما فيحسن ولايته و وضع يده على رأسه إلا كتب الله له بكل شعرة حسنة و محا عنه بكل شعرة سيئة و رفع له بكل شعرة درجة
و
عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله ص من مسح على رأس يتيم كان له بكل شعرة تمر على يده نور يوم القيامة
و
قال ص أنا و كافل اليتيم كهاتين في الجنة إذا اتقى الله عز و جل و أشار بالسبابة و الوسطى‏
و
عن عمر بن الخطاب عن النبي ص قال إن اليتيم إذا بكى اهتز لبكائه عرش الرحمن فيقول الله لملائكته يا ملائكتي من أبكى هذا اليتيم الذي غيب أبوه في التراب فتقول الملائكة أنت أعلم فيقول الله تعالى يا ملائكتي فإني أشهدكم أن لمن أسكته و أرضاه أن أرضيه يوم القيامة
و كان عمر إذا رأى يتيما مسح رأسه و أعطاه شيئا «وَ أَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ» أي لا تنهر السائل و لا ترده إذا أتاك يسألك فقد كنت فقيرا فأما أن تطعمه و إما أن ترده ردا لينا و
في الحديث عن أنس بن مالك قال قال رسول الله ص إذا أتاك سائل‏

767
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 764

على فرس باسط كفيه فقد وجب له الحق و لو بشق تمرة
قال أبو مسلم يريد كما أعطاك الله و رحمك و أنت عائل فأعط سائلك و ارحمه و قال الجبائي: المراد بها جميع المكلفين و إن كان الخطاب للنبي ص و قيل إن المراد بالسائل طلب العلم و هو متصل بقوله «وَ وَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى‏» عن الحسن و المعنى علم من يسألك كما علمك الله الشرائع و كنت بها غير عالم «وَ أَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ» معناه اذكر نعمة الله و أظهرها و حدث بها و
في الحديث من لم يشكر الناس لم يشكر الله و من لم يشكر القليل لم يشكر الكثير و التحدث بنعمة الله شكر و تركه كفر
و قيل يريد بالنعمة القرآن عن الكلبي قال و كان القرآن أعظم ما أنعم الله عليه به فأمره أن يقرأه و قيل بالنبوة التي أعطاك ربك عن مجاهد و اختاره الزجاج قال: أي بلغ ما أرسلت به و حدث بالنبوة التي آتاكها الله و هي أجل النعم و قيل معناه اشكر لما ذكر من النعمة عليك في هذه السورة
قال الصادق (ع) معناه فحدث بما أعطاك الله و فضلك و رزقك و أحسن إليك و هداك.
النظم‏
وجه اتصال قوله «لَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى‏» بما قبله أن في قوله «ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَ ما قَلى‏» إثباتا لمحبته سبحانه إياه و إنعامه عليه فاتصل هذا أيضا به و التقدير ليس الأمر كما قالوه بل الوحي يأتيك ما عمرت و تدوم محبتي لك و ما أعطيتك في الآخرة من الشرف و رفعة المنزلة خير مما أعطيتك اليوم فإذا حسدوك على ذا فكيف بهم إذا رأوا ذلك و أما اتصال قوله «أَ لَمْ يَجِدْكَ» بما قبله فوجهه أنه اتصال ذكر النعم بذكر المنعم و التقدير أنه سبحانه سينعم عليك في مستقبل أمرك كما أنعم عليك في الماضي من أمرك.

768
مجمع البيان في تفسير القرآن10

سورة الشرح مكية و آياتها ثمان ص 769

(94) سورة الشرح مكية و آياتها ثمان (8)
[توضيح‏]
مكية و هي ثماني آية بالإجماع.
فضلها
أبي بن كعب عنه ص قال من قرأها أعطي من الأجر كمن لقي محمدا ص مغتما ففرج عنه‏
و روى أصحابنا أن الضحى و أ لم نشرح سورة واحدة لتعلق إحديهما بالأخرى و لم يفصلوا بينهما ببسم الله الرحمن الرحيم و جمعوا بينهما في الركعة الواحدة في الفريضة و كذلك القول في سورة أ لم تر كيف و لإيلاف قريش و السياق يدل على ذلك لأنه قال أَ لَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى‏ إلى آخرها ثم قال:
[سورة الشرح (94): الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏
أَ لَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَ وَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَ رَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (4)
فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (6) فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَ إِلى‏ رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)

اللغة
الشرح فتح الشي‏ء بإذهاب ما يصد عن إدراكه و أصل الشرح التوسعة و يعبر عن السرور بسعة القلب و شرحه و عن الهم بضيق القلب لأنه يورث ذلك و الوزر الثقل في اللغة و منه اشتق اسم الوزير لتحمله أثقال الملك و إنما سميت الذنوب أوزارا لما يستحق عليها من العقاب العظيم و الأنقاض الأثقال التي كان ينتقض بها ما حمل عليه و النقض‏

769
مجمع البيان في تفسير القرآن10

اللغة ص 769

و الهدم واحد و نقض المذهب إبطاله بما يفسده و بعير نقض سفر إذا أثقله السفر و النصب التعب و أنصبه الهم فهو منصب قال الشاعر:
          (تعناك هم من أميمة منصب)
و هم ناصب ذو نصب قال النابغة:
          (كليني لهم يا أميمة ناصب)
المعنى‏
ثم أتم سبحانه تعداد نعمه على نبيه ص فقال «أَ لَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ»
روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال قال رسول الله ص لقد سألت ربي مسألة وددت أني لم أسأله قلت أي رب أنه قد كان أنبياء قبلي منهم من سخرت له الريح و منهم من كان يحيي الموتى قال فقال (أ لم أجدك يتيما فأويتك) قال قلت بلى قال (أ لم أجدك ضالا فهديتك) قال قلت بلى أي رب قال (أ لم أشرح لك صدرك و وضعت عنك وزرك) قال قلت بلى أي رب‏
و المعنى أ لم نفتح لك صدرك و نوسع قلبك بالنبوة و العلم حتى قمت بأداء الرسالة و صبرت على المكاره و احتمال الأذى و اطمأننت إلى الإيمان فلم تضق به ذرعا و منه تشريح اللحم لأنه فتحه بترقيقه فشرح سبحانه صدره بأن ملأه علما و حكمة و رزقه حفظ القرآن و شرائع الإسلام و من عليه بالصبر و الاحتمال و قيل إنه ص كان قد ضاق صدره بمعاداة الجن و الإنس إياه و مناصبتهم له فأتاه من الآيات ما اتسع به صدره بكل ما حمله الله إياه و أمره به و ذلك من أعظم النعم عن البلخي و قيل معناه أ لم نشرح صدرك بإذهاب الشواغل التي تصد عن إدراك الحق و
عن ابن عباس قال سئل النبي ص فقيل يا رسول الله أ ينشرح الصدر قال نعم قالوا يا رسول الله و هل لذلك علامة يعرف بها قال نعم التجافي عن دار الغرور و الإنابة إلى دار الخلود و الإعداد للموت قبل نزول الموت‏
و معنى الاستفهام في الآية التقرير أي قد فعلنا ذلك و يدل عليه قوله في العطف عليه «وَ وَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ» أي و حططنا عنك وزرك «الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ» أي أثقله حتى سمع له نقيض أي صوت عن الزجاج قال: و هذا مثل معناه أنه لو كان حملا لسمع نقيض ظهره و قيل إن المراد به تخفيف أعباء النبوة التي تثقل الظهر من القيام بأمرها سهل الله ذلك عليه حتى تيسر له و من عليه بذلك عن أبي عبيدة و عبد العزيز بن يحيى و قيل معناه و أزلنا عنك همومك التي أثقلتك من أذى الكفار فشبه الهموم بالحمل و العرب تجعل الهم ثقلا عن أبي مسلم و قيل معناه و عصمناك عن احتمال الوزر فإن المقصود من الوضع أن لا يكون عليه ثقل فإذا عصم كان أبلغ في أن لا يكون قال المرتضى قدس الله روحه إنما سميت الذنوب بأنها أوزار لأنها تثقل كاسبها و حاملها فكل شي‏ء أثقل الإنسان و غمه و كده جاز أن يسمى وزرا فلا يمتنع أن يكون‏

770
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 770

الوزر في الآية إنما أراد به غمه ص بما كان عليه قومه من الشرك و أنه و أصحابه بينهم مقهور مستضعف فلما أعلى الله كلمته و شرح صدره و بسط يده خاطبه بهذا الخطاب تذكيرا له بمواقع النعمة ليقابله بالشكر و يؤيده ما بعده من الآيات فإن اليسر بإزالة الهموم أشبه و العسر بإزالة الشدائد و الغموم أشبه فإن قيل أن السورة مكية نزلت قبل أن يعلي الله كلمة الإسلام فلا وجه لقولكم قلنا أنه سبحانه لما بشره بأن يعلي دينه على الدين كله و يظهره على أعدائه كان بذلك واضعا عنه ثقل غمه بما كان يلحقه من أذى قومه و مبدلا عسره يسرا فإنه يثق بأن وعد الله حق و يجوز أيضا أن يكون اللفظ و إن كان ماضيا فالمراد به الاستقبال كقوله وَ نادى‏ أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ وَ نادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ و لهذا نظائر كثيرة «وَ رَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ» أي قرنا ذكرك بذكرنا حتى لا أذكر إلا و تذكر معي يعني في الأذان و الإقامة و التشهد و الخطبة على المنابر عن الحسن و غيره قال قتادة: رفع الله ذكره في الدنيا و الآخرة فليس خطيب و لا متشهد و لا صاحب صلاة إلا و ينادي بأشهد أن لا إله إلا الله و أشهد أن محمدا رسول الله و
في الحديث عن أبي سعيد الخدري عن النبي ص في هذه الآية قال قال لي جبرائيل قال الله عز و جل إذا ذكرت ذكرت معي‏
و في هذا يقول حسان بن ثابت يمدح النبي ص:
         أغر عليه للنبوة خاتم             من الله مشهور يلوح و يشهد
         و ضم الإله اسم النبي إلى اسمه             إذا قال في الخمس المؤذن أشهد
         و شق له من اسمه ليجله             فذو العرش محمود و هذا محمد.
ثم وعد سبحانه اليسر و الرخاء بعد الشدة و ذلك أنه كان بمكة في شدة قال «فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً» أي مع الفقر سعة عن الكلبي و قيل معناه أن مع الشدة التي أنت فيها من مزاولة المشركين يسرا و رخاء بأن يظهرك الله عليهم حتى ينقادوا للحق الذي جئتهم به طوعا أو كرها ثم كرر ذلك فقال «إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً»
روى عطاء عن ابن عباس قال يقول الله تعالى خلقت عسرا واحدا و خلقت يسرين فلن يغلب عسر يسرين‏
و
عن الحسن قال خرج النبي ص يوما مسرورا فرحا و هو يضحك و يقول لن يغلب عسر يسرين‏
 «فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً» قال الفراء: إن العرب تقول إذا ذكرت نكرة ثم أعدتها نكرة مثلها صارتا اثنتين كقولك إذا كسبت درهما فأنفق درهما فالثاني غير الأول فإذا أعدتها معرفة فهي هي كقولك إذا كسبت الدرهم فأنفق الدرهم فالثاني هو الأول و نحو هذا ما قال الزجاج: أنه ذكر العسر مع الألف و اللام ثم ثنى ذكره فصار المعنى إن مع العسر يسرين و قال صاحب كتاب النظم في تفسير

771
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 770

هذه الآية: إن الله بعث نبيه و هو مقل مخف و كانت قريش تعيره بذلك حتى قالوا له إن كان بك من هذا القول الذي تدعيه طلب الغنى جمعنا لك مالا حتى تكون كأيسر أهل مكة فكره النبي ص ذلك و ظن أن قومه إنما يكذبوه لفقره فوعده الله سبحانه الغنى ليسليه بذلك عما خامره من الهم فقال «فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً» و تأويله لا يحزنك ما يقولون و ما أنت فيه من الإقلال فإن مع العسر يسرا في الدنيا عاجلا ثم أنجز ما وعده فلم يمت حتى فتح عليه الحجاز و ما والاها من القرى العربية و عامة بلاد اليمن فكان يعطي المائتين من الإبل و يهب الهبات السنية و يعد لأهله قوت سنته ثم ابتدأ فصلا آخر فقال «إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً» و الدليل على ابتدائه تعريه من فاء و واو و هو وعد لجميع المؤمنين لأنه يعني بذلك أن مع العسر في الدنيا للمؤمن يسرا في الآخرة و ربما اجتمع له اليسران يسر الدنيا و هو ما ذكر في الآية الأولى و يسر الآخرة و هو ما ذكر في الآية الثانية
فقوله ص لن يغلب عسر يسرين‏
أي يسر الدنيا و الآخرة فالعسر بين يسرين أما فرج الدنيا و أما ثواب الآخرة و هذا الذي ذكره الجرجاني يؤيد ما ذهب إليه المرتضى قدس الله روحه من أن القائل إذا قال شيئا ثم كرره فإن الظاهر من تغاير الكلامين تغاير مقتضاهما حتى يكون كل واحد منهما مفيدا لما لا يفيده الآخر فيجب مع الإطلاق حمل الثاني على غير مقتضى الأول إلا إذا كان بين المتخاطبين عهد أو دلالة يعلم المخاطب بذلك أن المخاطب أراد بكلامه الثاني الأول فيحمله على ذلك و أنشد أبو بكر الأنباري:
         إذا بلغ العسر مجهوده             فثق عند ذاك بيسر سريع‏
         أ لم تر نحس الشتاء الفظيع             يتلوه سعد الربيع البديع‏
و أنشد إسحاق بن بهلول القاضي:
         فلا تيأس و إن أعسرت يوما             فقد أيسرت في دهر طويل‏
         و لا تظنن بربك ظن سوء             فإن الله أولى بالجميل‏
         فإن العسر يتبعه يسار             و قول الله أصدق كل قيل‏
 «فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَ إِلى‏ رَبِّكَ فَارْغَبْ» معناه فإذا فرغت من الصلاة المكتوبة فانصب إلى ربك في الدعاء و أرغب إليه في المسألة يعطك عن مجاهد و قتادة و الضحاك و مقاتل و الكلبي و هو المروي عن أبي جعفر و أبي عبد الله (ع)
و معنى انصب من النصب و هو التعب أي لا تشتغل بالراحة و قال الزهري: إذا فرغت من الفرائض فادع بعد التشهد بكل حاجتك و
قال الصادق (ع) هو الدعاء في دبر الصلاة و أنت جالس‏
و قيل معناه فإذا فرغت من‏

772
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 770

الفرائض فانصب في قيام الليل عن ابن مسعود و قيل معناه فإذا فرغت من دنياك فانصب في عبادة ربك و صل عن مجاهد و الجبائي و قيل فإذا فرغت من الفرائض فانصب فيما رغبك الله فيه من الأعمال و صل عن ابن عباس و قيل إذا فرغت من جهاد أعدائك فانصب بالعبادة لله عن الحسن و ابن زيد و قيل فإذا فرغت من جهاد الأعداء فانصب بجهاد نفسك و قيل إذا فرغت من أداء الرسالة فانصب لطلب الشفاعة و سئل علي بن طلحة عن هذه الآية فقال القول فيه كثير و قد سمعناه أنه يقال إذا صححت فاجعل صحتك و فراغك نصبا في العبادة و يدل على هذا ما روي أن شريحا مر برجلين يصطرعان فقال: ليس بهذا أمر الفارغ إنما قال الله سبحانه «فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَ إِلى‏ رَبِّكَ فَارْغَبْ» أي فارفع حوائجك إلى ربك و لا ترفعها إلى أحد من خلقه و قال عطاء: يريد تضرع إليه راهبا من النار و راغبا إلى الجنة.

773
مجمع البيان في تفسير القرآن10

سورة التين مكية و آياتها ثمان ص 774

(95) سورة التين مكية و آياتها ثمان (8)
[توضيح‏]
مكية المعدل عن ابن عباس مدنية ثماني آيات بالإجماع.
فضلها
أبي بن كعب عن النبي ص من قرأها أعطاه الله خصلتين العافية و اليقين ما دام في دار الدنيا فإذا مات أعطاه الله من الأجر بعدد من قرأ هذه السورة صيام يوم‏
و
عن البراء بن عازب قال سمعت النبي ص يقرأ في المغرب و التين و الزيتون فما رأيت إنسانا أحسن قراءة منه رواه أبو مسلم في الصحيح‏
و
روى شعيب العقرقوفي عن أبي عبد الله (ع) قال من قرأ و التين في فرائضه و نوافله أعطي من الجنة حيث يرضى.
تفسيرها
أمر الله سبحانه بالرغبة إليه في خاتمة تلك السورة و افتتح هذه السورة بذكر أنه الخالق المستحق للعبادة بعد أن أقسم عليه فقال:
[سورة التين (95): الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏
وَ التِّينِ وَ الزَّيْتُونِ (1) وَ طُورِ سِينِينَ (2) وَ هذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4)
ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (5) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (8)

774
مجمع البيان في تفسير القرآن10

اللغة ص 775

اللغة
التقويم تصيير الشي‏ء على ما ينبغي أن يكون عليه من التأليف و التعديل يقال قومه فاستقام و تقوم.
المعنى‏
«وَ التِّينِ وَ الزَّيْتُونِ» أقسم الله سبحانه بالتين الذي يؤكل و الزيتون الذي يعصر منه الزيت عن ابن عباس و الحسن و مجاهد و عكرمة و قتادة و هو الظاهر و إنما أقسم بالتين لأنه فاكهة مخلصة من شائب التنغيص و فيه أعظم عبرة لأنه عز اسمه جعلها على مقدار اللقمة و هيأها على تلك الصفة إنعاما على عباده بها و
قد روى أبو ذر عن النبي ص قال في التين لو قلت إن فاكهة نزلت من الجنة لقلت هذه هي لأن فاكهة الجنة بلا عجم فكلوها فإنها تقطع البواسير و تنفع من النقرس‏
و أما الزيتون فإنه يعتصر منه الزيت الذي يدور في أكثر الأطعمة و هو إدام و التين طعام فيه منافع كثيرة و قيل التين الجبل الذي عليه دمشق و الزيتون الجبل الذي عليه بيت المقدس عن قتادة و قال عكرمة: هما جبلان و إنما سميا لأنهما ينبتان بهما و قيل التين مسجد دمشق و الزيتون بيت المقدس عن كعب الأحبار و عبد الرحمن بن غنيم و ابن زيد و قيل التين مسجد نوح الذي بني على الجودي و الزيتون بيت المقدس عن ابن عباس و قيل التين المسجد الحرام و الزيتون المسجد الأقصى عن الضحاك «وَ طُورِ سِينِينَ» يعني الجبل الذي كلم الله عليه موسى عن الحسن و سينين و سيناء واحد و قيل إن سينين معناه المبارك الحسن و كأنه قيل جبل الخير الكثير لأنه إضافة تعريف عن مجاهد و قتادة و قيل معناه كثير النبات و الشجر عن عكرمة و قيل إن كل جبل فيه شجر مثمر فهو سينين و سيناء بلغة النبط عن مقاتل‏
قال عمرو بن ميمون سمعت عمر بن الخطاب يقرأ بمكة في المغرب و التين و الزيتون و طور سيناء قال فظننت أنه إنما قرأها ليعلم حرمة البلد و روي ذلك عن موسى بن جعفر (ع)
أيضا «وَ هذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ» يعني مكة البلد الحرام يأمن فيه الخائف في الجاهلية و الإسلام فالأمين يعني المؤمن من يدخله و قيل بمعنى الأمن و يؤيده قوله أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً قال الشاعر:
         أ لم تعلمي يا أسم ويحك إنني             حلفت يمينا لا أخون أميني‏
يريد آمني «لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ» هذا جواب القسم و أراد جنس الإنسان و هو آدم و ذريته خلقهم الله في أحسن صورة عن إبراهيم و مجاهد و قتادة و قيل في أحسن تقويم أي منتصب القامة و سائر الحيوان مكب على وجهه إلا الإنسان عن ابن عباس‏

775
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 775

و قيل أراد أنه خلقهم على كمال في أنفسهم و اعتدال في جوارحهم و أبانهم عن غيرهم بالنطق و التمييز و التدبير إلى غير ذلك مما يختص به الإنسان و في ذلك إشارة أيضا إلى حال الشباب «ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ» يريد إلى الخرف و أرذل العمر و الهرم و نقصان العقل و السافلون هم الضعفاء و الزمنى و الأطفال و الشيخ الكبير أسفل هؤلاء جميعا عن ابن عباس و إبراهيم و قتادة و قيل معناه ثم رددناه إلى النار عن الحسن و مجاهد و ابن زيد و الجبائي و المعنى إلى أسفل الأسفلين لأن جهنم بعضها أسفل من بعض و على هذا فالمراد به الكفار أي خلقناهم في أحسن خلقة أحرارا عقلاء مكلفين فكفروا فرددناهم إلى النار في أقبح صورة ثم استثنى فقال «إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا» أي صدقوا بالله «وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ» أي أخلصوا العبادة لله و أضافوا إلى ذلك الأعمال الصالحة فإن هؤلاء لا يردون إلى النار و من قال بالقول الأول قال إن المؤمن لا يرد إلى الخرف و إن عمر عمرا طويلا قال إبراهيم: إذا بلغ المؤمن من الكبر ما يعجز معه من العمل كتب له ما كان يعمل و هو قوله «فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ» و قال عكرمة: من رد منهم إلى أرذل العمر كتب له صالح ما كان يعمل في شبابه و ذلك أجر غير ممنون و عن ابن عباس قال: و من قرأ القرآن لم يرد إلى أرذل العمر و ذلك قوله «ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ» قال إلا الذين قرءوا القرآن و
في الحديث عن أنس قال قال رسول الله ص المولود حتى يبلغ الحنث ما عمل من حسنة كتب لوالديه فإن عمل سيئة لم تكتب عليه و لا على والديه فإذا بلغ الحنث و جرى عليه القلم أمر الله الملكين اللذين معه يحفظانه و يسددانه فإذا بلغ أربعين سنة في الإسلام آمنه الله من البلايا الثلاث الجنون و الجذام و البرص فإذا بلغ خمسين خفف الله حسابه فإذا بلغ ستين رزقه الإنابة إليه فيما يجب فإذا بلغ سبعين أحبه أهل السماء فإذا بلغ ثمانين كتب الله حسناته و تجاوز عن سيئاته فإذا بلغ تسعين غفر الله له ما تقدم من ذنبه و ما تأخر و شفعه في أهل بيته و كان اسمه أسير الله في الأرض فإذا بلغ أرذل العمر لكيلا يعلم بعد علم شيئا كتب الله له بمثل ما كان يعمل في صحته من الخير و إن عمل سيئة لم تكتب عليه‏
و أقول إن صح الخبر فإنما لا تكتب عليه السيئة لزوال عقله و نقصان تمييزه في ذلك الوقت و قوله «غَيْرُ مَمْنُونٍ» أي غير منقوص و قيل غير مقطوع عن أبي مسلم و قيل غير محسوب عن مجاهد و قيل غير مكدر بما يؤذي و يغم عن الجبائي «فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ» معناه أي شي‏ء يكذبك أيها الإنسان بعد هذه الحجج بالدين الذي هو الجزاء و الحساب عن الحسن و عكرمة و أبي مسلم و المراد ما يحملك على أن لا تتفكر في صوتك و شبابك و هرمك فتعتبر و تقول إن الذي فعل ذلك قادر على أن يبعثني و يحاسبني و يجازيني بعملي فيكون قوله «فَما يُكَذِّبُكَ» يعني به ما الذي يجعلك تكذب و قيل إن الخطاب‏

776
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 775

للنبي ص أي فمن يكذبك أيها الرسول بعد هذه الحجج بالدين الذي هو الإسلام عن مجاهد و قتادة أي لا شي‏ء يكذبك «أَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ» هذا تقرير للإنسان على الاعتراف بأنه تعالى أحكم الحاكمين في صنائعه و أفعاله و أنه لا خلل في شي‏ء منها و لا اضطراب فكيف يترك هذه الخلائق و يهملهم فلا يجازيهم و قيل معناه أ ليس الله بأقضى القاضين فيحكم بينك يا محمد و بين أهل التكذيب بك عن مقاتل و
قال قتادة و كان رسول الله ص إذا ختم هذه السورة قال بلى و أنا على ذلك من الشاهدين.
النظم‏
اتصل قوله «أَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ» بما قبله من ذكر الدين و الجزاء على سبيل التنبيه على الإعادة فإن الحكيم إذا كلف و أمر و نهى و خلى بين الظالم و المظلوم فلا بد من المجازاة و الإنصاف و الانتصاف فإذا لم يكن ذلك في الدنيا فلا بد من البعث فإن أحكم الحاكمين لا يجوز عليه الإخلال بما ذكرناه.

777
مجمع البيان في تفسير القرآن10

سورة العلق مكية و آياتها تسع عشرة ص 778

(96) سورة العلق مكية و آياتها تسع عشرة (19)
عدد آيها
عشرون آية حجازي و تسع عشرة عراقي و ثماني عشرة شامي.
اختلافها
آيتان الذي ينهى غير الشامي لئن لم ينته حجازي.
فضلها
أبي بن كعب عن النبي ص من قرأها فكأنما قرأ المفصل كله‏
محمد بن حسان عن أبي عبد الله (ع) قال من قرأ في يومه أو في ليلته اقرأ باسم ربك ثم مات في يومه أو في ليلته مات شهيدا و بعثه الله شهيدا و أحياه كمن ضرب بسيفه في سبيل الله مع رسول الله ص.
تفسيرها
ختم الله سبحانه تلك السورة بذكر اسمه و افتتح هذه السورة باسمه أيضا فقال:

778
مجمع البيان في تفسير القرآن10

سورة العلق الآيات 1 الى 19 ص 779

[سورة العلق (96): الآيات 1 الى 19]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَ رَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4)
عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (5) كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى‏ (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى‏ (7) إِنَّ إِلى‏ رَبِّكَ الرُّجْعى‏ (8) أَ رَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى‏ (9)
عَبْداً إِذا صَلَّى (10) أَ رَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى‏ (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى‏ (12) أَ رَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَ تَوَلَّى (13) أَ لَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى‏ (14)
كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (15) ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (18) كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَ اسْجُدْ وَ اقْتَرِبْ (19)

اللغة
العلق جمع علقة و هي القطعة الجامدة من الدم التي تعلق لرطوبتها بما تمر به فإذا جفت لا تسمى علقة و العلق ضرب من الدود أسود لأنه يعلق على العضو فيمتص منه الدم و الرجعى الرجوع و المرجع واحد و السفع الجذب الشديد يقال سفعت بالشي‏ء إذا قبضت عليه و جذبته جذبا شديدا و سفعته النار و الشمس إذا غيرت وجهه إلى حال تشويه و منه الحديث‏
ليصيبن أقواما سفع من النار
أي تشويه خلقة و الناصية شعر مقدم الرأس سميت بذلك لأنها متصلة بالرأس من قولهم ناصى يناصي مناصاة إذا وصل قال الراجز:
         " قي تناصيها بلاد قي"
النادي مجلس أهل النادي ثم كثر فسمي كل مجلس ناديا و واحد الزبانية زبينة عن أبي عبيدة و زبني عن الكسائي و زابن عن الأخفش أخذ من الزبن و هو الدفع و الناقة تزبن الحالب أي تركضه برجلها قال الشاعر:
         و مستعجب مما يرى من انائنا             و لو زبنته الحرب لم يترمرم‏
الإعراب‏
 «خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ» تخصيص بعد تعميم أ لا ترى أن قوله «خَلَقَ الْإِنْسانَ» بعد قوله «خَلَقَ» خصوص بعد عموم فهو مثل قوله يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ثم قال وَ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ فخصص الآخرة بعد ذكر الغيب الذي هو عام لكل ما غاب عنا و عكسه قول لبيد:
         و هم العشيرة أن يبطئ حاسد             أو أن يلوم بحاجة لوامها

779
مجمع البيان في تفسير القرآن10

الإعراب ص 779

أ لا ترى أن اللوم أعم من التبطئة لأن التبطئة نسبة قوم إلى البطء فهذا بعض اللوم و قوله «إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى‏ أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى‏» الضمير المستكن في رآه عائد إلى الضمير المستكن في يطغى و الهاء في رآه عائد إلى الضمير المستكن فيه و إنما جاز أن يعود الضمير المنصوب إلى ضمير الفاعل في باب علمت و أخواتها من غير ذكر النفس لدخول هذه الأفعال على المبتدأ و الخبر و الخبر هو نفس المبتدأ فتقول علمتني و حسبتني أفعل كذا و لا يجوز في غيرها إلا بواسطة النفس تقول ضربت نفسي و لا تقول ضربتني و إن رآه في محل نصب لأنه مفعول له و «اسْتَغْنى‏» جملة في موضع النصب لكونها مفعولة ثانية لرآه و التقدير لأن رآه مستغنيا. ناصية بدل من الناصية أي بناصية كاذبة خاطئة و معناه بناصية صاحبها كاذب خاطئ يقال فلان نهاره صائم و ليلة قائم أي هو صائم في نهاره و قائم في ليله. «فَلْيَدْعُ نادِيَهُ» أي أهل نادية فحذف المضاف. و النون في «لَنَسْفَعاً» نون التأكيد الخفيفة و الاختيار عند البصريين أن تكتب بالألف لأن الوقف عليها بالألف و اختار الكوفيون أن تكتب بالنون لأنها نون في الحقيقة.
المعنى‏
 «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ» هذا أمر من الله سبحانه لنبيه ص أن يقرأ باسم ربه و أن يدعوه بأسمائه الحسنى و في تعظيم الاسم تعظيم المسمى لأن الاسم ذكر المسمى بما يخصه فلا سبيل إلى تعظيمه إلا بمعناه و لهذا لا يعظم اسم الله حق تعظيمه إلا من هو عارف به و معتقد عبادته و لهذا قال سبحانه قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى‏ و قال سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى فالباء هنا زائدة و التقدير اقرأ باسم ربك و أكثر المفسرين على أن هذه السورة أول ما نزل من القرآن و أول يوم نزل جبرائيل (ع) على رسول الله ص و هو قائم على حراء علمه خمس آيات من أول هذه السورة و قيل أول ما نزل من القرآن قوله «يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ» و قد مر ذكره و قيل أول سورة نزلت على رسول الله ص فاتحة الكتاب‏
رواه الحاكم أبو عبد الله الحافظ بإسناده عن أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل أن رسول الله ص قال لخديجة:
إني إذا خلوت وحدي سمعت نداء فقالت ما يفعل الله بك إلا خيرا فو الله إنك لتؤدي الأمانة و تصل الرحم و تصدق الحديث قالت خديجة: فانطلقنا إلى ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى هو ابن عم خديجة فأخبره رسول الله ص بما رأى فقال له ورقة: إذا أتاك فاثبت له حتى تسمع ما يقول ثم أتيني فأخبرني فلما خلا ناداه يا محمد قل له ذلك فقال له أبشر ثم أبشر فأنا أشهد أنك الذي بشر به ابن مريم و أنك على مثل ناموس موسى و أنك نبي مرسل و أنك سوف تؤمر بالجهاد بعد يومك هذا و لئن أدركني ذلك لأجاهدن معك فلما توفي ورقة قال رسول الله ص: لقد رأيت القس في الجنة عليه ثياب الحرير لأنه آمن بي و صدقني‏
يعني ورقة و روي أن ورقة قال في ذلك:

780
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 780

         فإن يك حقا يا خديجة فأعلمي             حديثك إيانا فأحمد مرسل‏
         و جبريل يأتيه و ميكال معهما             من الله وحي يشرح الصدر منزل‏
         يفوز به من فاز عزا لدينه             و يشقى به الغاوي الشقي المضلل‏
         فريقان منهم فرقة في جنانه             و أخرى بأغلال الجحيم تغلغل‏
ثم وصف سبحانه ربه و بينه بفعله الدال عليه فقال «الَّذِي خَلَقَ» أي خلق جميع المخلوقات على مقتضى حكمته و أخرجه من العدم إلى الوجود بكمال قدرته ثم خص الإنسان بالذكر تشريفا له و تنبيها على إبانته إياه عن سائر الحيوان فقال «خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ» أراد به جنس بني آدم أي خلقهم من دم جامد بعد النطفة و قيل معناه خلق آدم من طين يعلق باليد و الأول أصح و في هذا إشارة إلى بيان النعمة بأن خلقه من الأصل الذي هو في الغاية القصوى من المهانة ثم بلغ به مبالغ الكمال حتى صار بشرا سويا مهيئا للنطق و التمييز مفرغا في قالب الاعتدال و أنه كما نقل الإنسان من حال إلى حال حتى استكمل كذلك بنقلك من الجهالة إلى درجة النبوة و الرسالة حتى تستكمل شرف محلها ثم أكد الأمر بالإعادة فقال «اقْرَأْ» و قيل أمره في الأول بالقراءة لنفسه و في الثاني بالقراءة للتبليغ و ليس بتكرار عن الجبائي و معناه اقرأ القرآن «وَ رَبُّكَ الْأَكْرَمُ» أي الأعظم كرما فلا يبلغه كرم كريم لأنه يعطي من النعم ما لا يقدر على مثله غيره فكل نعمة توجد من جهته تعالى إما بأن اخترعها و إما سببها و سهل الطريق إليها و قيل معناه بلغ قومك و ربك الأكرم الذي يثيبك على عملك بما يقتضيه كرمه و يقويك و يعينك على حفظ القرآن «الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ» أي علم الكاتب أن يكتب بالقلم أو علم الإنسان البيان بالقلم أو علم الكتابة بالقلم امتن سبحانه على خلقه بما علمهم من كيفية الكتابة بالقلم لما في ذلك من كثرة الانتفاع فيما يتعلق بالدين و الدنيا قال قتادة: القلم نعمة من الله عظيمة لولاه لم يقم دين و لم يصلح عيش و قال بعضهم في وصفه:
         لعاب الأفاعي القاتلات لعابه             و أري الجنى اشتارته أيد عواسل.
و قيل أراد سبحانه آدم لأنه أول من كتب عن كعب و قيل أول من كتب إدريس عن الضحاك و قيل أراد كل نبي كتب بالقلم لأنه ما علمه إلا بتعليم الله إياه «عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ» من أنواع الهدى و البيان و أمور الدين و الشرائع و الأحكام فجميع ما يعلمه الإنسان‏

781
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 780

من جهته سبحانه إما بأن اضطره إليه و إما بأن نصب الدليل عليه في عقله و إما بأن بينه له على ألسنة ملائكته و رسله فكل العلوم على هذا مضاف إليه و في هذا دلالة على أنه سبحانه عالم لأن العلم لا يقع إلا من عالم «كَلَّا» أي حقا «إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى‏» أي يتجاوز حده و يستكبر على ربه و يعدو طوره «أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى‏» أي لأن رآه نفسه مستغنية عن ربه بعشيرته و أمواله و قوته كأنه قال إنما يطغى من رأى أنه مستغن عن ربه لا من كان غنيا قال قتادة:
كان إذا أصاب مالا زاد في ثيابه و مركبه و طعامه و شرابه فذلك طغيانه و قيل إنها نزلت في أبي جهل هشام من هنا إلى آخر السورة «إِنَّ إِلى‏ رَبِّكَ الرُّجْعى‏» أي إلى الله مرجع كل أحد أي فهذا الطاغي كيف يطغى بماله و يعصي ربه و رجوعه إليه و هو قادر على إهلاكه و على مجازاته إذا رجع إليه «أَ رَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى‏ عَبْداً إِذا صَلَّى» هذا تقرير للنبي ص و أعلام له بما يفعله بمن ينهاه عن الصلاة
فقد جاء في الحديث أن أبا جهل قال هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم قالوا نعم قال فبالذي يحلف به لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن على رقبته فقيل له ها هو ذلك يصلي فانطلق ليطأ على رقبته فما فجأهم إلا و هو ينكص على عقبيه و يتقي بيديه فقالوا ما لك يا أبا الحكم قال إن بيني و بينه خندقا من نار و هولا و أجنحة و قال نبي الله و الذي نفسي بيده لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوا عضوا فأنزل الله سبحانه «أَ رَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى‏» إلى آخر السورة رواه مسلم في الصحيح‏
و معنى الآية أ رأيت يا محمد من منع من الصلاة و نهى من يصلي عنها ما ذا يكون جزاؤه و ما يكون حاله عند الله تعالى و ما الذي يستحقه من العذاب فحذف لدلالة الكلام عليه و الآية عامة في كل من ينهى عن الصلاة و الخير و
روي عن علي (ع) أنه خرج في يوم عيد فرأى ناسا يصلون فقال يا أيها الناس قد شهدنا نبي الله في مثل هذا اليوم فلم يكن أحد يصلي قبل العيد أو قال النبي ص فقال رجل يا أمير المؤمنين أ لا تنهى أن يصلوا قبل خروج الإمام فقال لا أريد أن أنهي عبدا إذا صلى و لكنا نحدثهم بما شهدنا من النبي ص أو كما قال‏
و معنى أ رأيت هاهنا تعجيب للمخاطب ثم كرر هذه اللفظة تأكيدا في التعجيب فقال «أَ رَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى‏» يعني العبد المنهي و هو محمد ص «أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى‏» يعني بالإخلاص و التوحيد و مخافة الله تعالى و هاهنا حذف أيضا تقديره كيف يكون حال من ينهاه عن الصلاة و يزجره عنها ثم قال «أَ رَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ» أبو جهل «وَ تَوَلَّى» عن الإيمان و أعرض عن قبوله و الإصغاء إليه «أَ لَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى‏» ما يفعله و يعلم ما يصنعه و التقدير أ رأيت الذي فعل هذا الفعل ما الذي يستحق بذلك من الله تعالى من العقاب و قيل إن تقدير نظم الآية أ رأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى و هو على الهدى آمر بالتقوى و الناهي كاذب مكذب متول عن الإيمان فما أعجب هذا ثم هدده بقوله أ لم يعلم هذا

782
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 780

المكذب فإن لم يعلم فليعلم بأن الله يرى هذا الصنيع الشنيع فيؤاخذه به و في هذا إشارة إلى فعل الطاعة و ترك المعصية ثم قال سبحانه «كَلَّا» أي لا يعلم ذلك «لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ» يعني أن لم يمتنع أبو جهل عن تكذيب محمد ص و إيذائه «لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ» أي لنجرن بناصيته إلى النار و هذا كقوله فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَ الْأَقْدامِ و معناه لنذلنه و نقيمنه مقام الأذلة ففي الأخذ بالناصية إهانة و استخفاف و قيل معناه لنغيرن وجهه و نسودنه بالنار يوم القيامة لأن السفع أثر الإحراق بالنار ثم أخبر سبحانه عنه بأنه فاجر خاطئ بأن قال «ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ» وصفها بالكذب و الخطإ بمعنى أن صاحبها كاذب في أقواله خاطئ في أفعاله، لما ذكر الجر بها أضاف الفعل إليها قال ابن عباس: لما أتى أبو جهل رسول الله ص انتهره رسول الله ص فقال أبو جهل أ تنتهرني يا محمد فو الله لقد علمت ما بها أحد أكثر ناديا مني فأنزل الله سبحانه «فَلْيَدْعُ نادِيَهُ» و هذا وعيد أي فليدع أهل نادية أي أهل مجلسه يعني عشيرته فليستنصر بهم إذا حل عقاب الله به و النادي الفناء قال وَ تَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ ثم قال «سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ» يعني الملائكة الموكلين بالنار و هم الملائكة الغلاظ الشداد قال ابن عباس: لو دعا نادية لأخذته زبانية النار من ساعته معاينة و قيل إنه إخبار بأنه يدعو إليه الزبانية دعا نادية أم لم يدع و صدق سبحانه ذلك فقتل أبو جهل يوم بدر ثم قال «كَلَّا» أي ليس الأمر على ما عليه أبو جهل «لا تُطِعْهُ» في النهي عن الصلاة «وَ اسْجُدْ» له عز اسمه «وَ اقْتَرِبْ» من ثوابه و قيل معناه و تقرب إليه بطاعته و قيل معناه اسجد يا محمد للتقرب منه فإن أقرب ما يكون العبد من الله إذا سجد له و قيل «وَ اسْجُدْ» أي و صل لله و اقترب من الله‏
و في الحديث عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله ص قال أقرب ما يكون العبد من الله إذا كان ساجدا
و قيل المراد به السجود لقراءة هذه السورة و السجود هنا فرض و هو من العزائم و
روي عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (ع) قال العزائم الم تنزل و حم السجدة و النجم إذا هوى و اقرأ باسم ربك و ما عداها في جميع القرآن مسنون و ليس بمفروض‏

783
مجمع البيان في تفسير القرآن10

سورة القدر مكية و آياتها خمس ص 784

(97) سورة القدر مكية و آياتها خمس (5)
[توضيح‏]
مكية و قيل مدنية.
عدد آيها
ست آيات مكي و شامي و خمس في الباقين.
اختلافها
آية لَيْلَةُ الْقَدْرِ الثالث مكي شامي.
فضلها
أبي بن كعب عن النبي ص من قرأها أعطي من الأجر كمن صام رمضان و أحيا ليلة القدر.
الحسين بن أبي العلاء عن أبي عبد الله (ع) قال من قرأ إنا أنزلناه في فريضة من الفرائض نادى مناد يا عبد الله قد غفر لك ما مضى فاستأنف العمل.
سيف بن عميرة عن رجل عن أبي جعفر (ع) قال من قرأ إنا أنزلناه بجهر كان كشاهر سيفه في سبيل الله و من قرأها سرا كان كالمتشحط بدمه في سبيل الله و من قرأها عشر مرات مرت على نحو ألف ذنب من ذنوبه.
تفسيرها
أمر سبحانه بالسجود و التقرب إليه في خاتمة تلك السورة و افتتح هذه السورة بذكر ليلة القدر و إن التقرب فيها إلى الله يزيد على التقرب إليه من سائر الليالي و الأيام فكأنه قال اقترب إليه في سائر الأوقات خصوصا في ليلة القدر و قال أبو مسلم: لما أمره بقراءة القرآن في تلك السورة بين في هذه السورة أن إنزاله في ليلة القدر فقال:

784
مجمع البيان في تفسير القرآن10

سورة القدر الآيات 1 الى 5 ص 785

[سورة القدر (97): الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏
إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَ ما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4)
سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)

القراءة
قرأ الكسائي و خلف مطلع بكسر اللام و الباقون بفتح اللام و في الشواذ قراءة ابن عباس و عكرمة و الكلبي من كل امرء.
الحجة
قال أبو علي: مطلع هنا مصدر بدلالة أن المعنى سلام هي حتى وقت طلوعه و إلى وقت طلوعه نحو مقدم الحاج و خفوق النجم المصدر فيه زمانا على تقدير حذف المضاف فالقياس أن يفتح اللام كما أن مصادر سائر ما كان من فعل يفعل مفتوح العين نحو المخرج و المدخل و أما الكسر فلأن المصادر التي ينبغي أن تكون على المفعل ما قد كسر كقولهم علاه المكبر و المعجزة و قوله «من كل امرء» قال ابن جني أنكر أبو حاتم هذه القراءة على أنه حكي عن ابن عباس أنه قال يعني الملائكة قال و لا أدري ما هذا و إنما هو تنزل الملائكة فيها كل آمر كقوله فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْراً مِنْ عِنْدِنا و «مِنْ كُلِّ أَمْرٍ» فتم الكلام ثم استأنف فقال سلام أي هي سلام إلى أن يطلع الفجر و قال قطرب: معناه هي سلام من كل أمر و امرئ و يلزم على قول قطرب أن يقال فكيف جاز تقديم معمول المصدر الذي هو سلام عليه و قد عرفنا امتناع جواز تقديم صلة الموصل أو شي‏ء منها عليه و الجواب أن سلاما في الأصل كعمرى مصدر فأما هنا فإنه موضوع اسم الفاعل الذي هو سالمة هي أو مسلمة فكأنه قال من كل أمر سالمة أو مسلمة هي أي هي سالمة أو مسلمة منه.
اللغة
القدر كون الشي‏ء مساويا لغيره من غير زيادة و لا نقصان و قدر الله هذا الأمر يقدره قدرا إذا جعله على مقدار ما تدعو إليه الحكمة و الشهر في الشرع عبارة عما بين هلالين من الأيام و إنما سمي شهرا لاشتهاره بالهلاك و قد يكون الشهر ثلاثين و يكون تسعة و عشرين إذا كان هلاليا فإن لم يكن هلاليا فهو ثلاثون.
الإعراب‏
 «خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ» تقديره خير من ألف شهر لا ليلة قدر فيه فحذف الصفة و قوله «سَلامٌ هِيَ» هي مبتدأ و سلام خبر مقدم عليه و هو بمعنى الفاعل لأنه إذا حمل على المصدر لم يجز تعليق حتى به لأنه لا يفصل بين الصلة و الموصول و مثله قول الشاعر:
         فهلا سعيتم سعى عصبة مازن             و هل كفلائي في الوفاء سواء
سواء بمعنى مستو و التقدير فهل كفلائي مستوون في الوفاء لا بد من هذا التقدير لأن‏

785
مجمع البيان في تفسير القرآن10

الإعراب ص 785

سواء لو كانت مصدرا لما تقدم عليه ما في صلته و يجوز تعليق حتى بقوله «تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ» و لا يجوز أن يكون هي مبتدأ و تكون حتى نكرة في موضع الخبر لأنه لا فائدة فيه إذ كل ليلة بهذه الصفة و مطلع مجرور بحتى و هو في معنى إلى.
المعنى‏
«إِنَّا أَنْزَلْناهُ» الهاء كناية عن القرآن و إن لم يجر له ذكر لأنه لا يشتبه الحال فيه «فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ» قال ابن عباس: أنزل الله القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا في ليلة القدر ثم كان ينزله جبريل (ع) على محمد ص نجوما و كان من أوله إلى آخره ثلاث و عشرون سنة و قال الشعبي: معناه أنا ابتدأنا إنزاله في ليلة القدر و قال مقاتل:
أنزله من اللوح المحفوظ إلى السفرة و هم الكتبة من الملائكة في السماء الدنيا و كان ينزل ليلة القدر من الوحي على قدر ما ينزل به جبرائيل (ع) على النبي ص في السنة كلها إلى مثلها من القابل و الكلام في ليلة القدر على ضروب (فالأول) اختلاف العلماء في معنى هذا الاسم و مأخذه فقيل سميت ليلة القدر لأنها الليلة التي يحكم الله فيها و يقضي بما يكون في السنة بأجمعها من كل أمر عن الحسن و مجاهد و هي الليلة المباركة في قوله إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ لأن الله تعالى ينزل فيها الخير و البركة و المغفرة و روى أبو الضحى عن ابن عباس أنه كان يقضي القضايا في ليلة النصف من شعبان ثم يسلمها إلى أربابها في ليلة القدر و قيل ليلة القدر أي ليلة الشرف و الخطر و عظم الشأن من قولهم رجل له قدر عند الناس أي منزلة و شرف و منه ما قَدَرُوا اللَّهَ* أي ما عظموه حق عظمته عن الزهري قال أبو بكر الوراق لأن من لم يكن ذا قدر إذا أحياها صار ذا قدر و قال غيره لأن للطاعات فيها قدرا عظيما و ثوابا جزيلا و قيل سميت ليلة القدر لأنه أنزل فيها كتاب ذو قدر إلى رسول ذي قدر لأجل أمة ذات قدر على يدي ملك ذي قدر و قيل هي ليلة التقدير لأن الله تعالى قدر فيها إنزال القرآن و قيل سميت بذلك لأن الأرض تضيق فيها بالملائكة من قوله وَ مَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ عن الخليل بن أحمد (الضرب الثاني) اختلافهم في أنها أية ليلة فذهب قوم إلى أنها إنما كانت على عهد رسول الله ص ثم رفعت و
جاءت الرواية عن أبي ذر أنه قال قلت يا رسول الله ليلة القدر هي شي‏ء تكون على عهد الأنبياء ينزل فيها فإذا قبضوا رفعت قال لا بل هي إلى يوم القيامة
و قيل إنها في ليالي السنة كلها و من علق طلاق امرأته على ليلة القدر لم يقع إلى مضي السنة و هو مذهب أبي حنيفة و في بعض الروايات عن ابن مسعود أنه قال: من يقم الحول كله يصبها فبلغ ذلك عبد الله بن عمر فقال رحم الله أبا عبد الرحمن أ ما أنه علم أنها في شهر رمضان و لكنه أراد أن لا يتكل الناس و جمهور العلماء على أنها في شهر رمضان في كل سنة ثم اختلفوا في.

786
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 786

أي ليلة هي منه فقيل هي أول ليلة منه عن ابن زيد العقيلي و قيل هي ليلة سبع عشرة منه عن الحسن و روي أنها ليلة الفرقان و في صبيحتها التقى الجمعان و الصحيح أنها في العشر الأواخر من شهر رمضان و هو مذهب الشافعي و
روي مرفوعا أنه ص قال التمسوها في العشر الأواخر
و
عن علي (ع) أن النبي ص كان يوقظ أهله في العشر الأواخر من شهر رمضان قال و كان إذا دخل العشر الأواخر دأب و أدأب أهله‏
و
روى أبو بصير عن أبي عبد الله (ع) قال كان رسول الله ص إذا دخل العشر الأواخر شد المئزر و اجتنب النساء و أحيا الليل و تفرغ للعبادة
ثم اختلفوا في أنها أية ليلة من العشر فقيل إنها ليلة إحدى و عشرين و هو مذهب أبي سعيد الخدري و اختيار الشافعي‏
قال أبو سعيد الخدري قال رسول الله ص رأيت هذه الليلة ثم أنسيتها و رأيتني أسجد في ماء و طين فالتمسوها في العشر الأواخر و التمسوها في كل وتر قال فأبصرت عيناي رسول الله ص انصرف و على جبهته و أنفه أثر الماء و الطين من صبيحة إحدى و عشرين أورده البخاري في الصحيح‏
و قيل هي ليلة ثلاث و عشرين منه‏
عن عبد الله بن عمر قال جاء رجل إلى النبي ص فقال يا رسول إني رأيت في النوم كان ليلة القدر هي ليلة سابعة تبقى فقال ص: أرى رؤياكم قد تواطأت على ثلاث و عشرين فمن كان منكم يريد أن يقوم من الشهر شيئا فليقم ليلة ثلاث و عشرين‏
قال معمر كان أيوب يغتسل ليلة ثلاث و عشرين و يمس طيبا و سأل عمر بن الخطاب أصحاب رسول الله ص فقال قد علمتم‏
أن رسول الله ص قال في ليلة القدر اطلبوها في العشر الأواخر وترا
ففي أي الوتر ترون فأكثر القوم في الوتر قال ابن عباس فقال لي ما لك لا تتكلم يا ابن عباس فقلت رأيت الله أكثر ذكر السبع في القرآن فذكر السماوات سبعا و الأرضين سبعا و الطواف سبعا و الجمار سبعا و ما شاء الله من ذلك خلق الإنسان سبعة و جعل رزقه في سبعة فقال كل ما ذكرت عرفت فما قولك خلق الإنسان من سبعة و جعل رزقه في سبعة فقلت خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ إلى قوله خَلْقاً آخَرَ قرأت أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا إلى قوله وَ فاكِهَةً وَ أَبًّا فما أراها إلا ليلة ثلاث و عشرين لسبع بقين فقال عمر عجزتم أن تأتوا بما جاء به هذا الغلام الذي لم يجتمع شؤون رأسه قال و قال عمر وافق رأيي رأيك ثم ضرب منكبي فقال ما أنت بأقل القوم علما و
روى العياشي بإسناده عن زرارة عن عبد الواحد بن المختار الأنصاري قال سألت أبا جعفر (ع) عن ليلة القدر قال في ليلتين ليلة ثلاث و عشرين و إحدى و عشرين فقلت أفرد لي أحدهما فقال و ما عليك أن تعمل في ليلتين هي إحداهما
و
عن شهاب ابن عبد ربه قال قلت لأبي عبد الله (ع) أخبرني بليلة القدر فقال ليلة إحدى و عشرين و ليلة ثلاث و عشرين‏
و
عن حماد بن عثمان عن حسان بن أبي علي قال سألت أبا عبد الله (ع) عن ليلة القدر قال اطلبها في تسع عشرة و إحدى و عشرين و ثلاث و عشرين‏
و
في كتاب من لا

787
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 786

يحضره الفقيه عن علي بن حمزة قال كنت عند أبي عبد الله (ع) فقال له أبو بصير جعلت فداك الليلة التي يرجى فيها ما يرجى أي ليلة هي فقال هي ليلة إحدى و عشرين و ثلاث و عشرين قال فإن لم أقو على كلتيهما فقال ما أيسر ليلتين فيما تطلب قال قلت فربما رأينا الهلال عندنا و جاءنا من يخبرنا بخلاف ذلك في أرض أخرى فقال ما أيسر أربع ليال فيما تطلب فيها جعلت فداك ليلة ثلاث و عشرين ليلة الجهني قال إن ذلك ليقال قلت جعلت فداك إن سليمان بن خالد روي أن في تسع عشرة يكتب وفد الحاج فقال يا أبا محمد وفد الحاج يكتب في ليلة القدر و المنايا و البلايا و الأرزاق ما يكون إلى مثلها في قابل فاطلبها في إحدى و ثلاث و صل في كل واحدة منها مائة ركعة و أحيهما إن استطعت إلى النور و اغتسل فيهما قال قلت فإن لم أقدر على ذلك و أنا قائم قال فصل و أنت جالس قلت فإن لم أستطع قال فعلى فراشك قلت فإن لم أستطع فقال لا عليك أن تكتحل أول الليل بشي‏ء من النوم إن أبواب السماء تفتح في شهر رمضان و تصفد الشياطين و تقبل أعمال المؤمنين نعم الشهر شهر رمضان كان يسمى على عهد رسول الله ص المرزوق‏
و
في رواية عبد الله بن بكير عن زرارة عن أحدهما قال سألته عن الليالي التي يستحب فيها الغسل في شهر رمضان فقال ليلة تسع عشرة و ليلة إحدى و عشرين و ليلة ثلاث و عشرين و قال ليلة ثلاث و عشرين هي ليلة الجهني و حديثه أنه قال لرسول الله ص إن منزلي نأى عن المدينة فمرني بليلة أدخل فيها فأمره بليلة ثلاث و عشرين‏
قال الشيخ أبو جعفر (ره) و اسم الجهني عبد الله بن أنيس الأنصاري و قيل إنها ليلة سبع و عشرين عن أبي بن كعب و عائشة و
روي أن ابن عباس و ابن عمر قالا قال رسول الله ص تحروها ليلة سبع و عشرين‏
و عن زر بن حبيش قال قلت لأبي يا أبا المنذر من أين علمت إنها ليلة سبع و عشرين قال بالآية

788
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 786

التي أنبأ بها رسول الله ص قال تطلع الشمس غداتئذ كأنها طست ليس لها شعاع و قال بعضهم إن الله قسم كلمات السورة على ليالي شهر رمضان فلما بلغ السابعة و العشرين أشار إليها فقال هي و قيل إنها ليلة تسع و عشرين و
روي عن أبي بكرة قال سمعت رسول الله ص يقول التمسوها في العشر الأواخر في تسع بقين أو سبع بقين أو خمس بقين أو ثلاث بقين أو آخر ليلة
و الفائدة في إخفاء هذه الليلة أن يجتهد الناس في العبادة و يحيوا جميع ليالي شهر رمضان طمعا في إدراكها كما أن الله سبحانه أخفى الصلاة الوسطى في الصلوات الخمس و اسمه الأعظم في الأسماء و ساعة الإجابة في ساعات الجمعة (و الضرب الثالث) ذكر بعض ما ورد في فضل هذه الليلة
روى ابن عباس عن النبي أنه قال إذا كان ليلة القدر تنزل الملائكة الذين هم سكان سدرة المنتهى و منهم جبرائيل فينزل جبرائيل (ع) و معه ألوية ينصب لواء منها على قبري و لواء على بيت المقدس و لواء في المسجد الحرام و لواء على طور سيناء و لا يدع فيها مؤمنا و لا مؤمنة إلا سلم عليه إلا مدمن الخمر و آكل لحم الخنزير و المتضمخ بالزعفران‏
عنه ص قال من قام ليلة القدر إيمانا و احتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه‏
و
عنه ص قال إن الشيطان لا يخرج في هذه الليلة حتى يضي‏ء فجرها و لا يستطيع فيها على أحد بخبل أو داء أو ضرب من ضروب الفساد و لا ينفذ فيه سحر ساحر
و
روى الحسن عن النبي ص قال في ليلة القدر إنها ليلة سمحة لا حارة و لا باردة تطلع الشمس في صبيحتها و ليس لها شعاع‏
ثم قال الله سبحانه تعظيما لشأن هذه الليلة و تنبيها لعظم قدرها و شرف محلها «وَ ما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ» فكأنه قال و ما أدراك يا محمد ما خطر ليلة القدر و ما حرمتها و هذا حث على العبادة فيها ثم فسر سبحانه تعظيمه و حرمته فقال «لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ» أي قيام ليلة القدر و العمل فيها خير من قيام ألف شهر ليس فيه ليلة القدر و صيامه عن مقاتل و قتادة و ذلك أن الأوقات إنما يفضل بعضها على بعض بما يكون فيها من الخير من النفع فلما جعل الله الخير الكثير في ليلة القدر كانت خيرا من ألف شهر لا يكون فيها من الخير و البركة ما يكون في هذه الليلة ذكر
عطاء عن ابن عباس قال ذكر لرسول الله ص رجل من بني إسرائيل أنه حمل السلاح على عاتقه في سبيل الله تعالى ألف شهر فعجب من ذلك رسول الله ص عجبا شديدا و تمنى أن يكون ذلك في أمته فقال يا رب جعلت أمتي أقصر الناس أعمارا و أقلها أعمالا فأعطاه الله ليلة القدر و قال ليلة القدر خير من ألف شهر الذي حمل الإسرائيلي السلاح في سبيل الله لك و لأمتك من بعدك إلى يوم القيامة في كل رمضان‏
ثم أخبر سبحانه بما يكون في تلك الليلة

789
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 786

فقال «تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ» أي تتنزل الملائكة «وَ الرُّوحُ» يعني جبرائيل «فِيها» أي في ليلة القدر إلى الأرض ليسمعوا الثناء على الله و قراءة القرآن و غيرها من الأذكار و قيل ليسلموا على المسلمين بإذن الله أي بأمر الله و قيل ينزلون بكل أمر إلى السماء الدنيا حتى يعلم ذلك أهل السماء الدنيا فيكون لطفا لهم و قال كعب و مقاتل بن حيان الروح طائفة من الملائكة لا تراهم الملائكة إلا تلك الليلة ينزلون من لدن غروب الشمس إلى طلوع الفجر و قيل الروح هو الوحي كما قال وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا أي تنزل الملائكة و معهم للوحي بتقدير الخيرات و المنافع «بِإِذْنِ رَبِّهِمْ» أي بأمر ربهم كما قال و ما نتنزل إلا بأمر ربك و قيل بعلم ربهم كما قال أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ «مِنْ كُلِّ أَمْرٍ» أي بكل أمر من الخير و البركة كقوله يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ أي بأمر الله و قيل بكل أمر من أجل و رزق إلى مثلها من العام القابل فعلى هذا يكون الوقف هنا تاما ثم قال «سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ» أي هذه ليلة إلى آخرها سلامة من الشرور و البلايا و آفات الشيطان و هو تأويل قوله فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ عن قتادة و قال مجاهد يعني أن ليلة القدر سالمة عن أن يحدث فيها سوء أو يستطيع شيطان أن يعمل فيها و قيل معناه سلام على أولياء الله و أهل طاعته فكلما لقيهم الملائكة في هذه الليلة سلموا عليهم من الله تعالى عن عطاء و الكلبي و قيل إن تمام الكلام عند قوله «بِإِذْنِ رَبِّهِمْ» ثم ابتدأ فقال «مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلامٌ» أي بكل أمر فيه سلامة و منفعة و خير و بركة لأن الله يقدر في تلك الليلة كل ما فيه خير و بركة ثم قال «هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ» أي السلامة و البركة و الفضيلة تمتد إلى وقت طلوع الفجر و لا يكون في ساعة منها فحسب بل يكون في جميعها و الله أعلم بالصواب.

790
مجمع البيان في تفسير القرآن10

سورة البينة مدنية و آياتها ثمان ص 791

(98) سورة البينة مدنية و آياتها ثمان (8)
[توضيح‏]
و تسمى سورة البرية و سورة القيمة مدنية و قيل مكية.
عدد آيها
تسع آيات بصري ثمان في الباقين.
اختلافها
آية مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ بصري.
فضلها
أبي بن كعب عن النبي ص قال و من قرأها كان يوم القيامة مع خير البرية مسافرا و مقيما
و
عن أبي الدرداء قال قال رسول الله ص: لو يعلم الناس ما في لم يكن لعطلوا الأهل و المال و تعلموها فقال رجل من خزاعة ما فيها من الأجر يا رسول الله فقال لا يقرأها منافق أبدا و لا عبد في قلبه شك في الله عز و جل و الله إن الملائكة المقربين ليقرءونها منذ خلق الله السماوات و الأرض لا يفترون عن قراءتها و ما من عبد يقرؤها بليل إلا بعث الله ملائكة يحفظونه في دينه و دنياه و يدعون له بالمغفرة و الرحمة فإن قرأها نهارا أعطي عليها من الثواب مثل ما أضاء عليه النهار و أظلم عليه الليل فقال رجل من قيس عيلان زدنا يا رسول الله من هذا الحديث فداك أبي و أمي فقال ص تعلموا عم يتساءلون و تعلموا ق و القرآن المجيد و تعلموا و السماء ذات البروج و تعلموا و السماء و الطارق فإنكم لو تعلمون ما فيهن لعطلتهم ما أنتم فيه و تعلمتموهن و تقربتم إلى الله بهن و إن الله يغفر بهن كل ذنب إلا الشرك بالله و اعلموا أن تبارك الذي بيده الملك تجادل عن صاحبها يوم القيامة و تستغفر له من الذنوب.
أبو بكر الحضرمي عن أبي جعفر (ع) قال: من قرأ سورة لم يكن كان بريئا من الشرك و أدخل في دين محمد ص و بعثه الله مؤمنا و حاسبه الله حسابا يسيرا
تفسيرها
بين الله سبحانه في سورة القدر أن القرآن حجة ثم بين في هذه السورة أن الكفار قبله لم يخلو قط من حجة فقال:

791
مجمع البيان في تفسير القرآن10

سورة البينة الآيات 1 الى 8 ص 792

[سورة البينة (98): الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏
لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَ الْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (2) فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَ ما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4)
وَ ما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَ يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَ يُؤْتُوا الزَّكاةَ وَ ذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَ الْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)

القراءة
قرأ نافع و ابن ذكوان البريئة مهموزة و الباقون بغير همزة.
الحجة
قال أبو علي البريئة من برأ الله الخلق فالقياس فيه الهمز إلا أنه مما ترك همزة كقولهم النبي و الذرية و الخابية فالهمزة فيه كالرد إلى الأصل المتروك في الاستعمال كما أن همز النبي كذلك و ترك الهمز أجود لأنه لما ترك فيه الهمز صار كرده إلى الأصول المرفوضة مثل ظننوا و همز من همز البريئة يدل على فساد قول من قال إنه من البري الذي هو التراب.

792
مجمع البيان في تفسير القرآن10

اللغة ص 793

اللغة
الانفكاك الانفصال عن شدة اتصال قال ذو الرمة:
         قلائص ما تنفك إلا مناخة             على الخسف أو نرمي بها بلدا قفرا
و أكثر ما يستعمل ذلك في النفي مثل ما زال تقول ما انفك من هذا الأمر أي ما انفصل منه لشدة ملابسته له و البينة الحجة الظاهرة التي يتميز بها الحق من الباطل و أصلها من البينونة و فصل الشي‏ء من غيره فالنبي ص حجة و بينة و إقامة الشهادة العادلة بينة و كل برهان و دلالة بينة و القيمة المستمرة في جهة الصواب و الحنيف المائل إلى الصواب و الحق و الحنيفية الشريعة المائلة إلى الحق و أصله الميل و من ذلك الأحنف المائل القدم إلى جهة القدم الأخرى و قيل أصله الاستقامة و إنما قيل للمائل القدم أحنف على وجه التفاؤل.
الإعراب‏
 «رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ» بدل من البينة قبله و قال الفراء هو مستأنف تقديره هو رسول دين القيمة تقديره دين لملة القيمة لأنه إذا لم يقدر ذلك كان إضافة الشي‏ء إلى صفته و ذلك غير جائز لأنه بمنزلة إضافة الشي‏ء إلى نفسه «جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ» أي دخول جنات عدن «خالِدِينَ فِيها» حال من مضمر أي يجزونها خالدين فيها.
المعنى‏
 «لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ» يعني اليهود و النصارى «وَ الْمُشْرِكِينَ» أي و من المشركين الذين هم عبدة الأوثان من العرب و غيرهم و هم الذين ليس لهم كتاب «مُنْفَكِّينَ» أي منفصلين و زائلين و قيل لم يكونوا منتهين عن كفرهم بالله و عبادتهم غير الله عن ابن عباس في رواية عطاء و الكلبي «حَتَّى تَأْتِيَهُمُ» اللفظ لفظ الاستقبال و معناه المضي كقوله ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ أي ما تلت و قوله «الْبَيِّنَةُ» يريد محمدا ص عن ابن عباس و مقاتل بين سبحانه لهم ضلالهم و شركهم و هذا إخبار من الله تعالى عن الكفار أنهم لم ينتهوا عن كفرهم و شركهم بالله حتى أتاهم محمد ص فبين لهم ضلالهم عن الحق و دعاهم إلى الإيمان و قيل معناه لم يكونوا ليتركوا منفكين من حجج الله حتى تأتيهم البينة التي تقوم بها الحجة عليهم و قوله «رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ» بيان للبينة و تفسير لها أي رسول من قبل الله «يَتْلُوا» عليهم «صُحُفاً مُطَهَّرَةً» يعني مطهرة في السماء لا يمسها إلا الملائكة المطهرون و من الأنجاس عن الحسن و الجبائي و هو محمد ص أتاهم بالقرآن و دعاهم إلى‏

793
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 793

التوحيد و الإيمان «فِيها» أي في تلك الصحف «كُتُبٌ قَيِّمَةٌ» أي مستقيمة عادلة غير ذات عوج تبين الحق من الباطل و قيل مطهرة عن الباطل و الكذب و الزور يريد القرآن عن قتادة و يعني بالصحف ما تتضمنه الصحف من المكتوب فيها و يدل على ذلك أن النبي ص كان يتلو عن ظهر قلبه لا عن كتاب و قيل معناه رسول من الملائكة يتلو صحفا من اللوح المحفوظ عن أبي مسلم و قيل «فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ» معناه في هذه الصحف التي هي القرآن كتب قيمة أي إن القرآن يشتمل على معاني الكتب المتقدمة فتاليها تالي الكتب القيمة كما قال مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ* فإذا كان مصدقا لها كان تاليا لها و قيل معناه في القرآن كتب قيمة بمعنى أنه يشتمل على أنواع من العلوم كل نوع كتاب قال السدي: فيها فرائض الله العادلة «وَ ما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ» يعني و ما اختلف هؤلاء في أمر محمد ص إلا من بعد ما جاءتهم البشارة به في كتبهم و على السنة رسلهم فكانت الحجة قائمة عليهم فكذلك لا يترك المشركون من غير حجة تقوم عليهم و قيل معناه و لم يزل أهل الكتاب مجتمعين في تصديق محمد ص حتى بعثه الله فلما بعث تفرقوا في أمره و اختلفوا فآمن به بعضهم و كفر آخرون ثم ذكر سبحانه ما أمروا به في كتبهم فقال «وَ ما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ» أي لم يأمرهم الله تعالى إلا لأن يعبدوا الله وحده لا يشركون بعبادته فهذا ما لا تختلف فيه ملة و لا يقع فيه تبدل «مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ» لا يخلطون بعبادته عبادة ما سواه «حُنَفاءَ» مائلين عن جميع الأديان إلى دين الإسلام مسلمين مؤمنين بالرسل كلهم قال عطية: إذا اجتمع الحنيف و المسلم كان معنى الحنيف الحاج و إذا انفرد كان معناه المسلم و هو قول ابن عباس لأنه قال حنفاء أي حجاجا و قال ابن جبير: لا تسمي العرب حنيفا إلا من حج و اختتن قال قتادة: الحنيفية الختان و تحريم البنات و الأمهات و الأخوات و العمات و الخالات و إقامة المناسك «وَ يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَ يُؤْتُوا الزَّكاةَ» أي و يداوموا على إقامة الصلاة و يخرجوا ما فرض عليهم في أموالهم من الزكاة «وَ ذلِكَ» يعني الدين الذي قدم ذكره «دِينُ الْقَيِّمَةِ» أي دين الكتب القيمة التي تقدم ذكرها و قيل دين الملة القيمة و الشريعة القيمة قال النضر بن شميل سألت الخليل عن هذا فقال القيمة جمع القيم و القيم و القائم واحد فالمراد و ذلك دين القائمين لله بالتوحيد و في هذه الآية دلالة على بطلان مذهب أهل الجبر لأن فيها تصريحا بأنه سبحانه إنما خلق الخلق ليعبدوه و استدل بهذه الآية أيضا على وجوب النية في الطهارة إذ أمر سبحانه بالعبادة على وجه الإخلاص و لا يمكن الإخلاص إلا بالنية و القربة و الطهارة عبادة فلا تجزي بغير نية ثم ذكر سبحانه حال الفريقين فقال «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَ الْمُشْرِكِينَ» يعني من جحد توحيد الله و أنكر نبوة نبيه ص و من أشرك‏

794
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 793

معه إلها آخر في العبادة «فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها» لا يفنى عقابهم «أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ» أي شر الخليقة ثم أخبر عن حال المؤمنين فقال «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ» أي خير الخليقة «جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ» مر معناه «خالِدِينَ فِيها أَبَداً» أي مؤبدين فيها دائما «رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ» بما قدموه من الطاعات «وَ رَضُوا عَنْهُ» بما جازاهم من الثواب و قيل رضي الله عنهم إذ وحدوه و نزهوه عما لا يليق به و أطاعوه و رضوا عنه إذ فعل بهم ما رجوا من رحمته و فضله «ذلِكَ» الرضاء و الثواب «لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ» فترك معاصيه و فعل طاعاته و
في كتاب شواهد التنزيل للحاكم أبي القاسم الحسكاني (ره) قال أخبرنا أبو عبد الله الحافظ بالإسناد المرفوع إلى يزيد بن شراحيل الأنصاري كاتب علي (ع) قال سمعت عليا (ع) يقول قبض رسول الله ص و أنا مسنده إلى صدري فقال يا علي أ لم تسمع قول الله تعالى «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ» هم شيعتك و موعدي و موعدكم الحوض إذا اجتمعت الأمم للحساب يدعون غرا محجلين‏
و فيه عن مقاتل بن سليمان عن الضحاك عن ابن عباس في قوله «هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ» قال نزلت في علي (ع) و أهل بيته.

795
مجمع البيان في تفسير القرآن10

سورة الزلزلة مدنية و آياتها ثمان ص 796

(99) سورة الزلزلة مدنية و آياتها ثمان (8)
[توضيح‏]
مدنية عن ابن عباس و قتادة مكية عن الضحاك و عطاء.
عدد آياتها
ثمان آيات كوفي و المدني الأول تسع في الباقين.
اختلافها
آية أَشْتاتاً غير الكوفي و المدني الأول.
فضلها
أبي بن كعب عن النبي ص قال من قرأها فكأنما قرأ البقرة و أعطي من الأجر كمن قرأ ربع القرآن‏
و
عن أنس بن مالك قال سأل النبي ص رجلا من أصحابه فقال يا فلان هل تزوجت قال لا و ليس عندي ما أتزوج به قال أ ليس معك قل هو الله أحد قال بلى قال ربع القرآن قال أ ليس معك قل يا أيها الكافرون قال بلى قال ربع القرآن قال أ ليس معك إذا زلزلت قال بلى قال ربع القرآن ثم قال تزوج تزوج تزوج‏
و
عن أبي عبد الله (ع) قال لا تملوا من قراءة إذا زلزلت فإن من كانت قراءته في نوافله لم يصبه الله بزلزلة أبدا و لم يمت بها و لا بصاعقة و لا بآفة من آفات الدنيا و إذا مات أمر به إلى الجنة فيقول الله سبحانه عبدي أبحتك جنتي فاسكن منها حيث شئت و هويت لا ممنوع و لا مدفوع عنه.
تفسيرها
ختم الله سبحانه تلك السورة ببيان حال المؤمنين و الكافرين و افتتح هذه السورة ببيان وقت ذلك فقال:

796
مجمع البيان في تفسير القرآن10

سورة الزلزلة الآيات 1 الى 8 ص 797

[سورة الزلزلة (99): الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏
إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (1) وَ أَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (2) وَ قالَ الْإِنْسانُ ما لَها (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها (4)
بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى‏ لَها (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)

القراءة
في بعض الروايات عن الكسائي‏
خيرا يره و شرا يره بضم الياء فيهما و هي رواية أبان عن عاصم أيضا و هي قراءة علي (ع)
و الباقون «يَرَهُ» بفتح الياء في الموضعين إلا أن أبا جعفر و روحا و رويسا قرءوا بضم الهاء ضمة مختلسة غير مشبعة.
الحجة
قال أبو علي من قرأ يره جعل الفعل منقولا من رأيت زيدا إذا أدركته ببصرك و أريته عمرا و بنى الفعل للمفعول و من قرأ «يَرَهُ» فالتقدير ير جزاءه و إثبات الواو في يرهو بعد الهاء هو الوجه كما تقول أكرمهو لأن هذه الهاء يتبعها حرف اللين الواو و الياء إذا كان قبلها كسرة أو ياء نحو بهي و عليهي و قد جاء في الشعر نحوه قاله‏
         " و نضواي مشتاقان له أرقان".
اللغة
الزلزلة شدة الاضطراب و الزلزال بكسر الزاي المصدر و بفتحها الاسم و زلزلت و رجفت و رجت بمعنى واحد و الأثقال جمع الثقل و سمى سبحانه الموتى أثقالا تشبيها بالحمل الذي يكون في البطن لأن الحمل سمي ثقلا كما قال سبحانه فَلَمَّا أَثْقَلَتْ و تقول العرب إن للسيد الشجاع ثقلا على الأرض فإذا مات سقط عنها بموته ثقل قالت الخنساء ترثي أخاها صخرا:
         أ بعد ابن عمرو من آل الشريد             حلت به الأرض أثقالها
عنت بذلك أنه حل عن الأرض ثقل بموته لسؤدده و عزة و قيل معناه زينت موتاها به من الحلية و قال الشمردل اليربوعي يرثي أخاه:
         و حلت به أثقالها الأرض و انتهى             لمثواه منها و هو عف شمائله‏
و ذكر ابن السائب أن زهير بن أبي سلمى قال بيتا ثم أكدى فمر به النابغة الذبياني‏

797
مجمع البيان في تفسير القرآن10

اللغة ص 797

فقال له يا أبا أمامة أجز قال ما ذا قال:
         تزال الأرض إما مت خفا             و تحبا ما حييت بها ثقيلا
         نزلت بمستقر العز منها
فما ذا قال فأكدى و الله النابغة الذبياني و أقبل كعب بن زهير و هو غلام فقال له أبوه أجز يا بني قال ما ذا فأنشده فقال كعب‏
         " فتمنع جانبها أن تزولا"
فقال له زهير أنت و الله ابني و أوحى و وحي بمعنى واحد قال العجاج:
         " وحي القرار فاستقرت"
الإعراب‏
العامل في إذا قوله «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ» و قوله «خَيْراً» منصوب على التمييز و قيل إن العامل في إذا قوله «تُحَدِّثُ أَخْبارَها» و يكون يومئذ تكرارا أي إذا زلزلت الأرض تحدث أخبارها و قيل إن التقدير و قال الإنسان يومئذ ما لها يومئذ تحدث أخبارها فقيل ذلك بأن ربك أوحى لها و تحدث يجوز أن يكون على الخطاب أي تحدث أنت و يجوز أن يكون على تحدث هي.
المعنى‏
خوف الله سبحانه عباده أهوال يوم القيامة فقال «إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها» أي إذا حركت الأرض تحريكا شديدا لقيام الساعة زلزالها التي كتب عليها و يمكن أن يكون إنما أضافها إلى الأرض لأنها تعم جميع الأرض بخلاف الزلازل المعهودة التي تختص ببعض الأرض فيكون في قوله «زِلْزالَها» تنبيها على شدتها «وَ أَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها» أي أخرجت موتاها المدفونة فيها تخرجها أحياء للجزاء عن ابن عباس و مجاهد و الجبائي و قيل معناه لفظت ما فيها من كنوزها و معادنها فتلقيها على ظهرها ليراها أهل الموقف و تكون الفائدة في ذلك أن يتحسر العصاة إذا نظروا إليها لأنهم عصوا الله فيها ثم تركوها لا تغني عنهم شيئا و أيضا فإنه تكوى بها جباههم و جنوبهم و ظهورهم «وَ قالَ الْإِنْسانُ ما لَها» أي و يقول الإنسان متعجبا ما للأرض تتزلزل يعني ما لها حدث فيها ما لم يعرف منها عن أبي مسلم و قيل إن المراد بالإنسان الكافر لأن المؤمن معترف بها لا يسأل عنها أي يقول الكافر الذي لم يؤمن بالبعث أي شي‏ء زلزلها و أصارها إلى هذه الحالة «يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها» أي تخبر بما عمل عليها و جاء في‏
الحديث أن النبي ص قال أ تدرون ما أخبارها قالوا الله و رسوله أعلم قال أخبارها أن تشهد على كل عبد و أنه بما عمل على ظهرها تقول عمل كذا و كذا يوم كذا و كذا و هذا أخبارها
و على هذا فيجوز أن يكون الله تعالى أحدث الكلام فيها و إنما

798
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 798

نسبه إليها توسعا و مجازا و يجوز أن يقلبها حيوانا يقدر على النطق و يجوز أن يظهر فيها ما يقوم مقامه الكلام فعبر عنه بالكلام كما يقال عيناك تشهدان بسهرك و كقول الشاعر
         " و قالت له العينان سمعا و طاعة"
و قد مر أمثاله و قوله «بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى‏ لَها» معناه أن الأرض تحدث بها فتقول إن ربك يا محمد أوحى لها أي ألهمها و عرفها بأن تحدث أخبارها و قيل بأن تلقي الكنوز و الأموات على ظهرها يقال أوحى له و إليه أي ألقي إليه من جهة تخفي قال الفراء تحدث أخبارها بوحي الله و إذنه لها و قال ابن عباس إذن لها لتخبر بما عمل عليها و
روى الواحدي بإسناده مرفوعا إلى ربيعة الحرشي قال قال رسول الله ص حافظوا على الوضوء و خير أعمالكم الصلاة و تحفظوا من الأرض فإنها أمكم و ليس فيها أحد يعمل خيرا و شرا إلا و هي مخبرة
و
قال أبو سعيد الخدري إذا كنت بالبوادي فارفع صوتك بالأذان فإني سمعت رسول الله ص يقول لا يسمعه جن و لا إنس و لا حجر إلا يشهد له‏
 «يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً» أي يرجع الناس عن موقف الحساب بعد العرض متفرقين أهل الإيمان على حدة و أهل كل دين على حدة و هذا كقوله و يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ و قوله يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ «لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ» أي ليروا جزاء أعمالهم عن ابن عباس و المعنى أنهم يرجعون عن الموقف فرقا لينزلوا منازلهم من الجنة و النار و قيل معنى الرؤية هنا المعرفة بالأعمال عند تلك الحال و هي رؤية القلب و يجوز أن يكون التأويل على رؤية العين بمعنى ليروا صحائف أعمالهم فيقرءون ما فيها لا يغادر صغيرة و لا كبيرة إلا أحصاها «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ» أي فمن يعمل وزن ذرة من الخير ير ثوابه و جزاءه «وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ» أي ير ما يستحق عليه من العقاب و يمكن أن يستدل بها على بطلان الإحباط لأن الظاهر يدل على أنه لا يفعل أحد شيئا من طاعة أو معصية إلا و يجازي عليها و ما يقع محبطا لا يجازي عليه و ليس لهم أن يقولوا إن الظاهر بخلاف ما تذهبون إليه في جواز العفو عن مرتكب الكبيرة و ذلك لأن الآية مخصوصة بالإجماع فإن التائب معفو عنه بلا خلاف و عندهم أن من شرط المعصية التي يؤاخذ بها أن لا تكون صغيرة فجاز لنا أيضا أن نشرط فيها أن لا يكون مما يعفو الله عنه و قال محمد بن كعب معناه فمن يعمل مثقال ذرة خيرا و هو كافر ير ثوابه في الدنيا في نفسه و أهله و ماله و ولده حتى يخرج من الدنيا و ليس له عند الله خير و من يعمل مثقال ذرة شرا و هو مؤمن ير عقوبته في الدنيا في نفسه و أهله و ماله و ولده حتى يخرج من الدنيا و ليس له عند الله شر و قال مقاتل فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره يوم القيامة في كتابه فيفرح به و كذلك من الشر يراه‏

799
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 798

في كتابه فيسوءه ذلك قال و كان أحدهم يستقل أن يعطي اليسير و يقول إنما نوجر على ما نعطي و نحن نحبه و ليس اليسير مما يحب و يتهاون بالذنب اليسير و يقول إنما وعد الله النار على الكبائر فأنزل الله هذه الآية يرغبهم في القليل من الخير و يحذرهم اليسير من الشر و
عن أبي عثمان المازني عن أبي عبيدة قال قدم صعصعة بن ناجية جد الفرزدق على رسول الله ص في وفد بني تميم فقال بأبي أنت يا رسول الله أوصيني خيرا فقال أوصيك بأمك و أبيك و أدانيك قال زدني يا رسول الله قال احفظ ما بين لحييك و رجليك ثم قال رسول الله ص ما شي‏ء بلغني عنك فعلته فقال يا رسول الله رأيت الناس يمرجون على غير وجه و لم أدر أين الصواب غير أني علمت أنهم ليسوا عليه فرأيتهم يئدون بناتهم فعرفت الله عز و جل لم يأمرهم بذلك فلم أتركهم يئدون و فديت ما قدرت و في رواية أخرى أنه سمع «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ» فقال حسبي ما أبالي أن لا أسمع من القرآن غير هذا
و قال عبد الله بن مسعود أحكم آية في القرآن «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ» إلى آخر السورة و كان ص يسميها الجامعة و تصدق سعد بن أبي وقاص بتمرتين فقبض السائل يده فقال سعد ويحك يقبل الله منا مثقال الذرة و الخردلة و كان فيها مثاقيل.

800
مجمع البيان في تفسير القرآن10

سورة العاديات مكية و آياتها إحدى عشرة ص 801

(100) سورة العاديات مكية و آياتها إحدى عشرة (11)
[توضيح‏]
مدنية عن ابن عباس و قتادة و قيل مكية.
عدد آياتها
إحدى عشرة آية بالإجماع.
فضلها
أبي بن كعب عن النبي ص قال من قرأها أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من بات بالمزدلفة و شهد جمعا.
سليمان بن خالد عن أبي عبد الله (ع) قال و من قرأ و العاديات و أدمن قراءتها بعثه الله مع أمير المؤمنين (ع) يوم القيامة خاصة و كان في حجره و رفقائه.
النظم‏
اتصلت هذه السورة بما قبلها لما فيها من ذكر القيامة و الجزاء اتصال النظير بالنظير فقال:

801
مجمع البيان في تفسير القرآن10

سورة العاديات الآيات 1 الى 11 ص 802

[سورة العاديات (100): الآيات 1 الى 11]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏
وَ الْعادِياتِ ضَبْحاً (1) فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (2) فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (4)
فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً (5) إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَ إِنَّهُ عَلى‏ ذلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَ إِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَ فَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ (9)
وَ حُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11)

القراءة
في الشواذ قراءة أبي حياة فأثرن بتشديد الثاء
و قراءة علي (ع) و قتادة و ابن أبي ليلى فوسطن بتشديد السين.
الحجة
قال ابن جني: فأثرن مثل أبدين و أرين نقعا كما يؤثر الإنسان النقش و غيره مما يبديه للناظر و هو من التأثير فالهمزة فاء الفعل و أثرن بالتخفيف من الإثارة فالهمزة مزيدة و قوله «فوسطن» بالتشديد معناه ميزن به جمعا أي جعلته شطرين قسمين و شقين و معنى وسطنه بالتخفيف صرن في وسطه.
اللغة
الضبح في الخيل الحمحمة عند العدو و قيل هو شدة النفس عند العدو و ضبحت الخيل تضبح ضباحا و قيل ضبح و ضبع بمعنى و هو أن يمد ضبعه في السير حتى لا يجد مزيدا و أورى القادح النار يوري إيراء إذا قدح قدحا و تسمى تلك النار نار الحباحب لضعفها قال النابغة:
         يقد السلوقي المضاعف نسجه             و يوقدن بالصفاح نار الحباحب‏
و هو اسم رجل كان بخيلا و كانت ناره ضعيفة لئلا يراها الأضياف فضربوا المثل بناره و شبهوا نار الحوافر بها لقلتها و النقع الغبار يغوص فيه صاحبه كما يغوص في الماء و الكنود الكفور و منه الأرض الكنود و هي التي لا تنبت شيئا و الأصل فيه منع الحق و الخير قال الأعشى:
         أحدث لها تحدث لوصلك إنها             كند لوصل الزائر المعتاد
و قيل إنما سميت كندة لقطعها إياها.
النزول‏
قيل بعث رسول الله ص سرية إلى حي من كنانة فاستعمل عليهم المنذر بن عمرو الأنصاري أحد النقباء فتأخر رجوعهم فقال المنافقون قتلوا جميعا فأخبر الله تعالى عنها بقوله وَ الْعادِياتِ ضَبْحاً عن مقاتل و قيل‏
نزلت السورة لما بعث النبي ص عليا (ع) إلى ذات‏

802
مجمع البيان في تفسير القرآن10

النزول ص 802

السلاسل فأوقع بهم و ذلك بعد أن بعث عليهم مرارا غيره من الصحابة فرجع كل منهم إلى رسول الله ص و هو المروي عن أبي عبد الله (ع) في حديث طويل قال و سميت هذه الغزوة ذات السلاسل لأنه أسر منهم و قتل و سبى و شد أسراهم في الحبال مكتفين كأنهم في السلاسل و لما نزلت السورة خرج رسول الله ص إلى الناس فصلى بهم الغداة و قرأ فيها و العاديات فلما فرغ من صلاته قال أصحابه هذه سورة لم نعرفها فقال رسول الله ص نعم إن عليا ظفر بأعداء الله و بشرني بذلك جبرئيل (ع) في هذه الليلة فقدم علي (ع) بعد أيام بالغنائم و الأسارى.
المعنى‏
 «وَ الْعادِياتِ ضَبْحاً» قيل هي الخيل في الغزو تعدو في سبيل الله عن ابن عباس و عطاء و عكرمة و الحسن و مجاهد و قتادة و الربيع قالوا أقسم الله بالخيل العادية لغزو الكفار و هي تضبح ضبحا و ضبحها صوت أجوافها إذا عدت ليس بصهيل و لا حمحمة و لكنه صوت نفس و قيل‏
هي الإبل حين ذهبت إلى غزوة بدر تمد أعناقها في السير فهي تضبح أي تضبع روي ذلك عن علي (ع)
و ابن مسعود و السدي و روي أيضا أنها إبل الحاج تعدو من عرفة إلى المزدلفة و من المزدلفة إلى منى قالت صفية بنت عبد المطلب:
         ألا و العاديات غداة جمع             بأيديها إذا سطع الغبار
و اختلفت الروايات فيه‏
فروي عن أبي صالح أنه قال قاولت فيه عكرمة فقال عكرمة قال ابن عباس هي الخيل في القتال فقلت أنا قال علي (ع) هي الإبل في الحج و قلت مولاي أعلم من مولاك‏
و في‏
رواية أخرى أن ابن عباس قال: هي الخيل أ لا تراه يقول «فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً» فهل تثيره إلا بحوافرها و هل تضبح الإبل إنما تضبح الخيل قال علي (ع) ليس كما قلت لقد رأيتنا يوم بدر و ما معنا إلا فرس أبلق للمقداد بن الأسود
و في‏
رواية أخرى لمرثد بن أبي مرثد الغنوي و روي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال بينما أنا في الحجرة جالس إذ أتاني رجل فسأل عن العاديات ضبحا فقلت له الخيل حين تغير في سبيل الله ثم تأوي إلى الليل فيصنعون طعامهم و يورون نارهم فانفتل عني و ذهب إلى علي بن أبي طالب (ع) و هو تحت سقاية زمزم فسأله عن العاديات ضبحا فقال سألت عنها أحدا قبلي قال نعم سألت عنها ابن عباس فقال الخيل حين تغير في سبيل الله قال فاذهب فادعه لي فلما وقف على رأسه قال تفتي الناس بما لا علم لك به و الله إن كانت لأول غزوة في الإسلام بدر و ما كانت معنا إلا فرسان فرس للزبير و فرس للمقداد بن الأسود فكيف تكون العاديات الخيل بل العاديات ضبحا الإبل من عرفة إلى مزدلفة و من مزدلفة إلى منى قال ابن عباس فرغبت عن قولي و رجعت إلى الذي قاله علي (ع)
 «فَالْمُورِياتِ قَدْحاً» هي الخيل توري النار بحوافرها إذا

803
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 803

صارت في الحجارة و الأرض المحصبة عن عكرمة و الضحاك و قال مقاتل: يقدحن بحوافرهن النار في الحجارة قال ابن عباس: يريد ضرب الخيل بحوافرها الجبل فأورت منه النار مثل الزناد إذا قدح و قال مجاهد: يريد مكر الرجال في الحروب تقول العرب إذا أراد الرجل أن يمكر بصاحبه أما و الله لأورين لك بزند وار و لأقدحن لك و خالف المصدر فيها صدر الكلام و مجازه فالقادحات قدحا و قيل هي النيران بجمع عن محمد بن كعب و قيل هي ألسنة الرجال توري النار من عظيم ما تتكلم به عن عكرمة «فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً» يريد الخيل تغير بفرسانها على العدو وقت الصبح و إنما ذكر وقت الصبح لأنهم كانوا يسيرون إلى العدو ليلا فيأتونهم صبحا هذا قول الأكثرين و قيل يريد الإبل ترتفع بركبانها يوم النحر من جمع إلى منى و السنة أن لا ترتفع بركبانها حتى تصيح و الإغارة سرعة السير و منه قولهم أشرق ثبير كيما نغير عن محمد بن كعب «فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً» يقال ثار الغبار و الدخان و أثرته أي هيجته و الهاء في به عائد إلى معلوم يعني بالمكان أو بالوادي المعنى فهيجن بمكان عدوهن غبارا «فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً» أي صرن بعدوهن أو بذلك المكان وسط جمع العدو و هم الكتيبة و قال محمد بن كعب: يريد جمع منى «إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ» هذا جواب القسم و الكنود الكفور الجحود لنعم الله عن ابن عباس و قتادة و الحسن و مجاهد و قيل هو بلسان كندة و حضرموت العاصي و بلسان مضر و ربيعة و قضاعة الكفور عن الكلبي و قيل هو الذي يعد المصائب و ينسى النعم عن الحسن أخذه بعض الشعراء فقال:
         يا أيها الظالم في فعله             و الظلم مردود على من ظلم‏
         إلى متى أنت و حتى متى             تشكو المصيبات و تنسى النعم‏
و
روى أبو أمامة عن النبي ص أنه قال أ تدرون من الكنود قالوا الله و رسوله أعلم قال الكنود الذي يأكل وحده و يمنع رفده و يضرب عبده‏
و قيل الكنود الذي لا يعطي في النائبة مع قومه عن عطاء و قيل هو القليل الخير عن أبي عبيدة «وَ إِنَّهُ عَلى‏ ذلِكَ لَشَهِيدٌ» معناه و إن الله على كفره لشهيد عن ابن عباس و قتادة و عطاء و قيل أن الهاء تعود إلى الإنسان و المعنى أن الإنسان شاهد على نفسه يوم القيامة بكنوده أو في الدنيا فإنك لو سألته عن النعمة لم يذكر أكثرها و يذكر جميع مصائبه و هو معنى قول الحسن «وَ إِنَّهُ» يعني الإنسان «لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ» أي لأجل حب الخير الذي هو المال أي من أجله لبخيل شحيح يمنع منه حق الله تعالى عن الحسن يقال للبخيل شديد و متشدد قال طرفة:

804
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 803

         أرى الموت يعتام الكرام و يصطفي             عقيلة مال الفاحش المتشدد
و قيل معناه و إنه لشديد الحب للخير أي المال عن الفراء و قال ابن زيد: سمى الله سبحانه المال خيرا و عسى أن يكون خبيثا و حراما و لكن لأن الناس يعدونه خيرا فكذلك سمي الجهاد سوءا فقال لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ أي قتال و ليس هو عند الله بسوء لأن الناس يسمونه سوءا و قال سبحانه على وجه التذكير و الوعيد «أَ فَلا يَعْلَمُ» هذا الإنسان الذي وصفناه «إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ» أي بعث الموتى و نشروا و أخرجوا و مثله بحثر «وَ حُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ» أي ميزوا بين ما فيها من الخير و الشر و قيل معناه و أظهر ما أخفته الصدور ليجازي على السر كما يجازي على العلانية «إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ» قال الزجاج: الله سبحانه خبير بهم في ذلك اليوم و في غيره و لكن المعنى أن الله يجازيهم على كفرهم في ذلك اليوم و ليس يجازيهم إلا بعلمه بأحوالهم و أعمالهم و مثله قوله أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ و معناه أولئك الذين لا يترك الله مجازاتهم و في هذا إشارة إلى الزجر و الوعيد فإن الإنسان متى علم أن خالقه يرى جميع أعماله و يعلم سائر أفعاله و يحقق ذلك لا بد أن ينزجر عن المعاصي.

805
مجمع البيان في تفسير القرآن10

سورة القارعة مكية و آياتها إحدى عشرة ص 806

(101) سورة القارعة مكية و آياتها إحدى عشرة (11)
عدد آيها
إحدى عشرة آية كوفي حجازي ثمان بصري شامي.
اختلافها
ثلاث آيات الْقارِعَةُ الأولى كوفي ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ و خَفَّتْ مَوازِينُهُ كلتاهما حجازي كوفي.
فضلها
في حديث أبي من قرأها ثقل الله بها ميزانه يوم القيامة.
عمرو بن ثابت عن أبي جعفر (ع) قال من قرأ القارعة آمنه الله من فتنة الدجال أن يؤمن به و من قيح جهنم يوم القيامة.
تفسيرها
اتصلت هذه السورة بما قبلها اتصال النظير بالنظير فإن كلتيهما في ذكر القيامة فقال سبحانه:

806
مجمع البيان في تفسير القرآن10

سورة القارعة الآيات 1 الى 11 ص 807

[سورة القارعة (101): الآيات 1 الى 11]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏
الْقارِعَةُ (1) مَا الْقارِعَةُ (2) وَ ما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ (4)
وَ تَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (7) وَ أَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (9)
وَ ما أَدْراكَ ما هِيَهْ (10) نارٌ حامِيَةٌ (11)

القراءة
روي عن أبي عمرو أنه أمال «القارعة» و قرأ حمزة و يعقوب ما هي في الوصل و الباقون «ما هِيَهْ» بإثبات الهاء و لم يختلفوا في الوقف أنها بالهاء.
الحجة
قال أبو علي: إمالة القارعة و إن كان المستعلي فيه مفتوحا جائزة و ذلك أن كسرة الراء غلبت عليها فإمالتها و قد أمالت ما تباعد عنها نحو قادر و زعم سيبويه أن ذلك لغة قوم ترضى عربيتهم و كذلك طارد و غارم و طاهر و كل ذلك تجوز إمالته إذا كانت الراء مكسورة و قال سيبويه: و ينشد أصحاب هذه اللغة:
         عسى الله يغني عن بلاد ابن قادر             بمنهمر جون الرباب سكوب‏
و أما قوله «ما هِيَهْ» فيوقف عندها لأنها فاصلة و الفواصل مواضع وقوف كما أن أواخر الأبيات كذلك و هذا مما يقوي حذف الياء من يَسْرِ و ما أشبهه أ لا ترى أنهم حذفوا الياء من نحو قوله:
         و لأنت تفري ما خلقت و بعض             القوم يخلق ثم لا يفري.
اللغة
القارعة البلية التي تقرع القلب بشدة المخافة و القرع الضرب بشدة الاعتماد قرع يقرع قرعا و منه المقرعة و تقارع القوم في القتال إذا تضاربوا بالسيوف و القرعة كالضرب بالفال و قوارع الدهر دواهيه و الفراش الجراد الذي ينفرش و يركب بعضه بعضا و هو غوغاء الجراد عن الفراء و المبثوث المتفرق في الجهات كأنه محمول على الذهاب فيها و البث التفريق و أبثثته الحديث إذا ألقيته إليه كأنك فرقته بأن جعلته عند اثنين و العهن الصوف ذو الألوان يقال عهن و عهنة و عيشة راضية مرضية بمعنى المفعول و قيل معناه ذات رضى كقولهم فلان نابل أي ذو نبل قال:
         و غررتني و زعمت أنك             لابن بالصيف تأمر
أي ذو لبن و تمر و قال النابغة:

807
مجمع البيان في تفسير القرآن10

اللغة ص 807

         كليني لهم يا أميمة ناصب             و ليل أقاسيه بطي‏ء الكواكب‏
أي ذي نصب و الهاوية من أسماء جهنم و هي المهواة التي لا يدرك قعرها.
الإعراب‏
 «الْقارِعَةُ» مبتدأ و ما مبتدأ ثان و ما بعده خبره و كان حقه القارعة ما هي لكنه سبحانه كرر تفخيما لشأنها و مثله قوله لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ وَ أَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ و الجملة خبر المبتدأ الأول و يجوز أن يكون قوله «الْقارِعَةُ» مبتدأ و يكون الناس خبره بمعنى أن القارعة تحدث في هذا اليوم فيكون قوله «مَا الْقارِعَةُ وَ ما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ» اعتراضا و يجوز أن يكون التقدير هذا الأمر يقع يوم يكون الناس كالفراش المبثوث.
المعنى‏
 «الْقارِعَةُ» اسم من أسماء يوم القيامة لأنها تقرع القلوب بالفزع و تقرع أعداء الله بالعذاب «مَا الْقارِعَةُ» هذا تعظيم لشأنها و تهويل لأمرها و معناه و أي شي‏ء القارعة ثم عجب نبيه ص فقال «وَ ما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ» يقول إنك يا محمد لا تعلم حقيقة أمرها و كنه وصفها على التفصيل و إنما تعلمها على سبيل الإجمال ثم بين سبحانه أنها متى تكون فقال «يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ» شبه الناس عند البعث بما يتهافت في النار و قال قتادة: هذا هو الطائر الذي يتساقط في النار و السراج و قال أبو عبيدة: هو طير ينفرش ليس بذباب و لا بعوض لأنهم إذا بعثوا ماج بعضهم إلى بعض فالفراش إذا ثار لم يتجه إلى جهة واحدة فدل ذلك على أنهم يفزعون عند البعث فيختلفون في المقاصد على جهات مختلفة و هذا مثل قوله كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ «وَ تَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ» و هو الصوف المصبوغ المندوف و المعنى أن الجبال تزول عن أماكنها و تصير خفيفة السير ثم ذكر سبحانه أحوال الناس فقال «فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ» أي رجحت حسناته و كثرت خيراته «فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ» أي معيشة ذات رضى يرضاها صاحبها «وَ أَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ» أي خفت حسناته و قلت طاعاته و القول في حقيقة الوزن و الميزان و الاختلاف في ذلك قد مضى ذكره فيما سبق من الكتاب و قد ذكر سبحانه الحسنات في الموضعين و لم يذكر وزن السيئات لأن الوزن عبارة عن القدر و الخطر و السيئة لا خطر لها و لا قدر و إنما الخطر و القدر للحسنات فكان المعنى فأما من عظم قدره عند الله لكثرة حسناته و من خف قدره عند الله لخفة حسناته «فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ» أي فمأواه جهنم و مسكنه النار و إنما سماها أمه لأنه يأوي إليها كما يأوي الولد إلى أمه و لأن الأصل السكون إلى الأمهات قال قتادة: هي كلمة عربية كان الرجل إذا وقع‏

808
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 808

في أمر شديد قيل هوت أمه و قيل إنما قال «فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ» لأن العاصي يهوي إلى أم رأسه في النار عن أبي صالح و قيل أنه يهوي فيها و هي المهواة لا يدرك قعرها ثم قال سبحانه «وَ ما أَدْراكَ ما هِيَهْ» هذا تعظيم و تفخيم لأمرها يريد أنك لا تعلم تفصيلها و أنواع ما فيها من العقاب و إن كنت تعلمها على طريق الجملة و الهاء في هيه للوقف ثم فسرها فقال «نارٌ حامِيَةٌ» أي نار حارة شديدة الحرارة.

809
مجمع البيان في تفسير القرآن10

سورة التكاثر مكية و آياتها ثمان ص 810

(102) سورة التكاثر مكية و آياتها ثمان (8)
[توضيح‏]
مدنية و قيل مكية ثمان آيات بالإجماع.
فضلها
في حديث أبي و من قرأها لم يحاسبه الله بالنعيم الذي أنعم عليه في دار الدنيا و أعطي من الأجر كأنما قرأ ألف آية.
شعيب العقرقوفي عن أبي عبد الله (ع) قال من قرأ سورة ألهاكم التكاثر في فريضة كتب له ثواب و أجر مائة شهيد و من قرأها في نافلة كان له ثواب خمسين شهيدا و صلى معه في فريضته أربعون صفا من الملائكة.
و
عن درست عن أبي عبد الله (ع) قال قال رسول الله ص من قرأ ألهاكم التكاثر عن النوم وقى فتنة القبر.
تفسيرها
أخبر الله سبحانه في تلك السورة عن صفة القيامة و ذكر في هذه السورة من ألهاه عنها التكاثر فقال:
[سورة التكاثر (102): الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏
أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (2) كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4)
كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)

القراءة
قرأ ابن عامر و الكسائي‏
لترون بضم التاء و روي ذلك عن علي (ع)
و الباقون «لَتَرَوُنَّ» بالفتح.

810
مجمع البيان في تفسير القرآن10

الحجة ص 811

الحجة
قال أبو علي: من قال لترون بضم التاء فإن رأى فعل يتعدى إلى مفعول واحد تقول رأيت الهلال كما تقول لبست ثوبك فإذا نقلت الفعل بالهمزة زاد مفعول آخر تقول أريت زيدا الهلال فإذا بنيت هذا الفعل للمفعول قلت أري زيد الهلال و كذلك «لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ».
اللغة
الإلهاء الصرف إلى اللهو و اللهو الانصراف إلى ما يدعو إليه الهوى يقال لها يلهو لهوا و لهي عن الشي‏ء يلهى و منه قولهم فإذا استأثر الله بشي‏ء فاله عنه و التكاثر التفاخر بكثرة المناقب يقال تكاثر القوم إذا تعادوا ما لهم من المناقب و الزيارة إتيان الموضع كإتيان المألوف على غير إقامة زاره يزوره زيارة و منه زور تزويرا إذا شبه الخط بما يوهم أنه خط فلان و ليس به و المزورة من ذلك اشتقت و الفرق بين النعيم و النعمة أن النعمة كالإنعام في التضمين لمعنى منعم أنعم إنعاما و نعمة و كلاهما موجب للشكر و النعيم ليس كذلك لأنه من نعم نعيما فلو عمل ذلك بنفسه لكان نعيما لا يوجب شكرا و أما النعمة بفتح النون فمن نعم بضم العين إذا لان.
الإعراب‏
كلا حرف و ليس باسم و تضمنه معنى ارتدع لا يدل على أنه كصه بمعنى اسكت و مه بمعنى اكفف أ لا ترى أن أما تتضمن معنى مهما يكن من شي‏ء و هو حرف فكذا كلا ينبغي أن يكون حرفا «كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ» جواب لو محذوف و تقديره لما ألهاكم التكاثر. و «عِلْمَ الْيَقِينِ» مصدر و قيل هو قسم و التقدير و علم اليقين لترون الجحيم أي عذاب الجحيم فحذف لأن رؤيتها ليس بوعيد و إن الوعيد برؤية عذابها و تقديره في الإعراب علم الخبر اليقين فحذف المضاف و مثله حب الحصيد و لا يجوز الهمز في واو «لَتَرَوُنَّ» و «لَتَرَوُنَّها» على قياس أثؤب في أثوب و أعد في وعد لأن الضمة هنا عارضة لالتقاء الساكنين و ليست بلازمة و أما «عَيْنَ الْيَقِينِ» فانتصابه انتصاب المصدر أيضا كما تقول رأيته حقا و تبينته يقينا و الرؤية هنا بمعنى المشاهدة كما قال سبحانه وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها.
النزول‏
قيل نزلت السورة في اليهود قالوا نحن أكثر من بني فلان و بنو فلان أكثر من بني فلان ألهاهم ذلك حتى ماتوا ضلالا عن قتادة و قيل نزلت في فخذ من الأنصار تفاخروا عن أبي بريدة و قيل نزلت في حيين من قريش بني عبد مناف بن قصي و بني سهم بن عمرو تكاثروا و عدوا أشرافهم فكثرهم بنو عبد مناف ثم قالوا نعد موتانا حتى زاروا القبور فعدوهم و قالوا هذا قبر فلان و هذا قبر فلان فكثرهم بنو سهم لأنهم كانوا أكثر عددا في الجاهلية عن مقاتل و الكلبي.

811
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 812

المعنى‏
 «أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ» أي شغلكم عن طاعة الله و عن ذكر الآخرة التكاثر بالأموال و الأولاد و التفاخر بكثرتهما «حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ» أي حتى أدرككم الموت على تلك الحال عن الحسن و قتادة و قال الجبائي: حتى متم على ذلك و لم تتوبوا و قيل ألهاكم التباهي بكثرة المال و العدد عن تدبر أمر الله حتى عددتم الأموات في القبور و
روى قتادة عن مطرف بن عبد الله الشخير عن أبيه قال انتهيت إلى رسول الله ص و هو يقول «أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ» السورة قال يقول ابن آدم مالي مالي و ما لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت أورده مسلم في الصحيح‏
ثم رد الله تعالى عليهم هذا فقال «كَلَّا» أي ليس الأمر الذي ينبغي أن تكونوا عليه التكاثر ثم أوعدهم فقال «سَوْفَ تَعْلَمُونَ» ثم أكد ذلك و كرره فقال «ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ» قال الحسن و مقاتل: هو وعيد بعد وعيد و المعنى سوف تعلمون عاقبة تباهيكم و تكاثركم إذا نزل بكم الموت و قيل معناه سوف تعلمون في القبر ثم سوف تعلمون في الحشر
رواه زر بن حبيش عن علي (ع) قال ما زلنا نشك في عذاب القبر حتى نزلت «أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ» إلى قوله «كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ» يريد في القبر «ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ» بعد البعث‏
و قيل إن المعنى «كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ» إذا رأيتم دار الأبرار «ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ» إذا رأيتم دار الفجار و العرب تؤكد بكلا و حقا «كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ» هذا كلام آخر يقول لو تعلمون الأمر علما يقينا لشغلكم ما تعلمون عن التفاخر و التباهي بالعز و الكثرة و علم اليقين هو العلم الذي يثلج به الصدر بعد اضطراب الشك فيه و لهذا لا يوصف الله بأنه متيقن ثم استأنف سبحانه وعيدا آخر فقال «لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ» على نية القسم عن مقاتل يعني حين تبرز الجحيم في القيامة قبل دخولهم إليها «ثُمَّ لَتَرَوُنَّها» يعني بعد الدخول إليها «عَيْنَ الْيَقِينِ» كما يقال حق اليقين و محض اليقين و معناه ثم لترونها بالمشاهدة إذا دخلتموها و عذبتم بها «ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ» قال مقاتل: يعني كفار مكة كانوا في الدنيا في الخير و النعمة فيسألون يوم القيامة عن شكر ما كانوا فيه إذ لم يشكروا رب النعيم حيث عبدوا غيره و أشركوا به ثم يعذبون على ترك الشكر و هذا قول الحسن قال لا يسأل عن النعيم إلا أهل النار و قال الأكثرون: أن المعنى ثم لتسئلن يا معاشر المكلفين عن النعيم قال قتادة: إن الله سائل كل ذي نعمة عما أنعم عليه و قيل عن النعيم في المأكل و المشرب و غيرهما من الملاذ عن سعيد بن جبير و قيل النعيم الصحة و الفراغ عن عكرمة و يعضده ما
رواه ابن عباس عن النبي ص قال نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة و الفراغ‏
و
قيل هو الأمن و الصحة عن عبد الله بن مسعود و مجاهد و روي ذلك عن أبي جعفر و أبي عبد الله (ع)
و قيل يسأل عن كل نعيم إلا ما خصه الحديث و هو
قوله ثلاث لا يسأل‏

812
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 812

عنها العبد خرقة يواري بها عورته أو كسرة يسد بها جوعته أو بيت يكنه من الحر و البرد
و
روي أن بعض الصحابة أضاف النبي ص مع جماعة من أصحابه فوجدوا عنده تمرا و ماء باردا فأكلوا فلما خرجوا قال هذا من النعيم الذي تسألون عنه‏
و
روى العياشي بإسناده في حديث طويل قال سأل أبو حنيفة أبا عبد الله (ع) عن هذه الآية فقال له ما النعيم عندك يا نعمان قال القوت من الطعام و الماء البارد فقال لئن أوقفك الله يوم القيامة بين يديه حتى يسألك عن كل أكلة أكلتها و شربة شربتها ليطولن وقوفك بين يديه قال فما النعيم جعلت فداك قال نحن أهل البيت النعيم الذي أنعم الله بنا على العباد و بنا ائتلفوا بعد أن كانوا مختلفين و بنا ألف الله بين قلوبهم و جعلهم إخوانا بعد أن كانوا أعداء و بنا هداهم الله للإسلام و هي النعمة التي لا تنقطع و الله سائلهم عن حق النعيم الذي أنعم الله به عليهم و هو النبي ص و عترته‏

813
مجمع البيان في تفسير القرآن10

سورة العصر مكية و آياتها ثلاث ص 814

(103) سورة العصر مكية و آياتها ثلاث (3)
[توضيح‏]
مكية ثلاث آيات بالإجماع.
اختلافها
آيتان وَ الْعَصْرِ غير المكي و المدني الأخير بِالْحَقِّ مكي و المدني الأخير.
فضلها
في‏
حديث أبي و من قرأها ختم الله له بالصبر و كان مع أصحاب الحق يوم القيامة.
الحسين بن أبي العلاء عن أبي عبد الله (ع) قال من قرأ و العصر في نوافله بعثه الله يوم القيامة مشرقا وجهه ضاحكا سنة قريرة عينه حتى يدخل الجنة.
تفسيرها
ختم الله سبحانه تلك السورة بوعيد من ألهاه التكاثر و افتتح هذه السورة بمثل ذلك و هو أن الإنسان لفي خسر إلا المؤمن الصالح فقال سبحانه:
[سورة العصر (103): الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏
وَ الْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ تَواصَوْا بِالْحَقِّ وَ تَواصَوْا بِالصَّبْرِ (3)

اللغة
أصل العصر عصر الثوب و نحوه و هو فتله لإخراج مائه و منه عصر الدهر فإنه الوقت الذي يمكن فيه فتل الأمور كما يفتل الثوب و العصر العشي قال:
         يروح بنا عمرو و قد قصر العصر             و في الروحة الأولى الغنيمة و الأجر
و العصران الغداة و العشي و العصران الليل و النهار قال:

814
مجمع البيان في تفسير القرآن10

اللغة ص 814

         و لن يلبث العصران يوم و ليلة             إذا طلبا أن يدركا ما تيمما
الإعراب‏
أراد بالإنسان الجمع دون المفرد بدلالة أنه استثنى منه الذين آمنوا و روى بعضهم عن أبي عمرو «وَ تَواصَوْا بِالصَّبْرِ» على لغة من قال مررت ببكر.
المعنى‏
 «وَ الْعَصْرِ» أقسم سبحانه بالدهر لأن فيه عبرة لذوي الأبصار من جهة مرور الليل و النهار على تقدير الأدوار و هو قول ابن عباس و الكلبي و الجبائي و قيل هو وقت العشي عن الحسن و قتادة فعلى هذا أقسم سبحانه بالطرف الأخير من النهار لما في ذلك من الدلالة على وحدانية الله تعالى بإدبار النهار و إقبال الليل و ذهاب سلطان الشمس كما أقسم بالضحى و هو الطرف الأول من النهار لما فيه من حدوث سلطان الشمس و إقبال النهار و أهل الملتين يعظمون هذين الوقتين و قيل أقسم بصلاة العصر و هي الصلاة الوسطى عن مقاتل و قيل هو الليل و النهار و يقال لهما العصران عن ابن كيسان «إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ» هذا جواب القسم و الإنسان اسم الجنس و المعنى أنه لفي نقصان لأنه ينقص عمره كل يوم و هو رأس ماله فإذا ذهب رأس ماله و لم يكتسب به الطاعة يكون على نقصان طول دهره و خسران إذ لا خسران أعظم من استحقاق العقاب الدائم و قيل لفي خسر أي في هلكة عن الأخفش «إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ» استثنى من جملة الناس المؤمنين المصدقين بتوحيد الله العاملين بطاعة الله «وَ تَواصَوْا بِالْحَقِّ» أي وصى بعضهم بعضا باتباع الحق و اجتناب الباطل و قيل الحق القرآن عن الحسن و قتادة و قيل هو الإيمان و التوحيد عن مقاتل و قيل هو أن يقولوا عند الموت لمخلفيهم لا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ «وَ تَواصَوْا بِالصَّبْرِ» أي وصى بعضهم بعضا بالصبر على تحمل المشاق في طاعة الله عن الحسن و قتادة و بالصبر عن معاصي الله أي فإن هؤلاء ليسوا في خسر بل هم في أعظم ربح و زيادة يربحون الثواب باكتساب الطاعات و إنفاق العمر فيها فكان رأس مالهم باق كما أن التاجر إذا خرج رأس المال من يده و ربح عليه لم يعد ذلك ذهابا و قيل «لَفِي خُسْرٍ» معناه لفي عقوبة و غبن من فوت أمهله و منزله في الجنة و قيل المراد بالإنسان الكافر خاصة و هو أبو جهل و الوليد بن المغيرة و في هذه السورة أعظم دلالة على إعجاز القرآن أ لا ترى أنها مع قلة حروفها تدل على جميع ما يحتاج الناس إليه في الدين علما و عملا و في وجوب التواصي بالحق و الصبر إشارة إلى الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و الدعاء إلى التوحيد و العدل و أداء الواجبات و الاجتناب عن المقبحات و قيل أن في قراءة ابن مسعود
و العصر إن الإنسان لفي خسر و أنه فيه إلى آخر الدهر و روي ذلك عن علي (ع).

815
مجمع البيان في تفسير القرآن10

سورة الهمزة مكية و آياتها تسع ص 816

(104) سورة الهمزة مكية و آياتها تسع (9)
[توضيح‏]
مكية و هي تسع آيات بالإجماع.
فضلها
و
في حديث أبي من قرأها أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من استهزأ بمحمد ص و أصحابه.
أبو بصير عن أبي عبد الله (ع) قال من قرأ ويل لكل همزة في فريضة من فرائضه نفت عنه الفقر و جلبت عليه الرزق و تدفع عنه ميتة السوء.
تفسيرها
أجمل سبحانه في تلك السورة أن الإنسان لفي خسر و فصل في هذه السورة تلك الجملة فقال:
[سورة الهمزة (104): الآيات 1 الى 9]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏
وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مالاً وَ عَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4)
وَ ما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)

القراءة
قرأ أهل البصرة و ابن كثير و نافع و عاصم «جَمَعَ» بالتخفيف و الباقون جمع بالتشديد «مُؤْصَدَةٌ» و ذكرناه في سورة البلد و قرأ أهل الكوفة غير حفص في عمد بضمتين و الباقون «فِي عَمَدٍ» بفتح العين و الميم.

816
مجمع البيان في تفسير القرآن10

الحجة ص 817

الحجة
قال أبو الحسن: المثقلة أكثر تقول فلان يجمع المال من هنا و من هنا قال أبو عمرو: و جمع خفيفة إذا أكثر و إذا ثقل فإنما هو شي‏ء بعد شي‏ء قال أبو علي: و قد يجوز أن يكون جمع لما يجمع فيما قرب من الوقت و لم يجمع شيئا بعد شي‏ء قال سبحانه وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً و قال الأعشى:
         و لمثل الذي جمعت لريب الدهر             لا مسند و لا زمال‏
و الأشبه أن تكون أداة الحرب لا تجمع في وقت واحد و إنما هو شي‏ء بعد شي‏ء فيجوز على هذا أن يكون شيئا بعد شي‏ء في قول من خفف كما تقول ذلك في قول من ثقل و من قرأ عمد جعله جمعا لعمود مثل قدوم و قدم و زبور و زبر و من قال «عَمَدٍ» فإنه جمع عمود أيضا كما قالوا أفق و أدم و أهب في جمع أفيق و أديم و إهاب و هذا اسم من أسماء الجمع غير مستمر و قد قالوا حارس و حرس و غائب و غيب و خادم و خدم و رائح و روح و هو في أنه غير مطرد مثل عمد.
اللغة
الهمزة الكثير الطعن على غيره بغير حق العائب له بما ليس بعيب و أصل الهمز الكسر فكان العائب بعيبه إياه و طعنه فيه يكسره و يهمزه و قيل لأعرابي أ تهمز الفأرة قال السنور تهمزها و كان الهمز في الكلام نبرة كالطعنة بقوة اعتمادها و اللمز العيب أيضا و الهمزة و اللمزة بمعنى و قد قيل بينهما فرق فإن الهمزة الذي يعيبك بظهر الغيب و اللمزة الذي يعيبك في وجهك عن الليث و قيل الهمزة الذي يؤذي جليسه بسوء لفظه و اللمزة الذي يكسر عينه على جليسه و يشير برأسه و يومئ بعينه و يقال لمزة يلمزه و يلمزه بكسر الميم و ضمها و رجل لماز و لمزة و هماز و همزة قال زياد الأعجم:
         تدلي بودي إذا لاقيتني كذبا             و إن تغيبت كنت الهامز اللمزة
و الحطمة الكثير الحطم أي الأكل و رجل حطمة أكول و حطم الشي‏ء إذا كسره و أذهبه قال:
         قد لفها الليل بسواق حطم             ليس براعي إبل و لا غنم‏
و فعلة بناء المبالغة في صفة من يكثر منه الفعل و يصير عادة له تقول رجل نكحة كثير النكاح و ضحكة كثير الضحك و كذا همزة و لمزة و فعلة ساكنة العين يكون للمفعول به.

817
مجمع البيان في تفسير القرآن10

الإعراب ص 818

الإعراب‏
 «الَّذِي جَمَعَ» في موضع جر على البدل من همزة و لا يجوز أن يكون صفة لأنه معرفة و يجوز أن يكون في موضع نصب على إضمار أعني و في موضع رفع على إضمار هو و في حرف عبد الله ويل للهمزة اللمزة فعلى هذا الوجه يكون صفة. «لَيُنْبَذَنَّ» يعني الجامع للمال و روي في الشواذ عن الحسن لينبذان يعني الجامع و المال. و «نارُ اللَّهِ» تقديره هي نار الله.
المعنى‏
 «وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ» هذا وعيد من الله سبحانه لكل مغتاب غياب مشاء بالنميمة مفرق بين الأحبة عن ابن عباس و عنه أيضا قال: الهمزة الطعان و اللمزة المغتاب و قيل الهمزة المغتاب و اللمزة الطعان عن سعيد بن جبير و قتادة و قيل الهمزة الذي يطعن في الوجه بالعيب و اللمزة الذي يغتاب عند الغيبة عن الحسن و أبي العالية و عطاء بن أبي رباح و قيل الهمزة الذي يهمز الناس بيده و يضربهم و اللمزة الذي يلمزهم بلسانه و بعينه عن ابن زيد «الَّذِي جَمَعَ مالًا وَ عَدَّدَهُ» أي أحصاه عن الفراء و قيل عدده للدهور فيكون من العدة عن الزجاج يقال أعددت الشي‏ء و عددته إذا أمسكته و قيل جمع مالا من غير حله و منعه من حقه و أعده ذخرا لنوائب دهره عن الجبائي و قيل أن الآيات نزلت في الوليد بن المغيرة و كان يغتاب النبي ص من ورائه و يطعن عليه في وجهه عن مقاتل و قيل نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي و كان يلمز الناس و يغتابهم عن الكلبي ثم ذكر سبحانه طول أمله فقال «يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ» أي يظن أن ماله الذي جمعه يخلده في الدنيا و يمنعه من الموت فأخلده في معنى يخلده لأن قوله «يَحْسَبُ» يدل عليه و إنما قال ذلك و إن كان الموت معلوما عند جميع الناس لأنه يعمل عمل من يتمنى ذلك و قيل «أَخْلَدَهُ» بمعنى أوجب إخلاده و هذا كما يقال هلك فلان إذا حدث به سبب الهلاك و إن لم يقع هلاكه بعد ثم قال سبحانه «كَلَّا» أي لا يخلده ماله و لا يبقى له و قيل معناه ليس الأمر كما حسب و قيل معناه حقا «لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ» أي ليقذفن و يطرحن من وصفناه في الحطمة و هي اسم من أسماء جهنم قال مقاتل: و هي تحطم العظام و تأكل اللحوم حتى تهجم على القلوب ثم قال سبحانه «وَ ما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ» تفخيما لأمرها ثم فسرها بقوله «نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ» أي المؤججة أضافها سبحانه إلى نفسه ليعلم أنها ليست كسائر النيران ثم وصفها بالإيقاد على الدوام «الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ» أي تشرف على القلوب فيبلغها ألمها و حريقها و قيل معناه أن هذه النار تخرج من الباطن إلى الظاهر بخلاف نيران الدنيا «إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ» يعني أنها على أهلها مطبقة يطبق أبوابها عليهم تأكيدا للإياس عن الخروج «فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ» و هي جمع عمود و قال أبو عبيدة:
كلاهما جمع عماد قال و هي أوتاد الأطباق التي تطبق على أهل النار و قال مقاتل: أطبقت‏

818
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 818

الأبواب عليهم ثم شدت بأوتاد من حديد من نار حتى يرجع إليهم غمها و حرها فلا يفتح عليهم باب و لا يدخل عليهم روح و قال الحسن: يعني عمد السرادق في قوله أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها فإذا مدت تلك العمد أطبقت جهنم على أهلها نعوذ بالله منها و قال الكلبي: في عمد مثل السواري ممددة مطولة تمد عليهم و قال ابن عباس: هم في عمد أي في أغلال في أعناقهم يعذبون بها و
روى العياشي بإسناده عن محمد بن النعمان الأحول عن حمران بن أعين عن أبي جعفر (ع) قال أن الكفار و المشركين يعيرون أهل التوحيد في النار و يقولون ما نرى توحيدكم أغنى عنكم شيئا و ما نحن و أنتم إلا سواء قال فيأنف لهم الرب تعالى فيقول للملائكة اشفعوا فيشفعون لمن شاء الله ثم يقول للنبيين اشفعوا فيشفعون لمن شاء الله ثم يقول للمؤمنين اشفعوا فيشفعون لمن شاء الله و يقول الله أنا أرحم الراحمين أخرجوا برحمتي كما يخرج الفراش قال ثم قال أبو جعفر (ع) ثم مدت العمد و أوصدت عليهم و كان و الله الخلود.

819
مجمع البيان في تفسير القرآن10

سورة الفيل مكية و آياتها خمس ص 820

(105) سورة الفيل مكية و آياتها خمس (5)
[توضيح‏]
مكية خمس آيات بالإجماع.
فضلها
في حديث أبي من قرأها عافاه الله أيام حياته في الدنيا من المسخ و القذف.
أبو بصير عن أبي عبد الله (ع) قال من قرأ في الفريضة أ لم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل شهد له يوم القيامة كل سهل و جبل و مدر بأنه كان من المصلين و ينادي يوم القيامة مناد صدقتم على عبدي قبلت شهادتكم له أو عليه أدخلوا عبدي الجنة و لا تحاسبوه فإنه ممن أحبه و أحب عمله و من أكثر قراءة لإيلاف قريش بعثه الله يوم القيامة على مركب من مراكب الجنة حتى يقعد على موائد النور يوم القيامة.
تفسيرها
ذكر الله سبحانه في تلك السورة ما أعده من العذاب لمن عاب الناس و اغتابهم و ركن إلى الدنيا و بين في هذه السورة ما فعله بأصحاب الفيل قال:
[سورة الفيل (105): الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏
أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (1) أَ لَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَ أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4)
فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)

القراءة
في الشواذ قراءة أبي عبد الرحمن أ لم تر بسكون الراء.
الحجة
قال ابن جني: أن هذا السكون بابه الشعر دون القرآن لما فيه من استهلاك‏

820
مجمع البيان في تفسير القرآن10

الحجة ص 820

الحرف و الحركة قبله يعني الألف و الفتحة من ترى أنشد أبو زيد:
         " قالت سليمى اشتر لنا سويقا"
يريد اشتر و أنشد:
         قد حج في ذا العام من كان رجا             فاكتر لنا كري صدق فالنجا
         و احذر فلا تكتر كريا أعرجا             علجا إذا سار بنا عفنججا
فحذف كسرة اكتر في الموضعين.
اللغة
أبابيل جماعات في تفرقة زمرة زمرة و لا واحد لها في قول أبي عبيدة و الفراء كعباديد و قال الكسائي: واحدها أبول مثل عجول و زعم أبو جعفر الرواسي أنه سمع في واحدها إبالة.
الإعراب‏
 «كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ» منصوب بفعل على المصدر أو على الحال من الرب و التقدير أ لم تر أي فعل فعل ربك أو أ منتقما فعل ربك بهم أم مجازيا و نحو ذلك و الجملة التي هي كيف فعل ربك سدت مسد مفعولي ترى.
قصة أصحاب الفيل‏
أجمعت الرواة على أن ملك اليمن الذي قصد هدم الكعبة هو أبرهة بن الصباح الأشرم و قيل أن كنيته أبو يكسوم قال الواقدي: هو صاحب النجاشي جد النجاشي الذي كان على عهد رسول الله ص و قال محمد بن يسار أقبل تبع حتى نزل على المدينة فنزل بوادي قبا فحفر بها بئرا يدعى اليوم بئر الملك قال و بالمدينة إذ ذاك يهود و الأوس و الخزرج فقاتلوه و جعلوا يقاتلونه بالنهار فإذا أمسى أرسلوا إليه بالضيافة فاستحيا و أراد صلحهم فخرج إليه رجل من الأوس يقال له أحيحة بن جلاح و خرج إليه من اليهود بنيامين القرظي فقال أحيحة:
أيها الملك نحن قومك و قال بنيامين: هذه بلدة لا تقدر على أن تدخلها و لو جهدت قال و لم قال لأنها منزل نبي من الأنبياء يبعثه الله من قريش قال ثم خرج يسير حتى إذا كان من مكة على ليلتين بعث الله عليه ريحا فقصفت يديه و رجليه و شنجت جسده فأرسل إلى من معه من اليهود فقال ويحكم ما الذي أصابني قالوا حدثت نفسك بشي‏ء قال نعم و ذكر ما أجمع عليه من هدم البيت و إصابة ما فيه قالوا ذلك بيت الله الحرام و من أراده هلك قال ويحكم و ما

821
مجمع البيان في تفسير القرآن10

قصة أصحاب الفيل ص 821

المخرج مما دخلت فيه قالوا تحدث نفسك بأن تطوف به و تكسوه و تهدي له فحدث نفسه بذلك فأطلقه الله ثم سار حتى دخل مكة فطاف بالبيت و سعى بين الصفا و المروة و كسا البيت و ذكر الحديث في نحره بمكة و إطعامه الناس ثم رجوعه إلى اليمن و قتله و خروج ابنه إلى قيصر و استغاثته به فيما فعل قومه بأبيه و أن قيصر كتب له إلى النجاشي ملك الحبشة و أن النجاشي بعث له ستين ألفا و استعمل عليهم روزبه حتى قاتلوا حمير أبيه و دخلوا صنعاء فملكوها و ملكوا اليمن و كان في أصحاب روزبه رجل يقال له أبرهة و هو أبو يكسوم فقال لروزبه: إني أولى بهذا الأمر منك و قتله مكرا و أرضى النجاشي ثم أنه بني كعبة باليمن و جعل فيها قبابا من ذهب فأمر أهل مملكته بالحج إليها يضاهي بذلك البيت الحرام و إن رجلا من بني كنانة خرج حتى قدم اليمن فنظر إليها ثم قعد فيها يعني لحاجة الإنسان فدخلها أبرهة فوجد تلك العذرة فيها فقال من اجترأ علي بهذا و نصرانيتي لأهدمن ذلك البيت حتى لا يحجه حاج أبدا و دعا بالفيل و أذن قومه بالخروج و من اتبعه من أهل اليمن و كان أكثر من اتبعه منهم عك و الأشعرون و خثعم قال ثم خرج يسير حتى إذا كان ببعض طريقه بعث رجلا من بني سليم ليدعو الناس إلى حج بيته الذي بناه فتلقاه أيضا رجل من الحمس من بني كنانة فقتله فازداد بذلك حنقا و حث السير و الانطلاق و طلب من أهل الطائف دليلا فبعثوا معه رجلا من هذيل يقال له نفيل فخرج بهم يهديهم حتى إذا كانوا بالمغمس نزلوه و هو من مكة على ستة أميال فبعثوا مقدماتهم إلى مكة فخرجت قريش عباديد في رءوس الجبال و قالوا لا طاقة لنا بقتال هؤلاء و لم يبق بمكة غير عبد المطلب بن هاشم أقام على سقايته و غير شيبة بن عثمان بن عبد الدار أقام على حجابة البيت فجعل عبد المطلب يأخذ بعضادتي الباب ثم يقول:
         لا هم إن المرء يمنع رحله فامنع حلالك             لا يغلبوا بصليبهم و محالهم عدوا محالك‏
         لا يدخلوا البلد الحرام إذا فأمر ما بدا لك‏
ثم إن مقدمات أبرهة أصابت نعما لقريش فأصابت فيها مائتي بعير لعبد المطلب بن هاشم فلما بلغه ذلك خرج حتى أتى القوم و كان حاجب أبرهة رجلا من الأشعرين و كانت له بعبد المطلب معرفة فاستأذن له على الملك و قال له أيها الملك جاءك سيد قريش الذي يطعم إنسها في الحي و وحشها في الجبل فقال له ائذن له و كان عبد المطلب رجلا جسيما جميلا فلما رآه أبو يكسوم أعظمه أن يجلسه تحته و كره أن يجلسه معه على سريره فنزل من سريره‏

822
مجمع البيان في تفسير القرآن10

قصة أصحاب الفيل ص 821

فجلس على الأرض و أجلس عبد المطلب معه ثم قال ما حاجتك قال حاجتي مائتا بعير لي أصابتها مقدمتك فقال أبو يكسوم و الله لقد رأيتك فأعجبتني ثم تكلمت فزهدت فيك فقال و لم أيها الملك قال لأني جئت إلى بيت عزكم و منعتكم من العرب و فضلكم في الناس و شرفكم عليهم و دينكم الذي تعبدون فجئت لأكسره و أصيبت لك مائتا بعير فسألتك عن حاجتك فكلمتني في إبلك و لم تطلب إلى في بيتكم فقال له عبد المطلب: أيها الملك أنا أكلمك في مالي و لهذا البيت رب هو يمنعه لست أنا منه في شي‏ء فراع ذلك أبا يكسوم و أمر برد إبل عبد المطلب عليه ثم رجع و أمست ليلتهم تلك الليلة كالحة نجومها كأنها تكلمهم كلاما لاقترابها منهم فأحست نفوسهم بالعذاب و خرج دليلهم حتى دخل الحرم و تركهم و قام الأشعرون و خثعم فكسروا رماحهم و سيوفهم و برءوا إلى الله أن يعينوا على هدم البيت فباتوا كذلك بأخبث ليلة ثم أدلجوا بسحر فبعثوا فيلهم يريدون أن يصبحوا بمكة فوجهوه إلى مكة فربض فضربوه فتمرغ فلم يزالوا كذلك حتى كادوا أن يصبحوا ثم أنهم أقبلوا على الفيل فقالوا لك الله أن لا نوجهك إلى مكة فانبعث فوجهوه إلى اليمن راجعا فتوجه يهرول فعطفوه حين رأوه منطلقا حتى إذا ردوه إلى مكانه الأول ربض فلما رأوا ذلك عادوا إلى القسم فلم يزالوا كذلك يعالجونه حتى إذا كان مع طلوع الشمس طلعت عليهم الطير معها الحجارة فجعلت ترميهم و كل طائر في منقاره حجر و في رجليه حجران و إذا رمت بذلك مضت و طلعت أخرى فلا يقع حجر من حجارتهم تلك على بطن إلا خرقه و لا عظم إلا أوهاه و ثقبه و تاب أبو يكسوم راجعا قد أصابته بعض الحجارة فجعل كلما قدم أرضا انقطع له فيها أرب حتى إذا انتهى إلى اليمن لم يبق شي‏ء إلا باده فلما قدمها تصدع صدره و انشق بطنه فهلك و لم يصب من الأشعرين و خثعم أحد قال و كان عبد المطلب يرتجز و يدعو على الحبشة يقول:
         يا رب لا أرجو لهم سواكا             يا رب فامنع منهم حماكا
         إن عدو البيت من عاداكا             إنهم لم يقهروا قواكا
قال و لم تصب تلك الحجارة أحدا إلا هلك و ليس كل القوم أصابت و خرجوا هاربين يبتدرون الطريق التي منها جاءوا و يسألون عن نفيل ليدلهم على الطريق و قال نفيل في ذلك:
         ردينة لو رأيت و لن ترينه             لدى جنب المحصب ما رأينا

823
مجمع البيان في تفسير القرآن10

قصة أصحاب الفيل ص 821

         حمدت الله إذ عاينت طيرا             و خفت حجارة تلقى علينا
         و كل القوم يسأل عن نفيل             كان علي للحبشان دينا
و قال مقاتل بن سليمان: السبب الذي جر أصحاب الفيل إلى مكة هو أن فئة من قريش خرجوا تجارا إلى أرض النجاشي فساروا حتى دنوا من ساحل البحر و في حقف من أحقافها بيعة للنصارى تسميها قريش الهيكل و يسميها النجاشي و أهل أرضه ماسرخشان فنزل القوم فجمعوا حطبا ثم أججوا نارا و اشتروا لحما فلما ارتحلوا تركوا النار كما هي في يوم عاصف فذهبت الرياح بالنار فاضطرم الهيكل نارا فغضب النجاشي لذلك فبعث أبرهة لهدم الكعبة و روى‏
العياشي بإسناده عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله (ع) قال أرسل الله على أصحاب الفيل طيرا مثل الخطاف و نحوه في منقاره حجر مثل العدسة فكان يحاذي برأس الرجل فيرميه بالحجارة فيخرج من دبره فلم تزل بهم حتى أتت عليهم قال فأفلت رجل منهم فجعل يخبر الناس بالقصة فبينا هو يخبرهم إذ أبصر طيرا فقال هذا هو منها قال فحاذى فطرحه على رأسه فخرج من دبره‏
و قال عبيد بن عمير الليثي: لما أراد الله أن يهلك أصحاب الفيل فبعث عليهم طيرا نشأت من البحر كأنها الخطاطيف كل طير منها معه ثلاثة أحجار ثم جاءت حتى صفت على رءوسهم ثم صاحت و ألقت ما في أرجلها و مناقيرها فما من حجر وقع منها على رجل إلا خرج من الجانب الآخر و إن وقع على رأسه خرج من دبره و إن وقع على شي‏ء من جسده خرج من الجانب الآخر و عن عكرمة عن ابن عباس قال دعا الله الطير الأبابيل فأعطاها حجارة سودا عليها الطين فلما حاذت بهم رمتهم فما بقي أحد منهم إلا أخذته الحكة و كان لا يحك الإنسان منهم جلدا إلا تساقط لحمه قال و كانت الطير نشأت من قبل البحر لها خراطيم الطيور و رءوس السباع لم تر قبل ذلك و لا بعده‏
المعنى‏
خاطب الله سبحانه نبيه ص تنبيها على عظم الآية التي أظهرها و المعجزة التي فعلها فقال «أَ لَمْ تَرَ» أي أ لم تعلم يا محمد لأنه ص لم ير ذلك و قيل معناه أ لم تخبر عن الفراء «كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ» الذي قصدوا تخريب الكعبة و كان معهم فيل واحد اسمه محمود عن مقاتل و قيل ثمانية أفيال عن الضحاك و قيل اثنا عشر فيلا عن الواقدي و إنما وحد لأنه أراد الجنس و كان ذلك في العام الذي ولد فيه رسول الله ص و عليه أكثر العلماء و قيل كان أمر الفيل قبل مولد النبي ص بثلاث و عشرين سنة عن الكلبي و قيل كان قبل مولده بأربعين سنة عن مقاتل و الصحيح الأول و يدل عليه ما ذكر أن عبد الملك بن مروان قال لعتاب بن أشيم الكناني الليثي يا عتاب أنت أكبر أم رسول الله ص قال عتاب رسول الله ص‏

824
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 824

أكبر مني و أنا أسن منه ولد رسول الله ص عام الفيل و وقعت على روث الفيل و قالت عائشة:
رأيت قائد الفيل و سائقه بمكة أعميين مقعدين يستطعمان «أَ لَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ» معناه أ لم يجعل إرادتهم السوء و احتيالهم في تخريب البيت الحرام و قتل أهله و سبيهم و استباحتهم في تضليل عما قصدوا إليه ضل سعيهم حتى لم يصلوا إلى ما أرادوه بكيدهم و قيل في تضليل أي في ذهاب و بطلان «وَ أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ» أي أقاطيع يتبع بعضها بعضا كالإبل المؤبلة قال الأعشى:
         طريق و جبار رواء أصوله             عليه أبابيل من الطير تنعب‏
و قال امرؤ القيس:
         تراهم إلى الداعي سراعا كأنهم             أبابيل طير تحت داجن مدجن‏
و كانت لها خراطيم كخراطيم الطير و أكف كأكف الكلاب عن ابن عباس و قيل لها أنياب كأنياب السباع عن الربيع و قيل طير خضر لها مناقير صفر عن سعيد بن جبير و قيل طير سود بحرية تحمل في مناقيرها و أكفها الحجارة عن عبيد الله بن عمير و قتادة و يمكن أن يكون بعضها خضرا و بعضها سودا «تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ» أي تقذفهم بحجارة صلبة شديدة ليست من جنس الحجارة و قد فسرنا السجيل في سورة هود و ما جاء من الأقوال فيه فلا معنى لإعادته و قال موسى بن عائشة: كانت الحجارة أكبر من العدسة و أصغر من الحمصة و قال عبد الله بن مسعود: صاحت الطير فرمتهم بالحجارة فبعث الله ريحا فضربت الحجارة فزادتها شدة فما وقع منها حجر على رجل إلا خرج من الجانب الآخر فإن وقع على رأسه خرج من دبره «فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ» أي كزرع و تبن قد أكلته الدواب ثم راثته فديست و تفرقت أجزاؤه شبه الله تقطع أوصالهم بتفرق أجزاء الروث قال الحسن: كنا و نحن غلمان بالمدينة نأكل الشعير إذا قصب و كان يسمى العصف و قال أبو عبيدة: العصف ورق الزرع قال الزجاج:
أي جعلهم كورق الزرع الذي جز و أكل أي وقع فيه الأكال و كان هذا من أعظم المعجزات القاهرات و الآيات الباهرات في ذلك الزمان أظهره الله تعالى ليدل على وجوب معرفته و فيه إرهاص لنبوة نبينا ص لأنه ولد في ذلك العام و قال قوم من المعتزلة أنه كان معجزة لنبي من الأنبياء في ذلك الزمان و ربما قالوا هو خالد بن سنان و نحن لا نحتاج إلى ذلك لأنا نجوز

825
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 824

إظهار المعجزات على غير الأنبياء من الأئمة و الأولياء و فيه حجة لائحة قاصمة لظهور الفلاسفة و الملحدين المنكرين للآيات الخارقة للعادات فإنه لا يمكن نسبة شي‏ء مما ذكره الله تعالى من أمر أصحاب الفيل إلى طبع و غيره كما نسبوا الصيحة و الريح العقيم و الخسف و غيرهما مما أهلك الله تعالى به الأمم الخالية إلى ذلك إذ لا يمكنهم أن يروا في أسرار الطبيعة إرسال جماعات من الطير معها أحجار معدة مهياة لهلاك أقوام معينين قاصدات إياهم دون من سواهم فترميهم بها حتى تهلكهم و تدمر عليهم حتى لا يتعدى ذلك إلى غيرهم و لا يشك من له مسكة من عقل و لب أن هذا لا يكون إلا من فعل الله تعالى مسبب الأسباب و مذلل الصعاب و ليس لأحد أن ينكر هذا لأن نبينا ص لما قرأ هذه السورة على أهل مكة لم ينكروا ذلك بل أقروا به و صدقوه مع شدة حرصهم على تكذيبه و اعتنائهم بالرد عليه و كانوا قريبي العهد بأصحاب الفيل فلو لم يكن لذلك عندهم حقيقة و أصل لأنكروه و جحدوه و كيف و أنهم قد أرخوا بذلك كما أرخوا ببناء الكعبة و موت قصي بن كعب و غير ذلك و قد أكثر الشعراء ذكر الفيل و نظموه و نقلته الرواة عنهم فمن ذلك ما قاله أمية بن أبي الصلت:
         إن آيات ربنا بينات             ما يماري فيهن إلا الكفور
         حبس الفيل بالمغمس حتى             ظل يحبو كأنه معقور
و قال عبد الله بن عمرو بن مخزوم:
         أنت الجليل ربنا لم تدنس             أنت حبست الفيل بالمغمس‏
         من بعد ما هم بشي‏ء مبلس             حبسته في هيئة المكركس‏
أي المنكس قال ابن الرقيات في قصيدة:
         و استهلت عليهم الطير بالجندل             حتى كأنه مرجو.

826
مجمع البيان في تفسير القرآن10

سورة قريش مكية و آياتها أربع ص 827

(106) سورة قريش مكية و آياتها أربع (4)
[توضيح‏]
مكية خمس آيات حجازي أربع آيات عند غيرهم.
اختلافها
آية مِنْ جُوعٍ حجازي.
فضلها
في حديث أبي من قرأها أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من طاف بالكعبة و اعتكف بها
و
روى العياشي بإسناده عن المفضل بن صالح عن أبي عبد الله (ع) قال سمعته يقول لا تجمع بين سورتين في ركعة واحدة إلا (الضحى و أ لم نشرح و أ لم تر كيف و لإيلاف قريش).
و
عن أبي العباس عن أحدهما (ع) قال (أ لم تر كيف فعل ربك و لإيلاف قريش) سورة واحدة
و روي أن أبي بن كعب لم يفصل بينهما في مصحفه. و قال عمرو بن ميمون الأزدي صليت المغرب خلف عمر بن الخطاب و قرأ في الأولى (و التين) و في الثانية (أ لم تر كيف و لإيلاف قريش).
تفسيرها
و لما ذكر سبحانه عظيم نعمته على أهل مكة بما صنعه بأصحاب الفيل قال عقيب ذلك:
[سورة قريش (106): الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏
لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَ الصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَ آمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)

827
مجمع البيان في تفسير القرآن10

القراءة ص 828

القراءة
قرأ أبو جعفر ليلاف قريش بغير همز إلافهم مختلسة الهمزة ليس بعدها ياء و قرأ ابن عامر لئلاف قريش مختلسة الهمزة ليس بعدها ياء «إِيلافِهِمْ» مشبعة الهمزة في الحرفين بعدها ياء. و قرأ ابن فليح لإيلاف قريش الفهم ساكنة اللام ليس بعدها ياء و قرأ الآخرون «لِإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ» مشبعة الهمزة في الحرفين بعدها ياء.
الحجة
قال أبو علي: قال أبو عبيدة ألفته و آلفته لغتان أنشد أبو زيد:
         من المولفات الرمل أدماء حرة             شعاع الضحى في جيدها يتوضح‏
و أنشد غيره:
         ألف الصفون فلا يزال كأنه             مما يقوم على الثلاث كسيرا
و قال آخر:
         زعمتم أن إخوتكم قريش             لهم إلف و ليس لكم إلاف‏
و الألف و الآلاف مصدر ألف و الإيلاف مصدر آلف.
اللغة
الإيلاف إيجاب الألف بحسن التدبير و التلطف يقال ألف يألف ألفا و آلفه يؤلفه إيلافا إذا جعله يألف فالإيلاف نقيض الإيحاش و نظيره الإيناس و ألف الشي‏ء لزومه على عادة في سكون النفس إليه. و الرحلة حال السير على الراحلة و هي الناقة القوية على السير و منه‏
الحديث المروي الناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة
و الرحل متاع السفر و الارتحال احتمال الرحل للسير في السفر.
الإعراب‏
قال أبو الحسن الأخفش اللام في قوله «لِإِيلافِ قُرَيْشٍ» يتعلق بقوله «كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ» أي فعلنا ذلك بهم لتأتلف قريش رحلتها و قال الزجاج معناه أهلك الله أصحاب الفيل لتبقى قريش و ما قد ألفوا من رحلة الشتاء و الصيف قال أبو علي اعترض معترض فقال إنما جعلوا كعصف مأكول لكفرهم و لم يجعلوا كذلك لتألف قريش قال و ليس هذا الاعتراض بشي‏ء لأنه يجوز أن يكون المعنى أهلكوا لكفرهم و لما أدى إهلاكهم إلى أن تألف قريش جاز كقوله تعالى «لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَ حَزَناً» و هم لم يلتقطوه لذلك فلما آل‏

828
مجمع البيان في تفسير القرآن10

الإعراب ص 828

الأمر إليه حسن أن يجعله علة الالتقاط و قال الخليل و سيبويه فليعبدوا رب هذا البيت لإيلاف قريش أي ليجعلوا عبادتكم شكرا لهذه النعمة و اعترافا بها و قيل هو على أ لم تر كيف فعل ربك لإيلاف قريش عن الفراء لأنه سبحانه ذكر أهل مكة عظيم نعمته عليهم فيما صنع بالحبشة.
المعنى‏
 «لِإِيلافِ قُرَيْشٍ» أي فعلنا ذلك بأصحاب الفيل نعمة منا على قريش مضافة إلى نعمتنا عليهم في رحلة الشتاء و الصيف فكأنه قال نعمة إلى نعمة فتكون اللام مؤدية معنى إلى و هو قول الفراء و قيل معناه فعلنا ذلك لتألف قريش بمكة و يمكنهم المقام بها أو لتؤلف قريشا فإنهم هابوا من أبرهة لما قصدها و هربوا منه فأهلكناهم لترجع قريش إلى مكة و يألفوا بها و يولد محمد ص فيبعث إلى الناس بشيرا و نذيرا و قوله «إِيلافِهِمْ» ترجمة عن الأول و بدل منهم «رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَ الصَّيْفِ» منصوبة بوقوع إيلافهم عليها و تحقيقه أن قريشا كانت بالحرم آمنة من الأعداء أن تهجم عليهم فيه و أن يعرض لهم أحد بالسوء إذا خرجت منها لتجارتها و الحرم واد جديب إنما كانت تعيش قريش فيه بالتجارة و كانت لهم رحلتان في كل سنة رحلة في الشتاء إلى اليمن لأنها بلاد حامية و رحلة في الصيف إلى الشام لأنها بلاد باردة و لو لا هاتان الرحلتان لم يمكنهم به مقام و لو لا الأمن لم يقدروا على التصرف فلما قصد أصحاب الفيل مكة أهلكهم الله لتألف قريش هاتين الرحلتين اللتين بهما معيشتهم و مقامهم بمكة و قيل إن كلتا الرحلتين كانت إلى الشام و لكن رحلة الشتاء في البحر و أيلة طلب للدفأ و رحلة الصيف إلى الشام لأنها بلاد باردة و لو لا هاتين الرحلتين لم يمكنهم مقام و لو لا الأمن لم يقدروا على التصرف فلما قصد أصحاب الفيل مكة أهلكهم الله لتألف قريش هاتين الرحلتين اللتين بهما معيشتهم و مقامهم بمكة و قيل إن كلتا الرحلتين كانت إلى الشام و لكن رحلة الشتاء في البحر و أيلة طلب للدفأ و رحلة الصيف إلى بصري و أذرعات طلبا للهواء و أما قريش فهم ولد النضر بن كنانة فكل من ولده النضر فهو قرشي و من لم يلده النضر فليس بقرشي و اختلف في تسميتهم بهذا الاسم فقيل سموا قريشا للتجارة و طلب المال و جمعه و كانوا أهل تجارة و لم يكونوا أصحاب ضرع و لا زرع و القرش المكسب يقال هو يقرش لعياله أي يكتسب لهم و ذكر أنه قيل لابن عباس لم سميت قريش قريشا فقال لدابة تكون في البحر من أعظم دوابه يقال لها القريش لا تمر بشي‏ء من الغث و السمين إلا أكلته قيل أ فتنشد في ذلك شيئا فأنشد قول الجمحي:
         و قريش هي التي تسكن البحر             بها سميت قريش قريشا

829
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 829

         تأكل الغث و السمين و لا             تترك فيه لدى الحناجر ريشا
و كانت قريش تعيش بتجارتهم و رحلتهم و كان لا يتعرض لهم أحد بسوء و كانوا يقولون قريش سكان حرم الله و ولاة بيته قال الكلبي و كان أول من حمل الميرة من الشام و رحل إليها الإبل هاشم بن عبد مناف و يصدقه قول الشاعر:
         تحمل هاشم ما ضاق عنه             و أعيا أن يقوم به ابن بيض‏
         أتاهم بالغرائر متأقات             من أرض الشام بالبر النفيض‏
         فوسع أهل مكة من هشيم             و شاب البر باللحم الغريض‏
و
قال سعيد بن جبير مر رسول الله ص و معه أبو بكر بملإ و هم ينشدون:
         يا ذا الذي طلب السماحة و الندى             هلا مررت بآل عبد الدار
         لو أن مررت بهم تريد قراهم             منعوك من جهد و من إقتار
فقال لأبي بكر أ هكذا قال الشاعر فقال لا و الذي بعثك بالحق بل قال:
         يا ذا الذي طلب السماحة و الندى             هلا مررت بآل عبد مناف‏
         لو أن مررت بهم تريد قراهم             منعوك من جهد و من إيجاف‏
         الرائشين و ليس يوجد رائش             و القائلين هلم للأضياف‏
         و الخالطين غنيهم بفقيرهم             حتى يصير فقيرهم كالكافي‏
         و القائلين بكل وعد صادق             و رجال مكة مسنتين عجاف‏
         سفرين سنهما له و لقومه             سفر الشتاء و رحلة الأصياف‏
 «فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ» هذا أمر من الله سبحانه أي فليوجهوا عبادتهم إلى رب‏

830
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 829

هذه الكعبة و يوحدوه و هو الله سبحانه «الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ» بما سبب لهم من الأرزاق في رحلة الشتاء و الصيف و أعطاهم من الأموال «وَ آمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ» فلا يتعرض لهم أحد في سفرهم إذا قالوا نحن أهل حرم الله و قيل آمنهم من خوف الغارة بالحرم الذي جبلت قلوب الناس على تعظيمه لأنهم كانوا يقولون في الجاهلية نحن قطان حرم الله فلا يتعرض لهم و إن كان الرجل ليصاب في الحي من أحياء العرب فيقال هو حرمي فيخلي عنه و عن ماله تعظيما للحرم و كان غيرهم إذا خرج أغير عليه و قيل «أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ» أي من بعد جوع كما يقال كسوتك من بعد عري يعني ما كانوا فيه من الجوع قال ابن عباس كانوا في ضر و مجاعة حتى جمعهم هاشم على الرحلتين فلم يكن بنو أب أكثر مالا و لا أعز من قريش.

831
مجمع البيان في تفسير القرآن10

سورة الماعون مكية و آياتها سبع ص 832

(107) سورة الماعون مكية و آياتها سبع (7)
[توضيح‏]
و تسمى سورة الماعون مكية و قال الضحاك مدنية و قيل بعضها مكي و بعضها مدني.
عدد آيها
سبع عراقي و ست في الباقين.
اختلافها
آية يُراؤُنَ عراقي.
فضلها
في‏
حديث أبي
من قرأها غفر الله له إن كان للزكاة مؤديا
و
عمرو بن ثابت عن أبي جعفر (ع) قال من قرأ أ رأيت الذي يكذب بالدين في فرائضه و نوافله قبل الله صلاته و صيامه و لم يحاسبه بما كان منه في الحياة الدنيا.
تفسيرها
ذكر سبحانه نعمه على قريش ثم عجب سبحانه في هذه السورة من تكذيبهم مع عظيم النعمة عليهم فقال:
[سورة الماعون (107): الآيات 1 الى 7]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏
أَ رَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَ لا يَحُضُّ عَلى‏ طَعامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4)
الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ (6) وَ يَمْنَعُونَ الْماعُونَ (7)

832
مجمع البيان في تفسير القرآن10

القراءة ص 833

القراءة
في الشواذ قراءة أبي رجاء العطاردي يدع اليتيم بفتح الدال خفيفة.
الحجة
و معناه يتركه و يعرض عنه فهو صائر إلى معنى القراءة المشهورة «يَدُعُّ الْيَتِيمَ» أي يدفعه و يجفو عليه.
اللغة
الدع الدفع بشدة و منه الدعدعة تحريكك المكيال ليستوعب الشي‏ء كأنك تدفعه و الدعدعة أيضا زجر المعز و الحض و الحث و التحريض بمعنى واحد و الماعون كل ما فيه منفعة قال الأعشى:
         بأجود منه بماعونه             إذا ما سماؤهم لم تغم‏
و قال الراعي:
         قوم على الإسلام لما يمنعوا             ماعونهم و يضيعوا التهليلا
و قال أعرابي في ناقة له‏
         " كيما أنها تعطيك الماعون"
أي تنقاد لك و تطيعك و أصله القلة من المعن و هو القليل قال الشاعر
         " فإن هلاك مالك غير معن"
أي غير قليل و يقال ما له ممعن و لا معن فالماعون القليل القيمة مما فيه منفعة و يقال معن الوادي إذا جرت مياهه قليلا قليلا.
الإعراب‏
 «فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ» اعتمد هنا في الخبر على ما جرى في صلة الموصول الذي هو وصف المجرور باللام المتعلق بالخبر أ لا ترى أن قوله «فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ» غير محمول على الظاهر و الاعتماد على السهو في صلة الذين و قوله «الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ» يجوز أن يكون مجرورا على أنه صفة للمصلين و يجوز أن يكون منصوبا على إضمار أعني و أن يكون مرفوعا على إضمارهم.
المعنى‏
خاطب الله تعالى نبيه ص فقال «أَ رَأَيْتَ» يا محمد «الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ» أي هذا الكافر الذي يكذب بالجزاء و الحساب و ينكر البعث مع وضوح الأمر في ذلك و قيام الحجج على صحته و إنما ذكره سبحانه بلفظ الاستفهام إرادة للمبالغة في الأفهام و التكذيب بالجزاء من أضر شي‏ء على صاحبه لأنه يعدم بذلك أكثر الدواعي إلى الخير و الصوارف عن الشر فهو يتهالك في الإسراع إلى الشر الذي يدعوه إليه طبعه إذ لا يخاف عواقب الضرر فيه‏

833
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 833

قال الكلبي نزلت في العاص بن وائل السهمي و قيل نزلت في الوليد بن المغيرة عن السدي و مقاتل بن حيان و قيل نزلت في أبي سفيان بن حرب كان ينحر في كل أسبوع جزورين فأتاه يتيم فسأله شيئا فقرعه بعصاه عن ابن جريج و قيل نزلت في رجل من المنافقين عن عطاء عن ابن عباس «فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ» بين سبحانه أن من صفة هذا الذي يكذب بالدين أنه يدفع اليتيم عنفا به لأنه لا يؤمن بالجزاء عليه فليس له رادع عنه و قيل يدع اليتيم أي يدفعه عن حقه بجفوة و عنف و يقهره عن ابن عباس و مجاهد «وَ لا يَحُضُّ عَلى‏ طَعامِ الْمِسْكِينِ» أي لا يطعمه و لا يأمر بإطعامه يعني لا يفعله إذا قدر و لا يحض عليه إذا عجز لأنه يكذب بالجزاء «فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ» و هم الذين يؤخرون الصلاة عن أوقاتها عن ابن عباس و مسروق و روي ذلك مرفوعا و قيل يريد المنافقين الذين لا يرجون لها ثوابا إن صلوا و لا يخافون عليها عقابا إن تركوا فهم عنها غافلون حتى يذهب وقتها فإذا كانوا مع المؤمنين صلوها رياء و إذا لم يكونوا معهم لم يصلوا و هو قوله «الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ» عن علي (ع) و ابن عباس و قال أنس: الحمد لله الذي قال عن صلاتهم و لم يقل في صلاتهم يريد بذلك أن السهو الذي يقع للإنسان في صلاته من غير عمد لا يعاقب عليه و قيل ساهون عنها لا يبالون صلوا أم لم يصلوا عن قتادة و قيل هم الذين يتركون الصلاة عن الضحاك و قيل الذين إن صلوها صلوها رياء و إن فاتتهم لم يندموا عن الحسن و قيل هم الذين لا يصلونها لمواقيتها و لا يتمون ركوعها و لا سجودها عن أبي العالية و عنه أيضا قال هو الذي إذا سجد قال برأسه هكذا و هكذا ملتفتا و
روى العياشي بالإسناد عن يونس بن عمار عن أبي عبد الله (ع) قال سألته عن قوله «الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ» أ هي وسوسة الشيطان فقال لا كل أحد يصيبه هذا و لكن أن يغفلها و يدع أن يصلي في أول وقتها
و
عن أبي أسامة زيد الشحام قال سألت أبا عبد الله (ع) عن قول الله «الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ» قال هو الترك لها و التواني عنها
و
عن محمد بن الفضيل عن أبي الحسن (ع) قال هو التضييع لها
و قيل هم الذين يراءون الناس في جميع أعمالهم لم يقصدوا بها الإخلاص لله تعالى «وَ يَمْنَعُونَ الْماعُونَ» اختلف فيه فقيل‏
هي الزكاة المفروضة عن علي و ابن عمر و الحسن و قتادة و الضحاك و روي ذلك عن أبي عبد الله (ع)
و قيل هو ما يتعاوره الناس بينهم من الدلو و الفأس و القدر و ما لا يمنع كالماء و الملح عن ابن مسعود و ابن عباس و سعيد بن جبير و روي ذلك مرفوعا و
روى أبو بصير عن أبي عبد الله (ع) قال هو القرض تقرضه و المعروف تصنعه و متاع البيت تعيره و منه الزكاة قال فقلت إن لنا جيرانا إذا أعرناهم متاعا كسروه و أفسدوه أ فعلينا جناح أن نمنعهم فقال لا ليس عليك جناح أن تمنعهم إذا كانوا كذلك‏
و قيل هو المعروف كله عن الكلبي.

834
مجمع البيان في تفسير القرآن10

سورة الكوثر مكية و آياتها ثلاث ص 835

(108) سورة الكوثر مكية و آياتها ثلاث (3)
[توضيح‏]
مكية عن ابن عباس و الكلبي مدنية عن عكرمة و الضحاك و هي ثلاث آيات بالإجماع.
فضلها
في‏
حديث أبي من قرأها سقاه الله من أنهار الجنة و أعطي من الأجر بعدد كل قربان قربه العباد في يوم عيد و يقربون من أهل الكتاب و المشركين.
أبو بصير عن أبي عبد الله (ع) قال من قرأ إنا أعطيناك الكوثر في فرائضه و نوافله سقاه الله يوم القيامة من الكوثر و كان محدثة عند محمد ص.
تفسيرها
ذم سبحانه في تلك السورة تاركي الصلاة و مانعي الزكاة و ذكر في هذه السورة أنهم إن فعلوا ذلك و كذبوه فإنه يعطيه الخير الكثير و أمره بالصلاة فقال:
[سورة الكوثر (108): الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏
إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَ انْحَرْ (2) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)

اللغة
الكوثر فوعل من الكثرة و هو الشي‏ء الذي من شأنه الكثرة و الكوثر الخير الكثير و الإعطاء على وجهين إعطاء تمليك و إعطاء غير تمليك و إعطاء الكوثر إعطاء تمليك كإعطاء الأجر و أصله من عطا يعطو إذا تناول و الشانئ المبغض و الأبتر أصله من الحمار الأبتر و هو المقطوع الذنب و في حديث زياد أنه خطب خطبته البتراء لأنه لم يحمد الله فيها و لم يصل على النبي ص.

835
مجمع البيان في تفسير القرآن10

الإعراب ص 836

الإعراب‏
 «وَ انْحَرْ» مفعوله محذوف أي و انحر أضحيتك كما حذف لبيد من قوله:
         " و هم العشيرة أن يبطئ حاسد"
أي إن يبطأهم حاسد أي أن ينسبهم إلى البطوء و قوله «إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ» لا أنت هذا تقديره أي هو مبتور لا أنت لأن ذكرك مرفوع مهما ذكرت ذكرت معي و هو فصل و الأبتر خبر إن.
النزول‏
قيل نزلت السورة في العاص بن وائل السهمي و ذلك أنه رأى رسول الله ص يخرج من المسجد فالتقيا عند باب بني سهم و تحدثا و أناس من صناديد قريش جلوس في المسجد فلما دخل العاص قالوا من الذي كنت تتحدث معه قال ذلك الأبتر و كان قد توفي قبل ذلك عبد الله بن رسول الله ص و هو من خديجة و كانوا يسمون من ليس له ابن أبتر فسمته قريش عند موت ابنه أبتر و صنبورا عن ابن عباس.
المعنى‏
خاطب سبحانه نبيه ص على وجه التعداد لنعمه عليه فقال «إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ» اختلفوا في تفسير الكوثر فقيل هو نهر في الجنة عن عائشة و ابن عمر
قال ابن عباس لما نزلت إنا أعطيناك الكوثر صعد رسول الله ص المنبر فقرأها على الناس فلما نزل قالوا يا رسول الله ما هذا الذي أعطاك الله قال نهر في الجنة أشد بياضا من اللبن و أشد استقامة من القدح حافتاه قباب الدر و الياقوت ترده طير خضر لها أعناق كأعناق البخت قالوا يا رسول الله ما أنعم تلك الطير قال أ فلا أخبركم بأنعم منها قالوا بلى قال من أكل الطائر و شرب الماء و فاز برضوان الله‏
و
روي عن أبي عبد الله (ع) أنه قال نهر في الجنة أعطاه الله نبيه ص عوضا من ابنه‏
و قيل هو حوض النبي ص الذي يكثر الناس عليه يوم القيامة عن عطاء و
قال أنس بينا رسول الله ص ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفى إغفاء ثم رفع رأسه مبتسما فقلت ما أضحكك يا رسول الله قال أنزلت علي آنفا سورة فقرأ سورة الكوثر ثم قال أ تدرون ما الكوثر قلنا الله و رسوله أعلم قال فإنه نهر وعدنيه عليه ربي خيرا كثيرا هو حوضي ترد عليه أمتي يوم القيامة آنيته عدد نجوم السماء فيختلج القرن منهم فأقول يا رب إنهم من أمتي فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك أورده مسلم في الصحيح‏
و قيل الكوثر الخير الكثير عن ابن عباس و ابن جبير و مجاهد و قيل هو النبوة و الكتاب عن عكرمة و قيل هو القرآن عن الحسن و قيل هو كثرة الأصحاب و الأشياع عن أبي بكر بن عياش و قيل هو كثرة النسل و الذرية و قد ظهرت الكثرة في نسله من ولد فاطمة (ع) حتى لا يحصى عددهم و اتصل إلى يوم القيامة مددهم و
قيل هو الشفاعة

836
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 836

رووه عن الصادق (ع)
و اللفظ يحتمل للكل فيجب أن يحمل على جميع ما ذكر من الأقوال فقد أعطاه الله سبحانه و تعالى الخير الكثير في الدنيا و وعده الخير الكثير في الآخرة و جميع هذه الأقوال تفصيل للجملة التي هي الخير الكثير في الدارين «فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَ انْحَرْ» أمره سبحانه بالشكر على هذه النعمة العظيمة بأن قال فصل صلاة العيد لأنه عقبها بالنحر أي و انحر هديك و أضحيتك عن عطاء و عكرمة و قتادة و قال‏
أنس بن مالك كان النبي ص ينحر قبل أن يصلي فأمر أن يصلي ثم ينحر
و قيل معناه فصل لربك صلاة الغداة المفروضة بجمع و انحر البدن بمنى عن سعيد بن جبير و مجاهد و قال محمد بن كعب إن أناسا كانوا يصلون لغير الله و ينحرون لغير الله فأمر الله تعالى نبيه ص أن يكون صلاته و نحره للبدن تقربا إليه و خالصا له و قيل معناه فصل لربك الصلاة المكتوبة و استقبل القبلة بنحرك و تقول العرب منازلنا تتناحر أي هذا ينحر هذا يعني يستقبله و أنشد:
         أبا حكم هل أنت عم مجالد             و سيد أهل الأبطح المتناحر
أي ينحر بعضه بعضا و هذا قول الفراء و أما
ما رووه عن علي (ع) أن معناه ضع يدك اليمني على اليسرى حذاء النحر في الصلاة
فمما لا يصح عنه لأن‏
جميع عترته الطاهرة (ع) قد رووه بخلاف ذلك و هو أن معناه ارفع يديك إلى النحر في الصلاة
و
عن عمر بن يزيد قال سمعت أبا عبد الله (ع) يقول في قوله «فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَ انْحَرْ» هو رفع يديك حذاء وجهك و روى عنه عبد الله بن سنان مثله‏
و
عن جميل قال قلت لأبي عبد الله (ع) «فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَ انْحَرْ» فقال بيده هكذا يعني استقبل بيديه حذو وجهه القبلة في افتتاح الصلاة
و
عن حماد بن عثمان قال سألت أبا عبد الله (ع) ما النحر فرفع يده إلى صدره فقال هكذا ثم رفعها فوق ذلك فقال هكذا يعني استقبل بيديه القبلة في استفتاح الصلاة
و
روي عن مقاتل بن حيان عن الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين (ع) قال لما نزلت هذه السورة قال النبي ص لجبريل (ع) ما هذه النحيرة التي أمرني بها ربي قال ليست بنحيرة و لكنه يأمرك إذا تحرمت للصلاة أن ترفع يديك إذا كبرت و إذا ركعت و إذا رفعت رأسك من الركوع و إذا سجدت فإنه صلاتنا و صلاة الملائكة في السماوات السبع فإن لكل شي‏ء زينة و إن زينة الصلاة رفع الأيدي عند كل تكبيرة
قال النبي ص رفع الأيدي من الاستكانة قلت و ما الاستكانة قال أ لا تقرأ هذه الآية «فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَ ما يَتَضَرَّعُونَ» أورده الثعلبي و الواحدي في تفسيرهما
 «إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ» معناه إن مبغضك هو المنقطع عن الخير و هو العاص بن وائل و قيل معناه أنه الأقل الأذل بانقطاعه عن كل خير عن قتادة و قيل معناه أنه لا ولد له على الحقيقة و أن من ينسب إليه ليس بولد له‏

837
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 836

قال مجاهد الأبتر الذي لا عقب له و هو جواب لقول قريش إن محمدا ص لا عقب له يموت فنستريح منه و يدرس دينه إذ لا يقوم مقامه من يدعو إليه فينقطع أمره و في هذه السورة دلالات على صدق نبينا ص و صحة نبوته (أحدها) أنه أخبر عما في نفوس أعدائه و ما جرى على ألسنتهم و لم يكن بلغه ذلك فكان على ما أخبر (و ثانيها) أنه قال «أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ» فانظر كيف انتشر دينه و علا أمره و كثرت ذريته حتى صار نسبه أكثر من كل نسب و لم يكن شي‏ء من ذلك في تلك الحال (و ثالثها) أن جميع فصحاء العرب و العجم قد عجزوا عن الإتيان بمثل هذه السورة على وجازة ألفاظها مع تحديه إياهم بذلك و حرصهم على بطلان أمره منذ بعث النبي ص إلى يومنا هذا و هذا غاية الإعجاز (و رابعها) أنه سبحانه وعده بالنصر على أعدائه و أخبره بسقوط أمرهم و انقطاع دينهم أو عقبهم فكان المخبر على ما أخبر به هذا و في هذه السورة الموجزة من تشاكل المقاطع للفواصل و سهولة مخارج الحروف بحسن التأليف و التقابل لكل من معانيها بما هو أولى به ما لا يخفى على من عرف مجاري كلام العرب.

838
مجمع البيان في تفسير القرآن10

سورة الكافرون مكية و آياتها ست ص 839

(109) سورة الكافرون مكية و آياتها ست (6)
[توضيح‏]
مكية و عن ابن عباس و قتادة مدنية و هي ست آيات بالإجماع.
فضلها
في‏
حديث أبي و من قرأ يا أيها الكافرون فكأنما قرأ ربع القرآن و تباعدت عنه مردة الشياطين و بري من الشرك و يعافى من الفزع الأكبر.
و
عن جبير بن مطعم قال قال لي رسول الله ص أ تحب يا جبير أن تكون إذا خرجت سفرا من أمثل أصحابك هيئة و أكثرهم زادا قلت نعم بأبي أنت و أمي يا رسول الله قال فاقرأ هذه السور الخمس قل يا أيها الكافرون و إذا جاء نصر الله و الفتح و قل هو الله أحد و قل أعوذ برب الفلق و قل أعوذ برب الناس و افتتح قراءتك ببسم الله الرحمن الرحيم قال جبير و كنت غير كثير المال و كنت أخرج مع من شاء الله أن أخرج فأكون أكثرهم همة و أمثلهم زادا حتى أرجع من سفري ذلك‏
و عن‏
فروة بن نوفل الأشجعي عن أبيه أنه أتى النبي ص فقال جئت يا رسول الله لتعلمني شيئا أقوله عند منامي قال إذا أخذت مضجعك فاقرأ قل يا أيها الكافرون ثم نم على خاتمتها فإنها براءة من الشرك.
شعيب الحداد عن أبي عبد الله (ع) قال كان أبي يقول قل يا أيها الكافرون ربع القرآن و كان إذا فرغ منها قال أعبد الله وحده أعبد الله وحده.
و
عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله (ع) قال إذا قلت «لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ» فقل و لكني أعبد الله مخلصا له ديني فإذا فرغت منها فقل ديني الإسلام ثلاث مرات.
و
عن الحسين بن أبي العلاء قال من قرأ قل يا أيها الكافرون و قل هو الله أحد في فريضة من الفرائض غفر الله له و لوالديه و ما ولدا و إن كان شقيا محي من ديوان الأشقياء و كتب في ديوان السعداء و أحياه الله سعيد و أماته شهيدا و بعثه شهيدا.
تفسيرها
ذكر سبحانه في تلك السورة أن أعداءه عابوه بأنه أبتر فرد ذلك عليهم و ذكر في هذه السورة أنهم سألوه المداهنة فأمره بالبراءة منهم فقال:

839
مجمع البيان في تفسير القرآن10

سورة الكافرون الآيات 1 الى 6 ص 840

[سورة الكافرون (109): الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏
قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (1) لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (2) وَ لا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (3) وَ لا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ (4)
وَ لا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَ لِيَ دِينِ (6)

القراءة
قرأ نافع و ابن كثير و حفص عن عاصم «لِيَ دِينِ» بفتح الياء و الباقون بسكون الياء.
الحجة
إسكان الياء من و لي و فتحها جميعا حسنان سائغان.
الإعراب‏
 «وَ لا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ» كان الوجه من أعبد و لكنه جاء بما ليطابق ما قبله و ما بعده و قيل إن ما هاهنا بمعنى من و العائد من الصلة إلى الموصول في الجميع محذوف و التقدير ما تعبدونه و ما أعبده و ما عبدتموه.
النزول‏
نزلت السورة في نفر من قريش منهم الحارث بن قيس السهمي و العاص ابن أبي وائل و الوليد بن المغيرة و الأسود بن عبد يغوث الزهري و الأسود بن المطلب بن أسد و أمية بن خلف قالوا هلم يا محمد فاتبع ديننا نتبع دينك و نشركك في أمرنا كله تعبد آلهتنا سنة و نعبد إلهك سنة فإن كان الذي جئت به خيرا مما بأيدينا كنا قد شركناك فيه و أخذنا بحظنا منه و إن كان الذي بأيدينا خيرا مما في يديك كنت قد شركتنا في أمرنا و أخذت بحظك منه فقال ص معاذ الله أن أشرك به غيره قالوا فاستلم بعض الهتنا نصدقك و نعبد إلهك فقال حتى أنظر ما يأتي من عند ربي فنزل قل يا أيها الكافرون السورة فعدل رسول الله ص إلى المسجد الحرام و فيه الملأ من قريش فقام على رءوسهم ثم قرأ عليهم حتى فرغ من السورة فأيسوا عند ذلك فآذوه و آذوا أصحابه قال ابن عباس و فيهم نزل قوله قُلْ أَ فَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ.
المعنى‏
خاطب سبحانه النبي ص فقال «قُلْ» يا محمد «يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ» يريد قوما معينين لأن الألف و اللام للعهد «لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ» أي لا أعبد آلهتكم التي تعبدونها اليوم و في هذه الحال «وَ لا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ» أي إلهي الذي أعبده اليوم و في هذه الحال أيضا

840
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 840

 «وَ لا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ» فيما بعد اليوم «وَ لا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ» فيما بعد اليوم من الأوقات المستقبلة عن ابن عباس و مقاتل قال الزجاج: نفى رسول الله ص بهذه السورة عبادة آلهتهم عن نفسه في الحال و فيما يستقبل و نفي عنهم عبادة الله في الحال و فيما يستقبل و هذا في قوم أعلمه الله سبحانه أنهم لا يؤمنون كقوله سبحانه في قصة نوح (ع) أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ و قيل أيضا في وجه التكرار إن القرآن نزل بلغة العرب و من عادتهم تكرير الكلام للتأكيد و الأفهام فيقول المجيب بلى بلى و يقول الممتنع لا لا عن الفراء قال و مثله قوله تعالى كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ و أنشد:
         و كائن و كم عندي لهم من صنيعة             أيادي ثنوها علي و أوجبوا
و أنشد:
         كم نعمة كانت لكم             كم كم كم كم كم و كم‏
و قال آخر:
         نعق الغراب ببين ليلي غدوة             كم كم و كم بفراق ليلى ينعق‏
و قال آخر:
         " هلا سألت جموع كندة يوم و لو أين أينا"
و قال آخر:
         أردت لنفسي بعض الأمور             فأولى لنفسي أولى لها
و قال و هذا أولى المواضع بالتأكيد لأن الكافرين أبدوا في ذلك و أعادوا فكرر سبحانه ليؤكد أيأسهم و حسم أطماعهم بالتكرير و قيل أيضا في ذلك أن المعنى لا أعبد الأصنام التي تعبدونها و لا أنتم عابدون الله الذي أنا عابده إذا أشركتم به و اتخذتم الأصنام و غيرها تعبدونها من دونه و إنما يعبد الله من أخلص العبادة له «وَ لا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ» أي لا أعبد عبادتكم فيكون ما مصدرية «وَ لا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ» أي و ما تعبدون عبادتي على نحو ما ذكرناه فأراد في الأول المعبود و في الثاني العبادة فإن قيل أما اختلاف المعبودين فمعلوم فما معنى اختلاف العبادة (قلنا) إنه يعبد الله على وجه الإخلاص و هم يشركون به في عبادته فاختلفت العبادتان و لأنه كان يتقرب إلى عبادته إلى معبوده بالأفعال المشروعة الواقعة على وجه العبادة و هم لا يفعلون‏

841
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 840

ذلك و إنما يتقربون إليه بأفعال يعتقدونها قربة جهلا من غير شرع «لَكُمْ دِينُكُمْ وَ لِيَ دِينِ» ذكر فيه وجوه (أحدها) أن معناه لكم جزاء دينكم و لي جزاء ديني فحذف المضاف و أقام المضاف إليه مقامه (و ثانيها) أن المعنى لكم كفركم بالله و لي دين التوحيد و الإخلاص و هذا و إن كان ظاهره إباحة فإنه وعيد و تهديد و مبالغة في النهي و الزجر كقوله اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ (و ثالثها) أن الدين الجزاء و معناه لكم جزاؤكم و لي جزائي قال الشاعر:
         إذا ما لقونا لقيناهم             و دناهم مثل ما يقرضونا
و قد تضمنت السورة معجزة لنبينا ص من جهة الإخبار بما يكون في الأوقات المستقبلة مما لا سبيل إلى علمه إلا بوحي من قبل الله سبحانه العالم بالغيوب فكان ما أخبر به كما أخبر و فيها دلالة على ذم المداهنة في الدين و وجوب مخالفة الكفار و المبطلين و البراءة منهم و
روى داود بن الحصين عن أبي عبد الله (ع) قال إذا قرأت «قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ» فقل أيها الكافرون و إذا قلت «لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ» فقل أعبد الله وحده و إذا قلت «لَكُمْ دِينُكُمْ وَ لِيَ دِينِ» فقل ربي الله و ديني الإسلام.

842
مجمع البيان في تفسير القرآن10

سورة النصر مدنية و آياتها ثلاث ص 843

(110) سورة النصر مدنية و آياتها ثلاث (3)
[توضيح‏]
مدنية و هي ثلاث آيات بالإجماع.
فضلها
في حديث أبي من قرأها فكأنما شهد مع رسول الله ص فتح مكة
و
روى كرام الخثعمي عن أبي عبد الله (ع) قال من قرأ إذا جاء نصر الله و الفتح في نافلة أو فريضة نصره الله على جميع أعدائه و جاء يوم القيامة و معه كتاب ينطق قد أخرجه الله من جوف قبره فيه أمان من حر جهنم و من النار و من زفير جهنم يسمعه بأذنيه فلا تمر على شي‏ء يوم القيامة إلا بشره و أخبره بكل خير حتى يدخل الجنة.
تفسيرها
ختم الله سبحانه تلك السورة بذكر الدين و افتتح هذه السورة بظهور الدين فقال:
[سورة النصر (110): الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏
إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَ الْفَتْحُ (1) وَ رَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَ اسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً (3)

الإعراب‏
مفعول جاء محذوف و التقدير إذا جاءك نصر الله و جواب إذا محذوف و التقدير إذا جاء نصر الله حضر أجلك و قيل جوابه الفاء في قوله فسبح و أفواجا منصوب على الحال.

843
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 844

المعنى‏
 «إِذا جاءَ» يا محمد «نَصْرُ اللَّهِ» على من عاداك و هم قريش «وَ الْفَتْحُ» فتح مكة و هذه بشارة من الله سبحانه لنبيه ص بالنصر و الفتح قبل وقوع الأمر «وَ رَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً» أي جماعة بعد جماعة و زمرة بعد زمرة و المراد بالدين الإسلام و التزام أحكامه و اعتقاد صحته و توطين النفس على العمل به قال الحسن: لما فتح رسول الله ص مكة قالت العرب أما إذا ظفر محمد ص بأهل الحرم و قد أجارهم الله من أصحاب الفيل فليس لكم به يدان أي طاقة فكانوا يدخلون في دين الله أفواجا أي جماعات كثيرة بعد أن كانوا يدخلون فيه واحدا واحدا أو اثنين فصارت القبيلة تدخل بأسرها في الإسلام و قيل في دين الله أي في طاعة الله و طاعتك و أصل الدين الجزاء ثم يعبر به عن الطاعة التي يستحق بها الجزاء كما قال سبحانه فِي دِينِ الْمَلِكِ أي في طاعته «فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَ اسْتَغْفِرْهُ» هذا أمر من الله سبحانه بأن ينزه عمالا يليق به من صفات النقص و أن يستغفره و وجه وجوب ذلك بالنصر و الفتح أن النعمة تقتضي القيام بحقها و هو شكر المنعم و تعظيمه و الائتمار بأوامره و الانتهاء عن معاصيه فكأنه قال قد حدث أمر يقتضي الشكر و الاستغفار و إن لم يكن ثم ذنب فإن الاستغفار قد يكون عند ذكر المعصية بما ينافي الإصرار و قد يكون على وجه التسبيح و الانقطاع إلى الله عز و جل «إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً» يقبل توبة من بقي كما قبل توبة من مضى‏
قال مقاتل لما نزلت هذه السورة قرأها ص على أصحابه ففرحوا و استبشروا و سمعها العباس فبكى فقال ص: ما يبكيك يا عم فقال أظن أنه قد نعيت إليك نفسك يا رسول الله فقال: إنه لكما تقول فعاش بعدها سنتين ما رؤي فيهما ضاحكا مستبشرا
قال و هذه السورة تسمى سورة التوديع و قال ابن عباس: لما نزلت إذا جاء نصر الله قال: نعيت إلي نفسي بأنها مقبوضة في هذه السنة و اختلف في أنهم من أي وجه علموا ذلك و ليس في ظاهره نعي فقيل لأن التقدير فسبح بحمد ربك فإنك حينئذ لاحق بالله و ذائق الموت كما ذاق من قبلك من الرسل و عند الكمال يرقب الزوال كما قيل‏
         إذا تم أمر بدا نقصه             توقع زوالا إذا قيل تم‏
و قيل لأنه سبحانه أمره بتجديد التوحيد و استدراك الفائت بالاستغفار و ذلك مما يلزم عند الانتقال من هذه الدار إلى دار الأبرار و
عن عبد الله مسعود قال: لما نزلت السورة كان النبي ص يقول كثيرا سبحانك اللهم و بحمدك اللهم اغفر لي إنك أنت التواب الرحيم‏
و
عن أم سلمة قالت: كان رسول الله ص بالآخرة لا يقوم و لا يقعد و لا يجي‏ء و لا يذهب إلا قال سبحان الله و بحمده أستغفر الله و أتوب إليه فسألناه عن ذلك فقال ص إني أمرت بها ثم قرأ إذا

844
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 844

جاء نصر الله و الفتح‏
و
في رواية عائشة: أنه كان يقول سبحانك اللهم و بحمدك أستغفرك و أتوب إليك.
[حديث فتح مكة]
لما صالح رسول الله ص قريشا عام الحديبية كان في أشراطهم أنه من أحب أن يدخل في عهد رسول الله ص أدخل فيه فدخلت خزاعة في عقد رسول الله ص و دخلت بنو بكر في عقد قريش و كان بين القبيلتين شر قديم ثم وقعت فيما بعد بين بني بكر و خزاعة مقاتلة و رفدت قريش بني بكر بالسلاح و قاتل معهم من قريش من قاتل بالليل مستخفيا و كان ممن أعان بني بكر على خزاعة بنفسه عكرمة بن أبي جهل و سهيل بن عمرو فركب عمرو بن سالم الخزاعي حتى قدم على رسول الله ص المدينة و كان ذلك مما هاج فتح مكة فوقف عليه و هو في المسجد بين ظهراني القوم فقال:
         لا هم إني ناشد محمدا             حلف أبينا و أبيه الأتلدا
         إن قريشا أخلفوك الموعدا             و نقضوا ميثاقك المؤكدا
         و قتلونا ركعا و سجدا
فقال رسول الله: حسبك يا عمرو ثم قام فدخل دار ميمونة و قال: اسكبي لي ماء فجعل يغتسل و هو يقول لا نصرت أن لم أنصر بني كعب و هم رهط عمرو بن سالم ثم خرج بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من خزاعة حتى قدموا على رسول الله ص فأخبروه بما أصيب منهم و مظاهرة قريش بني بكر عليهم ثم انصرفوا راجعين إلى مكة و قد كان ص قال للناس كأنكم بأبي سفيان قد جاء ليشدد العقد و يزيد في المدة و سيلقى بديل بن ورقاء فلقوا أبا سفيان بعسفان و قد بعثته قريش إلى النبي ص ليشدد العقد فلما لقي أبو سفيان بديلا قال: من أين أقبلت يا بديل قال: سرت في هذا الساحل و في بطن هذا الوادي قال: ما أتيت محمدا قال: لا فلما راح بديل إلى مكة قال أبو سفيان: لئن كان جاء من المدينة لقد علف بها النوى فعمد إلى مبرك ناقته و أخذ من بعرها ففته فرأى فيه النوى فقال أحلف بالله تعالى لقد جاء بديل محمدا ثم خرج أبو سفيان حتى قدم على رسول الله ص فقال: يا محمد احقن دم قومك و أجر بين قريش و زدنا في المدة فقال ص: أ غدرتم يا أبا سفيان قال: لا قال ص: فنحن على ما كنا عليه فخرج فلقي أبا بكر فقال: أجر بين قريش قال: ويحك واحد يجير على رسول الله ص ثم لقي‏

845
مجمع البيان في تفسير القرآن10

حديث فتح مكة ص 845

عمر بن الخطاب فقال له مثل ذلك ثم خرج فدخل على أم حبيبة فذهب ليجلس على الفراش فأهوت إلى الفراش فطوته فقال: يا بنية أ رغب بهذا الفراش عني فقالت نعم هذا فراش رسول الله ص ما كنت لتجلس عليه و أنت رجس مشرك ثم خرج فدخل على فاطمة (ع) فقال: يا بنت سيد العرب تجيرين بين قريش و تزيدين في المدة فتكونين أكرم سيدة في الناس فقالت: جواري جوار رسول الله ص قال: أ تأمرين ابنيك أن يجيرا بين الناس قالت: و الله ما بلغ ابناي أن يجيرا بين الناس و ما يجير على رسول الله ص أحد فقال: يا أبا الحسن إني أرى الأمور قد اشتدت علي فانصحني فقال علي (ع): إنك شيخ قريش فقم على باب المسجد و أجر بين قريش ثم الحق بأرضك قال و ترى ذلك مغنيا عني شيئا قال: لا و الله ما أظن ذلك و لكن لا أجد لك غير ذلك فقام أبو سفيان في المسجد فقال يا أيها الناس إني قد أجرت بين قريش ثم ركب بعيره فانطلق فلما قدم على قريش قالوا ما وراك فأخبرهم بالقصة فقالوا: و الله إن زاد علي بن أبي طالب على أن لعب بك فما يغني عنا ما قلت قال: لا و الله ما وجدت غير ذلك قال: فأمر رسول الله ص بالجهاز لحرب مكة و أمر الناس بالتهيئة و قال: اللهم خذ العيون و الأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها و كتب حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش فأتى رسول الله ص الخبر من السماء فبعث عليا (ع) و الزبير حتى أخذ كتابه من المرأة و قد مضت هذه القصة في سورة الممتحنة ثم استخلف رسول الله ص أبا ذر الغفاري و خرج عامدا إلى مكة لعشر مضين من شهر رمضان سنة ثمان في عشرة آلاف من المسلمين و نحو من أربعمائة فارس و لم يتخلف من المهاجرين و الأنصار عنه أحد و قد كان أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب و عبد الله بن أمية بن المغيرة قد لقيا رسول الله ص بنيق العقاب فيما بين مكة و المدينة فالتمسا الدخول عليه فلم يأذن لهما فكلمته أم سلمة فيهما فقالت: يا رسول الله ابن عمك و ابن عمتك و صهرك قال: لا حاجة لي فيهما أما ابن عمي فهتك عرضي و أما ابن عمتي و صهري فهو الذي قال لي بمكة ما قال فلما خرج الخبر إليهما بذلك و مع أبي سفيان بني له فقال: و الله ليأذنن لي أو لآخذن بيد بني هذا ثم لنذهبن في الأرض حتى نموت عطشا و جوعا فلما بلغ ذلك رسول الله ص رق لهما فأذن لهما فدخلا عليه فأسلما فلما نزل رسول الله مر الظهران و قد غمت الأخبار عن قريش فلا يأتيهم عن رسول الله ص خبر خرج في تلك الليلة أبو سفيان بن حرب و حكيم بن حزام و بديل بن ورقاء يتجسسون الأخبار و قد قال العباس ليلتئذ يا سوء صباح قريش و الله لئن بغتها رسول الله في بلادها فدخل مكة عنوة أنه لهلاك‏

846
مجمع البيان في تفسير القرآن10

حديث فتح مكة ص 845

قريش إلى آخر الدهر فخرج على بغلة رسول الله و قال أخرج إلى الأراك لعلي أرى حطابا أو صاحب لبن أو داخلا يدخل مكة فنخبرهم بمكان رسول الله فيأتونه فيستأمنونه قال العباس:
فو الله إني لأطوف في الأراك ألتمس ما خرجت له إذ سمعت صوت أبي سفيان و حكيم بن حزام و بديل بن ورقاء و سمعت أبا سفيان يقول: و الله ما رأيت كالليلة قط نيرانا فقال بديل: هذه نيران خزاعة فقال أبو سفيان: خزاعة الأم من ذلك قال فعرفت صوته فقلت يا أبا حنظلة يعني أبا سفيان فقال أبو الفضل فقلت نعم قال لبيك فداك أبي و أمي ما وراك فقلت هذا رسول الله وراءك قد جاء بما لا قبل لكم به بعشرة آلاف من المسلمين قال فما تأمرني فقلت تركب عجز هذه البغلة فاستأمن لك رسول الله ص فو الله لئن ظفر بك ليضربن عنقك فردفني فخرجت أركض به بغلة رسول الله فكلما مررت بنار من نيران المسلمين قالوا هذا عم رسول الله ص على بغلة رسول الله حتى مررت بنار عمر بن الخطاب فقال يعني عمر يا أبا سفيان الحمد لله الذي أمكن منك بغير عهد و لا عقد ثم اشتد نحو رسول الله ص و ركضت البغلة حتى اقتحمت باب القبة و سبقت عمر بما يسبق به الدابة البطيئة الرجل البطي‏ء فدخل عمر فقال يا رسول الله هذا أبو سفيان عدو الله قد أمكن الله منه بغير عهد و لا عقد فدعني أضرب عنقه فقلت يا رسول الله إني قد أجرته ثم إني جلست إلى رسول الله ص و أخذت برأسه و قلت و الله لا يناجيه اليوم أحد دوني فلما أكثر فيه عمر قلت مهلا يا عمر فو الله ما يصنع هذا الرجل إلا أنه رجل من آل بني عبد مناف و لو كان من عدي بن كعب ما قلت هذا قال مهلا يا عباس فو الله لإسلامك يوم أسلمت كان أحب إلي من إسلام الخطاب لو أسلم فقال ص اذهب فقد أمناه حتى تغدو به علي في الغداة قال: فلما أصبح غدوت به على رسول الله ص فلما رآه قال ويحك يا أبا سفيان أ لم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله فقال بأبي أنت و أمي ما أوصلك و أكرمك و أرحمك و أحلمك و الله لقد ظننت أن لو كان معه إله لأغنى يوم بدر و يوم أحد فقال ويحك يا أبا سفيان أ لم يأن لك أن تعلم أني رسول الله فقال بأبي أنت و أمي أما هذه فإن في النفس منها شيئا قال العباس فقلت له ويحك اشهد بشهادة الحق قبل أن يضرب عنقك فتشهد فقال ص للعباس انصرف يا عباس فاحبسه عند مضيق الوادي حتى تمر عليه جنود الله قال: فحبسته عند خطم الجبل بمضيق الوادي و مر عليه القبائل قبيلة قبيلة و هو يقول من هؤلاء و أقول أسلم و جهينة و فلان حتى مر رسول الله ص في الكتيبة الخضراء من المهاجرين و الأنصار في الحديد لا يرى منهم إلا الحدق فقال من هؤلاء يا أبا الفضل قلت هذا رسول الله ص في المهاجرين و الأنصار فقال يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيما فقلت ويحك إنها النبوة فقال نعم إذا و جاء حكيم بن حزام و بديل بن ورقاء رسول الله ص و أسلما

847
مجمع البيان في تفسير القرآن10

حديث فتح مكة ص 845

و بايعاه فلما بايعاه بعثهما رسول الله ص بين يديه إلى قريش يدعوانهم إلى الإسلام و قال من دخل دار أبي سفيان و هي بأعلى مكة فهو آمن و من دخل دار حكيم و هي بأسفل مكة فهو آمن و من أغلق بابه و كف يده فهو آمن و لما خرج أبو سفيان و حكيم من عند رسول الله ص عامدين إلى مكة بعث في إثرهما الزبير بن العوام و أمره على خيل المهاجرين و أمره أن يغرز رايته بأعلى مكة بالحجون و قال له لا تبرح حتى آتيك ثم دخل رسول الله ص مكة و ضربت هناك خيمته و بعث سعد بن عبادة في كتيبة الأنصار في مقدمته و بعث خالد بن الوليد فيمن كان أسلم من قضائه و بني سليم و أمره أن يدخل أسفل مكة و يغرز رايته دون البيوت و أمرهم رسول الله ص جميعا أن يكفوا أيديهم و لا يقاتلوا إلا من قاتلهم و أمرهم بقتل أربعة نفر عبد الله بن سعد بن أبي سرح و الحويرث بن نفيل و ابن خطل و مقبس بن ضبابة و أمرهم بقتل قينتين كانتا تغنيان بهجاء رسول الله ص و قال اقتلوهم و إن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة فقتل علي (ع) الحويرث بن نفيل و إحدى القينتين و أفلتت الأخرى و قتل مقبس بن ضبابة في السوق و أدرك ابن خطل و هو متعلق بأستار الكعبة فاستبق إليه سعيد بن حريث و عمار بن ياسر فسبق سعيد عمارا فقتله قال و سعى أبو سفيان إلى رسول الله ص و أخذ غرزه أي ركابه فقبله ثم قال بأبي أنت و أمي أ ما تسمع ما يقول سعد إنه يقول‏
         اليوم يوم الملحمة             اليوم تسبى الحرمة
فقال ص لعلي (ع) أدركه فخذ الراية منه و كن أنت الذي يدخل بها و أدخلها إدخالا رفيقا فأخذها علي (ع) و أدخلها كما أمر و لما دخل رسول الله ص مكة دخل صناديد قريش الكعبة و هم يظنون أن السيف لا يرفع عنهم و أتى رسول الله و وقف قائما على باب الكعبة فقال: لا إله إلا الله وحده وحده أنجز وعده و نصر عبده و هزم الأحزاب وحده ألا أن كل مال أو مأثرة و دم تدعى فهو تحت قدمي هاتين إلا سدانة الكعبة و سقاية الحاج فإنهما مردودتان إلى أهليهما ألا أن مكة محرمة بتحريم الله لم تحل لأحد كان قبلي و لم تحل لي إلا ساعة من نهار و هي محرمة إلى أن تقوم الساعة لا يختلى خلاها و لا يقطع شجرها و لا يفر صيدها و لا تحل لقطتها إلا لمنشد ثم قال ألا لبئس جيران النبي كنتم لقد كذبتم و طردتم و أخرجتم و آذيتم ثم ما رضيتم حتى جئتموني في بلادي تقاتلونني فاذهبوا فأنتم الطلقاء فخرج القوم فكأنما أنشروا من القبور و دخلوا في الإسلام و كان الله سبحانه أمكنه من رقابهم عنوة فكانوا له فيئا فلذلك سمي أهل مكة الطلقاء و جاء ابن الزبعري إلى رسول الله ص و أسلم و قال:
         يا رسول الإله إن لساني             راتق ما فتقت إذ أنا بور

 

848
مجمع البيان في تفسير القرآن10

حديث فتح مكة ص 845

         إذ أباري الشيطان في سنن الغي             و من مال ميلة مثبور
         أمن اللحم و العظام لربي             ثم نفسي الشهيد أنت النذير
و عن ابن مسعود قال: دخل النبي ص يوم الفتح و حول البيت ثلاثمائة و ستون صنما فجعل يطعنها بعود في يده و يقول جاء الحق و ما يبدئ الباطل و ما يعيد جاء الحق و زهق الباطل إن الباطل كان زهوقا و عن ابن عباس قال: لما قدم النبي ص إلى مكة أبى أن يدخل البيت و فيه الآلهة فأمر بها فأخرجت صورة إبراهيم و إسماعيل (ع) و في أيديهما الأزلام فقال ص: قاتلهم الله أما و الله لقد علموا أنهما لم يستقسما بها قط.

849
مجمع البيان في تفسير القرآن10

سورة المسد مكية و آياتها خمس ص 850

(111) سورة المسد مكية و آياتها خمس (5)
[توضيح‏]
و تسمى أيضا سورة أبي لهب و تسمى سورة المسد مكية.
عدد آيها
خمس آيات بالإجماع.
فضلها
في حديث أبي من قرأها رجوت أن لا يجمع الله بينه و بين أبي لهب في دار واحدة
عن أبي عبد الله (ع) قال إذا قرأتم تبت فادعوا على أبي لهب فإنه كان من المكذبين بالنبي ص و بما جاء به من عند الله.
تفسيرها
ذكر سبحانه في تلك السورة وعده بالنصر و الفتح ثم بين في هذه السورة ما كفاه الله من أمر أبي لهب فقال:
[سورة المسد (111): الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏
تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَ تَبَّ (1) ما أَغْنى‏ عَنْهُ مالُهُ وَ ما كَسَبَ (2) سَيَصْلى‏ ناراً ذاتَ لَهَبٍ (3) وَ امْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4)
فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)

القراءة
قرأ ابن كثير أبي لهب ساكنة الهاء و الباقون بفتحها و اتفقوا في «ذاتَ لَهَبٍ» أنها مفتوحة الهاء لو فاق الفواصل و قرأ عاصم «حَمَّالَةَ الْحَطَبِ» بالنصب و الباقون بالرفع و روي‏

850
مجمع البيان في تفسير القرآن10

القراءة ص 850

عن البرجمي سيصلى بضم الياء و هي قراءة أشهب العقيلي و أبي رجاء و في الشواذ قراءة ابن مسعود و مريئته حمالة للحطب في جيدها حبل من مسد.
الحجة
قال أبو علي يشبه أن يكون لهب و لهب لغتين كالشمع و الشمع و النهر و النهر و اتفاقهم في الثانية على الفتح يدل على أنه أوجه من الإسكان و كذلك قوله وَ لا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ و أما حمالة الحطب فمن رفع جعله وصفا لقوله «وَ امْرَأَتُهُ» و يدل على أن الفعل قد وقع كقولك مررت برجل ضارب عمرا أمس فهذا لا يكون إلا معرفة و لا يقدر فيه إلا الانفصال كما يقدر في هذا النحو إذا لم يكن الفعل واقعا و أما ارتفاع امرأته فيحتمل وجهين (أحدهما) العطف على فاعل سيصلى التقدير سيصلى نارا هو و امرأته إلا أن الأحسن أن لا يؤكد لما جرى من الفصل بينهما و يكون «حَمَّالَةَ الْحَطَبِ» على هذا وصفا لها و يجوز في قوله «فِي جِيدِها» أن يكون في موضع حال و فيها ذكر منها و يتعلق بمحذوف و يجوز فيه وجه آخر و هو أن يرتفع امرأته بالابتداء و حمالة وصف لها و في جيدها خبر المبتدأ و أما النصب في «حَمَّالَةَ الْحَطَبِ» فعلى الذم لها كأنها كانت اشتهرت بذلك فجرت الصفة عليها للذم لا للتخصيص و التخليص من موصوف غيرها و قوله «حَبْلٌ» معناه غليظ. رجل حبل الوجه و حبل الرأس.
اللغة
التب و التباب الخسران المؤدي إلى الهلاك و المسد الحبل من الليف و جمعه أمساد قال:
         و مسد أمر من أيانق             ليس بأنياب و لا حقائق‏
النزول‏
سعيد بن جبير عن ابن عباس قال صعد رسول الله ص ذات يوم الصفا فقال يا صباحاه فأقبلت إليه قريش فقالوا له ما لك فقال أ رأيتم لو أخبرتكم أن العدو مصبحكم أو ممسيكم أ ما كنتم تصدقوني قالوا بلى قال فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد فقال أبو لهب تبا لك لهذا دعوتنا جميعا فأنزل الله هذه السورة أورده البخاري في الصحيح.
المعنى‏
 «تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَ تَبَّ» أي خسرت يداه و خسر هو عن مقاتل و إنما قال خسرت يداه لأن أكثر العمل يكون باليد و المراد خسر عمله و خسرت نفسه بالوقوع في النار و قيل أن اليد هنا صلة كقولهم يد الدهر و يد السنة قال:
         " و أيدي الرزايا بالذخائر مولع"
و قيل معناه صفرت يداه من كل خير قال الفراء: الأول دعاء و الثاني خبر فكأنه قال أهلكه الله‏

851
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 851

و قد هلك و في حرف عبد الله و أبي و قد تب و قيل أن الأول أيضا خبر و معناه أنه لم تكتسب يداه خيرا قط و خسر مع ذلك هو نفسه أي تب على كل حال و أبو لهب هو ابن عبد المطلب عم النبي ص و كان شديد المعاداة و المناصبة له‏
قال طارق المحاربي: بينا أنا بسوق ذي المجاز إذا أنا بشاب يقول أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا و إذا برجل خلفه يرميه قد أدمى ساقيه و عرقوبيه و يقول يا أيها الناس أنه كذاب فلا تصدقوه فقلت من هذا فقالوا هو محمد يزعم أنه نبي و هذا عمه أبو لهب يزعم أنه كذاب‏
و إنما ذكر سبحانه كنيته دون اسمه لأنها كانت أغلب عليه و قيل لأن اسمه عبد العزى فكره الله سبحانه أن ينسبه إلى العزى و أنه ليس بعبد لها و إنما هو عبد الله و قيل بل اسمه كنيته و إنما سمي بذلك لحسنه و إشراق وجهه و كانت وجنتاه كأنهما تلتهبان عن مقاتل «ما أَغْنى‏ عَنْهُ مالُهُ وَ ما كَسَبَ» أي ما نفعه و لا دفع عنه عذاب الله ماله و ما كسبه و يكون ما في قوله «وَ ما كَسَبَ» موصولة و الضمير العائد من الصلة محذوف و قيل معناه أي شي‏ء أغنى عنه ماله و ما كسب يعني ولده لأن ولد الرجل من كسبه و ذلك أنه قال لما أنذره النبي ص بالنار إن كان ما تقول حقا فإني أفتدي بمالي و ولدي ثم أنذره سبحانه بالنار فقال «سَيَصْلى‏ ناراً ذاتَ لَهَبٍ» أي سيدخل نارا ذات قوة و اشتعال تلتهب عليه و هي نار جهنم و في هذا دلالة على صدق النبي ص و صحة نبوته لأنه أخبر أن أبا لهب يموت على كفره و كان كما قال «وَ امْرَأَتُهُ» و هي أم جميل بنت حرب أخت أبي سفيان «حَمَّالَةَ الْحَطَبِ» كانت تحمل الشوك و العضاة فتطرحه في طريق رسول الله ص إذا خرج إلى الصلاة ليعقره عن ابن عباس و في رواية الضحاك قال الربيع بن أنس كانت تبث و تنشر الشوك على طريق الرسول فيطأه كما يطأ أحدكم الحرير و قيل أنها كانت تمشي بالنميمة بين الناس فتلقي بينهم العداوة و توقد نارها بالتهييج كما توقد النار الحطب فسمى النميمة حطبا عن ابن عباس في رواية أخرى و قتادة و مجاهد و عكرمة و السدي قالت العرب فلان يحطب على فلان إذا كان يغري به قال‏
         " و لم يمش بين الحي بالحطب الرطب"
أي لم يمش بالنميمة و قيل حمالة الحطب معناه حمالة الخطايا عن سعيد بن جبير و أبي مسلم و نظيره قوله وَ هُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى‏ ظُهُورِهِمْ «فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ» أي في عنقها حبل من ليف و إنما وصفها بهذه الصفة تخسيسا لها و تحقيرا و قيل حبل يكون له خشونة الليف و حرارة النار و ثقل الحديد يجعل في عنقها زيادة في عذابها و قيل في عنقها سلسلة من حديد طولها سبعون ذراعا تدخل من فيها و تخرج من دبرها و تدار على عنقها في النار عن ابن عباس و عروة بن الزبير و سميت السلسلة مسدا بمعنى أنها ممسودة أي مفتولة و قيل أنها كانت لها قلادة فاخرة من جوهر فقالت لأنفقنها في عداوة محمد فيكون عذابا يوم القيامة في عنقها عن سعيد بن المسيب و يروى عن أسماء

852
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 851

بنت أبي بكر قالت لما نزلت هذه السورة أقبلت العوراء أم جميل بنت حرب و لها ولولة و في يدها فهر و هي تقول‏
         " مذمما أبينا.             و دينه قلينا
         و أمره عصينا"
و النبي ص جالس في المسجد و معه أبو بكر فلما رآها أبو بكر قال يا رسول الله قد أقبلت و أنا أخاف أن تراك قال رسول الله ص إنها لن تراني و قرأ قرآنا فاعتصم به كما قال وَ إِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَ بَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً فوقفت على أبي بكر و لم تر رسول الله ص فقالت يا أبا بكر أخبرت أن صاحبك هجاني فقال لا و رب البيت ما هجاك فولت و هي تقول" قريش تعلم إني بنت سيدها"
و روي أن النبي ص قال صرف الله سبحانه عني أنهم يذمون مذمما و أنا محمد
و متى قيل كيف يجوز أن لا ترى النبي ص و قد رأت غيره فالجواب يجوز أن يكون الله قد عكس شعاع عينيها أو صلب الهواء فلم ينفذ فيه الشعاع أو فرق الشعاع فلم يتصل بالنبي ص‏
و روي أن النبي ص قال ما زال ملك يسترني عنها
و إذا قيل هل كان يلزم أبا لهب الإيمان بعد هذه السورة و هل كان يقدر على الإيمان و لو آمن لكان فيه تكذيب خبر الله سبحانه بأنه سيصلى نارا ذات لهب فالجواب أن الإيمان يلزمه لأن تكليف الإيمان ثابت عليه و إنما توعده الله بشرط أن لا يؤمن أ لا ترى إلى قوله سبحانه في قصة فرعون «آلْآنَ وَ قَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ» و في هذا دلالة على أنه لو تاب قبل وقت اليأس لكان يقبل منه و لهذا خص رد التوبة عليه بذلك الوقت و أيضا فلو قدرنا أن أبا لهب سأل النبي ص قال لو آمنت هل أدخل النار لكان ص يقول له لا و ذلك لعدم الشرط.

853
مجمع البيان في تفسير القرآن10

سورة الإخلاص مكية و آياتها أربع ص 854

(112) سورة الإخلاص مكية و آياتها أربع (4)
[توضيح‏]
مكية و قيل مدنية و سميت سورة التوحيد لأنه ليس فيها إلا التوحيد و كلمة التوحيد تسمى كلمة الإخلاص و قيل إنما سميت بذلك لأن من تمسك بما فيها اعتقادا و إقرارا كان مؤمنا مخلصا و قيل لأن من قرأها على سبيل التعظيم أخلصه الله من النار أي أنجاه منها و تسمى أيضا سورة الصمد و تسمى أيضا بفاتحتها و تسمى أيضا نسبة الرب و
روي في الحديث
لكل شي‏ء نسبة و نسبة الرب سورة الإخلاص‏
و
في الحديث أيضا أنه كان يقول لسورتي قل يا أيها الكافرون و قل هو الله أحد المقشقشتان‏
سميتا بذلك لأنهما يبرئان من الشرك و النفاق يقال تقشقش المريض من علته إذا أفاق و برأ و قشقشه أبرأه كما يقشقش الهناء الجرب.
عدد آيها
خمس آيات مكي شامي أربع في الباقين.
اختلافها
آية «لَمْ يَلِدْ» مكي شامي.
فضلها
في حديث أبي من قرأها فكأنما قرأ ثلث القرآن و أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من آمن بالله و ملائكته و كتبه و رسله و اليوم الآخر
و
عن أبي الدرداء عن النبي ص قال أ يعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة قلت يا رسول الله و من يطيق ذلك قال اقرأوا قل هو الله أحد
و
عن أنس عن النبي ص قال من قرأ قل هو الله أحد مرة بورك عليه فإن قرأها مرتين بورك عليه و على أهله فإن قرأها ثلاث مرات بورك عليه و على أهله و على جميع جيرانه فإن قرأها اثنتي عشرة مرة بني له اثنا عشر قصرا في الجنة فتقول الحفظة انطلقوا بنا ننظر إلى قصر أخينا فإن قرأها مائة مرة كفر عنه ذنوب خمس و عشرين سنة ما خلا الدماء و الأموال فإن قرأها أربعمائة كفر عنه ذنوب أربعمائة سنة فإن قرأها ألف مرة لم يمت حتى‏

854
مجمع البيان في تفسير القرآن10

فضلها ص 854

يرى مكانه من الجنة أو يرى له‏
و
عن سهل بن سعد الساعدي قال جاء رجل إلى النبي ص فشكا إليه الفقر و ضيق المعاش فقال له رسول الله ص إذا دخلت بيتك فسلم إن كان فيه أحد و إن لم يكن فيه أحد فسلم و اقرأ قل هو الله أحد مرة واحدة ففعل الرجل فأفاض الله عليه رزقا حتى أفاض على جيرانه.
السكوني عن أبي عبد الله (ع) أن رسول الله ص صلى على سعد بن معاذ فلما صلى عليه قال ص لقد وافى من الملائكة سبعون ألف ملك و فيهم جبرائيل (ع) يصلون عليه فقلت يا جبرائيل بم استحق صلاتكم عليه قال بقراءة قل هو الله أحد قاعدا و قائما و راكبا و ماشيا و ذاهبا و جائيا.
منصور بن حازم عن أبي عبد الله (ع) قال من مضى به يوم واحد فصلى فيه الخمس صلوات و لم يقرأ فيها بقل هو الله أحد قيل له يا عبد الله لست من المصلين.
إسحاق بن عمار عن أبي عبد الله (ع) قال من مضت عليه جمعة و لم يقرأ فيها بقل هو الله أحد ثم مات مات على دين أبي لهب.
هارون بن خارجة عنه ص قال من أصابه مرض أو شدة فلم يقرأ في مرضه أو شدته بقل هو الله أحد ثم مات في مرضه أو في تلك الشدة التي نزلت به فهو من أهل النار.
أبو بكر الحضرمي عنه ص قال من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر فلا يدع أن يقرأ في دبر الفريضة بقل هو الله أحد فإنه من قرأها جمع له خير الدنيا و الآخرة و غفر الله له و لوالديه و ما ولدا.
عبد الله بن حجر قال سمعت أمير المؤمنين (ع) يقول من قرأ قل هو الله أحد إحدى عشرة مرة في دبر الفجر لم يتبعه في ذلك اليوم ذنب و أرغم أنف الشيطان.
إبراهيم بن مهزم عمن سمع أبا الحسن (ع) يقول من قدم قل هو الله أحد بينه و بين كل جبار منعه الله منه يقرؤها بين يديه و من خلفه و عن يمينه و عن شماله فإذا فعل ذلك رزقه الله خيره و منعه شره و قال إذا خفت أمرا فاقرأ مائة آية من القرآن حيث شئت ثم قل اللهم اكشف عني البلاء ثلاث مرات.
عيسى بن عبد الله عن أبيه عن جده عن علي (ع) قال قال رسول الله ص من قرأ قل هو الله أحد مائة مرة حين يأخذ مضجعه غفر الله له ذنوب خمسين سنة.
تفسيرها
لما ذم سبحانه أعداء أهل التوحيد في السورة المتقدمة ذكر في هذه السورة بيان التوحيد فقال:
[سورة الإخلاص (112): الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَ لَمْ يُولَدْ (3) وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (4)

855
مجمع البيان في تفسير القرآن10

القراءة ص 856

القراءة
قرأ أبو عمرو أحد الله الصمد بغير تنوين الدال من أحد و
روي عنه (ع) أنه كان يقول «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» ثم يقف فإن وصل قال أحد الله‏
و زعم أن العرب لم تكن تصل مثل هذا و الباقون «أَحَدٌ اللَّهُ» بالتنوين و قرأ إسماعيل عن نافع و حمزة و خلف و رويس كفؤا ساكنة الفاء مهموزة و قرأ حفص «كُفُواً» مضمومة الفاء مفتوحة الواو و غير مهموزة و قرأ الباقون كفؤا بالهمزة و ضم الفاء.
الحجة
قال أبو علي: من قرأ «أَحَدٌ اللَّهُ» فوجهه بين و ذلك أن التنوين من أحد ساكن و لام المعرفة من الاسم ساكن فلما التقى الساكنان حرك الأول منهما بالكسر كما تقول اذهب اذهب و من قال أحد الله فحذف النون فإن النون قد شابهت حروف اللين في الآخر في أنها تزاد كما يزدن و في أنها تدغم فيهن كما يدغم كل واحد من الواو و الياء في الآخر و في أنها قد أبدلت منها الألف في الأسماء المنصوبة و في الخفيفة فلما شابهت حروف اللين أجريت مجراها في أن حذفت ساكنة لالتقاء الساكنين كما حذف الألف و الواو و الياء لذلك في نحو رمى القوم و يغزو الجيش و يرمي القوم و من ثم حذفت ساكنة في الفعل في نحو لَمْ يَكُ* و فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ فحذفت في أحد الله لالتقاء الساكنين كما حذفت هذه الحروف في نحو هذا زيد بن عمرو حتى استمر ذلك في الكلام و أنشد أبو زيد:
         فالفيته غير مستعتب             و لا ذاكر الله إلا قليلا
و قال الشاعر:
         كيف نومي على الفراش و لما             تشمل أشأم غارة شعواء
         تذهل الشيخ عن بنيه و تبدي             عن خدام العقيلة العذراء
أما كفوا و «كُفُواً» فأصله الضم فخفف مثل طنب و طنب و عنق و عنق.
اللغة
أحد أصله وحد فقلبت الواو همزة و مثله أناة و أصله وناة و هو على ضربين (أحدهما) أن يكون اسما (و الآخر) أن يكون صفة فالاسم نحو أحد و عشرون يريد به الواحد و الصفة كما في قول النابغة:
         كان رحلي و قد زال النهار بنا             بذي الجليل على مستأنس وحد

856
مجمع البيان في تفسير القرآن10

اللغة ص 856

و كذلك قولهم واحد يكون اسما كالكاهل و الغارب و منه قولهم واحد اثنان ثلاثة و تكون صفة كما في قول الشاعر:
         " فقد رجعوا كحي واحدينا"
و قد جمعوا أحدا الذي هو الصفة على أحد أن قالوا أحد و أحدان شبهوه بسلق و سلقان و نحوه قول الشاعر:
         يحمي الصريمة أحدان الرجال له             صيد و مجترئ بالليل هماس‏
فهذا جمع لأحد الذي يراد به الرفع من الموصوف و التعظيم له و أنه متفرد عن الشبه و المثل و قالوا هو أحد الأحد إذا رفع منه و عظم و قالوا أحد الأحدين و واحد الآحاد و حقيقة الواحد شي‏ء لا ينقسم في نفسه أو في معنى صفته فإذا أطلق واحد من غير تقدم موصوف فهو واحد في نفسه و إذا أجري على موصوف فهو واحد في معنى صفته فإذا قيل الجزء الذي لا يتجزأ واحد أريد أنه واحد في نفسه و إذا قيل هذا الرجل إنسان واحد فهو واحد في معنى صفته و إذا وصف الله تعالى بأنه واحد فمعناه أنه المختص بصفات لا يشاركه فيها أحد غيره نحو كونه قادرا لنفسه عالما حيا موجودا كذلك و الصمد السيد المعظم الذي يصمد إليه في الحوائج أي يقصد و قيل هو السيد الذي ينتهي إليه السؤدد قال الأسدي:
         ألا بكر الناعي بخيري بني أسد             بعمرو بن مسعود و بالسيد الصمد
و قال الزبرقان:
         " و لا رهينة إلا السيد الصمد"
و قال رجل مصمد أي مقصود و كذلك بيت مصمد قال طرفة:
         و إن يلتقي الحي الجميع تلاقني             إلى ذروة البيت الرفيع المصمد
و الكفو و الكفي‏ء و الكفاء واحد و هو المثل و النظير قال النابغة:
         لا تقذفني بركن لا كفاء له             و لو تأثفك الأعداء بالرفد

857
مجمع البيان في تفسير القرآن10

اللغة ص 856

و قال حسان:
         و جبريل رسول الله منا             و روح القدس ليس له كفاء
و قال آخر في الكفي‏ء:
         أما كان عباد كفيئا لدارم             بلى و لأبيات بها الحجرات‏
الإعراب‏
قال أبو علي «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» يجوز في إعراب الله ضربان (أحدهما) أن يكون خبر مبتدإ و ذلك على قول من ذهب إلى أن هو كناية عن اسم الله تعالى ثم يجوز في قوله «أَحَدٌ» ما يجوز في قولك زيد أخوك قائم (و الآخر) على قول من ذهب إلى أن هو كناية عن القصة و الحديث فيكون اسم الله عنده مرتفعا بالابتداء و أحد خبره و مثله قوله تعالى فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا إلا أن هي جاءت على التأنيث لأن في التفسير اسما مؤنثا و على هذا جاء فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ و إذا لم يكن في التفسير مؤنث لم يؤنث ضمير القصة و قوله «اللَّهُ الصَّمَدُ» الله مبتدأ و الصمد خبره و يجوز أن يكون الصمد صفة الله و الله خبر مبتدإ محذوف أي هو الله الصمد و يجوز أن يكون «اللَّهُ الصَّمَدُ» خبرا بعد خبر على قول من جعل هو ضمير الأمر و الحديث «وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ» قال أن له ظرف غير مستقر و هو متعلق بكان و كفوا منتصب بأنه خبر متقدم كما كان قوله تعالى وَ كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ كذلك و زعموا أن من البغداديين من يقول أن في يكن من قوله «وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ» ضميرا مجهولا و قوله «كُفُواً» ينتصب على الحال و العامل فيها له و هذا إذا أفردته عن يكن كان معناه له أحد كفوا و إذا حمل على هذا لم يسغ و وجه ذلك أنه محمول على معنى النفي فكأنه لم يكن أحد له كفوا كما كان قولهم ليس الطيب إلا المسك محمولا على معنى النفي و لو لا حمله على المعنى لم يجز أ لا ترى أنك لو قلت زيدا إلا منطلق لم يكن كلاما فكما أن هذا محمول على المعنى كذلك «لَهُ كُفُواً أَحَدٌ» محمول على المعنى و على هذا جاز أن يكون أحد فيه الذي يقع لعموم النفي و لو لا ذلك لم يجز أن يقع أحد هذا في الإيجاب فإن قلت أ يجوز أن يكون قوله تعالى «لَهُ» عندكم حالا على أن يكون المعنى و لم يكن كفوا له أحد فيكون له صفة للنكرة فلما قدم صار في موضع الحال كقوله‏
         " لعزة موحشا طلل قديم"
فإن سيبويه قال إن ذلك يقل‏

858
مجمع البيان في تفسير القرآن10

الإعراب ص 858

في الكلام و إن كثر في الشعر فإن حملته على هذا على استكراه كان غير ممتنع و العامل في قوله «لَهُ» إذا كان حالا يجوز أن يكون أحد شيئين (أحدهما) يكن (و الآخر) أن يكون ما في معنى كفوا من معنى المماثلة فإن قلت أن العامل في الحال إذا كان معنى لم يتقدم الحال عليه فإن له لما كان على لفظ الظرف و الظرف يعمل فيه المعنى و إن تقدم عليه كقولك كل يوم لك ثوب كذلك يجوز في هذا الظرف و ذلك من حيث كان ظرفا و فيه ضمير في الوجهين يعود إلى ذي الحال و هو كفوا.
النزول‏
قيل أن المشركين قالوا لرسول الله ص أنسب لنا ربك فنزلت السورة عن أبي بن كعب و جابر و قيل أتى عامر بن الطفيل و أربد بن ربيعة أخو لبيد النبي ص و قال عامر إلى ما تدعونا يا محمد فقال إلى الله فقال صفه لنا أ من ذهب هو أم من فضة أم من حديد أم من خشب فنزلت السورة و أرسل الله الصاعقة على أربد فأحرقته و طعن عامر في خنصره فمات عن ابن عباس و قيل جاء أناس من أحبار اليهود إلى النبي ص فقالوا يا محمد صف لنا ربك لعلنا نؤمن بك فإن الله أنزل نعته في التوراة فنزلت السورة و هي نسبة الله خاصة عن الضحاك و قتادة و مقاتل و
روى محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (ع) قال أن اليهود سألوا النبي ص فقالوا أنسب لنا ربك فمكث ثلاثا لا يجيبهم ثم نزلت السورة.
و قريب منه ما ذكره القاضي في تفسيره أن عبد الله بن سلام انطلق إلى رسول الله ص و هو بمكة فقال له رسول الله ص أنشدك بالله هل تجدني في التوراة رسول الله فقال أنعت لنا ربك فنزلت هذه السورة فقرأها النبي ص فكانت سبب إسلامه إلا أنه كان يكتم ذلك إلى أن هاجر النبي ص إلى المدينة ثم أظهر الإسلام.
المعنى‏
 «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» هذا أمر من الله عز اسمه لنبيه ص أن يقول لجميع المكلفين هو الله الذي تحق له العبادة قال الزجاج: هو كناية عن ذكر الله عز و جل و معناه الذي سألتم تبيين نسبته هو الله أحد أي واحد و يجوز أن يكون المعنى الأمر الله أحد لا شريك له و لا نظير و قيل معناه واحد ليس كمثله شي‏ء عن ابن عباس و قيل واحد في الإلهية و القدم و قيل واحد في صفة ذاته لا يشركه في وجوب صفاته أحد فإنه يجب أن يكون موجودا عالما قادرا حيا و لا يكون ذلك واجبا لغيره و قيل واحد في أفعاله لأن أفعاله كلها إحسان لم يفعلها لجر نفع و لا لدفع ضرر فاختص بالوحدة من هذا الوجه إذ لا يشركه فيه سواه واحد في أنه لا يستحق العبادة سواه لأنه القادر على أصول النعم من الحياة و القدرة و الشهوة و غير ذلك مما لا تكون النعمة نعمة إلا به و لا يقدر على شي‏ء من ذلك غيره فهو أحد من هذه الوجوه الثلاثة

859
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 859

و قيل إنما قال أحد و لم يقل واحد لأن الواحد يدخل في الحساب و يضم إليه آخر و أما الأحد فهو الذي لا يتجزأ و لا ينقسم في ذاته و لا في معنى صفاته و يجوز أن يجعل للواحد ثانيا و لا يجوز أن يجعل للأحد ثانيا لأن الأحد يستوعب جنسه بخلاف الواحد أ لا ترى أنك لو قلت فلان لا يقاومه واحد جاز أن يقاومه اثنان و لما قلت لا يقاومه أحد لم يجز أن يقاومه اثنان و لا أكثر فهو أبلغ و
قال أبو جعفر الباقر (ع) في معنى «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» أي قل أظهر ما أوحينا إليك و ما نبأناك به بتأليف الحروف التي قرأناها عليك ليهتدي بها من ألقى السمع و هو شهيد
و هو اسم مكنى مشار إلى غائب فالهاء تنبيه عن معنى ثابت و الواو إشارة إلى الغائب عن الحواس كما أن قولك هذا إشارة إلى الشاهد عند الحواس و ذلك أن الكفار نبهوا عن آلهتهم بحرف إشارة إلى المشاهد المدرك فقالوا هذه آلهتنا المحسوسة بالأبصار فأشر أنت يا محمد إلى إلهك الذي تدعو إليه حتى نراه و ندركه و لا ناله فيه فأنزل الله سبحانه «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» فالهاء تثبيت للثابت و الواو إشارة إلى الغائب عن درك الأبصار و لمس الحواس و أنه يتعالى عن ذلك بل هو مدرك الأبصار و مبدع الحواس و
حدثني أبي عن أبيه عن أمير المؤمنين (ع) أنه قال رأيت الخضر في المنام قبل بدر بليلة فقلت له علمني شيئا أنتصر به على الأعداء فقال قل يا هو يا من لا هو إلا هو فلما أصبحت قصصت على رسول الله ص فقال يا علي علمت الاسم الأعظم فكان على لساني يوم بدر قال و قرأ (ع) يوم بدر «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» فلما فرغ قال يا هو يا من لا هو إلا هو اغفر لي و انصرني على القوم الكافرين و كان يقول ذلك يوم صفين و هو يطارد فقال له عمار بن ياسر يا أمير المؤمنين ما هذه الكنايات قال اسم الله الأعظم و عماد التوحيد لله لا إله إلا هو ثم قرأ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَ الْمَلائِكَةُ وَ أُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ و آخر الحشر ثم نزل فصلى أربع ركعات قبل الزوال قال و قال أمير المؤمنين (ع) الله معناه المعبود الذي يأله فيه الخلق و يؤله إليه الله المستور عن إدراك الأبصار المحجوب عن الأوهام و الخطرات‏
و
قال الباقر (ع) الله معناه المعبود الذي أله الخلق عن إدراك ماهيته و الإحاطة بكيفيته‏
و تقول العرب أله الرجل إذا تحير في الشي‏ء فلم يحط به علما و وله إذا فزع إلى شي‏ء قال و الأحد الفرد المتفرد و الأحد و الواحد بمعنى واحد و هو المتفرد الذي لا نظير له و التوحيد الإقرار بالوحدة و هو الانفراد و الواحد المباين الذي لا ينبعث من شي‏ء و لا يتحد بشي‏ء و من ثم قالوا إن بناء العدد من الواحد و ليس الواحد من العدد لأن العدد لا يقع على الواحد بل يقع على الاثنين فمعنى قوله «اللَّهُ أَحَدٌ» أي المعبود الذي يسأله الخلق عن إدراكه و الإحاطة بكيفيته فرد بإلهيته متعال عن صفات خلقه.
 «اللَّهُ الصَّمَدُ»
قال الباقر (ع) حدثني أبي زين العابدين (ع) عن أبيه الحسين بن علي‏

860
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 859

(ع) أنه قال الصمد الذي قد انتهى سؤدده و الصمد الدائم الذي لم يزل و لا يزال و الصمد الذي لا جوف له و الصمد الذي لا يأكل و لا يشرب و الصمد الذي لا ينام‏
و أقول أن المعنى في هذه الثلاثة أنه سبحانه الحي الذي لا يحتاج إلى الطعام و الشراب و النوم‏
قال الباقر (ع) و الصمد السيد المطاع الذي ليس فوقه آمر و لا ناه‏
قال و كان محمد بن الحنفية يقول الصمد القائم بنفسه الغني عن غيره و قال غيره الصمد المتعالي عن الكون و الفساد و الصمد الذي لا يوصف بالنظائر قال و
سئل علي بن الحسين زين العابدين (ع) عن الصمد فقال الصمد الذي لا شريك له و لا يؤوده حفظ شي‏ء و لا يعزب عنه شي‏ء
و قال أبو البختري وهب بن وهب القرشي قال زيد بن علي (ع) الصمد الذي إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون و الصمد الذي أبدع الأشياء فخلقها أضدادا و أصنافا و أشكالا و أزواجا و تفرد بالوحدة بلا ضد و لا شكل و لا مثل و لا ند
قال وهب بن وهب و حدثني الصادق جعفر بن محمد (ع) عن أبيه الباقر (ع) إن أهل البصرة كتبوا إلى الحسين بن علي (ع) يسألونه عن الصمد فكتب إليهم بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فلا تخوضوا في القرآن و لا تجادلوا فيه و لا تكلموا فيه بغير علم فقد سمعت جدي رسول الله ص يقول من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار و إن الله قد فسر سبحانه الصمد فقال «لَمْ يَلِدْ وَ لَمْ يُولَدْ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ»
 «لَمْ يَلِدْ» لم يخرج منه شي‏ء كثيف كالولد و لا سائر الأشياء الكثيفة التي تخرج من المخلوقين و لا شي‏ء لطيف كالنفس و لا ينبعث منه البدوات كالسنة و النوم و الخطرة و الغم و الحزن و البهجة و الضحك و البكاء و الخوف و الرجاء و الرغبة و السامة و الجوع و الشبع تعالى أن يخرج منه شي‏ء و أن يتولد منه شي‏ء كثيف أو لطيف «وَ لَمْ يُولَدْ» أي و لم يتولد من شي‏ء و لم يخرج من شي‏ء كما تخرج الأشياء الكثيفة من عناصرها كالشي‏ء من الشي‏ء و الدابة من الدابة و النبات من الأرض و الماء من الينابيع و الثمار من الأشجار و لا كما تخرج الأشياء اللطيفة من مراكزها كالبصر من العين و السمع من الأذن و الشم من الأنف و الذوق من الفم و الكلام من اللسان و المعرفة و التمييز من القلب و النار من الحجر لا بل هو الله الصمد الذي لا من شي‏ء و لا في شي‏ء و لا على شي‏ء مبدع الأشياء و خالقها و منشئ الأشياء بقدرته يتلاشى ما خلق للفناء بمشيئته و يبقى ما خلق للبقاء بعلمه فذلكم الله الصمد الذي لم يلد و لم يولد عالم الغيب و الشهادة الكبير المتعال «وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ»
قال وهب بن وهب سمعت الصادق (ع) يقول قدم وفد من فلسطين على الباقر (ع) فسألوه عن مسائل فأجابهم عنها ثم سألوه عن الصمد فقال تفسيره فيه الصمد خمسة أحرف (فالألف) دليل على انيته و هو قوله عز و جل «شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ» و ذلك تنبيه و إشارة إلى الغائب عن درك الحواس (و اللام)

861
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 859

دليل على إلهيته بأنه هو الله و الألف و اللام مدغمان لا يظهران على اللسان و لا يقعان في السمع و يظهران في الكتابة دليلان على أن إلهيته بلطفه خافية لا يدرك بالحواس و لا يقع في لسان واصف و لا أذن سامع لأن تفسير الإله هو الله الذي أله الخلق عن درك ماهيته و كيفيته بحس أو بوهم لا بل هو مبدع الأوهام و خالق الحواس و إنما يظهر ذلك عند الكتابة فهو دليل على أن الله سبحانه أظهر ربوبيته في إبداع الخلق و تركيب أرواحهم اللطيفة في أجسادهم الكثيفة و إذا نظر عبد إلى نفسه لم ير روحه كما أن لام الصمد لا يتبين و لا يدخل في حاسة من حواسه الخمس فلما نظر إلى الكتابة ظهر له ما خفي و لطف فمتى تفكر العبد في ماهية البارئ و كيفيته أله و تحير و لم تحط فكرته بشي‏ء يتصور له لأنه تعالى خالق الصور و إذا نظر إلى خلقه ثبت له أنه عز و جل خالقهم و مركب أرواحهم في أجسادهم و أما (الصاد) فدليل على أنه سبحانه صادق و قوله صدق و كلامه صدق و دعا عباده إلى اتباع الصدق بالصدق و وعدنا بالصدق و أراد الصدق و أما (الميم) فدليل على ملكه و أنه الملك الحق المبين لم يزل و لا يزال و لا يزول ملكه و أما (الدال) فدليل على دوام ملكه و أنه دائم تعالى عن الكون و الزوال بل هو الله عز و جل مكون الكائنات الذي كان بتكوينه كل كائن ثم قال (ع) لو وجدت لعلمي الذي أتاني الله حملة لنشرت التوحيد و الإسلام و الدين و الشرائع من الصمد و كيف لي بذلك و لم يجد جدي أمير المؤمنين (ع) حملة لعلمه حتى كان يتنفس على الصعداء أو يقول على المنبر سلوني قبل أن تفقدوني فإن بين الجوانح مني علما جما هاه هاه ألا لا أجد من يحمله ألا و أن عليكم من الله الحجة البالغة فلا تتولوا قوما غضب الله عليهم قد يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور
و
عن عبد خير قال سأل رجل عليا (ع) عن تفسير هذه السورة فقال قل هو الله أحد بلا تأويل عدد الصمد بلا تبعيض بدد لم يلد فيكون موروثا هالكا و لم يولد فيكون إلها مشاركا و لم يكن له من خلقه كفوا أحد
و قال ابن عباس لم يلد فيكون والدا و لم يولد فيكون ولدا و قيل لم يلد ولدا فيرث عنه ملكه و لم يولد فيكون قد ورث الملك عن غيره و قيل لم يلد فيدل على حاجته فإن الإنسان يشتهي الولد لحاجته إليه و لم يولد فيدل على حدوثه و ذلك من صفة الأجسام و في هذا رد على القائلين أن عزيرا و المسيح ابن الله و إن الملائكة بنات الله و لم يكن له كفوا أحد أي لم يكن له أحد كفوا أي عديلا و نظيرا يماثله و في هذا رد على من أثبت له مثلا في القدم و غيره من الصفات و قيل معناه و لم تكن له صاحبة و زوجة فتلد منه لأن الولد يكون من الزوجة فكني عنها بالكفؤ لأن الزوجة تكون كفوا لزوجها و قيل إنه سبحانه بين التوحيد بقوله «اللَّهُ أَحَدٌ» و بين العدل بقوله «اللَّهُ الصَّمَدُ» و بين ما يستحيل عليه من الوالد و الولد بقوله «لَمْ يَلِدْ وَ لَمْ يُولَدْ» و بين ما لا

862
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 859

يجوز عليه من الصفات بقوله «وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ» و فيه دلالة على أنه ليس بجسم و لا جوهر و لا عرض و لا هو في مكان و لا جهة و قال بعض أرباب اللسان وجدنا أنواع الشرك ثمانية النقص و التقلب و الكثرة و العدد و كونه علة أو معلولا و الأشكال و الأضداد فنفى الله سبحانه عن صفته نوع الكثرة و العدد بقوله «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» و نفي التقلب و النقص بقوله «اللَّهُ الصَّمَدُ» و نفي العلة و المعلول بقوله «لَمْ يَلِدْ وَ لَمْ يُولَدْ» و نفي الأشكال و الأضداد بقوله «وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ» فحصلت الوحدانية البحث و
روى عمران بن الحصين أن النبي ص بعث سرية و استعمل عليها عليا (ع) فلما رجعوا سألهم عن علي (ع) فقالوا كل خير غير أنه كان يقرأ في أثناء كل صلاة بقل هو الله أحد فقال لم فعلت يا علي هذا فقال لحبي قل هو الله أحد فقال النبي ص ما أحببتها حتى أحبك الله عز و جل‏
و
يروى أن النبي ص كان يقف عند آخر كل آية من هذه السورة
و
روى الفضيل بن يسار قال أمرني أبو جعفر أن أقرأ قل هو الله أحد و أقول إذا فرغت منها كذلك الله ربي ثلاثا.

863
مجمع البيان في تفسير القرآن10

سورة الفلق مكية و آياتها خمس ص 864

(113) سورة الفلق مكية و آياتها خمس (5)
[توضيح‏]
مدنية في أكثر الأقاويل و قيل مكية.
عدد آيها
خمس آيات بالإجماع.
فضلها
في‏
حديث أبي و من قرأ (قل أعوذ برب الفلق و قل أعوذ برب الناس) فكأنما قرأ جميع الكتب التي أنزلها الله على الأنبياء.
و
عن عقبة بن عامر قال قال رسول الله ص أنزلت علي آيات لم ينزل مثلهن المعوذتان أورده مسلم في الصحيح.
و
عنه عن النبي ص قال يا عقبة أ لا أعلمك سورتين هما أفضل القرآن أو من أفضل القرآن قلت بلى يا رسول الله فعلمني المعوذتين ثم قرأ بهما في صلاة الغداة و قال لي اقرأهما كلما قمت و نمت.
أبو عبيدة الحذاء عن أبي جعفر (ع) قال من أوتر بالمعوذتين و قل هو الله أحد قيل له يا عبد الله أبشر فقد قبل الله و ترك.
تفسيرها
ذم سبحانه أعداء الرسول ص في سورة تبت ثم ذكر التوحيد في سورة الإخلاص ثم ذكر سبحانه الاستعاذة في السورتين فقال:
[سورة الفلق (113): الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ (2) وَ مِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ (3) وَ مِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ (4)
وَ مِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ (5)

864
مجمع البيان في تفسير القرآن10

اللغة ص 865

اللغة
أصل الفلق الفرق الواسع من قولهم فلق رأسه بالسيف يفلقه فلقا و يقال أبين من فلق الصبح و فرق الصبح لأن عموده ينفلق بالضياء عن الظلام و الغاسق في اللغة الهاجم بضرره و هو هاهنا الليل لأنه يخرج السباع من آجامها و الهوام من مكامنها فيه يقال غسقت القرحة إذا جرى صديدها و منه الغساق صديد أهل النار لسيلانه بالعذاب و غسقت عينه سال دمعها. التقوب الدخول وقب يقب و منه الوقبة النقرة لأنه يدخل فيها النفث شبيهة بالنفخ و أما التفل فنفخ بريق فهذا الفرق بين النفث و التفل قال الفرزدق:
         هما نفثا في في من فمويهما             على النافث الغاوي أشد رجام‏
و الحاسد الذي يتمنى زوال النعمة عن صاحبها و إن لم يردها لنفسه فالحسد مذموم و الغبطة محمودة و هي أن يريد من النعمة لنفسه مثل ما لصاحبه و لم يرد زوالها عنه.
النزول‏
قالوا أن لبيد بن أعصم اليهود سحر رسول الله ص ثم دس ذلك في بئر لبني زريق فمرض رسول الله ص فبينا هو نائم إذا أتاه ملكان فقعد أحدهما عند رأسه و الآخر عند رجليه فأخبراه بذلك و أنه في بئر دروان في جف طلعة تحت راعوفة و الجف قشر الطلع و الراعوفة حجر في أسفل البئر يقوم عليها الماتح فانتبه رسول الله ص و بعث عليا (ع) و الزبير و عمار فنزحوا ماء تلك البئر ثم رفعوا الصخرة و أخرجوا الجف فإذا فيه مشاطة رأس و أسنان من مشطة و إذا فيه معقد في إحدى عشرة عقدة مغروزة بالأبر فنزلت هاتان السورتان فجعل كلما يقرأ آية انحلت عقدة و وجد رسول الله ص خفة فقام فكأنما أنشط من عقال و جعل جبرائيل (ع) يقول باسم الله أرقيك من شر كل شي‏ء يؤذيك من حاسد و عين الله تعالى يشفيك و رووا ذلك عن عائشة و ابن عباس‏
و هذا لا يجوز لأن من وصف بأنه مسحور فكأنه قد خبل عقله و قد أبى الله سبحانه ذلك في قوله «وَ قالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً» أنظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا و لكن يمكن أن يكون اليهودي أو بناته على ما روي اجتهدوا في ذلك فلم يقدروا عليه و أطلع الله نبيه ص على ما فعلوه من التمويه حتى استخرج و كان ذلك دلالة على صدقه و كيف يجوز أن يكون المرض من فعلهم و لو قدروا على ذلك لقتلوه و قتلوا كثيرا من المؤمنين مع شدة عداوتهم له.
المعنى‏
 «قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ» هذا أمر من الله سبحانه لنبيه ص و المراد جميع أمته و معناه قل يا محمد اعتصم و امتنع برب الصبح و خالقه و مدبره و مطلعه متى شاء على ما يرى من الصلاح فيه «مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ» من الجن و الإنس و سائر الحيوانات و إنما سمي الصبح فلقا لانفلاق عموده بالضياء عن الظلام كما قيل له فجر لانفجاره بذهاب ظلامه و هذا

865
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 865

قول ابن عباس و جابر و الحسن و سعيد بن جبير و مجاهد و قتادة و قيل الفلق المواليد لأنهم ينفلقون بالخروج من أصلاب الآباء و أرحام الأمهات كما ينفلق الحب من النبات و قيل الفلق جب في جهنم يتعوذ أهل جهنم من شدة حره عن السدي و رواه أبو حمزة الثمالي و علي بن إبراهيم في تفسيريهما و قوله «ما خَلَقَ» عام في جميع ما خلقه الله تعالى ممن يجوز أم يحصل منه الشر و تقديره من شر الأشياء التي خلقها الله تعالى مثل السباع و الهوام و الشياطين و غيرها «وَ مِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ» أي و من شر الليل إذا دخل بظلامه عن ابن عباس و الحسن و مجاهد و على هذا فيكون المراد من شر ما يحدث في الليل من الشر و المكروه كما يقال أعوذ من شر هذه البلدة و إنما اختص الليل بالذكر لأن الغالب أن الفساق يقدمون على الفساد بالليل و كذلك الهوام و السباع تؤذي فيه أكثر و أصل الفسق الجريان بالضرر و قيل إن معنى الغاسق كل هاجم بضرره كائنا ما كان «وَ مِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ» معناه و من شر النساء الساحرات اللاتي ينفثن في العقد عن الحسن و قتادة و إنما أمر بالتعوذ من شر السحرة لإيهامهم أنهم يمرضون و يصحون و يفعلون شيئا من النفع و الضرر و الخير و الشر و عامة الناس يصدقونهم فيعظم بذلك الضرر في الدين و لأنهم يوهمون أنهم يخدمون الجن و يعلمون الغيب و ذلك فساد في الدين ظاهر فلأجل هذا الضرر أمر بالتعوذ من شرهم و قال أبو مسلم النفاثات النساء اللاتي يملن آراء الرجال و يصرفنهم عن مرادهم و يردونهم إلى آرائهن لأن العزم و الرأي يعبر عنهما بالعقد فعبر عن حلها بالنفث فإن العادة جرت أن من حل عقد نفث فيه «وَ مِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ» فإنه يحمله الحسد على إيقاع الشر بالمحسود فأمر بالتعوذ من شره و قيل إنه أراد من شر نفس الحاسد و من شر عينه فإنه ربما أصاب بهما فعاب و ضر و قد جاء
في الحديث أن العين حق‏
و قد مضى الكلام فيه و روي‏
أن العضباء ناقة النبي ص لم تكن تسبق فجاء أعرابي على قعود له فسابق بها فسبقها فشق ذلك على الصحابة فقال النبي ص حق على الله عز و جل ألا يرفع شيئا من الدنيا إلا وضعه‏
و
روى أنس أن النبي ص قال من رأى شيئا يعجبه فقال الله الله ما شاء الله لا قوة إلا بالله لم يضر شيئا
و
روي أن النبي ص كان كثيرا ما يعوذ الحسن و الحسين (ع) بهاتين السورتين‏
و قال بعضهم إن الله سبحانه جمع الشرور في هذه السورة و ختمها بالحسد ليعلم أنه أحس الطبائع نعوذ بالله منه.

866
مجمع البيان في تفسير القرآن10

سورة الناس مكية و آياتها ست ص 867

(114) سورة الناس مكية و آياتها ست (6)
[توضيح‏]
مدنية و هي مثل سورة الفلق لأنها إحدى المعوذتين و هي ست آيات.
فضلها
الفضل بن يسار قال سمعت أبا جعفر (ع) يقول إن رسول الله ص اشتكى شكوى شديدة و وجع وجعا شديدا فأتاه جبرائيل و ميكائيل (ع) فقعد جبرائيل (ع) عند رأسه و ميكائيل عند رجليه فعوذه جبرائيل بقل أعوذ برب الفلق و عوذه ميكائيل بقل أعوذ برب الناس.
أبو خديجة عن أبي عبد الله (ع) قال جاء جبرائيل إلى النبي ص و هو شاك فرقاه بالمعوذتين و قل هو الله أحد و قال باسم الله أرقيك و الله يشفيك من كل داء يؤذيك خذها فلتهنيك‏
فقال:
[سورة الناس (114): الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ (4)
الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ (6)

القراءة
قرأ أبو عمرو الدوري عن الكسائي يميل الناس في موضع الجر و لا يميل في الرفع و النصب و الباقون لا يميلون.
اللغة
الوسواس حديث النفس بما هو كالصوت الخفي و أصله الصوت الخفي من قول الأعشى:

867
مجمع البيان في تفسير القرآن10

اللغة ص 867

         تسمع للحلي وسواسا إذا انصرفت             كما استعان بريح عشرق زجل‏
قال رؤبة:
         وسوس يدعو مخلصا رب الفلق             سرا و قد أون تأوين العقق‏
و الوسوسة كالهمهمة و منه قولهم فلان موسوس إذا غلب عليه ما يعتريه من المرة يقال وسوس وسواسا و وسوسة و توسوس و الخنوس الاختفاء بعد الظهور خنس يخنس و منه الخنس في الأنف لخفائه بانخفاضة عند ما يظهر بنتوة و أصل الناس الأناس فحذفت الهمزة التي هي فأويد لك على ذلك الإنس و الأناس و أما قولهم في تحقيره نويس فإن الألف لما كانت ثانية زائدة أشبهت ألف فاعل فقلبت واوا.
الإعراب‏
قيل إن قوله «مِنَ الْجِنَّةِ» بدل من قوله «مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ» فكأنه قال أعوذ بالله من شر الجنة و الناس و قيل إن من تبين للوسواس و التقدير من شر ذي الوسواس الخناس من الجنة و الناس أي صاحب الوسواس الذي من الجنة و الناس فيكون الناس معطوفا على الوسواس الذي هو في معنى ذي الوسواس و إن شئت لم تحذف المضاف فيكون التقدير من شر الوسواس الواقع من الجنة التي توسوسه في صدور الناس فيكون فاعل يوسوس ضمير الجنة و إنما ذكر لأن الجنة و الجن واحد و جازت الكناية عنه و إن كان متأخرا لأنه في نية التقديم فجرى مجرى قوله فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى‏ و حذف العائد من الصلة إلى الموصوف كما في قوله أَ هذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا أي بعثه الله رسولا.
المعنى‏
 «قُلْ» يا محمد «أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ» أي خالقهم و مدبرهم و منشئهم «مَلِكِ النَّاسِ» أي سيدهم و القادر عليهم و لم يجز هنا إلا ملك و جاز في فاتحة الكتاب ملك و مالك و ذلك لأن صفة ملك تدل على تدبير من يشعر بالتدبير و ليس كذلك مالك و ذلك لأنه يجوز أن يقال مالك الثوب و لا يجوز ملك الثوب فجرت اللفظة في فاتحة الكتاب على معنى الملك في يوم الجزاء و جرت في هذه السورة على ملك تدبير من يعقل التدبير فكان لفظ

868
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 868

ملك أولى هنا و أحسن و معناه ملك الناس كلهم و إليه مفزعهم في الحوائج «إِلهِ النَّاسِ» معناه الذي يجب على الناس أن يعبدوه لأنه الذي تحق له العبادة دون غيره و إنما خص سبحانه الناس و إن كان سبحانه ربا لجميع الخلائق لأن في الناس عظماء فأخبر بأنه ربهم و إن عظموا و لأنه سبحانه أمر بالاستعاذة من شرهم فأخبر بذكرهم أنه الذي يعيذه منهم و في الناس ملوك فذكر أنه ملكهم و في الناس من يعبد غيره فذكر أنه إلههم و معبودهم و أنه هو المستحق للعبادة دون غيره قال جامع العلوم النحوي و ليس قوله «النَّاسِ» تكرارا لأن المراد بالأول الأجنة و لهذا قال «بِرَبِّ النَّاسِ» لأنه يربيهم و المراد بالثاني الأطفال و لذلك قال «مَلِكِ النَّاسِ» لأنه يملكهم و المراد بالثالث البالغون المكلفون و لذلك قال «إِلهِ النَّاسِ» لأنهم يعبدونه و المراد بالرابع العلماء لأن الشيطان يوسوس إليهم و لا يريد الجهال لأن الجاهل يضل بجهله و إنما تقع الوسوسة في قلب العالم كما قال فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ و قوله «مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ» فيه أقوال (أحدها) أن معناه من شر الوسوسة الواقعة من الجنة و قد مر بيانه (و ثانيها) أن معناه من شر ذي الوسواس و هو الشيطان‏
كما جاء في الأثر أنه يوسوس فإذا ذكر العبد ربه خنس‏
ثم وصفه الله تعالى بقوله «الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ» أي بالكلام الخفي الذي يصل مفهومه إلى قلوبهم من غير سماع ثم ذكر أن هذا الشيطان الذي يوسوس في صدور الناس «مِنَ الْجِنَّةِ» و هم الشياطين كما قال سبحانه إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ ثم عطف بقوله «وَ النَّاسِ» على الوسواس و المعنى من شر الوسواس و من شر الناس كأنه أمر أن يستعيذ من شر الجن و الإنس (و ثالثها) أن معناه من شر ذي الوسواس الخناس ثم فسره بقوله «مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ» كما يقال نعوذ بالله من شر كل مارد من الجن و الإنس و على هذا فيكون وسواس الجنة هو وسواس الشيطان على ما مضى و في وسواس الإنس وجهان (أحدهما) أنه وسوسة الإنسان من نفسه (و الثاني) إغواء من يغويه من الناس و يدل عليه قوله شَياطِينَ الْإِنْسِ وَ الْجِنِّ فشيطان الجن يوسوس و شيطان الإنس يأتي علانية و يرى أنه ينصح و قصده الشر قال مجاهد:
الخناس الشيطان إذا ذكر اسم الله سبحانه خنس و انقبض و إذا لم يذكر الله انبسط على القلب و يؤيده‏
ما روي عن أنس بن مالك أنه قال: قال رسول الله ص: إن الشيطان واضح خطمة على قلب ابن آدم فإذا ذكر الله سبحانه خنس و إذا نسي التقم قلبه فذلك الوسواس الخناس‏
و قيل الخناس معناه الكثير الاختفاء بعد الظهور و هو المستتر المختفي من أعين الناس لأنه يوسوس من حيث لا يرى بالعين و قال إبراهيم التيمي أول ما يبدو الوسواس من قبل الوضوء و قيل إن معنى قوله «يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ» يلقي الشغل في قلوبهم بوسواسه و المراد أن له رفقاء به يوصل الوسواس إلى المصدر و هو أقرب من خلوصه بنفسه إلى صدره و في هذا إشارة إلى أن‏

869
مجمع البيان في تفسير القرآن10

المعنى ص 868

الضرر يلحق من جهة هؤلاء و أنهم قادرون على ذلك و لولاه لما حسن الأمر بالاستعاذة منهم و فيه دلالة على أنه لا ضرر ممن يتعوذ به و إنما الضرر كله ممن يتعوذ منه و لو كان سبحانه خالقا للقبائح لكان الضرر كله منه جل و عز و فيه إشارة أيضا إلى أنه سبحانه يراعي حال من يتعوذ به فيكفيه شرورهم و لو لا ذلك لما دعاه إلى التعوذ به من شرورهم و لما وصف سبحانه نفسه بأنه الرب الإله الغني عن الخلق فإن من احتاج إلى غيره لا يكون إلها و من كان غنيا عالما لغناه لا يختار فعل القبيح و لهذا حسنت الاستعاذة به من شر غيره و
روى عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (ع) قال إذا قرأت قل أعوذ برب الفلق فقل في نفسك أعوذ برب الفلق و إذا قرأت قل أعوذ برب الناس قل في نفسك أعوذ برب الناس‏
و
روى العياشي بإسناده عن أبان بن تغلب عن جعفر بن محمد قال قال رسول الله ص أما من مؤمن إلا و لقلبه في صدره أذنان أذن ينفث فيها الملك و أذن ينفث فيها الوسواس الخناس فيؤيد الله المؤمن بالملك و هو قوله سبحانه وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْه‏

870