×
☰ فهرست و مشخصات
مجمع البيان في تفسير القرآن1

(1) سورة فاتحة الكتاب مكية و آياتها سبع(7) ..... ص : 87

الجزء الأول‏

(1) سورة فاتحة الكتاب مكية و آياتها سبع (7)

[توضيح‏]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏

مكية عن ابن عباس و قتادة و مدنية عن مجاهد و قيل أنزلت مرتين مرة بمكة و مرة بالمدينة.

أسماؤها

(فاتحة الكتاب) سميت بذلك لافتتاح المصاحف بكتابتها و لوجوب قراءتها في الصلاة فهي فاتحة لما يتلوها من سور القرآن في الكتاب و القراءة (الحمد) سميت بذلك لأن فيها ذكر الحمد (أم الكتاب) سميت بذلك لأنها متقدمة على سائر سور القرآن و العرب تسمي كل جامع أمر أو متقدم لأمر إذا كانت له توابع تتبعه أما فيقولون أم الرأس للجلدة التي تجمع الدماغ و أم القرى لأن الأرض دحيت من تحت مكة فصارت لجميعها أما و قيل لأنها أشرف البلدان فهي متقدمة على سائرها و قيل سميت بذلك لأنها أصل القرآن و الأم هي الأصل و إنما صارت أصل القرآن لأن الله تعالى أودعها مجموع ما في السور لأن فيها إثبات الربوبية و العبودية و هذا هو المقصود بالقرآن (السبع) سميت بذلك لأنها سبع آيات لا خلاف في جملتها (المثاني) سميت بذلك لأنها تثنى بقراءتها في كل صلاة فرض و نفل و قيل لأنها نزلت مرتين، هذه أسماؤها المشهورة، و قد ذكر في أسمائها (الوافية) لأنها لا تنتصف في الصلاة و (الكافية) لأنها تكفي عما سواها و لا يكفي ما سواها عنها و يؤيد ذلك ما

رواه عبادة بن الصامت عن النبي ص‏ أم القرآن عوض عن غيرها و ليس غيرها عوضا عنها

و (الأساس) لما روي عن ابن عباس أن لكل شي‏ء أساسا و ساق الحديث إلى أن قال و أساس القرآن الفاتحة و أساس الفاتحة بسم الله الرحمن الرحيم و (الشفاء) لما

روي عن النبي ص‏ فاتحة الكتاب شفاء من كل داء

و (الصلاة) لما

روي عن النبي ص قال‏ قال الله تعالى قسمت الصلاة بيني و بين عبدي نصفين نصفها لي و نصفها لعبدي فإذا قال العبد «الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» يقول الله حمدني عبدي فإذا قال‏ «الرَّحْمنِ‏


87
مجمع البيان في تفسير القرآن1

فضلها ..... ص : 88

الرَّحِيمِ» يقول الله أثنى علي عبدي فإذا قال العبد «مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ» يقول الله مجدني عبدي فإذا قال‏ «إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» يقول الله هذا بيني و بين عبدي و لعبدي ما سأل فإذا قال‏ «اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ» إلى آخره قال الله هذا لعبدي ما سأل، أورده مسلم بن الحجاج في الصحيح‏

فهذه عشرة أسماء.

فضلها

ذكر الشيخ أبو الحسين الخبازي المقري في كتابه في القراءة أخبرنا الإمام أبو بكر أحمد بن إبراهيم و الشيخ عبد الله بن محمد قالا حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن شريك قال حدثنا أحمد بن يونس اليربوعي قال حدثنا سلام بن سليمان المدائني قال حدثنا هارون بن كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أبي بن كعب قال قال رسول الله‏ أيما مسلم قرأ فاتحة الكتاب أعطي من الأجر كأنما قرأ ثلثي القرآن و أعطي من الأجر كأنما تصدق على كل مؤمن و مؤمنة و روي من طريق آخر هذا الخبر بعينه إلا أنه قال‏ كأنما قرأ القرآن‏

، و

روي غيره عن أبي بن كعب أنه قال‏ قرأت على رسول الله ص فاتحة الكتاب فقال و الذي نفسي بيده ما أنزل الله في التوراة و لا في الإنجيل و لا في الزبور و لا في القرآن مثلها هي أم الكتاب و هي السبع المثاني و هي مقسومة بين الله و بين عبده و لعبده ما سأل‏

، و

في كتاب محمد بن مسعود العياشي بإسناده أن النبي ص قال لجابر بن عبد الله الأنصاري‏ يا جابر أ لا أعلمك أفضل سورة أنزلها الله في كتابه قال فقال له جابر بلى بأبي أنت و أمي يا رسول الله علمنيها قال فعلمه الحمد أم الكتاب ثم قال يا جابر أ لا أخبرك عنها قال بلى بأبي أنت و أمي فأخبرني فقال هي شفاء من كل داء إلا السام و السام الموت،

و عن سلمة بن محرز عن جعفر بن محمد الصادق قال‏ من لم يبرئه الحمد لم يبرئه شي‏ء

و

روي عن أمير المؤمنين (ع) قال قال رسول الله ص‏ إن الله تعالى قال لي يا محمد وَ لَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ‏ فأفرد الامتنان علي بفاتحة الكتاب و جعلها بإزاء القرآن، و إن فاتحة الكتاب أشرف ما في كنوز العرش و إن الله خص محمدا و شرفه بها و لم يشرك فيها أحدا من أنبيائه ما خلا سليمان فإنه أعطاه منها «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» أ لا تراه يحكي عن بلقيس حين قالت‏ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَ إِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏ ألا فمن قرأها معتقدا لموالاة محمد و آله منقادا لأمرها. مؤمنا بظاهرها و باطنها. أعطاه الله بكل حرف منها حسنة كل واحدة منها أفضل له من الدنيا بما فيها من أصناف أموالها و خيراتها و من استمع إلى قارئ يقرؤها كان له قدر ثلث ما للقارى‏ء فليستكثر أحدكم من هذا الخير المعرض له فإنه غنيمة. لا يذهبن أوانه فتبقى في قلوبكم الحسرة

.


88
مجمع البيان في تفسير القرآن1

الاستعاذة ..... ص : 89

الاستعاذة

اتفقوا على التلفظ بالتعوذ قبل التسمية فيقول ابن كثير و عاصم و أبو عمرو: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) و نافع و ابن عامر و الكسائي: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. إن الله هو السميع العليم،) و حمزة: (نستعيذ بالله من الشيطان الرجيم،) و أبو حاتم (أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم)

. اللغة

الاستعاذة الاستجارة فمعناه أستجير بالله دون غيره و العوذ و العياذ هو اللجأ و [الشيطان‏] في اللغة هو كل متمرد من الجن و الإنس و الدواب و لذلك جاء في القرآن‏ شَياطِينَ الْإِنْسِ وَ الْجِنِ‏ و وزنه فيعال من شطنت الدار أي بعدت و قيل هو فعلان من شاط يشيط إذا بطل و الأول أصح لأنه قد جاء في الشعر شاطن بمعناه قال أمية بن أبي الصلت‏

أيما شاطن عصاه عكاه‏

ثم يلقى في السجن و الأغلال‏

 

و الرجيم فعيل بمعنى مفعول من الرجم و هو الرمي‏

. المعنى‏

أمر الله بالاستعاذة من الشيطان إذ لا يكاد يخلو من وسوسته الإنسان فقال‏ فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ‏، و معنى أعوذ ألجأ إلى الله من شر الشيطان أي البعيد من الخير المفارق أخلاقه أخلاق جميع جنسه و قيل المبعد من رحمة الله (الرجيم) أي المطرود من السماء المرمي بالشهب الثاقبة و قيل المرجوم باللغة (إن الله هو السميع) السميع لجميع المسموعات (العليم) بجميع المعلومات.

[سورة الفاتحة (1): آية 1]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1)

[توضيح‏]

اتفق أصحابنا أنها آية من سورة الحمد و من كل سورة و إن من تركها في الصلاة بطلت صلاته سواء كانت الصلاة فرضا أو نفلا و أنه يجب الجهر بها فيما يجهر فيه بالقراءة و يستحب الجهر بها فيما يخافت فيه بالقراءة و في جميع ما ذكرناه خلاف بين فقهاء الأمة و لا خلاف في أنها بعض آية من سورة النمل و كل من عدها آية جعل من قوله‏ صِراطَ الَّذِينَ‏ إلى آخر السورة آية و من لم يعدها آية جعل‏ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ‏ آية و قال إنها افتتاح للتيمن و التبرك و أما القراء فإن حمزة و خلفا و يعقوب و اليزيدي تركوا الفصل بين السور بالتسمية و الباقون يفصلون بينها بالتسمية إلا بين الأنفال و التوبة.

فضلها

روي عن علي بن موسى الرضا (ع) أنه قال‏ «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» أقرب إلى اسم الله الأعظم من سواد العين إلى بياضها

، و

روي عن ابن عباس عن‏


89
مجمع البيان في تفسير القرآن1

اللغة ..... ص : 90

النبي ص أنه قال‏ إذا قال المعلم للصبي قل‏ «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» فقال الصبي‏ «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» كتب الله براءة للصبي و براءة لأبويه و براءة للمعلم‏

و عن ابن مسعود قال من أراد أن ينجيه الله من الزبانية التسعة عشر فليقرأ «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» فإنها تسعة عشر حرفا ليجعل الله كل حرف منها جنة من واحد منهم و

روي عن الصادق (ع) أنه قال‏ ما لهم قاتلهم الله عمدوا إلى أعظم آية في كتاب الله فزعموا أنها بدعة إذا أظهروها و هي‏ «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ».

اللغة

الاسم مشتق من السمو و هو الرفعة أصله سمو بالواو لأن جمعه أسماء مثل قنو و أقناء. و حنو و أحناء و تصغيره سمي قال الراجز:

(باسم الذي في كل سورة سمه)

 

و سمه أيضا ذكره أبو زيد و غيره و قيل إنه مشتق من الوسم و السمة و الأول أصح لأن المحذوف الفاء نحو صلة و وصل و عدة و وعد لا تدخله همزة الوصل و لأنه كان يجب أن يقال في تصغيره وسيم، كما يقال وعيدة و وصيلة في تصغير عدة و صلة و الأمر بخلافه (الله) اسم لا يطلق إلا عليه سبحانه و تعالى و ذكر سيبويه في أصله قولين (أحدهما) أنه إلاه على وزن فعال فحذفت الفاء التي هي الهمزة و جعلت الألف و اللام عوضا لازما عنها بدلالة استجازتهم قطع هذه الهمزة الداخلة على لام التعريف في القسم و النداء في نحو قوله (أ فالله لتفعلن و يا الله اغفر لي) و لو كانت غير عوض لم تثبت الهمزة في الوصل كما لم تثبت في غير هذا الاسم و القول الآخر أن أصله لاه و وزنه فعل فالحق به الألف و اللام. يدل عليه قول الأعشى:

كحلفة من أبي رباح‏

يسمعها لاهه الكبار

 

و إنما أدخلت عليه الألف و اللام للتفخيم و التعظيم فقط و من زعم أنها للتعريف فقد أخطأ لأن أسماء الله تعالى معارف و الألف من لاه منقلبة عن ياء فأصله إليه كقولهم في معناه لهي أبوك قال سيبويه نقلت العين إلى موضع اللام و جعلت اللام ساكنة إذ صارت في مكان العين كما كانت العين ساكنة و تركوا آخر الاسم الذي هو لهي مفتوحا كما تركوا آخر أن مفتوحا و إنما فعلوا ذلك حيث غيروه لكثرته في كلامهم فغيروا إعرابه كما غيروا بناءه و هذه دلالة قاطعة لظهور الياء في لهي و الألف على هذا القول منقلبة كما ترى‏


90
مجمع البيان في تفسير القرآن1

اللغة ..... ص : 90

و في القول الأول زائدة لأنها ألف فعال و تقول العرب أيضا لاه أبوك تريد لله أبوك قال ذو الإصبع العدواني:

لاه ابن عمك لا أفضلت في حسب‏

عني و لا أنت دياني فتخزوني‏

 

أي تسوسني قال سيبويه حذفوا لام الإضافة و اللام الأخرى و لم ينكر بقاء عمل اللام بعد حذفها فقد حكى سيبويه من قولهم الله لأخرجن يريدون و الله و مثل ذلك كثير يطول الكلام بذكره فأما الكلام في اشتقاقه فمنهم من قال إنه اسم موضع غير مشتق إذ ليس يجب في كل لفظ أن يكون مشتقا لأنه لو وجب ذلك لتسلسل هذا قول الخليل و منهم من قال إنه مشتق ثم اختلفوا في اشتقاقه على وجوه: فمنها أنه مشتق من الألوهية التي هي العبادة و التأله التعبد قال رؤبة:

لله در الغانيات المده‏

سبحان و استرجعن من تألهي‏

 

أي تعبدي و قرأ ابن عباس و يذرك و إلهتك أي عبادتك و يقال أله الله فلان إلاهة كما يقال عبده عبادة فعلى هذا يكون معناه الذي يحق له العبادة و لذلك لا يسمى به غيره و يوصف فيما لم يزل بأنه إله (و منها) أنه مشتق من الوله و هو التحير يقال أله يأله إذا تحير- عن أبي عمرو- فمعناه أنه الذي تتحير العقول في كنه عظمته (و منها) أنه مشتق من قولهم ألهت إلى فلان أي فزعت إليه لأن الخلق يألهون إليه أي يفزعون إليه في حوائجهم فقيل للمألوه آله كما يقال للمؤتم به إمام (و منها) أنه مشتق من ألهت إليه أي سكنت إليه عن المبرد و معناه أن الخلق يسكنون إلى ذكره و منها أنه من لاه أي احتجب فمعناه أنه المحتجب بالكيفية عن الأوهام، الظاهر بالدلائل و الأعلام، «الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» اسمان وضعا للمبالغة، و اشتقا من الرحمة، و هي النعمة، إلا أن فعلان أشد مبالغة من فعيل و حكي عن أبي عبيدة أنه قال: الرحمن ذو الرحمة و الرحيم هو الراحم و كرر لضرب من التأكيد و أما ما روي عن ابن عباس أنهما اسمان رقيقان أحدهما أرق من الآخر فالرحمن الرقيق و الرحيم العطاف على عباده بالرزق و النعم فمحمول على أنه يعود عليهم بالفضل بعد الفضل، و النعمة بعد النعمة، فعبر عن ذلك بالرقة، لأنه لا يوصف بالرقة، و ما حكي عن تغلب أن لفظة الرحمن ليست بعربية و إنما هي ببعض اللغات مستدلا بقوله تعالى‏ «قالُوا وَ مَا الرَّحْمنُ» إنكارا منهم لهذا الاسم فليس بصحيح لأن هذه اللفظة مشهورة عند العرب‏


91
مجمع البيان في تفسير القرآن1

الإعراب ..... ص : 92

موجودة في أشعارها قال الشنفري:

أ لا ضربت تلك الفتاة هجينها

أ لا قضب الرحمن ربي يمينها

 

و قال سلامة بن جندل:

(و ما يشأ الرحمن يعقد و يطلق)

 

. الإعراب‏

«بِسْمِ اللَّهِ» الباء حرف جر أصله الإلصاق و الحروف الجارة موضوعة لمعنى المفعولية أ لا ترى أنها توصل الأفعال إلى الأسماء و توقعها عليها فإذا قلت مررت بزيد أوقعت الباء المرور على زيد فالجالب للباء فعل محذوف نحو ابدأوا بسم الله أو قولوا بسم الله فحمله نصب لأنه مفعول به و إنما حذف الفعل الناصب لأن دلالة الحال أغنت عن ذكره و قيل إن محل الباء رفع على تقدير مبتدإ محذوف و تقديره ابتدائي بسم الله فالباء على هذا متعلقة بالخبر المحذوف الذي قامت مقامه أي ابتدائي ثابت بسم الله أو ثبت ثم حذف هذا الخبر فأفضى الضمير إلى موضع الباء و هذا بمنزلة قولك زيد في الدار و لا يجوز أن يتعلق الباء بابتدائي المضمر لأنه مصدر و إذا تعلقت به صارت من صلته و بقي المبتدأ بلا خبر و إذا سأل عن تحريك الباء مع أن أصل الحروف البناء و أصل البناء السكون فجوابه أنه حرك للزوم الابتداء به و لا يمكن الابتداء بالساكن و إنما حرك بالكسر ليكون حركته من جنس ما يحدثه و إذا لزم كاف التشبيه في كزيد فجوابه أن الكاف لا يلزم الحرفية و قد تكون اسما في نحو قوله (يضحكن عن كالبرد المنهم) فخولف بينه و بين الحروف التي لا تفارق الحرفية و هذا قول أبي عمرو الجرمي و أصحابه فأما أبو علي الحسن بن عبد الغفار الفارسي فقال إنهم لو فتحوا أو ضموا لجاز لأن الغرض التوصل إلى الابتداء فبأي حركة توصل إليه جاز و بعض العرب يفتح هذه الباء و هي لغة ضعيفة و إنما حذفت الهمزة من بسم الله في اللفظ لأنها همزة الوصل تسقط في الدرج و حذفت هاهنا في الخط أيضا لكثرة الاستعمال و لوقوعها في موضع معلوم لا يخاف فيه اللبس و لا تحذف في نحو قوله‏ «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ» لقلة الاستعمال و إنما تغلظ لام الله إذا تقدمته الضمة أو الفتحة تفخيما لذكره، و إجلالا لقدره، و ليكون فرقا بينه و بين ذكر اللات. «اللَّهِ» مجرور بالإضافة و «الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» مجروران لأنهما صفتان لله.

المعنى‏

«بِسْمِ اللَّهِ» قيل المراد به تضمين الاستعانة فتقديره استعينوا بأن تسموا الله بأسمائه الحسنى، و تصفوه بصفاته العلي، و قيل المراد استعينوا بالله و يلتفت إليه قول أبي عبيدة أن الاسم صلة و المراد هو الله كقول لبيد:


92
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 92

 

إلى الحول ثم اسم السلام عليكما

و من يبك حولا كاملا فقد اعتذر

 

أي ثم السلام عليكما و الاسم قد يوضع موضع المسمى لما كان المعلق على الاسم ذكرا أو خطابا معلقا على المسمى تقول رأيت زيدا فتعلق الرؤية على الاسم و في الحقيقة تعلقها بالمسمى فإن الاسم لا يرى فحسن إقامة الاسم مقام المسمى و قيل المراد به أبتدأ بتسمية الله فوضع الاسم موضع المصدر كما يقال أكرمته كرامة أي إكراما و أهنته هوانا أي إهانة و منه قول الشاعر:

أ كفرا بعد رد الموت عني‏

و بعد عطائك المائة الرتاعا

 

أي بعد إعطائك، و قال الآخر:

فإن كان هذا البخل منك سجية

لقد كنت في طولي رجائك أشعبا

 

أراد في إطالتي رجائك فعلى هذا يكون تقدير الكلام ابتداء قراءتي بتسمية الله أو أقرأ مبتدئا بتسمية الله و هذا القول أولى بالصواب لأنا إنما أمرنا بأن نفتتح أمورنا بتسمية الله لا بالخبر عن كبريائه و عظمته كما أمرنا بالتسمية على الأكل و الشرب و الذبائح أ لا ترى أن الذابح لو قال بالله و لم يقل باسم الله لكان مخالفا لما أمر به و معنى الله و الإله أنه الذي تحق له العبادة و إنما تحق له العبادة لأنه قادر على خلق الأجسام و إحيائها و الإنعام عليها بما يستحق به العبادة و هو تعالى إله للحيوان و الجماد لأنه قادر على أن ينعم على كل منهما بما معه يستحق العبادة فأما من قال معنى الإله المستحق للعبادة يلزمه أن لا يكون إلها في الأزل لأنه لم يفعل الإنعام الذي يستحق به العبادة و هذا خطأ و إنما قدم الرحمن على الرحيم لأن الرحمن بمنزلة اسم العلم من حيث لا يوصف به إلا الله فوجب لذلك تقديمه بخلاف الرحيم لأنه يطلق عليه و على غيره و

روى أبو سعيد الخدري عن النبي ص‏ أن عيسى بن مريم قال الرحمن رحمن الدنيا و الرحيم رحيم الآخرة

و عن بعض التابعين قال الرحمن بجميع الخلق و الرحيم بالمؤمنين خاصة و وجه عموم الرحمن بجميع الخلق مؤمنهم و كافرهم و برهم و فاجرهم هو إنشاؤه إياهم و خلقهم أحياء قادرين و رزقه إياهم و وجه خصوص الرحيم بالمؤمنين هو ما فعله بهم في الدنيا من التوفيق‏


93
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة الفاتحة(1): آية 2] ..... ص : 94

و في الآخرة من الجنة و الإكرام، و غفران الذنوب و الآثام، و إلى هذا المعنى يؤول ما

روي عن الصادق ع أنه قال‏ الرحمن اسم خاص بصفة عامة و الرحيم اسم عام بصفة خاصة

و عن عكرمة قال الرحمن برحمة واحدة و الرحيم بمائة رحمة و هذا المعنى قد اقتبسه من‏

قول الرسول‏ أن لله عز و جل مائة رحمة و أنه أنزل منها واحدة إلى الأرض فقسمها بين خلقه بها يتعاطفون و يتراحمون و أخر تسعا و تسعين لنفسه يرحم بها عباده يوم القيامة

و

روي‏ أن الله قابض هذه إلى تلك فيكملها مائة يرحم بها عباده يوم القيامة.

[سورة الفاتحة (1): آية 2]

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2)

القراءة

أجمع القراء على ضم الدال من الحمد و كسر اللام من لله و روي في الشواذ بكسر الدال و اللام. و بفتح الدال و كسر اللام. و بضم الدال و اللام. و أجمعوا على كسر الباء من‏ «رَبِّ». و روي عن زيد بن علي نصب الباء و يحمل على أنه بين جوازه لا إنه قراءة.

اللغة

الحمد و المدح و الشكر متقاربة المعنى و الفرق بين الحمد و الشكر أن الحمد نقيض الذم كما أن المدح نقيض الهجاء. و الشكر نقيض الكفران. و الحمد قد يكون من غير نعمة و الشكر يختص بالنعمة إلا أن الحمد يوضع موضع الشكر و يقال الحمد لله شكرا فينصب شكرا على المصدر و لو لم يكن الحمد في معنى الشكر لما نصبه فإذا كان الحمد يقع موقع الشكر فالشكر هو الاعتراف بالنعمة مع ضرب من التعظيم و يكون بالقلب و هو الأصل و يكون أيضا باللسان و إنما يجب باللسان لنفي تهمة الجحود و الكفران و أما المدح فهو القول المنبئ عن عظم حال الممدوح مع القصد إليه (و أما الرب) فله معان (منها) السيد المطاع كقول لبيد:

و أهلكن قدما رب كندة و ابنه‏

و رب معد بين خبت و عرعر

 

أي سيد كندة (و منها) المالك نحو

قول النبي لرجل‏ أ رب غنم أم رب إبل فقال من كل ما آتاني الله فأكثر و أطيب.

(و منها) الصاحب نحو قول أبي ذؤيب:


94
مجمع البيان في تفسير القرآن1

الإعراب ..... ص : 95

 

قد ناله رب الكلاب بكفه‏

بيض رهاب ريشهن مقزع‏

 

أي صاحب الكلاب (و منها) المربب (و منها) المصلح و اشتقاقه من التربية يقال ربيته و رببته بمعنى و فلان يرب صنيعته إذا كان ينممها و لا يطلق هذا الاسم إلا على الله و يقيد في غيره فيقال رب الدار و رب الضيعة و (العالمون) جمع عالم و العالم جمع لا واحد له من لفظه كالنفر و الجيش و غيرهما و اشتقاقه من العلامة لأنه يدل على صانعه و قيل أنه من العلم لأنه اسم يقع على ما يعلم و هو في عرف اللغة عبارة عن جماعة من العقلاء لأنهم يقولون جاءني عالم من الناس و لا يقولون جاءني عالم من البقر و في المتعارف بين الناس هو عبارة عن جميع المخلوقات و تدل عليه الآية «قالَ فِرْعَوْنُ وَ ما رَبُّ الْعالَمِينَ قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُمَا» و قيل أنه اسم لكل صنف من الأصناف و أهل كل قرن من كل صنف يسمى عالما و لذلك جمع فقيل عالمون لعالم كل زمان و هذا قول أكثر المفسرين كابن عباس و سعيد بن جبير و قتادة و غيرهم و قيل العالم نوع ما يعقل و هم الملائكة و الجن و الإنس و قيل الجن و الإنس لقوله تعالى: «لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً» و قيل هم الإنس لقوله تعالى: «أَ تَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ».

الإعراب‏

«الْحَمْدُ» رفع بالابتداء و الابتداء عامل معنوي غير ملفوظ به و هو خلو الاسم عن العوامل اللفظية ليسند إليه خبر و خبره في الأصل جملة هي فعل مسند إلى ضمير المبتدأ و تقديره الحمد حق أو استقر لله إلا أنه قد استغنى عن ذكرها لدلالة قوله‏ «لِلَّهِ» عليها فانتقل الضمير منها إليه حيث سد مسدها و تسمى هذه جملة ظرفية هذا قول الأخفش و أبي علي الفارسي و أصل اللام للتحقيق و الملك، و أما من نصب الدال فعلى المصدر تقديره أحمد الحمد لله أو اجعل الحمد لله إلا أن الرفع بالحمد أقوى و أمدح لأن معناه الحمد وجب لله أو استقر لله و هذا يقتضي العموم لجميع الخلق و إذا نصب الحمد فكان تقديره أحمد الحمد كان مدحا من المتكلم فقط فلذلك اختير الرفع و من كسر الدال و اللام أتبع حركة الدال حركة اللام و من ضمهما أتبع حركة اللام حركة الدال و هذا أيسر من الأول لأنه اتبع حركة المبني حركة الإعراب و الأول اتبع حركة المعرب حركة البناء و اتبع الثاني الأول و هو الأصل في الاتباع و الذي كسر أتبع الأول الثاني و هذا ليس بأصل و أكثر النحويين ينكرون ذلك لأن حركة الإعراب غير لازمة فلا يجوز لأجلها الاتباع و لأن الاتباع‏


95
مجمع البيان في تفسير القرآن1

الإعراب ..... ص : 95

في الكلمة الواحدة ضعيف نحو الحلم فكيف في الكلمتين و قال أبو الفتح بن جني في كسر الدال و ضم اللام هنا دلالة على شدة ارتباط المبتدأ بالخبر لأنه اتبع فيهما ما في أحد الجزءين ما في الجزء الآخر و جعل بمنزلة الكلمة الواحدة نحو قولك أخوك و أبوك و أصل هذه اللام الفتح لأن الحرف الواحد لا حظ له في الإعراب و لكنه يقع مبتدأ في الكلام و لا يبتدأ بساكن فاختير له الفتح لأنه أخف الحركات تقول رأيت زيدا و عمرا قالوا و من عمرا- مفتوحة- و كذلك الفاء من فعمرا إلا أنهم كسروها لأنهم أرادوا أن يفرقوا بين لام الملك و لام التوكيد إذا قلت أن المال لهذا أي في ملكه و أن المال لهذا أي هو هو و إذا أدخلوا هذه اللام على مضمر ردوها إلى أصلها و هو الفتح قالوا لك و له لأن اللبس قد ارتفع و ذلك لأن ضمير الجر مخالف لضمير الرفع إذا قلت أن هذا لك و أن هذا لأنت إلا أنهم كسروها مع ضمير المتكلم نحو لي لأن هذه الياء لا يكون ما قبلها إلا مكسورا نحو غلامي و فرسي و هذا كله قول سيبويه و جميع النحويين المحققين و ليس من الحروف المبتدأ بها مما هو على حرف واحد حرف مكسور إلا الباء وحدها و قد مضى القول فيه و أما لام الجزم في ليفعل فإنما كسرت ليفرق بينها و بين لام التوكيد نحو ليفعل فاعلم و «رَبِّ الْعالَمِينَ» مجرور على الصفة و العامل في الصفة عند أبي الحسن الأخفش كونه صفة فذلك الذي يرفعه و ينصبه و يجره و هو عامل معنوي كما أن المبتدأ إنما رفعه الابتداء و هو معنى عمل فيه و استدل على أن الصفة لا يعمل فيه ما يعمل في الموصوف بأنك تجد في الصفات ما يخالف الموصوف في إعرابه نحو أيا زيد العاقل لأن المنادى مبني و العاقل الذي هو صفته معرب و دليل ثان و هو أن في هذه التوابع ما يعرب بإعراب ما يتبعه و لا يصح أن يعمل فيه ما يعمل في موصوفة و ذلك نحو أجمع و جمع و جمعاء و لما صح وجوب هذا فيها دل على أن الذي يعمل في الموصوف غير عامل في الصفة لاجتماعهما في أنهما تابعان و قال غيره من النحويين العامل في الموصوف هو العامل في الصفة و من نصب‏ «رَبِّ الْعالَمِينَ» فإنما ينصبه على المدح و الثناء كأنه لما قال‏ «الْحَمْدُ لِلَّهِ» استدل بهذا اللفظ على أنه ذاكر لله فكأنه قال اذكر رب العالمين فعلى هذا لو قرئ في غير القرآن رب العالمين مرفوعا على المدح أيضا لكان جائزا على معنى هو رب العالمين قال الشاعر:

لا يبعدن قومي الذين هم‏

سم العداة و آفة الجزر

 

النازلين بكل معترك‏

و الطيبون معاقد الأزر

 


96
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 97

و قد روي النازلون و النازلين و الطيبون و الطيبين و الوجه في ذلك ما ذكرناه و «الْعالَمِينَ» مجرور بالإضافة و الياء فيه علامة الجر و حرف الإعراب و علامة الجمع و النون هنا عوض عن الحركة في الواحد و إنما فتحت فرقا بينها و بين نون التثنية تقول هذا عالمان فتكسر نون الاثنين لالتقاء الساكنين و قيل إنما فتحت نون الجمع و حقها الكسر لثقل الكسرة بعد الواو كما فتحت الفاء من سوف و النون من أين و لم تكسر لثقل الكسرة بعد الواو و الياء.

المعنى‏

معنى الآية أن الأوصاف الجميلة و الثناء الحسن كلها لله الذي تحق له العبادة لكونه قادرا على أصول النعم و فاعلا لها و لكونه منشئا للخلق و مربيا لهم و مصلحا لشأنهم، و في الآية دلالة على وجوب الشكر لله على نعمه و فيها تعليم للعباد كيف يحمدونه.

[سورة الفاتحة (1): آية 3]

الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3)

[توضيح‏]

قد مضى تفسيرها و إنما أعاد ذكر الرحمن و الرحيم للمبالغة و قال علي بن عيسى الرماني في الأول ذكر العبودية فوصل ذلك بشكر النعم التي بها يستحق العبادة و هاهنا ذكر الحمد فوصله بذكر ما به يستحق الحمد من النعم فليس فيه تكرار ..

[سورة الفاتحة (1): آية 4]

مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)

الحجة

اختلفوا في أن أي القراءتين أمدح فمن قرأ «مالِكِ» قال إن هذه الصفة أمدح لأنه لا يكون مالكا للشي‏ء إلا و هو يملكه و قد يكون ملكا للشي‏ء و لا يملكه كما يقال ملك العرب و ملك الروم و إن كان لا يملكهم و قد يدخل في المالك ما لا يصح دخوله في الملك يقال فلان مالك الدراهم و لا يقال ملك الدراهم فالوصف بالمالك أعم من الوصف بالملك. و الله مالك كل شي‏ء و قد وصف نفسه بأنه «مالك الملك يؤتي الملك من يشاء» فوصفه بالمالك أبلغ في الثناء و المدح من وصفه بالملك و من قرأ الملك قال أن هذه الصفة أمدح لأنه لا يكون إلا مع التعظيم و الاحتواء على الجمع الكثير و اختاره أبو بكر محمد بن السري السراج و قال أن الملك الذي يملك الكثير من الأشياء و يشارك غيره من الناس في ملكه بالحكم عليه و كل ملك مالك و ليس كل مالك ملكا و إنما قال تعالى‏ «مالِكَ الْمُلْكِ» لأنه تعالى يملك ملوك الدنيا و ما ملكوا فمعناه أنه يملك ملك الدنيا فيؤتي الملك فيها من يشاء فأما يوم الدين فليس إلا ملكه و هو ملك الملوك‏


97
مجمع البيان في تفسير القرآن1

اللغة ..... ص : 98

يملكهم كلهم و قد يستعمل هذا في الناس يقال فلان ملك الملوك و أمير الأمراء و يراد بذلك أن من دونه ملوكا و أمراء و لا يقال ملك الملك و لا أمير الإمارة لأن أميرا و ملكا صفة غير جارية على فعل فلا معنى لإضافتها إلى المصدر فأما إضافة ملك إلى الزمان فكما يقال ملك عام كذا و ملوك الدهر الأول و ملك زمانه و سيد زمانه فهو في المدح أبلغ و الآية إنما نزلت في الثناء و المدح لله أ لا ترى إلى قوله‏ رَبِّ الْعالَمِينَ‏ و الربوبية و الملك متشابهان و قال أبو علي الفارسي يشهد لمن قرأ «مالِكِ» من التنزيل قوله تعالى‏ «وَ الْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ» لأن قولك الأمر له و هو مالك الأمر بمعنى أ لا ترى أن لام الجر معناها الملك و الاستحقاق و كذلك قوله تعالى: «يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً» يقوي ذلك و يشهد لقراءة من قرأ ملك قوله تعالى: «لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ» لأن اسم الفاعل من الملك الملك فإذا قال الملك له ذات اليوم كان بمنزلة قوله هو ملك ذلك اليوم و هذا مع قوله‏ فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُ‏ و الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ‏ و مَلِكِ النَّاسِ‏.

اللغة

(الملك) القادر الواسع المقدرة الذي له السياسة و التدبير (و المالك) القادر على التصرف في ماله و له أن يتصرف فيه على وجه ليس لأحد منعه منه و يوصف العاجز بأنه مالك من جهة الحكم يقال ملك بين الملك بضم الميم و مالك بين الملك و الملك بكسر الميم و فتحها و ضم الميم لغة شاذة و يقال طالت مملكتهم الناس و مملكتهم بكسر اللام و فتحها و لي في هذا الوادي ملك و ملك و ملك ذكرها أبو علي الفارسي و قال الملك للشي‏ء اختصاص من المالك به و خروجه من أن يكون مباحا لغيره و معنى الإباحة في الشي‏ء كالاتساع فيه و خلاف الحصر و القصر على الشي‏ء أ لا تراهم قالوا باح السر و باحت الدار و قال أبو بكر محمد بن السري السراج الملك و الملك يرجعان إلى أصل واحد و هو الربط و الشد كما قالوا ملكت العجين أي شددته قال الشاعر:

ملكت بها كفي فأنهرت فتقها

يرى قائم من دونها ما وراءها

 

يقول شددت بهذه الطعنة كفي و منه الأملاك و معناه رباط الرجل بالمرأة و (الدين) معناه في الآية الجزاء قال الشاعر

(و اعلم بأنك ما تدين تدان)

 

و هو قول سعيد بن جبير و قتادة و قيل‏

الدين الحساب‏ و هو المروي عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر ع‏


98
مجمع البيان في تفسير القرآن1

الإعراب ..... ص : 99

و ابن عباس و الدين الطاعة قال عمرو بن كلثوم:

و أيام لنا غر طوال‏

عصينا الملك فيها أم ندينا

 

و الدين العادة قال الشاعر:

تقول إذا درأت لها وضيني‏

أ هذا دينه أبدا و ديني‏

 

و الدين القهر و الاستعلاء قال الأعشى:

هو دان الرباب إذ كرهوا الدين‏

دراكا بغزوة و احتيال‏

 

ثم دانت بعد الرباب و كانت‏

كعذاب عقوبة الأقوال‏

 

و يدل على أن المراد به الجزاء و الحساب قوله تعالى: «الْيَوْمَ تُجْزى‏ كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ‏ و هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ».

الإعراب‏

«مالِكِ» مجرور على الوصف لله تعالى و ما جاء من النصب فعلى ما ذكرناه من نصب‏ «رَبِّ الْعالَمِينَ» و يجوز أن ينصب‏ «رَبِّ الْعالَمِينَ» و «مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ» على النداء كأنك قلت لك الحمد يا رب العالمين و يا مالك يوم الدين و من قرأ ملك يوم الدين بإسكان اللام فأصله ملك فخفف كما يقال فخذ و فخذ و من قرأ ملك يوم الدين جعله فعلا ماضيا و يوم مجرور بإضافة ملك أو مالك إليه و كذلك الدين مجرور بإضافة يوم إليه و هذه الإضافة من باب يا سارق الليلة أهل الدار اتسع في الظرف فنصب نصب المفعول به ثم أضيف إليه على هذا الحد كما قال الشاعر أنشده سيبويه:

و يوم شهدناه سليما و عامرا

قليل سوى الطعن النهال نوافله‏

 

فكأنه قال هو ملك ذلك اليوم و لا يؤتي أحدا الملك فيه كما آتاه في الدنيا فلا ملك يومئذ غيره و من قرأ «مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ» فإنه قد حذف المفعول به من الكلام للدلالة عليه و تقديره مالك يوم الدين الأحكام و القضاء لا يملك ذلك و لا يليه سواه [أي لا يكون أحد واليا سواه‏] إنما خص يوم الدين بذلك لتفرده تعالى بذلك في ذلك اليوم و جميع‏


99
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 100

الخلق يضطرون إلى الإقرار و التسليم و أما الدنيا فليست كذلك فقد يحكم فيها ملوك و رؤساء و ليست هذه الإضافة مثل قوله تعالى‏ وَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ لأن الساعة مفعول بها على الحقيقة و ليست مفعولا بها على السعة لأن الظرف إذا جعل مفعولا على السعة فمعناه معنى الظرف و لو كانت الساعة ظرفا لكان المعنى يعلم في الساعة و ذلك لا يجوز لأنه تعالى يعلم في كل وقت و المعنى أنه يعلم الساعة أي يعرفها.

المعنى‏

أنه سبحانه لما بين ملكه في الدنيا بقوله‏ «رَبِّ الْعالَمِينَ» بين أيضا ملكه في الآخرة بقوله‏ «مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ» و أراد باليوم الوقت و قيل أراد به امتداد الضياء إلى أن يفرغ من القضاء و يستقر أهل كل دار فيها و قال أبو علي الجبائي أراد به يوم الجزاء على الدين و قال محمد بن كعب أراد يوم لا ينفع إلا الدين و إنما خص يوم القيامة بذكر الملك فيه تعظيما لشأنه و تفخيما لأمره كما قال رب العرش و هذه الآية دالة على إثبات المعاد و على الترغيب و الترهيب لأن المكلف إذا تصور ذلك لا بد أن يرجو و يخاف.

[سورة الفاتحة (1): آية 5]

إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)

اللغة

العبادة في اللغة هي الذلة يقال طريق معبد أي مذلل بكثرة الوطء قال طرفة:

تباري عتاقا ناجيات و أتبعت‏

وظيفا وظيفا فوق مور معبد

 

و بعير معبد إذا كان مطليا بالقطران و سمي العبد عبدا لذلته و انقياده لمولاه و الاستعانة طلب المعونة يقال استعنته و استعنت به.

الإعراب‏

قال أبو إسحاق إبراهيم بن السري الزجاج موضع‏ «إِيَّاكَ» نصب بوقوع الفعل عليه و موضع الكاف في إياك خفض بإضافة إيا إليها و إيا اسم للضمير المنصوب إلا أنه ظاهر يضاف إلى سائر المضمرات نحو قولك إياك ضربت و إياه ضربت و إياي حدثت و لو قلت إيا زيد حدثت كان قبيحا لأنه خص به المضمر و قد روى الخليل عن العرب إذا بلغ الرجل الستين فإياه و إيا الشواب و هذا كلام الزجاج و رد عليه الشيخ أبو علي الفارسي فقال إن إيا ليس بظاهر بل هو مضمر يدل على ذلك تغير ذاته و امتناع ثباته في حال الرفع و الجر و ليس كذلك الاسم الظاهر أ لا ترى أنه يعتقب عليه الحركات في آخره و يحكم له بها في موضعه من غير تغير نفسه فمخالفته للمظهر فيما وصفناه يدل على أنه مضمر ليس‏


100
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 101

بمظهر قال و حكى السراج عن المبرد عن أبي الحسن الأخفش أنه اسم مفرد مضمر يتغير آخره كما تتغير أواخر المضمرات لاختلاف أعداد المضمرين و الكاف في إياك كالتي في ذلك و هي دالة على الخطاب فقط مجردة عن كونها علامة للمضمر فلا محل لها من الإعراب و أقول و هكذا الحكم في إياي و إيانا و إياه و إياها في أنها حروف تلحق إيا فالياء في إياي دليل على التكلم و الهاء في إياه تدل على الغيبة لا على نفس الغائب و يجري التأكيد على إيا منصوبا تقول إياك نفسك رأيت و إياه نفسه ضربت و إياهم كلهم عنيت فاعرفه و لا يجيز أبو الحسن إياك و إيا زيد و يستقل روايتهم عن العرب إذا بلغ الرجل الستين فإياه و إيا الشواب و يحمله على الشذوذ لأن الغرض في الإضافة التخصيص و المضمر على نهاية التخصيص فلا وجه إذا لإضافته و الأصل في نستعين نستعون لأنه من المعونة و العون لكن الواو قلبت ياء لثقل الكسرة عليها فنقلت كسرتها إلى العين قبلها فتصير الياء ساكنة لأن هذا من الإعلال الذي يتبع بعضه بعضا نحو أعان يعين و قام يقوم و في شرحه كلام و ربما يأتي مشروحا فيما بعد إن شاء الله و قوله نعبد و نستعين مرفوع لوقوعه موقعا يصلح للاسم أ لا ترى أنك لو قلت أنا عابدك و أنا مستعينك لقام مقامه و هذا المعنى عمل فيه الرفع و أما الإعراب في الفعل المضارع فلمضارعته الاسم لأن الأصل في الفعل البناء و إنما يعرب منه ما شابه الأسماء و هو ما لحقت أوله زيادة من هذه الزيادات الأربع التي هي الهمزة و النون و التاء و الياء.

المعنى‏

قوله تعالى: «إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» أدل على الاختصاص من أن نقول نعبدك و نستعينك لأن معناه نعبدك و لا نعبد سواك و نستعينك و لا نستعين غيرك كما إذا قال الرجل إياك أعني فمعناه لا أعني غيرك و يكون أبلغ من أن يقول أعنيك و العبادة ضرب من الشكر و غاية فيه لأنها الخضوع بأعلى مراتب الخضوع مع التعظيم بأعلى مراتب التعظيم و لا يستحق إلا بأصول النعم التي هي خلق الحياة و القدرة و الشهوة و لا يقدر عليه غير الله تعالى فلذلك اختص سبحانه بأن يعبد و لا يستحق بعضنا على بعض العبادة كما يستحق بعضنا على بعض الشكر و تحسن الطاعة لغير الله تعالى و لا تحسن العبادة لغيره و قول من قال أن العبادة هي الطاعة للمعبود يفسد بأن الطاعة موافقة الأمر و قد يكون موافقا لأمره و لا يكون عابدا له أ لا ترى أن الابن يوافق أمر الأب و لا يكون عابدا له و كذلك العبد يطيع مولاه و لا يكون عابدا له بطاعته إياه و الكفار يعبدون الأصنام و لا يكونون مطيعين لهم إذ لا يتصور من جهتهم الأمر و معنى قوله‏ «إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» إياك نستوفق و نطلب المعونة على عبادتك و على أمورنا كلها و التوفيق هو أن يجمع بين جميع الأسباب التي يحتاج إليها في‏


101
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 101

حصول الفعل و لهذا لا يقال فيمن أعان غيره وفقه لأنه لا يقدر أن يجمع بين جميع الأسباب التي يحتاج إليها في حصول الفعل و أما تكرار قوله‏ «إِيَّاكَ» فلأنه لو اقتصر على واحد ربما توهم متوهم أنه لا يتقرب إلى الله تعالى إلا بالجمع بينهما و لا يمكنه أن يفصل بينهما و هو إذا تفكر في عظمة الله تعالى كان عبادة و إن لم يستعن به و قيل أنه جمع بينهما للتأكيد كما يقال الدار بين زيد و بين عمرو و لو اقتصر على واحد فقيل بين زيد و عمرو كان جائزا قال عدي بن زيد:

و جاعل الشمس مصرا لا خفاء به‏

بين النهار و بين الليل قد فصلا

 

و قال أعشى همدان:

بين الأشج و بين قيس باذخ‏

بخ بخ لوالده و للمولود

 

و هذا القول فيه نظر لأن التكرير إنما يكون تأكيدا إذا لم يكن محمولا على فعل ثان و «إِيَّاكَ» الثاني في الآية محمول على‏ «نَسْتَعِينُ» و مفعول له فكيف يكون تأكيدا و قيل أيضا أنه تعليم لنا في تجديد ذكره تعالى عند كل حاجة فإن قيل أن عبادة الله تعالى لا تتأتى بغير إعانة منه فكان يجب أن يقدم الاستعانة على العبادة فالجواب أنه قدم العبادة على الاستعانة لا على الإعانة و قد تأتي بغير استعانة و أيضا فإن أحدهما إذا كان مرتبطا بالآخر لم يختلف التقديم و التأخير كما يقال قضيت حقي فأحسنت إلي و أحسنت إلي فقضيت حقي و قيل أن السؤال للمعونة إنما يقع على عبادة مستأنفة لا على عبادة واقعة منهم و إنما حسن طلب المعونة و إن كان لا بد منها مع التكليف على وجه الانقطاع إليه تعالى كقوله‏ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِ‏ و لأنه ربما لا يكون اللطف في إدامة التكليف و لا في فعل المعونة به إلا بعد تقديم الدعاء من العبد و قد أخطأ من استدل بهذه الآية على أن القدرة مع الفعل من حيث أن القدرة لو كانت متقدمة لما كان لطلب المعونة وجه لأن للرغبة إلى الله تعالى في طلب المعونة وجهين أحدهما أن يسأل الله تعالى من ألطافه و ما يقوي دواعيه و يسهل الفعل عليه ما ليس بحاصل و متى لطف له بأن يعلمه أن له في فعله الثواب العظيم زاد ذلك في نشاطه و رغبته و الثاني أن يطلب بقاء كونه قادرا على طاعته المستقبلة بأن تجدد له القدرة حالا بعد حال عند من لا يقول ببقائها و أن لا يفعل ما يضادها و ينفيها عند من قال ببقائها و أما العدول عن الخبر إلى الخطاب في قوله‏ «إِيَّاكَ نَعْبُدُ» إلى آخر السورة فعلى عادة العرب المشهورة و أشعارهم من ذلك مملوءة قال لبيد:

باتت تشكي إلي النفس مجهشة

و قد حملتك سبعا بعد سبعينا

 


102
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة الفاتحة(1): آية 6] ..... ص : 103

و قال أبو كثير الهذلي:

يا لهف نفسي كان جدة خالد

و بياض وجهك للتراب الأعفر

 

فرجع من الإخبار عن النفس إلى مخاطبتها في البيت الأول و من الإخبار عن خالد إلى خطابه في البيت الثاني و قال الكسائي تقديره قولوا إياك نعبد أو قل يا محمد هذا كما قال الله تعالى‏ «وَ لَوْ تَرى‏ إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا» و قال‏ «وَ الْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ» أي يقولون سلام.

[سورة الفاتحة (1): آية 6]

اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)

القراءة

قرأ حمزة بإشمام الصاد الزاي إلا العجلي و برواية خلاد و ابن سعدان يشم هاهنا في الموضعين فقط و قرأ الكسائي من طريق أبي حمدون بإشمام السين و يعقوب من طريق رويس بالسين و الباقون بالصاد.

الحجة

الأصل في الصراط السين لأنه مشتق من السرط و مسترط الطعام ممره و منه قولهم سرطراط و الأصل سريط فمن قرأ بالسين راعى الأصل و من قرأ بالصاد فلما بين الصاد و الطاء من المؤاخاة بالاستعلاء و الإطباق و لكراهة أن يتسفل بالسين ثم يتصعد بالطاء في السراط و إذا كانوا قد أبدلوا من السين الصاد مع القاف في صقب و صويق ليجعلوها في استعلاء القاف مع بعد القاف من السين و قرب الطاء منها فأن يبدلوا منها الصاد مع الطاء أجدر من حيث كان الصاد إلى الطاء أقرب أ لا ترى أنهما جميعا من حروف طرف اللسان و أصول الثنايا و أن الطاء تدغم في الصاد و من قرأ بإشمام الزاي فللمؤاخاة بين السين و الطاء بحرف مجهور من مخرج السين و هو الزاي من غير إبطال الأصل.

اللغة

الهداية في اللغة الإرشاد و الدلالة على الشي‏ء يقال لمن يتقدم القوم و يدلهم على الطريق هاد خريت أي دال مرشد قال طرفة:

للفتى عقل يعيش به‏

حيث تهدي ساقه قدمه‏

 

و الهداية التوفيق قال:

فلا تعجلن هداك المليك‏

فإن لكل مقام مقالا

 

أي وفقك و الصراط الطريق الواضح المتسع و سمي بذلك لأنه يسرط المارة أي‏


103
مجمع البيان في تفسير القرآن1

الإعراب ..... ص : 104

يبتلعها و المستقيم المستوي الذي لا اعوجاج فيه قال جرير:

أمير المؤمنين على صراط

إذا أعوج الموارد مستقيم‏

 

. الإعراب‏

«اهْدِنَا» مبني على الوقف و فاعله الضمير المستكن فيه لله تعالى و الهمزة مكسورة لأن ثالث المضارع منه مكسور و موضع النون و الألف من اهدنا نصب لأنه مفعول به و الصراط منصوب لأنه مفعول ثان.

المعنى‏

قيل في معنى‏ «اهْدِنَا» وجوه (أحدها) أن معناه ثبتنا على الدين الحق لأن الله تعالى قد هدى الخلق كلهم إلا أن الإنسان قد يزل و ترد عليه الخواطر الفاسدة فيحسن أن يسأل الله تعالى أن يثبته على دينه و يديمه عليه و يعطيه زيادات الهدى التي هي إحدى أسباب الثبات على الدين كما قال الله تعالى‏ «وَ الَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً» و هذا كما يقول القائل لغيره و هو يأكل كل أي دم على الأكل (و ثانيها) أن الهداية هي الثواب لقوله تعالى: يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ‏ فصار معناه اهدنا إلى طريق الجنة ثوابا لنا و يؤيده قوله‏ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا (و ثالثها) أن المراد دلنا على الدين الحق في مستقبل العمر كما دللتنا عليه في الماضي و يجوز الدعاء بالشي‏ء الذي يكون حاصلا كقوله تعالى:

قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِ‏ و قوله حكاية عن إبراهيم ع: وَ لا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ‏ و ذلك أن الدعاء عبادة و فيه إظهار الانقطاع إلى الله تعالى فإن قيل ما معنى المسألة في ذلك و قد فعله الله بجوابه أنه يجوز أن يكون لنا في الدعاء به مصلحة في ديننا و هذا كما تعبدنا بأن نكرر التسبيح و التحميد و الإقرار لربنا عز اسمه بالتوحيد و إن كنا معتقدين لجميع ذلك و يجوز أن يكون الله تعالى يعلم أن أشياء كثيرة تكون أصلح لنا إذا سألناه و إذا لم نسأله لا تكون مصلحة فيكون ذلك وجها في حسن المسألة و يجوز أن يكون المراد استمرار التكليف و التعريض للثواب لأن إدامته ليس بواجب بل هو تفضل محض فجاز أن يرغب إليه فيه بالدعاء و قيل في معنى‏ «الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ» وجوه.

(أحدها)

أنه كتاب الله‏ و هو المروي عن النبي ص و عن علي ع‏

و ابن مسعود (و ثانيها) أنه الإسلام و هو المروي عن جابر و ابن عباس (و ثالثها) أنه دين الله الذي لا يقبل من العباد غيره عن محمد بن الحنفية (و الرابع)

أنه النبي ص و الأئمة القائمون مقامه‏ و هو المروي في أخبارنا

و الأولى حمل الآية على العموم حتى يدخل جميع ذلك فيه لأن الصراط المستقيم هو الدين الذي أمر الله به من التوحيد و العدل و ولاية من أوجب الله طاعته.


104
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة الفاتحة(1): آية 7] ..... ص : 105

[سورة الفاتحة (1): آية 7]

صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لا الضَّالِّينَ (7)

القراءة

قرأ حمزة عليهم بضم الهاء و إسكان الميم و كذلك لديهم و إليهم و قرأ يعقوب بضم كل هاء قبلها ياء ساكنة في التثنية و الجمع المذكر و المؤنث نحو عليهما و فيهما و عليهم و فيهم و عليهن و فيهن و قرأ الباقون‏ «عَلَيْهِمْ» و أخواتها بالكسر و قرئ في الشواذ عليهموا قراءة ابن أبي إسحاق و عيسى الثقفي و عليهمي قراءة الحسن البصري و عمر بن قايد و عليهم مكسورة الهاء مضمومة الميم بغير واو و عليهم مضمومة الهاء و الميم من غير بلوغ واو مرويتان عن الأعرج فهذه سبع قراءات ثم اختلف القراء في الميم فأهل الحجاز وصلوا الميم بواو انضمت الهاء قبلها أو انكسرت قالوا عليهموا و على قلوبهموا و على سمعهموا و منهموا و لهموا إلا أن نافعا اختلف عنه فيه و الباقون بسكون الميم فأما إذا لقي الميم حرف ساكن فإن القراء اختلفوا فأهل الحجاز و عاصم و ابن عامر يضمون على كسر الهاء و يضمون الميم نحو عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ و مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ‏ و أبو عمرو يكسر الهاء و الميم و حمزة و الكسائي يضمان الهاء و الميم معا و كل هذا الاختلاف في الهاء التي قبلها كسرة أو ياء ساكنة فإذا جاوزت هذين الأمرين لم يكن في الهاء إلا الضم و قرأ صراط من أنعمت عليهم عمر بن الخطاب و عمرو بن عبد الله الزبيري و روي ذلك عن أهل البيت ع و قرئ أيضا في الشواذ غير المغضوب عليهم بالنصب و قرأ غير الضالين عمر بن الخطاب و روي ذلك عن علي ع.

الحجة

من قرأ عليهم بضم الهاء فإنه رده إلى الأصل لأنه إذا انفرد من حروف يتصل بها قيل هم فعلوا بضم الهاء قال السراج و هي القراءة القديمة و لغة قريش و أهل الحجاز و من حولهم من فصحاء اليمن و إنما خص حمزة هذه الحروف الثلاثة بالضم لأن الياء قبلها كانت ألفا مثل على القوم و لدى القوم و إلى القوم و لا يجوز كسر الهاء إذا كان قبلها ألف و من قرأ عليهموا فإنه اتبع الهاء ما أشبهها و هو الياء و ترك ما لا يشبه الياء و الألف على الأصل و هو الميم و من قرأ «عَلَيْهِمْ» فكسر الهاء و أسكن الميم فلأنه أمن اللبس إذا كانت الألف في التثنية قد دلت على الاثنين و لا ميم في الواحد فلما لزمت الميم الجمع حذفوا الواو و أسكنوا الميم طلبا للتخفيف إذا كان ذلك لا يشكل و إنما كسر الهاء مع أن‏


105
مجمع البيان في تفسير القرآن1

الإعراب ..... ص : 106

الأصل الضم للياء التي قبلها و من قرأ عليهموا فلأنه الأصل لأن وسيلة هذه الواو في الجمع وسيلة لألف في التثنية أعني أن ثبات الواو كثبات الألف و من قرأ عليهمي فإنه كسر الهاء لوقوع الياء قبلها ساكنة و كسر الميم كراهة للخروج من كسرة الهاء إلى ضمة الميم ثم انقلبت الواو ياء لسكونها و انكسار ما قبلها و من كسر الهاء و ضم الميم و حذف الواو فإنه احتمل الضمة بعد الكسرة لأنها غير لازمة إذا كانت ألف التثنية تفتحها لكنه حذف الواو تفاديا من ثقلها مع ثقل الضمة و من قرأ «عَلَيْهِمْ» فإنه حذف الواو استخفافا و احتمل الضمة قبلها دليلا عليها و أما من ضم الميم إذا لقيها ساكن و كسر الهاء فإنما يحتج بأن يقول لما احتجت إلى الحركة رددت الحرف إلى أصله فضممت و تركت الهاء على كسرها لأنه لم تأت ضرورة تحوج إلى ردها إلى الأصل و لأن الهاء إنما تبعت الياء لأنها شبهت بها و لم يتبعها الميم لبعدها منه و احتج من كسر الميم و الهاء بأن قال أتبعت الكسر الكسر لثقل الضم بعد الكسر قال سيبويه الهاء تكسر إذا كان قبلها ياء أو كسرة لأنها خفيفة و هي من حروف الزيادة كما أن الياء من حروف الزيادة و هي من موضع الألف و هي أشبه الحروف بالياء و كما أمالوا الألف في مواضع استخفافا كذلك كسروا هذه الهاء و قلبوا الواو ياء لأنه لا تثبت واو ساكنة و قبلها كسرة كقولك مررت بهي و مررت بدار هي قبل.

الإعراب‏

«صِراطَ الَّذِينَ» صفة لقوله‏ «الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ» و يجوز أن يكون بدلا عنه و الفصل بين الصفة و البدل أن البدل في تقدير تكرير العامل بدلالة تكرير حرف الجر في قوله تعالى: قالَ (الْمَلَأُ) الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا (مِنْ قَوْمِهِ) لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ‏ و ليس كذلك الصفة فكما أعيدت اللام الجارة في الاسم فكذلك العامل الرافع أو الناصب في تقدير التكرير فكأنه قال اهدنا صراط الذين و ليس يخرج البدل و إن كان كذلك عن أن يكون فيه تبيين للأول كما أن الصفة كذلك و لهذا لم يجز سيبويه المسكين بي كان الأمر و لا بك المسكين كما أجاز ذلك في الغائب نحو مررت به المسكين و الذين موصول و أنعمت عليهم صلة و قد تم بها اسما مفردا يكون في موضع جر بإضافة صراط إليه و لا يقال في موضع الرفع اللذون لأنه اسم غير متمكن و قد حكي اللذون شاذا كما حكي الشياطون في حال الرفع و أما «غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ» ففي الجر فيه ثلاثة أوجه (أحدها) أن يكون بدلا من الهاء و الميم في عليهم كقول الشاعر:

على حالة لو أن في القوم حاتما

على جوده لضن بالماء حاتم‏

 


106
مجمع البيان في تفسير القرآن1

الإعراب ..... ص : 106

فجر حاتم على البدل من الهاء في جوده (و ثانيها) أن يكون بدلا من الذين (و ثالثها) أن يكون صفة للذين و إن كان أصل غير أن يكون صفة للنكرة تقول مررت برجل غيرك كأنك قلت مررت برجل آخر أو برجل ليس بك قال الزجاج و إنما جاز ذلك لأن الذين هاهنا ليس بمقصود قصدهم فهو بمنزلة قولك إني لأمر بالرجل مثلك فأكرمه و قال علي بن عيسى الرماني إنما جاز أن يكون نعتا للذين لأن الذين بصلتها ليست بالمعرفة الموقتة كالأعلام نحو زيد و عمرو و إنما هي كالنكرات إذا عرفت نحو الرجل و الفرس فلما كانت الذين كذلك كانت صفتها كذلك أيضا كما يقال لا أجلس إلا إلى العالم غير الجاهل و لو كانت بمنزلة الإعلام لما جاز كما لم يجز مررت بزيد غير الظريف بالجر على الصفة و قال أبو بكر السراج و الذي عندي أن غير في هذا الموضع مع ما أضيف إليه معرفة لأن حكم كل مضاف إلى معرفة أن يكون معرفة و إنما تنكرت غير و مثل مع إضافتهما إلى المعارف من أجل معناهما و ذلك أنك إذا قلت رأيت غيرك فكل شي‏ء ترى سوى المخاطب فهو غيره و كذلك إذا قلت رأيت مثلك فما هو مثله لا يحصى فأما إذا كان شيئا معرفة له ضد واحد و أردت إثباته و نفي ضده فعلم ذلك السامع فوصفته بغير و أضفت غير إلى ضده فهو معرفة و ذلك نحو قولك عليك بالحركة غير السكون فغير السكون معرفة و هي الحركة فكأنك كررت الحركة تأكيدا فكذلك قوله تعالى: «الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ» فغير المغضوب هم الذين أنعم الله عليهم فمتى كانت غير بهذه الصفة فهي معرفة و كذلك إذا عرف إنسان بأنه مثلك في ضرب من الضروب فقيل فيه قد جاء مثلك كان معرفة إذا أردت المعروف بشبهك قال و من جعل غير بدلا استغنى عن هذا الاحتجاج لأن النكرة قد تبدل من المعرفة و في نصب غير ثلاثة أوجه أيضا (أحدها) أن يكون نصبا على الحال من المضمر في عليهم و العامل في الحال أنعمت فكأنه قال صراط الذين أنعمت عليهم لا مغضوبا عليهم (و ثانيها) أن يكون نصبا على الاستثناء المنقطع لأن المغضوب عليهم من غير جنس المنعم عليهم (و ثالثها) أن يكون نصبا على أعني كأنه قال أعني غير المغضوب عليهم و لم يجز أن يقال غير المغضوبين عليهم لأن الضمير قد جمع في عليهم فاستغنى عن أن يجمع المغضوب و هذا حكم كل ما تعدى بحرف جر تقول رأيت القوم غير المذهوب بهم استغنيت بالضمير المجرور في بهم عن جمع المذهوب و أما لا من قوله‏ «وَ لَا الضَّالِّينَ» فذهب البصريون إلى أنها زائدة لتوكيد النفي و ذهب الكوفيون إلى أنها بمعنى غير و وجه قول البصريين أنك إذا قلت ما قام زيد و عمرو احتمل أن تريد ما قاما معا و لكن قام كل واحد منهما بانفراده فإذا قلت ما قام زيد و لا عمرو زال الاحتمال و غير متضمن معنى‏


107
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى و اللغة ..... ص : 108

النفي و لهذا أجاز النحويون أنت زيدا غير ضارب لأنه بمنزلة قولك إنك أنت زيدا لا ضارب و لا يجوزون أنت زيدا مثل ضارب لأن زيدا من صلة ضارب و لا يتقدم عليه و قال علي بن عيسى الرماني من نصب على الاستثناء جعل لا صلة كما أنشد أبو عبيدة

(في بئر لا حور سرى و ما شعر)

 

أي في بئر هلكة و تقديره غير المغضوب عليهم و الضالين كما قال‏ ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ بمعنى أن تسجد.

المعنى و اللغة

معنى الآية بيان الصراط المستقيم أي صراط من أنعمت عليهم بطاعتك و هم الذين ذكرهم الله تعالى في قوله‏ «مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ الرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَ الصِّدِّيقِينَ وَ الشُّهَداءِ وَ الصَّالِحِينَ» و أصل النعمة المبالغة و الزيادة يقال دققت الدواء فأنعمت دقة أي بالغت في دقة و هذه النعمة و إن لم تكن مذكورة في اللفظ فالكلام يدل عليها لأنه لما قال‏ اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ‏ و قد بينا المراد بذلك بين أن هذا صراط من أنعم عليهم به و لم يحتج إلى إعادة اللفظ كما قال النابغة:

كأنك من جمال بني أقيش‏

يقعقع خلف رجليه بشن‏

 

أي كأنك من جمالهم جمل يقعقع خلف رجليه و أراد بالمغضوب عليهم اليهود عند جميع المفسرين الخاص و العام و يدل عليه قوله تعالى‏ «مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَ غَضِبَ عَلَيْهِ وَ جَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَ الْخَنازِيرَ» و هؤلاء هم اليهود بدلالة قوله تعالى‏ «وَ لَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ» و أراد بالضالين النصارى بدلالة قوله تعالى:

«وَ لا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَ أَضَلُّوا كَثِيراً وَ ضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ» و قال الحسن البصري أن الله تعالى لم يبرأ اليهود من الضلالة بإضافة الضلالة إلى النصارى و لم يبرأ النصارى من الغضب بإضافة الغضب إلى اليهود بل كل واحدة من الطائفتين مغضوب عليهم و هم ضالون إلا أن الله تعالى يخص كل فريق بسمة يعرف بها و يميز بينه و بين غيره بها و إن كانوا مشتركين في صفات كثيرة و قيل المراد بالمغضوب عليهم و الضالين جميع الكفار و إنما ذكروا بالصفتين لاختلاف الفائدتين و اختار الإمام عبد القاهر الجرجاني قولا آخر قال إن حق اللفظ فيه أن يكون خرج مخرج الجنس كما تقول نعوذ بالله أن يكون حالنا حال المغضوب عليهم فإنك لا تقصد به قوما بأعيانهم و لكنك تريد ما تريده بقولك إذا قلت اللهم اجعلني ممن أنعمت عليهم و لا تجعلني ممن غضبت عليهم فلا تريد أن هاهنا


108
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى و اللغة ..... ص : 108

قوما بأعيانهم قد اختصوا بهذه الصفة التي هي كونهم منعما عليهم و ليس يخفى على من عرف الكلام أن العقلاء يقولون اجعلني ممن تديم له النعمة و هم يريدون أن يقولوا أدم علي النعمة و لا يشك عاقل إذا نظر لقول عنترة:

و لقد نزلت فلا تظني غيره‏

مني بمنزلة المحب المكرم‏

 

إنه لم يرد أن يشبهها بإنسان هو محب مكرم عنده أو عند غيره و لكنه أراد أن يقول إنك محبة مكرمة عندي و أما الغضب من الله تعالى فهو إرادته إنزال العقاب المستحق بهم و لعنهم و براءته منهم و أصل الغضب الشدة و منه الغضبة و هي الصخرة الصلبة الشديدة المركبة في الجبل و الغضوب الحية الخبيثة و الناقة العبوس و أصل الضلال الهلاك و منه قوله‏ «أَ إِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ» أي هلكنا و منه قوله‏ «وَ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ» أي أهلكها و الضلال في الدين الذهاب عن الحق و إنما لم يقل الذين أنعمت عليهم غير الذين غضبت عليهم مراعاة للأدب في الخطاب و اختيارا لحسن اللفظ المستطاب و في تفسير العياشي رحمه الله‏

روى محمد بن مسلم عن أبي عبد الله ع قال‏ سألته عن قوله تعالى: «وَ لَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ» قال فاتحة الكتاب يثني فيها القول قال و قال رسول الله ص إن الله تعالى من علي بفاتحة الكتاب من كنز الجنة فيها «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» الآية التي يقول الله فيها: «وَ إِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى‏ أَدْبارِهِمْ نُفُوراً» و «الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» دعوى أهل الجنة حين شكروا لله حسن الثواب و «مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ» قال جبرائيل ع ما قالها مسلم إلا صدقه الله تعالى و أهل سمائه‏ «إِيَّاكَ نَعْبُدُ» إخلاص للعبادة و «إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» أفضل ما طلب به العباد حوائجهم‏ «اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ» صراط الأنبياء و هم الذين أنعم الله عليهم‏ «غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ» اليهود «وَ لَا الضَّالِّينَ» النصارى‏

و

روى محمد الحلبي عن أبي عبد الله ع‏ أنه كان يقرأ ملك يوم الدين و يقرأ اهدنا صراط المستقيم‏ و في رواية أخرى‏ يعني أمير المؤمنين (ع)

و

روي جميل عن أبي عبد الله ع قال‏ إذا كنت خلف إمام ففرغ من قراءة الفاتحة فقل أنت من خلفه الحمد لله رب العالمين‏

و

روى فضيل بن يسار عنه ع قال‏ إذا قرأت الفاتحة ففرغت من قراءتها فقل الحمد لله رب العالمين.


109
مجمع البيان في تفسير القرآن1

النظم ..... ص : 110

النظم‏

و أما نظم هذه السورة فأقول فيه أن العاقل المميز إذ عرف نعم الله سبحانه بالمشاهدة و كان له من نفسه بذلك أعدل شاهد و أصدق رائد ابتدأ بآية التسمية استفتاحا باسم المنعم و اعترافا بإلهيته و استرواحا إلى ذكر فضله و رحمته و لما اعترف بالمنعم الفرد اشتغل بالشكر له و الحمد فقال‏ الْحَمْدُ لِلَّهِ‏ و لما رأى نعم الله تعالى على غيره واضحة كما شاهد آثارها على نفسه لائحة عرف أنه رب الخلائق أجمعين فقال‏ رَبِّ الْعالَمِينَ‏ و لما رأى شمول فضله للمربوبين و عموم رزقه للمرزوقين قال‏ الرَّحْمنِ‏ و لما رأى تقصيرهم في واجب شكره و تعذيرهم في الانزجار عند زجره و اجتناب نهيه و امتثال أمره و أنه تعالى يتجاوز عنهم بالغفران و لا يؤاخذهم عاجلا بالعصيان و لا يسلبهم نعمه بالكفران قال‏ الرَّحِيمِ‏ و لما رأى ما بين العباد من التباغي و التظالم و التكالم و التلاكم و أن ليس بعضهم من شر بعض بسالم على أن وراءهم يوما ينتصف فيه للمظلوم من الظالم فقال‏ مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ‏ و إذا عرف هذه الجملة فقد علم أن له خالقا رازقا رحيما يحيي و يميت و يبدئ و يعيد و هو الحي لا يشبهه شي‏ء و الإله الذي لا يستحق العبادة سواه و لما صار الموصوف بهذا الوصف كالمدرك له بالعيان المشاهد بالبرهان تحول عن لفظ الغيبة إلى لفظ الخطاب فقال‏ إِيَّاكَ نَعْبُدُ و هذا كما أن الإنسان يصف الملك بصفاته فإذا رآه عدل عن الوصف إلى الخطاب و لما رأى اعتراض الأهواء و الشبهات و تعاور الآراء المختلفات و لم يجد معينا غير الله تعالى سأله الإعانة على الطاعات بجميع الأسباب لها و الوصلات فقال‏ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏ و لما عرف هذه الجملة و تبين له أنه بلغ من معرفة الحق المدى و استقام على منهج الهدى و لم يأمن العثرة لارتفاع العصمة سأل الله تعالى التوفيق للدوام عليه و الثبات و العصمة من الزلات فقال‏ اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ‏ و هذا لفظ جامع يشتمل على مسألة معرفة الأحكام و التوفيق لإقامة شرائع الإسلام و الاقتداء بمن أوجب الله طاعته من أئمة الأنام و اجتناب المحارم و الآثام و إذا علم ذلك علم أن لله سبحانه عبادا خصهم بنعمته و اصطفاهم على بريته و جعلهم حججا على خليقته فسأله أن يلحقه بهم و يسلك به سبيلهم و أن يعصمه عن مثل أحوال الزالين المزلين و الضالين المضلين ممن عاند الحق و عمي عن طريق الرشد و خالف سبيل القصد فغضب الله عليه و لعنه و أعد له الخزي المقيم و العذاب الأليم أو شك في واضح الدليل فضل عن سواء السبيل فقال‏ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لَا الضَّالِّينَ‏.


110
مجمع البيان في تفسير القرآن1

(2) سورة البقرة مدنية و آياتها ست و ثمانون و مائتان(286) ..... ص : 111

(2) سورة البقرة مدنية و آياتها ست و ثمانون و مائتان (286)

[نزول‏]

مدنية كلها إلا آية واحدة منها و هي قوله‏ وَ اتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ‏ الآية فإنها نزلت في حجة الوداع بمنى عدد آيها مائتان و ست و ثمانون آية في العدد الكوفي و هو العدد المروي عن أمير المؤمنين علي ع و سبع في العدد البصري و خمس حجازي و أربع شامي خلافها إحدى عشر آية عد الكوفي‏ الم‏ آية و عد البصري‏ إِلَّا خائِفِينَ‏ آية و قَوْلًا مَعْرُوفاً بصري‏ عَذابٌ أَلِيمٌ‏ شامي‏ مُصْلِحُونَ‏ غيرهم‏ يا أُولِي الْأَلْبابِ‏ عراقي و المدني الأخير من خلاف الثاني غير المدني الأخير يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ‏ مكي و المدني الأول‏ تَتَفَكَّرُونَ‏ كوفي و شامي و المدني الأخير الْحَيُّ الْقَيُّومُ‏ مكي بصري و المدني الأخير مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ. المدني الأول و روي عن أهل مكة وَ لا يُضَارَّ كاتِبٌ وَ لا شَهِيدٌ.

فضلها

أبي بن كعب عن النبي ص قال‏ من قرأها فصلوات الله عليه و رحمته و أعطي من الأجر كالمرابط في سبيل الله سنة لا تسكن روعته و قال لي يا أبي مر المسلمين أن يتعلموا سورة البقرة فإن تعلمها بركة و تركها حسرة و لا يستطيعها البطلة قلت يا رسول الله ما البطلة قال السحرة

و

روى سهل بن سعد قال قال رسول الله ص‏ إن لكل شي‏ء سناما و سنام القرآن سورة البقرة من قرأها في بيته نهارا لم يدخل بيته شيطان ثلاثة أيام و من قرأها في بيته ليلا لم يدخله شيطان ثلاث ليال‏

و

روي‏ أن النبي ص بعث بعثا ثم تتبعهم يستقرئهم فجاء إنسان منهم فقال ما ذا معك من القرآن حتى أتى على أحدثهم سنا فقال له ما ذا معك من القرآن قال كذا و كذا و سورة البقرة فقال أخرجوا و هذا عليكم أمير قالوا يا رسول الله ص هو أحدثنا سنا قال معه سورة البقرة

و

سئل النبي ص أي سور القرآن أفضل قال البقرة قيل أي آي البقرة أفضل قال آية الكرسي‏

فقال الصادق ع‏ من قرأ البقرة و آل عمران جاء يوم القيامة تظلانه على رأسه مثل الغمامتين أو مثل الغيابتين‏


111
مجمع البيان في تفسير القرآن1

تفسيرها ..... ص : 112

تفسيرها

[سورة البقرة (2): آية 1]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏

الم (1)

[توضيح‏]

(كوفي) اختلف العلماء في الحروف المعجمة المفتتحة بها السور فذهب بعضهم إلى‏

أنها من المتشابهات التي استأثر الله تعالى بعلمها و لا يعلم تأويلها إلا هو هذا هو المروي عن أئمتنا ع‏

و

روت العامة عن أمير المؤمنين ع أنه قال‏ إن لكل كتاب صفوة و صفوة هذا الكتاب حروف التهجي‏

و عن الشعبي قال: لله في كل كتاب سر و سره في القرآن سائر حروف الهجاء المذكورة في أوائل السور و فسرها الآخرون على وجوه.

(أحدها) إنها أسماء السور و مفاتحها عن الحسن و زيد بن أسلم (و ثانيها) أن المراد بها الدلالة على أسماء الله تعالى فقوله تعالى‏ «الم» معناه أنا الله أعلم و «المر» معناه أنا الله أعلم و أرى و «المص» معناه أنا الله أعلم و أفصل و الكاف في‏ كهيعص‏ من كاف و الهاء من هاد و الياء من حكيم و العين من عليم و الصاد من صادق عن ابن عباس و عنه أيضا أن‏ «الم» الألف منه تدل على اسم الله و اللام تدل على اسم جبرائيل و الميم تدل على اسم محمد ص و

روى أبو إسحاق الثعلبي في تفسيره مسندا إلى علي بن موسى الرضا ع قال‏ سئل جعفر بن محمد الصادق عن قوله‏ «الم» فقال في الألف ست صفات من صفات الله تعالى (الابتداء) فإن الله ابتدأ جميع الخلق و الألف ابتداء الحروف و (الاستواء) فهو عادل غير جائر و الألف مستو في ذاته و (الانفراد) فالله فرد و الألف فرد و (اتصال الخلق بالله) و الله لا يتصل بالخلق و كلهم محتاجون إلى الله و الله غني عنهم و كذلك الألف لا يتصل بالحروف و الحروف متصلة به و هو منقطع من غيره و الله عز و جل بائن بجميع صفاته من خلقه و معناه من الألفة فكما أن الله عز و جل سبب ألفة الخلق فكذلك الألف عليه تألفت الحروف و هو سبب ألفتها

(و ثالثها) أنها أسماء الله تعالى منقطعة لو أحسن الناس تأليفها لعلموا اسم الله الأعظم تقول‏ الر و حم‏ و ن‏ فيكون الرحمن و كذلك سائرها إلا أنا لا نقدر على وصلها و الجمع بينها عن سعيد بن جبير (و رابعها) أنها أسماء القرآن عن قتادة (و خامسها) أنها أقسام أقسم الله تعالى بها و هي من أسمائه عن ابن عباس و عكرمة قال الأخفش و إنما أقسم الله تعالى بالحروف المعجمة


112
مجمع البيان في تفسير القرآن1

اللغة ..... ص : 113

لشرفها و فضلها و لأنها مباني كتبه المنزلة بالألسنة المختلفة و أسمائه الحسنى و صفاته العليا و أصول كلام الأمم كلها بها يتعارفون و يذكرون الله عز اسمه و يوحدونه فكأنه هو أقسم بهذه الحروف أن القرآن كتابه و كلامه (و سادسها) أن كل حرف منها مفتاح اسم من أسماء الله تعالى و ليس فيها حرف إلا و هو في آلائه و بلائه و ليس فيها حرف إلا و هو في مدة قوم و آجال آخرين عن أبي العالية و قد ورد أيضا مثل ذلك في أخبارنا (و سابعها) أن المراد بها مدة بقاء هذه الأمة عن مقاتل بن سليمان قال مقاتل حسبنا هذه الحروف التي في أوائل السور بإسقاط المكرر فبلغت سبع مائة و أربعا و أربعين سنة و هي بقية مدة هذه الأمة قال علي بن فضال المجاشعي النحوي و حسبت هذه الحروف التي ذكرها مقاتل فبلغت ثلاثة آلاف و خمسا و ستين فحذفت المكررات فبقي ستمائة و ثلاث و تسعون و الله أعلم بما فيها و أقول قد حسبتها أنا أيضا فوجدتها كذلك و يروى أن اليهود لما سمعوا «الم» قالوا مدة ملك محمد ص قصيرة إنما تبلغ إحدى و سبعين سنة فلما نزلت‏ الر المر و المص‏ و كهيعص‏ اتسع عليهم الأمر هذه أقوال أهل التفسير (و ثامنها) أن المراد بها حروف المعجم استغني بذكر ما ذكر منها في أوائل السور عن ذكر بواقيها التي هي تمام الثمانية و العشرين حرفا كما يستغني بذكر قفا نبك عن ذكر باقي القصيدة و كما يقال أب في أبجد و في أ ب ت ث و لم يذكروا باقي الحروف قال الراجز:

لما رأيت أنها في حطي‏

أخذت منها بقرون شمط

 

و إنما أراد الخبر عن المرأة بأنها في أبجد فأقام قوله حطي مقامه لدلالة الكلام عليه (و تاسعها) أنها تسكيت للكفار لأن المشركين كانوا تواصوا فيما بينهم أن لا يستمعوا لهذا القرآن و أن يلغوا فيه كما ورد به التنزيل من قوله‏ «لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَ الْغَوْا فِيهِ» الآية فربما صفروا و ربما صفقوا و ربما لغطوا ليغلطوا النبي ص فأنزل الله تعالى هذه الحروف حتى إذا سمعوا شيئا غريبا استمعوا إليه و تفكروا و اشتغلوا عن تغليطه فيقع القرآن في مسامعهم و يكون ذلك سببا موصلا لهم إلى درك منافعهم (و عاشرها) أن المراد بها أن هذا القرآن الذي عجزتم عن معارضته من جنس هذه الحروف التي تتحاورون بها في خطبكم و كلامكم فإذا لم تقدروا عليه فاعلموا أنه من عند الله لأن العادة لم تجر بأن الناس يتفاوتون في القدر هذا التفاوت العظيم و إنما كررت في مواضع استظهارا في الحجة و هو المحكي عن قطرب و اختاره أبو مسلم محمد بن بحر الأصفهاني.

اللغة

أجود هذه الأقوال القول الأول المحكي عن الحسن لأن أسماء الأعلام‏


113
مجمع البيان في تفسير القرآن1

الإعراب ..... ص : 114

منقولة إلى التسمية عن أصولها للتفرقة بين المسميات فتكون حروف المعجم منقولة إلى التسمية و لهذا في أسماء العرب نظير قالوا أوس بن حارثة بن لام الطائي و لا خلاف بين النحويين أنه يجوز أن يسمى بحروف المعجم كما يجوز أن يسمى بالجمل نحو تابط شرا و برق نحره و كل كلمة لم تكن على معنى الأصل فهي منقولة إلى التسمية للفرق نحو جعفر إذا لم يرد به معنى النهر لم يكن إلا منقولا إلى العلمية و كذلك أشباهه و لو سميت بالم لحكيت جميع ذلك و أما قول ابن عباس أنه اختصار من أسماء يعلم النبي ص تمامها فنحوه قول الشاعر:

نادوهم أن ألجموا ألاتا

قالوا جميعا كلهم ألافا

 

يريد أ لا تركبون قالوا ألا فاركبوا و قول الآخر:

قلنا لها قفي قالت قاف‏

لا تحسبي أنا نسينا الإيجاف‏

 

يريد قالت أنا واقفة.

الإعراب‏

أما موضع‏ «الم» من الإعراب فمختلف على حسب اختلاف هذه المذاهب أما على مذهب الحسن فموضعها رفع على إضمار مبتدإ محذوف كأنه قال هذه الم و أجاز الرماني أن يكون الم مبتدأ و ذلك الكتاب خبره و تقديره حروف المعجم ذلك الكتاب و هذا فيه بعد لأن حكم المبتدأ أن يكون هو الخبر في المعنى و لم يكن الكتاب هو حروف المعجم و يجوز أن يكون الم في موضع نصب على إضمار فعل تقديره اتل الم و أما على مذهب من جعلها قسما فموضعها نصب بإضمار فعل لأن حرف القسم إذا حذف يصل الفعل إلى المقسم به فينصبه فإن معنى قولك بالله أقسم بالله ثم حذفت أقسم فبقي بالله فلو حذفت الباء لقلت الله لأفعلن و أما على مذهب من جعل هذه الحروف اختصارا من كلام أو حروفا مقطعة فلا موضع لها من الإعراب لأنها بمنزلة قولك زيد قائم في أن موضعه لا حظ له في الإعراب و إنما يكون للجملة موضع إذا وقعت موقع الفرد كقولك زيد أبوه قائم و إن زيدا أبوه قائم لأنه بمنزلة قولك زيد قائم و إن زيدا قائم و هذه الحروف موقوفة على الحكاية كما يفعل بحروف التهجي لأنها مبنية على السكت كما أن العدد مبني‏


114
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 2] ..... ص : 115

على السكت يدل على ذلك جمعك بين ساكنين في قولك لام ميم و تقول في العدد واحد اثنان ثلاثة أربعة فتقطع ألف اثنين و ألف اثنين ألف وصل و تذكر الهاء في ثلاثة و أربعة و لو لا أنك تقدر السكت لقلت ثلاثة بالتاء و يدل عليه قول الشاعر:

أقبلت من عند زياد كالخرف‏

تخط رجلاي بخط مختلف‏

 

تكتبان في الطريق لام ألف‏

 

كأنه قال لام ألف و لكنه ألقى حركة همزة الألف على الميم ففتحها و إذا أخبرت عن حروف الهجاء أو أسماء الأعداد أعربتها لأنك أدخلتها بالإخبار عنها في جملة الأسماء المتمكنة و أخرجتها بذلك من حيز الأصوات كما قال الشاعر

(كما بينت كاف تلوح و ميمها)

 

و قال آخر:

إذا اجتمعوا على ألف و باء

و واو هاج بينهم جدال‏

 

و تقول هذا كاف حسن و هذه كاف حسنة من ذكره فعلى معنى الحرف و من أنثه فعلى معنى الكلمة.

[سورة البقرة (2): آية 2]

ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2)

القراءة

قرأ ابن كثير فيهي هدى يوصل الهاء بياء في اللفظ و كذلك كل هاء كناية قبلها ياء ساكنة فإن كان قبلها ساكن غير الياء وصلها بالواو و وافقه حفص في قوله فيهي مهانا و قتيبة في قوله فملاقيه و سأصليه و الباقون لا يشبعون و إذا تحرك ما قبل الهاء فهم مجمعون على إشباعه.

الحجة

اعلم أنه يجوز في العربية في فيه أربعة أوجه فيهو و فيهي و فيه و فيه و الأصل فيهو كما قيل لهو مال فمن كسر الهاء من فيه و نحوه مع أن الأصل الضم فلأجل الياء أو الكسرة قبل الهاء و الهاء تشبه الألف لكونها من حروف الحلق و لما فيها من الخفاء فكما نحوا بالألف نحو الياء بالإمالة لأجل الكسرة أو الياء كذلك كسروا الهاء للكسرة أو الياء ليتجانس الصوتان و من ترك الإشباع فلكراهة اجتماع المشابهة فإن الهاء حرف خفي فإذا اكتنفها ساكنان من حروف اللين كان كان الساكنين التقيا لخفاء الهاء فإنهم لم يعتدوا


115
مجمع البيان في تفسير القرآن1

اللغة ..... ص : 116

بها حاجزا في نحو فيهي و خذ و هو كما لم يعتد بها في نحو رد من أتبع الضم إذا وصل الفعل بضمير المؤنث فقال ردها بالفتح لا غير و لم يتبع الضم الضم و جعل الدال كأنها لازقة بالألف و أما من أشبع و أتبعها الياء قال الهاء و إن كانت خفية فليس يخرجها ذلك من أن تكون كغيرها من حروف المعجم التي لا خفاء فيها فإذا كان كذلك كان حجزها بين الساكنين كحجز غيرها من الحروف التي لا خفاء فيها.

اللغة

ذلك لفظة يشار بها إلى ما بعد و هذا إلى ما قرب و الاسم من ذلك ذا و الكاف زيدت للخطاب و لا حظ لها من الإعراب و اللام تزاد للتأكيد و كسرت لالتقاء الساكنين و تسقط معها هاء تقول ذاك و ذلك و هذاك و لا تقول هذلك و الكتاب مصدر و هو بمعنى المكتوب كالحساب قال الشاعر:

بشرت عيالي إذ رأيت صحيفة

أتتك من الحجاج يتلى كتابها

 

أي مكتوبها و أصله الجمع من قولهم كتبت القربة إذا خرزتها و الكتبة الخرزة و كتبت البغلة إذا جمعت بين شفريها بحلقة و منه قيل للجند كتيبة لانضمام بعضهم إلى بعض و الريب الشك و قيل هو أسوء الشك و هو مصدر رابني الشي‏ء من فلان يريبني إذا كانت مستيقنا منه بالريبة فإذا أسأت به الظن و لم تستيقن بالريبة منه قلت أرابني من فلان أمر إرابة و أراب الرجل إذا صار صاحب ريبة كما قيل ألام أي استحق أن يلام و الهدى الدلالة مصدر هديته و فعل قليل في المصادر قال أبو علي يجوز أن يكون فعل مصدر اختص به المعتل و إن لم يكن في المصادر كما كان كينونة و نحوه لا يكون في الصحيح و الفعل منه يتعدى إلى مفعولين يتعدى إلى الثاني منهما بأحد حرفي جر إلى أو اللام كقوله‏ «وَ اهْدِنا إِلى‏ سَواءِ الصِّراطِ و الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا» و قد يحذف منه حرف الجر فيصل الفعل إلى المفعول نحو اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ‏ أي دلنا عليه و اسلك بنا فيه و كأنه استنجاز لما وعدوا به في قوله‏ «يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ» أي سبل دار السلام و الأصل في المتقين الموتقين مفتعلين من الوقاية فقلبت الواو تاء و أدغمتها في التاء التي بعدها و حذفت الكسرة من الياء استثقالا لها ثم حذفتها لالتقاء الساكنين فبقي متقين و التقوى أصله وقوى قلبت الواو تاء كالتراث أصله وراث و أصل الاتقاء الحجز بين الشيئين يقال اتقاه بالترس أي جعله حاجزا بينه و بينه قال الشاعر:


116
مجمع البيان في تفسير القرآن1

الإعراب ..... ص : 117

 

فألقت قناعا دونها الشمس و اتقت‏

بأحسن موصولين كف و معصم‏

 

و منه الوقاية لأنها تمنع رؤية الشعر.

الإعراب‏

ذلك في موضع رفع من وجوه (أحدها) أن تجعله خبرا عن الم كما مضى القول فيه (و ثانيها) أن يكون مبتدأ و الكتاب خبره (و ثالثها) أن يكون مبتدأ و الكتاب عطف بيان أو صفة له أو بدل منه و لا ريب فيه جملة في موضع الخبر (و رابعها) أن يكون مبتدأ و خبره هدى و يكون لا ريب في موضع الحال و العامل في الحال معنى الإشارة (و خامسها) أن يكون لا ريب فيه و هدى جميعا خبرا بعد خبر كقولك هذا حلو حامض أي جمع الطعمين و منه قول الشاعر:

من يك ذا بت فهذا بتي‏

مقيظ مصيف مشتي‏

 

(و سادسها) أن يكون خبر مبتدإ محذوف تقديره هذا ذلك الكتاب و إن حملت على هذا الوجه أو على أنه مبتدأ و لا ريب فيه الخبر أو على أنه خبر الم أو على أن الكتاب خبر عنه كان قوله‏ «هُدىً» في موضع نصب على الحال أي هاديا للمتقين و العامل فيه معنى الإشارة و الاستقرار الذي يتعلق به فيه و قوله‏ «لا رَيْبَ» قال سيبويه لا تعمل فيما بعدها فتنصبه بغير تنوين و قال غيره من حذاق النحويين جعل لا مع النكرة الشائعة مركبا فهو أوكد من تضمين الاسم معنى الحرف لأنه جعل جزءا من الاسم بدلالة أنك تضيف إليه مجموعا و تدخل عليه حرف الجر فتقول جئتك بلا مال و لا زاد فلما صار كذلك بني على الفتح و هما جميعا في موضع الرفع على الابتداء فموضع خبره موضع خبر المبتدأ و على هذا فيجوز أن تجعل فيه خبر و يجوز أن تجعله صفة فإن جعلته صفة أضمرت الخبر و إن جعلته خبرا كان موضعه رفعا في قياس قول سيبويه من حيث يرتفع خبر المبتدأ و على قول أبي الحسن الأخفش موضعه رفع و الموضع للظرف نفسه لا لما كان يتعلق به لأن الحكم له من دون ما كان يكون الظرف منتصبا به في الأصل أ لا ترى أن الضمير قد صار في الظرف و أما قوله‏ «هُدىً» فيجوز أن يكون في موضع رفع من ثلاثة أوجه غير الوجه الذي ذكرناه قبل و هو أن يكون خبرا عن ذلك أحدها أن يكون مبتدأ و فيه الخبر على أن تضمر للا ريب خبرا كأنك قلت لا ريب فيه فيه هدى و الوقف على هذا الوجه على قوله‏ «لا رَيْبَ فِيهِ» و يبتدئ هدى للمتقين و الوجه الثاني أن يكون خبرا عن الم على قول من جعله اسما


117
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 118

للسورة و الوجه الثالث أن يكون خبرا لمبتدء محذوف تقديره هو هدى.

المعنى‏

المراد بالكتاب القرآن و قال الأخفش ذلك بمعنى هذا لأن الكتاب كان حاضرا و أنشد لخفاف بن ندبة

أقول له و الرمح يأطر متنه‏

تأمل خفافا إنني أنا ذلكا

 

أي أنا هذا و هذا البيت يمكن إجراؤه على ظاهره أي إنني أنا ذلك الرجل الذي سمعت شجاعته و إذا جرى للشي‏ء ذكر يجوز أن يقول السامع هذا كما قلت و ذلك كما قلت و تقول أنفقت ثلاثة و ثلاثة فهذا ستة أو فذلك ستة و إنما تقول هذا لقربه بالإخبار عنه و تقول ذلك لكونه ماضيا و قيل إن الله وعد نبيه أن ينزل عليه كتابا لا يمحوه الماء و لا يخلق على كثرة الرد فلما أنزل القرآن قال هذا القرآن ذلك الكتاب الذي وعدتك عن الفراء و أبي علي الجبائي و قيل معناه هذا القرآن ذلك الكتاب الذي وعدتك به في الكتب السالفة عن المبرد و من قال إن المراد بالكتاب التوراة و الإنجيل فقوله فاسد لأنه وصف الكتاب بأنه لا ريب فيه و أنه هدى و وصف ما في أيدي اليهود و النصارى بأنه محرف بقوله‏ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ‏ و معنى قوله‏ «لا رَيْبَ فِيهِ» أي أنه بيان و هدى و حق و معجز فمن هاهنا استحق الوصف بأنه لا شك فيه لا على جهة الإخبار بنفي شك الشاكين و قيل أنه على الحذف كأنه قال لا سبب شك فيه لأن الأسباب التي توجب الشك في الكلام هي التلبيس و التعقيد و التناقض و الدعاوي العارية من البرهان و هذه كلها منفية عن كتاب الله تعالى و قيل إن معناه النهي و إن كان لفظه الخبر أي لا ترتابوا أو لا تشكوا فيه كقوله تعالى‏ «فَلا رَفَثَ وَ لا فُسُوقَ» و أما تخصيص المتقين بأن القرآن هدى لهم و إن كان هدى لجميع الناس فلأنهم هم الذين انتفعوا به و اهتدوا بهداه كما قال‏ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها و إن كان ص منذرا لكل مكلف لأنه إنما انتفع بإنذاره من يخشى نار جهنم على أنه ليس في الإخبار بأنه هدى للمتقين ما يدل على أنه ليس بهدى لغيرهم و بين في آية أخرى أنه هدى للناس.

[فصل في التقوى و المتقي‏]

روي عن النبي ص أنه قال‏ جماع التقوى في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ‏ الآية

و قيل المتقي الذي اتقى ما حرم عليه و فعل ما أوجب عليه‏


118
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 3] ..... ص : 119

و قيل هو الذي يتقي بصالح أعماله عذاب الله و سأل عمر بن الخطاب كعب الأحبار عن التقوى فقال هل أخذت طريقا ذا شوك فقال نعم قال فما عملت فيه قال حذرت و تشمرت فقال كعب ذلك التقوى و نظمه بعض الناس فقال.

خل الذنوب صغيرها و كبيرها فهو التقى‏

و اصنع كماش فوق أرض الشوك يحذر ما يرى‏

 

لا تحقرن صغيرة أن الجبال من الحصى‏

 

و

روي عن النبي ص أنه قال‏ إنما سمي المتقون لتركهم ما لا بأس به حذرا للوقوع فيما به بأس‏

و قال عمر بن عبد العزيز التقي ملجم كالمجرم في الحرم و قال بعضهم التقوى أن لا يراك الله حيث نهاك و لا يفقدك حيث أمرك.

[سورة البقرة (2): آية 3]

الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3)

القراءة

قرأ أبو جعفر و عاصم في رواية الأعشى عن أبي بكر بترك كل همزة ساكنة مثل‏ يُؤْمِنُونَ‏ و يَأْكُلُونَ‏ و يُؤْتُونَ‏ و بِئْسَ‏ و نحوها و يتركان كثيرا من المتحركة مثل‏ يُؤَدِّهِ‏ و لا يُؤاخِذُكُمُ‏ و يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ‏ و مذهب أبي جعفر فيه تفصيل يطول ذكره و أما أبو عمرو فيترك كل همزة ساكنة إلا أن يكون سكونها علامة للجزم مثل ننسئها و تَسُؤْكُمْ‏ و يُهَيِّئْ لَكُمْ‏ و مَنْ يَشَأِ و يُنَبِّئُهُمُ‏ و اقْرَأْ كِتابَكَ‏ و نحوها فإنه لا يترك الهمزة فيها و روي عنه الهمزة أيضا في الساكنة و أما نافع فيترك كل همزة ساكنة و متحركة إذا كانت فاء من الفعل نحو يُؤْمِنُونَ‏ و لا يُؤاخِذُكُمُ‏ و اختلفت قراءة الكسائي و حمزة و لكل واحد منهم مذهب فيه يطول ذكره فالهمز على الأصل و تركه للتخفيف.

اللغة و الإعراب‏

الذين جمع الذي و اللائي و اللاتي جمع التي و تثنيتهما اللذان و اللتان في حال الرفع و اللذين و اللتين في حال الجر و النصب و هي من الأسماء التي لا تتم إلا بصلاتها نحو من و ما و أي و صلاتها لا تكون إلا جملا خبرية يصح فيها الصدق و الكذب و لا بد أن يكون فيها ضمير يعود إلى الموصول فإذا استوفت الموصولات صلاتها كانت في تأويل اسم مفرد مثل زيد و عمرو و يحتاج إلى جزء آخر تصير به جملة فقوله‏ «الَّذِينَ» موصول و يؤمنون صلته و يحتمل أن يكون محله نصبا و جرا و رفعا فالنصب على المدح تقديره أعني الذين يؤمنون و أما الجر فعلى أنه صفة للمتقين و أما الرفع فعلى المدح أيضا كأنه لما قيل‏ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ‏ قيل من هم قيل هم الذين يؤمنون بالغيب فيكون خبر مبتدإ محذوف و يؤمنون‏


119
مجمع البيان في تفسير القرآن1

اللغة و الإعراب ..... ص : 119

معناه يصدقون و الواو في موضع الرفع بكونه ضمير الفاعلين و النون علامة الرفع و الأصل في يفعل يؤفعل و لكن الهمزة حذفت لأنك إذا أنبأت عن نفسك قلت أنا أفعل فكانت تجتمع همزتان فاستثقلتا فحذفت الهمزة الثانية فقيل أفعل ثم حذفت من الصيغ الآخر نفعل و تفعل و يفعل كما أن باب يعد حذفت منه الواو لوقوعها بين ياء و كسرة إذ الأصل يوعد ثم حذفت في تعد و أعد و نعد ليجري الباب على سنن واحد قال الأزهري اتفق العلماء على أن الإيمان هو التصديق قال الله تعالى‏ وَ ما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا أي ما أنت بمصدق لنا قال أبو زيد و قالوا ما أمنت أن أجد صحابة أي ما وثقت فالإيمان هو الثقة و التصديق قال الله تعالى‏ «الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا» أي صدقوا و وثقوا بها و قال الشاعر أنشده ابن الأنباري:

و من قبل آمنا و قد كان قومنا

يصلون للأوثان قبل محمدا

 

و معناه آمنا محمدا أي صدقناه و يجوز أن يكون آمن من قياس فعلته فأفعل تقول أمنته فآمن مثل كببته فأكب و الأمن خلاف الخوف و الأمانة خلاف الخيانة و الأمون الناقة القوية كأنها يؤمن عثارها و كلالها و يجوز أن يكون آمن بمعنى صار ذا آمن على نفسه بإظهار التصديق نحو أجرب و أعاه و أصح و أسلم صار ذا سلم أي خرج عن أن يكون جربا هذا في أصل اللغة أما في الشريعة فالإيمان هو التصديق بكل ما يلزم التصديق به من الله تعالى و أنبيائه و ملائكته و كتبه و البعث و النشور و الجنة و النار و أما قولنا في وصف القديم تعالى المؤمن فإنه يحتمل تأويلين أحدهما أن يكون من آمنت المتعدي إلى مفعول فنقل بالهمزة فتعدى إلى مفعولين فصار من أمن زيد العذاب و آمنته العذاب فمعناه المؤمن عذابه من لا يستحقه من أوليائه و من هذا وصفه سبحانه بالعدل كقوله قائما بالقسط و هذا الوجه مروي في أخبارنا و الآخر أن يكون معناه المصدق أي يصدق الموحدين على توحيدهم إياه يدل عليه قوله‏ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لأن الشاهد مصدق لما يشهد به كما أنه مصدق من يشهد له فإذا شهد بالتوحيد فقد صدق الموحدين و أما الغيب فهو كلما غاب عنك و لم تشهده و قوله‏ «بِالْغَيْبِ» كأنه إجمال لما فصل في قوله‏ «كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ» أي يؤمنون بما كفر به الكفار من وحدانية الله و إنزال كتبه و إرسال رسله فكل هذا غيب فعلى هذا يكون الجار و المجرور في موضع نصب بأنه مفعول به و فيه وجه آخر و هو أن يكون أراد يؤمنون إذا غابوا عنكم و لم يكونوا كالمنافقين و مثله قوله‏ وَ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ‏ فعلى هذا يكون الجار و المجرور في موضع الحال أي يؤمنون غائبين عن مراءة الناس لا يريدون بإيمانهم تصنعا لأحد و لكن يخلصونه لله و «يُقِيمُونَ الصَّلاةَ» يؤدونها بحدودها و فرائضها يقال‏


120
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 121

أقام القوم سوقهم إذا لم يعطلوها من البيع و الشراء و قال الشاعر.

أقامت غزالة سوق الضراب‏

لأهل العراقين حولا قميطا

 

و قال أبو مسلم‏ «يُقِيمُونَ الصَّلاةَ» أي يديمون أداء فرائضها يقال للشي‏ء الراتب قائم و يقال فلان يقيم أرزاق الجند و الصلوة في اللغة الدعاء قال الأعشى:

و أقبلها الريح في ظلها

و صلى على دنها و ارتسم‏

 

أي دعا لها و منه‏

الحديث‏ إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب و إن كان صائما فليصل‏

أي فليدع له بالبركة و الخير و قيل أصله رفع الصلا في الركوع و هو عظم في العجز و قوله‏ «وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ» ما هذه حرف موصول و رزقناهم صلته و هما جميعا بمعنى المصدر تقديره و من رزقنا إياهم ينفقون أو اسم موصول و العائد من الصلة إلى الموصول محذوف و التقدير و من الذي رزقناهموه ينفقون فيكون ما رزقناهم في موضع جر بمن و الجار و المجرور في موضع نصب بأنه مفعول ينفقون و الرزق هو العطاء الجاري و هو نقيض الحرمان و الإنفاق إخراج المال يقال أنفق ماله أي أخرجه عن ملكه و نفقت الدابة إذا خرج روحها و النافقاء جحر اليربوع لأنه يخرج منها و منه النفاق لأن المنافق يخرج إلى المؤمن بالإيمان و إلى الكافر بالكفر.

المعنى‏

لما وصف القرآن بأنه‏ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ‏ بين صفة المتقين فقال‏ «الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ» أي يصدقون بجميع ما أوجبه الله تعالى أو ندب إليه أو أباحه و قيل يصدقون بالقيامة و الجنة و النار عن الحسن و قيل بما جاء من عند الله عن ابن عباس و قيل بما غاب عن العباد علمه عن ابن مسعود و جماعة من الصحابة و هذا أولى لعمومه و يدخل فيه ما رواه أصحابنا من زمان غيبة المهدي ع و وقت خروجه و قيل الغيب هو القرآن عن زر بن حبيش و قال الرماني الغيب خفاء الشي‏ء عن الحسن قرب أو بعد إلا أنه كثرت صفة غايب على البعيد الذي لا يظهر للحس و قال البلخي الغيب كل ما أدرك بالدلائل و الآيات مما يلزم معرفته و قالت المعتزلة بأجمعها الإيمان هو فعل الطاعة ثم اختلفوا فمنهم من اعتبر الفرائض و النوافل و منهم من اعتبر الفرائض حسب و اعتبروا اجتناب الكبائر كلها و

قد روى الخاص و العام عن علي بن موسى الرضا ع‏ أن الإيمان هو التصديق بالقلب‏


121
مجمع البيان في تفسير القرآن1

النزول ..... ص : 122

و الإقرار باللسان و العمل بالأركان‏ و قد روي ذلك على لفظ آخر عنه أيضا الإيمان قول مقول و عمل معمول و عرفان بالعقول و اتباع الرسول‏

و أقول أن أصل الإيمان هو المعرفة بالله و برسله و بجميع ما جاءت به رسله و كل عارف بشي‏ء فهو مصدق به يدل عليه هذه الآية فإنه تعالى لما ذكر الإيمان علقه بالغيب ليعلم أنه تصديق للمخبر به من الغيب على معرفة و ثقة ثم أفرده بالذكر عن سائر الطاعات البدنية و المالية و عطفهما عليه فقال‏ «وَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ» و الشي‏ء لا يعطف على نفسه و إنما يعطف على غيره و يدل عليه أيضا أنه تعالى حيث ذكر الإيمان إضافة إلى القلب فقال‏ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ‏ و قال‏ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ‏ و

قال النبي ص‏ الإيمان سر و أشار إلى صدره و الإسلام علانية

و قد يسمى الإقرار إيمانا كما يسمى تصديقا إلا أنه متى صدر عن شك أو جهل كان إيمانا لفظيا لا حقيقيا و قد تسمى أعمال الجوارح أيضا إيمانا استعارة و تلويحا كما تسمى تصديقا كذلك فيقال فلان تصدق أفعاله مقاله و لا خير في قول لا يصدقه الفعل و الفعل ليس بتصديق حقيقي باتفاق أهل اللغة و إنما استعير له هذا الاسم على الوجه الذي ذكرناه فقد آل الأمر تسليم صحة الخبر و قبوله إلى أن الإيمان هو المعرفة بالقلب و التصديق به على نحو ما تقتضيه اللغة و لا يطلق لفظه إلا على ذلك إلا أنه يستعمل في الإقرار باللسان و العمل بالأركان مجازا و اتساعا و بالله التوفيق و قد ذكرنا في قوله‏ «وَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ» وجهين اقتضاهما اللغة و قيل أيضا إنه مشتق من القيام في الصلوة و لذلك قيل قد قامت الصلاة و إنما ذكر القيام لأنه أول أركان الصلاة و أمدها و إن كان المراد به هو و غيره و الصلاة في الشرع عبارة عن أفعال مخصوصة على وجوه مخصوصة و هذا يدل على أن الاسم ينقل من اللغة إلى الشرع و قيل إن هذا ليس بنقل بل هو تخصيص لأنه يطلق على الذكر و الدعاء في مواضع مخصوصة و قوله تعالى‏ «وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ» يريد و مما أعطيناهم و ملكناهم يخرجون على وجه الطاعة و حكي عن ابن عباس أنه الزكاة المفروضة و عن ابن مسعود أنه نفقة الرجل على أهله لأن الآية نزلت قبل وجوب الزكاة و عن الضحاك هو التطوع بالنفقة و

روي محمد بن مسلم عن الصادق ع‏ أن معناه و مما علمناهم يبثون‏

و الأولى حمل الآية على عمومها و حقيقة الرزق هو ما صح أن ينتفع به المنتفع و ليس لأحد منعه منه و هذه الآية تدل على أن الحرام لا يكون رزقا لأنه تعالى مدحهم بالإنفاق مما رزقهم و المنفق من الحرام لا يستحق المدح على الإنفاق بالاتفاق فلا يكون رزقا.

النزول‏

قال بعضهم هذه الآية تناولت مؤمني العرب خاصة بدلالة قوله فيما بعد «وَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ» الآية فهذا في مؤمني أهل الكتاب إذ لم يكن للعرب كتاب‏


122
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 4] ..... ص : 123

قبل القرآن و هذا غير صحيح لأنه لا يمتنع أن تكون الآية الأولى عامة في جميع المؤمنين و إن كانت الثانية خاصة في قوم منهم و يجوز أن يكون المراد بالآيات قوما واحدا وصفوا بجميع ذلك بأن جمع بين أوصافهم بواو العطف كقول الشاعر.

إلى الملك القرم و ابن الهمام‏

و ليث الكتيبة في المزدحم.

 

[سورة البقرة (2): آية 4]

وَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)

القراءة

أهل الحجاز غير ورش و أهل البصرة لا يمدون حرفا لحرف و هو أن تكون المدة من كلمة و الهمزة من أخرى نحو «بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ» و نحوه و أما أهل الكوفة و ابن عامر و ورش عن نافع فإنهم يمدون ذلك و ورش أطولهم مدا ثم حمزة ثم عاصم برواية الأعشى و الباقون يمدون مدا وسطا من غير إفراط فالمد للتحقيق و حذفه للتخفيف و أما السكتة بين المدة و الهمزة فعن حمزة و وافقه عاصم و الكسائي على اختلاف عنهما و كان يقف حمزة قبل الهمزة أيضا فيسكت على اللام شيئا من قوله‏ بِالْآخِرَةِ ثم يبتدئ بالهمزة و كذلك يقطع على الياء من شي‏ء كأنه يقف ثم يهمز و الباقون بغير سكتة.

الإعراب‏

إليك و لديك و عليك الأصل فيها إلاك و علاك و لداك إلا أن الألف غيرت مع المضمر فأبدلت ياء ليفصل بين الألف في آخر الاسم المتمكن و بينها في آخر غير المتمكن الذي الإضافة لازمة له أ لا ترى أن إلى و على و لدى لا تنفرد من الإضافة فشبهت بها كلا إذا أضيفت إلى الضمير لأنها لا تنفرد و لا تكون كلاما إلا بالإضافة و ما موصول و أنزل صلته و فيه ضمير يعود إلى ما و الموصول مع صلته في موضع جر بالباء و الجار و المجرور في موضع نصب بأنه مفعول يؤمنون و يؤمنون صلة للذين و «الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ» في موضع جر بالعطف و العطف فيه على وجهين أحدهما أن يكون عطف أحد الموصوفين على الآخر و الآخر أن يكون جمع الأوصاف لموصوف واحد.

المعنى‏

ثم بين تعالى تمام صفة المتقين فقال‏ «وَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ» يعني القرآن‏ «وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ» يعني الكتب المتقدمة و قوله‏ «وَ بِالْآخِرَةِ» أي بالدار الآخرة لأن الآخرة صفة فلا بد لها من موصوف و قيل أراد به الكرة الآخرة و إنما وصفت بالآخرة لتأخرها عن الدنيا كما سميت الدنيا دنيا لدنوها من الخلق و قيل لدناءتها «هُمْ يُوقِنُونَ» يعلمون و سمي‏


123
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 5] ..... ص : 124

العلم يقينا لحصول القطع عليه و سكون النفس إليه فكل يقين علم و ليس كل علم يقينا و ذلك أن اليقين كأنه علم يحصل بعد الاستدلال و النظر لغموض المعلوم المنظور فيه أو لإشكال ذلك على الناظر و لهذا لا يقال في صفة الله تعالى موقن لأن الأشياء كلها في الجلاء عنده على السواء و إنما خصهم بالإيقان بالآخرة و إن كان الإيمان بالغيب قد شملها لما كان من كفر المشركين بها و جحدهم إياها في نحو ما حكي عنهم في قوله‏ وَ قالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَ نَحْيا فكان في تخصيصهم بذلك مدح لهم.

[سورة البقرة (2): آية 5]

أُولئِكَ عَلى‏ هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)

اللغة

«أُولئِكَ» اسم مبهم يصلح لكل حاضر تعرفه الإشارة و هو جمع ذلك في المعنى و أولاء جمع ذا في المعنى و من قصر قال أولا و ألاك و أولالك و إذا مد لم يجز زيادة اللام لئلا يجتمع ثقل الزيادة و ثقل الهمزة قال الشاعر:

ألا لك قوم لم يكونوا أشابة

و هل يعظ الضليل إلا أولالكا

 

و «الْمُفْلِحُونَ» المنجحون الفائزون و الفلاح النجاح قال الشاعر:

اعقلي إن كنت لما تعقلي‏

فلقد أفلح من كان عقل‏

 

أي ظفر بحاجته و الفلاح أيضا البقاء قال لبيد:

نحل بلادا كلها حل قبلنا

و نرجو الفلاح بعد عاد و تبعا

 

و أصل الفلح القطع و منه قيل الفلاح للأكار [الحراث‏] لأنه يشق الأرض و في المثل الحديد بالحديد يفلح فالمفلح على هذا كأنه قطع له بالخير.

الإعراب‏

موضع أولئك رفع بالابتداء و الخبر «عَلى‏ هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ» و هو اسم مبني و الكاف حرف خطاب لا محل له من الإعراب و كسرت الهمزة فيه لالتقاء الساكنين و كذلك قوله‏ «وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» إلا أن قوله‏ «هُمُ» فيه وجهان (أحدهما) أنه فصل يدخل بين المبتدأ أو الخبر و ما كان في الأصل مبتدأ و خبرا للتأكيد و لا موضع له من الإعراب و الكوفيون يسمونه عمادا و إنما يدخل ليؤذن أن الاسم بعده خبر و ليس بصفة و إنما يدخل أيضا إذا كان الخبر معرفة أو ما أشبه المعرفة نحو قوله تعالى‏ «تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً»


124
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 125

و الوجه الآخر أن يكون هم مبتدأ ثانيا و المفلحون خبره و الجملة في موضع رفع بكونها خبر أولئك.

المعنى‏

لما وصف المتقين بهذه الصفات بين ما لهم عنده تعالى فقال‏ «أُولئِكَ» إشارة إلى الموصوفين بجميع الصفات المتقدمة و هم جملة المؤمنين‏ «عَلى‏ هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ» أي من دين ربهم و قيل على دلالة و بيان من ربهم و إنما قال‏ «مِنْ رَبِّهِمْ» لأن كل خير و هدى فمن الله تعالى أما لأنه فعله و أما لأنه عرض له بالدلالة عليه و الدعاء إليه و الإثابة على فعله و على هذا يجوز أن يقال الإيمان هداية منه تعالى و إن كان من فعل العبد ثم كرر تفخيما فقال‏ «وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» أي الظافرون بالغيبة و الباقون في الجنة.

النزول‏

قال مجاهد أربع آيات من أول السورة نزلت في المؤمنين و آيتان بعدها نزلت في الكافرين و ثلاث عشرة آية بعدها نزلت في المنافقين.

[سورة البقرة (2): آية 6]

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (6)

القراءة

قوله تعالى: «أَ أَنْذَرْتَهُمْ» فيه ثلاث قراءات قرأ عاصم و حمزة و الكسائي إذا حقق بهمزتين و قرأ أهل الحجاز و أبو عمر بالهمزة و المد و تليين الهمزة الثانية و الباقون يجعلونها بين بين و كذلك قراءة الكسائي إذا خففت و أبو عمرو أطول مدا من ابن كثير و اختلف في المد عن نافع و قرأ ابن عامر بألف بين همزتين و يجوز في العربية ثلاثة أوجه غيرها «أَ أَنْذَرْتَهُمْ» بتحقيق الهمزة الأولى و تخفيف الثانية بجعلها بين بين و أنذرتهم بهمزة واحدة و عليهم أنذرتهم على إلقاء حركة الهمزة على الميم نحو قد أفلح فيما روي عن نافع.

الحجة

أما وجه الهمزتين فهو أنه الأصل لأن الأولى همزة الاستفهام و الثانية همزة أفعل و أما إدخال الألف بين الهمزتين فمن قرأه أراد أن يفصل بين الهمزتين استثقالا لاجتماع المثلين كما فصل بين النونين في نحو أضربنان استثقالا لاجتماع النونات و منه قول ذي الرمة:

فيا ظبية الوعساء بين جلاجل‏

و بين النقاء أنت أم أم سالم‏

 

و أما من فصل بين الهمزتين و لين الثانية فوجهه التخفيف من جهتين الفصل و التليين لأنك إذا لينتها فقد أمتها و صار اللفظ كأنه لا استفهام فيه ففي المد توكيد الدلالة على‏


125
مجمع البيان في تفسير القرآن1

اللغة ..... ص : 126

الاستفهام كما في تحقيق الهمزة و أما من حقق الأولى و لين الثانية من غير فصل بالألف فهو القياس لأنه جعل التليين عوضا عن الفصل و أما من اكتفى بهمزة واحدة فإنه طرح همزة الاستفهام و هو ضعيف و قد جاء في الشعر قال عمر بن أبي ربيعة:

لعمرك ما أدري و إن كنت داريا

بسبع رمين الجمر أم بثمان‏

 

و أما من ألقى حركة الهمزة على الميم فإنه على تليين الأولى و تحقيق الثانية و العرب إذا لينوا الهمزة المتحركة و قبلها ساكن ألقوا حركتها على ما قبلها قالوا من بوك و من مك و كم بلك.

اللغة

الكفر خلاف الشكر كما أن الحمد خلاف الذم فالكفر ستر النعمة و إخفاؤها و الشكر نشرها و إظهارها و الشكر نشرها و إظهارها و كل ما ستر شيئا فقد كفره قال لبيد

(في ليلة كفر النجوم غمامها)

 

أي سترها و سواء مصدر أقيم مقام الفاعل كقولك زور و صوم و معناه مستو و الاستواء الاعتدال و السواء العدل قال زهير:

أروني خطة لا خسف فيها

يسوي بيننا فيها السواء

 

و قالوا سي بمعنى سواء كما قالوا قي و قواء و سيان أي مثلان و الإنذار إعلام معه تخويف فكل منذر معلم و ليس كل معلم منذرا و يوصف القديم تعالى بأنه منذر لأن الإعلام يجوز وصفه به و التخويف أيضا كذلك لقوله‏ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ‏ فإذا جاز وصفه بالمعنيين جاز وصفه بما يشتمل عليهما و أنذرت يتعدى إلى مفعولين كقوله‏ «إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً» و قد ورد إلى المفعول الثاني بالباء في قوله‏ قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ‏ و قيل الإنذار هو التحذير من مخوف يتسع زمانه للاحتراز منه فإن لم يتسع فهو أشعار.

الإعراب‏

إن حرف توكيد و هي تنصب الاسم و ترفع الخبر و إنما نصبت و رفعت لأنها تشبه الفعل لكونها على وزنه و لأنها توكيد و التوكيد من معاني الفعل و تشبهه في اتصال ضمير المتكلم نحو إنني و هي مبنية على الفتح كالفعل الماضي و إنما ألزمت تقديم المنصوب على المرفوع ليعلم أنها إنما عملت على جهة التشبيه فجعلت كفعل قدم مفعوله على فاعله و «الَّذِينَ كَفَرُوا» في موضع نصب لكونه اسم إن و كفروا صلة الذين و أما خبرها ففيه وجهان (أحدهما) أن يكون الجملة التي هي‏ «سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ» فعلى هذا يكون سواء يرتفع بالابتداء و كما بعده مما دخل عليه حرف الاستفهام في موضع الخبر و الجملة في موضع رفع بأنها خبر إن و يكون قوله‏ «لا يُؤْمِنُونَ» حالا من الضمير المنصوب‏


126
مجمع البيان في تفسير القرآن1

الإعراب ..... ص : 126

على حد معه صقر صائدا به و بالِغَ الْكَعْبَةِ و يستقيم أن يكون أيضا استئنافا و الوجه الثاني أن يكون لا يؤمنون خبر إن و يكون قوله‏ «سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ» اعتراضا بين الخبر و الاسم فلا يكون له موضع من الإعراب كما حكم على موضعه بالرفع بالوجه الأول فأما إذا قدرت هذا الكلام على ما عليه المعنى فقلت سواء عليهم الإنذار و تركه كان سواء خبر المبتدأ لأنه يكون تقديره الإنذار و تركه مستويان عليهم و إنما قلنا أنه مرتفع بالابتداء على ما عليه التلاوة لأنه لا يجوز أن يكون خبرا فإنه ليس في ظاهر الكلام مخبر عنه و إذا لم يكن مخبر عنه بطل أن يكون خبرا فإذا فسد ذلك ثبت أنه مبتدأ و أيضا فإنه قبل الاستفهام و ما قبل الاستفهام لا يكون داخلا في حيز الاستفهام فلا يجوز إذا أن يكون الخبر عما في الاستفهام متقدما على الاستفهام و نظير ما في الآية من أن خبر المبتدأ ليس المبتدأ و لا له فيه ذكر ما أنشده أبو زيد:

فإن حراما لا أرى الدهر باكيا

على شجوة إلا بكيت على عمرو

 

و قوله‏ «أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ» لفظه لفظ الاستفهام و معناه الخبر و هذه الهمزة تسمى ألف التسوية و التسوية آلتها همزة الاستفهام و أم تقول أ زيد عندك أم عمرو تريد أيهما عندك و لا يجوز في مكانها أو لأن أو لا يكون معادلة الهمزة و تفسير المعادلة أن تكون أم مع الهمزة بمنزلة أي فإذا قلت أ زيد عندك أو عمرو كان معناه أحد هذين عندك و يدل على ذلك أن الجواب مع زيد أم عمرو يقع بالتعيين و مع أ زيد أو عمرو يقع بنعم أو لا و إنما جرى عليه لفظ الاستفهام و إن كان خبرا لأن فيه التسوية التي في الاستفهام أ لا ترى أنك إذا قلت سواء علي أ قمت أم قعدت فقد سويت الأمرين عليك كما إنك إذا استفهمت فقلت أ قام زيد أم قعد فقد استوى الأمران عندك في الاستفهام و عدم علم أحدهما بعينه فلما عمتهما التسوية جرى على هذا الخبر لفظ الاستفهام لمشاركته له في الإبهام فكل استفهام تسوية و إن لم يكن كل تسوية استفهاما و قال النحويون إن نظير سواء في هذا قولك ما أبالي أقبلت أم أدبرت لأنه وقع موقع أي فكأنك قلت ما أبالي أي هذين كان منك و ما أدري أحسنت أم أسأت و ليت شعري أ قام أم قعد و قال حسان:

ما أبالي أنب بالحزن تيس‏

أم لحاني بظهر غيب لئيم‏

 

و مثله في أنه في صورة الاستفهام و هو خبر قول جرير:

أ لستم خير من ركب المطايا

و أندى العالمين بطون راح‏

 


127
مجمع البيان في تفسير القرآن1

النزول ..... ص : 128

و لو كان استفهاما لم يكن مدحا و قول الآخر:

سواء عليه أي حين أتيته‏

أ ساعة نحس تتقي أم بأسعد.

 

النزول‏

قيل نزلت في أبي جهل و خمسة من أهل بيته قتلوا يوم بدر عن الربيع بن أنس و اختاره البلخي و قيل نزلت في قوم بأعيانهم من أحبار اليهود ممن كفر بالنبي ص عنادا و كتم أمره حسدا عن ابن عباس و قيل نزلت في أهل الختم و الطبع الذين علم الله أنهم لا يؤمنون عن أبي علي الجبائي و قيل نزلت في مشركي العرب عن الأصم و قيل هي عامة في جميع الكفار أخبر تعالى بأن جميعهم لا يؤمنون و يكون كقول القائل لا يقدم جميع إخوتك اليوم فلا ينكر أن يقدم بعضهم و اختار الشيخ أبو جعفر قدس الله روحه أن يكون على الاختصاص و تجويز كل واحد من الأقوال الآخر و هذا أظهر و أسبق إلى الفهم.

المعنى‏

لما بين تعالى حال المؤمنين وصله بذكر الكافرين و الكفر في الشرع عبارة عن جحد ما أوجب الله تعالى معرفته من توحيده و عدله و معرفة نبيه و ما جاء به من أركان الشرع فمن جحد شيئا من ذلك كان كافرا و هذه الآية تدل على أن في المكلفين من لا لطف له لأنه لو كان لفعل و لآمنوا فلما أخبر أنهم لا يؤمنون علم أنهم لا لطف لهم و تدل على صدق النبي ص لأنه أخبر بأنهم لا يؤمنون فكان كما أخبر و تدل أيضا على أنه يجوز أن يخاطب الله تعالى بالعام و المراد به الخاص في قول من قال الآية عامة لأنا نعلم أن في الكفار من آمن و انتفع بالإنذار.

سؤال‏

إن قال قائل إذا علم الله تعالى بأنهم لا يؤمنون و كانوا قادرين على الإيمان عندكم فما أنكرتم أن يكونوا قادرين على إبطال علم الله بأنهم لا يؤمنون.

الجواب‏

أنه لا يجب ذلك كما أنه لا يجب إذا كانوا مأمورين بالإيمان أن يكونوا مأمورين بإبطال علم الله كما لا يجب إذا كان الله تعالى قادرا على أن يقيم القيامة الساعة أن يكون قادرا على إبطال علمه بأنه لا يقيمها الساعة و الصحيح أن نقول إن العلم يتناول الشي‏ء على ما هو به و لا يجعله على ما هو به فلا يمتنع أن يعلم حصول شي‏ء بعينه و إن كان غيره مقدورا.


128
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 7] ..... ص : 129

[سورة البقرة (2): آية 7]

خَتَمَ اللَّهُ عَلى‏ قُلُوبِهِمْ وَ عَلى‏ سَمْعِهِمْ وَ عَلى‏ أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (7)

القراءة

القراءة الظاهرة «غِشاوَةٌ» بكسر الغين و رفع الهاء و روي عن عاصم في الشواذ غشاوة بالنصب و عن الحسن بضم الغين و عن بعضهم بفتح الغين و عن بعضهم غشوة بغير ألف و قرأ أبو عمرو و الكسائي على أبصارهم بالإمالة و الباقون بالتفخيم و للقراء في الإمالة مذاهب يطول شرحها.

الحجة

حجة من رفع غشاوة أنه لم يحمله على ختم كما في الآية الأخرى‏ وَ خَتَمَ عَلى‏ سَمْعِهِ وَ قَلْبِهِ وَ جَعَلَ عَلى‏ بَصَرِهِ غِشاوَةً فإذا لم يحملها عليه قطعها عنه فكانت مرفوعة إما بالظرف و إما بالابتداء و كذلك قوله‏ «وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ» فإن عند سيبويه ترتفع غشاوة و عذاب بأنه مبتدأ فكأنه قال غشاوة على أبصارهم و عذاب لهم و عند الأخفش يرتفع بالظرف لأن الظرف يضمر فيه فعل و ستعرف فائدة اختلافهما في هذه المسألة بعد إن شاء الله تعالى و من نصب غشاوة فأما أن يحملها على ختم كأنه قال و ختم على أبصارهم بغشاوة فلما حذف حرف الجر وصل الفعل إليها فنصبها و هذا لا يحسن لأنه فصل بين حرف العطف و المعطوف به و ذلك إنما يجوز في الشعر و إما أن يحملها على فعل مضمر كأنه قال و جعل على أبصارهم غشاوة نحو قول الشاعر

(علفتها تبنا و ماء باردا)

 

أي و سقيتها و قول الآخر:

يا ليت بعلك قد غزا

متقلدا سيفا و رمحا

 

أي و حاملا رمحا و هذا أيضا لا يوجد في حال الاختيار فقد صح أن الرفع أولى و تكون الواو عاطفة جملة على جملة و الغشاوة فيها ثلاث لغات فتح الغين و ضمها و كسرها و كذلك الغشوة فيها ثلاث لغات.

اللغة

الختم نظير الطبع يقال طبع عليه بمعنى ختم عليه و يقال طبعه أيضا بغير حرف و لا يمتنع في ختم ذلك قال:

كان قرادى زورة طبعتهما

بطين من الجولان كتاب أعجم‏

 

و قوله‏ خِتامُهُ مِسْكٌ‏ أي آخره و منه ختم الكتاب لأنه آخر حال الفراغ منه و قوله‏ «عَلى‏ سَمْعِهِمْ» يريد على أسماعهم و السمع مصدر تقول يعجبني ضربكم أي ضروبكم فيوحد لأنه مصدر و يجوز أن يريد على مواضع سمعهم فحذفت مواضع و دل السمع عليها كما يقال‏


129
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 130

أصحابك عدل أي ذوو عدل و يجوز أن يكون لما أضاف السمع إليهم دل على معنى إسماعهم قال الشاعر:

بها جيف الحسرى فأما عظامها

فبيض و أما جلدها فصليب‏

 

و قال الآخر

(في حلقكم عظم و قد شجينا)

 

أي في حلوقكم و الغشاوة الغطاء و كل ما اشتمل على الشي‏ء بني على فعالة نحو العمامة و القلادة و العصابة و كذلك أسماء الصناعات كالخياطة و القصارة و الصياغة لأن معنى الصناعة الاشتمال على كل ما فيها و كذلك كل من استولى على شي‏ء فاسم ما استولى عليه الفعالة كالإمارة و الخلافة و غير ذلك و سمي القلب قلبا لتقلبه بالخواطر قال الشاعر:

ما سمي القلب إلا من تقلبه‏

و الرأي يعزب و الإنسان أطوار

 

و الفؤاد محل القلب و الصدر محل الفؤاد و قد يعبر عن القلب بمحله كقوله‏ «لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ» و قال‏ «أَ لَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ» يعني به القلب في الموضعين و العذاب استمرار الألم يقال عذبته تعذيبا و عذابا و يقال عذب الماء إذا استمر في الحلق و حمار عاذب و عذوب إذا استمر به العطش فلم يأكل من شدة العطش و فرس عذوب مثل ذلك و أعذبته عن الشي‏ء بمعنى فطمته و العظيم الكبير يقال هو عظيم الجثة و عظيم الشأن سمي سبحانه عظيما و عظمته كبرياؤه.

المعنى‏

قيل في معنى الختم وجوه (أحدها) أن المراد بالختم العلامة و إذا انتهى الكافر من كفره إلى حالة يعلم الله تعالى أنه لا يؤمن فإنه يعلم على قلبه علامة و قيل هي نكتة سوداء تشاهدها الملائكة فيعلمون بها أنه لا يؤمن بعدها فيذمونه و يدعون عليه كما أنه تعالى يكتب في قلب المؤمن الإيمان و يعلم عليه علامة تعلم الملائكة بها أنه مؤمن فيمدحونه و يستغفرون له و كما طبع على قلب الكافر و ختم عليه فوسمه بسمة تعرف بها الملائكة كفره فكذلك وسم قلوب المؤمنين بسمات تعرفهم الملائكة بها و قد تأول على مثل هذا مناولة الكتاب باليمين و الشمال في أنها علامة أن المناول باليمين من أهل الجنة و المناول بالشمال من أهل النار و قوله تعالى‏ «بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ» يحتمل أمرين أحدهما أنه طبع عليها جزاء للكفر و عقوبة عليه و الآخر أنه طبع عليها بعلامة كفرهم كما تقول طبع عليه بالطين و ختم عليه بالشمع (و ثانيها) أن المراد بالختم على القلوب إن الله شهد عليها و حكم بأنها لا تقبل الحق كما يقال أراك تختم على كل ما يقوله فلان أي تشهد


130
مجمع البيان في تفسير القرآن1

سؤال ..... ص : 131

به و تصدقه و قد ختمت عليك بأنك لا تفلح أي شهدت و ذلك استعارة (و ثالثها) أن المراد بذلك أنه تعالى ذمهم بأنها كالمختوم عليها في أنه لا يدخلها الإيمان و لا يخرج عنها الكفر كقوله‏ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ‏ و كقول الشاعر

(أصم عما ساءه سميع)

 

و قول الآخر:

لقد أسمعت لو ناديت حيا

و لكن لا حياة لمن تنادي‏

 

و المعنى أن الكفر تمكن من قلوبهم فصارت كالمختوم عليها و صاروا بمنزلة من لا يفهم و لا يبصر و لا يسمع عن الأصم و أبي مسلم الأصفهاني (و رابعها) أن الله وصف من ذمه بهذا الكلام بأن قلبه ضاق عن النظر و الاستدلال فلم ينشرح له فهو خلاف من ذكره في قوله‏ أَ فَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى‏ نُورٍ مِنْ رَبِّهِ‏ و مثل قوله‏ «أَمْ عَلى‏ قُلُوبٍ أَقْفالُها» و قوله‏ «وَ قالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ‏ و قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ» و يقوي ذلك أن المطبوع على قلبه وصف بقلة الفهم بما يسمع من أجل الطبع فقال‏ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا و قال‏ وَ طُبِعَ عَلى‏ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ‏ و يبين ذلك قوله تعالى‏ «قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَ أَبْصارَكُمْ وَ خَتَمَ عَلى‏ قُلُوبِكُمْ» فعدل الختم على القلوب بأخذه السمع و البصر فدل هذا على أن الختم على القلب هو أن يصير على وصف لا ينتفع به فيما يحتاج فيه إليه كما لا ينتفع بالسمع و البصر مع أخذهما و إنما يكون ضيقه بأن لا يتسع لما يحتاج إليه فيه من النظر و الاستدلال الفاصل بين الحق و الباطل و هذا كما يوصف الجبان بأنه لا قلب له إذا بولغ في وصفه بالجبن لأن الشجاعة محلها القلب فإذا لم يكن القلب الذي هو محل الشجاعة لو كانت فإن لا تكون الشجاعة أولى قال طرفة:

فالهبيت لا فؤاد له‏

و الثبيت قلبه قيمه‏

 

و كما وصف الجبان بأنه لا فؤاد له و أنه يراعة و أنه مجوف كذلك وصف من بعد عن قبول الإسلام بعد الدعاء إليه و إقامة الحجة عليه بأنه مختوم على قلبه و مطبوع عليه و ضيق صدره و قلبه في كنان و في غلاف و هذا من كلام الشيخ أبي علي الفارسي و إنما قال ختم الله و طبع الله لأن ذلك كان لعصيانهم الله تعالى فجاز ذلك اللفظ كما يقال أهلكته فلانة إذا أعجب بها و هي لا تفعل به شيئا لأنه هلك في اتباعها.

سؤال‏

إن قيل لم خص هذه الأعضاء بالذكر.

فالجواب‏

قيل إنها طرق العلم فالقلب محل العلم و طريقه إما السماع أو الرؤية.

[سورة البقرة (2): آية 8]

وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ ما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8)


131
مجمع البيان في تفسير القرآن1

اللغة ..... ص : 132

اللغة

الناس و البشر و الإنس نظائر و هي الجماعة من الحيوان المتميزة بالصورة الإنسانية و أصله أناس من الإنس و وزنه فعال فأسقطت الهمزة منها لكثرة الاستعمال إذا دخلها الألف و اللام للتعريف ثم أدغمت لام التعريف في النون كما قيل لكنا و الأصل لكن إنا و قيل الناس مأخوذة من النوس و هو الحركة و تصغيره نويس و وزنه فعل و قيل أخذ من الظهور فسمي ناسا و إنسانا لظهوره و إدراك البصر إياه يقال آنست ببصري شيئا و قال الله سبحانه إني آنست نارا و الإنسان واحد و الناس جمعه لا من لفظه و قيل أخذ من النسيان لقوله تعالى‏ «فَنَسِيَ وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً» و أصل الإنسان إنسيان و لذلك قيل في تحقيره و تصغيره أنيسيان فرد إلى الأصل و اليوم الآخر يوم القيامة و إنما سمي آخرا لأنه يوم لا يوم بعده سواه إذ ليس بعده ليلة و قيل لأنه متأخر عن أيام الدنيا و إنما فتح نون من عند التقاء الساكنين استثقالا لتوالي الكسرتين لو قلت من الناس فأما عن الناس فلا يجوز فيه إلا الكسر لأن أول عن مفتوح و من يقول النون تدغم في الياء فمنهم من يدغم بغنة و منهم من يدغم بغير غنة.

الإعراب‏

من يقول موصول و صلة و هو مرفوع بالابتداء أو بالظرف على ما تقدم بيانه و قوله‏ «آمَنَّا بِاللَّهِ وَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ» حديث يتعلق بقوله يقول و ما حرف شبه بليس من حيث يدخل على المبتدأ و الخبر كما يدخل ليس عليهما و فيه نفي الحال كما في ليس فأجري مجراه في العمل في قول أهل الحجاز على ما جاء به التنزيل و هم مرفوع لأنه اسم ما و الباء في قوله‏ «بِمُؤْمِنِينَ» مزيدة دخلت توكيدا للنفي و هو حرف جار و مؤمنين مجرور به و بمؤمنين في موضع نصب بكونه خبر ما و لفظة من تقع على الواحد و الاثنين و الجمع و المذكر و المؤنث و لذلك عاد الذكر إليه مجموعا على المعنى و منه قول الفرزدق:

تعال فإن عاهدتني لا تخونني‏

نكن مثل من يا ذئب يصطحبان‏

 

فثني الضمير العائد إلى من على المعنى.

النزول‏

نزلت في المنافقين و هم عبد الله بن أبي بن سلول و جد بن قيس و معتب بن قشير و أصحابهم و أكثرهم من اليهود.

المعنى‏

بين الله تعالى حالهم فأخبر سبحانه أنهم يقولون صدقنا بالله و ما أنزل على رسوله من ذكر البعث فيظهرون كلمة الإيمان و كان قصدهم أن يطلعوا على أسرار


132
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 9] ..... ص : 133

المسلمين فينقلوها إلى الكفار أو تقريب الرسول إياهم كما كان يقرب المؤمنين ثم نفى عنهم الإيمان فقال‏ «وَ ما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ» و في هذا تكذيبهم فيما أخبروا عن اعتقادهم من الإيمان و الإقرار بالبعث فبين أن ما قالوه بلسانهم مخالف لما في قلوبهم و هذا يدل على فساد قول من يقول الإيمان مجرد القول.

[سورة البقرة (2): آية 9]

يُخادِعُونَ اللَّهَ وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ ما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَ ما يَشْعُرُونَ (9)

القراءة

قرأ نافع و ابن كثير و أبو عمرو و ما يخادعون إلا أنفسهم و الباقون‏ «وَ ما يَخْدَعُونَ».

الحجة

حجة من قرأ «يَخْدَعُونَ» أن فعل هنا أليق بالموضع من فاعل الذي هو في أكثر الأمر يكون لفاعلين و يدل عليه قوله في الآية الأخرى‏ «يُخادِعُونَ اللَّهَ وَ هُوَ خادِعُهُمْ» و حجة من قرأ يخادعون هو أن ينزل ما يخطر بباله من الخدع منزلة آخر يجازيه ذلك و يعاوضه إياه فيكون الفعل كأنه من اثنين فيلزم أن يقول فاعل كقول الكميت و ذكر حمارا أراد الورود

يذكر من أنى و من أين شربه‏

يؤامر نفسية كذي الهجمة الإبل‏

 

فجعل ما يكون منه من وروده الماء أو تركه الورود و التمثيل بينهما بمنزلة نفسين.

اللغة

أصل الخدع الإخفاء و الإبهام بخلاف الحق و التزوير يقال خدعت الرجل أخدعه خدعا بالكسر و خديعة و قالوا إنك لأخدع من ضب حرشته و خادعت فلانا فخدعته و النفس في الكلام على ثلاثة أوجه النفس بمعنى الروح و النفس بمعنى التأكيد تقول جاءني زيد نفسه و النفس بمعنى الذات و هو الأصل و يقال النفس غير الروح و يقال هما اسمان بمعنى واحد و يشعرون يعلمون و أصل الشعر الإحساس بالشي‏ء من جهة تدق و من هذا اشتقاق الشعر لأن الشاعر يفطن لما يدق من المعنى و الوزن و لا يوصف الله تعالى بأنه يشعر لما فيه من معنى التلطف و التخيل.

الإعراب‏

يخادعون فعل و فاعل و النون علامة الرفع و الجملة في موضع نصب بكونها حالا و ذو الحال الضمير الذي في قوله‏ «آمَنَّا» العائد إلى من و الله نصب بيخادعون‏


133
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 134

و الذين آمنوا عطف و ما نفي و إلا إيجاب و أنفسهم نصب بأنه مفعول يخادعون الثانية و ما نفي و يشعرون فعل و فاعل و كل موضع يأتي فيه إلا بعد نفي فهو إيجاب و نقض للنفي.

المعنى‏

معنى قوله‏ «يُخادِعُونَ اللَّهَ» أي يعملون عمل المخادع لأن الله تعالى لا يصح أن يخادعه من يعرفه و يعلم أنه لا يخفى عليه خافية و هذا كما تقول لمن يزين لنفسه ما يشوبه بالرياء في معاملته ما أجهله يخادع الله و هو أعلم به من نفسه أي يعمل عمل المخادع و هذا يكون من العارف و غير العارف و قيل المعنى يخادعون رسول الله لأن طاعته طاعة الله و معصيته معصية الله فحذف المضاف و أقيم المضاف إليه مقامه و هذا كقوله تعالى‏ وَ إِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ‏ و المفاعلة قد تقع من واحد كقولهم عافاه الله و عاقبت اللص و طارقت النعل فكذلك يخادعون إنما هو من واحد فمعنى يخادعون يظهرون غير ما في نفوسهم و قوله‏ «وَ الَّذِينَ آمَنُوا» أي و يخادعون المؤمنين بقولهم إذا رأوهم قالوا آمنا و هم غير مؤمنين أو بمجالستهم و مخالطتهم إياهم حتى يفشوا إليهم أسرارهم فينقلوها إلى أعدائهم و التقية أيضا تسمى خداعا فكأنهم لما أظهروا الإسلام و أبطنوا الكفر صارت تقيتهم خداعا من حيث أنهم نجوا بها من إجراء حكم الكفر عليهم و معنى قوله‏ «وَ ما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ» أنهم و إن كانوا يخادعون المؤمنين في الظاهر فهم يخادعون أنفسهم لأنهم يظهرون لها بذلك أنهم يعطونها ما تمنت و هم يوردونها به العذاب الشديد فوبال خداعهم راجع إلى أنفسهم‏ «وَ ما يَشْعُرُونَ» أي ما يعلمون أنه يرجع عليهم بالعذاب فهم في الحقيقة إنما خدعوا أنفسهم كما لو قاتل إنسان غيره فقتل نفسه جاز أن يقال أنه قاتل فلانا و لم يقتل إلا نفسه و قوله‏ «وَ ما يَشْعُرُونَ» يدل على بطلان قول أصحاب المعارف لأنه تعالى أخبر عنهم بالنفاق و بأنهم لا يعلمون ذلك.

[سورة البقرة (2): آية 10]

فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (10)

القراءة

قرأ ابن عامر و حمزة فزادهم الله بإمالة الزاي و كذلك شاء و جاء و قرأ أهل الكوفة «يَكْذِبُونَ» بفتح الياء مخففا و الباقون يكذبون.

الحجة

حجة من أمال الألف من زاد أنه يريد أن يدل بالإمالة على أن العين ياء كما أبدلوا من الضمة كسرة في عين و بيض جمع أعين و أبيض لتصح الياء و لا تقلب إلى‏


134
مجمع البيان في تفسير القرآن1

اللغة ..... ص : 135

الواو و حجة من قرأ «يَكْذِبُونَ» أن يقول إن ذلك أشبه بما قبل الكلمة و ما بعدها لأن قولهم‏ آمَنَّا بِاللَّهِ‏ كذب منهم فلهم عذاب أليم بكذبهم و ما و صلته بمعنى المصدر و في قولهم فيما بعد إِذا خَلَوْا إِلى‏ شَياطِينِهِمْ (قالُوا) إِنَّا مَعَكُمْ‏ دلالة أيضا على كذبهم فيما ادعوه من إيمانهم و إذا كان أشبه بما قبله و ما بعده كان أولى و حجة من قرأ يكذبون بالتشديد قوله‏ «وَ لَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ» و قوله‏ «وَ إِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي» و قوله‏ «بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ» و قوله‏ «وَ إِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ» و نحو ذلك و التكذيب أكثر من الكذب لأن كل من كذب صادقا فقد كذب و ليس كل من كذب مكذبا فكأنه قال و لهم عذاب أليم بتكذيبهم و أدخل كان ليدل على أن ذلك كان فيما مضى.

اللغة

المرض العلة في البدن و نقيضه الصحة قال سيبويه أمرضته جعلته مريضا و مرضته قمت عليه و وليته و زاد فعل يتعدى إلى مفعولين قال الله تعالى‏ «وَ زِدْناهُمْ هُدىً» و «زادَهُ بَسْطَةً» و مصدره الزيادة و الزيد قال‏

(كذلك زيد المرء بعد انتقاصه)

 

و الأليم الموجع فعيل بمعنى مفعل كالسميع بمعنى المسمع و النذير بمعنى المنذر و البديع بمعنى المبدع قال ذو الرمة

(يصك وجوهها وهج أليم)

 

و الكذب ضد الصدق و هو الإخبار عن الشي‏ء لا على ما هو به و الكذب ضرب من القول و هو نطق فإذا جاز في القول أن يتسع فيه فيجعل غير نطق في نحو قوله‏

(قد قالت الأنساع للبطن الحقي)

 

جاز أيضا في الكذب أن يجعل غير نطق في نحو قوله:

و ذبيانية وصت بنيها

بأن كذب القراطف و القروف‏

 

فيكون في ذلك انتفاء لها كما أنه إذا أخبر عن الشي‏ء بخلاف ما هو به كان فيه انتفاء للصدق أي كذب القراطف فأوجدوها بالغارة.

المعنى‏

«فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ» المراد بالمرض في الآية الشك و النفاق بلا خلاف و إنما سمي الشك في الدين مرضا لأن المرض هو الخروج عن حد الاعتدال فالبدن ما لم تصبه آفة يكون صحيحا سويا و كذلك القلب ما لم تصبه آفة من الشك يكون صحيحا و قيل أصل المرض الفتور فهو في القلب فتوره عن الحق كما أنه في البدن فتور الأعضاء و تقدير الآية في اعتقاد قلوبهم الذي يعتقدونه في الله و رسوله مرض أي شك حذف المضاف‏


135
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): الآيات 11 الى 12] ..... ص : 136

و أقيم المضاف إليه مقامه و قوله‏ «فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً» قيل فيه وجوه (أحدها) أن معناه ازدادوا شكا عند ما زاد الله من البيان بالآيات و الحجج إلا أنه لما حصل ذلك عند فعله نسب إليه كقوله تعالى في قصة نوح (ع) «فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً» لما ازدادوا فرارا عند دعاء نوح (ع) نسب إليه و كذلك قوله‏ «وَ أَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ» الآيات لم تزدهم رجسا و إنما ازدادوا رجسا عندها (و ثانيها) ما قاله أبو علي الجبائي أنه أراد في قلوبهم غم بنزول النبي ص المدينة و بتمكنه فيها و ظهور المسلمين و قوتهم فزادهم الله غما بما زاده من التمكين و القوة و أمده به من التأييد و النصرة (و ثالثها) ما قاله السدي إن معناه زادتهم عداوة الله مرضا و هذا في حذف المضاف مثل قوله تعالى‏ «فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ» أي من ترك ذكر الله (و رابعها) أن المراد في قلوبهم حزن بنزول القرآن بفضائحهم و مخازيهم فزادهم الله مرضا بأن زاد في إظهار مقابحهم و مساويهم و الإخبار عن خبث سرائرهم و سوء ضمائرهم و سمي الغم مرضا لأنه يضيق الصدر كما يضيقه المرض (و خامسها) ما قاله أبو مسلم الأصفهاني أن ذلك على سبيل الدعاء عليهم كقوله تعالى‏ «ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ» فكأنه دعاء عليهم بأن يخليهم الله و ما اختاروه و لا يعطيهم من زيادة التوفيق و الألطاف ما يعطي المؤمنين فيكون خذلانا لهم و هو في الحقيقة إخبار عن خذلان الله إياهم و إن خرج في اللفظ مخرج الدعاء عليهم ثم قال‏ «وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» و هو عذاب النار «بِما كانُوا يَكْذِبُونَ» أي بتكذيبهم الله و رسوله فيما جاء به من الدين أو بكذبهم في قولهم‏ «آمَنَّا بِاللَّهِ وَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ ما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ».

[سورة البقرة (2): الآيات 11 الى 12]

وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَ لكِنْ لا يَشْعُرُونَ (12)

القراءة

قرأ الكسائي قيل و غيض و سي‏ء و سيئت و حيل و سيق و جي‏ء بضم أوائل ذلك كله و روي عن يعقوب مثل ذلك و وافقهما نافع في سي‏ء و سيئت و ابن عامر فيهما و في حيل و سيق و الباقون يكسرون كلها.

الحجة

في هذه كلها ثلاث لغات الكسر و إشمام الضم و قول بالواو فأما قيل بالكسر فعلى نقل حركة العين إلى الفاء لأن أصله قول ثم قلبت الواو ياء لسكونها و انكسار ما قبلها و هو قياس مطرد في كل ما اعتلت عينه و أما الإشمام فلأجل الدلالة على الأصل‏


136
مجمع البيان في تفسير القرآن1

اللغة ..... ص : 137

مع التخفيف.

اللغة

الإفساد إحداث الفساد و هو كل ما تغير عن استقامة الحال و الصلاح نقيض الفساد و الأرض مستقر الحيوان و يقال لقوائم الفرس أرض لأنه يستقر عليها قال:

إذا ما استحمت أرضه من سمائه‏

جرى و هو مودوع و واعد مصدق‏

 

. الإعراب‏

إذا لفظة وضعت للوقت بشرط أن يكون ظرفا زمانيا و فيها معنى الشرط و إنما يعمل فيها جوابها ففي هذه الآية إذا في محل نصب لأنه ظرف قالوا لأنه الجواب و لا يجوز أن يعمل فيه قيل لهم لأن إذا في التقدير مضاف إلى قيل و المضاف إليه لا يعمل في المضاف و كذلك قوله‏ «وَ إِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا» و إذا مبني و إنما بني لتضمنه معنى في و لزومه إياه و قد يكون إذا ظرفا مكانيا في نحو قولك خرجت فإذا الناس وقوف أي ففي المكان الناس وقوف و يجوز أن ينصب وقوفا على الحال لأن ظرف المكان يجوز أن يكون خبرا عن الجثة و قيل مبني على الفتح و كذلك كل فعل ماض فمبني على الفتح و لا حرف نهي و هي تعمل الجزم في الفعل و تفسدوا مجزوم بلا و علامة الجزم فيه سقوط النون و الواو ضمير الفاعلين و ما في قوله‏ «إِنَّما» كافة كفت إن عن العمل فعاد ما بعدها إلى ما كان عليه في الأصل من كونه مبتدأ و خبرا و هو قوله‏ «نَحْنُ مُصْلِحُونَ» فنحن مبتدأ و مصلحون خبره و موضع الجملة نصب بقالوا كما تقول قلت حقا أو باطلا و نحن مبنية لمشابهتها للحروف و بنيت على الضم لأنها من ضمائر الرفع و الضمة علامة الرفع لأنها ضمير الجمع و الضمة بعض الواو و الواو علامة الجمع في نحو ضاربون و يضربون و قوله‏ «لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ» جملة في موضع رفع على تقدير قيل لهم شي‏ء فهي اسم ما لم يسم و قوله إلا كلمة تنبيه و افتتاح للكلام تدخل على كل كلام مكتف بنفسه نحو قوله‏ أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ‏ و أصله لا دخل عليه ألف الاستفهام و الألف إذا دخل على الجحد أخرجه إلى معنى التقرير و التحقيق كقوله‏ «أَ لَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى‏ أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى‏» لأنه لا يجوز للمجيب إلا الإقرار ببلى و هم في إنهم في موضع نصب بأن و هم الآخر يجوز أن يكون فصلا على ما فسرناه قبل و يجوز أن يكون مبتدأ و المفسدون خبره و الجملة خبر إن و ضم الميم من هم لالتقاء الساكنين ردوه إلى الأصل.


137
مجمع البيان في تفسير القرآن1

الإعراب ..... ص : 137

النزول‏

الآية نزلت في المنافقين الذين نزلت فيهم الآيات المتقدمة و روي عن سلمان رضي الله عنه أن أهل هذه الصفة لم يأتوا بعد و الأول يقتضيه نظم الكلام و يجوز أن يراد بها من صورتهم صورة هؤلاء فيكون قول سلمان محمولا على أنه أراد بعد انقراض المنافقين الذين تناولتهم الآية.

المعنى‏

المراد «وَ إِذا قِيلَ» للمنافقين‏ «لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ» بعمل المعاصي و صد الناس عن الإيمان على ما روي عن ابن عباس أو بممالأة الكفار فإن فيه توهين الإسلام على ما قاله أبو علي أو بتغيير الملة و تحريف الكتاب على ما قاله الضحاك‏ «قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ» و هو يحتمل أمرين أحدهما أن الذي يسمونه فسادا هو عندنا صلاح لأنا إنما نفعل ذلك كي نسلم من الفريقين و الآخر أنهم جحدوا ذلك و قالوا أنا لا نعمل بالمعاصي و لا نمالئ الكفار و لا نحرف الكتاب و كان ذلك نفاقا منهم كما قالوا «آمَنَّا بِاللَّهِ» و لم يؤمنوا ثم قال إلا أنهم أي اعلموا أن هؤلاء المنافقين الذين يعدون الفساد صلاحا «هُمُ الْمُفْسِدُونَ» و هذا تكذيب من الله تعالى لهم‏ «وَ لكِنْ لا يَشْعُرُونَ» أي لا يعلمون أن ما يفعلونه فساد و ليس بصلاح و لو علموا ذلك لرجي صلاحهم و قيل لا يعلمون ما يستحقونه من العقاب و هذه الآية تدل على بطلان مذهب أصحاب المعارف لقوله‏ «لا يَعْلَمُونَ» و إنما جاز تكليفهم و إن لم يشعروا أنهم على ضلال لأن لهم طريقا إلى العلم بذلك.

[سورة البقرة (2): آية 13]

وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَ نُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَ لكِنْ لا يَعْلَمُونَ (13)

القراءة

«السُّفَهاءُ» إلا أهل الكوفة و ابن عامر حققوا الهمزتين و أهل الحجاز و أبو عمرو همزوا الأولى و لينوا الثانية و كذا كل همزتين مختلفتين من كلمتين و قد ذكرنا الوجه فيها حيث ذكرنا اجتماع الهمزتين في كلمة واحدة و هو قوله: «أنذرتهم» ..

اللغة

السفهاء جمع سفيه و السفيه الضعيف الرأي الجاهل القليل المعرفة بمواضع المنافع و المضار و لذلك سمى الله الصبيان و النساء سفهاء بقوله‏ «وَ لا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً» و قال قطرب السفيه العجول الظلوم القائل خلاف الحق‏


138
مجمع البيان في تفسير القرآن1

الإعراب ..... ص : 139

و قال مؤرج السفيه الكذاب البهات المتعمد بخلاف ما يعلم و قيل السفه خفة الحلم و كثرة الجهل يقال ثوب سفيه إذا كان رقيقا باليا و سفهته الرياح أي طيرته و

قد جاء في الأخبار أن شارب الخمر سفيه‏

و الألف و اللام في الناس و في السفهاء للعهد لا للجنس و المراد بهم المؤمنون من أصحاب النبي ص و إنما سموا الناس لأن الغلبة كانت لهم.

الإعراب‏

قوله‏ «كَما آمَنَ» الكاف في موضع نصب بكونه صفة لمصدر محذوف و ما مع صلته بمعنى المصدر أي آمنوا إيمانا مثل إيمان الناس فحذف الموصوف و أقام الصفة مقامه و الهمزة في أ نؤمن للإنكار و أصلها الاستفهام و مثله‏ أَ نُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ‏ و إذا ظرف لقوله‏ «قالُوا أَ نُؤْمِنُ» و قد مضى الكلام فيه.

المعنى‏

المراد بالآية و إذا قيل للمنافقين صدقوا بمحمد ص و ما أنزل عليه كما صدقه أصحابه و قيل كما صدق عبد الله بن سلام و من آمن معه من اليهود قالوا أ نصدق كما صدق الجهال ثم كذبهم الله تعالى و حكم عليهم بأنهم هم الجهال في الحقيقة لأن الجاهل إنما يسمى سفيها لأنه يضيع من حيث يرى أنه يحفظ فكذلك المنافق يعصي ربه من حيث يظن أنه يطيعه و يكفر به من حيث يظن أنه يؤمن به.

[سورة البقرة (2): آية 14]

وَ إِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَ إِذا خَلَوْا إِلى‏ شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (14)

القراءة

بعض القراء ترك الهمزة من‏ «مُسْتَهْزِؤُنَ» و قوله‏ «خَلَوْا إِلى‏» قراءة أهل الحجاز خلو لي حذفوا الهمزة و ألقوا حركتها على الواو قبلها و كذلك أمثاله و الباقون أسكنوا الواو و حققوا الهمزة.

الحجة

قال سيبويه الهمزة المضمومة المكسور ما قبلها تجعلها إذا خففتها بين بين و كذلك الهمزة المكسورة إذا كان ما قبلها مضموما نحو مرتع إبلك تجعلها بين بين و ذهب الأخفش إلى أن تقلب الهمزة ياء في مستهزيون قلبا صحيحا من أجل الكسرة التي قبلها و لا تجعلها بين بين و لا تقلبها واوا مع تحركها بالضمة لخروجه إلى ما لا نظير له أ لا ترى أنه واو مضمومة قبلها كسرة و ذلك مرفوض عندهم.

اللغة

اللقاء نقيض الحجاب قال الخليل كل شي‏ء استقبل شيئا أو صادفه فقد لقيه و أصل اللقاء الاجتماع مع الشي‏ء على طريق المقاربة و الاجتماع قد يكون لا على‏


139
مجمع البيان في تفسير القرآن1

الإعراب ..... ص : 140

طريق المجاورة كاجتماع العرضين في محل و الخلأ نقيض الملأ و يقال خلوت إليه و خلوت معه و يقال خلوت به على ضربين أحدهما بمعنى خلوت معه و الآخر بمعنى سخرت منه و قد ذكرنا معنى الشيطان في مفتتح سورة الفاتحة و يستهزءون أي يهزءون و مثله يستسخرون أي يسخرون و قر و استقر و علا قرنه و استعلى قرنه و رجل هزاءة يهزأ بالناس و هزأة يهزأ به الناس و هذا قياس.

الإعراب‏

«إِنَّا» أصله إننا لكن النون حذفت لكثرة النونات و المحذوفة النون الثانية من إن لأنها التي تحذف في نحو وَ إِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ‏ و قد جاء على الأصل في قوله‏ «إِنَّنِي مَعَكُما» و معكم انتصب انتصاب الظروف نحو إنا خلفكم أي إنا مستقرون معكم و القراءة بفتح العين و يجوز للشاعر إسكان العين قال:

و ريشي منكم و هواي معكم‏

و إن كانت زيارتكم لماما.

 

المعنى‏

«وَ إِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا» يعني أن المنافقين إذا رأوا المؤمنين‏ «قالُوا آمَنَّا» أي صدقنا نحن بما أنزل على محمد ص كما صدقتم أنتم و «إِذا خَلَوْا إِلى‏ شَياطِينِهِمْ» قيل رؤساؤهم من الكفار عن ابن عباس و قيل هم اليهود الذين أمروهم بالتكذيب و

روي عن أبي جعفر الباقر ع‏ أنهم كهانهم‏

«قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ» أي على دينكم‏ «إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ» أي نستهزئ بأصحاب محمد ص و نسخر بهم في قولنا آمنا.

[سورة البقرة (2): آية 15]

اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَ يَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15)

اللغة

المد أصله الزيادة في الشي‏ء و المد الجذب لأنه سبب الزيادة في الطول و المادة كل شي‏ء يكون مددا لغيره و قال بعضهم كل زيادة حدثت في الشي‏ء من نفسه فهو مددت بغير ألف كما تقول مد النهر و مده نهر آخر و كل زيادة أحدثت في الشي‏ء من غيره فهو أمددت بالألف كما يقال أمد الجرح لأن المدة من غير الجرح و أمددت الجيش و الطغيان من قولك طغى الماء يطغى إذا تجاوز الحد و الطاغية الجبار العنيد و العمة التحير يقال عمه يعمه فهو عمه و عامة قال رؤبة:


140
مجمع البيان في تفسير القرآن1

الإعراب ..... ص : 141

 

و مهمة أطرافه في مهمة

أعمى الهدى بالحائرين العمة

 

. الإعراب‏

 

مجمع البيان فى تفسير القرآن    ج‏1    141    

«يَعْمَهُونَ» جملة في موضع الحال.

و المعنى‏

قيل في معنى الآية و تأويلها وجوه أحدها أن يكون معنى‏ «اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ» يجازيهم على استهزائهم و العرب تسمي الجزاء على الفعل باسمه و في التنزيل‏ وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها وَ إِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ‏ و قال عمرو بن كلثوم:

ألا لا يجهلن أحد علينا

فنجهل فوق جهل الجاهلينا

 

و إنما جاز ذلك لأن حكم الجزاء أن يكون على المساواة (و ثانيها) أن يكون معنى استهزاء الله تعالى بهم تخطئته إياهم و تجهيله لهم في إقامتهم على الكفر و إصرارهم على الضلال و العرب تقيم الشي‏ء مقام ما يقاربه في معناه قال الشاعر:

إن دهرا يلف شملي بجمل‏

لزمان يهم بالإحسان‏

 

و قال آخر:

كم أناس في نعيم عمروا

في ذري ملك تعالى فبسق‏

 

سكت الدهر زمانا عنهم‏

ثم أبكاهم دما حين نطق‏

 

و الدهر لا يوصف بالسكوت و النطق و الهم و إنما ذكر ذلك على الاستعارة و التشبيه (و ثالثها) أن يكون معنى الاستهزاء المضاف إليه تعالى أن يستدرجهم و يهلكهم من حيث لا يعلمون و قد روي عن ابن عباس أنه قال في معنى الاستدراج أنهم كلما أحدثوا خطيئة جدد الله لهم نعمة و إنما سمي هذا الفعل استهزاء لأن ذلك في الظاهر نعمة و المراد به استدراجهم إلى الهلاك و العقاب الذي استحقوه بما تقدم من كفرهم (و رابعها) أن معنى استهزائه بهم أنه جعل لهم بما أظهروه من موافقة أهل الإيمان ظاهر أحكامهم من الموارثة و المناكحة و المدافنة و غير ذلك من الأحكام و إن كان قد أعد لهم في الآخرة أليم العقاب بما أبطنوه من النفاق فهو سبحانه كالمستهزئ بهم من حيث جعل لهم أحكام المؤمنين ظاهرا ثم ميزهم منهم في الآخرة (و خامسها) ما روي عن ابن عباس أنه قال يفتح لهم و هم في النار باب من الجنة فيقبلون من النار إليه مسرعين حتى إذا انتهوا إليه سد عليهم و فتح لهم باب آخر في موضع آخر فيقبلون من النار إليه مسرعين حتى إذا انتهوا إليه سد


141
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 16] ..... ص : 142

عليهم فيضحك المؤمنون منهم فلذلك قال الله عز و جل: «فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ» و هذه الوجوه الذي ذكرناها يمكن أن تذكر في قوله تعالى: «وَ يَمْكُرُونَ وَ يَمْكُرُ اللَّهُ» و «يُخادِعُونَ اللَّهَ وَ هُوَ خادِعُهُمْ» و أما قوله‏ «وَ يَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ» ففيه وجهان:

(أحدهما) أن يريد أن يملي لهم ليؤمنوا و هم مع ذلك متمسكون بطغيانهم و عمههم و الآخر أنه يريد أن يتركهم من فوائده و منحه التي يؤتيها المؤمنين ثوابا لهم و يمنعها الكافرين عقابا لهم كشرح الصدر و تنوير القلب فهم في طغيانهم أي كفرهم و ضلالهم يعمهون أي يتحيرون لأنهم قد أعرضوا عن الحق فتحيروا و ترددوا.

[سورة البقرة (2): آية 16]

أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى‏ فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَ ما كانُوا مُهْتَدِينَ (16)

القراءة

قرأ جميع القراء «اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ» بضم الواو و في الشواذ عن يحيى بن يعمر أنه كسرها تشبيها بواو لو في قوله‏ لَوِ اسْتَطَعْنا و روي عن يحيى بن وثاب أنه ضم واو لو و أو تشبيها بواو الجمع.

الحجة

الواو في‏ «اشْتَرَوُا» ساكنة فإذا سقطت همزة الوصل التقت مع الساكن المبدل من لام المعرفة فالتقى ساكنان فحرك الأول منهما لالتقائهما و صار الضم أولى بها ليفصل بالضم بينها و بين واو" لو" و" أو" يدل على ذلك اتفاقهم على التحريك بالضم في نحو قوله‏ «لَتُبْلَوُنَّ» و «لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ» و مصطفو الله للدلالة على الجمع و يدل على تقرير ذلك في هذه الواو أنهم شبهوا بها الواو التي في أو و لو فحركوها بالضم تشبيها بها فكما شبهوا الواو التي في أو بالتي تدل على الجمع كذلك شبهوا هذه بها فأجازوا فيها الكسر أ لا ترى أنهم أجازوا الضم في‏ لَوِ اسْتَطَعْنا تشبيها بالتي للجمع و مثل هذا إجازتهم الجر في الضارب الرجل تشبيها بالحسن الوجه و إجازتهم النصب في الحسن الوجه تشبيها بالضارب الرجل.

اللغة

حقيقة الاشتراء الاستبدال و العرب تقول لمن تمسك بشي‏ء و ترك غيره قد اشتراه و ليس ثم شراء و لا بيع قال الشاعر:

أخذت بالجمعة رأسا أزعرا

و بالثنايا الواضحات الدردرا

 

و بالطويل العمر عمرا جيدرا

كما اشترى المسلم إذ تنصرا

 


142
مجمع البيان في تفسير القرآن1

الإعراب ..... ص : 143

و الربح الزيادة على رأس المال و منه (و من نجا برأسه فقد ربح) و التجارة التعرض للربح في البيع و قوله‏ «فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ» أي فما ربحوا في تجارتهم و العرب تقول ربح بيعك و خسر بيعك و خاب بيعك على معنى ربحت في بيعك و إنما أضافوا الربح إلى التجارة لأن الربح يكون فيها.

الإعراب‏

«أُولئِكَ» موضعه رفع بالابتداء و خبره‏ «الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى‏» و ما حرف نفي و كان صورته صورة الفعل و يستعمل على نحوين أحدهما أن لا يدل على حدث بل يدل على زمان مجرد مثل كان زيد قائما فإذا استعمل على هذا فلا بد له من خبر لأن الجملة غير مكتفية بنفسها فيزداد خبر حديثا عن الاسم و يكون اسمه و خبره في الأصل مبتدأ و خبرا فيجب لذلك أن يكون خبره هو الاسم أو فيه ذكر منه كما أن في الآية الواو في موضع الرفع لأنه اسم كان و مهتدين منصوب بأنه خبره و الياء فيه علامة النصب و الجمع و حرف الإعراب و النون عوض من الحركة و التنوين في الواحد و كان في الأصل مهتديين سكنت الياء الأولى التي هي لام الفعل استثقالا للحركة عليها ثم حذفت لالتقاء الساكنين و فتحت النون فرقا بينها و بين نون التثنية و الآخر من نحوي كان ما هو فعل حقيقي يدل على زمان و حدث كقوله تعالى: «إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً» أي تحدث فإذا استعمل هكذا فهي جملة مستقلة لا تحتاج إلى خبر.

المعنى‏

أشار إلى من تقدم ذكرهم من المنافقين فقال: «أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى‏» قال ابن عباس أخذوا الضلالة و تركوا الهدى و معناه استبدلوا الكفر بالإيمان و متى قيل كيف قال ذلك و إنما كانوا منافقين و لم يتقدم نفاقهم إيمانا فنقول للعلماء فيه وجوه (أحدها) أن المراد باشتروا استحبوا و اختاروا لأن كل مشتر مختار ما في يدي صاحبه على ما في يديه عن قتادة (و ثانيها)

أنهم ولدوا على الفطرة كما جاء في الخبر

فتركوا ذلك إلى الكفر فكأنهم استبدلوه به (و ثالثها) أنهم استبدلوا بالإيمان الذي كانوا عليه قبل البعثة كفرا لأنهم كانوا يبشرون بمحمد و يؤمنون به ص فلما بعث كفروا به فكأنهم استبدلوا الكفر بالإيمان عن الكلبي و مقاتل و قوله‏ «فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ» أي خسروا في استبدالهم الكفر بالإيمان و العذاب بالثواب و قوله: «وَ ما كانُوا مُهْتَدِينَ» أي مصيبين في تجارتهم كأصحاب محمد ص و قيل أراد سبحانه أن ينفي عنهم‏


143
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 17] ..... ص : 144

الربح و الهداية فإن التاجر قد يخسر و لا يربح و يكون على هدى فإن قيل كيف قال‏ «فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ» في موضع ذهبت فيه رءوس أموالهم فالجواب أنه ذكر الضلالة و الهدى فكأنه قال طلبوا الربح فلم يربحوا و هلكوا و المعنى فيه أنه ذهبت رءوس أموالهم و يحتمل أن يكون ذكر ذلك على التقابل و هو أن الذين اشتروا الضلالة بالهدى لم يربحوا كما أن الذين اشتروا الهدى بالضلالة ربحوا ..

[سورة البقرة (2): آية 17]

مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَ تَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (17)

اللغة

المثل و المثل و الشبه نظائر و حقيقة المثل ما جعل كالعلم على معنى سائر يشبه فيه الثاني بالأول و مثاله قول كعب بن زهير:

كانت مواعيد عرقوب لنا مثلا

و ما مواعيده إلا الأباطيل‏

 

فمواعيد عرقوب علم في كل ما لا يصح من المواعيد و منه التمثال لأنه يشبه الصورة و الذي قد يوضع موضع الجمع كقوله تعالى: «وَ الَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَ صَدَّقَ بِهِ» ثم قال‏ «أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ» قال الشاعر:

و إن الذي حانت بفلج دماؤهم‏

هم القوم كل القوم يا أم خالد

 

و استوقد بمعنى أوقد مثل استجاب بمعنى أجاب و قيل استوقد أي طلب الوقود و الوقود بفتح الواو الحطب و النار جوهر مضي‏ء حار محرق و أصله من النور يقال نار و أنار و استنار بمعنى و المنارات العلامات و أضاء يكون لازما و متعديا يقال أضاء الشين بنفسه و أضاء غيره و الذي في الآية متعد و الترك للشي‏ء و الكف عنه و الإمساك نظائر و الظلمات جمع ظلمة و أصلها انتقاص الحق من قوله‏ وَ لَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً أي لم تنقص و منه و من أشبه أباه فما ظلم أي ما انتقص حق الشبه و الإبصار إدراك الشي‏ء بحاسة البصر يقال أبصر بعينه و الإبصار بالقلب مشبه به.

الإعراب‏

مثلهم مبتدأ و كمثل الذي خبره و الكاف زائدة تقديره مثلهم مثل الذي استوقد نارا و نحوه قوله‏ «لَيْسَ كَمِثْلِهِ» أي ليس مثله شي‏ء و استوقد نارا و ما اتصل به من‏


144
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 145

صلة الذي و العائد إلى المضمر الذي في استوقد و لما يدل على وقوع الشي‏ء لوقوع غيره و هو بمعنى الظرف و العامل فيه جوابه و تقديره فلما أضاءت ما حوله طفئت أي طفئت حين أضاءت و ما في قوله‏ «ما حَوْلَهُ» اسم موصول منصوب بوقوع الإضاءة عليه و حوله نصب على الظرف و هو صلة ما يقال هم حوله و حوليه و حوالة و حواليه و قوله‏ «ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ» أي أذهب الله نورهم و الفعل الذي لا يتعدى يتعدى إلى المفعول بحرف الجر و بهمزة النقل و الباء في قوله‏ «بِنُورِهِمْ» يتعلق بذهب و «فِي ظُلُماتٍ» يتعلق بتركهم و قوله‏ «لا يُبْصِرُونَ» في موضع نصب على الحال و العامل فيه تركهم أي تركهم غير مبصرين.

المعنى‏

«مَثَلُهُمْ» أي مثل هؤلاء المنافقين لما أظهروا الإيمان و أبطنوا الكفر «كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ» أي أوقد نارا أو كمثل الذي طلب الضياء بإيقاد النار في ليلة مظلمة فاستضاء بها و استدفأ و رأى ما حوله فاتقى ما يحذر و يخاف و أمن فبينا هو كذلك إذا طفئت ناره فبقي مظلما خائفا متحيرا كذلك المنافقون لما أظهروا كلمة الإيمان و استناروا بنورها و اعتزوا بعزها فناكحوا المسلمين و وارثوهم و أمنوا على أموالهم و أولادهم فلما ماتوا عادوا إلى الظلمة و الخوف و بقوا في العذاب و ذلك معنى قوله‏ «فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ» و هذا هو المروي عن ابن عباس و قتادة و الضحاك و السدي و كان يجب في حق النظم أن يكون اللفظ فلما أضاءت ما حوله أطفأ الله ناره ليشاكل جواب لما معنى هذه القضية و لكن لما كان إطفاء هذه النار مثلا لإذهاب نورهم أقيم إذهاب النور مقام الإطفاء و حذف جواب لما إيجازا و اختصارا لدلالة الكلام عليه كما قال أبو ذؤيب:

دعاني إليها القلب إني لأمره‏

مطيع فما أدري أ رشد طلابها

 

و تقديره أ رشد أم غي طلابها فحذف للإيجاز و معنى إذهاب الله نورهم هو أن الله تعالى يسلبهم ما أعطوا من النور مع المؤمنين في الآخرة و ذلك قوله تعالى فيما أخبر عنهم‏ «انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً» و قيل في معنى إذهاب نور المنافقين وجه آخر و هو اطلاع الله المؤمنين على كفرهم فقد ذهب منهم نور الإسلام بما أظهر الله من كفرهم و قال سعيد بن جبير و محمد بن كعب و عطا الآية نزلت في اليهود و انتظارهم خروج النبي ص و إيمانهم به و استفتاحهم به على مشركي العرب فلما خرج كفروا به و ذلك أن قريظة و النضير و بني قينقاع قدموا من الشام إلى يثرب حين انقطعت النبوة من بني إسرائيل و أفضت إلى العرب فدخلوا المدينة يشهدون لمحمد ص‏


145
مجمع البيان في تفسير القرآن1

سؤال ..... ص : 146

بالنبوة و أن أمته خير الأمم و كان يغشاهم رجل من بني إسرائيل يقال له عبد الله بن هيبان قبل أن يوحى إلى النبي ص كل سنة فيحضهم على طاعة الله عز و جل و إقامة التوراة و الإيمان بمحمد ص و يقول إذا خرج فلا تفرقوا عليه و انصروه و قد كنت أطمع أن أدركه ثم مات قبل خروج النبي ص فقبلوا منه ثم لما خرج النبي ص كفروا به فضرب الله لهم هذا المثل.

سؤال‏

كيف الله شبه المنافقين أو اليهود و هم جماعة بالذي استوقد نارا و هو واحد.

الجواب‏

على وجوه (أحدها) أن الذي في معنى الجمع كما قيل في الآية الأخرى‏ وَ الَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَ صَدَّقَ بِهِ‏ (و ثانيها) أن يقال النون محذوفة من الذي كما جاء في قول الأخطل:

أ بني كليب أن عمي اللذا

قتلا الملوك و فككا الأغلالا

 

(و ثالثها) أن يكون الكلام على حذف كأنه قال مثلهم كمثل اتباع الذي استوقد نارا ثم حذف المضاف و أقام المضاف إليه مقامه كما قال الجعدي:

و كيف تواصل من أصبحت‏

خلالته كأبي مرحب‏

 

يريد كخلالة أبي مرحب (و رابعها) أن يقال أراد بالمستوقد الجنس لما في الذي من الإبهام إذ ليس يراد به تعريف واحد بعينه و على هذا يكون جواب‏ «فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ» محذوفا كأنه قال طفئت و الضمير في قوله‏ «ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ» يعود إلى المنافقين (و خامسها) أن يقال هذا تشبيه الحال بالحال فتقديره حال بحال فتقديره حال هؤلاء المنافقين في جهلهم كحال المستوقد نارا و تشبيه الحال بالحال جائز كما يقال بلادة هؤلاء كبلادة الحمار و لو قلت هؤلاء كالحمار لم يجز و معنى قوله‏ «وَ تَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ» معناه لم يفعل الله لهم النور إذ الترك هو الكف عن الفعل بالفعل و هذا إنما يصح فيمن حله فعله و الله سبحانه منزه عن أن يحله فعله فمعناه أنه لم يفعل لهم النور حتى صاروا في ظلمة أشد مما كان قبل الإيقاد و قوله‏ «لا يُبْصِرُونَ» أي لا يبصرون الطريق.

[سورة البقرة (2): آية 18]

صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (18)


146
مجمع البيان في تفسير القرآن1

اللغة ..... ص : 147

اللغة

الأصم هو الذي ولد كذلك و كذلك الأبكم هو الذي ولد أخرس و أصل الصم السد و الصمم سد الأذن بما لا يقع منه سمع و قناة صماء صلبة مكتنزة الجوف لسد جوفها بامتلائها و حجر أصم صلب و فتنة صماء شديدة و الصمام ما يسد به رأس القارورة و أصل البكم الاعتقال في اللسان و هو آفة تمنع من الكلام و أصل العمى ذهاب الإدراك بالعين و العمى في القلب مثل العمى في العين آفة تمنع من الفهم و يقال ما أعماه من عمى القلب و لا يقال ذلك في العين و إنما يقال ما أشد عماه و ما جرى مجراه و العماية الغواية و العماء السحاب الكثيف المطبق و الرجوع قد يكون عن الشي‏ء أو إلى الشي‏ء فالرجوع عن الشي‏ء هو الانصراف عنه بعد الذهاب إليه و الرجوع إلى الشي‏ء هو الانصراف إليه بعد الذهاب عنه.

الإعراب‏

«صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ» رفع على خبر مبتدإ محذوف أي هؤلاء الذين قصتهم هذه صم بكم عمي.

المعنى‏

قال قتادة «صُمٌّ» لا يسمعون الحق‏ «بُكْمٌ» لا ينطقون به‏ «عُمْيٌ» لا يبصرونه فهم لا يرجعون عن ضلالتهم و لا يتوبون و إنما شبههم الله بالصم لأنهم لم يحسنوا الإصغاء إلى أدلة الله تعالى فكأنهم صم و إذا لم يقروا بالله و برسوله فكأنهم بكم و إذا لم ينظروا في ملكوت السماوات و الأرض فكأنهم عمي لما لم تصل إليهم منفعة هذه الأعضاء فكأنهم ليس لهم هذه الأعضاء. و هذا يدل على أن معنى الختم و الطبع ليس على وجه الحيلولة بينهم و بين الإيمان لأنه جعل الفهم بالكفر و استثقالهم للحق بمنزلة الصم و البكم و العمي مع صحة حواسهم و كذلك قوله‏ طَبَعَ اللَّهُ عَلى‏ قُلُوبِهِمْ‏ و أَضَلَّهُمُ‏ و فَأَصَمَّهُمْ وَ أَعْمى‏ أَبْصارَهُمْ‏ و أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ‏ فإن جميع ذلك إخبار عما أحدثوه عند امتحان الله إياهم و أمره لهم بالطاعة و الإيمان لا أنه فعل بهم ما منعهم به عن الإيمان و هذا كما قيل في المثل حبك الشي‏ء يعمي و يصم قال مسكين الدارمي:

أعمى إذا ما جارتي خرجت‏

حتى يواري جارتي الخدر

 

و تصم عما كان بينهما

أذني و ما في سمعها وقر

 

و في التنزيل‏ «وَ تَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَ هُمْ لا يُبْصِرُونَ» و قوله‏ «فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ» يحتمل أمرين أحدهما أنه على الذم و الاستبطاء عن ابن عباس و الثاني أنهم لا يرجعون إلى الإسلام عن ابن مسعود.


147
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 19] ..... ص : 148

[سورة البقرة (2): آية 19]

أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَ رَعْدٌ وَ بَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَ اللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (19)

القراءة

ظلمات أجمع القراء على ضم اللام منه على الاتباع و روي في الشواذ عن الحسن و أبي السماك بسكون اللام و عن بعضهم بفتح اللام و أبو عمرو يميل الكاف من الكافرين في موضع الخفض و النصب و روي ذلك عن الكسائي و الباقون لا يميلون.

الحجة

الوجه في ذلك أنهم كرهوا اجتماع الضمتين فتارة عدلوا إلى الفتح فقالوا ظلمات و تارة عدلوا إلى السكون فقالوا ظلمات و كلا الأمرين حسن في اللغة و إنما أمالوا الكاف من الكافرين للزوم كسرة الراء بعد الفاء المكسورة و الراء لما فيها من التكرير تجري مجرى الحرفين المكسورين و كلما كثرت الكسرات غلبت الإمالة و حسنتها و للقراء في الإمالة مذاهب و اختلافات يطول استقصاؤها و أبو علي الفارسي رحمه الله قد بلغ الغاية و جاوز النهاية في احتجاجاتهم و ذكر من التحقيق فيها و التدقيق ما ينبو عنه فهم كثير من علماء الزمان فالتعمق في إيراد أبوابها و حججها و الغوص إلى لججها لا يليق بتفسير القرآن و كذلك ما يتعلق بفن القراءة من علوم الهمزة و الإدغام و المد فإن لذلك كتبا مؤلفة يرجع إليها و يعول عليها فالرأي أن نلم بأطرافها و نقتصر على بعض أوصافها فيما يأتي من الكتاب أن شاء الله تعالى.

اللغة

الصيب المطر أصله صيوب فيعل من الصواب لكن اجتمعت الواو و الياء و أولاهما ساكنة فصارتا ياء مشددة و مثله سيد و جيد و السماء: المعروف و كل ما علاك و أظلك فهو سماء و سماء البيت سقفه و أصابهم سماء أي مطر و أصله سما من سموت فقلبت الواو همزة لوقوعها طرفا بعد ألف زائدة و جعل يكون على وجوه (أحدها) أن يتعدى إلى مفعولين نحو جعلت الطين خزفا أي صيرت (و ثانيها) أن يأتي بمعنى صنع يتعدى إلى مفعول واحد نحو قوله‏ «وَ جَعَلَ الظُّلُماتِ وَ النُّورَ» (و ثالثها) أن يأتي بمعنى التسمية كقوله تعالى‏ «وَ جَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً» أي سموا له (و رابعها) أن يأتي بمعنى أفعال المقاربة نحو جعل زيد


148
مجمع البيان في تفسير القرآن1

الإعراب ..... ص : 149

يفعل كذا و الصواعق جمع صاعقة و هي الوقع الشديد من السحاب يسقط معه نار تحرق و الصاعقة صيحة العذاب و الحذر طلب السلامة مما يخاف.

الإعراب‏

«أَوْ» هاهنا للإباحة إذا قيل لك جالس الفقهاء أو المحدثين فكلا الفريقين أهل أن يجالس فإن جالست أحدهما فأنت مطيع و إن جالست الآخر فأنت مطيع و إن جالستهما فأنت مطيع فكذلك هاهنا إن مثلت المنافقين بالمستوقد كنت مصيبا و إن مثلتهم بأصحاب الصيب فأنت مصيب و إن مثلتهم بكلا الفريقين فأنت مصيب و تقديره أو كأصحاب صيب حذف المضاف و أقام المضاف إليه مقامه لأن هذا عطف على قوله‏ «كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً» و الصيب ليس بعاقل فلا يعطف على العاقل و يجعلون في موضع الحال من أصحاب الصيب و قوله‏ «فِيهِ ظُلُماتٌ» جملة في موضع الجر بأنها صفة صيب و الضمير المتصل بفي عائد إلى صيب أو إلى السماء و «حَذَرَ الْمَوْتِ» منصوب بأنه مفعول له لأن المعنى يفعلون ذلك لحذر الموت قال الزجاج و إنما نصبه الفعل لأنه في تأويل مصدره لأن جعلهم أصابعهم في آذانهم يدل على حذرهم الموت قال الشيخ أبو علي المفعول له لا يكون إلا مصدرا لأنه يدل على أنه فعل لأجل ذلك الحدث و الحدث مصدر لكنه ليس مصدرا عن هذا الفعل بل عن فعل آخر.

المعنى‏

مثل هؤلاء المنافقين في جهلهم و شدة تحيرهم‏ «كَصَيِّبٍ» أي كأصحاب مطر «مِنَ السَّماءِ» أي منزل من السماء «فِيهِ» أي في هذا المطر أو في السماء لأن المراد بالسماء السحاب فهو مذكر «ظُلُماتٌ» لأن السحاب يغشي الشمس بالنهار و النجوم بالليل فيظلم الجو «وَ رَعْدٌ» قيل إن الرعد صوت ملك يزجر السحاب و قيل‏

الرعد هو ملك موكل بالسحاب يسبح روي ذلك عن ابن عباس و مجاهد و هو المروي عن أئمتنا ع‏

و قيل هو ريح تختنق تحت السماء رواه أبو الجلد عن ابن عباس و قيل هو صوت اصطكاك أجرام السحاب و من قال أنه ملك قدر فيه صوت كأنه قال فيه ظلمات و صوت رعد لأنه روي أنه يزعق الراعي بغنمه و قوله‏ «وَ بَرْقٌ» قيل أنه مخاريق الملائكة من حديد تضرب به السحاب فتنقدح عنه النار عن علي (ع) و قيل أنه سوط من نور يزجر به الملك السحاب عن ابن عباس و قيل هو مصع ملك من مجاهد و المصاع المجالدة بالسيوف و غيرها قال الأعشى:

إذا هن نازلن أقرانهن‏

كان المصاع بما في الجؤن‏

 

و قيل أنه نار تنقدح من اصطكاك الأجرام و في تأويل الآية و تشبيه المثل أقوال‏


149
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 149

(أحدها) أنه شبه المطر المنزل من السماء بالقرآن و ما فيه من الظلمات بما في القرآن من الابتلاء و ما فيه من الرعد بما في القرآن من الزجر و ما فيه من البرق بما فيه من البيان و ما فيه من الصواعق بما في القرآن من الوعيد آجلا و الدعاء إلى الجهاد عاجلا عن ابن عباس (و ثانيها) أنه مثل للدنيا شبه ما فيها من الشدة و الرخاء بالصيب الذي يجمع نفعا و ضررا و أن المنافق يدفع عاجل الضرر و لا يطلب آجل النفع (و ثالثها) أنه مثل للإسلام لأن فيه الحياة كما في الغيث الحياة و شبه ما فيه من الظلمات بما في إسلامهم من إبطان الكفر و ما فيه من الرعد بما في الإسلام من فرض الجهاد و خوف القتل و بما يخافونه من وعيد الآخرة لشكهم في دينهم و ما فيه من البرق بما في إظهار الإسلام من حقن دمائهم و مناكحتهم و موارثتهم و ما فيه من الصواعق بما في الإسلام من الزواجر بالعقاب في العاجل و الآجل و يقوي ذلك ما روي عن الحسن أنه قال مثل إسلام المنافق كصيب هذا وصفه (و رابعها) ما روي عن ابن مسعود و جماعة من الصحابة أن رجلين من المنافقين من أهل المدينة هربا من رسول الله ص فأصابهما المطر الذي ذكره الله تعالى فيه رعد شديد و صواعق و برق و كلما أضاء لهما الصواعق جعلا أصابعهما في آذانهما مخافة أن تدخل الصواعق في آذانهما فتقتلهما و إذا لمع البرق مشيا في ضوئه و إذا لم يلمع لم يبصرا فأقاما فجعلا يقولان يا ليتنا قد أصبحنا فنأتي محمدا فنضع أيدينا في يديه فأصبحا فأتياه فأسلما و حسن إسلامهما فضرب الله شأن هذين الرجلين مثلا لمنافقي المدينة و أنهم إذا حضروا النبي جعلوا أصابعهم في آذانهم فرقا من كلام النبي ص أن ينزل فيهم شي‏ء كما كان ذانك الرجلان يجعلان أصابعهما في آذانهما و كلما أضاء لهم مشوا فيه يعني شي‏ء كما كان ذانك الرجلان يجعلان أصابعهما في آذانهما و كلما أضاء لهم مشوا فيه يعني إذا كثرت أموالهم و أصابوا غنيمة أو فتحا مشوا فيه و قالوا دين محمد صحيح و «إِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا» يعني إذا هلكت أموالهم و أصابهم البلاء قالوا هذا من أجل دين محمد فارتدوا كما قام ذانك الرجلان إذا أظلم البرق عليهما و قوله‏ «وَ اللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ» يحتمل وجوها.

(أحدها) أنه عالم بهم فيعلم سرائرهم و يطلع نبيه على ضمائرهم عن الأصم (و ثانيها) أنه قادر عليهم لا يستطيعون الخروج عن قدرته قال الشاعر:

أحطنا بهم حتى إذا ما تيقنوا

بما قد رأوا مالوا جميعا إلى السلم‏

 

أي قدرنا عليهم (و ثالثها) ما روي عن مجاهد أنه جامعهم يوم القيامة يقال أحاط بكذا إذا لم يشذ منه شي‏ء و منه‏ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عِلْماً أي لم يشذ عن علمه شي‏ء (و رابعها) أنه مهلكهم يقال أحيط بفلان فهو محاط به إذا دنا هلاكه قال سبحانه و أُحِيطَ


150
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 20] ..... ص : 151

بِثَمَرِهِ‏ أي أصابه ما أهلكه و قوله‏ «إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ» معناه أن تهلكوا جميعا.

[سورة البقرة (2): آية 20]

يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَ إِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَ أَبْصارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ (20)

اللغة

الخطف أخذ في استلاب يقال خطف يخطف و خطف يخطف لغتان و الثاني أفصح و عليه القراءة و منه الخطاف و يقال للذي يخرج به الدلو من البئر خطاف لاختطافه قال النابغة:

خطاطيف حجن في حبال متينة

تمد بها أيد إليك نوازع‏

 

و قاموا أي وقفوا و المشيئة الإرادة و الشي‏ء ما يصح أن يعلم و يخبر عنه قال سيبويه هو أول الأسماء و أعمها و أبهمها لأنه يقع على المعدوم و الموجود و قيل أنه لا يقع إلا على الموجود و الصحيح الأول و هو مذهب المحققين من المتكلمين و يؤيده قوله تعالى في هذه الآية «إِنَّ اللَّهَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ» فإن كل شي‏ء سواه محدث و كل محدث فله حالتان حالة عدم و حالة وجود و إذا وجد خرج عن أن يكون مقدورا للقادر لأن من المعلوم ضرورة أن الموجود لا يصح أن يوجد فعلمنا أنه إنما يقدر عليه في حال عدمه ليخرجه من العدم إلى الوجود و على هذه المسألة يدور أكثر مسائل التوحيد.

الإعراب‏

كاد من أفعال المقاربة و لا يتم بالفاعل و يحتاج إلى خبر و خبره الفعل المضارع فقوله‏ «يَكادُ» فعل و البرق مرفوع بأنه اسم يكاد و فاعله و يخطف أبصارهم في موضع نصب بأنه خبر يكاد و كلما أصله كل و ضم إليه ما الجزاء و هو منصوب بالظرف و العامل فيه أضاء و معناه متى ما أضاء لهم مشوا فيه و أضاء في موضع جزم بالشرط و مشوا في موضع الجزاء و إذا أظلم قد تقدم إعراب مثله و لو حرف معناه امتناع الشي‏ء لامتناع غيره و إذا وقع الفعل بعده و هو منفي كان مثبتا في المعنى و إذا وقع مثبتا كان منفيا في المعنى فقوله‏ «وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَ أَبْصارِهِمْ» قد انتفى فيه ذهاب السمع و الأبصار بسبب انتفاء المشيئة.


151
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 152

المعنى‏

«يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ» المراد يكاد ما في القرآن من الحجج النيرة يخطف قلوبهم من شدة إزعاجها إلى النظر في أمور دينهم كما أن البرق يكاد يخطف أبصار أولئك‏ «كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ» لاهتدائهم إلى الطريق بضوء البرق كذلك المنافقون كلما دعوا إلى خير و غنيمة أسرعوا و إذا وردت شدة على المسلمين تحيروا لكفرهم و وقفوا كما وقف أولئك في الظلمات متحيرين و قيل إذا آمنوا صار الإيمان لهم نورا فإذا ماتوا عادوا إلى ظلمة العقاب و قيل هم اليهود لما نصر المسلمون ببدر قالوا هذا الذي بشر به موسى فلما نكبوا بأحد وقفوا و شكوا و قوله‏ «وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَ أَبْصارِهِمْ» إنما خص السمع و البصر بالذكر لما جرى من ذكرهما في الآيتين فقال‏ «وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ» أذهبهما من المنافقين عقوبة لهم على نفاقهم و كفرهم و هذا وعيد لهم بالعقاب كما قال في الآية الأولى‏ «وَ اللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ» و قوله‏ «بِسَمْعِهِمْ» مصدر يدل على الجمع أو واحد موضوع للجمع كقول الشاعر:

كلوا في بعض بطنكم تعيشوا

فإن زمانكم زمن خمص‏

 

أي بطونكم و المعنى و لو شاء الله لأظهر على كفرهم فأهلكهم و دمر عليهم لأنه على كل شي‏ء قدير و هو مبالغة القادر و قيل إن قوله سبحانه‏ «إِنَّ اللَّهَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ» عام فهو قادر على الأشياء كلها على ثلاثة أوجه على المعدومات بأن يوجدها و على الموجودات بأن يفنيها و على مقدور غيره بأن يقدر عليه و يمنع منه و قيل هو خاص في مقدوراته دون مقدور غيره فإن مقدورا واحدا بين قادرين لا يمكن أن يكون لأنه يؤدي إلى أن يكون الشي‏ء الواحد موجودا معدوما و لفظة كل قد يستعمل على غير عموم نحو قوله تعالى‏ «تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْ‏ءٍ بِأَمْرِ رَبِّها».

[سورة البقرة (2): آية 21]

يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)

اللغة

الخلق أ على تقدير و خلق السموات فعلها على تقدير ما تدعو إليه الحكمة من غير زيادة و نقصان و الخلق الطبع و الخليقة الطبيعة و الخلاق النصيب.

الإعراب‏

يا حرف النداء و أي اسم مبهم يقع على أجناس كثيرة لأنه إنما يتم بأن‏


152
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 153

يوصف و صفته تكون باسم الجنس لأنه لما كان لا يتم إلا بصفة و هي لفظة دالة على ما دل أي عليه مخصصة له و كان التخصيص في الإشارة يقع بالجنس ثم بالوصف وصف بأسماء الأجناس كالناس في قوله‏ «يا أَيُّهَا النَّاسُ» فأي منادى مفرد معرفة مبني لأنه وقع موقع حرف الخطاب و هو الكاف و إنما بني على الحركة مع أن الأصل في البناء السكون ليعلم أنه ليس بعريق في البناء و البناء عارض فيه و إنما حرك بالضم لأنه كان في أصله التنوين فلما سقط التنوين في البناء أشبه قبل و بعد الذي قطع عنه الغاية فارتفع و قد ذكر فيه وجوه آخر توجد في مظانها و الناس مرفوع لأنه صفة لأي فتبعه على حركة لفظه و لا يجوز هنا النصب و إن كانت الأسماء المناديات المفردة المعرفة يجوز في صفاتها النصب و الرفع لأن هنا الصفة هو المنادى في الحقيقة و أي وصلة إليه و يدل على ذلك لزوم ها و هو حرف التنبيه قبل الناس و بنائها و امتناعهم من حذفها فصار ذلك كالإيذان باستئناف نداء و العلم لأن لا يجوز الاقتصار على المنادى قبله كما جاز في سائر المناديات و أجاز المازني في يا أيها الرجل النصب و ذلك فاسد لما ذكرناه و لأنه لا مجاز لذلك في كلام العرب و لم يرو عنها غير الرفع و «الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ» في موضع نصب لأنه عطف على الكاف و الميم في قوله‏ «خَلَقَكُمْ» و هو مفعول به و من قبلكم صلة الذين و لعل حرف ناصب من أخوات إن و قد ذكرنا القول في مشابهة الفعل و عمله النصب و الرفع فيما تقدم و كذلك حكم لعل و شبه بالفعل أظهر لأن معناه الترجي و كم في موضع نصب بكونه اسم لعل و تتقون جملة في موضع الرفع بأنه خبره.

المعنى‏

هذا الخطاب متوجه إلى جميع الناس مؤمنهم و كافرهم إلا من ليس بمكلف من الأطفال و المجانين و روي عن ابن عباس و الحسن أن ما في القرآن من‏ «يا أَيُّهَا النَّاسُ» فإنه نزل بمكة و ما فيه من‏ «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» فإنه نزل بالمدينة «اعْبُدُوا رَبَّكُمُ» أي تقربوا إليه بفعل العبادة و عن ابن عباس أنه قال معناه وحدوه و قوله‏ «الَّذِي خَلَقَكُمْ» أي أوجدكم بعد أن لم تكونوا موجودين و أوجد من تقدم زمانكم من الخلائق و البشر بين سبحانه نعمه عليهم و على آبائهم لأن نعمه عليهم لا تتم إلا بنعمه على آبائهم‏ «لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» أي خلقكم لتتقوه و تعبدوه كقوله تعالى‏ «وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ» و قيل معناه اعبدوه لتتقوا و قيل معناه لعلكم تتقون الحرمات بينكم و تكفون عما حرم الله و هذا كما يقول القائل اقبل قولي لعلك ترشد فليس أنه من ذلك على شك و إنما

153
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 22] ..... ص : 154

يريد أقبله ترشد و إنما أدخل الكلام لعل ترقيقا للموعظة و تقريبا لها من قلب الموعوظ و يقول القائل لأجيره اعمل لعلك تأخذ الأجرة و ليس يريد بذلك الشك و إنما يريد لتأخذ أجرتك و مثله قول الشاعر:

و قلتم لنا كفوا الحروب لعلنا

نكف و وثقتم لنا كل موثق‏

 

فلما كففنا الحرب كانت عهودكم‏

كلمح سراب في الملأ متألق‏

 

أراد قلتم لنا كفوا لنكف لأنه لو كان شاكا لما قال وثقتم كل موثق و قال سيبويه إنما وردت لفظة لعل على أنه ترج للمخاطبين كما قال‏ «فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى‏» و أراد بذلك الإبهام على موسى و هارون فكأنه قال اذهبا أنتما على رجائكما و طمعكما و الله عز و جل من وراء ذلك و عالم بما يؤول إليه أمر فرعون و قيل فائدة إيراد لفظة لعل هي أن لا يحل العبد أبدا محل الآمن المدل بعمله بل يزداد حالا بعد حال حرصا على العمل و حذرا من تركه و أكثر ما جاءت لفظة لعل و غيرها من معاني الشك فيما يتعلق بالآخرة في دار الدنيا فإذا ذكرت الآخرة مفردة جاء اليقين و قيل معناه لعلكم توقون النار في ظنكم و رجائكم و أجرى لعل على عباده دون نفسه و هذا قريب مما قاله سيبويه.

[سورة البقرة (2): آية 22]

الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَ السَّماءَ بِناءً وَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)

القراءة

أدغم جماعة من القراء قوله‏ «جَعَلَ لَكُمُ» فقالوا جعلكم و الباقون يظهرون.

الحجة

فمن أدغم فلاجتماع حرفين من جنس واحد و كثرة الحركات و من أظهر و عليه أكثر القراء فلأنهما منفصلان من كلمتين و في الإدغام و اختلاف القراء فيه و الاحتجاجات لهم كلام كثير خارج عن الغرض بعلوم تفسير القرآن فمن أراد ذلك فليطلبه من الكتب المؤلفة فيه.

اللغة

الجعل و الخلق و الإحداث نظائر و الأرض هي المعروفة و الأرض قوائم الدابة و منه قول الشاعر:


154
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 155

 

و أحمر كالديباج أما سماؤه‏

فريا و أما أرضه فمحول‏

 

و الأرض الرعدة و في كلام ابن عباس أ زلزلت الأرض أم بي أرض و الفراش و البساط و المهاد نظائر و سمي السماء سماء لعلوها على الأرض و كل شي‏ء كان فوق شي‏ء فهو لما تحته سماء و سما فلان لفلان إذا قصد نحوه عاليا عليه قال الفرزدق:

سمونا لنجران اليمان و أهله‏

و نجران أرض لم تديث مقاوله‏

 

قال الزجاج كل ما علا الأرض فهو بناء و الماء أصله موه و جمعه أمواه و تصغيره مويه و أنزل من السماء أي من ناحية السماء قال الشاعر:

(أ منك البرق أرقبه فهاجا)

 

أي من ناحيتك و الند المثل و العدل قال حسان بن ثابت:

أ تهجوه و لست له بند

فشركما لخيركما الفداء

 

و قال جرير:

أ تيما تجعلون إلي ندا

و ما تيم لذي حسب نديد

 

و قيل الند الضد.

المعنى‏

معنى هذه الآية يتعلق بما قبلها لأنه تعالى أمرهم بعبادته و الاعتراف بنعمته ثم عدد لهم صنوف نعمه ليستدلوا بذلك على وجوب عبادته فإن العبادة إنما تجب لأجل النعم المخصوصة فقال سبحانه: «الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً» أي بساطا يمكنكم أن تستقروا عليها و تفترشوها و تتصرفوا فيها و ذلك لا يمكن إلا بأن تكون مبسوطة ساكنة دائمة السكون‏ «وَ السَّماءَ بِناءً» أي سقفا مرفوعا مبنيا «وَ أَنْزَلَ مِنَ» نحو «السَّماءَ» أي من السحاب‏ «ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ» أي بالماء «مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ» أي عطاء لكم و ملكا لكم و غذاء لكم و هذا تنبيه على أنه هو الذي خلقهم و الذي رزقهم دون من جعلوه ندا له من الأوثان ثم زجرهم عن أن يجعلوا له ندا مع علمهم بأن ذلك كما أخبرهم به بقوله‏ «فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً» و قوله‏ «أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ» يحتمل وجوها (أحدها) أن يريد أنكم تعلمون أن الأصنام التي تعبدونها لم تنعم عليكم بهذه النعم التي عددناها و لا بأمثالها و أنها لا تضر و لا تنفع (و ثانيها) أن يريد أنكم تعقلون و تميزون و من كان بهذه الصفة فقد استوفى شرائط التكليف و لزمته الحجة و ضاق عذره في التخلف عن النظر و إصابة الحق (و ثالثها) ما قاله مجاهد و غيره أن المراد بذلك أهل التوراة و الإنجيل‏


155
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 23] ..... ص : 156

دون غيرهم أي تعلمون ذلك في الكتابين و قال الشريف الأجل المرتضى قدس الله روحه استدل أبو علي الجبائي بقوله تعالى: «الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً» و في آية أخرى‏ «بِساطاً» على بطلان ما يقوله المنجمون من أن الأرض كروية الشكل قال و هذا القدر لا يدل لأنه يكفي من النعمة علينا أن يكون في الأرض بسائط و مواضع مفروشة و مسطوحة و ليس يجب أن يكون جميعها كذلك و معلوم ضرورة أن جميع الأرض ليس مسطوحا مبسوطا و إن كان مواضع التصرف فيها بهذه الصفة و المنجمون لا يدفعون أن يكون في الأرض سطوح يتصرف فيها و يستقر عليها و إنما يذهبون إلى أن جملتها كروية الشكل.

[سورة البقرة (2): آية 23]

وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى‏ عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَ ادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (23)

اللغة

إن دخلت هاهنا لغير شك لأن الله تعالى علم أنهم مرتابون و لكن هذا على عادة العرب في خطابهم كقولهم إن كنت إنسانا فافعل كذا و إن كنت ابني فأطعني و إن كان كونه إنسانا و ابنا معلوما و إنما خاطبهم الله تعالى على عادتهم في الخطاب و الريب الشك مع تهمة و العبد المملوك من جنس ما يعقل و نقيضه الحر من التعبيد و هو التذليل لأن العبد يذل لمولاه و العبودية من أحكام الشرع لأنه بمنزلة ذبح الحيوان و يستحق عليها العوض و ليست بعقوبة و لذلك يسترق المؤمن و الصبي و السورة غير مهموزة مأخوذة من سورة البناء و كل منزلة رفيعة فهي سورة و منه قول النابغة:

أ لم تر أن الله أعطاك سورة

ترى كل ملك دونها يتذبذب‏

 

هذا قول أبي عبيدة و ابن الأعرابي في تفسير السورة فكل سورة من القرآن بمنزلة درجة رفيعة و منزل عال رفيع يرتفع القارئ منها إلى منزلة أخرى إلى أن يستكمل القرآن و قيل السورة مهموزة و المراد بها القطعة من القرآن انفصلت عما سواها و أبقيت و سؤر كل شي‏ء بقيته و أسأرت في الإناء أبقيت فيه قال الأعشى يصف امرأة:

فبانت و قد أسأرت في الفؤاد

صدعا علي نأيها مستطيرا

 

. الإعراب‏

إن حرف شرط تجزم الفعل المضارع و تدخل على الفعل الماضي فتصرفه إلى معنى الاستقبال و لا بد للشرط من جزاء و هما جملتان ربطت إحداهما بالأخرى‏


156
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 157

نحو إن تفعل أفعل فقولك إن تفعل شرط و هو مجزوم بإن و قولك أفعل جزاء و هو مجزوم بالشرط لا بإن وحدها و لا بالفعل فإن كان الجزاء جملة من فعل و فاعل كان مجزوما و إن كان جملة من مبتدإ و خبر فلا بد من الفاء و كانت الجملة في موضع الجزم فقوله‏ «كُنْتُمْ» في موضع الجزم بإن و قوله‏ «فَأْتُوا بِسُورَةٍ» ائتوا مبني على الوقف لأنه أمر المخاطبين و الواو فاعل و الفاء و ما بعده في موضع جزم بأنه جزاء و ما قبل الفاء لا يعمل فيما بعده و من يقع على أربعة أوجه (أحدها) أن يكون بمعنى ابتداء الشي‏ء من مكان ما كقولك خرجت من البصرة. (و ثانيها) بمعنى التبعيض كقولك أخذت من الطعام قفيزا (و ثالثها) بمعنى التبيين كقوله تعالى: «فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ» و هي في التبيين تخصص الجملة التي قبلها كما أنها في التبعيض تخصص الجملة التي بعدها (و رابعها) أن تقع مزيدة نحو ما جاءني من رجل فإذا قد عرفت هذا فقوله تعالى: «مِنْ مِثْلِهِ» قال بعضهم أن من بمعنى التبعيض و تقديره فأتوا ببعض ما هو مثل له و هو سورة و قيل هو لتبيين الصفة و قيل أن من مزيدة لقوله في موضع آخر «بِسُورَةٍ مِثْلِهِ» أي مثل هذا القرآن و تعود الهاء في مثله إلى ما من قوله‏ «مِمَّا نَزَّلْنا عَلى‏ عَبْدِنا» في الأقوال الثلاثة و قيل أن من بمعنى ابتداء الغاية و الهاء من مثله يعود إلى عبدنا فيكون معناه بسورة من رجل مثله و الأول أقوى لما نذكره بعد.

المعنى‏

لما احتج الله تعالى للتوحيد عقبه من الاحتجاج للنبوة بما قطع عذرهم فقال‏ «وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ» من صدق هذا الكتاب الذي أنزلنا على محمد ص و قلتم لا ندري هل هو من عند الله أم لا «فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ» أي من مثل القرآن و على قول من يقول الضمير في مثله عائد إلى عبدنا فالمعنى فأتوا بسورة من بشر أمي مثله لا يحسن الخط و الكتابة و لا يدري الكتب و الصحيح هو الأول لقوله تعالى في سورة أخرى: «فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ» و قوله‏ «فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ» و قوله‏ «لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى‏ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ» يعني فأتوا بسورة مثل ما أتى به محمد في الإعجاز من حسن النظم و جزالة اللفظ و الفصاحة التي اختصت به و الإخبار عما كان و عما يكون دون تعلم الكتب و دراسة الأخبار و قوله: «وَ ادْعُوا شُهَداءَكُمْ» قال ابن عباس يعني أعوانكم و أنصاركم الذين يظاهرونكم على تكذيبكم و سمي أعوانهم شهداء لأنهم يشاهدونهم عند المعاونة و الشهيد يكون بمعنى المشاهد كالجليس و الأكيل و يسمى الشاهد على الشي‏ء لغيره بما يحقق دعواه بأنه شهيد أيضا و قوله‏ «مِنْ دُونِ اللَّهِ»


157
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 24] ..... ص : 158

أي من غير الله كما يقال ما دون الله مخلوق يريد و ادعوا من اتخذتموهم معاونين من غير الله‏ «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» في أن هذا الكتاب يقوله محمد من نفسه و قال الفراء أراد و ادعوا آلهتكم و قال مجاهد و ابن جريج أراد قوما يشهدون لكم بذلك ممن يقبل قولهم و قول ابن عباس أقوى لأن معناه استنصروا أعوانكم على أن يأتوا بمثله لأن الدعاء بمعنى الاستعانة كما قال الشاعر:

فلما التقت فرساننا و رجالنا

دعوا يا لكعب و اعتزينا لعامر

 

و قال آخر:

و قبلك رب خصم قد تمالوا

علي فما جزعت و لا دعوت‏

 

و أما قول مجاهد فلا وجه له لأن الشاهدين لا يخلو إما أن يكونوا مؤمنين أو كفارا فالمؤمنون لا يكونون شهداء للكفار و الكفار لا بد أن يسارعوا إلى إبطال الحق أو تحقيق الباطل إذا دعوا إليه فمن أي الفريقين يكون شهداؤهم و لكن ينبغي أن يجري ذلك مجرى قوله تعالى: «قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى‏ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً» و قال قوم أن هذا الوجه جائز أيضا صحته لأن العقلاء لا يجوز أن يحملوا نفوسهم على الشهادة بما يفتضحون به في كلام أنه مثل القرآن و لا يكون مثله كما لا يجوز أن يحملوا نفوسهم على أن يعارضوا ما ليس بمعارض على الحقيقة و هذه الآية تدل على صحة نبوة نبينا محمد ص و أن الله تعالى تحدى بالقرآن و ببعضه و وجه الاستدلال بها أنه تعالى خاطب قوما عقلاء فصحاء قد بلغوا الغاية القصوى من الفصاحة و تسنموا الذروة العليا من البلاغة فأنزل إليهم كلاما من جنس كلامهم و تحداهم بالإتيان بمثله أو ببعضه بقوله: «فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ» و «بِسُورَةٍ مِثْلِهِ» و جعل عجزهم عن ذلك حجة عليهم و دلالة على صدق رسوله ص و هم أهل الحمية و الأنفة فبذلوا أموالهم و نفوسهم في إطفاء أمره و لم يتكلفوا في معارضة القرآن بسورة و لا خطبة فعلمنا أن المعارضة كانت متعذرة عليهم فدل ذلك على أن القرآن معجز دال على صحة نبوته.

[سورة البقرة (2): آية 24]

فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَ لَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَ الْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (24)


158
مجمع البيان في تفسير القرآن1

الإعراب ..... ص : 159

الإعراب‏

إن حرف شرط و لم حرف يدخل على الفعل المضارع فينفيه و يجعله بمعنى الماضي و يعمل فيه الجزم و تفعلوا فعل و فاعل و هو مجزوم بلم و علامة الجزم فيه سقوط النون و «لَمْ تَفْعَلُوا» في موضع جزم أيضا بأن و لن حرف يدخل على الفعل المضارع فيخصه بالاستقبال و ينفيه و يعمل فيه النصب و علامة النصب في تفعلوا سقوط النون أيضا و قال سيبويه في لن زعم الخليل أنها لا أن و لكنهم حذفوا لكثرته في كلامهم كما قالوا ويلمه و جعلت بمنزلة حرف واحد كما جعلوا هلا بمنزلة حرف واحد و إنما هي هل و لا قال و هذا ليس بجيد لأنه لو كان كذلك لم يجز زيدا لن أضرب و أقول أن معنى هذا القول هو أنه لو كان أصل لن لا أن و ما بعد أن يكون صلة لها و لا يجوز تقديم معمول ما في الصلة على الموصول فكان يجب أن لا يجوز تقديم زيدا في قولك لن أضرب زيدا على لن كما لم يجز تقديمه على أن فلا تقول زيدا أن أضرب و زيدا لا أن أضرب و لا خلاف بين النحويين في جواز التقديم هناك و قوله‏ «وَ لَنْ تَفْعَلُوا» لا موضع له من الإعراب لأنه اعتراض وقع بين الشرط و الجزاء كما يقع بين المبتدأ و الخبر في قولك زيد فافهم ما أقول لك عالم و الاعتراض غير واقع موقع المفرد فيكون له موضع إعراب.

المعنى‏

«فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا» أي فإن لم تأتوا بسورة من مثله و قد تظاهرتم أنتم و شركاؤكم عليه و أعوانكم و تبين لكم عجزكم و عجز جميع الخلق عنه و علمتم أنه من عندي فلا تقيموا على التكذيب به و معنى‏ «وَ لَنْ تَفْعَلُوا» أي و لن تأتوا بسورة مثله أبدا لأن لن تنفي على التأبيد في المستقبل و فيه دلالة على صحة نبوة نبينا محمد ص لأنه يتضمن الإخبار عن حالهم في مستقبل الأوقات بأنهم لا يأتون بمثله فوافق المخبر عنه الخبر و قوله: «فَاتَّقُوا النَّارَ» أي فاحذروا أن تصلوا النار بتكذيبكم و إنما جاز أن يكون قوله‏ «فَاتَّقُوا النَّارَ» جواب الشرط مع لزوم اتقاء النار كيف تصرفت الحال لأنه لا يلزمهم الاتقاء إلا بعد التصديق بالنبوة و لا يصح العلم بالنبوة إلا بعد قيام المعجزة فكأنه قال:

«فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَ لَنْ تَفْعَلُوا» فقد قامت الحجة و وجب اتقاء «النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا» أي حطبها «النَّاسُ وَ الْحِجارَةُ» و هي جمع حجر و قيل أنها حجارة الكبريت لأنها أحر شي‏ء إذا أحميت عن ابن مسعود و ابن عباس و الظاهر أن الناس و الحجارة وقود النار أي حطبها يريد بها أصنامهم المنحوتة من الحجارة كقوله تعالى: «إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ‏


159
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 25] ..... ص : 160

 

حَصَبُ جَهَنَّمَ» و قيل ذكر الحجارة دليل على عظم تلك النار لأنها لا تأكل الحجارة ألا و هي في غاية الفظاعة و الهول و قيل معناه أن أجسادهم تبقى على النار بقاء الحجارة التي توقد بها النار بتبقية الله إياها و يؤيد ذلك قوله‏ «كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ» الآية و قيل معناه أنهم يعذبون بالحجارة المحمية بالنار و قوله تعالى: «أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ» معناه خلقت و هيئت للكافرين لأنهم الذين يخلدون فيها و لأنهم أكثر أهل النار فأضيفت إليهم و قيل إنما خص النار بكونها معدة للكافرين و إن كانت معدة للفاسقين أيضا لأنه يريد بذلك نارا مخصوصة لا يدخلها غيرهم كما قال: «إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ» و هذه الآية تدل على بطلان قول من حرم النظر و الحجاج العقلي لأن الله عز اسمه احتج على الكفار بما ذكره في هذه الآية و ألزمهم به تصديق نبيه ع و قررهم بأن القرآن كلامه إذ قال إن كان هذا القرآن كلام محمد فأتوا بسورة من مثله لأنه لو كان كلام البشر لتهيأ لكم مع تقدمكم في البلاغة و الفصاحة الإتيان بمثله أو بسورة منه مع قوة دواعيكم إليه فإذا لم يتأت لكم ذلك فاعلموا بعقولكم أنه كلام الله تعالى و هذا هو المراد بالاحتجاج العقلي و استدل بقوله‏ «أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ» على أن النار مخلوقة الآن لأن المعد لا يكون إلا موجودا و كذلك الجنة بقوله‏ «أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ» و الفائدة في ذلك أنا و إن لم نشاهدهما فإن الملائكة يشاهدونهما و هم من أهل التكليف و الاستدلال فيعرفون ثواب الله للمتقين و عقابه للكافرين.

[سورة البقرة (2): آية 25]

وَ بَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَ أُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَ لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (25)

اللغة

البشارة هي الإخبار بما يسر المخبر به إذا كان سابقا لكل خبر سواه لأن الثاني لا يسمى بشارة و قد قيل للإخبار بما يغم أيضا بشارة كقوله تعالى: «فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ» و ذلك على سبيل التوسع و هي مأخوذة من البشرة و هي ظاهر الجلد لتغيرها

 

 

 

160
مجمع البيان في تفسير القرآن1

الإعراب ..... ص : 161

بأول خبر و تباشير الصبح أوله و الجنات جمع الجنة و هي البستان و المراد بذلك الجنة ما في الجنة من أشجارها و ثمارها دون أرضها فلذلك قال‏ «تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ» لأن من المعلوم أنه أراد الخبر عن ماء أنهارها بأنه جار تحت الأشجار لأن الماء إذا كانت تحت الأرض فلا حظ فيها للعيون على أنه روي عن مسروق أن أنهار الجنة جارية في غير أخاديد رواه عنه أبو عبيدة و غيره و أصلها من الجن و هو الستر و منه الجن لتسترها عن عيون الناس و الجنون لأنه يستر العقل و الجنة لأنها تستر البدن و الجنين لتستره بالرحم قال المفضل البستان إذا كان فيه الكرم فهو فردوس سواء كان فيه شجر غيره أو لم يكن و الجنة كل بستان فيه نخل و إن لم يكن فيه غيره و الأزواج جمع زوج و الزوج يقع على الرجل و المرأة و يقال للمرأة زوجة أيضا و زوج كل شي‏ء شكله و الخلود الدوام و البقاء.

الإعراب‏

موضع أن مع اسمه و خبره نصب معناه بشر المؤمنين بأن لهم جنات فلما سقطت الباء أفضى الفعل إلى أن فنصبه و على قول الخليل يكون أن في موضع جر و إن سقطت الباء و جنات منصوب بأنه اسم أن و لهم الجار و المجرور في موضع خبره و التاء تاء جماعة المؤنث تكون في حال النصب و الجر على صورة واحدة كما أن ياء جماعة الذكور في الزيدين و نحوه يكون في حال النصب و الجر على صورة واحدة و قوله‏ «تَجْرِي» مع ما اتصل به جملة منصوبة الموضع بكونها صفة لجنات و كلما ضم كل إلى ما الجزاء فصارا أداة للتكرار و هو منصوب على الظرف و العامل فيه رزقوا منها من ثمرة من مزيدة أي ثمرة و قال علي بن عيسى هي بمعنى التبعيض لأنهم يرزقون بعض الثمرات في كل وقت و يجوز أن يكون بمعنى تبيين الصفة و هو أن يبين الرزق من أي جنس هو و من قبل تقديره أي من قبل هذا الزمان أو هذا الوقت فحذف المضاف إليه منه لفظا مع أن الإضافة مرادة معنى فبني لأجل مشابهته الحرف و إنما بني على الحركة ليدل على تمكنه في الأصل و إنما خص بالضم لأن إعرابه عند الإضافة كان بالفتح أو الجر نحو من قبلك و قبلك لكونه ظرفا فبني على حركة لم تكن تدخلها في الإعراب و هي الضمة و موضعه نصب على الظرف و متشابها نصب على الحال و أزواج رفع أما بالابتداء أو بالظرف.

المعنى‏

قرن الله تعالى الوعد في هذه الآية بالوعيد فيما قبلها ليحصل الترغيب و الترهيب فقال‏ «وَ بَشِّرِ» أي أخبر بما يسر «الَّذِينَ آمَنُوا» أي صدقوا «وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ» فيما بينهم و بين ربهم عن ابن عباس ب «أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا»


161
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 161

أي من تحت أشجارها و مساكنها «الْأَنْهارُ» و النهر لا يجري و إنما يجري الماء فيه و يستعمل الجري فيه توسعا لأنه موضع الجري و قوله: «كُلَّما رُزِقُوا مِنْها» أي من الجنات و المعنى من أشجارها و تقديره كلما رزقوا من أشجار البساتين التي أعدها الله للمؤمنين‏ «مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً» أي أعطوا من ثمارها عطاء و أطعموا منها طعاما لأن الرزق عبارة عما يصح الانتفاع به و لا يكون لأحد المنع منه‏ «قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ» فيه وجوه (أحدها) أن ثمار الجنة إذا جنيت من أشجارها عاد مكانها مثلها فيشتبه عليهم فيقولون هذا الذي رزقنا من قبل هذا قول أبي عبيدة و يحيى بن كثير (و ثانيها) أن معناه هذا الذي رزقنا من قبل في الدنيا عن ابن عباس و ابن مسعود و قيل هذا الذي وعدنا به في الدنيا (و ثالثها) معناه هذا الذي رزقناه من قبل في الجنة أي كالذي رزقنا و هم يعلمون أنه غيره و لكنهم شبهوه به في طعمه و لونه و ريحه و طيبه و جودته عن الحسن و واصل قال الشيخ أبو جعفر رحمه الله و أقوى الأقوال قول ابن عباس لأنه تعالى قال: «كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ» فعم و لم يخص فأول ما أتوا به لا يتقدر فيه هذا القول إلا بأن يكون إشارة إلى ما تقدم رزقه في الدنيا و يكون التقدير هذا مثل الذي رزقناه في الدنيا لأن ما رزقوه في الدنيا قد عدم فأقام المضاف إليه مقام المضاف كما أن القائل إذا قال لغيره أعددت لك طعاما و وصفه له يحسن أن يقول هذا طعامي في منزلي يريد مثله و من جنسه و قوله‏ «وَ أُتُوا بِهِ» أي جيئوا به و ليس معناه أعطوه و قوله‏ «مُتَشابِهاً» فيه وجوه (أحدها) أنه أراد متشابها في اللون مختلفا في الطعم عن ابن عباس و مجاهد (و ثانيها) أن كلها متشابه في الجودة خيار لا رذل فيه عن الحسن و قتادة و اختاره الأخفش قال و هذا كما يقول القائل و قد جي‏ء بأشياء فاضلة فاشتبهت عليه في الفضل لا أدري ما اختار منها كلها عندي فاضل كقول الشاعر:

من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم‏

مثل النجوم التي يسري بها الساري‏

 

يعني أنهم قد تساووا في الفضل (و ثالثها) أنه يشبه ثمر الدنيا غير أن ثمر الجنة أطيب عن عكرمة (و رابعها) أنه يشبه بعضه بعضا في اللذة و جميع الصفات عن أبي مسلم (و خامسها) أن التشابه من حيث الموافقة فالخادم يوافق المسكن و المسكن يوافق الفرش و كذلك جميع ما يليق به و قوله‏ «وَ لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ» قيل هن الحور العين و قيل هن‏


162
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 26] ..... ص : 163

من نساء الدنيا قال الحسن هن عجائزكم الغمص الرمص العمش طهرن من قذرات الدنيا «مُطَهَّرَةٌ» قيل في الأبدان و الأخلاق و الأعمال فلا يحضن و لا يلدن و لا يتغوطن و لا يبلن قد طهرن من الأقذار و الآثام و هو قول جماعة المفسرين‏ «وَ هُمْ فِيها» أي في الجنة «خالِدُونَ» يعني دائمون يبقون بقاء الله لا انقطاع لذلك و لا نفاد لأن النعمة تتم بالخلود و البقاء كما تنتقص بالزوال و الفناء و الخلود هو الدوام من وقت مبتدإ و لهذا لا يقال لله تعالى خالد.

[سورة البقرة (2): آية 26]

إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَ أَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَ يَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَ ما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ (26)

القراءة

يستحيي بيائين و روي عن ابن كثير يستحي بياء واحدة و وجه هذه القراءة أنه استثقل اجتماع اليائين فحذف إحداهما و هي لغة بني تميم.

اللغة

الاستحياء من الحياء و نقيضه القحة. و الضرب يقع على جميع الأعمال إلا قليلا يقال ضرب في التجارة و ضرب في الأرض و ضرب في سبيل الله و ضرب بيده إلى كذا و ضرب فلان على يد فلان إذا أفسد عليه أمرا أخذ فيه و ضرب الأمثال إنما هو جعلها لتسير في البلاد يقال ضربت القول مثلا و أرسلته مثلا و ما أشبه ذلك و البعوض القرقس و هو صغار البق الواحدة بعوضة و المثل و المثل كالشبه و الشبه قال كعب بن زهير:

كانت مواعيد عرقوب لنا مثلا

و ما مواعيده إلا الأباطيل‏

 

و الفسق و الفسوق الترك لأمر الله و قال الفراء الفسق الخروج عن الطاعة تقول العرب فسقت الرطبة عن قشرها إذا خرجت و لذلك سميت الفأرة فويسقة لخروجها من جحرها.

الإعراب‏

ما في قوله‏ «ما بَعُوضَةً» بالنصب فيه وجوه (أحدها) أن تكون ما


163
مجمع البيان في تفسير القرآن1

الإعراب ..... ص : 163

مزيدة و معناها التوكيد كما في قوله‏ «فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ» و تقديره أن الله لا يستحي أن يضرب بعوضة مثلا أو مثلا بعوضة فيكون بعوضة مفعولا ثانيا ليضرب (و ثانيها) أن يكون ما نكرة مفسرة ببعوضة كما يكون نكرة موصوفة في قوله تعالى: «هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ» فيكون تقديره لا يستحيي أن يضرب مثلا شيئا من الأشياء بعوضة فتكون بعوضة بدلا من شيئا (و ثالثها) ما يحكى عن الفراء أن معناه ما بين بعوضة إلى ما فوقها كما يقال مطرنا ما زبالة إلى التعلبية و له عشرون ما ناقة فجملا و هي أحسن الناس ما قرنا فقدما يعنون ما بين في جميع ذلك و الاختيار عند البصريين الوجه الأول و إنما اختير هذا الوجه لأن ضرب هاهنا بمعنى جعل فجاز أن يتعدى إلى مفعولين و يدخل على المبتدأ و الخبر و في التنزيل ما يدل عليه و هو قوله تعالى: «إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ» فمثل الحياة مبتدأ و كماء خبره و في موضع آخر وَ اضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ فدخل اضرب على المبتدأ و الخبر فصار بمنزلة قولك ظننت زيدا كعمرو و يجوز في الإعراب الرفع في بعوضة و إن لم تجز القراءة به و فيه وجهان (أحدهما) أن يكون خبرا لمبتدء محذوف في صلة ما فكأنه قال الذي هو بعوضة كقراءة من قرأ تماما على الذي أحسن بالرفع و هذا عند سيبويه ضعيف و هو في الذي أقوى لأن الذي أطول و ليس للذي مذهب غير الأسماء. (و الثاني) على الجواب كأنه لما قيل‏ «إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما» قيل ما هو فقيل‏ «بَعُوضَةً» أي بعوضة كما تقول مررت برجل زيد أي هو زيد فتكون ما على هذا الوجه نكرة مجردة من الصفة و الصلة و قوله‏ «فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا» لغة العرب جميعا بالتشديد و كثير من بني تميم يقولون أيما فلان فيفعل كذا و أنشد بعضهم:

مبتلة هيفاء أيما وشاحها

فيجري و أيما الحجل منها فلا يجري‏

 

و هي كلمة تجي‏ء في شيئين أو أشياء يفصل القول بينهما كقولك أما زيد فمحسن و أما عمرو فمسي‏ء فزيد مبتدأ و محسن خبره و فيها معنى الشرط و الجزاء و تقديره مهما يكن من شي‏ء فزيد محسن ثم أقيم أما مقام الشرط فيحصل أما فزيد محسن ثم أخر الفاء إلى الخبر لإصلاح اللفظ و لكراهة أن تقع الفاء التي للتعقيب في أول الكلام فقوله‏ «الَّذِينَ آمَنُوا» على هذا يكون مبتدأ و يعلمون خبره و كذلك‏ «الَّذِينَ كَفَرُوا» مبتدأ و يقولون خبره و قوله‏ «ما ذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا» ما استفهام و هو اسم في موضع الرفع بالابتداء و ذا بمعنى الذي و صلته ما بعده و هو في موضع رفع بأنه خبر المبتدأ تقديره أي شي‏ء الذي أراد


164
مجمع البيان في تفسير القرآن1

النزول ..... ص : 165

الله فعلى هذا يكون الجواب رفعا كقولك البيان لحال الذي ضرب له المثل و يحتمل أن يكون ما و ذا بمنزلة اسم واحد تقديره أي شي‏ء أراد الله فيكون في موضع نصب بأنه مفعول أراد فعلى هذا يكون الجواب نصبا كقولك البيان لحال من ضرب له المثل و مثال الأول قوله تعالى: «ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ» و مثال الثاني قوله‏ «ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً» و مثلا منصوب على الحال و قيل على القطع و قيل على التفسير.

النزول‏

روي عن ابن مسعود و ابن عباس أن الله تعالى لما ضرب المثلين قبل هذه الآية للمنافقين يعني قوله‏ «مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً» و قوله‏ «أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ» قال المنافقون الله أعلى و أجل من أن يضرب هذه الأمثال فأنزل الله تعالى هذه الآية و روي عن قتادة و الحسن لما ضرب المثل بالذباب و العنكبوت تكلم فيه قوم من المشركين و عابوا ذكره فأنزل الله هذه الآية.

المعنى‏

«إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي» أي لا يدع و قيل لا يمتنع لأن أحدنا إذا استحيى من شي‏ء تركه و امتنع منه و معناه أن الله لا يدع ضرب المثل بالأشياء الحقيرة لحقارتها إذا رأى الصلاح في ضرب المثل بها و قيل معناه هو أن الذي يستحيي منه ما يكون قبيحا في نفسه و يكون لفاعله عيب في فعله فأخبر الله تعالى أن ضرب المثل ليس بقبيح و لا عيب حتى يستحيي منه و قيل معناه أنه لا يخشى أن يضرب مثلا كما قال‏ «وَ تَخْشَى النَّاسَ وَ اللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ» أي تستحيي الناس و الله أحق أن تستحييه فالاستحياء بمعنى الخشية هنا كما أن الخشية بمعنى الاستحياء هناك و أصل الاستحياء الانقباض عن الشي‏ء و الامتناع منه خوفا من مواقعة القبيح و قال علي بن عيسى معناه أنه ليس في ضرب المثل بالحقير للحقير عيب يستحيي منه فكأنه قال لا يحل ضرب المثل بالبعوض محل ما يستحيي منه فوضع قوله‏ «إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي» موضعه و قوله‏ «ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها» أي ما هو أعظم منها عن قتادة و ابن جريج و قيل فما فوقها في الصغر و القلة لأن الغرض هاهنا الصغر و قال الربيع بن أنس أن البعوضة تحيى ما جاعت فإذا سمنت ماتت فكذلك القوم الذين ضرب لهم هذا المثل إذا امتلئوا من الدنيا ريا أخذهم الله عند ذلك ثم تلا «حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً» و

روي عن الصادق ع أنه قال‏ إنما ضرب الله المثل بالبعوضة لأن البعوضة على صغر حجمها خلق الله فيها جميع ما خلق في الفيل مع كبره و زيادة عضوين آخرين فأراد الله تعالى أن ينبه بذلك المؤمنين على لطيف خلقه و عجيب صنعه‏

و قد استشهد على استحسان ضرب المثل بالشي‏ء الحقير في كلام العرب بقول الفرزدق:


165
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 165

 

ضربت عليك العنكبوت بنسجها

و قضى عليك به الكتاب المنزل‏

 

و بقوله أيضا

و هل شي‏ء يكون أذل بيتا

من اليربوع يحتفر الترابا

 

و قوله‏ «فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا» أي صدقوا محمدا و القرآن و قبلوا الإسلام‏ «فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ» مدحهم الله تعالى بأنهم تدبروا حتى علموا أنه من ربهم و أن المثل وقع في حقه‏ «وَ أَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا» بالقرآن‏ «فَيَقُولُونَ» أي فلإعراضهم عن طريق الاستدلال و إنكارهم الحق قالوا «ما ذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا» أي ما ذا أراد الله بهذا المثل فحذف الألف و اللام و قوله‏ «يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَ يَهْدِي بِهِ كَثِيراً» فيه وجهان (أحدهما) حكي عن الفراء أنه قال أنه حكاية عمن قال ما ذا أراد الله بهذا مثلا يضل به كثيرا و يهدي به كثيرا أي يضل به قوم و يهتدي به قوم ثم قال الله تعالى‏ «وَ ما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ» فبين تعالى أنه لا يضل إلا فاسقا ضالا و هذا وجه حسن و الآخر أنه كلامه تعالى ابتداء و كلاهما محتمل و إذا كان محمولا على هذا فمعنى قوله‏ «يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً» إن الكفار يكذبون به و ينكرونه و يقولون ليس هو من عند الله فيضلون بسببه و إذا حصل الضلال بسببه أضيف إليه و قوله‏ «وَ يَهْدِي بِهِ كَثِيراً» يعني الذين آمنوا به و صدقوه و قالوا هذا في موضعه فلما حصلت الهداية بسببه أضيف إليه فمعنى الإضلال على هذا تشديد الامتحان الذي يكون عنده الضلال و ذلك بأن ضرب لهم الأمثال لأن المحنة إذا اشتدت على الممتحن فضل عندها سميت إضلالا و إذا سهلت فاهتدى سميت هداية فالمعنى إن الله تعالى يمتحن بهذه الأمثال عباده فيضل بها قوم كثير و يهتدي بها قوم كثير و مثله قوله‏ «رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ» أي ضلوا عندها و هذا كما يقال للرجل إذا أدخل الفضة النار لينظر فسادها من صلاحها فظهر فسادها أفسدت فضتك و هو لم يفعل فيها الفساد و إنما يراد أن فسادها ظهر عند محنته و قريب من ذلك قولهم فلان أضل ناقته و لا يريدون أنه أراد أن يضل و إنما يريدون ضلت منه لا من غيره و قولهم أفسدت فلانة فلانا و أذهبت عقله و هي ربما لم تعرفه و لكن لما ذهب عقله و فسد من أجلها أضيف الفساد إليها و قد يكون الإضلال بمعنى التخلية على جهة العقوبة و ترك المنع بالقهر و منع الألطاف التي يفعل بالمؤمنين جزاء على إيمانهم و هذا كما يقال لمن لا يصلح سيفه أفسدت سيفك أريد به أنك لم تحدث فيه الإصلاح في كل وقت‏


166
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[فصل في حقيقة الهداية و الهدى‏] ..... ص : 167

بالصقل و الإحداد و قد يكون الإضلال بمعنى التسمية بالضلال و الحكم به كما يقال أضله إذا نسبه إلى الضلال و أكفره إذا نسبه إلى الكفر قال الكميت:

فطائفة قد أكفروني بحبكم‏

و طائفة قالوا مسي‏ء و مذنب‏

 

و قد يكون الإضلال بمعنى الإهلاك و العذاب و التدمير و منه قوله تعالى‏ «إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَ سُعُرٍ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى‏ وُجُوهِهِمْ» و منه قوله تعالى‏ «أَ إِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ» أي هلكنا و قوله‏ «وَ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ» أي لن يبطل‏ سَيَهْدِيهِمْ وَ يُصْلِحُ بالَهُمْ‏ فعلى هذا يكون المعنى أن الله تعالى يهلك و يعذب بالكفر به كثيرا بأن يضلهم عن الثواب و طريق الجنة بسببه فيهلكوا و يهدي إلى الثواب و طريق الجنة بالإيمان به كثيرا عن أبي علي الجبائي و يدل على ذلك قوله‏ «وَ ما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ» لأنه لا يخلو من أن يكون أراد به العقوبة على التكذيب كما قلناه أو يكون أراد به التحيير و التشكيك فإن أراد الحيرة فقد ذكر أنه لا يفعل إلا بالفاسق المتحير الشاك فيجب أن لا تكون الحيرة المتقدمة التي بها صاروا فساقا من فعله إلا إذا وجدت حيرة قبلها أيضا و هذا يوجب وجود ما لا نهاية له من حيرة قبل حيرة لا إلى أول أو ثبوت إضلال لا إضلال قبله و إذا كان ذلك من فعله فقد أضل من لم يكن فاسقا و هو خلاف قوله‏ «وَ ما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ» و على هذا الوجه فيجوز أن يكون حكم الله تعالى عليهم بالكفر و براءته منهم و لعنته عليهم إهلاكا لهم و يكون إهلاكه إضلالا و كل ما في القرآن من الإضلال المنسوب إلى الله تعالى فهو بمعنى ما ذكرناه من الوجوه و لا يجوز أن يضاف إلى الله تعالى الإضلال الذي أضافه إلى الشيطان و إلى فرعون و السامري بقوله‏ وَ لَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً و قوله‏ «وَ أَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ» و قوله‏ «وَ أَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ» و هو أن يكون بمعنى التلبيس و التغليط و التشكيك و الإيقاع في الفساد و الضلال و غير ذلك مما يؤدي إلى التظليم و التجويز على ما يذهب إليه المجبرة تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

[فصل في حقيقة الهداية و الهدى‏]

و إذا قد ذكرنا أقسام الإضلال و ما يجوز إضافته إلى الله تعالى منها و ما لا يجوز


167
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 27] ..... ص : 168

فلنذكر أقسام الهداية التي هي ضده اعلم أن الهداية في القرآن تقع على وجوه (أحدها) أن تكون بمعنى الدلالة و الإرشاد يقال هداه الطريق و للطريق و إلى الطريق إذا دله عليه و هذا الوجه عام لجميع المكلفين فإن الله تعالى هدى كل مكلف إلى الحق بأن دله عليه و أرشده إليه لأنه كلفه الوصول إليه فلو لم يدله عليه لكان قد كلفه بما لا يطيق و يدل عليه قوله تعالى‏ «وَ لَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى‏» و قوله‏ «إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ» و قوله‏ «أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ» و قوله‏ «وَ أَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى‏ عَلَى الْهُدى‏» و قوله‏ «وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» و قوله‏ «وَ هَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ» و ما أشبه ذلك من الآيات (و ثانيها) أن يكون بمعنى زيادة الألطاف التي بها يثبت على الهدى و منه قوله تعالى‏ «وَ الَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً» أي شرح صدورهم و ثبتها (و ثالثها) أن يكون بمعنى الإثابة و منه قوله تعالى‏ «يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ» و قوله‏ «وَ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَ يُصْلِحُ بالَهُمْ» و الهداية التي تكون بعد قتلهم هي إثابتهم لا محالة لأنه ليس بعد الموت تكليف (و رابعها) الحكم بالهداية كقوله تعالى‏ «وَ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ» و هذه الوجوه الثلاثة خاصة بالمؤمنين دون غيرهم لأنه تعالى إنما يثيب من يستحق الإثابة و هم المؤمنون و يزيدهم بإيمانهم و طاعاتهم ألطافا و يحكم لهم بالهداية لذلك أيضا (و خامسها) أن تكون الهداية بمعنى جعل الإنسان مهتديا بأن يخلق الهداية فيه كما يجعل الشي‏ء متحركا بخلق الحركة فيه و الله تعالى يفعل العلوم الضرورية في القلوب فذلك هداية منه تعالى و هذا الوجه أيضا عام لجميع العقلاء كالوجه الأول فأما الهداية التي كلف الله تعالى العباد فعلها كالإيمان به و بأنبيائه و غير ذلك فإنها من فعل العباد و لذلك يستحقون عليها المدح و الثواب و إن كان الله سبحانه قد أنعم عليهم بدلالتهم على ذلك و إرشادهم إليه و دعائهم إلى فعله و تكليفهم إياه و أمرهم به فهو من هذا الوجه نعمة منه سبحانه عليهم و منة منه واصلة إليهم و فضل منه و إحسان لديهم فهو سبحانه مشكور على ذلك محمود إذ فعل بتمكينه و ألطافه و ضروب تسهيلاته و معوناته‏

[سورة البقرة (2): آية 27]

الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَ يَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (27)


168
مجمع البيان في تفسير القرآن1

اللغة ..... ص : 169

اللغة

النقض نقيض الإبرام و العهد العقد و العهد الموثق و العهد الالتقاء و هو قريب العهد بكذا و عهد الله وصيته و أمره يقال عهد الخليفة إلى فلان بكذا أي أمره و أوصاه به و منه قوله تعالى‏ «أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ» و الميثاق ما وقع التوثيق به كما أن الميقات ما وقع التوقيت به و يقال فلان ثقة يستوي فيه الواحد و الجمع و المذكر و المؤنث و يقال ثقات في الرجال و النساء و القطع الفصل بين الشيئين و أصل ذلك في الأجسام و يستعمل ذلك أيضا في الأعراض تشبيها به يقال قطع الحبل و قطع الكلام و الأمر هو قول القائل لمن دونه افعل هذه صيغته ثم يصير أمرا بإرادة الآمر المأمور به و صيغة الأمر تستعمل في الإباحة نحو قوله‏ فَاصْطادُوا و في التهديد نحو قوله‏ «اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ» و في التحدي نحو قوله‏ «فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ» و في التكوين كقوله‏ «كُنْ فَيَكُونُ» و الأصل في الجميع الطلب و الوصل نقيض الفصل و هو الجمع بين شيئين من غير حاجز و الخسران النقصان و الخسار الهلاك و الخاسرون الهالكون و أصل الخسران ذهاب رأس المال.

الإعراب‏

«الَّذِينَ يَنْقُضُونَ» في موضع النصب لأنها صفة الفاسقين و أولئك مبتدأ و الخاسرون خبره و هم فصل و يجوز أن يكون مبتدأ و الخاسرون خبره و الجملة خبر أولئك و قوله‏ «مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ» من مزيدة و قيل معناه ابتداء الغاية و الهاء في ميثاقه عائد إلى العهد و يجوز أن يكون عائدا إلى اسم الله تعالى و قوله‏ «أَنْ يُوصَلَ» بدل من الهاء التي في به أي ما أمر الله بأن يوصل فهو في موضع جر به.

المعنى‏

ثم وصف الله الفاسقين المذكورين في الآية فقال هم‏ «الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ» أي يهدمونه لا يفون به و قيل في عهد الله وجوه (أحدها) أنه ما ركب في عقولهم من أدلة التوحيد و العدل و تصديق الرسل و ما احتج به لرسله من المعجزات الشاهدة لهم على صدقهم و نقضهم لذلك تركهم الإقرار بما قد بينت لهم صحته بالأدلة (و ثانيها) أنه وصية الله إلى خلقه على لسان رسوله بما أمرهم به من طاعته و نهاهم عنه من معصيته و نقضهم لذلك تركهم العمل به (و ثالثها) أن المراد به كفار أهل الكتاب و عهد الله الذي نقضوه‏ «مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ» هو ما أخذه عليهم في التوراة من اتباع محمد ص و التصديق بما جاء به من عند ربه و نقضهم لذلك هو جحودهم به بعد معرفتهم بحقيقته و كتمانهم ذلك عن الناس بعد أن أخذ الله ميثاقهم ليبيننه للناس و لا يكتمونه و أنهم إن جاءهم نذير آمنوا به فلما جاءهم النذير ازدادوا نفورا و نبذوا العهد وراء ظهورهم و اشتروا به ثمنا قليلا و اختار هذا الوجه الطبري (و رابعها) أنه العهد الذي أخذه عليهم حين أخرجهم من صلب‏


169
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 28] ..... ص : 170

آدم كما وردت به القصة و هذا الوجه ضعيف لأنه لا يجوز أن يحتج على عباده بعهد لا يذكرونه و لا يعرفونه و لا يكون عليه دليل و قوله تعالى‏ «وَ يَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ» معناه أمروا بصلة النبي ص و المؤمنين فقطعوهم عن الحسن و قيل أمروا بصلة الرحم و القرابة فقطعوها عن قتادة و قيل أمروا بالإيمان بجميع الأنبياء و الكتب ففرقوا و قطعوا ذلك و قيل أمروا بأن يصلوا القول بالعمل ففرقوا بينهما بأن قالوا و لم يعملوا و قيل معناه الأمر بوصل كل من أمر الله بصلته من أوليائه و القطع و البراءة من أعدائه و هذا أقوى لأنه أعم و يدخل فيه الجميع و قوله‏ «وَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ» قال قوم استدعاؤهم إلى الكفر هو الفساد في الأرض و قيل إخافتهم السبيل و قطعهم الطريق و قيل نقضهم العهد و قيل أراد كل معصية تعدى ضررها إلى غير فاعلها و الأولى حمله على العموم‏ «أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ» أي أهلكوا أنفسهم فهم بمنزلة من هلك رأس ماله و روي عن ابن عباس أن كل ما نسبه الله تعالى من الخسار إلى غير المسلمين فإنما عنى به الكفر و ما نسبه إلى المسلمين فإنما عنى به الدنيا ..

[سورة البقرة (2): آية 28]

كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَ كُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28)

القراءة

قرأ يعقوب ترجعون بفتح التاء على أن الفعل لهم و الباقون بضم التاء و فتح الجيم على ما لم يسم فاعله.

الإعراب‏

كيف في الأصل سؤال عن الحال و يتضح ذلك في الجواب إذا قيل كيف رأيت زيدا فتقول مسرورا أو مهموما و ما أشبه ذلك فتجيب بأحواله فكيف ينتظم جميع الأحوال كما أن كم ينتظم جميع العدد و ما ينتظم جميع الجنس و أين ينتظم جميع الأماكن و من ينتظم جميع العقلاء و معناه في الآية التوبيخ و تقديره أ متعلقين بحجة تكفرون فيكون منصوب الموضع على الحال و العامل فيه تكفرون و قال الزجاج هو استفهام في معنى التعجب و هذا التعجب إنما هو للخلق أو للمؤمنين أي أعجبوا من هؤلاء كيف يكفرون و قد ثبتت حجة الله عليهم و معنى و كنتم و قد كنتم و الواو واو الحال و إضمار قد جائز إذا كان في الكلام دليل عليه و مثله قوله تعالى‏ «أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ» أي قد حصرت صدورهم و هي جملة في موضع الحال و إنما وجب إظهار قد في مثل هذا أو


170
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 171

 

تقديرها لأن الماضي لا يكون حالا و قد إنما يكون لتقريب العهد و لتقريب الحال فبدخوله يصلح أن يكون الفعل الماضي حالا.

المعنى‏

ثم عاد الله تعالى إلى الاحتجاج على الكفار في إنكارهم البعث و جحودهم لرسله و كتبه بما أنعم به عليهم فقال‏ «كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ» و من قال هو توبيخ قال معناه ويحكم كيف تكفرون كما يقال كيف تكفر نعمة فلان و قد أحسن إليك و من قال هو تعجب قال تقديره عجبا منكم على أي حال يقع منكم الكفر بالله مع الدلائل الظاهرة على وحدانيته و المعجزات القاهرة على صدق من اختصه برسالته و قيام الحجج الباهرة على وجوب طاعته و شكر نعمته ثم ذكر سبحانه بعض نعمه عليهم فقال‏ «وَ كُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ» أي و حالكم أنكم كنتم أمواتا و فيه وجوه (أحدها) أنهم كانوا أمواتا في أصلاب آبائهم يعني نطفا فأحياهم الله ثم أماتهم الموتة التي لا بد منها ثم أحياهم بعد الموت فهما حياتان و موتتان عن قتادة (و ثانيها) أن معناه لم تكونوا شيئا فخلقكم ثم يميتكم ثم يحييكم يوم القيامة عن ابن عباس و ابن مسعود (و ثالثها) أن معناه كنتم أمواتا يعني خاملي الذكر فأحياكم بالظهور ثم يميتكم عند تقضي آجالكم ثم يحييكم للبعث و العرب تسمي كل امرئ خامل ميتا و كل امرئ مشهور حيا كما قال أبو نخيلة السعدي‏

فأحييت من ذكري و ما كان خاملا

 

و لكن بعض الذكر أنبه من بعض‏

     

 

(و رابعها) أن معناه كنتم نطفا في أصلاب آبائكم و بطون أمهاتكم و النطفة موات فأخرجكم إلى دار الدنيا أحياء «ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ» في القبر للمسائلة «ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» أي يبعثكم يوم الحشر للحساب و المجازاة على الأعمال و سمي الحشر رجوعا إلى الله تعالى لأنه رجوع إلى حيث لا يكون أحد يتولى الحكم فيه غير الله كما يقال رجع أمر القوم إلى الأمير و لا يراد به الرجوع من مكان إلى مكان و إنما يراد به أن النظر صار له خاصة دون غيره و إنما بدأ الله تعالى بذكر الحياة و من بين سائر النعم التي أنعم بها على العبد لأن أول نعمة أنعم الله بها عليه خلقه إياه حيا لينفعه و بالحياة يتمكن الإنسان من الانتفاع و الالتذاذ و إنما عد الموت من النعم و هو يقطع النعم في الظاهر لأن الموت يقطع التكليف فيصل المكلف بعده إلى الثواب الدائم فهو من هذا الوجه نعمة و قيل إنما ذكر الموت لتمام الاحتجاج لا لكونه نعمة و في هذه الآية دلالة على أنه تعالى لم يرد من عباده الكفر و لا خلقه فيهم لأنه لو أراده منهم أو خلقه فيهم لم يجز أن يضيفه إليهم بقوله‏ «كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ» كما لا يجوز أن يقول لهم كيف أو لم كنتم طوالا أو قصارا و ما أشبه ذلك مما

 

 

 

171
مجمع البيان في تفسير القرآن1

اللغة ..... ص : 172

هو من فعله تعالى فيهم.

[سورة البقرة (2): آية 29]

هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى‏ إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَلِيمٌ (29)

اللغة

أصل الخلق التقدير و الجمع الضم و نقيضه الفرق و سميت الجمعة جمعة لاجتماع الناس و الاستواء الاعتدال و الاستقامة و نقيضه الاعوجاج و السبع للمؤنث و السبعة للمذكر و السبع مشتق من ذلك لأنه مضاعف القوى كأنه ضوعف سبع مرات و العليم في معنى العالم قال سيبويه إذا أرادوا المبالغة عدوا إلى فعيل نحو عليم و رحيم.

المعنى‏

قال المفسرون لما استعظم المشركون أمر الإعادة عرفهم الله تعالى خلق السموات و الأرض ليدلهم بذلك على قدرته على الإعادة فقال‏ «هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ» أي لأجلكم‏ «ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً» ما في موضع نصب بأنه مفعول بها و معناه أن الأرض و جميع ما فيها نعم من الله تعالى مخلوقة لكم إما دينية فتستدلون بها على معرفته و إما دنياوية فتنتفعون بها بضروب النفع عاجلا و قوله‏ «ثُمَّ اسْتَوى‏ إِلَى السَّماءِ» فيه وجوه (أحدها) أن معناه قصد للسماء و لتسويتها كقول القائل كان الأمير يدبر أمر الشام ثم استوى إلى أهل الحجاز أي تحول تدبيره و فعله إليهم (و ثانيها) أنه بمعنى استولى على السماء بالقهر كما قال‏ لِتَسْتَوُوا عَلى‏ ظُهُورِهِ‏ أي تقهروه و منه قوله‏ «وَ لَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ اسْتَوى‏» أي تمكن من أمره و قهر هواه بعقله فعلى هذا يكون معناه ثم استوى إلى السماء في تفرده بملكها و لم يجعلها كالأرض ملكا لخلقه و منه قول الشاعر:

فلما علونا و استوينا عليهم‏

تركناهم صرعى لنسر و كاسر

 

و قال آخر:

ثم استوى بشر على العراق‏

من غير سيف و دم مهراق‏

 

(و ثالثها) أن معناه ثم استوى أمره و صعد إلى السماء لأن أوامره و قضاياه تنزل من السماء إلى الأرض عن ابن عباس (و رابعها) ما روي عن ثعلب أحمد بن يحيى أنه سئل‏


172
مجمع البيان في تفسير القرآن1

سؤال ..... ص : 173

عن معنى الاستواء في صفة الله عز و جل فقال الاستواء الإقبال على الشي‏ء يقال كان فلان مقبلا على فلان [يشتمه‏] ثم استوى علي و إلي يكلمني على معنى أقبل إلي و علي فهذا معنى قوله‏ «ثُمَّ اسْتَوى‏ إِلَى السَّماءِ» و قوله‏ «فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ» التسوية جعل الشيئين أو الأشياء على استواء يقال سويت الشيئين فاستويا و إنما قال‏ «فَسَوَّاهُنَّ» فجمع الضمير العائد إلى السماء لأن السماء اسم جنس يدل على القليل و الكثير كقولهم أهلك الناس الدينار و الدرهم و قيل السماء جمع سماوة و سماءة و لذلك يؤنث مرة و يذكر أخرى فقيل‏ السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ‏ كما يفعل ذلك بالجمع الذي بينه و بين واحده الهاء نحو نخل و نخلة و بقر و بقرة و قيل إن السماوات كانت سماء فوق سماء فهي في التقدير واحدة و تكون الواحدة جماعة كما يقال ثوب أخلاق و أسمال و برقة أعشار و أرض أعقال و المعنى أن كل ناحية منها كذلك فجمع على هذا المعنى جعلهن سبع سموات مستويات بلا فطور و لا أمت قال علي بن عيسى أن السموات غير الأفلاك لأن الأفلاك تتحرك و تدور و السموات لا تتحرك و لا تدور لقوله‏ «إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ أَنْ تَزُولا» و هذا قول ضعيف لأن قوله‏ أَنْ تَزُولا معناه لا تزول عن مراكزها التي تدور عليها و لو لا إمساكه لزالت عنها.

سؤال‏

ظاهر قوله تعالى‏ «ثُمَّ اسْتَوى‏ إِلَى السَّماءِ» يوجب أنه خلق الأرض قبل السماء لأن ثم للتعقيب و التراخي و قوله في سورة أخرى‏ «وَ الْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها» بخلافه فكيف يجمع بينهما الجواب معناه أن الله خلق الأرض قبل السماء غير أنه لم يدحها فلما خلق السماء دحاها بعد ذلك و دحوها بسطها و مدها عن الحسن و عمرو بن عبيد و قد يجوز أيضا أن لا يكون معنى ثم و بعد في هذه الآيات الترتيب في الأوقات و إنما هو على جهة تعداد النعم و التنبيه عليها و الإذكار لها كما يقول القائل لصاحبه أ ليس قد أعطيتك ثم رفعت منزلتك ثم بعد هذا كله فعلت بك و فعلت و ربما يكون بعض ما ذكره متقدما في اللفظ كان متأخرا لأن المراد لم يكن الإخبار عن أوقات الفعل و إنما المراد التذكير كما ذكره و قوله‏ «وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَلِيمٌ» و لم يقل قدير لأنه لما وصف نفسه بالقدرة و الاستيلاء وصل ذلك بالعلم إذ بهما يصح وقوع الفعل على وجه الإتقان و الإحكام و أيضا فإنه أراد أن يبين أنه عالم بما يؤول إليه حاله و حال المنعم به عليه فتتحقق بذلك النعمة و في هذه الآية دلالة على أن صانع السماء و الأرض قادر و عالم و أنه تعالى إنما يفعل الفعل لغرض و أن له تعالى‏

173
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 30] ..... ص : 174

 

على الكفار نعما يجب شكره عليهم بها و فيها أيضا دلالة على أن الأصل في الأشياء الإباحة لأنه ذكر أنه خلق ما في الأرض لمنفعة العباد ثم صار حظا لكل واحد منهم فما يتفرد كل منهم بالتصرف فيه يحتاج إلى دليل.

[سورة البقرة (2): آية 30]

وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَ يَسْفِكُ الدِّماءَ وَ نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَ نُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (30)

اللغة

القول موضوع في كلام العرب للحكاية نحو قولك قال زيد خرج عمرو و الرب السيد يقال رب الدار و رب الفرس و لا يقال الرب بالألف و اللام إلا لله تعالى و أصله من ربيته إذا قمت بأمره و منه قيل للعالم رباني لأنه يقوم بأمر الأمة و الملائكة جمع ملك و اختلف في اشتقاقه فذهب أكثر العلماء إلى أنه من الألوكة و هي الرسالة و قال الخليل الألوك الرسالة و هي المالكة و المالكة على مفعلة و قال غيره إنما سميت الرسالة الوكا لأنها تولك في الفم أي تمضغ و الفرس تألك اللجام و تعلك قال عدي بن زيد:

أبلغا النعمان عني مالكا

 

أنه قد طال حسبي و انتظاري‏

     

 

و يروى ملاءكا و قال لبيد:

و غلام أرسلته أمه‏

 

بالوك فبذلنا ما سأل‏

     

 

و قال الهذلي:

ألكني إليها و خير الرسول‏

 

أعلمهم بنواحي الخبر

     

 

فالملائكة على هذا وزنها معافلة لأنها مفاعلة مقلوبة جمع ملأك في معنى مالك قال الشاعر:

فلست لإنسي و لكن لملأك‏

 

تنزل من جو السماء يصوب‏

     

 

 

 

 

174
مجمع البيان في تفسير القرآن1

اللغة ..... ص : 174

فوزن ملأك معفل مقلوب مالك مفعل و من العرب من يستعمله مهموزا و الجمهور منهم على إلقاء حركة الهمزة على اللام و حذفها فيقال ملك و ذهب أبو عبيدة إلى أن أصله من لاك إذا أرسل فملأك على هذا القول مفعل و ملائكة مفاعلة غير مقلوبة و الميم في هذين الوجهين زائدة و ذهب ابن كيسان إلى أنه من الملك و أن وزن ملأك فعال مثل شمال و ملائكة فعائلة فالميم على هذا القول أصلية و الهمزة زائدة و الملك و إن كان أصله الرسالة فقد صار صفة غالبة على صنف من رسل الله غير البشر كما أن السماء و إن كان أصله الارتفاع فقد صار غالبا على السماوات المعروفة و قال أصحابنا رضي الله عنهم أن جميع الملائكة ليسوا برسل الله بدلالة قوله تعالى‏ «يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَ مِنَ النَّاسِ» فلو كانوا كلهم رسلا لكان جميعهم مصطفين فعلى هذا يكون الملك اسم جنس و لا يكون من الرسالة و الجعل و الخلق و الفعل و الإحداث نظائر إلا أن الجعل قد يتعلق بالشي‏ء لا على سبيل الإيجاد بخلاف الفعل و الإحداث تقول جعلته متحركا و حقيقة الجعل تغيير الشي‏ء عما كان عليه و حقيقة الفعل و الإحداث الإيجاد و الخليفة و الإمام واحد في الاستعمال إلا أن بينهما فرقا فالخليفة استخلف في الأمر مكان من كان قبله فهو مأخوذ من أنه خلف غيره و قام مقامه و الإمام مأخوذ من التقدم فهو المتقدم فيما يقتضي وجوب الاقتداء به و فرض طاعته فيما تقدم فيه و السفك صب الدم و الدم قد اختلف في وزنه فقال بعضهم دمي على وزن فعل قال الشاعر:

فلو أنا على حجر ذبحنا

جرى الدميان بالخبر اليقين‏

 

و قيل أصله دمي على وزن فعل و الشاعر لما رد الياء في التثنية لقلة الاسم حركه ليعلم أنه متحركا قبل ذلك و التسبيح التنزيه لله تعالى عن السوء و عما لا يليق به و السبوح المستحق للتنزيه و التعظيم و القدوس المستحق للتطهير و التقديس التطهير و نقيضه التنجيس و القدس السطل الذي يتطهر منه و قد حكى سيبويه أن منهم من يقول سبوح قدوس بالفتح و الضم أكثر في الكلام و الفتح أقيس لأنه ليس في الكلام فعول إلا ذروح و سبحان اسم المصدر قال سيبويه سبحان الله معناه براءة الله من كل سوء و تنزيه الله قال الأعشى:

أقول لما جاءني فخره‏

سبحان من علقمة الفاخر

 

أي براءة منه قال و هو معرفة علم خاص لا ينصرف للتعريف و الزيادة و قد اضطر الشاعر فنونه قال أمية:


175
مجمع البيان في تفسير القرآن1

الإعراب ..... ص : 176

 

سبحانه ثم سبحانا يعود له‏

و قبله سبح الجودي و الجمد

 

و هو مشتق من السبح الذي هو الذهاب و لا يجوز أن يسبح غير الله و إن كان منزها لأنه صار علما في الدين على أعلى مراتب التعظيم التي لا يستحقها سواه كما أن العبادة هي غاية في الشكر لا يستحقها سواه.

الإعراب‏

قال أبو عبيدة إذ هاهنا زائدة و أنكر الزجاج و غيره عليه هذا القول و قالوا أن الحرف إذا أفاد معنى صحيحا لم يجز إلغاؤه قال الزجاج و معناه الوقت و لما ذكر الله تعالى خلق الناس و غيرهم فكأنه قال ابتداء خلقكم‏ «إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ» و قال علي بن عيسى تقديره اذكر إذ قال ربك للملائكة فموضع إذ نصب على إضمار فعل و الواو عاطفة جملة على جملة و «إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً» جملة في موضع نصب بقال و قوله‏ «أَ تَجْعَلُ فِيها» إلى قوله‏ «وَ نُقَدِّسُ لَكَ» في موضع نصب بقالوا و الواو في قوله‏ «وَ نَحْنُ» واو الحال و تسمى واو القطع و واو الاستئناف و واو الابتداء و واو إذ كذا كان يمثلها سيبويه و مثله الواو في قوله‏ «يَغْشى‏ طائِفَةً مِنْكُمْ وَ طائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ» أي إذ طائفة و كذا هاهنا إذ نحن نسبح و العامل في الحال هاهنا أ تجعل كأنه قال أ تجعل فيها من يفسد فيها و هذه حالنا و الباء في بحمدك تتعلق بنسبح و اللام من لك تتعلق بنقدس و ما موصولة و صلته لا تعلمون و العائد ضمير المفعول حذف لطول الكلام أي لا تعلمونه و هو في موضع النصب بأعلم.

المعنى‏

اذكر يا محمد «إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ» قيل أنه خطاب لجميع الملائكة و قيل خطاب لمن أسكنه الأرض بعد الجان من الملائكة عن ابن عباس‏ «إِنِّي جاعِلٌ» أي خالق‏ «فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً» أراد بالخليفة آدم (ع) فهو خليفة الله في أرضه يحكم بالحق إلا أنه تعالى كان أعلم ملائكته أنه يكون من ذريته من يفسد فيها عن ابن عباس و ابن مسعود و قيل إنما سمى الله تعالى آدم خليفة لأنه جعل آدم و ذريته خلفاء للملائكة لأن الملائكة كانوا من سكان الأرض و قيل كان في الأرض الجن فأفسدوا فيها و سفكوا الدماء فأهلكوا فجعل آدم و ذريته بدلهم عن ابن عباس و قيل عنى بالخليفة ولد آدم يخلف بعضهم بعضا و هم خلفوا أباهم آدم في إقامة الحق و عمارة الأرض عن الحسن البصري و قيل أراد بالأرض مكة لأن النبي ص قال دحيت الأرض من مكة و لذلك سميت أم القرى و روي أن قبر نوح و هود و صالح و شعيب بين زمزم و الركن و المقام و الظاهر أنها الأرض‏


176
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 176

المعروفة و هو الصحيح و قوله‏ «قالُوا» يعني الملائكة لله تعالى أ تجعل فيها أي في الأرض من يفسد فيها بالكفر و المعاصي و يسفك الدماء بغير حق و ذكر فيه وجوه (أحدها) أن خلقا يقال لهم الجان كانوا في الأرض فأفسدوا فيها فبعث الله ملائكة أجلتهم من الأرض و كان هؤلاء الملائكة سكان الأرض من بعدهم فقالوا يا ربنا «أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها» كما فعل بنو الجان قاسوا بالشاهد على الغائب و هو قول كثير من المفسرين (و ثانيها) أن الملائكة إنما قالت ذلك على سبيل الاستفهام و على وجه الاستخبار و الاستعلام عن وجه المصلحة و الحكمة لا على وجه الإنكار و لا على سبيل إخبار فكأنهم قالوا يا الله إن كان هذا كما ظننا فعرفنا ما وجه الحكمة فيه (و ثالثها) أن الله تعالى أخبر الملائكة بأنه سيكون من ذرية هذا الخليفة من يعصي و يسفك الدماء على ما روي عن ابن عباس و ابن مسعود و الغرض في إعلامه إياهم أن يزيدهم يقينا على وجه علمه بالغيب لأنه وجد بعد ذلك على ما أخبرهم به و قيل ليعلم آدم أنه خلق للأرض لا للجنة فقالت الملائكة أ تجعل فيها من يفعل كذا و كذا على وجه التعرف لما في هذا من التدبير و الاستفادة لوجه الحكمة فيه و هذا الوجه يقتضي أن يكون في أول الكلام حذف و يكون التقدير إني جاعل في الأرض خليفة و إني عالم بأنه سيكون في ذريته من يفسد فيها و يسفك الدماء فحذف اختصارا و كذلك قوله‏ «أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَ يَسْفِكُ الدِّماءَ وَ نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَ نُقَدِّسُ لَكَ» في ضمنه اختصار شديد أي فنحن على ما نظنه و يظهر لنا من الأمر أولى بالخلافة في الأرض لأنا نطيع و غيرنا يعصي و في قوله‏ «إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ» اختصار أيضا لأنه يتضمن أني أعلم من مصالح المكلفين ما لا تعلمونه و ما يكون مخالفا لما تظنونه على ظواهر الأمور و مثل هذه الحذوف العجيبة و الاختصارات البديعة كثيرة في القرآن و الحذف معدود في أنواع الفصاحة إذا كان فيما أبقي دليل على ما ألقي و مما جاء منه في الشعر قول الشنفري:

و لا تقبروني إن قبري محرم‏

عليكم و لكن خامري أم عامر

 

أي لا تدفنوني بل دعوني تأكلني التي يقال لها خامري أم عامر يعني الضبع و قول أبي داود:

إن من شيمتي لبذل تلادي‏

دون عرضي فإن رضيت فكوني‏

 


177
مجمع البيان في تفسير القرآن1

النظم ..... ص : 178

أي فكوني على ما أنت عليه و إن سخطت فبيني فحذف و قال عنترة:

هل تبلغني دارها شدنية

لعنت بمحروم الشراب مصرم‏

 

أي دعي عليها بانقطاع لبنها و جفاف ضرعها فصارت كذلك و الناقة إذا كانت لا تنتج كانت أقوى على السير و إنما أرادت الملائكة بقولهم‏ «أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها» ولد آدم الذين ليسوا بأنبياء و لا معصومين لا آدم نفسه و من يجري مجراه من الأنبياء و المعصومين و معنى قولهم‏ «وَ نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ» نتكلم بالحمد لك و النطق بالحمد لله تسبيح له كقوله تعالى‏ «وَ الْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ» و إنما يكون حمد الحامد سبحانه تسبيحا لأن معنى الحمد لله الثناء عليه و الشكر له و هذا تنزيه له و اعتراف بأنه أهل لأن ينزه و يعظم و يثني عليه عن مجاهد و قيل معنى‏ «نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ» نصلي لك كقوله‏ «فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ» أي من المصلين عن ابن عباس و ابن مسعود و قيل هو رفع الصوت بذكر الله عن المفضل و منه قول جرير:

قبح الإله وجوه تغلب كلما

سبح الحجيج و كبروا إهلالا

 

و قوله‏ «وَ نُقَدِّسُ لَكَ» أي ننزهك عما لا يليق بك من صفات النقص و لا نضيف إليك القبائح فاللام على هذا زائدة نقدسك و قيل نقدس لك أي نصلي لأجلك و قيل نطهر أنفسنا من الخطايا و المعاصي قوله‏ «إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ» قيل أراد ما أضمره إبليس من الكبر و العجب و المعصية لما أمره الله سبحانه بالسجود لآدم عن ابن عباس و ابن مسعود و قيل أراد أعلم من في ذرية آدم من الأنبياء و الصالحين عن قتادة و قيل أراد به ما اختص الله تعالى بعلمه من تدبير المصالح و

روي عن أبي عبد الله قال‏ إن الملائكة سألت الله تعالى أن يجعل الخليفة منهم و قالوا نحن نقدسك و نطيعك و لا نعصيك كغيرنا قال فلما أجيبوا بما ذكر في القرآن علموا أنهم تجاوزوا ما لهم فلاذوا بالعرش استغفارا فأمر الله تعالى آدم بعد هبوطه أن يبني له في الأرض بيتا يلوذ به المخطئون كما لاذ بالعرش الملائكة المقربون فقال الله تعالى للملائكة إني أعرف بالمصلحة منكم و هو معنى قوله‏ «أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ»

و هذا يدل على أنه تعالى لا يفعل القبيح لأنه لو كان يحسن منه كل شي‏ء لم يكن لهذا الكلام معنى لأنه إنما يفيد في الجواب متى حمل على أنه أراد إني أعلم بالمصالح فأفعل ما هو الأصلح.

النظم‏

و اتصال هذه الآية بما قبلها أن الله تعالى ذكر أول النعم له علينا و هي نعمة


178
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 31] ..... ص : 179

الحياة ثم ذكر بعده إنعامه علينا بخلق الأرض و ما فيها و بخلق السماء ثم أراد أن يذكر نعمته علينا بخلق أبينا آدم ع و ما أعطاه من الفضيلة فكأنه قال اذكر لهم كيف تكفرون بالله و قد فعل بكم كذا و كذا و أنعم عليكم بكذا أو كذا.

[سورة البقرة (2): آية 31]

وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (31)

القراءة

قرأ أهل المدينة و أهل البصرة هؤلاء بمدة واحدة لا يمدونها إلا على قدر خروج الألف و يمدون أولاء كأنهم يجعلونه كلمتين و الباقون يمدون مدتين في كل القرآن فأما الهمزتان من كلمتين نحو «هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» و نحوها فأبو جعفر و نافع برواية ورش و ابن كثير برواية القواس و يعقوب يهمزون الأولى و يخففون الثانية و يشيرون بالكسرة إليها و كذلك يفعلون في كل همزتين متفقتين تلتقيان من كلمتين مكسورتين كانتا أو مضمومتين أو مفتوحتين فالمكسورتان على البغاء إن أردن و المضمومتان أولياء أولئك ليس في القرآن غيره و المفتوحتان جاء أحدكم و شاء أنشره و أبو عمرو و البزي بهمزة واحدة فيتركان إحداهما أصلا إذا كانتا متفقتين و نافع برواية إسماعيل و ابن كثير برواية ابن فليح بتليين الأولى و تحقيق الثانية و إذا اختلفتا فاتفقوا على همز الأولى و تليين الثانية نحو السُّفَهاءُ أَلا و الْبَغْضاءَ إِلى‏ يَوْمِ الْقِيامَةِ فأما ابن عامر و عاصم و الكسائي فإنهم يهمزون همزتين في جميع ذلك متفقتين كانتا أو مختلفتين أما الحذف و التليين فللتخفيف و أما الهمز فللحمل على الأصل.

اللغة

في اشتقاق آدم قولان (أحدهما) أنه مأخوذ من أديم الأرض فإذا سميت به في هذا الوجه ثم نكرته صرفته (و الثاني) أنه مأخوذ من الأدمة على معنى اللون و الصفة فإذا سميت به في هذا الوجه ثم نكرته لم تصرفه و الأدمة و السمرة و الدكتة و الورقة متقاربة المعنى و آدم أبو البشر ع قال صاحب العين الأدمة في الناس شربة من سواد و هي السمرة و في الإبل و الظباء بياض و كل لفظة عموم على وجه الاستيعاب و حقيقته للإحاطة بالأبعاض يقال أ بعض القوم جاءك أم كلهم و يكون تأكيدا مثل أجمعون إلا أنه يبدأ في الذكر بكل كقوله تعالى‏ «فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ» لأن كلا قد يلي العوامل و أجمعون لا يكون إلا تابعا و العرض من قولهم عرضت الشي‏ء عليه و عرضت الجند قال الزجاج أصله في اللغة الناحية من نواحي الشي‏ء فمن ذلك العرض خلاف الطول و عرض‏


179
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 180

الرجل ما يمدح به أو يذم و يقال عرضه خليقته المحمودة و يقال عرضه حسبه و قال علي بن عيسى هو ناحيته التي يصونها عن المكروه و السب، و العرض و ما يعرض في الجسم و يغير صفته و يقال عرضت المتاع على البيع عرضا أي أظهرته حتى عرفت جهته و الإنباء و الإعلام و الإخبار واحد و النبأ الخبر و يقال منه أنبأته و نبأته و أنبئوني بأسماء هؤلاء أي أخبروني بها أما المتعدي إلى ثلاثة مفاعيل نحو أنبأت زيدا عمرا خير الناس و كذلك نبأت فهو هذا في الأصل إلا أنه حمل على المعنى فعدي إلى ثلاثة مفاعيل لأن الإنباء بمعنى الإعلام و دخول هذا المعنى فيه و حصول مشابهته للإعلام لم يخرجه عن الأصل الذي هو له من الإخبار و عن أن يتعدى إلى مفعولين أحدهما بالباء أو بعن نحو نَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ‏ و النبوة إذا أخذت من الإنباء فهي مهموزة و

قد روي عن النبي ص أنه قال‏ لا تنبئن باسمي لرجل قال له يا نبي‏ء الله‏

مهموزا و النبي بغير همز الطريق الواضح يأخذ بك إلى حيث تريد و الفرق بين الإعلام و الإخبار أن الإعلام قد يكون بخلق العلم الضروري في القلب كما خلق الله من كمال العقل و العلم بالمشاهدات و قد يكون بنصب الأدلة على الشي‏ء و الإخبار هو إظهار الخبر علم به أو لم يعلم و لا يكون مخبرا بما يحدثه من العلم في القلب كما يكون معلما بذلك.

المعنى‏

ثم أبان سبحانه و تعالى لملائكته فضل آدم عليهم و على جميع خلقه بما خصه به من العلم فقال سبحانه و تعالى‏ «وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها» أي علمه معاني الأسماء إذ الأسماء بلا معان لا فائدة فيها و لا وجه لإشارة الفضيلة بها و قد نبه الله تعالى الملائكة على ما فيها من لطيف الحكمة فأقروا عند ما سئلوا عن ذكرها و الإخبار عنها أنه لا علم لهم بها فقال الله تعالى‏ «يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ» عن قتادة و قيل أنه سبحانه علمه جميع الأسماء و الصناعات و عمارة الأرضين و الأطعمة و الأدوية و استخراج المعادن و غرس الأشجار و منافعها و جميع ما يتعلق بعمارة الدين و الدنيا عن ابن عباس و مجاهد و سعيد بن جبير و عن أكثر المتأخرين و قيل أنه علمه أسماء الأشياء كلها ما خلق و ما لم يخلق بجميع اللغات التي يتكلم بها ولده بعده عن أبي علي الجبائي و علي بن عيسى و غيرهما قالوا فأخذ عنه ولده اللغات فلما تفرقوا تكلم كل قوم بلسان ألفوه و اعتادوه و تطاول الزمان على ما خالف ذلك فنسوه و يجوز أن يكونوا عالمين بجميع تلك اللغات إلى زمن نوح (ع) فلما أهلك الله الناس إلا نوحا و من تبعه كانوا هم العارفين بتلك اللغات فلما كثروا و تفرقوا اختار كل قوم منهم لغة تكلموا بها و تركوا ما سواه و نسوة و

قد روي عن الصادق (ع) أنه سئل عن هذه الآية فقال الأرضين و الجبال و الشعاب و الأودية ثم نظر إلى بساط تحته فقال‏


180
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 180

و هذا البساط مما علمه‏

و قيل أنه علمه أسماء الملائكة و أسماء ذريته عن الربيع و قيل أنه علمه ألقاب الأشياء و معانيها و خواصها و هو أن الفرس يصلح لما ذا و الحمار يصلح لما ذا و هذا أبلغ لأن معاني الأشياء و خواصها لا تتغير بتغير الأزمنة و الأوقات و ألقاب الأشياء تتغير على طول الأزمنة و قال بعضهم أنه تعالى لم يعلمه اللغة العربية فإن أول من تكلم بالعربية إسماعيل (ع) و قالوا أن الله جعل الكلام معجزة لثلاثة من الأنبياء آدم و إسماعيل و محمد ص ثم اختلف في كيفية تعليم الله تعالى آدم الأسماء فقيل علمه بأن أودع قلبه معرفة الأسماء و فتق لسانه بها فكان يتكلم بتلك الأسماء كلها و كان ذلك معجزة له لكونه ناقصا للعادة و قيل علمه إياها بأن اضطره إلى العلم بها و قيل علمه لغة الملائكة ثم علمه بتلك اللغة سائر اللغات و قيل إنما علمه أسماء الأشخاص بأن أحضر تلك الأشياء و علمه أسماءها في كل لغة و أنه لأي شي‏ء يصلح و أي نفع فيه و أي ضرر و قوله‏ «ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ» روي عن ابن عباس أنه قال عرض الخلق و عن مجاهد قال عرض أصحاب الأسماء و على هذا فيكون معناه ثم عرض المسميات على الملائكة و فيهم من يعقل و فيهم من لا يعقل فقال عرضهم غلب العقلاء فأجرى على الجميع كناية من يعقل كقوله‏ «وَ اللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى‏ بَطْنِهِ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى‏ رِجْلَيْنِ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى‏ أَرْبَعٍ» أجري عليهم كناية من يعقل و في قراءة أبي ثم عرضها و في قراءة ابن مسعود ثم عرضهن و على هاتين القراءتين يصلح أن يكون عبارة عن الأسماء دون المسميات و اختلف في كيفية العرض على الملائكة فقيل إنما عرضها على الملائكة بأن خلق معاني الأسماء التي علمها آدم حتى شاهدتها الملائكة و قيل صور في قلوبهم هذه الأشياء فصارت كأنهم شاهدوها و قيل عرض عليهم من كل جنس واحد و أراد بذلك تعجيزهم فإن الإنسان إذا قيل له ما اسم شي‏ء صفته كذا و كذا فلم يعلم كان أبلغ عذرا ممن عرض عليه شي‏ء بعينه و سئل عن اسمه فلم يعرفه و بين بذلك أن آدم ع أصلح لكدخدائية الأرض و عمارتها لاهتدائه إلى ما لا تهتدي الملائكة إليه من الصناعات المختلفة و حرث الأرض و زراعتها و إنباط الماء و استخراج الجواهر من المعادن و قعر البحار بلطائف الحكمة و هذا يقوي قول من قال أنه علمه خواص الأشياء و أراد به أنكم إذا عجزتم عن معرفة هذه الأشياء مع مشاهدتكم لها فأنتم عن معرفة الأمور المغيبة عنكم أعجز «فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» أن سأل فقيل ما الذي ادعت الملائكة حتى خوطبوا بهذا و كيف أمرهم الله سبحانه أن يخبروا بما لا يعلمون فالجواب أن للعلماء فيه وجوها من الكلام (أحدها) أن الله تعالى لما أخبر الملائكة بأنه جاعل في الأرض خليفة هجس في نفوسها


181
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 32] ..... ص : 182

 

أنه إن كان الخليفة منهم بدلا من آدم و ذريته لم يكن في الأرض فساد و لا سفك دم كما يكون في ولد آدم و إن كان الله لا يفعل إلا ما هو الأصلح في التدبير و الأصوب في الحكمة فقال الله تعالى‏ «أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» فيما ظننتم من هذا المعنى ليدلهم على أنهم إذا لم يعلموا باطن ما شاهدوا فهم من أن يعلموا باطن ما غاب عنهم أبعد (و ثانيها) أنه خطر ببالهم أنه لن يخلق الله خلقا إلا و هم أعلم منه و أفضل في سائر أنواع العلم فقيل‏ «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» في هذا الظن فأخبروا بهذه الأسماء (و ثالثها) أن المراد أن كنتم صادقين في أنكم تعلمون لم أجعل في الأرض خليفة أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين لأن كل واحد من الأمرين من علم الغيب فكما لم تعلموا أحدهما لا تعلمون الآخر عن ابن عباس (و رابعها) ما قاله الأخفش و الجبائي و علي بن عيسى و هو أن المراد «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» فيما تخبرون به من أسمائهم فأخبروا بها و هذا كقول القائل لغيره (أخبر بما في يدي إن كنت صادقا) أي إن كنت تعلم فأخبر به لأنه لا يمكنه أن يصدق في مثل ذلك إلا إذا أخبر عن علم منه و لا يصح أن يكلف ذلك إلا مع العلم به و لا بد إذا استدعوا إلى الإخبار عما لا يعلمون من أن يشترط هذا الشرط و على هذا فيكون لفظه الأمر و معناه التنبيه أو يكون أمرا مشروطا كما يقول العالم للمتعلم ما تقول في كذا و يعلم أنه لا يحسن الجواب لينبهه عليه و يحثه على طلبه و البحث عنه و لو قال له أخبر بذلك أن كنت تعلم أو إن كنت صادقا لكان حسنا فإذا تنبه على أنه لا يمكنه الجواب أجابه حينئذ فيكون جوابه بهذا التدريج أثبت في قلبه و أوقع في نفسه و لا يجوز أن يكون ذلك تكليفا لأنه لو كان تكليفا لم يكن تبيينا لهم أن آدم يعرف أسماء هذه الأشياء بتعريف الله إياه و تخصيصه من ذلك بما لا يعرفونه هم فلما أراد تعريفهم ما خص به آدم من ذلك علمنا أنه ليس بتكليف و في هذه الآية دلالة على شرف العلم و أهله من حيث إن الله سبحانه لما أراد تشريف آدم (ع) اختصه بعلم أبانه به من غيره و فضله به على من سواه ..

[سورة البقرة (2): آية 32]

قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاَّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32)

اللغة

الحكمة نقيض السفه و الإحكام الإتقان و الحكيم المانع من الفساد و منه حكمة اللجام لأنها تمنع الفرس من الجري الشديد قال جرير:

 

 

 

182
مجمع البيان في تفسير القرآن1

الإعراب ..... ص : 183

 

أ بني حنيفة أحكموا سفهاءكم‏

إني أخاف عليكم أن أغضبا

 

أي امنعوهم و الحكمة هي التي تقف بك على مر الحق الذي لا يخلطه باطل و الصدق الذي لا يشوبه كذب و منه قوله‏ حِكْمَةٌ بالِغَةٌ و رجل حكيم إذا كان ذلك شأنه و كانت معه أصول من العلم و المعرفة و يقال حكم يحكم في الحكم بين الناس و حكم يحكم إذا صار حكيما و الحكمة في الإنسان هي العلم الذي يمنع صاحبه من الجهل.

الإعراب‏

سبحانك نصب على المصدر قال سيبويه سبحت الله تسبيحا و سبحانا فالمصدر تسبيح و سبحان اسم يقوم مقام المصدر و اللام من قوله‏ «لَنا» يتعلق بمحذوف فيكون جملة ظرفية في موضع رفع بالخبر لأن لا علم في موضع رفع بالابتداء و «ما عَلَّمْتَنا» موصول و صلة و الضمير من علمتنا العائد إليه محذوف تقديره ما علمتنا و هو في موضع رفع بدل من موضع لا علم و أنت يجوز أن يكون فصلا فيكون لا موضع له من الإعراب و خبر إن العليم الحكيم و يجوز أن يكون مبتدأ و الجملة خبر إن.

المعنى‏

ثم أخبر سبحانه عن الملائكة بالرجوع إليه و التسليم لأمره و قال‏ «قالُوا» أي الملائكة «سُبْحانَكَ» أي تنزيها لك و تعظيما عن أن يعلم الغيب أحد سواك عن ابن عباس و قيل تنزيها لك عن الاعتراض عليك في حكمك و قيل إنهم أرادوا أن يخرجوا الجواب مخرج التعظيم فقالوا تنزيها لك عن فعل كل قبيح و أن كنا لا نعلم وجه الحكمة في أفعالك و قيل أنه على وجه التعجب لسؤالهم عما لا يعلمونه و قوله‏ «لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا» معناه إنا لا نعلم إلا بتعليمك و ليس هذا فيما علمتنا و لو أنهم اقتصروا على قولهم‏ «لا عِلْمَ لَنا» لكان كافيا في الجواب لكن أرادوا أن يضيفوا إلى ذلك التعظيم له و الاعتراف بإنعامه عليهم بالتعليم و أن جميع ما يعلمونه إنما يعلمونه من جهته و أن هذا ليس من جملة ذلك و إنما سألهم سبحانه عما علم أنهم لا يعلمونه ليقررهم على أنهم لا يملكون إلا ما علمهم الله و ليرفع به درجة آدم عندهم بأنه علمه ما لم يعلموه و قوله‏ «إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ» أي العالم بجميع المعلومات لأنه من صفات ذاته و هو مبالغة العالم و قيل أنهم أثبتوا له ما نفوه عن أنفسهم أي أنت العالم من غير تعليم و نحن المعلمون و قوله‏ «الْحَكِيمُ» يحتمل أمرين (أحدهما) أنه بمعنى العالم لأن العالم بالشي‏ء يسمى بأنه حكيم فعلى هذا يكون من صفات الذات مثل العالم و يوصف بهما فيما لم يزل لأن ذلك واجب في العالم لنفسه (و الثاني) أن معناه المحكم لأفعاله و يكون فعيلا بمعنى مفعل و على هذا يكون من صفات الأفعال و معناه أن أفعاله كلها حكمة و صواب و ليس فيها تفاوت و لا وجه من وجوه القبح‏


183
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 33] ..... ص : 184

و على هذا فلا يوصف بذلك فيما لم يزل و روي عن ابن عباس أنه قال العليم الذي كمل في علمه و الحكيم الذي كمل في حكمته و في هذه الآية دلالة على أن العلوم كلها من جهته تعالى و إنما كان كذلك لأن العلوم لا تخلو إما أن تكون ضرورية فهو الذي فعلها و إما أن تكون استدلالية فهو الذي أقام الأدلة عليها فلا علم لأحد إلا ما علمه الله تعالى.

[سورة البقرة (2): آية 33]

قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ أَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33)

القراءة

روي عن ابن عامر أنبئهم بالهمزة و كسر الهاء و الباقون بضم الهاء.

الحجة

من ضم الهاء حملها على الأصل لأن الأصل أن تكون هاء الضمير مضمومة و إنما تكسر الهاء إذا وليها كسرة أو ياء نحو بهم و عليهم و مع هذا فقد ضمه قوم حملا على الأصل و من كسر الهاء التي قبلها همزة مخففة فإن لذلك وجها من القياس و هو أنه اتبع كسرة الهاء الكسرة التي قبلها و لم يعتد بالحاجز الساكن كما حكي عنهم هذا المرء و رأيت المرء و مررت بالمرء فاتبعوا مع هذا الفصل كما اللغة في اللغة الأخرى هذا امرؤ و رأيت امرءا و مررت بامرئ و حكى أبو زيد عن بعض العرب أخذت هذا منه و منهما و منهمي فكسر المضمر في الإدراج و الوقف و لم أعرفه و لم أضربه.

اللغة

الإبداء و الإظهار و الإعلان بمعنى واحد و ضد الإبداء الكتمان و ضد الإظهار الإبطان و ضد الإعلان الإسرار و يقال بدا يبدو بدوا من الظهور و بدأ يبدأ بدءا بالهمزة بمعنى استأنف و قال علي بن عيسى الرماني حد الظهور الحصول على حقيقة يمكن أن تعلم بسهولة و الله سبحانه ظاهر بأدلته باطن عن إحساس خلقه و كل استدلال فإنما هو ليظهر شي‏ء بظهور غيره.

الإعراب‏

آدم منادى مفرد معرفة مبني على الضم و محله النصب لأن المنادى مدعو و المدعو مفعول.

المعنى‏

ثم خاطب الله تعالى آدم ف «قالَ: يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ» أي أخبر الملائكة


184
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 184

«بِأَسْمائِهِمْ» يعني بأسماء الذين عرضهم عليهم و هم كناية عن المرادين بقوله‏ بِأَسْماءِ هؤُلاءِ و قد مضى بيانه‏ «فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ» يعني أخبرهم آدم‏ «بِأَسْمائِهِمْ» أي باسم كل شي‏ء و منافعه و مضارة «قالَ» الله تعالى للملائكة «أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ» الألف للتنبيه و إن كان أصلها الاستفهام كقول القائل (أ ما ترى اليوم ما أطيبه) لمن يعلم ذلك و حكى سيبويه أ ما ترى أي برق هاهنا و من الناس من قال أن هذه الألف معناها التوبيخ و من لم يجز على الملائكة المعصية منع من ذلك‏ «إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ» أي أعلم ما غاب فيهما عنكم فلم تشاهدوه كما أعلم ما حضركم فشاهدتموه‏ «وَ أَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ» قيل فيه أقوال: (أحدها) أنه أراد أعلم سركم و علانيتكم و ذكر ذلك تنبيها لهم على ما يحيلهم عليه من الاستدلال لأن الأصول الأول التي يستدل بها إنما تذكر على وجه التنبيه ليستخرج بها غيرها فيستدل بعلمه الغيب على أنه خلق عباده على ما خلقهم عليه للاستصلاح في التكليف و ما توجبه الحكمة (و ثانيها) أنه أراد «أَعْلَمُ ما تُبْدُونَ» من قولكم‏ أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها «وَ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ» من إضمار إبليس المعصية و المخالفة قال علي بن عيسى و هذا ليس بالوجه لأن الخطاب للملائكة و ليس إبليس منهم و لأنه عام فلا يخص إلا بدليل و جوابه أن إبليس لما دخل معهم في الأمر بالسجود جاز أن يذكر في جملتهم و قد رويت روايات تؤيد هذا القول و اختاره الطبري (و ثالثها) أن الله تعالى لما خلق آدم مرت به الملائكة قبل أن ينفخ فيه الروح و لم تكن رأت مثله فقالوا لن يخلق الله خلقا إلا كنا أكرم منه و أفضل عنده فهذا ما أخفوه و كتموه و أما ما أبدوه فقولهم‏ «أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها» روي ذلك عن الحسن و الأول أقوى لأنه أعم و مما يسأل في هذه الآية أن يقال ما وجه ذكره تعالى لهم الأسرار من علم الغيب و الجواب أنه على معنى الجواب فيما سألوا عنه من خلق من يفسد و يسفك الدماء على وجه التعريض دون التصريح لأنه لو صرح بذلك لقال خلقت من يفسد و يسفك الدماء لما أعلم في ذلك من المصلحة لعبادي فيما كلفتهم إياه فدل سبحانه الإحالة في الجواب على العلم بباطن الأمور و ظاهرها أنه خلقهم لأجل علمه بالمصلحة في ذلك و دلهم بذلك على أن عليهم الرضا بأمر الله و التسليم لقضاء الله لأنه يعلم من الغيب ما لا يعلمونه و يعلم من مصالحهم في دينهم و دنياهم ما لا يطلعون عليه فإن قيل فأي شي‏ء في تعليم الله تعالى آدم الأسماء كلها مما يدل على علمه بالغيب فالجواب قيل أنه تعالى علمه الأسماء كلها بما فيها من المعاني التي تدل عليها على جهة فتق لسانه بذلك و الهامة إياها فهي معجزة أقامها الله تعالى للملائكة تدل على نبوته و جلالة قدره و ارتفاع شأنه بما اختصه الله به من العلم الذي لا


185
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 184

يوصل إليه إلا بتعليم الله عز و جل و دلهم على ذلك بأن قررهم أولا فأقروا بأن لا علم لهم به ثم أظهر لهم أن آدم يعلمه بتعليم الله إياه فبان بذلك الإعجاز بالاطلاع على ما لا سبيل إلى علمه إلا من علام الغيوب و فيه من المعجزة أنه فتق لسانه على خلاف مجرى العادة و أنه علمه من لطائف الحكمة ما لا تعلمه الملائكة مع كثرة علومها و أنها أعرف الخلق بربها فعرفوا ما دلهم على علم الغيب بالمعجزة مؤكدا لما يعلمونه من ذلك بالأدلة العقلية و لذلك نبههم فقال‏ «أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ» أي قد دللتكم على ذلك قبل و هذه دلالة بعد و قد افتتح الله تعالى الدلالة على الإعجاز بالكلام في آدم ثم ختم به في محمد ص قال السيد الأجل المرتضى قدس الله روحه و في هذه الآية سؤال لم أجد أحدا من مفسري القرآن تعرض له و ذلك أن يقال من أين علمت الملائكة صحة قول آدم و مطابقة الأسماء المسميات و هي لم تكن عالمة بذلك من قبل و الكلام يقتضي أنهم لما أنبأهم آدم بالأسماء علموا صحتها و لو لا ذلك لم يكن لقوله تعالى: «أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ» معنى و لا كانوا أيضا مستفيدين نبوته و تميزه و اختصاصه بما ليس لهم لأن كل ذلك إنما يتم مع العلم و الجواب أنه غير ممتنع أن يكون الله تعالى جعل لهم العلم الضروري بصحة الأسماء و مطابقتها للمسميات أما عن طريق أو ابتداء بلا طريق فعلموا بذلك تمييزه و اختصاصه و ليس في علمهم بصحة ما أخبر به ما يقتضي العلم بنبوته ضرورة بل بعده درجات و مراتب لا بد من الاستدلال عليها حتى يحصل العلم بنبوته ضرورة. و وجه آخر و هو أنه لا يمتنع أن يكون للملائكة لغات مختلفة و كل قبيل منهم يعرف أسماء الأجناس في لغته دون لغة غيره إلا أنه يكون إحاطة عالم واحد بأسماء الأجناس في جميع لغاتهم خارقة للعادة فلما أراد الله تعالى التنبيه على نبوة آدم علمه جميع تلك الأسماء فلما أخبرهم بها علم كل فريق مطابقة ما أخبر به من الأسماء للغته و علم مطابقة ذلك لباقي اللغات بخبر كل قبيل و على هذا الجواب فيكون معنى‏ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ ليخبرني كل قبيل منكم بجميع الأسماء و هذان الجوابان مبنيان على أنه لم يتقدم لهم العلم بنبوة آدم و أن إخباره بالأسماء كان مفتتح معجزاته لأنه لو كان نبيا قبل ذلك و كانوا قد علموا نبوته بمعجزات تقدم ظهورها على يده لم يحتج إلى هذين الجوابين لأنهم يعلمون مطابقة الأسماء للمسميات بعد أن لم يعلموا بقوله الذي علموا أنه حق و صدق.


186
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 34] ..... ص : 187

[سورة البقرة (2): آية 34]

وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى‏ وَ اسْتَكْبَرَ وَ كانَ مِنَ الْكافِرِينَ (34)

القراءة

قرأ أبو جعفر وحده للملائكة اسجدوا بضم التاء حيث وقع و كذلك قل رب احكم بضم الباء.

الحجة

أتبع التاء ضمة الجيم و قيل أنه نقل ضمة الهمزة لو ابتدئ بها و الأول أقوى لأن الهمزة تسقط في الدرج فلا يبقى فيها حركة تنقل.

اللغة

السجود الخضوع و التذلل في اللغة و هو في الشرع عبارة عن عمل مخصوص في الصلاة كالركوع و القنوت و غيرهما و هو وضع الجبهة على الأرض و يقال سجد و أسجد إذا خضع قال الأعشى:

من يلق هوذة يسجد غير متئب‏

إذا تعمم فوق الرأس أو خضعا

 

و قال آخر:

فكلتاهما خرت و أسجد رأسها

كما سجدت نصرانة لم تحنف‏

 

و نساء سجد إذا كن فاترات الأعين قال‏

(و لهوي إلى حور المدامع سجد)

 

و الإسجاد الإطراق و إدامة النظر في فتور و سكون قال:

أغرك مني أن دلك عندنا

و إسجاد عينيك الصيودين رابح‏

 

و أبي معناه ترك الطاعة و امتنع و الإباء و الترك و الامتناع بمعنى و نقيض أبى أجاب و رجل أبي من قوم أباة و ليس الإباء بمعنى الكراهة لأن العرب تتمدح أنها تأبى الضيم و لا مدح في كراهية الضيم و إنما المدح في الامتناع منه كقوله تعالى: «وَ يَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَ لَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ» أي يمنع الكافرين من إطفاء نوره و الاستكبار و التكبر و التعظم و التجبر نظائر و ضده التواضع و حقيقة الاستكبار الأنفة مما لا ينبغي أن يؤنف منه و قيل حده الرفع للنفس إلى منزلة لا تستحقها فأصل الباب الكبر و هو العظم و يقال على وجهين كبر


187
مجمع البيان في تفسير القرآن1

الإعراب ..... ص : 188

الجثة و كبر الشأن و الله سبحانه الكبير من كبر الشأن و ذلك يرجع إلى سعة مقدوراته و معلوماته فهو القادر على ما لا يتناهى من جميع أجناس المقدورات و العالم بجميع المعلومات و إبليس اسم أعجمي لا ينصرف في المعرفة للتعريف و العجمة قال الزجاج و غيره من النحويين هو اسم أعجمي معرب و استدلوا على ذلك بامتناع صرفه و ذهب قوم إلى أنه عربي مشتق من الإبلاس و وزنه إفعيل و أنشدوا للعجاج:

يا صاح هل تعرف رسما مكرسا

قال نعم أعرفه و أبلسا

 

و زعموا أنه لم يصرف استثقالا له من حيث أنه اسم لا نظير له في أسماء العرب فشبهته العرب بأسماء العجم التي لا تنصرف و زعموا أن إسحاق من أسحقه الله تعالى إسحاقا و أيوب من أب يؤب و إدريس من الدرس في أشباه ذلك و غلطوا في جميع ذلك لأن هذه الألفاظ معربة وافقت الألفاظ العربية و كان أبو بكر السراج يمثل ذلك على جهة التبعيد بمن زعم أن الطير ولدت الحوت و غلطوا أيضا في أنه لا نظير له في أسماء العرب لأنهم يقولون إزميل للشفرة و إغريض للطلع و إحريض لصبغ أحمر و يقال هو العصفر و سيف إصليت ماض كثير الماء و ثوب إضريج مشبع الصبغ و قالوا هو من الصفرة خاصة و مثل هذا كثير و سبيل إبليس سبيل إنجيل في أنه معرب غير مشتق.

الإعراب‏

قوله‏ «وَ إِذْ» في موضع نصب لأنها معطوفة على إذ الأولى و قوله‏ «لِآدَمَ» آدم في موضع جر باللام لا ينصرف لأنه على وزن أفعل فإذا قلت مررت بآدم و آدم آخر فإن سيبويه و الخليل يقولان أنه لا ينصرف في النكرة لأنك إذا نكرته فقد أعدته إلى حال كان فيها لا ينصرف قال الأخفش إذا سميت به فقد أخرجته من باب الصفة فيجب إذا نكرته أن تصرفه فتقول و آدم آخر و قوله‏ «اسْجُدُوا» الأصل في همزة الوصل أن تكسر لالتقاء الساكنين و لكنها ضمت لاستثقال الضمة بعد الكسرة و كذلك كل ما كان ثالثة مضموما في الفعل المستقبل نحو قوله‏ انْظُرُونا و اقْتُلُوا يُوسُفَ‏ و ليس في كلام العرب فعل لكراهتهم الضمة بعد الكسرة و إبليس نصب على الاستثناء المتصل من الكلام الموجب و هو في مذهب من جعله من الملائكة و على الاستثناء المنقطع على مذهب من جعله من غير الملائكة.

المعنى‏

ثم بين سبحانه ما آتاه آدم ع من الإعظام و الإجلال و الإكرام فقال و اذكر يا محمد «إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ» و الظاهر يقتضي أن الأمر بالسجود له كان لجميع الملائكة حتى جبرائيل و ميكائيل لقوله‏ «فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ» و في هذا


188
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 188

تأكيد للعموم و قال قوم أن الأمر كان خاصا لطائفة من الملائكة كانوا مع إبليس طهر الله بهم الأرض من الجن و اختلف في سجود الملائكة لآدم على أي وجه كان‏

فالمروي عن أئمتنا ع‏ أنه على وجه التكرمة لآدم و التعظيم لشأنه و تقديمه عليهم‏

و هو قول قتادة و جماعة من أهل العلم و اختاره علي بن عيس الرماني و لهذا جعل أصحابنا رضي الله عنهم هذه الآية دلالة على أن الأنبياء أفضل من الملائكة من حيث أنه أمرهم بالسجود لآدم و ذلك يقتضي تعظيمه و تفضيله عليهم و إذا كان المفضول لا يجوز تقديمه على الفاضل علمنا أنه أفضل من الملائكة و قال الجبائي و أبو القاسم البلخي و جماعة أنه جعله قبلة لهم فأمرهم بالسجود إلى قبلتهم و فيه ضرب من التعظيم و هذا غير صحيح لأنه لو كان على هذا الوجه لما امتنع إبليس من ذلك و لما استعظمته الملائكة و قد نطق القرآن بأن امتناع إبليس عن السجود إنما هو لاعتقاده تفضيله به و تكرمته مثل قوله‏ «أَ رَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ» و قوله‏ «أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ» و لو لم يكن الأمر على هذا الوجه لوجب أن يعلمه الله تعالى بأنه لم يأمره بالسجود على جهة تعظيمه و تفضيله عليه و إنما أمره على الوجه الآخر الذي لا تفضيل فيه و لم يجز إغفال ذلك فإنه سبب معصية إبليس و ضلالته فلما لم يقع ذلك علمنا أن الأمر بالسجود له لم يكن إلا على وجه التعظيم و التفضيل و الإكرام و التبجيل ثم اختلف في إبليس هل كان من الملائكة أم لا فذهب قوم‏

أنه كان منهم و هو المروي عن ابن عباس و ابن مسعود و قتادة و اختاره الشيخ السعيد أبو جعفر الطوسي قدس الله روحه قال‏ و هو المروي عن أبي عبد الله (ع)

و الظاهر في تفاسيرنا ثم اختلف من قال أنه من الملائكة فمنهم من قال أنه كان خازنا على الجنان و منهم من قال كان له سلطان سماء الدنيا و سلطان الأرض و منهم من قال أنه كان يسوس ما بين السماء و الأرض و قال الشيخ المفيد أبو عبد الله محمد بن محمد بن النعمان قدس الله روحه أنه كان من الجن و لم يكن من الملائكة قال و قد جاءت الأخبار بذلك متواترة عن أئمة الهدى عليهم السلام و هو مذهب الإمامية و هو المروي عن الحسن البصري و هو قول علي بن عيسى و البلخي و غيره و احتجوا على صحة هذا القول بأشياء (أحدها) قوله تعالى: «إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ» و من أطلق لفظ الجن لم يجز أن يعني به إلا الجنس المعروف و كل ما في القرآن من ذكر الجن مع الإنس يدل عليه (و ثانيها) قوله تعالى: «لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ» فنفى المعصية عنهم نفيا


189
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 188

عاما (و ثالثها) أن إبليس له نسل و ذرية قال الله تعالى‏ «أَ فَتَتَّخِذُونَهُ وَ ذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَ هُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ» و قال الحسن إبليس أب الجن كما أن آدم أب الإنس و إبليس مخلوق من النار و الملائكة روحانيون خلقوا من الريح في قول بعضهم و من النور في قول الحسن لا يتناسلون و لا يطعمون و لا يشربون (و رابعها) قوله تعالى: «جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا» و لا يجوز على رسل الله الكفر و لا الفسق و لو جاز عليهم الفسق لجاز عليهم الكذب و قالوا إن استثناء الله تعالى إياه منهم لا يدل على كونه من جملتهم و إنما استثناه منهم لأنه كان مأمورا بالسجود معهم فلما دخل معهم في الأمر جاز إخراجه بالاستثناء منهم و قيل أيضا أن الاستثناء هنا منقطع كقوله تعالى‏ «ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ» و أنشد سيبويه:

و الحرب لا يبقى لجا

حمها التخيل و المراح‏

 

إلا الفتى الصبار في‏

النجدات و الفرس الوقاح‏

 

و كقول النابغة

(و ما بالربع من أحد)

 

(إلا الأواري)

 

و يؤيد هذا القول ما

رواه الشيخ أبو جعفر بن بابويه رحمه الله في كتاب النبوة بإسناده عن ابن أبي عمير عن جميل بن دراج عن أبي عبد الله (ع) قال‏ سألته عن إبليس أ كان من الملائكة أو كان يلي شيئا من أمر السماء فقال لم يكن من الملائكة و لم يكن يلي شيئا من أمر السماء و كان من الجن و كان مع الملائكة و كانت الملائكة ترى أنه منها و كان الله سبحانه يعلم أنه ليس منها فلما أمر بالسجود لآدم كان منه الذي كان‏

و كذا رواه العياشي في تفسيره و أما من قال أنه كان من الملائكة فإنه احتج بأنه لو كان من غير الملائكة لما كان ملوما بترك السجود فإن الأمر إنما يتناول الملائكة دون غيرهم و قد مضى الجواب عن هذا و يزيده بيانا قوله تعالى: «ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ» فعلمنا أنه من جملة المأمورين بالسجود و إن لم يكن من جملتهم و هذا كما إذا قيل أمر أهل البصرة بدخول الجامع فدخلوا إلا رجلا من أهل الكوفة فإنه يعلم من هذا أن غير أهل البصرة كان مأمورا بدخول الجامع غير أن أهل البصرة خصوا بالذكر لكونهم الأكثر فكذلك القول في الآية و أجاب القوم عن الاحتجاج الأول و هو قوله تعالى‏ «كانَ مِنَ الْجِنِّ» بأن الجن جنس من الملائكة سموا بذلك لاجتنانهم عن العيون قال الأعشى قيس بن ثعلبة:

و لو كان شي‏ء خالدا أو معمرا

لكان سليمان البري من الدهر

 

برأه إلهي و اصطفاه عباده‏

و ملكه ما بين تونا إلى مصر

 

و سخر من جن الملائك تسعة

قياما لديه يعملون بلا أجر

 


190
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 188

و قد قال الله تعالى: «وَ جَعَلُوا بَيْنَهُ وَ بَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً» لأنهم قالوا الملائكة بنات الله و أجابوا عن الثاني و هو قوله تعالى: «لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ» الآية بأنه صفة لخزنة النيران لا لجميع الملائكة فلا يوجب عصمة لغيرهم من الملائكة و أجابوا عن الثالث بأنه يجوز أن يكون الله تعالى ركب في إبليس شهوة النكاح تغليظا عليه في التكليف و إن لم يكن ذلك في باقي الملائكة و يجوز أن يكون الله تعالى لما أهبطه إلى الأرض تغيرت حاله عن حال الملائكة قالوا و أما قولكم أن الملائكة خلقوا من الريح و هو مخلوق من النار فإن الحسن قال خلقوا من النور و النار و النور سواء و قولكم إن الجن يطعمون و يشربون فقد جاء عن العرب ما يدل على أنهم لا يطعمون و لا يشربون أنشد ابن دريد قال أنشد أبو حاتم:

و نار قد حضأت بعيد وهن‏

بدار ما أريد بها مقاما

 

سوى ترحيل راحلة و عين‏

أكالئها مخافة أن تناما

 

أتوا ناري فقلت منون أنتم‏

فقالوا الجن قلت عموا ظلاما

 

فقلت إلى الطعام فقال منهم‏

زعيم نحسد الإنس الطعاما

 

لقد فضلتم بالأكل فينا

و لكن ذاك يعقبكم سقاما

 

فهذا يدل على أنهم لا يأكلون و لا يشربون لأنهم روحانيون و قد جاء في الأخبار النهي عن التمسح بالعظم و الروث لأن ذلك طعام الجن و طعام دوابهم و قد قيل أنهم يتشممون ذلك و لا يأكلونه و أجابوا عن الرابع و هو قوله: «جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا» بأن هذه الآية معارضة بقوله تعالى: «اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَ مِنَ النَّاسِ» لأن من للتبعيض و كلا القولين مروي عن ابن عباس و روي عنه أنه قال أن الملائكة كانت تقاتل الجن فسبي إبليس و كان صغيرا فكان مع الملائكة فتعبد معها بالأمر بالسجود لآدم فسجدوا و أبى إبليس فلذلك قال الله تعالى: «إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ» و روى مجاهد و طاووس عنه أيضا أنه قال كان إبليس قبل أن يرتكب المعصية ملكا من الملائكة اسمه عزازيل و كان من سكان الأرض و كان سكان الأرض من الملائكة يسمون الجن و لم يكن من الملائكة أشد اجتهادا و لا أكثر علما منه فلما تكبر على الله و أبى السجود لآدم و عصاه لعنه و جعله شيطانا و سماه إبليس و أما قوله تعالى: «وَ كانَ مِنَ الْكافِرِينَ» قيل معناه كان كافرا في الأصل و هذا القول يوافق مذهبنا في الموافاة و قيل أراد كان في علم الله تعالى من الكافرين و قيل معناه صار من الكافرين كقوله تعالى: «فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ» و استدل بعضهم بهذه الآية على أن أفعال الجوارح من الإيمان فقال لو لم يكن كذلك لوجب أن يكون إبليس‏


191
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 35] ..... ص : 192

 

مؤمنا بما معه من المعرفة بالله تعالى و إن فسق بآبائه و هذا ضعيف لأنا إذا علمنا كفره بالإجماع علمنا أنه لم يكن معه إيمان أصلا كما أنا إذا رأينا من يسجد للصنم علمنا أنه كافر و إن كان نفس السجود ليس بكفر و اختلفوا في صفة أمر الله سبحانه الملائكة بالسجود فقيل كان بخطاب من الله تعالى للملائكة و لإبليس و قيل بوحي من الله إلى من بعثه إليهم من رسله لأن كلام الرسول كلام المرسل و قيل أن الله تعالى أظهر فعلا دلهم به على أنه أمرهم بالسجود فإن قيل لم حكم الله بكفره مع أن من ترك السجود الآن لا يكفر قلنا لأنه جمع إلى ترك السجود خصالا من الكفر منها أنه اعتقد أن الله تعالى أمره بالقبيح و لم ير أمره بالسجود حكمة و منها أنه امتنع من السجود تكبرا و ردا على الله تعالى أمره و من تركه الآن كذلك يكفر أيضا و منها أنه استخف بنبي الله و ازدراه و هذا لا يصدر إلا من معتقد الكفر و في هذه الآية دلالة على بطلان مذهب الجبر من وجوه منها قوله‏ «أَبى‏» فدل على قدرته على السجود الذي أباه و تركه و إلا لم يصح وصفه بالآباء و منها قوله‏ «فَسَجَدُوا» فدل على أن السجود فعلهم و منها أنه مدح الملائكة بالسجود و ذم إبليس بترك السجود و عندهم إنما لم يسجد لأنه لم يخلق فيه السجود و لا القدرة الموجبة له.

[سورة البقرة (2): آية 35]

وَ قُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَ كُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَ لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (35)

اللغة

السكون و الاطمئنان و الهدو نظائر و السكن بسكون الكاف العيال و أهل البيت و السكن بالفتح المنزل و السكن الرحمة و البركة في قوله‏ «إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ» و الزوج بطرح الهاء قال الأصمعي هو أكثر كلام العرب و الأكل و المضغ و اللقم متقارب و ضد الأكل الأزم و سأل عمر بن الخطاب الحارث بن كلدة طبيب العرب فقال يا حار ما الدواء فقال الأزم أي ترك الأكل و الرغد النفع الواسع الكثير الذي ليس فيه عناء قال ابن دريد الرغد السعة في العيش و المشيئة من قبيل الإرادة و كذلك المحبة و الاختيار و الإيثار و إن كان لها شروط ذكرت في أصول الكلام و القرب الدنو قرب الشي‏ء يقرب قربا و قرب فلان أهله يقرب قربانا إذا غشيها و ما قربت هذا الأمر قربانا و قربا و الشجرة ما قام على ساق و جمعها أشجار و شجرات و شجر و تشاجر القوم اختلفوا أخذ من الشجر لاشتباك أغصانه‏

 

 

 

192
مجمع البيان في تفسير القرآن1

اللغة ..... ص : 192

و الظلم و الجور و العدوان متقارب و ضد الظلم الإنصاف و ضد الجور العدل و أصل الظلم انتقاص الحق قال الله تعالى‏ كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَ لَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً أي لم تنقص و قيل أصله وضع الشي‏ء في غير موضعه من قولهم من أشبه أباه فما ظلم أي فما وضع الشبه في غير موضعه و كلاهما مطرد و على الوجهين فالظلم اسم ذم لا يجوز إطلاقه على الأنبياء و المعصومين.

الإعراب‏

قوله: «اسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ» استقبح عطف الظاهر على الضمير المستكن و المتصل فقال‏ «اسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ الْجَنَّةَ» فأنت تأكيد للضمير المستكن في اسكن الذي هو فاعله و زوجك معطوف على موضع أنت فلو عطفه على الضمير المستكن لكان أشبه في الظاهر عطف الاسم على الفعل فأتى بالضمير المنفصل فعطفه عليه و رغدا منصوب لأنه صفة لمصدر محذوف كأنه قال أكلا رغدا أي واسعا كثيرا و يجوز أن يكون مصدرا وضع موضع الحال من قوله‏ «كُلا» قال الخليل يقال قوم رغد و نساء رغد و عيش رغد و رغيد قال امرؤ القيس:

بينما المرء تراه ناعما

يأمن الأحداث في عيش رغد

 

فعلى هذا يكون تقديره و كلا منها متوسعين في العيش و حيث مبني على الضم كما تبنى الغاية نحو مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ بَعْدُ لأنه منع من الإضافة إلى مفرد كما منعت الغاية من الإضافة و إنما يأتي بعده جملة اسمية أو فعلية في تقدير المضاف إليه و «لا تَقْرَبا» مجزوم بالنهي و الألف ضمير الفاعلين و قوله‏ «فَتَكُونا» يحتمل أمرين أحدهما أن يكون جوابا للنهي فيكون منصوبا بإضمار أن و أن مع الفعل في تأويل اسم مفرد و إذا قدر إضمار أن بعد الفاء كان ذلك عطفا على مصدر الفعل المتقدم فيكون تقديره لا يكون منكما قرب لهذه الشجرة فتكونا من الظالمين فيكون الكلام جملة واحدة لأن المعطوف يكون من جملة المعطوف عليه و إنما سميناه جوابا لمشابهته الجزاء في أن الثاني سببه الأول لأن معنى الكلام أن تقربا هذه الشجرة تكونا من الظالمين و الثاني أن يكون معطوفا على النهي فيكون مجزوما و تكون الفاء عاطفة جملة على جملة فكأنه قال فلا تكونا من الظالمين.

المعنى‏

ثم ذكر سبحانه ما أمر به آدم (ع) بعد أن أنعم عليه بما اختصه من العلوم لما أوجب له به من الإعظام و أسجد له الملائكة الكرام فقال عز اسمه‏ «وَ قُلْنا» و هذه‏


193
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 193

نون الكبرياء و العظمة لا نون الجمع‏ «يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ الْجَنَّةَ» أي اتخذ أنت و امرأتك الجنة مسكنا و مأوى لتأوي إليه و تسكن فيه أنت و امرأتك و اختلف في هذا الأمر فقيل أنه أمر تعبد و قيل هو إباحة لأنه ليس فيه مشقة فلا يتعلق به تكليف و قوله‏ «وَ كُلا» إباحة و قوله‏ «وَ لا تَقْرَبا» تعبد بالاتفاق و روي عن ابن عباس و ابن مسعود أنه لما أخرج إبليس من الجنة و لعن و بقي آدم وحده استوحش إذ ليس معه من يسكن إليه فخلقت حواء ليسكن إليها و روي أن الله تعالى ألقى على آدم النوم و أخذ منه ضلعا فخلق منه حواء فاستيقظ آدم فإذا عند رأسه امرأة فسألها من أنت قالت امرأة قال لم خلقت قالت لتسكن إلي فقالت الملائكة ما اسمها يا آدم قال حواء قالوا و لم سميت حواء قال لأنها خلقت من حي فعندها قال الله تعالى‏ «اسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ الْجَنَّةَ» و قيل إنها خلقت قبل أن يسكن آدم الجنة ثم أدخلا معا الجنة و في كتاب النبوة أن الله تعالى خلق آدم من الطين و خلق حواء من آدم فهمة الرجال الماء و الطين و همة النساء الرجال قال أهل التحقيق ليس يمتنع أن يخلق الله حواء من جملة جسد آدم بعد أن لا يكون مما لا يتم الحي حيا إلا معه لأن ما هذه صفته لا يجوز أن ينقل إلى غيره أو يخلق منه حي آخر من حيث يؤدي إلى أن لا يمكن إيصال الثواب إلى مستحقه لأن المستحق لذلك هو الجملة بأجمعها و إنما سميت حواء لأنها خلقت من حي على ما ذكرناه قبل و قيل لأنها أم كل حي و اختلف في الجنة التي أسكن فيها آدم فقال أبو هاشم هي جنة من جنان السماء غير جنة الخلد لأن جنة الخلد أكلها دائم و لا تكليف فيها و قال أبو مسلم هي جنة من جنان الدنيا في الأرض و قال أن قوله‏ «اهْبِطُوا مِنْها» لا يقتضي كونها في السماء لأنه مثل قوله‏ «اهْبِطُوا مِصْراً» و استدل بعضهم على أنها لم تكن جنة الخلد بقوله تعالى حكاية عن إبليس‏ «هَلْ أَدُلُّكَ عَلى‏ شَجَرَةِ الْخُلْدِ» فلو كانت جنة الخلد لكان آدم عالما بذلك و لم يحتج إلى دلالة و قال أكثر المفسرين و الحسن البصري و عمرو بن عبيد و واصل بن عطاء و كثير من المعتزلة كالجبائي و الرماني و ابن الإخشيد إنها كانت جنة الخلد لأن الألف و اللام للتعريف و صارا كالعلم عليها قالوا و يجوز أن تكون وسوسة إبليس من خارج الجنة من حيث يسمعان كلامه قالوا و قال من يزعم أن جنة الخلد من يدخلها لا يخرج منها غير صحيح لأن ذلك إنما يكون إذا استقر أهل الجنة فيها للثواب فأما قبل ذلك فإنها تفنى لقوله تعالى‏ «كُلُّ شَيْ‏ءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ» و قوله‏ «وَ كُلا مِنْها رَغَداً» أي كلا من الجنة كثيرا واسعا لا عناء فيه‏ «حَيْثُ شِئْتُما» من بقاع الجنة و قيل منها أي من ثمارها إلا ما استثناه‏

«وَ لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ» أي لا تأكلا منها و هو المروي عن الباقر (ع)

فمعناه لا تقرباها بالأكل و يدل عليه أن المخالفة وقعت بالأكل‏


194
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 193

بلا خلاف لا بالدنو منها و لذلك قال فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما و اختلف في هذا النهي فقيل أنه نهي التحريم و قيل أنه نهي التنزيه دون التحريم كمن يقول لغيره لا تجلس على الطرق و هو قريب من مذهبنا فإن عندنا أن آدم كان مندوبا إلى ترك التناول من الشجرة و كان بالتناول منها تاركا نفلا و فضلا و لم يكن فاعلا لقبيح فإن الأنبياء ع لا يجوز عليهم القبائح لا صغيرها و لا كبيرها و قالت المعتزلة كان ذلك صغيرة من آدم (ع) على اختلاف بينهم في أنه وقع منه على سبيل العمد أو السهو أو التأويل و إنما قلنا أنه لا يجوز مواقعة الكبائر على الأنبياء ع من حيث إن القبيح يستحق فاعله به الذم و العقاب لأن المعاصي عندنا كلها كبائر و إنما تسمى صغيرة بإضافتها إلى ما هو أكبر عقابا منها لأن الإحباط قد دل الدليل عندنا على بطلانه و إذا بطل ذلك فلا معصية إلا و يستحق فاعلها الذم و العقاب و إذا كان الذم و العقاب منفيين عن الأنبياء ع وجب أن ينتفي عنهم سائر الذنوب و لأنه لو جاز عليهم شي‏ء من ذلك لنفر عن قبول قولهم و المراد بالتنفير أن النفس إلى قبول قول من لا تجوز عليه شيئا من المعاصي أسكن منها إلى قول من يجوز عليه ذلك و لا يجوز عليهم كل ما يكون منفرا عنه من الخلق المشوهة و الهيئات المستنكرة و إذا صح ما ذكرناه علمنا أن مخالفة آدم (ع) لظاهر النهي كان على الوجه الذي بيناه و اختلف في الشجرة التي نهي عنها آدم فقيل هي السنبلة عن ابن عباس و قيل هي الكرمة عن ابن مسعود و السدي و قيل هي التينة عن ابن جريج و قيل‏

هي شجرة الكافور يروي عن علي (ع)

و قيل هي شجرة العلم علم الخير و الشر عن الكلبي و قيل هي شجرة الخلد التي كانت تأكل منها الملائكة عن ابن جذعان و قوله‏ «فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ» أي تكونا بأكلها من الظالمين لأنفسكما و يجوز أن يقال لمن بخس نفسه الثواب أنه ظالم لنفسه كقوله تعالى حكاية عن أيوب‏ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ‏ حيث بخس نفسه الثواب بترك المندوب إليه و اختلفوا هل كان يجوز ابتداء الخلق في الجنة فجوز البصريون من أهل العدل ذلك قالوا يجوز أن ينعمهم الله في الجنة مؤبدا تفضلا منه لا على وجه الثواب لأن ذلك نعمة منه تعالى كما أن خلقهم و تعريضهم للثواب نعمة و قال أبو القاسم البلخي لا يجوز ذلك لأنه لو فعل ذلك لا يخلو إما أن يكونوا متعبدين بالمعرفة أو لا يكونوا كذلك فلو كانوا متعبدين لم يكن بد من ترغيب و ترهيب و وعد و وعيد و كان يكون لا بد من دار أخرى يجازون فيها و يخلدون و إن كانوا غير متعبدين كانوا مهملين و ذلك غير جائز و جوابه أنه سبحانه لو ابتدأ خلقهم في الجنة لكان يضطرهم إلى المعرفة و يلجئهم إلى فعل الحسن و ترك القبيح و متى راموا القبيح منعوا منه فلا يؤدي إلى ما قاله و هذا كما يدخل الله الجنة


195
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 36] ..... ص : 196

الأطفال و غير المكلفين لا على وجه الثواب.

[سورة البقرة (2): آية 36]

فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَ قُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَ مَتاعٌ إِلى‏ حِينٍ (36)

القراءة

قرأ حمزة فأزالهما بالألف و الباقون‏ «فَأَزَلَّهُمَا».

الحجة

من قرأ أزالهما قال إن قوله‏ «اسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ» معناه اثبتا فثبتا فأزالهما الشيطان فقابل الثبات بالزوال الذي هو خلافه و حجة من قرأ «فَأَزَلَّهُمَا» أنه يحتمل تأويلين أحدهما كسبهما الزلة و الآخر أزل من أزل أي عثر و يدل على الوجه الأول ما جاء في التنزيل من قوله‏ «ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ وَ قاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ» و قوله‏ «فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ» الآية و قد نسب كسب الشيطان الزلة إلى الشيطان في قوله‏ «إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ» و استزل و أزل بمعنى واحد و يدل على الوجه الثاني قوله‏ «فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ» فكما أن خروج الإنسان عن الموضع الذي هو فيه انتقال منه إلى غيره كذلك عثاره و زلله.

اللغة

الزلة و الخطيئة و المعصية و السيئة بمعنى واحد و ضد الخطيئة الإصابة يقال زلت قدمه زلا و زل في مقالته زلة و المزلة المكان الدحض و المزلة الزلل في الدحض و أزللت إلى فلان نعمة أي أسديت و

في الحديث‏ من أزلت إليه نعمة فليشكرها

قال كثير:

و إني و إن صدت لمثن و صادق‏

عليها بما كانت إلينا أزلت‏

 

و الأصل في ذلك الزوال و الزلة زوال عن الحق و أزله الشيطان إذا أزاله عن الحق و الهبوط و النزول و الوقوع نظائر و هو التحرك من علو إلى سفل و يقال هبطته و أهبطته و الهبوط كالحدور و هو الموضع الذي يهبطك من أعلى إلى أسفل و قد يستعمل الهبوط بمعنى الحلول في المكان و النزول به قال الله تعالى‏ اهْبِطُوا مِصْراً و يقول القائل هبطنا بلد كذا يريد حللنا قال زهير:

ما زلت أرمقهم حتى إذا هبطت‏

أيدي الركاب بهم من راكس فلقا

 

و العدو نقيض الولي و العداوة المصدر و أصله من المجاوزة و القرار الثبات و البقاء


196
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 197

و ضد القرار الانزعاج و ضد الثبات الزوال و ضد البقاء الفناء و الاستقرار الكون أكثر من وقت واحد على حال و المستقر يحتمل أن يكون بمعنى الاستقرار و يحتمل أن يكون بمعنى المكان الذي يستقر فيه و المتاع و التمتع و المتعة و التلذذ متقاربة المعنى و كل شي‏ء تمتعت به فهو متاع و الحين و المدة و الزمان متقارب و الحين في غير هذا الموضع ستة أشهر يدل عليه قوله تعالى‏ «تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها» و الحين يصلح للأوقات كلها إلا أنه في الاستعمال في الكثير منها أكثر.

المعنى‏

ثم بين سبحانه حال آدم ع قال‏ «فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ» أي حملهما على الزلة نسب الإزلال إلى الشيطان لما وقع بدعائه و وسوسته و إغوائه‏ «عَنْها» أي عن الجنة و ما كانا فيه من عظيم الرتبة و المنزلة و الشيطان المراد به إبليس‏ «فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ» من النعمة و الدعة و يحتمل أن يكون أراد إخراجهما من الجنة حتى اهبطا و يحتمل أن يكون أراد من الطاعة إلى المعصية و أضاف الإخراج إليه لأنه كان السبب فيه كما يقال صرفني فلان عن هذا الأمر و لم يكن إخراجهما من الجنة و إهباطهما إلى الأرض على وجه العقوبة لأن الدليل قد دل على أن الأنبياء عليهم السلام لا تجوز عليهم القبائح على حال و من أجاز العقاب على الأنبياء فقد أساء عليهم الثناء و أعظم الفرية على الله سبحانه و تعالى و إذا صح ما قلناه فإنما أخرج الله آدم من الجنة لأن المصلحة قد تغيرت بتناوله من الشجرة فاقتضت الحكمة و التدبير الإلهي إهباطه إلى الأرض و ابتلاءه بالتكليف و المشقة و سلبه ما ألبسه إياه من ثياب الجنة لأن إنعامه عليه بذلك كان على وجه التفضل و الامتنان فله أن يمنع ذلك تشديدا للبلوى و الامتحان كما له أن يفقر بعد الإغناء و يميت بعد الإحياء و يسقم بعد الصحة و يعقب المحنة بعد المحنة و اختلف في كيفية وصول إبليس إلى آدم و حواء حتى وسوس إليهما و إبليس كان قد أخرج من الجنة حين أبى السجود و هما في الجنة فقيل إن آدم كان يخرج إلى باب الجنة و إبليس لم يكن ممنوعا من الدنو منه فكان يكلمه و كان هذا قبل أن أهبط إلى الأرض و بعد أن أخرج من الجنة عن أبي علي الجبائي و قيل أنه كلمهما من الأرض بكلام عرفاه و فهماه منه و قيل أنه دخل في فقم الحية و خاطبهما من فقمها و الفقم جانب الشدق و قيل أنه راسلهما بالخطاب و ظاهر القرآن يدل على أنه شافههما بالخطاب و قوله‏ «وَ قُلْنَا اهْبِطُوا» خاطب بخطاب الجمع و فيه وجوه (أحدها) أنه خاطب آدم و حواء و إبليس و هو اختيار الزجاج و قول جماعة من المفسرين و هذا غير منكر و أن إبليس قد


197
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 197

أخرج قبل ذلك بدلالة قوله‏ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ‏ فجمع الخبر للنبي ص لأنهم قد اجتمعوا في الهبوط و إن كانت أوقاتهم متفرقة فيه كما يقال أخرج جميع من في الحبس و إن أخرجوا متفرقين و الثاني أنه أراد آدم و حواء و الحية و في هذا الوجه بعد لأن خطاب من لا يفهم الخطاب لا يحسن و لأنه لم يتقدم للحية ذكر و الكناية عن غير مذكور لا تحسن إلا بحيث لا يقع لبس مثل قوله‏ «حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ» و قوله‏ «ما تَرَكَ عَلى‏ ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ» و قول حاتم:

أ ماوي ما يغني الثراء عن الفتى‏

إذا حشرجت يوما و ضاق بها الصدر

 

(و الثالث) أنه أراد آدم و حواء و ذريتهما لأن الوالدين يدلان على الذرية و يتعلق بهما (و الرابع) أن يكون الخطاب يختص بآدم و حواء عليهما السلام و خاطب الاثنين على الجمع على عادة العرب و ذلك لأن الاثنين أول الجمع قال الله تعالى‏ «إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَ كُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ» أراد حكم داود و سليمان و قد تأول قوله تعالى‏ «فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ» على معنى فإن كان له أخوان (و الخامس) آدم و حواء و الوسوسة عن الحسن و هذا ضعيف و قوله‏ «بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ» يعني آدم و ذريته و إبليس و ذريته و لم يكن من آدم إليه ما يوجب عداوته إياه و لكن حسده الملعون و خالفه فنشأت بينهما العداوة ثم إن عداوة آدم له إيمان و عداوة إبليس له كفر و قال الحسن يريد بني آدم و بني إبليس و ليس ذلك بأمر بل هو تحذير يعني أن الله تعالى لا يأمر بالعداوة فالأمر مختص بالهبوط و المعاداة يجري مجرى الحال لأن الظاهر يقتضي أنه أمرهما بالهبوط في حال عداوة بعضهم بعضا فأما على الوجه الذي يتضمن أن الخطاب يختص بآدم و حواء فالمراد به أن ذريتهما يعادي بعضهم بعضا و علق الخطاب بهما للاختصاص بين الذرية و بين أصلها و قوله‏ «وَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ» أي مقر و مقام و ثبوت بأن جعل الأرض قرارا لكم‏ «وَ مَتاعٌ» أي استمتاع‏ «إِلى‏ حِينٍ» إلى وقت الموت و قيل إلى يوم القيامة و قيل إلى فناء الآجال أي كل امرئ مستقر إلى فناء أجله و قال أبو بكر السراج لو قال و لكم في الأرض مستقر و متاع لظن أنه غير منقطع فقال‏ «إِلى‏ حِينٍ» أي إلى حين انقطاعه و الفرق بين قول القائل أن هذا لكم حينا و بين قوله‏ «إِلى‏ حِينٍ» إلى أن يدل على الانتهاء و لا بد أن يكون له ابتداء و ليس كذلك الوجه الآخر و في هذه الآية دلالة على أن الله تعالى لا يريد المعصية و لا يصد أحدا عن الطاعة و لا يخرجه عنها


198
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 37] ..... ص : 199

و لا يسبب المعصية ذلك إلى الشيطان جل ربنا و تقدس عما نسبه إلى إبليس و الشياطين و يدل أيضا على أن لوسوسة إبليس تأثيرا في المعاصي.

[سورة البقرة (2): آية 37]

فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37)

القراءة

قرأ ابن كثير آدم بالنصب و كلمات بالرفع و قرأ الباقون برفع‏ «آدَمُ» و نصب‏ «كَلِماتٍ».

الحجة

حجة ابن كثير في نصب آدم أنه في المعنى كالقراءة الأخرى فإن الأفعال المتعدية على ثلاثة أضرب منها ما يجوز فيه أن يكون الفاعل له مفعولا به و المفعول فاعلا نحو ضرب زيد عمروا و منها ما لا يجوز لك فيه نحو أكلت الخبز و نحوه و منها ما يكون إسناده إلى الفاعل في المعنى كإسناده إلى المفعول به نحو نلت و أصبت و تلقيت تقول نالني خير و نلت خيرا و أصابني شي‏ء و أصبت شيئا و تلقاني زيد و تلقيت زيدا و مثل هذه الآية قوله تعالى‏ «لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ» و في حرف عبد الله فيما قيل (لا ينال عهدي الظالمون).

اللغة

التلقي نظير التلقن يقال تلقيت منه أي أخذت و قبلت و أصله من لقيت خيرا فتعدى إلى مفعول واحد ثم يعدى إلى مفعولين بتضعيف العين نحو لقيت زيدا خيرا كقوله تعالى‏ «وَ لَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَ سُرُوراً» و مطاوعة تلقيته بالقبول أي قبلته منه و من ذلك قول أبي مهدية في آيات من القرآن تلقيتها من عمي تلقاها من أبي هريرة تلقاها من رسول الله و تلقيت الرجل استقبلته و تلقاني استقبلني و كلمات جمع كلمة و الكلمة اسم جنس لوقوعها على الكثير من ذلك و القليل قالوا قال امرؤ القيس في كلمته يعنون في قصيدته و قال قس في كلمته يعنون خطبته فقد وقعت على الكثير و قيل لكل واحد من الكلم الثلاث كلمة فوقعت على القليل من الاسم المفرد و الفعل المفرد و الحرف المفرد و أما الكلام فإن سيبويه قد استعمله فيما كان مؤلفا من هذه الكلم و على هذا جاء التنزيل قال الله تعالى‏ «يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ» يعني به قوله تعالى‏ «فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى‏ طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً» أ لا ترى إلى قوله‏ كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ‏ يقال كلمه تكليما و كلاما و تكلم تكلما و الكلم الجرح يقال كلمته أكلمه و أصل الباب التأثر و الكلم أثر دال على الجارح و الكلام أثر دال على المعنى الذي تحته و الذي حرره المتكلمون في حد الكلام هو أنه ما انتظم من حرفين فصاعدا من هذه الحروف المعقولة إذا وقع ممن يصح منه أو من قبيله الإفادة و قال بعضهم هو ما انتظم من الحروف المسموعة المتميزة ليتميز من‏


199
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 200

الكتابة التي ليست بمسموعة و يتميز من أصوات كثير من الطيور لأنها ليست بمتميزة و ينقسم الكلام إلى مهمل و مستعمل و إنما أراد سيبويه بقوله إن المهمل لا يكون كلاما أنه لا يكون مفيدا إذ الكلام عنده لا يقع إلا على المفيد و به قال أبو القاسم البلخي و التوبة و الإقلاع و الإنابة في اللغة نظائر و ضد التوبة الإصرار و الله تعالى يوصف بالتواب و معناه أنه يقبل التوبة عن عباده و أصل التوبة الرجوع عما سلف و الندم على ما فرط فالله تعالى تائب على العبد بقبول توبته و العبد تائب إلى الله تعالى بندمه على معصيته.

المعنى‏

قوله‏ «فَتَلَقَّى آدَمُ» أي قبل و أخذ و تناول على سبيل الطاعة «مِنْ رَبِّهِ» و رب كل شي‏ء «كَلِماتٍ» و أغنى قوله‏ «فَتَلَقَّى» عن أن يقول فرغب إلى الله بهن أو سأله بحقهن لأن معنى التلقي يقيد ذلك و ينبئ عما حذف من الكلام اختصارا و لهذا قال تعالى‏ «فَتابَ عَلَيْهِ» لأنه لا يتوب عليه إلا بأن سأل بتلك الكلمات و على قراءة من قرأ فتلقى آدم من ربه كلمات لا يكون معنى التلقي القبول بل معناه أن الكلمات تداركته بالنجاة و الرحمة و اختلف في الكلمات ما هي فقيل هي قوله‏ رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا الآية عن الحسن و قتادة و عكرمة و سعيد بن جبير و أن في ذلك اعترافا بالخطيئة فلذلك وقعت موقع الندم و حقيقته الإنابة و

قيل هي قوله (اللهم لا إله إلا أنت سبحانك و بحمدك رب إني ظلمت نفسي فارحمني إنك خير الراحمين) (اللهم لا إله إلا أنت سبحانك و بحمدك رب إني ظلمت نفسي فتب علي إنك أنت التواب الرحيم) عن مجاهد و هو المروي عن أبي جعفر الباقر ع‏

و قيل بل هي سبحان الله و الحمد لله و لا إله إلا الله و الله أكبر و قيل و هي‏

رواية تختص بأهل البيت عليهم السلام‏ أن آدم رأى مكتوبا على العرش أسماء معظمة مكرمة فسأل عنها فقيل له هذه أسماء أجل الخلق منزلة عند الله تعالى و الأسماء محمد و علي و فاطمة و الحسن و الحسين فتوسل آدم ع إلى ربه بهم في قبول توبته و رفع منزلته‏

قوله‏ «فَتابَ عَلَيْهِ» فيه حذف أي تاب آدم فتاب الله عليه أي قبل توبته و قيل تاب عليه أي وفقه للتوبة و هداه إليها بأن لقنه الكلمات حتى قالها فلما قالها قبل توبته‏ «إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ» أي كثير القبول للتوبة يقبل مرة بعد مرة و هو في صفة العباد الكثير التوبة و قيل إن معناه أنه يقبل التوبة و إن عظمت الذنوب فيسقط عقابها قوله‏ «الرَّحِيمُ» إنما ذكره ليدل به على أنه متفضل بقبول التوبة و منعم به و أن ذلك ليس على وجه الوجوب و إنما قال فتاب عليه و لم يقل عليهما لأنه اختصر و حذف للإيجاز و التغليب كقوله سبحانه و تعالى‏ «وَ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ» و معناه أن يرضوهما و قوله‏ «وَ إِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا


200
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[فصل مختصر في التوبة و شروطها و الاختلاف فيها] ..... ص : 201

إِلَيْها» و كقول الشاعر

رماني بأمر كنت منه و والدي‏

بريا و من جول الطوي رماني‏

 

و قال الآخر:

نحن بما عندنا و أنت بما

عندك راض و الرأي مختلف‏

 

فكذلك معنى الآية فتاب عليهما و قال الحسن البصري لم يخلق الله آدم إلا للأرض و لو لم يعص لأخرجه إلى الأرض على غير تلك الحال و قال غيره يجوز أن يكون خلقه للأرض إن عصى و لغيرها إن لم يعص و هو الأقوى.

[فصل مختصر في التوبة و شروطها و الاختلاف فيها]

اعلم أن من شروط التوبة الندم على ما مضى من القبيح و العزم على أن لا يعود إلى مثله في القبح فإن هذه التوبة أجمع المسلمون على سقوط العقاب عندها و اختلفوا فيما عداها و كل معصية لله تعالى فإنه يجب التوبة منها و الطاعة لا يصح التوبة منها و عندنا يصح التوبة إذا كانت من ترك الندب و يكون ذلك على وجه الرجوع إلى فعله و على هذا يحمل توبة الأنبياء ع في جميع ما نطق به القرآن و قبول التوبة و إسقاط العقاب عندها تفضل من الله تعالى غير واجب عليه عندنا و عند جميع المعتزلة واجب و قد وعد الله تعالى بذلك و إن كان تفضلا و علمنا أنه لا يخلف الميعاد و أما التوبة من قبيح مع الإقامة على قبيح آخر يعلم أو يعتقد قبحه فعند أكثر المتكلمين هي صحيحة و عند أبي هاشم و أصحابه لا يصح و اعتمد الأولون على أن قالوا كما يجوز أن يمتنع عن قبيح لقبحه مع أنه يفعل قبيحا آخر و إن علم قبحه كذلك يجوز أن يندم من قبيح مع المقام على قبيح آخر يعلم قبحه و اختلفوا في التوبة عند ظهور أشراط الساعة هل تصح أم لا فقال الحسن يحجب عنها عند الآيات الست و

روي عن النبي ص أنه قال‏ بادروا بالأعمال ستا طلوع الشمس من مغربها و الدجال و الدخان و دابة الأرض و خويصة أحدكم يعني الموت و أمر العامة يعني القيامة

و قيل لا شك أن التوبة عند بعض هذه الآيات تحجب و عند بعضها يجوز أن لا تحجب و الله أعلم.


201
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 38] ..... ص : 202

[سورة البقرة (2): آية 38]

قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (38)

القراءة

قرأ يعقوب فلا خوف بنصب الفاء في جميع القرآن و قرأ الباقون بالرفع و التنوين و أجمعوا على إثبات الألف في‏ «هُدايَ» و تحريك الياء و روي عن الأعرج بسكون الياء و هو غلط إلا أن يكون نوى الوقف و روى بعضهم هدي و هي لغة هذيل يقلبون الألف إلى الياء للياء التي بعدها لأن شأن ياء الإضافة أن يكسر ما قبلها فجعل قلب الألف ياء بدل كسرها إذ الألف لا يتحرك فهو مثل علي ولدي و قالوا هوي قال أبو ذؤيب:

سبقوا هوي و أعنقوا لسبيلهم‏

فتخرموا و لكل جنب مضجع.

 

اللغة

الهبوط النزول من موضع عال إلى استفال و قد يستعمل في هبوط المنزلة قال لبيد:

كل بني حرة مصيرهم‏

قل و إن أكثروا من العدد

 

إن يغبطوا يهبطوا و إن أمروا

يوما فهم للفناء و الفند

 

و الإتيان و المجي‏ء و الإقبال نظائر و نقيضه الذهاب و الانصراف و الاتباع و الاقتداء و الاحتذاء نظائر و التابع التالي و في الحديث القادة و الأتباع فالقادة السادة و الأتباع الذين يتبعونهم و التبيع ولد البقرة و ثلاثة أتبعة و الجمع أتابيع و التبع الظل و الخوف و الجزع و الفزع نظائر و نقيض الخوف الأمن و طريق مخوف يخافه الناس و مخيف يخيف الناس و الحزن و الغم و الهم نظائر و نقيضه السرور يقال حزن حزنا و حزنه حزنا و يقال حزنه و أحزنه و هو محزون و محزن و قال قوم لا يقولون حزنه الأمر و يقولون يحزنه فإذا صاروا إلى الماضي قالوا أحزنه و هذا شاذ نادر لأنه استعمل أحزن و أهمل يحزن و استعمل يحزن و أهمل حزن و أصل الباب غلظ الهم مأخوذ من الحزن و هو ما غلظ من الأرض.

الإعراب‏

إما هو أن الجزاء دخلت عليها" ما" ليصح دخول نون التأكيد في الفعل و لو أسقطت لم يجز دخول النون لأنها لا تدخل في الخبر الواجب إلا في القسم أو ما أشبه‏


202
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 203

القسم كقولك زيد ليأتينك و لو قلت بغير لام لم يجز و كذلك تقول بعين ما أرينك و بجهد ما تبلغن و في عضة ما ينبتن شكيرها و لو قلت بعين أرينك بغير ما لم يجز فدخول ما هاهنا كدخول اللام في أنها تؤكد أول الكلام و تؤكد النون آخره و الأمر و النهي و الاستفهام تدخل النون فيه و إن لم يكن معه ما إذ كان الأمر و النهي مما يشتد الحاجة إلى التوكيد فيه و الاستفهام مشبه به إذ كان معناه أخبرني و النون إنما تلحق للتوكيد فلذلك كان من مواضعها قال الله تعالى‏ «لا تَقُولَنَّ لِشَيْ‏ءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً» قال الزجاج و إنما فتح ما قبل النون في قوله‏ «يَأْتِيَنَّكُمْ» لسكون الياء و سكون النون الأولى قال أبو علي و لو كان كذلك لما حرك في نحو هل تضربن و نحوه من الصحيح لأن الساكنين لا يلتقيان في هذا النحو و في هذا ما يدل على أن هذه الحركة للبناء دون ما ذكره من التقاء الساكنين و جواب الشرط في الفاء مع الشرط الثاني و جزائه لأن الشرط و جوابه بمنزلة المبتدأ و الخبر فكما أن المبتدأ لا يتم إلا بخبره فكذلك الشرط لا يتم إلا بجزائه و لك أن تجعل خبر المبتدأ جملة هي مبتدأ و خبر كقولك زيد أبوه منطلق فكذلك أن التي للجزاء إذا كان جوابه بالفاء و وقع بعد الفاء الكلام مستأنفا صلح أن يكون جزاء و غير جزاء تقول إن تأتني فأنت مكرم و لك أن تقول أن تأتني فمن يكرمك أكرمه فقوله‏ «فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ» شرط و يأتينكم في موضع الجزم بإن و جزاؤه الفاء و ما بعده من قوله‏ «فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ» الآية و من في موضع الرفع بالابتداء و تبع في موضع الجزم بالشرط و جزاؤه الفاء و ما بعده و هو قوله‏ «فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ» و لا خوف عليهم جملة اسمية «وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ» جملة اسمية معطوفة على الجملة التي قبلها و الفاء مع ما بعده في موضع جزم بالجزاء لقوله‏ «فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ» و الشرط و الجزاء مع معنى حرف الشرط الذي تضمنته من في موضع رفع بأنها خبر المبتدأ الذي هو من ثم الفاء و ما بعده من قوله‏ «فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ» الآية في موضع جزم بأنه جزاء لقوله‏ «فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ» و هذا في المقدمات القياسية يسمى الشرطية المركبة و ذلك أن المقدم فيها إذا وجب وجب التالي المركب عليه.

المعنى‏

ثم بين تعالى إهباطهم إلى الأرض فقال‏ «اهْبِطُوا» أي انزلوا و الخطاب لآدم و حواء على ما ذكرناه من الاختلاف فيه فيما تقدم و اختلف في تكرار الهبوط فقيل الهبوط الأول من الجنة إلى السماء و هذا الهبوط من السماء إلى الأرض عن أبي علي و قيل إنما كرر للتأكيد و قيل إنما كرر لاختلاف الحالين فقد بين بقوله‏ «وَ قُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ» إن الإهباط إنما كان في حال عداوة بعضهم لبعض و بين بقوله‏ «قُلْنَا اهْبِطُوا


203
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 39] ..... ص : 204

مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً» أن الإهباط إنما كان للابتلاء و التكليف كما يقال اذهب سالما معافى اذهب مصاحبا و إن كان الذهاب واحدا لاختلاف الحالين‏ «فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً» أي بيان و دلالة و قيل أنبياء و رسل و على هذا القول الأخير يكون الخطاب في قوله‏ اهْبِطُوا لآدم و حواء و ذريتهما كقوله تعالى‏ «فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ» أي أتينا بما فينا من الخلق طائعين‏ «فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ» أي اقتدى برسلي و احتذى أدلتي فلا يلحقهم خوف من أهوال يوم القيامة من العقاب و لا هم يحزنون على فوات الثواب فأما الخوف و الحزن في الدنيا فإنه يجوز أن يلحقهم لأن من المعلوم أن المؤمنين لا ينفكون منه و في هذه الآية دلالة على أن الهدى قد يثبت و لا اهتداء و أن الاهتداء إنما يقع بالاتباع و القبول.

[سورة البقرة (2): آية 39]

وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (39)

اللغة

الكفر و التكذيب قد مضى معناهما فيما تقدم ذكره و الآيات جمع آية و معنى الآية في اللغة العلامة و منه قوله تعالى‏ «عِيداً لِأَوَّلِنا وَ آخِرِنا وَ آيَةً مِنْكَ» أي علامة لإجابتك دعاءنا و كل آية من كتاب الله علامة و دلالة على المضمون فيها و قال أبو عبيدة معنى الآية أنها علامة لانقطاع الكلام الذي قبلها و انقطاعه من الذي بعدها و قيل إن الآية القصة و الرسالة قال كعب بن زهير:

أ لا أبلغا هذا المعرض آية

أ يقظان قال القول إذ قال أم حلم‏

 

أي رسالة فعلى هذا يكون معنى الآيات القصص أي قصة تتلو قصة و قال ابن السكيت خرج القوم بآيتهم أي بجماعتهم لم يدعوا وراءهم شيئا و على هذا يكون معنى الآية من كتاب الله جماعة حروف دالة على معنى مخصوص و الأصحاب جمع الصاحب و هو القرين و أصل الصحبة المقارنة فالصاحب هو الحاصل مع آخر مدة لأنه إذا اجتمع معه وقتا واحدا لم يكن صاحبا له لكن يقال صحبه وقتا من الزمان ثم فارقه.

الإعراب‏

موضع أولئك يحتمل ثلاثة أوجه (أحدها) أن يكون بدلا من الذين أو عطف بيان و أصحاب النار بيان عن أولئك مجراه مجرى الوصف و الخبر هم فيها خالدون و الثاني أن يكون ابتداء و خبرا في موضع الخبر الأول و الثالث أن يكون على خبرين بمنزلة خبر واحد كقولك هذا حلو حامض فإن قيل فلم دخلت الفاء في موضع آخر مثل قوله‏


204
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 205

 

«فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ» و لم يدخل هاهنا قلنا لأن ما دخل فيه الفاء من خبر الذي و أخواته مشبه بالجزاء و ما لم يكن فيه فاء فهو على أصل الخبر و إذا قلت ما لي فهو لك أن أردت ما بمعنى الذي جاز و إن أردت به المال لم يجز.

المعنى‏

«الَّذِينَ كَفَرُوا» أي جحدوا «وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا» أي دلالاتنا و ما أنزلناه على الأنبياء ف «أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ» أي الملازمون للنار «هُمْ فِيها خالِدُونَ» أي دائمون و في هذه الآية دلالة على أن من مات مصرا على كفره غير تائب منه و كذب بآيات ربه فهو مخلد في نار جهنم و آيات الله دلائله و كتبه المنزلة على رسله و الآية مثل الحجة و الدلالة و إن كان بينهما فرق في الأصل يقال دلالة هذا الكلام كذا و لا يقال آيته و من استدل بهذه الآية على أن عمل الجوارح قد يكون من الكفر بقوله‏ «وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا» فقوله يفسد بأن التكذيب نفسه و إن لم يكن كفرا فهو دلالة على الكفر لأنه لا يقع إلا من كافر كالسجود للشمس و غيره.

[سورة البقرة (2): آية 40]

يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَ أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَ إِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40)

القراءة

القراءة المشهورة «إِسْرائِيلَ» مهموز ممدود مشبع و هو الفصيح و روي في الشواذ عن الحسن و الزهري إسرايل بلا همز و لا مد و عن الأعمش و عيسى بن عمر كذلك و حكي عن الأخفش إسرائل بكسر الهمزة من غير ياء و حكى قطرب إسرال من غير همز و لا ياء و إسرئين بالنون قال أبو علي العرب إذا نطقت بالأعجمي خلطت فيه و أنشد:

هل تعرف الدار لأم الخزرج‏

 

منها فظلت اليوم كالمزرج‏

     

 

يريد المزرجن و هو الخمر من الزرجون قال و النون في زرجون أصل كالسين في قربوس فإذا جاز للعرب أن تخلط فيما هو لغتها فكيف فيما ليس من لغتها و اختير تحريك الياء في قوله‏ «نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ» لأنه لقيها ألف الوصل و اللام فلم يكن بد من إسقاطها أو تحريكها فكان التحريك أولى لأنه أدل على الأصل و أشكل بما يلحق اللام في الاستئناف من فتح ألف الوصل و إسكان الياء من قوله‏ «يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا» أي الإسقاط هاهنا أجود لأن من حق ياء الإضافة ألا تثبت في النداء و إذا لم تثبت فلا طريق إلى تحريكها و الاختيار

 

 

 

205
مجمع البيان في تفسير القرآن1

اللغة ..... ص : 206

في قوله‏ «فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ» حذف الياء لأنه رأس آية و رءوس الآي لا تثبت فيها الياء لأنها فواصل ينوى فيها الوقف كما يفعل ذلك في القوافي و أجمعوا على إسقاط الياء من قوله‏ «فَارْهَبُونِ» إلا ابن كثير فإنه أثبتها في الوصل دون الوقف و الوجه حذفها لكراهية الوقف على الياء و في كسر النون دلالة على ذهاب الياء.

اللغة

الابن و الولد و النسل و الذرية متقاربة المعاني إلا أن الابن للذكر و الولد يقع على الذكر و الأنثى و النسل و الذرية يقع على جميع ذلك و أصله من البناء و هو وضع الشي‏ء على الشي‏ء فالابن مبني على الأب لأن الأب أصل و الابن فرع و البنوة مصدر الابن و إن كان من الياء كالفتوة مصدر الفتى و تثنيته فتيان و إسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم و قيل أصله مضاف لأن إسر معناه عبد و ئيل هو الله بالعبرانية فصار مثل عبد الله و كذلك جبرائيل و ميكائيل و الذكر الحفظ للشي‏ء بذكره و ضده النسيان و الذكر جري الشي‏ء على لسانك و الذكر الشرف في قوله‏ «وَ إِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَ لِقَوْمِكَ» و الذكر الكتاب الذي فيه تفصيل الدين و كل كتاب من كتب الأنبياء ذكر و الذكر الصلاة و الدعاء و

في الأثر كانت الأنبياء إذا أحزنهم أمر فزعوا إلى الذكر

أي إلى الصلاة و أصل الباب التنبيه على الشي‏ء قال صاحب العين تقول وفيت بعهدك وفاء و أوفيت لغة تهامة قال الشاعر في الجمع بين اللغتين:

أما ابن عوف فقد أوفى بذمته‏

كما وفى بقلاص النجر حاديها

 

يعني به الدبران و هو التالي و العهد الوصية و الرهبة الخوف و ضدها الرغبة و في المثل رهبوت خير من رحموت أي لأن ترهب خير من أن ترحم.

الإعراب‏

يا حرف النداء و هي في موضع نصب لأنه منادى مضاف و إسرائيل في موضع جر لأنه مضاف إليه و فتح لأنه غير منصرف و فيه سببان العجمة و التعريف و قوله‏ «وَ إِيَّايَ» ضمير منصوب و لا يجوز أن يكون منصوبا بقوله‏ «فَارْهَبُونِ» لأنه مشغول كما لا يجوز أن يقول إن زيدا في قولك زيدا فاضربه منصوب باضربه و لكنه يكون منصوبا بفعل يدل عليه ما هو مذكور في اللفظ و تقديره و إياي ارهبوا فارهبون و لا يظهر ذلك لأنه استغنى عنه بما يفسره و إن صح تقديره و لا يجوز في مثل ذلك الرفع على أن يكون الخبر فارهبون إلا


206
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 207

على تقدير محذوف كما أنشد سيبويه:

و قائلة خولان فانكح فتاتهم‏

و أكرومة الحيين خلو كما هيأ

 

تقديره هؤلاء خولان فانكح فتاتهم و على ذلك حمل قوله تعالى‏ «وَ السَّارِقُ وَ السَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما» و «الزَّانِيَةُ وَ الزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ» و تقديره و فيما يتلى عليكم السارق و السارقة فاقطعوا أيديهما و فيما فرض عليكم الزانية و الزاني فاجلدوا كل واحد منهما.

المعنى‏

لما عم الله تعالى جميع الخلق بالحجج الواضحة على توحيده و ذكرهم ما أنعم به عليهم في أبيهم آدم ع خص بني إسرائيل بالحجج و ذكرهم ما أسدى إليهم و إلى آبائهم من النعم فقال‏ «يا بَنِي إِسْرائِيلَ» يعني يا بني يعقوب نسبهم إلى الأب الأعلى كما قال‏ يا بَنِي آدَمَ‏ و الخطاب لليهود و النصارى و قيل هو خطاب لليهود الذين كانوا بالمدينة و ما حولها عن ابن عباس‏ «اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ» أراد بذلك النعم التي أنعم بها على أسلافهم من كثرة الأنبياء فيهم و الكتب و إنجائهم من فرعون و من الغرق على أعجب الوجوه و إنزال المن و السلوى عليهم و كون الملك فيهم في زمن سليمان ع و غير ذلك و عد النعمة على آبائهم نعمة عليهم لأن الأولاد يتشرفون بفضيلة الآباء و هذا كما يقال في المفاخرة قتلناكم يوم الفخار و هزمناكم يوم ذي قار و غلبناكم يوم النسار و ذكر النعمة بلفظ الواحد و المراد بها الجنس كقوله تعالى‏ «وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها» و الواحد لا يمكن عده و قيل المراد بها النعم الواصلة إليهم مما اختصوا به دون آبائهم و اشتركوا فيه مع آبائهم فكان نعمة على الجميع فمن ذلك تبقية آبائهم حتى تناسلوا فصاروا من أولادهم و من ذلك خلقه إياهم على وجه يمكنهم معه الاستدلال على توحيده و الوصول إلى معرفته فيشكروا نعمه و يستحقوا ثوابه و من ذلك ما يوصل إليهم حالا بعد حال من الرزق و يدفع عنهم من المكاره و الأسواء و ما يسبغ عليهم من نعم الدين و الدنيا فعلى القول الأول تكون الآية تذكيرا بالنعم عليهم في أسلافهم و على القول الثاني تكون تذكيرا بالمنعم عليهم، و من النعم على أسلافهم ما ذكره في قوله‏ «وَ إِذْ قالَ مُوسى‏ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَ جَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَ آتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ» و قال ابن الأنباري أراد اذكروا ما أنعمت به عليكم فيما استودعتكم من علم التوراة و بينت لكم من صفة محمد ص و ألزمتكم من تصديقه و اتباعه فلما بعث و لم يتبعوه كانوا كالناسين لهذه النعمة و قوله‏ «وَ أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ» قيل فيه‏


207
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 41] ..... ص : 208

 

وجوه (أحدها) أن هذا العهد هو أن الله تعالى عهد إليهم في التوراة أنه باعث نبيا يقال له محمد فمن تبعه كان له أجران اثنان أجر باتباعه موسى و إيمانه بالتوراة و أجر باتباعه محمدا و إيمانه بالقرآن من كفر به تكاملت أوزاره و كانت النار جزاءه فقال‏ «أَوْفُوا بِعَهْدِي» في محمد «أُوفِ بِعَهْدِكُمْ» أدخلكم الجنة عن ابن عباس فسمى ذلك عهدا لأنه تقدم به إليهم في الكتاب السابق و قيل إنما جعله عهدا لتأكيده بمنزلة العهد الذي هو اليمين كما قال سبحانه‏ «وَ إِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَ لا تَكْتُمُونَهُ» (و ثانيها) أنه العهد الذي عاهدهم عليه حيث قال‏ «خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ» أي بجد «وَ اذْكُرُوا ما فِيهِ» أي ما في الكتاب عن الحسن (و ثالثها) أنه ما عهد إليهم في سورة المائدة حيث قال‏ «وَ لَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَ بَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَ قالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَ آتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَ آمَنْتُمْ بِرُسُلِي» الآية عن قتادة (و رابعها) أنه أراد جميع الأوامر و النواهي (و خامسها) أنه جعل تعريفه إياهم نعمة عهدا عليهم و ميثاقا لأنه يلزمهم القيام بما يأمرهم به من شكر هذه النعم كما يلزمهم الوفاء بالعهد و الميثاق الذي يؤخذ عليهم و الأول أقوى لأن عليه أكثر المفسرين و به يشهد القرآن و قوله‏ «وَ إِيَّايَ فَارْهَبُونِ» أي خافوني في نقض العهد و في هذه الآية دلالة على وجوب شكر النعمة و

في الحديث‏ التحدث بالنعم شكر

و فيها دلالة على عظم المعصية في جحود النعم و كفرانها و لحوق الوعيد الشديد بكتمانها و يدل أيضا على ثبوت أفعال العباد إذ لو لم تكن لهم أفعال لما صح العهد و الأمر و النهي و الوعد و الوعيد و لأدى إلى بطلان الرسل و الكتب ..

[سورة البقرة (2): آية 41]

وَ آمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَ لا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَ لا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَ إِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41)

اللغة

قوله‏ «أَوَّلَ كافِرٍ» قال الزجاج يعني أول الكافرين و فيه قولان قال الأخفش معناه أول من كفر به و قال غيره من البصريين معناه أول فريق كافر به أي بالنبي ص و قال و كلا القولين صواب حسن و نظير قوله‏ «أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ» قال الشاعر:

و إذا هم طعموا فالأم طاعم‏

 

و إذا هم جاعوا فشر جياع‏

     

 

و الثمن و العوض و البدل نظائر و بينها فروق فالثمن هو البدل في البيع من العين أو الورق و إذا استعمل في غيرهما كان مشبها بهما و مجازا و العوض هو البدل الذي ينتفع به‏

 

 

 

208
مجمع البيان في تفسير القرآن1

الإعراب ..... ص : 209

كائنا ما كان و البدل هو الشي‏ء الذي يجعل مكان غيره و ثوب ثمين كثير الثمن و الثمين الثمن و الفرق بين الثمن و القيمة أن الثمن قد يكون وفقا و قد يكون بخسا و قد يكون زائدا و القيمة لا تكون إلا مساوية المقدار للثمن من غير نقصان و لا زيادة.

الإعراب‏

مصدقا نصب لأنه حال من الهاء المحذوفة من أنزلت كأنه قال أنزلته مصدقا و يصلح أن ينتصب بآمنوا كأنه قال آمنوا بالقرآن مصدقا و معكم صلة لما و العامل فيه الاستقرار أي الذي استقر معكم و الهاء في به عائد إلى ما في قوله‏ «بِما أَنْزَلْتُ» إلى ما في قوله‏ «لِما مَعَكُمْ» و نصب‏ «أَوَّلَ كافِرٍ» لأنه خبر كان.

المعنى‏

ثم قال مخاطبا لليهود «وَ آمِنُوا» أي صدقوا «بِما أَنْزَلْتُ» على محمد ص من القرآن لأنه منزل من السماء إلى الأرض‏ «مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ» من التوراة أمرهم بالتصديق بالقرآن و أخبرهم أن في تصديقهم بالقرآن تصديقا منهم للتوراة لأن الذي في القرآن من الأمر بالإقرار بالنبوة لمحمد ص و تصديقه نظير الذي في التوراة و الإنجيل فإن فيهما البشارة بمحمد و بيان صفته فالقرآن مصدق لهما و قيل معناه أنه يصدق بالتوراة و الإنجيل فإن فيهما البشارة بمحمد و بيان صفته فالقرآن مصدق لهما و قيل معناه أنه يصدق بالتوراة لأن فيه الدلالة على أنه حق و أنه من عند الله و الأول أوجه لأنه يكون حجة عليهم بأن جاء القرآن بالصفة التي تقدمت بها بشارة موسى و عيسى ع و قوله‏ «وَ لا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ» أي بالقرآن من أهل الكتاب لأن قريشا قد كانت قد كفرت به بمكة قبل اليهود و قيل المعنى و لا تكونوا السابقين إلى الكفر به فيتبعكم الناس أي لا تكونوا أئمة في الكفر به عن أبي العالية و قيل المعنى و لا تكونوا أول جاحدين صفة النبي في كتابكم فعلى هذا تعود الهاء في به إلى النبي ص عن ابن جريج و قيل المعنى و لا تكونوا أول كافر بما معكم من كتابكم لأنكم إذا جحدتم ما فيه من صفة النبي ص فقد كفرتم به قال الزجاج و قواه بأن الخطاب وقع على علماء أهل الكتاب فإذا كفروا كفر معهم الأتباع فلذلك قيل لهم‏ «وَ لا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ» قال و لو كان الهاء في به للقرآن فلا فائدة فيه لأنهم كانوا يظهرون أنهم كافرون بالقرآن و قال علي بن عيسى يحتمل أن يكون أول كافر بالقرآن أنه حق في كتابكم و إنما عظم أول الكفر لأنهم إذا كانوا أئمة لهم و قدوة في الضلالة كانت ضلالتهم أعظم نحو ما

روي عن النبي ص‏ من سن سنة حسنة فله أجرها و أجر من عمل بها إلى يوم القيامة و من سن سنة سيئة كان عليه وزرها و وزر من عمل بها إلى يوم القيامة

و ليس في نهيه عن أن يكونوا أول كافر به دلالة على أنه‏


209
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 42] ..... ص : 210

يجوز أن يكونوا آخر كافر لأن المقصود النهي عن الكفر على كل حال و خص أولا بالذكر لما ذكرناه من عظم موقعه كما قال الشاعر

من أناس ليس في أخلاقهم‏

عاجل الفحش و لا سوء الجزع‏

 

و ليس يريد أن فيهم فحشا آجلا و قوله‏ «وَ لا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا»

روي عن أبي جعفر ع في هذه الآية قال‏ كان حيي بن أخطب و كعب بن الأشرف و آخرون من اليهود لهم مأكلة على اليهود في كل سنة فكرهوا بطلانها بأمر النبي ص فحرفوا لذلك آيات من التوراة فيها صفته و ذكره فذلك الثمن الذي أريد في الآية

قال الفراء إنما أدخل الباء في الآيات دون الثمن في سورة يوسف أدخله في الثمن في قوله‏ «وَ شَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ» لأن العروض كلها أنت مخير فيها إن شئت قلت اشتريت الثوب بكساء و إن شئت قلت اشتريت بالثوب كساء أيهما جعلت ثمنا لصاحبه جاز فإذا جئت إلى الدراهم و الدنانير وضعت الباء في الثمن كقوله‏ «وَ شَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ» لأن الدراهم ثمن أبدا و المعنى لا تستبدلوا بآياتي أي بما في التوراة من بيان صفة محمد و نعته ثمنا قليلا أي عرضا يسيرا من الدنيا «وَ إِيَّايَ فَاتَّقُونِ» فاخشوني في أمر محمد ص لا ما يفوتكم من المأكل و الرئاسة و تقييده الثمن بالقلة لا يدل على أنه إذا كان كثيرا يجوز شراؤه به لأن المقصود أن أي شي‏ء باعوا به آيات الله كان قليلا و أنه لا يجوز أن يكون ثمن يساويه كقوله‏ «وَ مَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ» و إنما أراد بذلك نفي البرهان عنه على كل حال و أنه لا يجوز أن يكون عليه برهان و مثله قوله‏ «وَ يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ» و إنما أراد أن قتلهم لا يكون إلا بغير حق و نظائر ذلك كثيرة و منه قول امرئ القيس:

على لأحب لا يهتدى بمنارة

إذا سافه العود الديافي جرجرا

 

و إنما أراد أنه لا منار هناك فيهتدي به و في هذه الآية دلالة على تحريم أخذ الرشى في الدين لأنه لا يخلو إما أن يكون أمرا يجب إظهاره أو يحرم إظهاره فالأخذ على مخالفة كلا الوجهين حرام و هذا الخطاب يتوجه أيضا على علماء السوء من هذه الأمة إذا اختاروا الدنيا على الدين فتدخل فيه الشهادات و القضايا و الفتاوى و غير ذلك.

[سورة البقرة (2): آية 42]

وَ لا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَ تَكْتُمُوا الْحَقَّ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42)


210
مجمع البيان في تفسير القرآن1

اللغة ..... ص : 211

اللغة

اللبس و التغطية و التعمية نظائر و الفرق بين التغطية و التعمية أن التغطية تكون بالزيادة و التعمية قد تكون بالنقصان و الزيادة و ضد اللبس الإيضاح و اللباس ما واريت به جسدك و لباس التقوى الحياء و اللبس خلط الأمور بعضها ببعض و الفعل لبس الأمر يلبس لبسا و لبس الثوب يلبسه لبسا و الفرق بين اللبس و الإخفاء أن الإخفاء يمكن أن يدرك معه المعنى و لا يمكن مع اللبس إدراك المعنى و الإشكال قد يدرك معه المعنى إلا أنه بصعوبة لأجل التعقيد و

قال أمير المؤمنين ع‏ للحرث بن حوط يا حار إنه ملبوس عليك أن الحق لا يعرف بالرجال اعرف الحق تعرف أهله‏

و الباطل و البطل واحد و هو ضد الحق و البطلان و الفساد و الكذب و الزور و البهتان نظائر و أبطلت الشي‏ء جعلته باطلا و أبطل الرجل جاء بباطل.

الإعراب‏

 

مجمع البيان فى تفسير القرآن    ج‏1    211    

له‏ «وَ تَكْتُمُوا الْحَقَّ» يحتمل وجهين من الإعراب أحدهما الجزم على النهي كأنه قال لا تلبسوا الحق و لا تكتموا فيكون عطف جملة على جملة و الآخر النصب على الظرف بإضمار أن فيكون عطف الاسم على مصدر الفعل الذي قبله و تقديره لا يكن منكم لبس الحق و كتمانه و دل تلبسوا على لبس كما يقال من كذب كان شرا له فكذب يدل على الكذب فكأنه قال من كذب كان الكذب شرا قال الشاعر في مثله‏

لا تنه عن خلق و تأتي مثله‏

عار عليك إذا فعلت عظيم‏

 

أي لا تجمع بين النهي عن خلق و الإتيان بمثله.

المعنى‏

«لا تَلْبِسُوا» أي لا و تخلطوا «الْحَقَّ بِالْباطِلِ» و معنى لبسهم الحق بالباطل أنهم آمنوا ببعض الكتاب و كفروا ببعض لأنهم جحدوا صفة النبي ص فذلك الباطل و أقروا بغيره مما في الكتاب و قيل معناه لا تحرفوا الكلم عن مواضعه فالتحريف هو الباطل و تركهم ما في الكتاب على ما هو به هو الحق و قال ابن عباس لا تخلطوا الصدق بالكذب و قيل الحق التوراة التي أنزلها الله على موسى و الباطل ما كتبوه بأيديهم و قيل الحق إقرارهم أن محمدا مبعوث إلى غيرهم و الباطل إنكارهم أن يكون بعث إليهم و قوله‏ «وَ تَكْتُمُوا الْحَقَّ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ» أي لا تكتموا صفة النبي ص في التوراة و أنتم تعلمون أنه حق و الخطاب متوجه إلى رؤساء أهل الكتاب كما وصفهم بأنهم يحرفون الكلم عن مواضعه للتلبيس على أتباعهم و هذا تقبيح لما يفعلونه أي يجحدون ما يعلمون و جحد العالم أعظم من جحد الجاهل و قيل معناه و أنتم تعلمون البعث و الجزاء و قيل معناه و أنتم تعلمون ما أنزل ببني إسرائيل و ما سينزل بمن كذب على الله تعالى و قيل معناه و أنتم‏


211
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 43] ..... ص : 212

 

تعلمون ما نزل ببني إسرائيل من المسخ و غيره فإن قيل كيف يجوز أن يكون هؤلاء عارفين بنبوة محمد و ذلك مبني على معرفة الله و عندكم أن من عرف الله لا يجوز أن يكفر و هؤلاء صاروا كفارا و ماتوا على كفرهم قلنا لا يمتنع أن يكونوا عرفوا الله على وجه لا يستحقون به الثواب لأن الثواب إنما يستحق بأن ينظروا من الوجه الذي يستحق به الثواب فإذا نظروا على غير ذلك الوجه لا يستحقون الثواب فعلى هذا يجوز أن يكونوا عارفين بالله و التوراة و بصفات النبي ص و إن لم يستحقوا الثواب فلا يمتنع أن يكفروا و قال بعض أصحابنا استحقاقهم الثواب على إيمانهم مشروط بالموافاة فإذا لم يوافوا بالإيمان لم يستحقوا الثواب فعلى هذا يجوز أن يكونوا عارفين و إن لم يكونوا مستحقين لثواب يبطل بالكفر و المعتمد الأول.

[سورة البقرة (2): آية 43]

وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ وَ ارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)

اللغة

أصل الصلاة عند أكثر أهل اللغة الدعاء على ما ذكرناه قبل و منه قول الأعشى:

تقول بنتي و قد قربت مرتحلا

 

يا رب جنب أبي الأوصاب و الوجعا

     

 

عليك مثل الذي صليت فاغتمضي‏

 

نوما فإن لجنب المرء مضطجعا

     

 

أي دعوت و قيل أصلها اللزوم من قول الشاعر

لم أكن من جناتها علم الله‏

 

و إني لحرها اليوم صال‏

     

 

أي ملازم لحرها فكان معنى الصلاة ملازمة العبادة على الحد الذي أمر الله تعالى به و قيل أصلها من الصلا و هو عظم العجز لرفعه في الركوع و السجود و منه قول النابغة:

فآب مصلوه بعين جلية

 

و غودر بالجولان حزم و نائل‏

     

 

أي الذين جاءوا في صلا السابق و على القول الأول أكثر العلماء و قد بينا معنى إقامة الصلاة فيما مضى و الزكاة و النماء و الزيادة نظائر في اللغة و قال صاحب العين الزكاة زكاة المال و هو تطهيره و زكا الزرع و غيره يزكو زكاء ممدودا أي نما و ازداد و هذا لا يزكو بفلان أي لا يليق به و الزكا الشفع و الخسا الوتر و أصله تثمير المال بالبركة التي يجعلها الله فيه‏

 

 

 

212
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 213

و الركوع و الانحناء و الانخفاض نظائر في اللغة قال ابن دريد الراكع الذي يكبو على وجهه و منه الركوع في الصلاة قال الشاعر:

و أفلت حاجب فوق العوالي‏

على شقاء تركع في الظراب‏

 

و قال صاحب العين كل شي‏ء ينكب لوجهه فتمس ركبته الأرض أو لا تمس بعد أن يطأطئ رأسه فهو راكع قال الشاعر:

و لكني أنص العيس تدمى‏

أياطلها و تركع بالحزون‏

 

و قال لبيد:

أخبر أخبار القرون التي مضت‏

أدب كأني كلما قمت راكع‏

 

و قيل أنه مأخوذ من الخضوع قال الشاعر:

لا تهين الفقير علك أن‏

تركع يوما و الدهر قد رفعه‏

 

و الأول أقوى و إنما يستعمل في الخضوع مجازا و توسعا.

المعنى‏

«وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ» أي أدوها بأركانها و حدودها و شرائطها كما بينها النبي ص‏ «وَ آتُوا الزَّكاةَ» أي أعطوا ما فرض الله عليكم في أموالكم على ما بينه الرسول لكم و هذا حكم جميع ما ورد في القرآن مجملا فإن بيانه يكون موكولا إلى النبي ص كما قال سبحانه و تعالى: «وَ ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا» فلذلك أمرهم بالصلاة و الزكاة على طريق الإجمال و أحال في التفصيل على بيانه و قوله‏ «وَ ارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ» إنما خص الركوع بالذكر و هو من أفعال الصلاة بعد قوله‏ «وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ» لأحد وجوه. (أحدها) أن الخطاب لليهود و لم يكن في صلاتهم ركوع و كان الأحسن ذكر المختص دون المشترك لأنه أبعد من اللبس (و ثانيها) أنه عبر بالركوع عن الصلاة يقول القائل فرغت من ركوعي أي صلاتي و إنما قيل ذلك لأن الركوع أول ما يشاهد من الأفعال التي يستدل بها على أن الإنسان يصلي فكأنه كرر ذكر الصلاة تأكيدا عن أبي مسلم و يمكن أن يكون فيه فائدة تزيد على التأكيد و هو أن قوله‏ «أَقِيمُوا الصَّلاةَ» إنما يفيد وجوب إقامتها


213
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 44] ..... ص : 214

 

و يحتمل أن يكون إشارة إلى صلاتهم التي يعرفونها و أن يكون الصلاة إشارة إلى الصلاة الشرعية و قوله‏ «وَ ارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ» يكون معناه صلوا مع هؤلاء المسلمين الراكعين فيكون متخصصا بالصلاة المتقررة في الشرع فلا يكون تكرارا بل يكون بيانا (و ثالثها) أنه حث على صلاة الجماعة لتقدم ذكر الصلاة في أول الآية.

[سورة البقرة (2): آية 44]

أَ تَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَ تَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَ أَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (44)

اللغة

البر في اللغة و الإحسان و الصلة نظائر يقال فلان بار وصول محسن و ضد البر العقوق و رجل بر و بار و بر صدقت و بر حجه و بر لغتان و قولهم فلان لا يعرف الهر من البر قال الأخفش معناه لا يعرف من يهر عليه ممن يبره و قال المازني الهر السنور و البر الفأرة أو دويبة تشبهها و الفرق بين البر و الخير أن البر يدل على قصد و الخير قد يقع على وجه السهو و النسيان و السهو و الغفلة نظائر و ضد النسيان الذكر و حقيقته غروب الشي‏ء عن النفس بعد حضوره و هو عدم علم ضروري من فعل الله تعالى و السهو قد يقع عما كان الإنسان عالما به و عما لم يكن عالما به و قد يكون النسيان بمعنى الترك نحو قوله‏ «نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ» أي تركوا ذكر الله فخذلهم و التلاوة القراءة تلا يتلو تلاوة أي قرأ و تلا يتلو تلوا أي تبع و أصل التلاوة منه لاتباع بعض الحروف فيها بعضا و الفرق بين التلاوة و القراءة أن أصل القراءة جمع الحروف و أصل التلاوة اتباع الحروف و العقل و الفهم و المعرفة و اللب نظائر و رجل عاقل فهم لبيب ذو معرفة و ضد العقل الحمق يقال عقل الشي‏ء عقلا و أعقله غيره و قيل لابن عباس أنى لك هذا العلم قال قلب عقول و لسان سئول و قال صاحب كتاب العين العقل ضد الجهل يقال عقل الجاهل إذا علم و عقل المريض بعد أن أهجر و عقل المعتوه و نحوه و العقال الرباط يقال عقلت البعير أعقله عقلا إذا شددت يده بالعقال و العقل مجموع علوم لأجلها يمتنع الحي من كثير من المقبحات و يفعل كثيرا من الواجبات و إنما سميت تلك العلوم عقلا لأنها تعقل عن القبيح و قيل لأنها تعقل العلوم المكتسبة و لا يوصف القديم تعالى بأنه عاقل لأنه لا يعقله شي‏ء عن فعل القبيح و إنما لا يختاره لعلمه بقبحه و بأنه غني عنه و لأنه لا يكتسب علما بشي‏ء فيثبت بعض علومه ببعض و قال علي بن عيسى العقل هو العلم الذي يزجر عن قبيح الفعل و من كان زاجرة أقوى فهو أعقل و قيل العقل معرفة يفصل بها بين القبيح و الحسن في الجملة و قيل هو التمييز الذي له فارق الإنسان جميع الحيوان و هذه العبارات قريبة معاني بعضها من بعض و الفرق بين العقل‏

 

 

 

214
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 215

 

و العلم أن العقل قد يكمل لمن فقد بعض العلوم و لا يكمل العلم لمن فقد بعض عقله فإن قيل إذا كان العقل مختلفا فيه فكيف يجوز أن يستشهد به قلنا أن الاختلاف في ماهية العقل لا يوجب الاختلاف في قضاياه أ لا ترى أن الاختلاف في ماهية العقل حتى أن بعضهم قال معرفة و بعضهم قال قوة لا توجب الاختلاف في أن المائة أكثر من واحد و أن الكل أعظم من الجزء و غير ذلك من قضايا العقول.

المعنى‏

هذه الآية خطاب لعلماء اليهود و كانوا يقولون لأقربائهم من المسلمين أثبتوا على ما أنتم عليه و لا يؤمنون هم و الألف للاستفهام و معناه التوبيخ و المراد بالبر الإيمان بمحمد ص وبخهم الله تعالى على ما كانوا يفعلون من أمر الناس بالإيمان بمحمد ص و ترك أنفسهم عن ذلك قال أبو مسلم كانوا يأمرون العرب بالإيمان بمحمد ص إذا بعث فلما بعث كفروا به و روي عن ابن عباس أن المراد أنهم كانوا يأمرون أتباعهم بالتمسك بالتوراة و تركوا هم التمسك به لأن جحدهم النبي ص و صفته فيه ترك للتمسك به و عن قتادة كانوا يأمرون الناس بطاعة الله و هم يخالفونه و

روى أنس بن مالك قال قال رسول الله ص‏ مررت ليلة أسري بي على أناس تقرض شفاههم بمقاريض من نار فقلت من هؤلاء يا جبرائيل فقال هؤلاء خطباء من أهل الدنيا ممن كانوا يأمرون الناس بالبر و ينسون أنفسهم‏

و قال بعضهم أ تأمرون الناس بالصدقة و تتركونها أنتم و إذا أتتكم الضعفاء بالصدقة لتفرقوها على المساكين خنتم فيها و قوله‏ «وَ أَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ» معناه و أنتم تقرأون التوراة و فيها صفته و نعته عن ابن عباس و قوله‏ «أَ فَلا تَعْقِلُونَ» أ فلا تفقهون أن ما تفعلونه قبيح في العقول و عن أبي مسلم أن معناه هذا ليس بفعل من يعقل و قيل معناه أ فلا تعلمون أن الله يعذبكم و يعاقبكم على ذلك و قيل أ فلا تعلمون أن ما في التوراة حق فتصدقوا محمدا و تتبعوه فإن قيل إن كان فعل البر واجبا و الأمر به واجبا فلما ذا وبخهم الله تعالى على الأمر بالبر قلنا لم يوبخهم الله على الأمر بالبر و إنما وبخهم على ترك فعل البر المضموم إلى الأمر بالبر لأن ترك البر ممن يأمر به أقبح من تركه ممن لا يأمر به فهو كقول الشاعر:

لا تنه عن خلق و تأتي مثله‏

 

عار عليك إذا فعلت عظيم‏

     

 

و معلوم أنه لم يرد به النهي عن الخلق المذموم و إنما أراد النهي عن إتيان مثله.

[سورة البقرة (2): آية 45]

وَ اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلاةِ وَ إِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخاشِعِينَ (45)

 

 

 

215
مجمع البيان في تفسير القرآن1

اللغة ..... ص : 216

اللغة

الصبر منع النفس عن محابها و كفها عن هواها و منه الصبر على المصيبة لكف الصابر نفسه عن الجزع و منه‏

جاء في الحديث‏ و هو شهر الصبر

لشهر رمضان لأن الصائم يصبر نفسه و يكفها عما يفسد الصيام و قتل فلان صبرا و هو أن ينصب للقتل و يحبس عليه حتى يقتل و كل من حبسته لقتل أو يمين يقال فيه قتل صبر و يمين صبر و صبرته أي حلفته بالله جهد القسم و

في الحديث‏ اقتلوا القاتل و اصبروا الصابر

و ذلك فيمن أمسكه حتى قتله آخر فأمر بقتل القاتل و حبس الممسك و الخشوع و الخضوع و التذلل و الإخبات نظائر و ضد الخشوع الاستكبار و خشع الرجل إذا رمى ببصره إلى الأرض و اختشع إذا طأطأ رأسه كالمتواضع و الخشوع قريب المعنى من الخضوع إلا أن الخضوع في البدن و الإقرار بالاستخدام و الخشوع في الصوت و البصر قال سبحانه‏ خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ‏ و خَشَعَتِ الْأَصْواتُ‏ أي سكنت و أصل الباء من اللين و السهولة و الخاشع و المتواضع و المتذلل و المستكين بمعنى قال الشاعر:

لما أتى خبر الزبير تواضعت‏

سور المدينة و الجبال الخشع‏

 

. الإعراب‏

قوله‏ «وَ إِنَّها لَكَبِيرَةٌ» اللام تدخل في خبر إن و لا تدخل في خبر أخواتها لأنها لام التأكيد فهي شبيهة بأن في أنها تدخل على المبتدأ و خبره كما تدخل إن و تدخل بمعنى القسم كما تدخل إن تقول و الله لتخرجن كما تقول و الله إنك خارج فإذا كان بينهما هذه المجانسة فإذا دخلت على أن في نحو لأنها كبيرة كرهوا أن يجمعوا بين حرفين متشاكلين متفقين في المعنى فأخر اللام إلى الخبر ليفصل بين اللام و بين إن بالاسم نحو «إِنَّها لَكَبِيرَةٌ» فأما سائر أخوات إن فمتى تركب مع المبتدأ و خبره خرج المبتدأ من صورة المبتدأ و يصير قسما آخر فلا يدخل اللام عليه و إذا لم يدخل عليه كان بالحري أن لا يدخل على خبره.

النزول‏

قال الجبائي أنه خطاب للمسلمين دون أهل الكتاب و قال الرماني و غيره هو خطاب لأهل الكتاب و يتناول المؤمنين على وجه التأديب و الأولى أن يكون خطابا لجميع المكلفين لفقد الدلالة على التخصيص و يؤيد قول من قال أنه خطاب لأهل الكتاب إن ما قبل الآية و ما بعدها خطاب لهم.

المعنى‏

من قال أنه خطاب لليهود قال إن حب الرياسة كان يمنع علماء اليهود عن‏


216
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 216

اتباع النبي ص لأنهم خافوا زوال الرياسة إذا اتبعوه فأمرهم الله تعالى فقال:

«وَ اسْتَعِينُوا» على الوفاء بعهدي الذي عاهدتكم في كتابكم عليه من طاعتي و اتباع أمري و ترك ما نهيتكم عنه و التسليم لأمري و اتباع رسولي محمد ص بالصبر على ما أنتم فيه من ضيق المعاش الذي تأخذون الأموال من عوامكم بسببه و

روي عن أئمتنا ع‏ أن المراد بالصبر الصوم‏

فيكون فائدة الاستعانة به أنه يذهب بالشره و هوى النفس كما

قال ص: الصوم وجاء

و فائدة الاستعانة بالصلاة أنه يتلى فيها ما يرغب فيما عند الله تعالى و بزهد في الدنيا و حب الرياسة كما قال سبحانه‏ «إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى‏ عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ» و لأنها تتضمن التواضع لله تعالى فيدفع حب الرياسة و كان النبي ص إذا حزنه أمر استعان بالصلاة و الصوم و من قال أنه خطاب للمسلمين قال المراد به استعينوا على تنجز ما وعدته لمن اتبع النبي ص أو على مشقة التكليف بالصبر أي بحبس النفس على الطاعات و حبسها عن المعاصي و الشهوات و بالصلاة لما فيها من تلاوة القرآن و التدبر لمعانيه و الاتعاظ بمواعظه و الائتمار بأوامره و الانزجار عن نواهيه و وجه آخر أنه ليس في أفعال القلوب أعظم من الصبر و لا في أفعال الجوارح أعظم من الصلاة فأمر بالاستعانة بهما و

روي عن الصادق ع أنه قال‏ ما يمنع أحدكم إذا دخل عليه غم من غموم الدنيا أن يتوضأ ثم يدخل المسجد فيركع ركعتين يدعو الله فيها أ ما سمعت الله تعالى يقول: «وَ اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلاةِ»

و قوله تعالى: «وَ إِنَّها لَكَبِيرَةٌ» قيل في الضمير في و إنها وجوه (أحدهما) أنها عائد إلى الصلاة لأنها الأغلب و الأفضل و هو قول أكثر المفسرين و على هذا ففي عود الضمير إلى واحد و قد تقدم ذكر اثنين قولان. (أحدهما) أن المراد به الصلاة دون غيرها و خصها بالذكر لقربها منه و لأنها الأهم و الأفضل و لتأكيد حالها و تفخيم شأنها و عموم فرضها (و الآخر) أن المراد الاثنان و إن كان اللفظ واحدا و يشهد لذلك قوله تعالى: «وَ الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَ الْفِضَّةَ وَ لا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ» «وَ إِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها» «وَ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ» و قول الشاعر:

إن شرخ الشباب و الشعر الأسود

ما لم يعاص كان جنونا

 

و لم يقل يعاصيا و قول الآخر:


217
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 46] ..... ص : 218

 

 

فمن يك أمسى بالمدينة رحله‏

 

فإني و قيارا بها لغريب‏

     

 

و يروى و قيار و قول آخر:

نحن بما عندنا و أنت بما عندك‏

 

راض و الرأي مختلف‏

     

 

و قول الآخر:

أما الوسامة أو حسن النساء فقد

 

أتيت منه أو أن العقل محتنك‏

     

 

و نحو ذا كثير في الكلام (و ثانيها) أنه عائد إلى الاستعانة يعني أن الاستعانة بهما لكبيرة و قوله‏ «اسْتَعِينُوا» يدل على الاستعانة و مثله قول الشاعر:

إذا نهي السفيه جرى إليه‏

 

و خالف و السفيه إلى خلاف‏

     

 

أي جرى إلى السفه و دل السفيه على السفه (و ثالثها) أن الضمير عائد إلى محذوف و هو الإجابة للنبي ص عن الأصم أو مؤاخذة النفس بهما أو تأدية ما تقدم أو تأدية الصلاة و ضروب الصبر عن المعاصي أو هذه الخطيئة عن أبي مسلم و هذه الوجوه الأخيرة كلها ضعيفة لأنها لم يجر لها ذكر و قوله‏ «لَكَبِيرَةٌ» أي لثقيلة عن الحسن و غيره و الأصل فيه أن كل ما يكبر يثقل على الإنسان حمله فيقال لكل ما يصعب على النفس و إن لم يكن من جهة الحمل يكبر عليها تشبيها بذلك و قوله: «إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ» أي على المتواضعين لله تعالى فإنهم قد وطنوا أنفسهم على فعلها و عودوها إياها فلا يثقل عليهم و أيضا فإن المتواضع لا يبالي بزوال الرياسة إذا حصل له الإيمان و قال مجاهد أراد بالخاشعين المؤمنين فإنهم إذا علموا ما يحصل لهم من الثواب بفعلها لم يثقل عليهم ذلك كما أن الإنسان يتجرع مرارة الدواء لما يرجو به من نيل الشفاء و قال الحسن أراد بالخاشعين الخائفين.

[سورة البقرة (2): آية 46]

الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَ أَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (46)

اللغة

الظن المذكور في الآية بمعنى العلم و اليقين كما قال دريد بن الصمة:

فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج‏

 

سراتهم في الفارسي المسرد

     

 

 

 

 

218
مجمع البيان في تفسير القرآن1

الإعراب ..... ص : 219

و قال أبو داود:

رب هم فرجعته بعزيم‏

و غيوب كشفتها بظنون‏

 

و قال المبرد ليس من كلام العرب أظن عند زيد مالا بمعنى أعلم لأن العلم المشاهد لا يناسب باب الظن و قد أفصح عن ذلك أوس بن حجر في قوله:

الألمعي الذي يظن بك الظن‏

كان قد رأى و قد سمعا

 

و قال آخر:

فإلا يأتكم خبر يقين‏

فإن الظن ينقص أو يزيد

 

و قال بعض المحققين أصل الظن ما يجول في النفس من الخاطر الذي يغلب على القلب كأنه حديث النفس بالشي‏ء و يؤول جميع ما في القرآن من الظن بمعنى العلم على هذا و الظن و الشك و التجويز نظائر إلا أن الظن فيه قوة على أحد الأمرين دون الآخر و حده ما قوي عند الظان كون المظنون على ما ظنه مع تجويزه أن يكون على خلافه فبالتجويز ينفصل من العلم و بالقوة ينفصل من الشك و التقليد و غير ذلك و هو من جنس الاعتقاد عند أبي هاشم و جنس برأسه سوى الاعتقاد عند أبي علي و القاضي و إليه ذهب المرتضى قدس الله روحه و ضد الظن اليقين و الظنين المتهم و مصدره الظنة و الظنون الرجل السي‏ء الظن بكل أحد و الظنون البئر التي يظن أن بها ماء و لا يكون و مظنة الرجل حيث يألفه و يكون فيه و أصل الملاقاة الملاصقة من قولك التقى الخطان إذا تلاصقا ثم كثر حتى قيل التقى الفارسان إذا تحاذيا و لم يتلاصقا و يقال رجع الرجل و رجعته أنا لازم و متعد و أصل الرجوع العود إلى الحال الأولى.

الإعراب‏

«الَّذِينَ يَظُنُّونَ» في موضع الجر صفة للخاشعين و أنهم بفتح الألف لا يجوز غيره لأن الظن فعل واقع على معنى أنه متعد يتعلق بالغير فما يليه يكون مفعولا له و أن المفتوحة الهمزة يكون مع الاسم و الخبر في تأويل اسم مفرد و هاهنا قد سد مسد مفعولي يظن و يكون المفعول الثاني مستغنى عنه مختزلا من الكلام غير مضمر كما أن الفاعل في أ قائم الزيدان سد مسد الخبر لطول الكلام و الاستغناء به عنه و هذا القول هو المختار عند أبي علي و فيه قول آخر و هو أن مع الاسم و الخبر في موضع المفعول الأول‏


219
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 220

و المفعول الثاني مضمر محذوف لعلم المخاطب به فكأنه قال الذين يظنون ملاقاة ربهم واقعة و حذفت النون من ملاقوا ربهم تخفيفا عند البصريين و المعنى على إثباتها فإن المضاف إليه هنا و إن كان مجرورا في اللفظ فهو منصوب في المعنى فهي إضافة لفظية غير حقيقية و مثله قوله‏ «إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ» و «كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ» و قال الشاعر:

هل أنت باعث دينار لحاجتنا

أو عبد رب أخا عون بن مخراق‏

 

و لو أردت معنى الماضي لتعرف الاسم بالإضافة لم يجز فيه إظهار النون البتة و قوله‏ «وَ أَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ» في موضع النصب عطفا على الأول.

المعنى‏

لما تقدم ذكر الخاشعين بين صفتهم فقال‏ «الَّذِينَ يَظُنُّونَ» أي يوقنون‏ «أَنَّهُمْ مُلاقُوا» ما وعدهم‏ «رَبِّهِمْ» عن الحسن و مجاهد و غيرهما و نظيره قوله‏ «إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ» و قيل أنه بمعنى الظن غير اليقين و المعنى أنهم يظنون أنهم ملاقوا ربهم بذنوبهم لشدة إشفاقهم من الإقامة على معصية الله قال الرماني و فيه بعد لكثرة الحذف و قيل الذين يظنون انقضاء آجالهم و سرعة موتهم فيكونون أبدا على حذر و وجل و لا يركنون إلى الدنيا كما يقال لمن مات لقي الله و يدل على أن المراد بقوله‏ «مُلاقُوا رَبِّهِمْ» ملاقون جزاء ربهم قوله تعالى في صفة المنافقين‏ «فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى‏ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ» و لا خلاف في أن المنافق لا يجوز أن يرى ربه و كذلك قوله‏ «وَ لَوْ تَرى‏ إِذْ وُقِفُوا عَلى‏ رَبِّهِمْ قالَ أَ لَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى‏ وَ رَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ» و

جاء في الحديث‏ من حلف على مال امرئ مسلم كاذبا لقي الله و هو عليه غضبان‏

و ليس اللقاء من الرؤية في شي‏ء يقال لقاك الله محابك و لا يراد به أن يرى أشخاصا و إنما يراد به لقاء ما يسره و قوله‏ «وَ أَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ» يسأل هنا فيقال ما معنى الرجوع في الآية و هم ما كانوا قط في الآخرة فيعودوا إليها و جوابه من وجوه. (أحدها) أنهم راجعون بالإعادة في الآخرة عن أبي العالية (و ثانيها) أنهم يرجعون بالموت كما كانوا في الحال المتقدمة لأنهم كانوا أمواتا فأحيوا ثم يموتون فيرجعون أمواتا كما كانوا (و ثالثها) أنهم يرجعون إلى موضع لا يملك أحد لهم ضرا و لا نفعا غيره تعالى كما كانوا في بدء الخلق لأنهم في أيام حياتهم قد يملك غيرهم الحكم عليهم و التدبير لنفعهم و ضرهم يبين ذلك قوله‏ «مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ» و تحقيق معنى الآية أنه يقرون بالنشأة الثانية فجعل رجوعهم بعد الموت إلى المحشر رجوعا إليه.


220
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 47] ..... ص : 221

[سورة البقرة (2): آية 47]

يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَ أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (47)

المعنى‏

قد مضى تفسير أول الآية فيما تقدم و قوله: «وَ أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ» قال ابن عباس أراد به عالمي أهل زمانهم لأن أمتنا أفضل الأمم بالإجماع كما أن نبينا عليه أفضل الصلاة و السلام أفضل الأنبياء و بدليل قوله‏ «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ» و قيل المراد به تفضيلهم في أشياء مخصوصة و هي إنزال المن و السلوى و ما أرسل الله فيهم من الرسل و أنزل عليهم من الكتب إلى غير ذلك من النعم العظيمة من تغريق فرعون و الآيات الكثيرة التي يخف معها الاستدلال و يسهل بها الميثاق و تفضيل الله إياهم في أشياء مخصوصة لا يوجب أن يكونوا أفضل الناس على الإطلاق كما يقال حاتم أفضل الناس في السخاء و نظير هذه الآية قوله‏ «وَ إِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ» إلى قوله‏ «وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ» فإن قيل فما الفائدة في تكرار قوله‏ «يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ» قلنا لأنه لما كانت نعم الله هي الأصل فيما يجب شكره احتيج إلى تأكيدها كما يقول القائل اذهب اذهب عجل عجل و قيل أيضا أن التذكير الأول ورد مجملا و الثاني ورد مفصلا و قيل أنه في الأول ذكرهم نعمة على أنفسهم و في الثاني ذكرهم نعمة على آبائهم.

[سورة البقرة (2): آية 48]

وَ اتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَ لا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَ لا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ (48)

القراءة

قرأ أهل مكة و البصرة لا تقبل بالتاء و الباقون بالياء.

الحجة

فمن قرأ بالتاء ألحق علامة التأنيث لتؤذن بأن الاسم الذي أسند إليه الفعل و هو الشفاعة مؤنث و من قرأ بالياء فلأن التأنيث في الاسم ليس بحقيقي فحمل على المعنى فذكر لأن الشفاعة و التشفع بمنزلة كما أن الوعظ و الموعظة و الصيحة و الصوت كذلك و قد قال تعالى: «فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ» و «أَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ» و يقوي التذكير


221
مجمع البيان في تفسير القرآن1

اللغة ..... ص : 222

أيضا أنه فصل بين الفعل و الفاعل بقوله‏ «مِنْها» و التذكير يحسن مع الفصل كما يقال في التأنيث الحقيقي حضر القاضي اليوم امرأة.

اللغة

الجزاء و المكافاة و المقابلة نظائر يقال جزى يجزي جزاء و جازاه مجازاة و فلان ذو جزاء أي ذو غناء فكان قوله‏ «لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً» أي لا تقابل مكروهها بشي‏ء يدرؤه عنها و منه‏

الحديث أنه ص قال‏ لأبي بردة في الجذعة التي أمره أن يضحي بها و لا تجزي عن أحد بعدك و قال البقرة تجزي عن سبعة

أي تقضي و تكفي قال أبو عبيدة هو مأخوذ من قولك جزا عني هذا الأمر فأما قولهم أجزأني الشي‏ء أي كفاني فمهموز و قبول الشي‏ء هو تلقيه و الأخذ به خلاف الإعراض عنه و من ثم قيل لتجاه الشي‏ء قبالته و قالوا أقبلت المكواة الداء أي جعلتها قبالته قال:

(و أقبلت أفواه العروق المكاويا)

 

و القبول و الانقياد و الطاعة و الإجابة نظائر و نقيضه الامتناع و الشفاعة مأخوذة من الشفع فكأنه سؤال من الشفيع يشفع سؤال المشفوع له و الشفاعة و الوسيلة و القربة و الوصلة نظائر و الشفعة في الدار و غيرها معروفة و إنما سميت شفعة لأن صاحبها يشفع ماله بها و يضمها إلى ملكه و العدل و الحق و الإنصاف نظائر و نقيض العدل الجور و العدل المرضي من الناس الذكر و الأنثى و الجمع و الواحد فيه سواء و العدل الفدية في الآية و الفرق بين العدل و العدل إن العدل هو مثل الشي‏ء من جنسه و العدل هو بدل الشي‏ء و قد يكون من غير جنسه قال سبحانه‏ «أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً» و النصرة و المعونة و التقوية نظائر و

في الحديث‏ انصر أخاك ظالما أو مظلوما

أي امنعه من الظلم إن كان ظالما و امنع عنه الظلم إن كان مظلوما و أنصار الرجل أعوانه و نصرت السماء إذا أمطرت.

الإعراب‏

يوما انتصابه انتصاب المفعول لا انتصاب الظروف لأن معناه اتقوا هذا اليوم و احذروه و ليس معناه اتقوا في هذا اليوم لأن ذلك اليوم لا يؤمر فيه بالاتقاء و إنما يؤمر في غيره من أجله و موضع لا تجزي نصب لأنه صفة يوم و العائد إلى الموصوف فيه اختلاف ذهب سيبويه إلى أن فيه محذوف من الكلام أي لا يجزي فيه و قال آخرون لا يجوز إضمار فيه لأنك لا تقول هذا رجل قصدت أو رغبت و أنت تريد إليه أو فيه فهو محمول على المفعول على السعة كأنه قيل و اتقوا يوما لا تجزيه ثم حذف الهاء كما يقال رأيت رجلا أحب أي أحبه و هو قول السراج قال أبو علي حذف الهاء من الصفة كما يحذف من الصلة لما بينهما من المشابهة فإن الصفة تخصص الموصوف كما أن الصلة


222
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 223

تخصص الموصول و لا يعمل في الموصوف و لا يتسلط عليه كما لا يعمل الصلة في الموصول و مرتبتها أن تكون بعد الموصوف كما أن مرتبة الصلة أن تكون بعد الموصول و قد يلزم الصفة في أماكن كما يلزم الصلة و ذلك إذا لم يعرف الموصوف إلا بها و لا تعمل الصلة فيما قبل الموصول كما لا تعمل الصفة فيما قبل الموصوف فإذا كان كذلك حسن الحذف من الصفة كما يحسن من الصلة في نحو قوله‏ «أَ هذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا» و قال الأخفش شيئا في موضع المصدر كأنه قال لا تجزي جزاء و لا تغني غناء و قال الرماني الأقرب أن يكون شيئا في موضع حقا كأنه قال لا يؤدي عنها حقا وجب عليها و قوله‏ «وَ لا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ» موضع هذه الجملة نصب بالعطف على الجملة التي هي وصف قبلها و من ذهب إلى أنه حذف الجار و أوصل الفعل إلى المفعول ثم حذف الراجع من الصفة كان مذهبه في لا يقبل أيضا مثله فمما حذف منه الراجع إلى الصفة قول الشاعر:

(و ما شي‏ء حميت بمستباح)

 

و الضمير في منها عائد إلى نفس على اللفظ و في قوله‏ «وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ» على المعنى لأنه ليس المراد به المفرد فلذلك جمع.

المعنى‏

لما بين سبحانه نعمه العظام عليهم أنذرهم في كفرانها بيوم القيامة فقال‏ «وَ اتَّقُوا» أي احذروا و اخشوا «يَوْماً لا تَجْزِي» أي لا تغني أو لا تقضي فيه‏ «نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً» و لا تدفع عنها مكروها و قيل لا يؤدي أحد عن أحد حقا وجب عليه لله أو لغيره و إنما نكر النفس ليبين أن كل نفس فهذا حكمها و هذا مثل قوله سبحانه‏ «وَ اخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَ لا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً» و قوله‏ «وَ لا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ» قال المفسرون حكم هذه الآية مختص باليهود لأنهم قالوا نحن أولاد الأنبياء و آباؤنا يشفعون لنا فأياسهم الله عن ذلك فخرج الكلام مخرج العموم و المراد به الخصوص و يدل على ذلك أن الأمة اجتمعت على أن للنبي ص شفاعة مقبولة و إن اختلفوا في كيفيتها فعندنا هي مختصة بدفع المضار و إسقاط العقاب عن مستحقيه من مذنبي المؤمنين و قالت المعتزلة هي في زيادة المنافع للمطيعين و التائبين دون العاصين و هي ثابتة عندنا للنبي ص و لأصحابه المنتجبين و الأئمة من أهل بيته الطاهرين و الصالحي المؤمنين و ينجي الله تعالى بشفاعتهم كثيرا من الخاطئين و يؤيده الخبر الذي تلقته الأمة بالقبول و هو

قوله‏ ادخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي‏

و ما جاء

في روايات أصحابنا رضي الله عنهم مرفوعا إلى النبي ص أنه قال‏ إني أشفع يوم القيامة فأشفع و يشفع علي فيشفع و يشفع أهل‏


223
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 49] ..... ص : 224

بيتي فيشفعون و إن أدنى المؤمنين شفاعة ليشفع في أربعين من إخوانه كل قد استوجب النار

و قوله تعالى مخبرا عن الكفار عند حسراتهم على الفائت لهم مما حصل لأهل الإيمان من الشفاعة فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَ لا صَدِيقٍ حَمِيمٍ‏ و قوله‏ «وَ لا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ» أي فدية و إنما سمي الفداء عدلا لأنه يعادل المفدي و يماثله و هو قول ابن عباس و معناه لا يؤخذ من أحد فداء يكفر عن ذنوبه و قيل لا يؤخذ منه بدل بذنوبه و أما ما

جاء في الحديث‏ لا يقبل الله منه صرفا و لا عدلا

فاختلف في معناه قال الحسن الصرف العمل و العدل الفدية و قال الأصمعي الصرف التطوع و العدل الفريضة و قال أبو عبيدة الصرف الحيلة و العدل الفدية و قال الكلبي الصرف الفدية و العدل رجل مكانه و قوله‏ «وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ» أي لا يعاونون حتى ينجوا من العذاب و قيل ليس لهم ناصر ينتصر لهم من الله إذا عاقبهم.

[سورة البقرة (2): آية 49]

وَ إِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَ يَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَ فِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49)

القراءة

في الشواذ قرأ ابن محيصن يذبحون أبناءكم.

الحجة

قال ابن جني وجه ذلك أن فعلت بالتخفيف قد يكون فيه معنى التكثير و ذلك لدلالة الفعل على مصدره و المصدر اسم الجنس و حسبك بالجنس سعة و عموما و أنشد أبو الحسن:

أنت الفداء لقبلة هدمتها

و نقرتها بيديك كل منقر

 

فكأنه قال و نقرتها لأن قوله كل منقر عليه جاء و لما في الفعل من معنى المصدر الدال على الجنس لم يجز تثنيته و لا جمعة لاستحالة كل واحد من التثنية و الجمع في الجنس.

اللغة

الإنجاء و التنجية و التخليص واحد و النجاة و الخلاص و السلامة و التخلص واحد و يقال للمكان المرتفع نجوة لأن الصائر إليه ينجو من كثير من المضار و فرق بعضهم‏


224
مجمع البيان في تفسير القرآن1

اللغة ..... ص : 224

بين الإنجاء و التنجية فقال الإنجاء يستعمل في الخلاص قبل وقوعه في الهلكة و التنجية يستعمل في الخلاص بعد وقوعه في الهلكة و الآل و الأهل واحد و قيل أصل آل أهل لأن تصغيره أهيل و حكى الكسائي أويل فزعموا أنها أبدلت كما قالوا هيهات و أيهات و قيل لا بل هو أصل بنفسه و الفرق بين الآل و الأهل أن الأهل أعم منه يقال أهل البصرة و لا يقال آل البصرة و يقال آل الرجل قومه و كل من يؤول إليه بنسب أو قرابة مأخوذ من الأول و هو الرجوع و أهله كل من يضمه بيته و قيل آل الرجل قرابته و أهل بيته و آل البعير الواحة و آل الخيمة عمده و آل الجبل أطرافه و نواحيه و قال ابن دريد آل كل شي‏ء شخصه و آل الرجل أهله و قرابته قال الشاعر:

و لا تبك ميتا بعد ميت أجنه‏

علي و عباس و آل أبي بكر

 

و قال أبو عبيدة سمعت أعرابيا فصيحا يقول أهل مكة آل الله فقلنا ما تعني بذلك قال أ ليسوا مسلمين المسلمون آل الله قال و إنما يقال آل فلان للرئيس المتبع و في شبه مكة لأنها أم القرى و مثل فرعون في الضلال و اتباع قومه له فإذا جاوزت هذا فإن آل الرجل أهل بيته خاصة فقلنا له أ فتقول لقبيلته آل فلان قال لا إلا أهل بيته خاصة و فرعون اسم لملك العمالقة كما يقال لملك الروم قيصر و لملك الفرس كسرى و لملك الترك خاقان و لملك اليمن تبع فهو على هذا بمعنى الصفة و قيل أن اسم فرعون مصعب بن الريان و قال محمد بن إسحاق هو الوليد بن مصعب يسومونكم يكلفونكم من قولهم سامه خطة خسف إذا كلفه إياه و قيل يولونكم سوء العذاب و سامه خسفا إذا أولاه ذلا قال الشاعر:

(إن سيم خسفا وجهه تربدا)

 

و قيل يحشمونكم و قيل يعذبونكم و أصل الباب السوم الذي هو إرسال الإبل في الرعي و سوء العذاب و أليم العذاب و شديد العذاب نظائر قال صاحب العين السوء اسم العذاب الجامع للآفات و الداء يقال سؤت فلانا أسوؤه مساءة و مسائية و استاء فلان من السوء مثل اهتم من الهم و السوأة الفعلة القبيحة و السوأة الفرج و السوأة أيضا كل عمل شين و تقول في النكرة رجل سوء كما يقال رجل صدق فإذا عرفت قلت الرجل السوء فلا تضيفه و لا تقول الرجل الصدق و قوله‏ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ أي من غير برص و الذبح و النحر و الشق نظائر و الذبح فري الأوداج و التذبيح التكثير منه و أصله الشق يقال ذبحت‏


225
مجمع البيان في تفسير القرآن1

الإعراب ..... ص : 226

المسك إذا فتقت عنه قال:

كان بين فكها و الفك‏

فأرة مسك ذبحت في سك‏

 

و الذبح الشي‏ء المذبوح و الذباح و الذبحة بفتح الباء و تسكينها داء يصيب الإنسان في حلقه و يستحيون أي يستبقون و منه‏

قول النبي ص‏ اقتلوا شيوخ المشركين و استحيوا شرخهم‏

أي استبقوا شبابهم و النساء و النسوة و النسوان لا واحد لها من لفظها و البلاء و النعمة و الإحسان نظائر في اللغة و البلاء يستعمل في الخير و الشر قال سبحانه‏ وَ نَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَ الْخَيْرِ و الإبلاء في الأنعام قال‏ وَ لِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً و قال زهير:

جزى الله بالإحسان ما فعلا بكم‏

و أبلاهما خير البلاء الذي يبلو

 

فالبلاء يكون بالإنعام كما يكون بالانتقام و أصل البلاء الامتحان و الاختبار قال الأحنف البلاء ثم الثناء.

الإعراب‏

العامل في إذ من قوله‏ «وَ إِذْ نَجَّيْناكُمْ» قوله‏ اذْكُرُوا من قوله‏ «يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ» فهو عطف على ما تقدم و قوله‏ «يَسُومُونَكُمْ» يجوز أن يكون في موضع نصب على الحال من آل فرعون و العامل فيه نجيناكم و يجوز أن يكون للاستئناف و الأبناء جمع ابن و أصل ابن بنو بفتح الفاء و العين و يدل على أن الفاء كانت مفتوحة قولهم في جمعه أبناء على وزن أفعال و أفعال بابه أن يكون لفعل نحو جبل و أجبال كما كان فعل بتسكين العين بابه أفعل نحو فرخ و أفرخ و المحذوف من الابن الواو على ما قلناه لأنها أثقل فهي بالحذف أولى و إليه ذهب الأخفش و أبو علي الفسوي.

المعنى‏

ثم فصل سبحانه في هذه الآية النعم التي أجملها فيما قبل فقال‏ «وَ» اذكروا «إِذْ نَجَّيْناكُمْ» أي خلصناكم من قوم‏ «فِرْعَوْنَ» و أهل دينه‏ «يَسُومُونَكُمْ» يلزمونكم‏ «سُوءَ الْعَذابِ» و قيل يذيقونكم و يكلفونكم و يعذبونكم و الكل متقارب و اختلفوا في العذاب الذي نجاهم الله تعالى منه فقال بعضهم ما ذكر في الآية من قوله‏ «يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَ يَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ» و هذا تفسيره و قيل أراد به ما كانوا يكلفونهم من الأعمال الشاقة فمنها أنهم جعلوهم أصنافا فصنف يخدمونهم و صنف يحرثون لهم و من لا يصلح منهم للعمل ضربوا عليهم الجزية و كانوا يذبحون أبناءهم و يستحيون نساءهم مع ذلك و يدل عليه قوله تعالى في سورة إبراهيم‏ «يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ»


226
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[القصة] ..... ص : 227

فعطفه على ذلك يدل على أنه غيره و قوله‏ «يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَ يَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ» معناه يقتلون أبناءكم و يستحيون بناتكم يستبقونهن و يدعونهن أحياء ليستعبدن و ينكحن على وجه الاسترقاق و هذا أشد من الذبح و إنما لم يقل بناتكم لأنه سماهن بالاسم الذي يؤول حالهن إليه و قيل إنما قال نساءكم على التغليب فإنهم كانوا يستبقون الصغار و الكبار يقال أقبل الرجال و إن كان فيهم صبيان و يجوز أيضا أن يقع اسم النساء على الصغار و الكبار كالأبناء و قوله‏ «وَ فِي ذلِكُمْ» أي و في سومكم العذاب و ذبح الأبناء «بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ» أي لما خلى بينكم و بينه حتى فعل بكم هذه الأفاعيل و قيل في نجاتكم من فرعون و قومه نعمة عظيمة من الله عليكم.

[القصة]

و السبب في قتل الأبناء أن فرعون رأى في منامه كان نارا أقبلت من بيت المقدس حتى اشتملت على بيوت مصر فأحرقتها و أحرقت القبط و تركت بني إسرائيل فهاله ذلك و دعا السحرة و الكهنة و القافة فسألهم عن رؤياه فقالوا أنه يولد في بني إسرائيل غلام يكون على يده هلاكك و زوال ملكك و تبديل دينك فأمر فرعون بقتل كل غلام يولد في بني إسرائيل و جمع القوابل من أهل مملكته فقال لهن لا يسقط على أيديكن غلام من بني إسرائيل إلا قتل و لا جارية إلا تركت و وكل بهن فكن يفعلن ذلك و أسرع الموت في مشيخة بني إسرائيل فدخل رءوس القبط على فرعون فقالوا له أن الموت قد وقع في بني إسرائيل فتذبح صغارهم و يموت كبارهم فيوشك أن يقع العمل علينا فأمر فرعون أن يذبحوا سنة و يتركوا سنة فولد هارون في السنة التي لا يذبحون فيها فترك و ولد موسى في السنة التي يذبحون فيها.

[سورة البقرة (2): آية 50]

وَ إِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَ أَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50)

القراءة

في الشواذ قرأ الزهري و إذ فرقنا بكم مشددة قال ابن جني فرقنا أشد تفريقا من فرقنا فمعنى فرقنا بكم البحر جعلناه فرقا و معنى فرقنا بكم البحر شققنا بكم البحر.

اللغة

الفرق هو الفصل بين شيئين إذا كانت بينهما فرجة و الفرق الطائفة من كل شي‏ء و من الماء إذا انفرق بعضه عن بعض فكل طائفة من ذلك فرق و منه‏ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ‏ و الفرق الخوف و

في الحديث‏ ما أسكر الفرق فالجرعة منه حرام‏

و هو مكيال يعرف‏


227
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 228

بالمدينة و البحر يسمى بحرا لاستبحاره و هو سعته و انبساطه يقال استبحر في العلم و تبحر فيه و تبقر إذا اتسع و تمكن و الباحر الأحمق الذي إذا كلم بقي كالمبهوت و العرب تسمي الماء الملح و العذب بحرا إذا كثر و منه قوله‏ مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ‏ يعني الملح و العذب و أصل الباب الاتساع و أما اللج فهو الذي لا يرى حافتيه من في وسطه لكثرة مائه و عظمه و دجلة بالإضافة إلى الساقية بحر و بالإضافة إلى جدة و نحوها ليست ببحر و الغرق الرسوب في الماء و النجاة ضد الغرق كما أنها ضد الهلاك و أغرق في الأمر إذا جاوز الحد فيه و أصله من نزع السهم حتى يخرج عن كبد القوس و اغرورقت عينه شرقت بدمعها و النظر النظر بالعين يقال نظرت إلى كذا و نظرت في الكتاب و في الأمر و قول القائل أنظر إلى الله ثم إليك معناه أتوقع فضل الله ثم فضلك و نظرته و انتظرته بمعنى واحد و النظر التفكر و أصل الباب كله الإقبال نحو الشي‏ء بوجه من الوجوه فالنظر بالعين الإقبال نحو المبصر و النظر بالقلب الإقبال بالفكر به نحو المفكر فيه و النظر بالرحمة هو الإقبال بالرحمة و حقيقة النظر هو تقليب الحدقة الصحيحة نحو المرئي طلبا لرؤيته.

المعنى‏

ثم ذكر سبحانه نعمة أخرى فقال‏ «وَ» اذكروا «إِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ» أي فرقنا بين المائين حتى مررتم فيه فكنتم فرقا بينهما تمرون في طريق يبس و قيل معناه فرقنا البحر بدخولكم إياه فوقع بين كل فريقين من البحر طائفة منكم يسلكون طريقا يابسا فوقع الفرق بينكم و قيل فرقنا بكم أي بسببكم البحر لتمروا فيه‏ «فَأَنْجَيْناكُمْ» يعني من البحر و الغرق و قوله‏ «وَ أَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ» و لم يذكر غرق فرعون لأنه قد ذكره في مواضع كقوله‏ «فَأَغْرَقْناهُ وَ مَنْ مَعَهُ» فاختصر لدلالة الكلام عليه لأن الغرض مبني على إهلاك فرعون و قومه و نظيره قول القائل (دخل جيش الأمير البادية) و يكون الظاهر أن الأمير معهم و يجوز أن يريد بآل فرعون نفسه كقوله‏ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى‏ وَ آلُ هارُونَ‏ يعني موسى و هارون و قوله‏ «وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ» معناه و أنتم تشاهدون أنهم يغرقون و هذا أبلغ في الشماتة و إظهار المعجزة و قيل معناه و أنتم بمنظر و مشهد منهم حتى لو نظرتم إليهم لأمكنكم ذلك لأنهم كانوا في شغل من أن يروهم كما يقال دور بني فلان تنظر إلى دور آل فلان أي هي بإزائها و بحيث لو كان مكانها ما ينظر لأمكنه أن ينظر إليه و هو قول الزجاج و قريب مما قاله الفراء و الأول أصح لأنهم لم يكن لهم شغل شاغل عن الرؤية فإنهم كانوا قد جاوزوا البحر و تظاهرت أقوال المفسرين على أن أصحاب موسى (ع) رأوا انفراق البحر و التطام أمواجه بآل فرعون حتى غرقوا فلا وجه للعدول عن الظاهر.


228
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[القصة] ..... ص : 229

[القصة]

و جملة قصة فرعون مع بني إسرائيل في البحر ما ذكره ابن عباس أن الله تعالى أوحى إلى موسى أن يسري ببني إسرائيل من مصر فسرى موسى ببني إسرائيل ليلا فأتبعهم فرعون في ألف ألف حصان سوى الإناث و كان موسى في ستمائة ألف و عشرين ألفا فلما عاينهم فرعون قال‏ إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَ إِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ وَ إِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ‏ فسرى موسى ببني إسرائيل حتى هجموا على البحر فالتفتوا فإذا هم برهج دواب فرعون فقالوا يا موسى‏ أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَ مِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا هذا البحر أمامنا و هذا فرعون قد رهقنا بمن معه فقال موسى (ع) عَسى‏ رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَ يَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ‏ فقال له يوشع بن نون بم أمرت قال أمرت أن أضرب بعصاي البحر قال اضرب و كان الله تعالى أوحى إلى البحر أن أطع موسى إذا ضربك قال فبات البحر له أفكل أي رعدة لا يدري في أي جوانبه يضربه فضرب بعصاه البحر فانفلق و ظهر اثنا عشر طريقا فكان لكل سبط منهم طريق يأخذون فيه فقالوا إنا لا نسلك طريقا نديا فأرسل الله ريح الصبا حتى جففت الطريق كما قال‏ فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً فجروا فيه فلما أخذوا في الطريق قال بعضهم لبعض ما لنا لا نرى أصحابنا فقالوا لموسى أين أصحابنا فقال في طريق مثل طريقكم فقالوا لا نرضى حتى نراهم فقال (ع) اللهم أعني على أخلاقهم السيئة فأوحى الله تعالى إليه أن مل بعصاك هكذا و هكذا يمينا و شمالا فأشار بعصاه يمينا و شمالا فظهر كالكوى ينظر منها بعضهم إلى بعض فلما انتهى فرعون إلى ساحل البحر و كان على فرس حصان أدهم فهاب دخول الماء تمثل له جبريل على فرس أنثى وديق و تقحم البحر فلما رآها الحصان تقحم خلفها ثم تقحم قوم فرعون فلما خرج آخر من كان مع موسى من البحر و دخل آخر من كان مع فرعون البحر أطبق الله عليهم الماء فغرقوا جميعا و نجا موسى و من معه و مما يسأل عن هذا أن يقال كيف لم يعط الله تعالى كل نبي مثل ما أعطى موسى من الآيات الباهرات لتكون حجة أظهر و الشبهة أبعد و الجواب أن الله ينصب الأعلام الباهرة و المعجزات القاهرة لاستصلاح الخلق على حسب ما يرى لهم من الصلاح و قد كان في قوم موسى من بلادة النفس و كلالة الحدس ما لم يمكنه معه الاستدلال بالآيات الحقيقية أ لا ترى أنهم لما عبروا البحر و أتوا على قوم‏


229
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 51] ..... ص : 230

يعكفون على أصنام لهم قالوا بعد ما شاهدوه من هذه الآيات‏ اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ‏ و كان في العرب و أمة نبينا ص من جودة القريحة و حدة الفطنة و ذكاء الذهن و قوة الفهم ما كان يمكنهم معه الاستدلال بما يحتاج فيه إلى التأمل و التدبر و الاستضاءة بنور العقل في التفكر فجاءت آياتهم متشاكلة لطباعهم المتوقدة و مجانسة لما ركب في أذهانهم من الدقة و الحدة على أن في جميعها من الحجة الظاهرة و البينة الزاهرة ما ينفي خارج الشك عن قلب الناظر المستبين و يفضي به إلى فضاء العلم اليقين و يوضح له مناهج الصدق و يولجه موالج الحق‏ وَ ما يَسْتَوِي الْأَعْمى‏ وَ الْبَصِيرُ و لا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ.

[سورة البقرة (2): آية 51]

وَ إِذْ واعَدْنا مُوسى‏ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَنْتُمْ ظالِمُونَ (51)

القراءة

قرأ أهل البصرة و أبو جعفر هاهنا وعدنا بغير ألف و في الأعراف و طه و قرأ الباقون‏ «واعَدْنا» بالألف و قرأ ابن كثير و حفص و البرجمي و رويس اتخذتم و أخذتم و ما جاء منه بإظهار الذال و وافقهم الأعشى فيما كان على افتعلت و الباقون يدغمون.

الحجة

حجة من قرأ بإثبات الألف أنه قال لا يخلو أن يكون قد كان موسى وعد أو لم يكن فإن كان منه وعد فلا إشكال في وجوب القراءة بواعدنا و إن لم يكن منه وعد فإن ما كان منه من قبول الوعد و التحري لإنجازه و الوفاء به يقوم مقام الوعد و القراءة بواعدنا دلالة من الله على وعده و قبول موسى و لأنه إذا حسن في مثل قوله‏ بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ‏ الإخبار بالوعد منهم لله تعالى كان هنا الاختيار «واعَدْنا» و من قرأ وعدنا بغير ألف و هو أشد مطابقة للمعنى إذ كان القبول ليس بوعد في الحقيقة إذ الوعد إنما هو إخبار الموعود بما يفعل به من خير و على هذا فيكون قوله‏ بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ‏ مجازا حقيقته بما أخبروا أنهم فاعلوه و قال بعضهم أن المواعدة في الحقيقة لا تكون إلا بين البشر و الله تعالى هو المتفرد بالوعد و الوعيد كما قال‏ وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ‏ وَ إِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ‏ و القراءتان جميعا قويتان و حجة من أدغم الذال في التاء من‏ «اتَّخَذْتُمُ» أن مخرج الذال قريب من مخرج التاء و حجة من لم يدغم أن مخرجيهما متغايران.


230
مجمع البيان في تفسير القرآن1

اللغة ..... ص : 231

اللغة

الوعد و الموعد و الوعيد و العدة و الموعدة مصادر وعدته أعده و وعدت يتعدى إلى مفعولين يجوز فيه الاقتصار على أحدهما كأعطيت قال‏ «وَ واعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ» فجانب مفعول ثان و العدة و الوعد قد يكونان اسمين أيضا و الوعد في الخير و الوعيد في الشر و يجمع العدة على العدات و لا يجمع الوعد و الموعد قد يكون موضعا و وقتا و مصدرا و الميعاد لا يكون إلا وقتا أو موضعا و قد يقال وعدته في الشر كقوله تعالى‏ «النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا» و أوعدته لا يكون إلا في الشر و المكاره و يقال أوعدته بالشر و لا يقال أوعدته الشر و حقيقة الوعد هو الخبر عن خير يناله المخبر في المستقبل أو شر و موسى اسم مركب من اسمين بالقبطية فمو هو الماء و سي الشجر و سمي بذلك لأن التابوت الذي كان فيه موسى وجد عند الماء و الشجر وجده جاري آسية امرأة فرعون و قد خرجن ليغتسلن بالمكان الذي وجد فيه عن السدي و هو موسى بن عمران بن يصهر بن فاهث بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عن محمد بن إسحاق بن يسار و إنما قال‏ «أَرْبَعِينَ لَيْلَةً» و لم يقل أربعين يوما لتضمن الليالي الأيام على قول المبرد عني بذلك أنك إذا ذكرت الليالي دخل فيها الأيام و إذا ذكرت الأيام لا يدخل فيها الليالي و الصحيح أن العرب كانت تراعي في حسابها الشهور و الأيام و الأهلة فأول الشهر الليالي فلذلك أرخت بالليالي و غلبتها على الأيام و اكتفت بذكر الليالي عن الأيام فقالت لعشر خلون و لخمس بقين جريا على الليالي و الليلة الوقت من غروب الشمس إلى طلوع الفجر الثاني و اليوم من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس و ليلة ليلاء إذا اشتدت ظلمتها و لييلة تصغير ليلة أخرجوا الياء الأخيرة مخرجها في الليالي و قال بعضهم أصل ليلة ليلاة فقصر و اتخذ افتعل و فعلت فيه تخذت قال:

و قد تخذت رجلي إلى جنب غرزها

نسيفا كأفحوص القطاة المطرق‏

 

قال أبو علي و ليس اتخذت من أخذت لأن الهمزة لا تبدل من التاء و لا تبدل منها التاء و العجل البقرة الصغيرة يقال عجل و عجول و هو من العجلة لأن قصر المدة كالعجل في الشي‏ء و قال بعضهم إنما سمي عجلا لأنهم عجلوا فاتخذوه إلها قبل أن يأتيهم موسى.

الإعراب‏

قوله‏ «وَ إِذْ واعَدْنا مُوسى‏ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً» لا يخلو تعلق الأربعين بالوعد من أن يكون على أنه ظرف أو مفعول ثان فلا يجوز أن يكون ظرفا لأن الوعد ليس فيها كلها فيكون جواب كم و لا في بعضها فيكون جوابا لمتى و إنما الموعدة تقضي الأربعين فإذا لم يكن ظرفا كان انتصابه بوقوعه موقع المفعول الثاني و التقدير وعدنا موسى انقضاء أربعين‏


231
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 232

ليلة أو تتمة أربعين ليلة فحذف المضاف كما تقول اليوم خمسة عشر من الشهر أي تمام خمسة عشر فأما انتصاب أربعين في قوله‏ «فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً» فالميقات هو الأربعون و إنما هو ميقات و موعد فيكون كقولك تم القوم عشرين رجلا و المعنى تم القوم معدودين هذا العدد و تم الميقات معدودا هذا العدد و قد جاء الميقات في موضع الميعاد كما جاء الوقت موضع الوعد في قوله‏ «إِلى‏ يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ» و في موضع آخر وَ الْيَوْمِ الْمَوْعُودِ و يبين ذلك قوله‏ «فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً» و في الآية «وَ إِذْ واعَدْنا مُوسى‏ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً» و ليلة تنتصب على التبيين و التمييز للعدد و الأصل في بيان العدد أن يبين بذكر المعدود و إنما انتصب بالاسم التام الذي هو أربعون و هو مشبه بالكلام التام الذي ينتصب بعده ما يكون فضلة عنه و معنى تمام الاسم هاهنا هو تركيب هذا النون الذي تتممه معه فأشبه الجملة المركبة من فعل و فاعل من جهة أنه متمم بشي‏ء آخر و بينهما شبه آخر و هو أن في الجملة التي من فعل و فاعل معنى يقتضي المفعول و هو ذكر الفعل و في العدد إبهام يقتضي التفسير و البيان ليفيد أي نوع من الأنواع هو فينصب على هذا المعنى و لذلك قال سيبويه إن في هذا الضرب و هو تمام الاسم معنى يحجز بين الاسم الأول و ما يجي‏ء بعد التمام فالنون في أربعين هو بمنزلة الفاعل الذي يحجز من أن يسند الفعل إلى المفعول فيسند إلى الفاعل و ينتصب المفعول لذلك و النون يتم الاسم الأول فينتصب الاسم الذي بعده و أما قوله‏ «اتَّخَذْتُمُ» فإن اتخذت على ضربين أحدهما يتعدى إلى مفعول واحد كقوله‏ «وَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً» و قوله‏ «أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ» و الآخر يتعدى إلى مفعولين كقوله تعالى‏ «اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً» فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا «لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَ عَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ» فقوله‏ «ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ» تقديره و اتخذتم العجل إلها فحذف المفعول الثاني لأن من صاغ عجلا أو عمله لا يستحق الوعيد و الغضب من الله تعالى.

المعنى‏

«وَ» اذكروا «إِذْ واعَدْنا مُوسى‏» أن نؤتيه الألواح فيها التوراة و البيان و الشفاء على رأس‏ «أَرْبَعِينَ لَيْلَةً» أو عند انقضاء أربعين ليلة أو عند تمام أربعين ليلة و إنما قلنا أن قوله اذكروا مضمر فيه لأن الله تعالى قال قبل هذا «يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ» فإذ هاهنا معطوفة على الآيات المتقدمة و هذه الأربعون ليلة هي التي ذكرها الله في سورة الأعراف فقال‏ «وَ واعَدْنا مُوسى‏ ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَ أَتْمَمْناها بِعَشْرٍ» و هي ذو


232
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[القصة] ..... ص : 233

 

القعدة و عشر من ذي الحجة قال المفسرون لما عاد بنو إسرائيل إلى مصر بعد إنجائهم من البحر و هلاك فرعون و قومه وعدهم الله إنزال التوراة و الشرائع فخلف موسى أصحابه و استخلف هارون عليهم فمكث على الطور أربعين ليلة و أنزل عليه التوراة في الألواح و قوله‏ «ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ» أي اتخذتموه إلها لأن بنفس فعلهم لصورة العجل لا يكونون ظالمين لأن فعل ذلك ليس بمحظور و إنما هو مكروه و أما الخبر الذي‏

روي‏ أنه ص لعن المصورين‏

فالمراد به من شبه الله بخلقه أو اعتقد فيه أنه صورة و قوله‏ «مِنْ بَعْدِهِ» أي من بعد غيبة موسى و خروجه و قيل من بعد وعد الله إياكم بالتوراة و قيل من بعد غرق فرعون و ما رأيتم من الآيات و الكل محتمل‏ «أَنْتُمْ ظالِمُونَ» أي مضرون بأنفسكم بما استحققتم من العقاب على اتخاذكم العجل إلها.

[القصة]

روي عن ابن عباس قال كان السامري رجلا من أهل باجرما قيل كان اسمنسيا و قال ابن عباس اسمه موسى بن ظفر و كان من قوم يعبدون البقر و كان حب عبادة البقر في نفسه و قد كان أظهر الإسلام في بني إسرائيل فلما قصد موسى إلى ربه و خلف هارون في بني إسرائيل قال هارون لقومه قد حملتم أوزارا من زينة القوم يعني آل فرعون فتطهروا منها فإنها نجس يعني أنهم استعاروا من القبط حليا و استبدوا بها فقال هارون طهروا أنفسكم منها فإنها نجسة و أوقد لهم نارا فقال اقذفوا ما كان معكم فيها فجعلوا يأتون بما كان معهم من تلك الأمتعة و الحلي فيقذفون به فيها قال و كان السامري رأى أثر فرس جبرائيل (ع) فأخذ ترابا من أثر حافره ثم أقبل إلى النار فقال لهارون يا نبي الله أ ألقي ما في يدي قال نعم و هو لا يدري ما في يده و يظن أنه مما يجي‏ء به غيره من الحلي و الأمتعة فقذف فيها و قال كن عجلا جسدا له خوار فكان البلاء و الفتنة فقال‏ هذا إِلهُكُمْ وَ إِلهُ مُوسى‏ فعكفوا عليه و أحبوه حبا لم يحبوا مثله شيئا قط قال ابن عباس فكان البلاء و الفتنة و لم يزد على هذا و قال الحسن صار العجل لحما و دما و قال غيره لا يجوز ذلك لأنه من معجزات الأنبياء و من وافق الحسن قال إن القبضة من أثر الملك كان الله قد أجرى العادة بأنها إذا طرحت على أي صورة كانت حييت فليس ذلك بمعجزة إذ سبيل السامري فيه سبيل غيره و من لم يجز انقلابه حيا تأول الخوار على أن السامري صاغ عجلا و جعل فيه خروقا يدخلها الريح فيخرج منها صوت كالخوار و دعاهم إلى عبادته فأجابوه و عبدوه عن أبي علي الجبائي.

[سورة البقرة (2): آية 52]

ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52)

اللغة

العفو و الصفح و المغفرة و التجاوز نظائر قال ابن الأنباري عفا الله عنك معناه‏

 

 

 

233
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 234

 

محا الله عنك مأخوذ من قولهم عفت الريح الأثر إذا درسته و محته فعفو الله محوه الذنوب عن العبد و قال الرماني أصل العفو الترك و منه قوله‏ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْ‏ءٌ أي ترك فالعفو ترك العقوبة و العفو أحل المال و أطيبه و العفو المعروف و العفاة و المعتفون طلاب المعروف و العافية من الطير و الدواب طلاب الرزق و منه‏

الحديث‏ من غرس شجرة مثمرة فما أكلت العافية منها إلا كتب له صدقة و العافية دفاع الله عن العبد

و العفاء التراب قال زهير:

(على آثار من ذهب العفاء)

 

و الشكر الاعتراف بالنعمة مع ضرب من التعظيم قال الرماني الشكر هو الإظهار للنعمة.

المعنى‏

«ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ» أي وضعنا عنكم العقاب الذي استحققتموه بقبول توبتكم من عبادة العجل‏ «مِنْ بَعْدِ ذلِكَ» أي من بعد اتخاذكم إياه إلها و قيل معناه تركنا معاجلتكم بالعقاب من بعد اتخاذكم العجل إلها «لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» لكي تشكروا الله على عفوه عنكم و سائر نعمه عليكم و قيل معناه التعريض أي عرفناكم للشكر و في هذه الآية دلالة على وجوب شكر النعمة و على أن العفو عن الذنب بعد التوبة نعمة من الله على عباده ليشكروه و معنى قولنا في الله أنه غفور شكور أنه يجازي العبد على طاعاته من غير أن ينقصه شيئا من حقه فجعل المجازاة على الطاعة شكرا في مجاز اللغة و لا يستحق الإنسان الشكر على نفسه لأنه لا يكون منعما على نفسه فالنعمة تقتضي منعما غير المنعم عليه كما أن القرض يقتضي مستقرضا غير المقرض و قد يصح أن يحسن الإنسان إلى نفسه كما يصح أن يسي‏ء إليها لأن الإحسان من الحسن فإذا فعل بها فعلا حسنا ينتفع به كان محسنا إليها بذلك الفعل و إذا فعل بها فعلا قبيحا تستضر به كان مسيئا إليها و لا يستحق الكافر الشكر على الوجه الذي يستحقه المؤمن لأن المؤمن من يستحق الشكر على وجه الإجلال و الإعظام و الكافر لا يستحقه كذلك و إنما يجب له مكافاة نعمته كما يجب قضاء دينه على وجه الخروج منه إليه من غير تعظيم له و الفرق بين الشكر و المكافاة أن المكافاة من التكافي و هو التساوي و ليس كذلك الشكر ففي المكافاة للنعمة دلالة على أنه قد استوفى حقها و قد يكون الشكر مقصرا عنها و إن كان ليس على المنعم عليه أكثر منه إلا أنه كلما ازداد من الشكر حسن الإزدياد و إن لم يكن واجبا لأن الواجب لا يكون إلا متناهيا و ذلك كالشكر لنعمة الله تعالى لو استكثر به غاية الاستكثار لم يكن لينتهي إلى حد لا يجوز له الإزدياد لعظم نعمة الله سبحانه و صغر شكر العبد.

[سورة البقرة (2): آية 53]

وَ إِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَ الْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53)

 

 

 

234
مجمع البيان في تفسير القرآن1

اللغة ..... ص : 235

اللغة

الفرقان مصدر فرقت بين الشيئين الفرق فرقا و فرقانا و يسمى كل فارق فرقانا كما سمي كتاب الله فرقانا لفصله بين الحق و الباطل و سمى الله تعالى يوم بدر الفرقان لأنه فرق في ذلك اليوم بين الحق و الباطل و قال‏ «إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً» أي يفرق بينكم و بين ذنوبكم.

المعنى‏

«وَ» اذكروا «إِذْ آتَيْنا» أي أعطينا «مُوسَى الْكِتابَ» و هو التوراة «وَ الْفُرْقانَ» اختلفوا فيه على وجوه (أحدها) و هو قول ابن عباس إن المراد به التوراة أيضا و إنما عطفه عليه لاختلاف اللفظين كقول عنترة:

(أقوى و أقفر بعد أم الهيثم)

 

و قال عدي بن زيد:

و قددت الأديم لراهشيه و ألفى‏

قولها كذبا و مينا

 

و المين الكذب (و ثانيها) أن الكتاب عبارة عن التوراة و الفرقان انفراق البحر الذي أتاه موسى ع (و ثالثها) أن المراد بالفرقان بين الحلال و الحرام و الفرق بين موسى و أصحابه المؤمنين و بين فرعون و أصحابه الكافرين بأشياء كثيرة منها أنه نجى هؤلاء و أغرق هؤلاء (و رابعها) أن المراد بالفرقان القرآن و يكون تقديره و آتينا موسى التوراة و آتينا محمدا الفرقان فحذف ما حذف لدلالة ما أبقاه عليه كما حذف الشاعر في قوله:

تراه كان الله يجدع أنفه‏

و عينيه إن مولاه كان له وفر

 

يريد و يفقأ عينيه لأن الجدع لا يكون للعينين و اكتفي بيجدع عن يفقأ و قال آخر:

يا ليت بعلك قد غدا

متقلدا سيفا و رمحا

 

أراد و حاملا رمحا و هو قول الفراء و قطرب و ثعلب و ضعف قوم هذا الوجه لأن فيه حمل القرآن على المجاز من غير ضرورة مع أنه تعالى أخبر أنه آتى موسى الفرقان في قوله‏ «وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسى‏ وَ هارُونَ الْفُرْقانَ» و قوله‏ «لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ» أي لكي تهتدوا بما في التوراة من البشارة بمحمد ص و بيان صفته.


235
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 54] ..... ص : 236

[سورة البقرة (2): آية 54]

وَ إِذْ قالَ مُوسى‏ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى‏ بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54)

القراءة

قرأ أبو عمرو بارئكم و يأمركم و ينصركم باختلاس الحركة و روي عنه السكون أيضا و الباقون بغير اختلاف و لا تخفيف.

الحجة

قال أبو علي حروف المعجم على ضربين ساكن و متحرك و الساكن على ضربين (أحدهما) ما أصله السكون في الاستعمال و الآخر ما أصله الحركة فما أصله الحركة يسكن على ضربين (أحدهما) أن تكون حركة بناء و الآخر أن تكون حركة إعراب و حركة البناء تسكن على ضربين (أحدهما) أن يكون الحرف المسكن من كلمة مفردة نحو فخذ و سبع و إبل و ضرب و علم فمن خفف قال فخذ و سبع و إبل و ضرب و علم و الآخر أن يكون من كلمتين فيسكن على تشبيه المنفصل بالمتصل نحو قراءة من قرأ وَ يَخْشَ اللَّهَ وَ يَتَّقْهِ‏ و منه قول العجاج:

(فبات منتصبا و ما تكردسا)

 

أ لا ترى أن تقه من يتقه مثل كتف و منه قول الشاعر:

(قالت سليمى اشتر لنا سويقا)

 

و لا خلاف في تجويز إسكان حركة البناء في نحو ما ذكرناه من قول العرب و النحويين و أما حركة الإعراب فمختلف في تجويز إسكانها فمن الناس من يقول إن إسكانها لا يجوز من حيث كان علما للإعراب و أما سيبويه فيجوز ذلك لا يفصل بين القبيلتين و روي قول امرئ القيس:

فاليوم أشرب غير مستحقب‏

إثما من الله و لا واغل‏

 

و قول الآخر:

(و قد بدا هنك من الميزر)

 

و من هذا النحو قول جرير:

سيروا بني العم فالأهواز منزلكم‏

و نهر تيري و لا تعرفكم العرب‏

 

فشبه ما يدخل على المعرب بما يدخل على المبني كما شبهوا حركات البناء بحركات الإعراب فمن ثم أدغم نحو رد و فر و عض كما أدغموا نحو يرد و يفر و يعض و اعلم أن الحركات التي تكون للبناء و الإعراب قد يستعملون في الضمة و الكسرة منها الاختلاس و التخفيف كما يستعملون الإشباع و التمطيط فأما الفتحة فليس فيها الإشباع فقط و لم يخفف نحو جبل كما خفف مثل سبع و كتف و على هذا المذهب حمل سيبويه قول أبي عمرو إلى بارئكم فذهب إلى أنه اختلس الحركة و لم يشبعها فهو بزنة حرف متحرك فمن‏


236
مجمع البيان في تفسير القرآن1

اللغة ..... ص : 237

روي عن أبي عمرو الإسكان في هذا النحو فلعله سمعه يختلس فحسبها إسكانا لضعف الصوت به و الخفاء و على هذا قوله و لا يأمركم و غيره.

اللغة

البارئ هو الخالق الصانع و برأ الله الخلق يبرؤهم برءا أي خلقهم قال أمية ابن أبي الصلت:

الخالق البارئ المصور في الأرحام‏

ماء حتى يصير دما

 

و الفرق بين البارئ و الخالق أن البارئ هو المبدئ المحدث و الخالق هو المقدر الناقل من حال إلى حال و برأ من المرض يبرأ برءا فهو بارئ و البراءة من العيب و المكروه لا يقال منه إلا بري‏ء بالكسر و فاعله بري‏ء و رجل براء بمعناه و امرأة براء و نسوة براء و أما قوله‏ إِنَّا بُرَآؤُا فهو جمع بري‏ء و أصل الباب انفصال الشي‏ء من الشي‏ء و منه برأ الله الخلق أي فطرهم كأنهم انفصلوا من العدم إلى الوجود و البرية فعيلة بمعنى مفعول و لا تهمز كما لا يهمز ملك و إن كان أصله الهمزة و قيل البرية مشتقة من البري و هو التراب فلذلك لم يهمز و قيل مأخوذة من بريت العود فذلك لم يهمز و القتل و الذبح و الموت نظائر و الفرق بينهما أن القتل نقض بنية الحياة و الذبح فري الأوداج و الموت عند من أثبته عرض يضاد الحياة و القتل العدو و جمعه أقتال و القتال النفس و ناقة ذات قتال إذا كانت وثيقة و قتلت الشي‏ء علما إذا أيقنته و تحققته و في المثل قتلت أرض جاهلها و قتل أرضا عالمها و تقتلت الجارية للفتى حتى عشقها كأنها خضعت له قال:

تقتلت لي حتى إذا ما قتلتني‏

تنسكت ما هذا بفعل النواسك‏

 

. الإعراب‏

«يا قَوْمِ» القراءة بكسر الميم و هو الاختيار لأنه منادى مضاف و الندا باب حذف فحذف الياء لأنه حرف واحد و هو في آخر الاسم كما أن التنوين في آخره و بقيت الكسرة تدل عليه و لما كان ياء الإضافة قد تحذف في غير النداء لزم حذفه في النداء و يجوز في الكلام أربعة وجوه‏ «يا قَوْمِ» كما قرئ و لا يجوز غيره في القرآن لأن القراءة سنة متبعة و يجوز يا قومي إنكم بإثبات الياء و إسكانه و يجوز يا قومي بإثبات الياء و تحريكه فهذه ثلاثة أوجه في الإضافة و يجوز يا قوم على أنه منادى مفرد و أما قوله‏ «يا لَيْتَ قَوْمِي» فإن الياء ثبتت فيه لأنه لم يلحقه ما يوجب حذفه كما لحق في النداء.


237
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 238

المعنى‏

«وَ» اذكروا «إِذْ قالَ مُوسى‏ لِقَوْمِهِ» الذين عبدوا العجل عند رجوعه إليهم‏ «يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ» أي أضررتم بأنفسكم و وضعتم العبادة غير موضعها «بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ» معبودا و ظلمهم إياها فعلهم بها ما لم يكن لهم أن يفعلوه مما يستحق به العقاب و كذلك كل من فعل فعلا يستحق به العقاب فهو ظالم لنفسه‏ «فَتُوبُوا إِلى‏ بارِئِكُمْ» أي ارجعوا إلى خالقكم و منشئكم بالطاعة و التوحيد و جعل توبتهم الندم مع العزم و قتل النفس جميعا و هنا إضمار باختصار كأنه لما قال لهم‏ «فَتُوبُوا إِلى‏ بارِئِكُمْ» قالوا كيف قال‏ «فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ» أي ليقتل بعضكم بعضا بقتل البري‏ء المجرم عن ابن عباس و سعيد بن جبير و مجاهد و غيرهم و هذا كقوله سبحانه‏ «فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى‏ أَنْفُسِكُمْ» أي ليسلم بعضكم على بعض و قيل معناه استسلموا للقتل فجعل استسلامهم للقتل قتلا منهم لأنفسهم على وجه التوسع عن ابن إسحاق و اختاره الجبائي و اختلفوا في المأمور بالقتل فروي أن موسى أمرهم أن يقوموا صفين فاغتسلوا و لبسوا أكفانهم و جاء هارون باثني عشر ألفا ممن لم يعبدوا العجل و معهم الشفار المرهفة و كانوا يقتلونهم فلما قتلوا سبعين ألفا تاب الله على الباقين و جعل قتل الماضين شهادة لهم و قيل أن السبعين الذين كانوا مع موسى في الطور هم الذين قتلوا ممن عبد العجل سبعين ألفا و قيل أنهم قاموا صفين فجعل يطعن بعضهم بعضا حتى قتلوا سبعين ألفا و قيل غشيتهم ظلمة شديدة فجعل بعضهم يقتل بعضا ثم انجلت الظلمة فأجلوا عن سبعين ألف قتيل و روي أن موسى و هارون وقفا يدعوان الله و يتضرعان إليه و هم يقتل بعضهم بعضا حتى نزل الوحي برفع القتل و قبلت توبة من بقي و ذكر ابن جريج أن السبب في أمرهم بقتل أنفسهم أن الله تعالى علم أن ناسا منهم ممن لم يعبد العجل لم ينكروا عليهم ذلك مخافة القتل مع علمهم بأن العجل باطل فذلك ابتلاهم الله بأن يقتل بعضهم بعضا و إنما امتحنهم الله تعالى بهذه المحنة العظيمة لكفرهم بعد الدلالات و الآيات العظام و قال الرماني لا بد أن يكون في الأمر بالقتل لطف لهم و لغيرهم كما يكون في استسلام القاتل لطف له و لغيره فإن قيل كيف يكون في قتلهم نفوسهم لطف لهم و لا تكليف عليهم بعد القتل و اللطف لا يكون لطفا فيما مضى و لا فيما يقارنه فالجواب أن القوم إذا كلفوا أن يقتل بعضهم بعضا فكل واحد منهم يقصد قتل غيره و يجوز أن يبقى بعده فيكون القتل لطفا له فيما بعد و لو كان بمقدار زمان يفعل فيه واجبا أو يمتنع عن قبيح و هذا كما تقول في عباداتنا بقتال المشركين و أن الله تعبدنا بأن نقاتل حتى‏


238
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 55] ..... ص : 239

نقتل أو نقتل و مدحنا على ذلك و كذلك روى أهل السير أن الذين عبدوا العجل تعبدوا بأن يصبروا على القتل حتى يقتل بعضهم بعضا فكان القتل شهادة لمن قتل و توبة لمن بقي و إنما تكون شبهة لو أمروا بأن يقتلوا نفوسهم بأيديهم و لو صح ذلك لم يمتنع أن يكونوا أمروا بأن يفعلوا بنفوسهم الجراح التي تفضي إلى الموت و إن لم يزل معها العقل فينا في التكليف و أما على القول الآخر أنهم أمروا بالاستسلام للقتل و الصبر عليه فلا مسألة لأنهم ما أمروا بقتل نفوسهم فعلى هذا يكون قتلهم حسنا لأنه لو كان قبيحا لما أمروا بالاستسلام له و لذلك نقول لا يجوز أن يتعبد نبي و لا إمام بأن يستسلم للقتل مع قدرته على الدفع عن نفسه فلا يدفعه لأن في ذلك استسلاما للقبيح مع القدرة على دفعه و ذلك لا يجوز و إنما كان يقع قتل الأنبياء و الأئمة ع على وجه الظلم و ارتفاع التمكن من المنع غير أنه لا يمتنع من أن يتعبد بالصبر على الدفاع و تحمل المشقة في ذلك و إن قتله غيره ظلما و القتل و إن كان قبيحا بحكم العقل فهو مما يجوز تغيره بأن يصير حسنا لأنه جار مجرى سائر الآلام و ليس يجري ذلك مجرى الجهل و الكذب في أنه لا يصير حسنا قط و وجه الحسن في القتل أنه لطف على ما قلناه و أيضا فكما يجوز من الله تعالى أن يميت الحي فكذلك يجوز أن يأمرنا بإماتته و يعوضه على الآلام التي تدخل عليه و يكون فيه لطف على ما ذكرناه و قوله‏ «ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ» إشارة إلى التوبة مع القتل لأنفسهم على ما أمرهم الله به بدلالة قوله‏ «فَتُوبُوا إِلى‏ بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ» فقوله‏ «فَتُوبُوا» دال على التوبة فكأنها مذكورة و قوله‏ «فَاقْتُلُوا» دال على القتل فكأنه قال أن التوبة و قتل النفس في مرضاة الله كما أمركم به و إن كان فيه مشقة عظيمة خير لكم عند خالقكم من إيثار الحياة الدنيا لأن الحياة الدنيا لا تبقى بل تفنى و تحصلون بعد الحياة على عذاب شديد و إذا قتلتم أنفسكم كما أمركم الله به زالت مشقة القتل عن قريب و بقيتم في نعيم دائم لا يزول و لا يبيد و كرر ذكر بارئكم تعظيما لما أتوا به مع كونه خالقا لهم و قوله‏ «فَتابَ عَلَيْكُمْ» هاهنا إضمار تقديره ففعلتم ما أمرتم به فتاب عليكم أو فقتلتم أنفسكم فتاب عليكم أي قبل توبتكم‏ «إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ» أي قابل التوبة عن عباده مرة بعد مرة و قيل معناه قابل التوبة عن الذنوب العظام‏ «الرَّحِيمُ» يرحمكم إذا تبتم و يدخلكم الجنة و في هذه الآية دلالة على أنه يجوز أن يشترط في التوبة سوى الندم ما لا يصح التوبة إلا به كما أمروا بالقتل.

[سورة البقرة (2): آية 55]

وَ إِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى‏ لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55)


239
مجمع البيان في تفسير القرآن1

اللغة ..... ص : 240

اللغة

«لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ» أي لن نصدقك يقال آمن به و آمن له بدلالة قول تعالى‏ «قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ» و في موضع آخر آمنتم له و الرؤية الإدراك بالبصر ثم يستعمل بمعنى العلم يقال رأى ببصره رؤية و رأى من الرأي رأيا و رأيت رؤيا حسنة و الرواء المنظر في البهاء و الجمال و المرآة التي ينظر فيها و جمعها المرائي و تراءيت بالمرآة إذا نظرت فيها و جاء

في الحديث‏ لا و يتراءى أحدكم بالماء

أي لا ينظر فيه و تراءى القوم إذا رأى بعضهم بعضا و تراءى فلان لفلان إذا تصدى له ليراه و يحذفون الهمزة من رأيت في كل كلمة تكون راؤها ساكنة تقول رأيت أرى و الأصل أرأى و أريته فلانا أريه فأنا مري و هو مري و الأصل أ رأيته أرايه و أثبتوها في موضعين مرئي و أرأت الناقة و الشاة إذا عرف في لون ضرعها أنها قد أقربت و الرأي حسن الشارة و الهيأة قال جرير:

و كل قوم لهم رأي و مختبر

و ليس في تغلب رأي و لا خبر

 

و الجهر و العلامة و المعاينة نظائر يقال جهر بكلامه و بقراءته جهرا إذا أعلن و رجل جهير ذو رواء و كلام جهير و صوت جهير أي عال و الفعل منه جهر جهارة و جهرني الرجل أي راعني جماله و ضد الجهر السر و أصل الباب الظهور و حقيقة الجهر ظهور الشي‏ء معاينة و الفرق بين الجهر و المعاينة أن المعاينة ترجع إلى حال المدرك و الجهرة ترجع إلى حال المدرك و قد تكون الرؤية غير جهرة كالرؤية في النوم و الرؤية بالقلب فإذا قال جهرة لم يكن إلا رؤية العين على التحقيق دون التخييل و الصاعقة على ثلاثة أوجه (أحدها) نار تسقط من السماء كقوله‏ «وَ يُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ» (و الثاني) الموت في قوله‏ «فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ» و قوله‏ «فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ» و (الثالث) العذاب في قوله‏ «أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَ ثَمُودَ».

الإعراب‏

«حَتَّى نَرَى» حتى بمعنى إلى و هي الجارة للاسم و انتصب نرى بعدها بإضمار أن كما ينتصب الفعل بعد اللام بإضمار أن و أن مع الفعل في تأويل المصدر و في موضع جر بحتى ثم أن الجار و المجرور في موضع نصب بأنه مفعول لن نؤمن و جهرة مصدر وضع موضع الحال.

المعنى‏

«وَ إِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى‏ لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ» أي لن نصدقك في قولك إنك نبي مبعوث‏ «حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً» أي علانية فيخبرنا بأنك نبي مبعوث و قيل معناه أنا لا نصدقك فيما تخبر به من صفات الله تعالى و ما يجوز عليه و ما لا يجوز عليه حتى نرى الله جهرة أي علانية و عيانا فيخبرنا بذلك و قيل أنه لما جاءهم بالألواح و فيها التوراة قالوا لن‏


240
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 56] ..... ص : 241

نؤمن بأن هذا من عند الله حتى نراه عيانا و قال بعضهم إن قوله‏ «جَهْرَةً» صفة لخاطبهم لموسى أنهم جهروا به و أعلنوه و تقديره و إذا قلتم جهرة لن نؤمن لك حتى نرى الله و الأول أقوى‏ «فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ» أي الموت‏ «وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ» إلى أسباب الموت و قيل إلى النار و إنما قرع الله سبحانه اليهود بسؤال أسلافهم الرؤية من حيث أنهم سلكوا طريقتهم في المخالفة للنبي الذي لزمهم اتباعه و التصديق بجميع ما أتى به فجروا على عادة أسلافهم الذين كانوا يسألون تارة نبيهم أن يجعل لهم إلها غير الله و مرة يعبدون العجل من دون الله و طورا يقولون‏ «لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً» و استدل أبو القاسم البلخي بهذه الآية على أن الرؤية لا تجوز على الله تعالى قال لأنها إنكار تضمن أمرين ردهم على نبيهم و تجويزهم الرؤية على ربهم و يؤيد ذلك قوله تعالى‏ «فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى‏ أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً» فدل ذلك على أن المراد إنكار الأمرين و تدل هذه الآية أيضا على أن قول موسى‏ «رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ» كان سؤالا لقومه لأنه لا خلاف بين أهل التوراة أن موسى ع لم يسأل الرؤية إلا دفعة واحدة و هي التي سألها لقومه.

[سورة البقرة (2): آية 56]

ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56)

اللغة

البعث إثارة الشي‏ء من محله و منه يقال بعث فلان راحلته إذا أثارها من مبركها للسير و بعثت فلانا لحاجتي إذا أقمته من مكانه الذي هو فيه للتوجيه إليها و منه يقال ليوم القيامة يوم البعث لأنه يوم يثار الناس فيه من قبورهم لموقف الحساب و بعثته من نومه فانبعث أي نبهته فانتبه و البعث الجند يبعثون إلى وجه أو في أمر و أصل البعث الإرسال.

المعنى‏

«ثُمَّ بَعَثْناكُمْ» أي ثم أحييناكم‏ «مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ» لاستكمال آجالكم عن الحسن و قتادة و قيل أنهم سألوا بعد الإفاقة أن يبعثوا أنبياء فبعثهم الله أنبياء عن السدي فيكون معناه بعثناكم أنبياء و أجمع المفسرون إلا شرذمة يسيرة إن الله لم يكن أمات موسى كما أمات قومه و لكن غشي عليه بدلالة قوله‏ فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ‏ و الإفاقة إنما تكون من الغشيان و قوله‏ «لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» أي لكي تشكروا الله على نعمه التي منها رده الحياة إليكم و في هذا إثبات لمعجزة نبينا محمد ص و احتجاج على مشركي العرب الذين كانوا غير مؤمنين بالبعث لأنه كان يذكر لهم من أخبار الذين بعثهم الله في الدنيا فكان يوافقه على ذلك من يخالفه من اليهود و النصارى و يجب أن يكون هؤلاء القوم و إن أماتهم الله ثم أحياهم غير مضطرين إلى معرفة الله عند موتهم كما يضطر الواحد منا اليوم إلى‏


241
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 57] ..... ص : 242

 

معرفته عند الموت بدليل أن الله أعادهم إلى التكليف و المعرفة في دار التكليف لا تكون ضرورية بل تكون مكتسبة و لكن موتهم إنما كان في حكم النوم فأذهب الله عنهم الروح من غير مشاهدة منهم لأحوال الآخرة و ليس في الإحياء بعد الإماتة ما يوجب الاضطرار إلى المعرفة لأن العلم بأن الإحياء بعد الإماتة لا يقدر عليه غير الله طريقه الدليل و ليس الإحياء بعد الإماتة إلا قريبا من الانتباه بعد النوم و الإفاقة بعد الإغماء في أن ذلك لا يوجب علم الاضطرار و استدل قوم من أصحابنا بهذه الآية على جواز الرجعة و قول من قال إن الرجعة لا تجوز إلا في زمن النبي ص ليكون معجزا له و دلالة على نبوته باطل لأن عندنا بل عند أكثر الأمة يجوز إظهار المعجزات على أيدي الأئمة و الأولياء و الأدلة على ذلك مذكورة في كتب الأصول و قال أبو القاسم البلخي لا تجوز الرجعة مع الإعلام بها لأن فيها إغراء بالمعاني من جهة الاتكال على التوبة في الكرة الثانية و جوابه أن من يقول بالرجعة لا يذهب إلى أن الناس كلهم يرجعون فيصير إغراء بأن يقع الاتكال على التوبة فيها بل لا أحد من المكلفين إلا و يجوز أن لا يرجع و ذلك يكفي في باب الزجر.

[سورة البقرة (2): آية 57]

وَ ظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَ السَّلْوى‏ كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَ ما ظَلَمُونا وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57)

اللغة

الظلة الغمامة و السترة نظائر يقال ظللت تظليلا و الظل ضد الضح و نقيضه و ظل الشجرة سترها و لا أزال الله عنا ظل فلان أي ستره و يقال لسواد الليل ظل لأنه يستر الأشياء قال الله تعالى‏ أَ لَمْ تَرَ إِلى‏ رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَ‏ و الغمام السحاب و القطعة منها غمامة و إنما سمي غماما لأنه يغم السماء أي يسترها و كل ما يستر شيئا فقد غمه و قيل هو ماء أبيض من السحاب و الغمة الغطاء على القلب من الغم و فلان في غمة من أمره إذا لم يهتد له و المن الإحسان إلى من لا يستثيبه و الاسم المنة و الله تعالى هو المنان علينا و الرحيم بنا و المن قطع الخير و منه قوله‏ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ‏ أي غير مقطوع و المنة قوة القلب و فلان ضعيف المنة و أصل الباب الإحسان فالمن الذي كان يسقط على بني إسرائيل هو مما من الله به عليهم أي أحسن به إليهم و السلوى طائر كالسمانى قال الأخفش هو للواحد و الجمع كقولهم دفلى و قال الخليل واحده سلواة قال:

كما انتفض السلواة من بلل القطر

 

قال الزجاج‏

 

 

 

242
مجمع البيان في تفسير القرآن1

الإعراب ..... ص : 243

غلط خالد بن زهير في قوله:

و قاسمها بالله جهدا لأنتم‏

ألذ من السلوى إذا ما نشورها

 

فظن أن السلوى العسل و إنما هو طائر قال أبو علي الفارسي و قرئ على الزجاج في مصنف أبي عبيد أنه العسل قال و الذي عندي فيه أن السلوى كأنه ما يسلي عن غيره لفضيلة فيه من فرط طيبه أو قلة معاناة و علاج في اقتنائه فالعسل لا يمتنع أن يسمى سلوى لجمعه الأمرين كما سمي الطائر الذي كان يسقط مع المن به و يقال سلا فلان عن فلان يسلو سلوا إذا تسلى عنه و فلان في سلوة من العيش إذا كان في رغد يسليه الهم و السلوان ماء من شربه ذهب همه فيما زعموا قال:

لو أشرب السلوان ما سليت‏

 

. الإعراب‏

موضع‏ «كُلُوا» نصب بمحذوف كأنه قال و قلنا لهم كلوا و موضع‏ «السَّلْوى‏» نصب لأنه معطوف على المن و قوله‏ «وَ ما ظَلَمُونا» إنما يتصل بما قبله أيضا بتقدير محذوف كأنه قال فخالفوا ما أمروا به و كفروا هذه النعمة و ما ظلمونا.

المعنى‏

«وَ ظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ» أي جعلنا لكم الغمام ظلة و سترة تقيكم حر الشمس في التيه عن جماعة المفسرين‏ «وَ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ» فيه وجوه (أحدها) أنه المن الذي يعرفه الناس يسقط على الشجر عن ابن عباس و (ثانيها) أنه شي‏ء كالصمغ كان يقع على الأشجار و طعمه كالشهد و العسل عن مجاهد و (ثالثها) أنه الخبز المرقق عن وهب و (رابعها) أنه جميع النعم التي أتتهم مما من الله به عليهم مما لا تعب فيه و لا نصب و

روي عن النبي ص أنه قال‏ الكمأة من المن و ماؤها شفاء للعين‏

«وَ السَّلْوى‏» قيل هو السمانى و قيل هو طائر أبيض يشبه السمانى عن ابن عباس و قوله‏ «كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ» معناه قلنا لهم كلوا من الشي‏ء اللذيذ و قيل المباح الحلال و قيل المباح الذي يستلذ أكله الذي رزقناكم أي أعطيناكم و جعلناه رزقا لكم و قوله‏ «وَ ما ظَلَمُونا» أي فكفروا هذه النعمة و ما نقصونا بكفرانهم أنعمنا «وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» أي يسمون و قيل معناه و ما ضرونا و لكن كانوا أنفسهم يضرون و هذا يدل على أن الله تعالى لا ينفعه طاعة من أطاعه و لا يضره معصية من عصاه و إنما تعود منفعة الطاعة إلى المطيع و مضرة المعصية إلى العاصي.


243
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[القصة] ..... ص : 244

 

[القصة]

و كان سبب إنزال المن و السلوى عليهم أنه لما ابتلاهم الله بالتيه إذ قالوا لموسى‏ فَاذْهَبْ أَنْتَ وَ رَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ‏ حين أمرهم بالمسير إلى بيت المقدس و حرب العمالقة بقوله‏ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ فوقعوا في التيه فصاروا كلما ساروا تاهوا في قدر خمسة فراسخ أو ستة فكلما أصبحوا ساروا غادين فأمسوا فإذا هم في مكانهم الذي ارتحلوا منه كذلك حتى تمت المدة و بقوا فيها أربعين سنة و في التيه توفي موسى و هارون ثم خرج يوشع بن نون و قيل كان الله تعالى يرد الجانب الذي انتهوا إليه من الأرض إلى الجانب الذي ساروا منه فكانوا يضلون عن الطريق لأنهم كانوا خلقا عظيما فلا يجوز أن يضلوا كلهم عن الطريق في هذه المدة المديدة في هذا المقدار من الأرض و لما حصلوا في التيه ندموا على ما فعلوا فألطف الله لهم بالغمام لما شكوا حر الشمس و أنزل عليهم المن و السلوى فكان يسقط عليهم المن من وقت طلوع الفجر إلى طلوع الشمس فكانوا يأخذون منها ما يكفيهم ليومهم و

قال الصادق ع‏ كان ينزل المن على بني إسرائيل من بعد الفجر إلى طلوع الشمس فمن نام في ذلك الوقت لم ينزل نصيبه فلذلك يكره النوم في هذا الوقت إلى بعد طلوع الشمس‏

قال ابن جرير و كان الرجل منهم إذا أخذ من المن و السلوى زيادة على طعام يوم واحد فسد إلا يوم الجمعة فإنهم إذا أخذوا طعام يومين لم يفسد و كانوا يأخذون منها ما يكفيهم ليوم الجمعة و السبت لأنه كان لا يأتيهم يوم السبت و كانوا يخبزونه مثل القرصة و يوجد له طعم كالشهد المعجون بالسمن و كان الله تعالى يبعث لهم السحاب بالنهار فيدفع عنهم حر الشمس و كان ينزل عليهم في الليل من السماء عمود من نور يضي‏ء لهم مكان السراج و إذا ولد فيهم مولود يكون عليه ثوب يطول بطوله كالجلد.

[سورة البقرة (2): آية 58]

وَ إِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَ قُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58)

القراءة

قرأ أبو جعفر و نافع يغفر بالياء مضمومة و الباقون‏ «نَغْفِرْ لَكُمْ» بالنون و هو الاختيار لأنه أشبه بما تقدم من قوله‏ وَ ظَلَّلْنا وَ أَنْزَلْنا و لأن أكثر القراء عليه و أجمع القراء على‏

 

 

 

244
مجمع البيان في تفسير القرآن1

اللغة ..... ص : 245

إظهار الراء عند اللام إلا ما روي عن أبي عمرو و في رواية اليزيدي الاستجادة من إدغام الراء في اللام و اتفق القراء على‏ «خَطاياكُمْ» هنا و إن اختلفوا في الأعراف و نوح فقرأ بعضهم هناك خطيئاتهم و ذلك لأن اللتين في الأعراف و نوح كتبتا في المصحف بغير ألف و هاهنا كتبت بالألف.

اللغة

الدخول و الولوج و الاقتحام نظائر و الفرق بين الدخول و الاقتحام أن الاقتحام دخول على صعوبة و في الأمر دخل أي فساد و دخل أمره إذا فسد و فلان دخيل في بني فلان إذا كان من غيرهم و أطلعته على دخلة أمري إذا بثثته مكتومك و فلان مدخول إذا كان في عقله أو في حسبه دخل و القرية و البلدة و المدينة نظائر قال أبو العباس و أصله الجمع و قريت الماء في الحوض أقريه قريا و قريت الضيف أقريه قرى و المقراة الجفنة التي يعد فيها الطعام للأضياف قال:

عظام المقاري جارهم لا يفزع‏

 

و قال الخليل القرية و القرية لغتان و الكسر لغة يمانية و القرى الظهر من كل شي‏ء و جمعه الأقراء و السجود شدة الانحناء و منه السجد من النساء و هن الفاترات الأعين قال الشاعر:

و لهوي إلى حور المدامع سجد

 

و قال الآخر:

ترى الأكم فيها سجدا للحوافر

 

و حطة مصدر مثل ردة و جدة من رددت و جددت قال الخليل الحط وضع الأحمال عن الدواب و الحط و الوضع و الخفض نظائر و الحط الحدر من العلو قال امرئ القيس:

كجلمود صخر حطه السيل من عل‏

 

و جارية محطوطة المتنين ممدودة حسنة و الغفران و العفو و الصفح نظائر يقال غفر الله له غفرانا أي ستر الله على ذنوبه و الغفر التغطية و ثوب ذو غفر إذا كان له زتبر يستر نسجه و يقال المغفر لتغطيته العنق و الغفيرة و المغفرة بمعنى و الغفارة خرقة تلف على سية القوس و المغفور و المغفار صمغ العرفط و أغفر الشجر إذا ظهر ذلك فيه و منه‏

الحديث‏ أنه ص دخل على عائشة فقالت يا رسول الله أكلت مغافير

يعني هذا الصمغ و منهم من يقول مغاثير كما قيل جدث و جدف و يقال جاءوا و الجماء الغفير و جاءوا جما غفيرا و جماء الغفير أي مجتمعين جمعا يغطي الأرض و الغفر ولد الأروية لأنه يأوي الجبال و يتستر عن الناس و يقال أصبغ ثوبك فإنه أغفر للوسخ أي أستر له و أصل الباب الستر و حد المغفرة ستر الخطيئة برفع العقوبة و الخطيئة و الزلة و المعصية نظائر يقال خطأ الشي‏ء خطأ إذا لم يرده و أصابه و أخطأه إخطاء إذا أراده فلم يصبه و الأول خاطئ و الثاني مخطئ و الخطيئات جمع‏


245
مجمع البيان في تفسير القرآن1

الإعراب ..... ص : 246

خطيئة مثل صحيفات جمع صحيفة و سفينات جمع سفينة و الخطايا أيضا جمع خطيئة و المحسن الفاعل للإحسان أو الفاعل للحسن يقال أحسن إلى غيره و أحسن في فعله و الفرق بينهما أن أحسن إليه لا يقال إلا في النفع فلا يقال أحسن الله إلى أهل النار بتعذيبهم و يقال أحسن في تعذيبهم بالنار بمعنى أحسن في فعله و تدبيره و يقال امرأة حسناء و لا يقال رجل أحسن و حد الحسن و من طريق الحكمة هو الفعل الذي يدعو إليه العقل و ضده القبيح و هو فعل الذي يزجر عنه العقل و حد الإحسان هو النفع الحسن و حد الإساءة هو الضرر القبيح و هذا إنما يصح على مذهب من يقول إن الإنسان يكون محسنا إلى نفسه و مسيئا إليها و من لم يذهب إليه يزيد فيه الواصل إلى الغير مع قصده إلى ذلك و الأولى في حد الحسن أن يقال هو الفعل الذي إذا فعله العالم به على وجه لم يستحق الذم.

الإعراب‏

حيث ظرف مكان مبني على الضم و ذكرنا في بنائه فيما قبل و الجملة بعده في تقدير المضاف إليه و مما يسأل فيه أن يقال كيف بني على الضم و هو مضاف إلى الجملة على التشبيه بما حذف منه الإضافة و هو قبل و بعد و جوابه أن حيث مع إضافته إلى الجملة لا يمتنع أن يكون شبه قبل و نحوه قائما فيه لأنه قد منع الإضافة إلى المفرد و إن كان قد أضيف إلى الجملة و حق الإضافة أن تقع إلى المفرد و إذا كان كذلك فكان المضاف إليه محذوف منه كقبل و بعد هذا على قول من بناه على الضم و من بناه على غير الضم فقال حيث فلا يدخل عليه هذا السؤال و لا يجوز في القرآن إلا الضم و أما حطة فإنما ارتفع على الحكاية و قال الزجاج تقديره مسألتنا حطة أي حط ذنوبنا عنا و قيل تقديره دخولنا الباب سجدا حطة لذنوبنا و لو جاز قراءته بالنصب لكان وجهه في العربية حط عنا ذنوبنا حطة كما يقال سمعا و طاعة أي أسمع سمعا و أطيع طاعة و معاذ الله أي نعوذ بالله معاذا و قوله‏ «نَغْفِرْ لَكُمْ» مجزوم لأنه جواب الأمر و إنما انجزم بالشرط فإن المعنى أن تقولوا نغفر لكم فحذف الشرط لدلالة الجزاء عليه و وقوع الأمر في الكلام و طوله به و حسن حذفه معه لأنه صار كالمعاقب له من حيث اجتمعا في أنهما غير موجبين و غير خبرين و هذا كما يحذف المبتدأ لدلالة الخبر عليه و قد يحذف الجزاء أيضا لدلالة الشرط عليه في نحو قولهم أنت ظالم إن فعلت كما يحذف خبر المبتدأ لدلالة المبتدأ عليه قال سيبويه كان أصل خطايا خطائي مثل خطائع فأبدل من الياء همزة فصار خطائي مثل خطاعع فتجتمع همزتان فقلبت‏


246
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 247

الثانية ياء فصار خطائي مثل خطاعي ثم قلبت الياء و الكسرة إلى الألف و الفتحة فقيل خطاء مثل خطاعا كما فعل بمداري فقيل مدارى ثم استثقل همزة بين ألفين لأن الهمزة مجانسة للألفات فكان كأنما اجتمعت ثلاث ألفات فأبدلت الهمزة ياء فقيل خطايا و قال الخليل أصل خطايا فعايل فقلبت إلى فعالي ثم قلب بعد على ما تبينت في المذهب الأول و إنما أعل هذا الإعلال لأن الهمزة التي بعد الألف عارضة غير أصلية و تقول في جمع مرآة مرائي فلا تعل لأن الهمزة عين الفعل.

المعنى‏

أجمع المفسرون على أن المراد بالقرية هاهنا بيت المقدس و يؤيده قوله في موضع آخر ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ و قال ابن زيد أنها أريحا قرية قرب بيت المقدس و كان فيها بقايا من قوم عاد و هم العمالقة و رأسهم عوج بن عنق يقول اذكروا «إِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ» أي أين شئتم‏ «رَغَداً» أي موسعا عليكم مستمتعين بما شئتم من طعام القرية بعد المن و السلوى و قد قيل أن هذه إباحة لهم منه لغنائمها و تملك أموالها إتماما للنعمة عليهم‏ «وَ ادْخُلُوا الْبابَ» يعني الباب الذي أمروا بدخوله و قيل هو باب حطة من بيت المقدس و هو الباب الثامن عن مجاهد و قيل باب القبة التي كان يصلي إليها موسى و بنو إسرائيل و قال قوم هو باب القرية التي أمروا بدخولها قال أبو علي الجبائي و الآية على قول من يزعم أنه باب القبة أدل منها على قول من يزعم أنه باب القرية لأنهم لم يدخلوا القرية في حياة موسى و آخر الآية يدل على أنهم كانوا يدخلون هذا الباب على غير ما أمروا به في أيام موسى لأنه قال‏ «فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ» و العطف بالفاء التي هي للتعقيب من غير تراخ يدل على أن هذا التبديل منهم كان في إثر الأمر فدل ذلك على أنه كان في حياة موسى و قوله‏ «سُجَّداً» قيل معناه ركعا و هو شدة الانحناء عن ابن عباس و قال غيره أن معناه ادخلوا خاضعين متواضعين يدل عليه قول الأعشى:

يراوح من صلوات المليك‏

طورا سجودا و طورا جؤارا

 

و قيل معناه ادخلوا الباب فإذا دخلتموه فاسجدوا لله سبحانه شكرا عن وهب و قوله‏ «حِطَّةٌ» قال الحسن و قتادة و أكثر أهل العلم معناه حط عنا ذنوبنا و هو أمر بالاستغفار و قال ابن عباس أمروا أن يقولوا هذا الأمر حق و قال عكرمة أمروا أن يقولوا لا إله إلا الله لأنها تحط الذنوب و كل واحد من هذه الأقوال مما يحط الذنوب فيصح أن يترجم عنه بحطة و

روي عن الباقر (ع) أنه قال‏ نحن باب حطتكم‏

و قوله‏ «نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ» أي نصفح‏


247
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 59] ..... ص : 248

و نعف عن ذنوبكم‏ «وَ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ» أي و سنزيدهم على ما يستحقونه من الثواب تفضلا كقوله تعالى‏ «لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَ يَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ» و قيل أن المراد به أن يزيدهم الإحسان على ما سلف من الإحسان بإنزال المن و السلوى و تظليل الغمام و غير ذلك.

[سورة البقرة (2): آية 59]

فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (59)

اللغة

التبديل تغيير الشي‏ء إلى غير حاله و الرجز بكسر الراء العذاب في لغة أهل الحجاز و هو غير الرجس لأن الرجس النتن و

قال النبي ص‏ في الطاعون أنه رجز عذب به بعض الأمم قبلكم‏

و قال أبو عبيدة الرجس و الرجز لغتان مثل البزاق و البساق و الزرع و السرع و الرجز بضم الراء عبادة الأوثان و فسق يفسق و الضم أشهر و عليه القراءة و معنى الفسق في اللغة الخروج من العقيدة و كل من خرج عن شي‏ء فقد فسق إلا أنه في الشرع مخصوص بالخروج عن أمر الله تعالى أو طاعته.

الإعراب‏

«غَيْرَ الَّذِي» انتصب غير بأنه صفة لقول واصل غير أن يكون صفة تجري مجرى مثل و إذا أضيفا إلى المعارف لم يتعرفا لما فيها من الإبهام لأن مثل الشي‏ء يكون على وجوه كثيرة و كذلك غير الشي‏ء يكون أشياء كثيرة غير مختلفة.

المعنى‏

ثم بين سبحانه أنهم قد عصوا فيما أمروا به فقال‏ «فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ» أي فخالف الذين عصوا و الذين فعلوا ما لم يكن لهم أن يفعلوه و غيروا ما أمروا به فقالوا غير ذلك و اختلف في ذلك الغير فقيل أنهم قالوا بالسريانية هاطا سماقاتا و قال بعضهم حطا سماقاتا و معناه حنطة حمراء فيها شعيرة و كان قصدهم في ذلك الاستهزاء و مخالفة الأمر و قيل أنهم قالوا حنطة تجاهلا و استهزاء و كانوا قد أمروا أن يدخلوا الباب سجدا و طؤطى‏ء لهم الباب ليدخلوه كذلك فدخلوه زاحفين على أستاههم فخالفوا في الدخول أيضا و قوله‏ «فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا» أي فعلوا ما لم يكن لهم فعله من تديلهم ما أمر الله به بالقول و الفعل‏ «رِجْزاً» أي عذابا «مِنَ السَّماءِ» عن ابن عباس و قتادة و الحسن‏ «بِما كانُوا يَفْسُقُونَ» أي بكونهم فاسقين أو بفسقهم كقوله‏ «ذلِكَ بِما عَصَوْا» أي بعصيانهم و قال ابن زيد أهلكوا بالطاعون فمات منهم في ساعة واحدة أربعة و عشرون ألفا من كبرائهم و شيوخهم و بقي الأبناء فانتقل عنهم العلم و العبادة كأنه يشير إلى أنهم‏


248
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 60] ..... ص : 249

عوقبوا بإخراج الأفاضل من بينهم.

[سورة البقرة (2): آية 60]

وَ إِذِ اسْتَسْقى‏ مُوسى‏ لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَ اشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَ لا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60)

اللغة

الاستسقاء طلب السقيا و يقال سقيته و أسقيته بمعنى و قيل سقيته من سقي الشفة و أسقيته دللته على الماء و يقال عصا و عصوان و ثلاث أعص و جمعه عصي و الانفجار الانشقاق و الانبجاس أضيق منه فيكون أولا انبجاسا ثم يصير انفجارا و العين من الأسماء المشتركة فالعين من الماء مشبهة بالعين من الحيوان لخروج الماء منها كخروج الدمع من تيك و بلد قليل العين أي قليل الناس و ما بالدار عين متحركة الياء و العين مطر أيام لا يقلع و العين الذهب و العين الميزان و العين الشمس و العين المتجسس للأخبار و قد تقدم ذكر أناس و أنه لا واحد له من لفظه‏ «وَ لا تَعْثَوْا» أي و لا تفسدوا و لا تطغوا و العثي شدة الفساد يقال عثا يعثو عثوا و عثى يعثي عثى و عاث يعيث عيثا و عيوثا و عيثانا قال رؤبة:

(و عاث فينا مستحل عايث)

 

. الإعراب‏

إذا متعلق بكلام محذوف فكأنه قال و اذكروا إذ استسقى و يجوز أن يكون معطوفا على ما تقدم ذكره في الآيات المتقدمة و قوله‏ «اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً» الشين ساكنة عند جميع القراء و كان يجوز كسرها في اللغة و الكسر لغة ربيعة و تميم و الإسكان لغة أهل الحجاز قال ابن جني أن ألفاظ العدد قد كثر فيها الانحرافات و ذلك أن لغة أهل الحجاز في غير العدد في نظير عشرة عشرة فيقولون نبقة و فخذ يكسرون الثاني و بنو تميم يسكنون فيقولون نبقة و فخذ فلما ركب الاسمان استحال الوزن فقال بنو تميم إحدى عشرة و اثنتا عشرة بكسر الشين و قال أهل الحجاز عشرة بسكونها و عينا منصوب على التمييز و الاسم الثاني من اثنتا عشرة قام مقام النون في عشرون بدلالة سقوط النون من اثنتان و أن عشرة تعاقبها و كذلك التقدير في جميع ذلك و هو الثلاثة و الثلاث من ثلاثة عشر و ثلاث عشرة إلى‏


249
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 250

تسعة عشر و تسع عشرة أن يكون فيها نون فقام عشرة مقامها فلذلك لم يدخلها التنوين و إذا لم يدخلها تنوين لم تبن و مفسدين منصوب على الحال.

المعنى‏

ثم عد سبحانه و تعالى على بني إسرائيل نعمة أخرى إضافة إلى نعمة العلى الأولى فقال‏ «وَ إِذِ اسْتَسْقى‏ مُوسى‏» أي سأل موسى قومه ماء و السين سين الطلب و ترك ذكر المسئول ذلك إذ كان فيما ذكر من الكلام دلالة على معنى ما ترك و كذلك قوله‏ «فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ» لأن معناه فضربه فانفجرت فترك ذكر الخبر عن ضرب موسى الحجر لأن فيما أبقاه من الكلام دلالة على ما ألقاه و هذا كما يقال أمرت فلانا بالتجارة فاكتسب مالا أي فاتجر و اكتسب مالا و قوم موسى هم بنو إسرائيل و إنما استسقى لهم ربه الماء في الحال التي تاهوا فيها في التيه فشكوا إليه الظمأ فأوحى الله تعالى إليه ان‏ «اضْرِبْ بِعَصاكَ» و هو عصاه المعروفة و كان من آس الجنة دفعها إليه شعيب و كان آدم حمله من الجنة معه إلى الأرض و كان طوله عشرة أذرع على طول موسى و له شعبتان تتقدان في الظلمة نورا و به ضرب البحر فانفلق و هو الذي صار ثعبانا و أما الحجر فاختلف فيه فقيل كان يقرع لهم حجرا من عرض الحجارة فينفجر عيونا لكل سبط عينا و كانوا اثني عشر سبطا ثم يسير كل عين في جدول إلى السبط الذي أمر بسقيهم عن وهب بن منبه و قيل كان حجرا بعينه خفيفا إذا رحلوا حمل في مخلاة فإذا نزلوا ضربه موسى بعصاه فانفجر منه الماء عن ابن عباس و هذا أولى لدلالة الألف و اللام للعهد عليه و قيل كانت حجرة فيها اثنتا عشرة حفرة و كان الحجر من الكذان و كان يخرج من كل حفرة عين ماء عذب فرات فيأخذونه فإذا فرغوا أراد موسى حمله ضربه بعصاه فيذهب الماء و كان يسقي كل يوم ستمائة ألف عن أبي مسروق و

روي‏ أنه كان حجرا مربعا

و

روي‏ أنه كان مثل شكل الرأس و كان موسى إذا ضربه بعصاه انفجرت منه في كل ناحية ثلاث عيون لكل سبط عين و كانوا لا يرتحلون مرحلة إلا وجدوا ذلك الحجر بالمكان الذي كان به منهم في المنزل الأول‏

و قوله‏ «فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً» لا ينافي قوله في سورة الأعراف‏ فَانْبَجَسَتْ‏ لأن الانبجاس هو الانفجار إلا أنه أقل و قيل أنه لا يمتنع أن يكون أول ما يضرب عليه‏


250
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 61] ..... ص : 251

العصا كان ينبجس ثم يكثر حتى يصير انفجار و قيل كان ينبجس عند الحاجة و ينفجر عند الحاجة و قيل كان ينبجس عند الحمل و ينفجر عند الوضع و قوله‏ «قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ» أي قد علم كل سبط و فريق منهم موضع شربهم و قوله‏ «كُلُوا وَ اشْرَبُوا» أي و قلنا لهم كلوا و اشربوا و هذا كلام مبتدأ و قوله‏ «مِنْ رِزْقِ اللَّهِ» أي كلوا من النعم التي من الله بها عليكم من المن و السلوى و غير ذلك و اشربوا من الماء فهذا كله من رزق الله الذي يأتيكم بلا مشقة و لا مئونة و لا تبعة فإن الرزق ما للمرزوق أن ينتفع به و ليس لأحد منعه منه و قوله‏ «وَ لا تَعْثَوْا» أي لا تسعوا في الأرض فسادا و إنما قال‏ «لا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ» و إن كان العثي لا يكون إلا فسادا لأنه يجوز أن يكون فعل ظاهره الفساد و باطنه المصلحة فبين أن فعلهم هو العيث الذي هو الفساد ظاهرا و باطنا و متى سئل فقيل كيف يجتمع ذاك الماء الكثير في ذلك الحجر الصغير و هل يمكن ذلك فالجواب أن ذلك من آيات الله الباهرة و الأعاجيب الظاهرة الدالة على أنها من فعل الله تعالى المنشئ للأشياء القادر على ما يشاء الذي تذل له الصعاب و يتسبب له الأسباب فلا بدع من كمال قدرته و جلال عزته أن يبدع خلق المياه الكثيرة ابتداء معجزة لموسى و نعمة عليه و على قومه و من استبعد ذلك من الملاحدة الذين ما قدروا الله حق قدره و لم يعرفوه حقيقة معرفته فالكلام عليهم إنما يكون في وجود الصانع و إثبات صفاته و اتساع مقدوراته و لا معنى للتشاغل بالكلام معهم في الفرع مع خلافهم في الأصل.

[سورة البقرة (2): آية 61]

وَ إِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى‏ لَنْ نَصْبِرَ عَلى‏ طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَ قِثَّائِها وَ فُومِها وَ عَدَسِها وَ بَصَلِها قالَ أَ تَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى‏ بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَ الْمَسْكَنَةُ وَ باؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَ يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَ كانُوا يَعْتَدُونَ (61)


251
مجمع البيان في تفسير القرآن1

القراءة ..... ص : 252

القراءة

قرأ أهل المدينة النبيئين بالهمزة و الباقون بغير همز.

الحجة

قال أبو علي الحجة لمن همز النبي‏ء أن يقول هو أصل الكلمة أ لا ترى أن ناسا من أهل الحجاز حققوا الهمزة في الكلام و لم يبدلوه فلم يكن كماضي يدع و نحوه مما رفض استعماله فأما ما

روي في الحديث‏ من أن بعضهم قال يا نبي‏ء الله فقال ص لست نبي‏ء الله و لكني نبي الله‏

فأظن أن من أهل النقل من ضعف إسناد هذا الحديث و يقوي ضعفه أن من مدح النبي ص فقال:

يا خاتم النبإ إنك مرسل‏

بالحق خير هدى الإله هداكا

 

لم يؤثر عنه إنكار عليه فيما علمنا و لو كان في واحده نكير لكان الجمع كالواحد و حجة من أبدل و لم يحقق مجي‏ء الجمع في التنزيل على أنبياء الذي هو في أكثر الأمر للمعتل اللام نحو صفي و أصفياء و غني و أغنياء فدل على أن الواحد قد ألزم فيه البدل فإذا ألزم فيه البدل ضعف فيه التحقيق و لا يجوز أن يكون اشتقاق النبي من النبوة التي هي الارتفاع أو من النباوة لأن سيبويه حكى أن جميع العرب يقولون تنبأ مسيلمة بالهمزة فدل على أن أصله الهمز و قال الزجاج يجوز أن يكون نبي من أنبأت فترك همزته لكثرة الاستعمال و يجوز أن يكون من نبا ينبو إذا ارتفع فيكون فعيلا من الرفعة.

اللغة

الطعام ما يتغذى به و الطعم بضم الطاء الأكل و الطعم عرض يدرك بحاسة الذوق و الطعام من قبيل الأجسام و الواحد أول عدد الحساب و حده ما لا يتجزى و الله تعالى واحد لتفرده بصفاته الحسنى و الدعاء أصله النداء عن ابن السراج و كل من يدعو ربه فهو يناديه و حقيقة الدعاء قول القائل لمن فوقه افعل و الفرق بينه و بين الأمر يظهر بالرتبة و الإنبات إخراج النبات و أصله من الظهور فكأنه ظهر إذا نبت و البقل ما ينبته الربيع يقال بقلت الأرض و أبقلت لغتان فصيحتان إذا أنبتت البقل فالبقل كل نبات ليس له ساق و في القثاء لغتان ضم القاف و كسرها و الكسر أجود و هي لغة القرآن و قد روي عن عيسى الثقفي في الشواذ بالضم و

الفوم هو الحنطة عن ابن عباس و قتادة و السدي‏ و هو المروي عن أبي جعفر الباقر ع‏

و أنشد ابن عباس قول أحيحة بن الجلاح:

قد كنت أغنى الناس شخصا واحدا

ورد المدينة عن زراعة فوم‏

 

و قال الفراء و الأزهري هو الحنطة و الخبز تقول العرب فوموا لنا أي اختبزوا و قال قوم هو الحبوب التي تخبز و قال الكسائي هو الثوم أبدل من الثاء فاء كما قالوا جدث و جدف‏


252
مجمع البيان في تفسير القرآن1

اللغة ..... ص : 252

قال الفراء و هذا أشبه بما ذكره بعده من البصل قال الزجاج و هذا بعيد لأنه لا يعرف الثوم بمعنى الفوم لأن القوم لا يجوز أن يطلبوا الثوم و لا يطلبون الخبز الذي هو الأصل و هذا ضعيف لأنه قد روي في الشواذ عن ابن مسعود و ابن عباس و ثومها بالثاء و العدس حب معروف و قوله‏ «أَدْنى‏» أي أقرب و أدون كما تقول هذا شي‏ء مقارب أو دون و يجوز أن يكون أدنى من الدناءة و هي الخسة يقال دنا دناءة فهو دني و هو أدنى منه فتركت همزتها و هو اختيار الفراء و حكى الأزهري عن ابن زيد الدني بلا همز الخسيس و الدني‏ء بالهمزة الماجن و أما اشتقاق مصر فقال بعضهم هو من القطع لانقطاعه بالعمارة عما سواه و منهم من قال هو مشتق من الفصل بينه و بين غيره و قال عدي بن زيد:

و جاعل الشمس مصرا لا خفاء به‏

بين النهار و بين الليل قد فصلا

 

و «ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ» أي فرضت و وضعت عليهم الذلة و ألزموها من قولهم ضرب الإمام الجزية على أهل الذمة و ضرب الأمير على عبيدة الخراج و قيل ضربت عليهم الذلة أي حلوا بمنزل الذل و المسكنة مأخوذ من ضرب القباب قال الفرزدق:

ضربت عليك العنكبوت بنسجها

و قضى عليك به الكتاب المنزل‏

 

و أما الذلة فمشتقة من قولهم ذل فلان يذل ذلا و ذلة و المسكنة مصدر المسكين يقال ما فيهم أسكن من فلان و ما كان مسكينا و لقد تمسكن تمسكنا و منهم من يقول تسكن تسكنا و المسكنة هاهنا مسكنة الفاقة و الحاجة و هي خشوعها و ذلها و قوله‏ «وَ باؤُ بِغَضَبٍ» أي انصرفوا و رجعوا و لا يقال باء إلا موصولا أما بخير و أما بشر و أكثر ما يستعمل في الشر و يقال باء بذنبه يبوء به قال المبرد و أصله المنزلة أي نزلوا منزلة غضب الله‏

و روي‏ أن رجلا جاء برجل إلى رسول الله ص فقال هذا قاتل أخي و هو بواء به‏

أي مقتول به و منه قول ليلى الأخيلية:

فإن تكن القتلى بواء فإنكم‏

فتى ما قتلتم آل عوف بن عامر

 

قال الزجاج أصل ذلك التسوية و منه ما روي عن عبادة بن الصامت قال جعل الله تعالى الأنفال إلى نبيه فقسمها بينهم على بواء أي على سواء بينهم في القسم و منه قول الشاعر:


253
مجمع البيان في تفسير القرآن1

الإعراب ..... ص : 254

 

فيقتل جبرا بامرئ لم يكن له‏

بواء و لكن لا تكايل بالدم‏

 

و قال قوم هو الاعتراف و معناه أنهم اعترفوا بما يوجب غضب الله و منه قول الشاعر:

إني أبوء بعثرتي و خطيئتي‏

ربي و هل إلا إليك المهرب‏

 

و الغضب إرادة إيصال الضرر إلى من غضب عليه فإذا أضيف إلى الله تعالى فالمراد به أنه يريد إنزال العقوبة بالمغضوب عليه نعوذ بالله من غضبه و النبي اشتقاقه من النبإ الذي هو الخبر لأنه المخبر عن الله سبحانه فإن قلت لم لا يكون من النباوة و مما أنشده أبو عثمان قال أنشدني كيسان:

محض الضريبة في البيت الذي وضعت‏

فيه النباوة حلوا غير ممذوق‏

 

فالقول فيه أنه لا يجوز أن يكون منها لأن سيبويه زعم أنهم يقولون في تحقير النبوة كان مسيلمة نبيئة سوء و كلهم يقول تنبأ مسيلمة فلو كان يحتمل الأمرين لما اجتمعوا على ذلك قال أبو علي و مما يقوي أنه من النبإ الذي هو الخبر أن النباوة الرفعة و كأنه قال في البيت الذي وضعت فيه الرفعة و ليس كل رفعة نبوة و قد يكون في البيت رفعة ليست بنبوة و المخبر عن الله تعالى المبلغ عنه نبي و رسول فهذا الاسم أخص به و أشد مطابقة للمعنى المقصود إذا أخذ من النبإ و الاعتداء تجاوز الحد الذي حده الله لعباده إلى غيره و كل مجاوز حد شي‏ء إلى غيره فقد تعداه إلى ما تجاوز إليه.

الإعراب‏

قوله‏ «يُخْرِجْ لَنا» مجزوم لأنه جواب أمر محذوف لأن تقديره ادع لنا ربك و قل له أخرج لنا يخرج لنا و قد ذكرنا فيما قبل أن الأصل فيه أنه مجزوم بالشرط و حذف الشرط لأن الكلام يدل عليه و قيل أن تقديره أن يكون يخرج مجزوما بإضمار اللام أي ليخرج لنا نحو قوله: «قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ» أي ليقيموا فحذف اللام و أنشد أبو زيد:

فيضحى صريعا ما يقوم لحاجة

و لا يسمع الداعي و يسمعك من دعا

 

و أنشد غيره:

فقل ادعي و أدع فإن أندى‏

لصوت أن ينادي داعيان‏

 


254
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 255

أي و لأدع و قال آخر:

محمد تفد نفسك كل نفس‏

إذا ما خفت من أمر تبالا

 

أي لتفد قال المبرد حدثني المازني قال جلست في حلقة الفراء فسمعته يقول لأصحابه لا يجوز حذف لام الأمر إلا في الشعر ثم أنشد:

من كان لا يزعم أني شاعر

فيدن مني ينهه الزواجر

 

فقلت له لم جاز في الشعر و لم يجز في الكلام قال لأن الشعر يضطر فيه الشاعر فيحذف قال فقلت فما اضطره هاهنا و هو يمكنه أن يقول فليدن مني قال فسأل عني فقيل المازني فأوسع لي و قوله‏ «مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ» من هنا للتبعيض لأن المراد يخرج لنا بعض ما تنبته الأرض و قال بعضهم أن من هنا زائدة نحو قولهم ما جاءني من أحد و الصحيح الأول لأن من لا تزاد في الإيجاب و إنما تزاد في النفي و لأن من المعلوم أنهم لم يريدوا جميع ما تنبته الأرض و نون جمع القراء مصرا لأنه أراد مصرا من الأمصار بغير تعيين لأنهم كانوا في تيه و يجوز أن يكون المراد مصر بعينها البلدة المعروفة و صرفه لأنه مذكر و روي عن ابن مسعود أنه قرأ بغير ألف و يجوز أن يكون المراد مصر هذه بعينها كما قال‏ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ‏ و إنما لم يصرفه لأنه اسم المدينة فهو مذكر سمي به مؤنث و يمكن أن يكون إنما نونه من نونه اتباعا للمصحف لأنه مكتوب في المصحف بألف و قوله‏ «ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ» قال الزجاج معناه و الله أعلم الغضب حل بهم بكفرهم و أقول في بيانه أن ذلك إشارة إلى الغضب في قوله‏ «وَ باؤُ بِغَضَبٍ» فهو في موضع الرفع بالابتداء و إن مع صلته من الاسم و الخبر في موضع جر بالباء و الجار يتعلق بخبر المبتدأ و هي جملة من الفعل و الفاعل حذفت لدلالة ما يتصل بها عليها و كذلك قوله‏ «ذلِكَ بِما عَصَوْا» فإن ما مع صلته في تأويل المصدر.

المعنى‏

لما عدد سبحانه فيما قبل ما أسداه إليهم من النعم و الإحسان ذكر ما قابلوا به تلك النعم من الكفران و سوء الاختيار لنفوسهم بالعصيان فقال‏ «وَ إِذْ قُلْتُمْ» أي قال أسلافكم من بني إسرائيل‏ «يا مُوسى‏ لَنْ نَصْبِرَ عَلى‏ طَعامٍ واحِدٍ» أي لن نطيق حبس أنفسنا على طعام واحد و إنما قال‏ «عَلى‏ طَعامٍ واحِدٍ» و إن كان طعامهم المن و السلوى و هما شيئان لأنه أراد به أن طعامهم في كل يوم واحد أي يأكلون في اليوم ما كانوا يأكلونه في الأمس كما يقال أن طعام فلان في كل يوم واحد و إن كان يأكل ألوانا إذا حبس نفسه على‏


255
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 255

ألوان من الطعام لا يعدوها إلى غيرها و قيل أنه كان ينزل عليهم المن وحده فملوه فقالوا ذلك فأنزل عليهم السلوى من بعد ذلك و قوله‏ «فَادْعُ لَنا رَبَّكَ» أي فاسأل ربك و ادعه لأجلنا «يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَ قِثَّائِها وَ فُومِها وَ عَدَسِها وَ بَصَلِها» أي مما تنبته الأرض من البقل و القثاء و مما سماه الله مع ذلك و كان سبب مسألتهم ذلك ما رواه قتادة قال كان القوم في البرية قد ظلل عليهم الغمام و أنزل عليهم المن و السلوى فملوا ذلك و ذكروا عيشا كان لهم بمصر فسألوا موسى فقال الله‏ «اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ» و تقديره فدعا موسى فاستجبنا له فقلنا لهم اهبطوا مصرا و قيل إنهم قالوا لا نصبر على الغنى بأن يكون جميعنا أغنياء فلا يقدر بعضنا على الاستعانة ببعض فلذلك قالوا يخرج لنا مما تنبت الأرض ليحتاجوا فيه إلى أعوان فيكون الفقير عونا للغني و قوله‏ «قالَ أَ تَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى‏ بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ» معناه قال لهم موسى و قيل بل قال الله لهم أ تتركون ما اختار الله لكم و تؤثرون ما هو أدون و أردى على ذلك و قيل أنه أراد أ تستبدلون ما تتبذلون في زراعته و صناعته بما أعطاه الله إياكم عفوا من المن و السلوى و قيل المراد تختارون الذي هو أقرب أي أقل قيمة على الذي هو أكثر قيمة و ألذ و اختلف في سؤالهم هذا هل كان معصية فقيل لم يكن معصية لأن الأول كان مباحا فسألوا مباحا آخر و قيل بل كان معصية لأنهم لم يرضوا بما اختاره الله لهم و لذلك ذمهم على ذلك و هو أوجه و قوله‏ «اهْبِطُوا مِصْراً» اختلف فيه فقال الحسن و الربيع أراد مصر فرعون الذي خرجوا منه و قال أبو مسلم أراد بيت المقدس و روي ذلك عن ابن زيد و قال قتادة و السدي و مجاهد أراد مصرا من الأمصار يعني أن ما تسألونه إنما يكون في الأمصار و لا يكون في المفاوز أي إذا نزلتم مدينة ذات طول و عرض‏ «فَإِنَّ لَكُمْ» فيها «ما سَأَلْتُمْ» من نبات الأرض و قد تم الكلام هاهنا ثم استأنف حكم الذين اعتدوا في السبت و من قتل الأنبياء فقال‏ «وَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَ الْمَسْكَنَةُ» أي ألزموا الذلة إلزاما لا يبرح عنهم كما يضرب المسمار على الشي‏ء فيلزمه و قيل المراد بالذلة الجزية لقوله‏ «حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَ هُمْ صاغِرُونَ» عن الحسن و قتادة و قيل هو الكستيج و زي اليهود عن عطا و قوله‏ «وَ الْمَسْكَنَةُ» يعني زي الفقر فترى المثري منهم يتباءس مخافة أن يضاعف عليه الجزية و قال قوم هذه الآية تدل على فضل الغنى لأنه ذمهم على الفقر و ليس ذلك بالوجه لأن المراد به فقر القلب لأنه قد يكون في اليهود مياسير و لا يوجد يهودي غني النفس‏

و قال‏


256
مجمع البيان في تفسير القرآن1

سؤال ..... ص : 257

النبي ص‏ الغنى غنى النفس‏

و قال ابن زيد أبدل الله اليهود بالعز ذلا و بالنعمة بؤسا و بالرضا عنهم غضبا جزاء لهم بما كفروا بآياته و قتلوا أنبياءه و رسله اعتداء و ظلما «وَ باؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ» أي رجعوا منصرفين متحملين غضب الله قد وجب عليهم من الله الغضب و حل بهم منه السخط و قال قوم الغضب هو ما حل بهم في الدنيا من البلاء و النقمة بدلا من الرخاء و النعمة و قال آخرون هو ما ينالهم في الآخرة من العقاب على معاصيهم ثم أشار إلى ما تقدم ذكره فقال‏ «ذلِكَ» أي ذلك الغضب و ضرب الذلة و المسكنة حل بهم لأجل «أنهم‏ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ» أي يجحدون حجج الله و بيناته و قيل أراد بآيات الله الإنجيل و القرآن و لذلك قال‏ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى‏ غَضَبٍ‏ الأول لكفرهم بعيسى و الإنجيل و الثاني لكفرهم بمحمد و القرآن و قيل آيات الله صفة محمد ص و قوله‏ «وَ يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ» أي بغير جرم كزكريا و يحيى و غيرهما و قوله‏ «بِغَيْرِ الْحَقِّ» لا يدل على أنه قد يصح أن يقتل النبيون بحق لأن هذا خرج مخرج الصفة لقتلهم و أنه لا يكون إلا ظلما بغير حق كقوله تعالى‏ «وَ مَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ» و معناه أن ذلك لا يمكن أن يكون عليه برهان و كقول الشاعر:

(على لأحب لا يهتدى بمنارة)

 

و معناه ليس هناك منار يهتدى به و في أمثاله كثرة و قوله‏ «ذلِكَ بِما عَصَوْا وَ كانُوا يَعْتَدُونَ» ذلك إشارة إلى ما تقدم أيضا بعصيانهم في قتل الأنبياء و عدوهم السبت و قيل بنقضهم العهد و اعتدائهم في قتل الأنبياء و المراد إني فعلت بهم ما فعلت من ذلك بعصيانهم أمري و تجاوزهم حدي إلى ما نهيتهم عنه.

سؤال‏

إن قيل كيف يجوز التخلية بين الكفار و قتل الأنبياء [فالجواب‏] إنما جاز ذلك لتنال أنبياء الله سبحانه من رفع المنازل و الدرجات ما لا ينالونه بغير القتل و ليس ذلك بخذلان لهم كما أن التخلية بين المؤمنين و الأولياء و المطيعين و بين قاتليهم ليست بخذلان لهم و قال الحسن أن الله تعالى لم يأمر نبيا بالقتال فقتل فيه و إنما قتل من الأنبياء من قتل في غير قتال و الصحيح أن النبي إن كان لم يؤد الشرع الذي أمر بتأديته لم يجز أن يمكن الله سبحانه من قتله لأنه لو مكن من ذلك لأدى إلى أن يكون المكلفون غير مزاحي العلة في التكليف و فيما لهم من الألطاف و المصالح فأما إذا أدى الشرع فحينئذ يجوز أن يخلي الله بينه و بين قاتليه و لم يجب عليه المنع من قتله و

روى أبو هريرة عن النبي ص أنه قال‏ اختلفت بنو إسرائيل بعد موسى بخمسمائة سنة حتى كثر فيهم أولاد السبايا و اختلفوا بعد عيسى بمائتي سنة.


257
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 62] ..... ص : 258

[سورة البقرة (2): آية 62]

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هادُوا وَ النَّصارى‏ وَ الصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ عَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)

القراءة

قرأ نافع بترك الهمزة من الصابئين و الصابئون في كل القرآن و الباقون يهمزون.

الحجة

ترك الهمزة يحتمل وجهين (أحدهما) أن يكون من صبا يصبو إذا مال إلى الشي‏ء و الآخر قلب الهمزة قال أبو علي و لا يسهل أن يأخذه من صبا يصبو لأنه قد يصبو الإنسان إلى الدين فلا يكون منه تدين به مع صبوة إليه فإذا بعد هذا و كان الصابئون منتقلين من دينهم الذي أخذ عليهم إلى سواه لم يستقم أن يكون إلا من صبأت الذي معناه انتقال من دينهم إلى دين لم يشرع لهم فيكون على قلب الهمز و قلب الهمز على هذا الحد لا يجيزه سيبويه إلا في الشعر فدل على أن القائل لذلك غير فصيح و أنه مخلط في لغته فالاختيار الهمز و لأنه قراءة الأكثر و إلى التفسير أقرب.

اللغة

هادوا أي صاروا يهودا و دانوا باليهودية و هاد يهود هودا أي تاب و اختلف في اشتقاق اسم اليهود فقيل هو من الهود أي التوبة و منه قوله‏ «إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ» عن ابن جريج و سموا بذلك لتوبتهم عن عبادة العجل و قال زهير:

سوى مربع لم يأت فيه مخافة

و لا رهقا من عابد متهود

 

أي تائب و قيل إنما سموا يهودا لأنهم نسبوا إلى يهوذا أكبر ولد يعقوب فعربت الذال دالا و قيل إنما سموا يهودا لأنهم هادوا أي مالوا عن الإسلام و عن دين موسى و قيل سموا بذلك لأنهم يتهودون أي يتحركون عند قراءة التوراة و يقولون أن السماوات و الأرض تحركت حين آتى الله موسى (ع) التوراة و اليهود اسم جمع واحدهم يهودي كالزنجي و الزنج و الرومي و الروم و النصارى جمع نصران كقولهم سكران و سكارى و ندمان و ندامى‏


258
مجمع البيان في تفسير القرآن1

الإعراب ..... ص : 259

هذا قول سيبويه قال الشاعر:

تراه إذا كان العشي محنفا

يضحى لديه و هو نصران شامس‏

 

و هو الممتلئ نصرا كما أن الغضبان هو الممتلئ غضبا و قيل في مؤنثه نصرانة كما قال:

(كما سجدت نصرانة لم تحنف).

 

و قيل أن واحد النصارى نصرى مثل مهري و مهارى و اختلفوا في اشتقاق هذا الاسم فقال ابن عباس هو من ناصرة قرية كان يسكنها عيسى (ع) فنسبوا إليها و قيل سموا بذلك لتناصرهم أي نصرة بعضهم بعضا و قيل إنما سموا بذلك لقوله‏ «مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ» و الصابئون جمع صابئ و هو من انتقل إلى دين آخر و كل خارج من دين كان عليه إلى آخر غيره سمي في اللغة صابئا قال أبو علي قال أبو زيد صبا الرجل في دينه يصبا صبوبا إذا كان صابئا و صبا ناب الصبي يصبا صبا إذا طلع و صبأت عليهم تصبأ صبا و صبوءا إذا طلعت عليهم و طرأت مثله فكان معنى الصابئ التارك دينه الذي شرع له إلى دين غيره كما أن الصابئ على القوم تارك لأرضه و منتقل إلى سواها و الدين الذي فارقوه هو تركهم التوحيد إلى عبادة النجوم أو تعظيمها قال قتادة و هم قوم معروفون و لهم مذهب يتفردون به و من دينهم عبادة النجوم و هم يقرون بالصانع و بالمعاد و ببعض الأنبياء و قال مجاهد و الحسن الصابئون بين اليهود و المجوس لا دين لهم و قال السدي هم طائفة من أهل الكتاب يقرءون الزبور و قال الخليل هم قوم دينهم شبيه بدين النصارى إلا أن قبلتهم نحو مهب الجنوب حيال منتصف النهار يزعمون أنهم على دين نوح و قال ابن زيد هم أهل دين من الأديان كانوا بالجزيرة جزيرة الموصل يقولون لا إله إلا الله و لم يؤمنوا برسول الله فمن أجل ذلك كان المشركون يقولون للنبي (ع) و لأصحابه هؤلاء الصابئون يشبهونهم بهم و قال آخرون هم طائفة من أهل الكتاب و الفقهاء بأجمعهم يجيزون أخذ الجزية منهم و عندنا لا يجوز ذلك لأنهم ليسوا بأهل كتاب.

الإعراب‏

خبر إن جملة قوله‏ «مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ» الآية لأن معناه من آمن منهم بالله و اليوم الآخر فترك ذكر منهم لدلالة الكلام عليه و قوله‏ «فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ» إلى آخر الآية في موضع الجزاء و إنما رفع و لا خوف لتكرير لا كقول الشاعر:


259
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 260

 

و ما صرمتك حتى قلت معلنة

لا ناقة لي في هذا و لا جمل‏

 

و هذا كأنه جواب لمن قال أ ناقة لك في هذا أم جمل فأما النكرة المفردة ففيه الفتح لا غير نحو لا رجل في الدار و هو جواب هل من رجل في الدار، و إنما قال‏ «مَنْ آمَنَ» فوحد ثم قال‏ «فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ» فجمع لأن من موحد اللفظ مجموع المعنى على ما تقدم بيانه.

المعنى‏

«إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا» اختلف في هؤلاء المؤمنين من هم فقال قوم هم الذين آمنوا بعيسى ثم لم يتهودوا و لم ينتصروا و لم يصباوا و انتظروا خروج محمد ص و قيل هم طلاب الدين منهم حبيب النجار و قس بن ساعدة و زيد بن عمرو بن نفيل و ورقة بن نوفل و البراء الشني و أبو ذر الغفاري و سلمان الفارسي و بحير الراهب و وفد النجاشي آمنوا بالنبي ص قبل مبعثه فمنهم من أدركه و تابعه و منهم من لم يدركه و قيل هم مؤمنوا الأمم الماضية و قيل هم المؤمنون من هذه الأمة و قال السدي هو سلمان الفارسي و أصحابه النصارى الذين كان قد تنصر على أيديهم قبل مبعث رسول الله و كانوا قد أخبروه بأنه سيبعث و أنهم يؤمنون به أن أدركوه و اختلفوا في قوله‏ «مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ» فقال قوم هو خبر عن الذين هادوا و النصارى و الصابئين و الضمير يرجع إليهم لأن الذين آمنوا قد كانوا مؤمنين فلا معنى أن يشرط فيهم استئناف الإيمان فكأنه قال أن الذين آمنوا و من آمن من اليهود و النصارى و الصابئين بالله و اليوم الآخر فلهم أجرهم و قال آخرون من آمن منهم الضمير راجع إلى الكل و يكون رجوعه إلى الذين آمنوا بمعنى الثبات منهم إيمانهم و الاستقامة و ترك التبديل و إلى الذين هادوا و النصارى و الصابئين بمعنى استئناف الإيمان بالنبي ص و ما جاء به و قال بعضهم أراد من آمن بمحمد ص بعد الإيمان بالله و بالكتب المتقدمة لأنه لا يتم أحدهما إلا بالآخر و نظيره قوله‏ «وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ آمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى‏ مُحَمَّدٍ» و روي عن ابن عباس أنه قال أنها منسوخة بقوله‏ «وَ مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ» و هذا بعيد لأن النسخ لا يجوز أن يدخل الخبر الذي هو متضمن للوعد و إنما يجوز دخوله في الأحكام الشرعية التي يجوز تغيرها و تبدلها بتغير المصلحة فالأولى أن يحمل على أنه لم يصح هذا القول عن ابن عباس و قال قوم أن حكمها ثابت و المراد بها أن الذين آمنوا بأفواههم و لم تؤمن قلوبهم من المنافقين و اليهود و النصارى و الصابئين إذا آمنوا بعد النفاق و أسلموا بعد العناد كان لهم أجرهم عند ربهم كمن آمن في أول استدعائه إلى الإيمان من غير نفاق و لا عناد لأن قوما من المسلمين قالوا


260
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 63] ..... ص : 261

أن من أسلم بعد نفاقه و عناده كان ثوابه أنقص و أجره أقل فأخبر الله بهذه الآية أنهم سواء في الأجر و الثواب و قوله‏ «بِاللَّهِ» أي بتوحيد الله و صفاته و عدله‏ «وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ» يعني يوم القيامة و البعث و النشور و الجنة و النار «وَ عَمِلَ صالِحاً» أي عمل ما أمره الله به من الطاعات و إنما لم يذكر ترك المعاصي لأن تركها من الأعمال الصالحة «فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ» أي جزاؤهم و ثوابهم‏ «عِنْدَ رَبِّهِمْ» أي معد لهم عنده و قوله‏ «وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ» مضى تفسيره قبل و قيل معناه لا خوف عليهم فيما قدموا و لا هم يحزنون على ما خلفوا و قيل لا خوف عليهم في العقبي و لا يحزنون على الدنيا و في هذه الآية دلالة على أن الإيمان هو التصديق و الاعتقاد بالقلب لأنه تعالى قال: «مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ» ثم عطف عليه بقوله‏ «وَ عَمِلَ صالِحاً» و من حمل ذلك على التأكيد أو الفضل فقد ترك الظاهر و كل شي‏ء يذكرونه مما عطف على الأول بعد دخوله فيه مثل قوله‏ «فِيهِما فاكِهَةٌ وَ نَخْلٌ وَ رُمَّانٌ» و إذ أخذنا من النبيين ميثاقهم و منك و من نوح فإن جميع ذلك على سبيل المجاز و الاتساع و لو خلينا و الظاهر لقلنا أنه ليس بداخل في الأول.

[سورة البقرة (2): آية 63]

وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَ رَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَ اذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63)

اللغة

الميثاق هو مفعال من الوثيقة أما بيمين و أما بعهد أو غير ذلك من الوثائق و الطور الجبل في اللغة قال العجاج:

داني جناحيه من الطور فمر

تقضي البازي إذ البازي كسر

 

و قيل أنه اسم جبل بعينه ناجى الله عليه موسى ع عن ابن عباس و القوة القدرة و هي عرض يصير به الحي قادرا و كل جسم قادر بقدرة لا يصح منه فعل الجسم و الأخذ ضد الإعطاء و أصل خذ أؤخذ و كذا كل أصله أؤكل و إنما لزم الحذف فيها تخفيفا لكثرة الاستعمال و كذلك مر و قد جاء فيه أومر على الأصل.

الإعراب‏

«خُذُوا ما آتَيْناكُمْ» محله نصب على تقدير و قلنا لكم خذوا كما تقول أوجبت عليه قم أي أوجبت عليه فقلت قم قال الفراء أخذ الميثاق قول و لا حاجة بالكلام‏


261
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 262

 

إلى إضمار القول فيه غير أنه ينبغي لكل ما خالف القول من الكلام الذي هو بمعنى القول أن يكون معه أن كقوله‏ «إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى‏ قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ» قال و يجوز حذف أن و موضع ما هاهنا نصب.

المعنى‏

ثم عاد إلى خطاب بني إسرائيل فقال‏ «وَ» اذكروا «إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ» أي عهدكم و العهد هو الذي فطر الله الخلق عليه من التوحيد و العدل و نصب لهم من الحجج الواضحة و البراهين الساطعة الدالة على ذلك و على صدق الأنبياء و الرسل و قيل أنه أراد به الميثاق الذي أخذه الله على الرسل في قوله‏ وَ إِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَ حِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَ لَتَنْصُرُنَّهُ‏ الآية و قيل هو أخذ التوراة عن موسى‏ «وَ رَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ» قال أبو زيد هذا حين رجع موسى من الطور فأتى بالألواح فقال لقومه جئتكم بالألواح و فيها التوراة و الحلال و الحرام فاعملوا بها قالوا و من يقبل قولك فأرسل الله عز و جل الملائكة حتى نتقوا الجبل فوق رءوسهم فقال موسى ع إن قبلتم ما آتيتكم به و إلا أرسلوا الجبل عليكم فأخذوا التوراة و سجدوا لله تعالى ملاحظين إلى الجبل فمن ثم يسجد اليهود على أحد شقي وجوههم قيل و هذا هو معنى أخذ الميثاق و كان في حال رفع الجبل فوقهم لأن في هذه الحال قيل لهم‏ «خُذُوا ما آتَيْناكُمْ» يعني التوراة «بِقُوَّةٍ» أي بجد و يقين لا شك فيه و هو قول ابن عباس و قتادة و السدي و قريب منه‏

ما روى العياشي‏ أنه سئل الصادق ع عن قول الله عز و جل‏ «خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ» أ بقوة بالأبدان أم بقوة بالقلوب فقال بهما جميعا

و قيل أخذه بقوة هو العمل بما فيه بعزيمة و جد و قيل بقدرة و أنتم قادرون على أخذه عن أبي علي و الأصم‏ «وَ اذْكُرُوا ما فِيهِ» يعود الضمير من فيه إلى ما من قوله‏ «ما آتَيْناكُمْ» و هو التوراة يعني احفظوا ما في التوراة من الحلال و الحرام و لا تنسوه و قيل‏

معناه اذكروا ما في تركه من العقوبة و هو المروي عن أبي عبد الله ع‏

و قيل معناه اعملوا بما فيه و لا تتركوه و قيل المعنى في ذلك أن ما آتيناكم فيه من وعد و وعيد و ترغيب و ترهيب تدبروه و اعتبروا به و اقبلوه‏ «لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» أي كي تتقوني إذا فعلتم ذلك و تخافوا عقابي و تنتهوا إلى طاعتي و تنزعوا عما أنتم عليه من المعصية.

[سورة البقرة (2): آية 64]

ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (64)

 

 

 

262
مجمع البيان في تفسير القرآن1

اللغة ..... ص : 263

اللغة

توليتم أعرضتم و هو مطاوع قولهم ولاه فلان دبره إذا استدبر عنه و جعله خلف ظهره ثم يستعمل ذلك في كل تارك طاعة آمر و معرض بوجهه عنه فيقال تولى فلان عن طاعة فلان و تولى عن صداقته و منه قوله‏ «فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَ تَوَلَّوْا» أي خالفوا ما وعدوا الله من قولهم‏ لَنَصَّدَّقَنَّ وَ لَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ‏ و الخاسر هو الذي ذهب رأس ماله و رأس مال الإنسان نفسه و ما سواها مما يحصل له من المنافع فهو كله ربح.

المعنى‏

معنى الآية ثم نبذتم العهد الذي أخذناه عليكم بعد إعطائكم المواثيق وراء ظهوركم و أعرضتم عنه‏ «فَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ» أي فلو لا أن الله تفضل عليكم بالتوبة بعد نكثكم الميثاق الذي واثقتموه إذ رفع فوقكم الطور و أنعم عليكم بالإسلام‏ «وَ رَحْمَتُهُ» التي رحمكم بها فتجاوز منكم خطيئتكم بمراجعتكم طاعة ربكم‏ «لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ» و قال أبو العالية فضل الله الإيمان و رحمته القرآن فيكون معناه لو لا إقداري لكم على الإيمان و إزاحة علتكم فيه حتى فعلتم الإيمان لكنتم من الخاسرين و إنما جعل الإيمان فضلا و توبته التي بها نجوا و لم يكونوا بها خاسرين فضلا منه من حيث كان هو الداعي إليه و المقدر عليه و المرغب فيه و يحتمل أن يكون المعنى فلو لا فضل الله عليكم بإمهاله إياكم بعد توليكم عن طاعته حتى تاب عليكم برجوع بعضكم عن ذلك و توبته لكنتم من الخاسرين و يحتمل أن يريد فلو لا فضلي عليكم في رفع الجبل فوقكم للتوفيق و اللطف الذي تبتم عنده حتى زال العذاب عنكم و سقوط الجبل لكنتم من الخاسرين.

[سورة البقرة (2): آية 65]

وَ لَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (65)

اللغة

علمتم أي عرفتم هنا تقول علمت أخاك و لم أكن أعلمه أي عرفته و لم أكن أعرفه كقوله تعالى: «وَ آخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ» أي لا تعرفونهم الله يعرفهم و «الَّذِينَ اعْتَدَوْا» في موضع نصب لأنه مفعول به و الفرق بينه و بين ما يتعدى إلى مفعولين إن المعرفة تنصرف إلى ذات المسمى و العلم ينصرف إلى أحواله فإذا قلت علمت زيدا فالمراد عرفت شخصه و إذا قلت علمت زيدا كريما أو لئيما فالعلم يتعلق بأحواله من‏


263
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 264

فضل و نقص و اعتدوا أي ظلموا و جاوزوا ما حد لهم و السبت من أيام الأسبوع قال الزجاج السبت قطعة من الدهر فسمي بذلك اليوم و قال أبو عبيدة سمي بذلك لأنه يوم سبت فيه خلق كل شي‏ء أي قطع و فرغ قوله منكم في موضع نصب حالا من الذين اعتدوا أي المعتدين كائنين منكم قوله‏ «فِي السَّبْتِ» متعلق باعتدوا و أصل السبت مصدر يقال يسبت سبتا إذا قطع ثم سمي اليوم سبتا و قد يقال يوم السبت فيخرج مصدرا على أصله و قد قالوا اليوم السبت فجعلوا اليوم خبرا عن السبت كما يقال اليوم القتال فعلى ما ذكرنا يكون في الكلام حذف تقديره في يوم السبت و قال قوم إنما سمي بذلك لأن اليهود يسبتون فيه أي يقطعون فيه الأعمال و قال آخرون سمي بذلك لما لهم فيه من الراحة لأن أصل السبت هو السكون و الراحة و منه قوله‏ «وَ جَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً» و يقال للنائم مسبوت لاستراحته و سكون جسده و القردة جمع قرد و الأنثى قردة و الخاسئ المبعد المطرود يقال خسأت الكلب أخسأه خسأ و خسئ الكلب يخسأ خسأ تقول خسأته و خسئ و انخسأ قال الراجز

كالكلب إن قلت له اخسأ انخسأ

 

أي إن طردته انطرد.

المعنى‏

خاطب اليهود فقال‏ «وَ لَقَدْ عَلِمْتُمُ» أي عرفتم‏ «الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ» أي الذين جاوزوا ما أمروا به من ترك الصيد يوم السبت و كان الحيتان تجتمع في يوم السبت لأمنها فحبسوها في السبت و أخذوها في الأحد فاعتدوا في السبت أي ظلموا و تجاوزوا ما حد لهم لأن صيدها هو حبسها و روي عن الحسن أنهم اصطادوا يوم السبت مستحلين بعد ما نهوا عنه‏ «فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً» و هذا إخبار عن سرعة فعله و مسخه إياهم لا أن هناك أمرا و معناه و جعلناهم قردة كقوله تعالى: «فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ» و لم يكن هناك قول و إنما أخبر عن تسهل الفعل عليه و تكوينه بلا مشقة قال ابن عباس فمسخهم الله تعالى عقوبة لهم و كانوا يتعاوون و بقوا ثلاثة أيام لم يأكلوا و لم يشربوا و لم يتناسلوا ثم أهلكهم الله تعالى و جاءت ريح فهبت بهم و ألقتهم في الماء و ما مسخ الله أمة إلا أهلكها و هذه القردة و الخنازير ليست من نسل أولئك و لكن مسخ أولئك على صورة هؤلاء يدل عليه إجماع المسلمين على أنه ليس في القردة و الخنازير من هو من أولاد آدم و لو كانت من أولاد الممسوخين لكانت من بني آدم و قال مجاهد لم يمسخوا قردة و إنما هو مثل ضربه الله كما قال‏ كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً و حكي عنه أيضا أنه مسخت قلوبهم فجعلت كقلوب القردة لا تقبل وعظا و لا تتقي زجرا و هذان القولان يخالفان الظاهر الذي أكثر المفسرين عليه من غير ضرورة تدعو إليه و قوله‏ «خاسِئِينَ» أي مبعدين عن الخير و قيل أذلاء صاغرين مطرودين عن مجاهد و في هذه‏


264
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 66] ..... ص : 265

الآيات احتجاجات من الله تعالى على اليهود بنعمه المترادفة على آبائهم و إخبار الرسول ص عن عناد أسلافهم مرة بعد أخرى و كفرانهم و عصيانهم ثانية بعد أولى مع ظهور الآيات اللائحة و المعجزات الواضحة تعزية له ص و تثبيتا لفؤاده و تسليته إياه عما يقاسيه من مخالفة اليهود و كيدهم و براءة من جحودهم و كفرهم و عنادهم و ليكون وقوفه على ما وقف عليه من أخبار سلفهم تنبيها لهم و حجة عليهم في إخلادهم إلى الهوى و إلحادهم و تحذيرا لهم من أن يحل بهم ما حل بآبائهم و أجدادهم.

[سورة البقرة (2): آية 66]

فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَ ما خَلْفَها وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66)

اللغة

النكال الإرهاب للغير و أصله المنع لأنه مأخوذ من النكل و هو القيد و هو أيضا اللجام و سميت العقوبة نكالا لأنها تمنع عن ارتكاب مثله ما ارتكبه من نزلت به و نكل فلان بفلان تنكيلا و نكالا و الموعظة الوعظ و أصله التخويف يقال وعظت فلانا موعظة و عظة.

المعنى‏

«فَجَعَلْناها» الضمير يعود إلى الأمة التي مسخت‏

و هم أهل إيلة قرية على شاطئ البحر و هو المروي عن أبي جعفر (ع)

أو إلى المسخة عن الزجاج أو إلى العقوبة أي جعلنا تلك العقوبة عن ابن عباس أو إلى القرية التي اعتدى أهلها فيها «نَكالًا» أي عقوبة و قيل اشتهار أو فضيحة و قيل تذكرة و عبرة و قوله‏ «لِما بَيْنَ يَدَيْها وَ ما خَلْفَها» ذكر فيه وجوه (أحدها) ما روي عن ابن عباس رواه الضحاك عنه‏ «لِما بَيْنَ يَدَيْها» للأمم التي تراها و «ما خَلْفَها» ما يكون بعدها و هو يقارب المأثور

المروي عن الباقر و الصادق ع أنهما قالا «لِما بَيْنَ يَدَيْها» أي لما معها ينظر إليها من القرى و «ما خَلْفَها» نحن و لنا فيها موعظة

فعلى هذا يكون ما بمعنى من أي نكالا للخلق الذين كانوا معهم و لجميع من يأتي بعدهم إلى يوم القيامة لئلا يفعلوا مثل فعلهم (و ثانيها) أن يكون معناه جعلناها عقوبة للذنوب التي تقدمت على الاصطياد و الذنوب التي تأخرت عنه و هذا يقتضي أن يكون الله تعالى لم يعاجلهم بالعقوبة عقيب الاصطياد عن ابن عباس أيضا فيكون اللام بمعنى السبب أي بسبب ذلك (و ثالثها) أن يكون المراد لما بين يديها من القرى و ما


265
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): الآيات 67 الى 71] ..... ص : 266

 

خلفها من القرى عن عكرمة [عن ابن عباس‏] (و رابعها) أن يكون المراد «لِما بَيْنَ يَدَيْها» ما مضى من خطاياهم و ب «ما خَلْفَها» خطاياهم التي أهلكوا بها «وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ» معناه أنه إنما يتعظ بها المتقون فكأنها موعظة لهم دون غيرهم و هذا كقوله سبحانه‏ «هُدىً لِلْمُتَّقِينَ» و في هذه الآية دلالة على أن من فعل مثل أفعال هؤلاء ممن تقدمهم أو تأخر عنهم يستحق من العقاب مثل ما حل بهم من التشويه و تغيير الخلقة إذ كان نكالا لهم جميعا و تحذيرا و تنبيها للمتقين لكي لا يواقعوا من المعاصي ما واقع أولئك فيستحقوا ما استحقوه نعوذ بالله من سخطه.

[سورة البقرة (2): الآيات 67 الى 71]

وَ إِذْ قالَ مُوسى‏ لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَ تَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (67) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَ لا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ (68) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَ إِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَ لا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَ ما كادُوا يَفْعَلُونَ (71)

القراءة

قرأ حمزة و إسماعيل عن نافع و عباس عن أبي عمرو هزءا و كفوءا

 

 

 

266
مجمع البيان في تفسير القرآن1

الحجة ..... ص : 267

بالتخفيف و الهمز في كل القرآن و قرأ حفص عن عاصم بضم الزاي و الفاء غير مهموز و قرأ يعقوب‏ «هُزُواً» بضم الزاي كفوا بسكون الفاء و الباقون بالتثقيل و الهمز.

الحجة

قال أبو الحسن زعم عيسى أن كل اسم على ثلاثة أحرف أوله مضموم فمن العرب من يثقله و منهم من يخففه نحو العسر و اليسر و الحلم و مما يقوي هذه الحكاية أن ما كان على فعل من الجموع مثل كتب و رسل قد استمر فيه الوجهان حتى جاء ذلك في المعتل العين الواوي نحو سوك الأسحل قال:

و في الأكف اللامعات سور

 

و حكى أبو زيد قول قوم و أما فعل في جمع أفعل نحو أحمر و حمر فكأنهم ألزموه الإسكان للفصل بين الجمعين و قد جاء فيه التحريك في الشعر فإذا كان الأمر على هذا وجب أن يكون ذلك مستمرا في نحو الكف‏ء و الهزء فإذا خفف الهمزة و ثقل العين لزم أن تقلب الهمزة واوا فيقول هزوا و لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ و إن خفف فأسكن العين قال هزوا فأبقى الواو التي انقلبت عن الهمزة لانضمام ما قبلها و إن لم تكن ضمة العين في اللفظ لأنها مرادة في المعنى كما قالوا لقضو الرجل فأبقوا الواو و لم يردوا اللام التي هي ياء من قضيت لأن الضمة مرادة في المعنى و كذلك قالوا رضي زيد فيمن قال علم زيد فلم يردوا الواو التي هي لام لزوال الكسرة لأنها مقدرة مرادة و إن كانت محذوفة من اللفظ و كذلك تقول هزوا و كفوا فتثبت الواو و إن كنت حذفت الضمة الموجبة لاجتلابها و إذا كان الأمر على هذا فقراءة من قرأ بالضم و تحقيق الهمز في الجواز و الحسن كقراءة من قرأ بالإسكان و قلب الهمزة واوا لأنه تخفيف قياسي و قد روى أبو زيد عن أبي عمرو أنه خير بين التخفيف و التثقيل.

اللغة

البقرة اسم للمؤنث من هذا الجنس و اسم الذكر منه الثور و هذا يخالف صيغة المذكر منه صيغة الأنثى كالحمل و الناقة و الرجل و المرأة و الجدي و العناق و أصل البقر الشق يقال بقرت بطنه أي شققته و سمي البقر بقرا لأن من شأنه شق الأرض بالكراب و الهزء اللعب و السخرية يقال هزأت به هزءا و مهزأة و أعوذ بالله ألجأ إلى الله عوذا و عياذا و حقيقة العياذ استدفاع ما يخاف من شره بما يطمع ذلك منه و الجهل نقيض العلم و قيل هو نقيض الحلم و الصحيح أنه اعتقاد الشي‏ء على خلاف ما هو به كما أن العلم اعتقاد الشي‏ء على ما هو و التبيين التعريف و أصله من البين و هو الفراق فكل من بين شيئا فقد ميزه‏


267
مجمع البيان في تفسير القرآن1

اللغة ..... ص : 267

عما يلتبس به حتى يعرفه غيره قال سيبويه أبان الشي‏ء و أبنته و بين و بينته و استبان و استبنته و المعنى واحد و الفارض الكبيرة المسنة يقال فرضت البقرة تفرض فروضا إذا أسنت قال الشاعر:

لعمري قد أعطيت جارك فارضا

تساق إليه ما تقوم على رجل‏

 

و قيل إن الفارض التي ولدت بطونا كثيرة فيتسع لذلك جوفها لأن معنى الفارض في اللغة الواسع الضخم و هو قول بعض المتأخرين و استشهد بقول الراجز:

يا رب ذي ضغن علي فارض‏

له قروء كقروء الحائض‏

 

و يقال لحيته فارضة أي عظيمة و البكر الصغيرة التي لم تحمل و البكر من بني آدم و من البهائم ما لم يفتحله الفحل و البكر من كل شي‏ء أوله و البكر التي ولدت واحدا و بكرها أول أولادها قال:

يا بكر بكرين و يا خلب الكبد

أصبحت مني كذراع من عضد

 

و ضربة بكر أي قاطعة لا تنثني و حدث ابن عائشة عن أبيه عن جده قال كانت ضربات علي بن أبي طالب ع أبكارا كان إذا اعتلى قد و إذا اعترض قط ذكره ابن فارس في مجمل اللغة و البكر بفتح الباء الفتي من الإبل و العوان دون المسنة و فوق الصغيرة و هي النصف التي ولدت بطنا أو بطنين قال الفراء يقال من العوان عونت المرأة تعوينا إذا بلغت ثلاثين سنة و منه قيل للحرب عوان إذا لم يكن أول حرب بين القوم و كانوا قد قاتلوا قبله و بين اسم يستعمل على ضربين مصدر و ظرف قال أبو علي و هما عندي و جميع بابهما يرجعان إلى أصل واحد و هو الافتراق و الانكشاف و سيأتيك بيانه في الأعراب إن شاء الله و اللون عرض يتعاقب على الجوهر تعاقب المتضاد و هو عبارة عما إذا وجد حصلت به الجواهر على هيئة مخصوصة لولاه لما حصلت على تلك الهيأة و لا يدخل تحت مقدور العباد فاقع لونها أي شديدة الصفرة يقال أصفر فاقع و أحمر ناصع و أخضر ناضر و أحمر قانئ و أبيض يقق و لهق و لهاق و أسود حالك و حلوك و حلكوك و غربيب و دجوجي فهذه كلها صفات مبالغة في الألوان و قيل إنه أراد بصفراء هاهنا سوداء شديدة السواد كما يقال صفراء أي سوداء و قال الشاعر:


268
مجمع البيان في تفسير القرآن1

الإعراب ..... ص : 269

 

تلك خيلي منه و تلك ركابي‏

هن صفر أولادها كالزبيب‏

 

و الأول أصح فإن الإبل إن وصفت به فلا يوصف البقر به و أيضا فإن السواد لا يوصف بالفقوع و إنما يوصف بالحلوكة و غيرها على ما ذكرناه و البقر جمع بقرة و كذلك الباقر جمع كالجامل جمع جمل قال الأعشى:

و ما ذنبه إن عافت الماء باقر

و ما إن تعاف الماء إلا ليضربا

 

و قال آخر:

(لهم جامل لا يهدأ الليل سامره)

 

أي جمال و نحو هذا عندهم اسم مفرد مصوغ للكثرة كاسم الجنس و مثله العبيد و الكليب و الضئين في جمع عبد و كلب و ضان و قوله لا ذلول يقال للدابة قد ذللها الركوب و العمل دابة ذلول بين الذل بكسر الذال و يقال في مثله من بني آدم رجل ذليل بين الذل بضم الذال و الذلة بكسرها و المذلة و الإثارة إظهار الشي‏ء بالكشف و أثار الأرض أي كربها و قلبها و الحرث كل أرض ذللته للزرع قال الخليل الحرث قذف البذر في الأرض للازدراع و الزرع الإنبات و الإنماء قال عز اسمه‏ «أَ فَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ أَ أَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ» مسلمة مبرأة من العيوب مفعلة من السلامة الشية اللون في المشي يخالف عامة لونه و الوشي خلط اللون باللون و «لا شِيَةَ فِيها» أي لا وضح فيها يخالف لون جلدها يقال وشيت الثوب أشيه شية و وشيا و منه قيل لمن يسعى بالرجل إلى السلطان واش لكذبه عليه عنده و تحسينه كذبه بالأباطيل و يقال منه وشيت به وشاية قال كعب بن زهير:

تسعى الوشاة بجنبيها و قولهم‏

إنك يا ابن أبي سلمى لمقتول‏

 

يعني أنهم يتقولون بالأباطيل و يقولون إنه إن لحق بالنبي ص قتله و الذبح فري الأوداج و ذلك في البقر و الغنم و النحر في الإبل و لا يجوز فيها عندنا غير ذلك و فيه خلاف بين الفقهاء و

قيل للصادق ع إن أهل مكة يذبحون البقرة في اللبة فما ترى في أكل لحومها فسكت هنيهة ثم قال قال الله تعالى‏ «فَذَبَحُوها وَ ما كادُوا يَفْعَلُونَ» لا تأكل إلا ما ذبح من مذبحه‏

. الإعراب‏

حذفت الفاء من قوله‏ «قالُوا أَ تَتَّخِذُنا هُزُواً» لاستغناء ما قبله من الكلام عنه و حسن الوقف على قوله‏ «أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً» كما حسن إسقاطها من قوله قال‏ «فَما خَطْبُكُمْ‏


269
مجمع البيان في تفسير القرآن1

الإعراب ..... ص : 269

أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا» و لم يقل فقالوا و لو قيل بالفاء لكان حسنا و لو قلت قمت ففعلت لم يجز إسقاط الفاء لأنها عطف لا استفهام يحسن السكوت عليه و قوله‏ «هُزُواً» لا يخلو من أحد أمرين (أحدهما) أن يكون المضاف محذوفا لأن الهزء حدث و المفعول الثاني من تتخذ يكون الأول نحو قوله‏ «لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَ عَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ» (و الثاني) أن يكون الهزء بمعنى المهزوء به مثل الصيد في قوله تعالى‏ «أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ» و نحوه و كما يقال رجل رضي أي مرضي أقام المصدر مقام المفعول و أما قوله تعالى‏ «لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَ لَعِباً» فلا يحتاج فيه إلى تقدير محذوف لأن الدين ليس بعين و قوله‏ «أَعُوذُ بِاللَّهِ» أصله أعوذ فنقلت الضمة من الواو إلى الساكن قبلها من غير استثقال لذلك غير أنه لما أعلت عين الماضي لتحركها و انفتاح ما قبلها أعلت عين المضارع أيضا ليجري الباب على سنن واحد و كذلك القول في أعاذ يعيذ و استعاذ يستعيذ و الأصل أعوذ يعوذ و استعوذ يستعوذ و قوله‏ «لا فارِضٌ وَ لا بِكْرٌ» قال الأخفش ارتفع و لم ينتصب كما ينتصب المنفي لأنه صفة لبقرة و قوله‏ «عَوانٌ» مرفوع على أنه خبر مبتدإ محذوف كأنه قال هي عوان و قال الزجاج ارتفع فارض بإضمار هي أي هي لا فارض و لا بكر قال و إنما جاز «بَيْنَ ذلِكَ» و بين لا يكون إلا مع اثنين أو أكثر لأن ذلك ينوب عن الحمل تقول ظننت زيدا قائما فيقول القائل قد ظننت ذاك و ظننت ذلك قال أبو علي لا يخلو ذلك فيما ذكره من قولهم ظننت ذلك من أن يكون إشارة إلى المصدر كما ذهب إليه سيبويه أو يكون إشارة إلى أحد مفعولي ظننت و أن تكون نائبة عن الجملة كما قاله أبو إسحاق و لا يجوز أن يكون إشارة إلى أحد المفعولين لأنه لو كان كذلك للزم أن يذكر الآخر كما لو أنك ذكرت اسم المشار إليه للزم فيه ذلك و كما أنك إذا ذكرت المبتدأ لزمك ذكر الخبر أو يعلم من الحال ما يقوم مقام ذكرك له و لا يجوز أن تكون نائبة عن الجملة هنا و لا إشارة إليها كما لم ينب عن الجملة في غير هذا الموضع من المواضع التي تقع فيها الجملة نحو صلة الذي و وصف النكرات فثبت أن ذاك في قولهم ظننت ذاك إشارة إلى المصدر الذي هو الظن و لا يجوز أن يقع اسم مفرد موقع جملة و لو كان سائغا أن ينوب ذلك عن الحمل لما جاز وقوعه هنا لأن هذا الموضع ليس من مواضع الجمل أ لا ترى أن ذلك إشارة إلى ما تقدم مما دل عليه قوله‏ «لا فارِضٌ وَ لا بِكْرٌ» و هو البكارة و الفروض فإنما يدل قوله ذلك عليهما فلو كان واقعا موقع جملة ما دل عليهما لأن الجملة يسند فيها الحدث إلى المحدث عنه و ليس واحد من الفروض و البكارة يسند

270
مجمع البيان في تفسير القرآن1

الإعراب ..... ص : 269

إلى الآخر أ لا ترى أن المعنى بين هذين الوصفين و هذا واضح و اعلم أن الاسم الذي يضاف إليه بين لا يخلو من أن يكون دالا على واحد أو على أكثر من الواحد فإذا كان دالا على الواحد غير دال على أكثر منه عطف عليه اسم آخر لما ذكرنا من أن أصله الافتراق فكما يمتنع أن يقول افتراق و اجتماع زيد حتى تضيف إليه ما يزيد به على الإفراد لذلك لا تقول بين زيد حتى تضيف إليه آخر بالواو دون غيرها من الحروف العاطفة و إذا كان الاسم دالا على الكثرة و إن كان مفردا جاز أن يضاف بين إليه و أما قوله‏ «عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ» فإنما أضيف فيه بين إلى ذلك من حيث جاز إضافته إلى القوم و ما أشبه ذلك من الأسماء التي تدل على الكثرة و إنما جاز أن يكون قولنا ذلك يراد به مرة الانفراد و مرة الجمع و الكثرة لمشابهته الموصولة كالذي و ما أ لا ترى أن البابين يشتبهان في دلالة كل واحد منهما على غير شي‏ء بعينه فجاز أن يراد به الواحد مرة و أكثر من الواحد مرة و يدل على ما ذكرناه من قصدهم بذلك الجمع و ما زاد على الواحد أن رؤبة لما قال له أبو عبيدة في قوله:

فيه خطوط من سواد و بلق‏

كأنه في الجلد توليع البهق.

 

إن أردت الخطوط وجب أن تقول كأنها و إن أردت السواد و البلق وجب أن تقول كأنهما قال أردت كان ذلك فعلم به أنهم يقصدون ذلك غير المفرد و يدل عليه أيضا قول القائل:

إن للخير و للشر مدى‏

و كلا ذلك وجه و قبل‏

 

أ لا ترى أن كلا لا تضاف إلى المفرد فلو لا أن المراد بذلك غير الإفراد لما أضيف كلا إليه فكذلك القول في‏ «عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ» و المراد بذلك الزيادة على الواحد أ لا ترى أنه إشارة إلى ما تقدم من قوله مما دل على الفروض و البكارة و موضع ما من قوله‏ «ما هِيَ» و «ما لَوْنُها» رفع لأنه خبر المبتدأ لأن تأويله الاستفهام أي أي شي‏ء هو و أي لون لونها «قالَ إِنَّهُ يَقُولُ» إنها ما بعد القول من باب إن مكسورة أبدا كأنك لم تذكر القول في صدر كلامك و إنما وقعت قلت في كلام العرب على أن يحكى بها ما كان كلاما يقوم بنفسه قبل دخولها فيؤدي مع ذكرها ذلك اللفظ تقول قلت زيد منطلق كأنك حكيت زيد منطلق و كذلك أن زيدا منطلق إذا حكيته تقول قلت إن زيدا منطلق و قوم من العرب و هم بنو سليم يجعلون باب قلت كباب ظننت فيقولون قلت زيدا منطلقا و قوله‏ «فاقِعٌ لَوْنُها» ارتفع لونها بأنه فاعل فاقع و هو صفة البقرة مثل صفراء و كذلك‏ «تَسُرُّ النَّاظِرِينَ» جملة مرفوعة الموضع بكونها صفة


271
مجمع البيان في تفسير القرآن1

الإعراب ..... ص : 269

لبقرة و يقال فقع لونه فقوعا و فقع يفقع إذا خلصت صفرته و قوله‏ «إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا» كل جمع يكون واحده بالهاء. نحو البقر و النخل و السحاب فإنه يؤنث و يذكر قال الله تعالى‏ «كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ» و في موضع آخر نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ و التذكير الغالب و قوله‏ «تُثِيرُ الْأَرْضَ» في موضع رفع بكونه صفة لذلول و هو داخل في معنى النفي أي بقرة ليست بذلول مثيرة للأرض و لا ساقية للحرث و مسلمة صفة لبقرة أيضا و «لا شِيَةَ فِيها» جملة في موضع رفع أيضا بأنها صفة البقرة و شية مصدر من وشيت و أصلها وشي فلما أسقطت الواو منها عوضت الهاء في آخرها قالوا وشيته شية كما قالوا وزنته زنة و وصلته صلة فوزنها علة «قالُوا الْآنَ» و فيه وجوه أجودها إسكان اللام من الآن و حذف الواو من اللفظ و يجوز قال لأن على إلغاء الهمزة و فتح اللام من الآن و ترك الواو محذوفة لالتقاء الساكنين و لا يعتد بفتح اللام و يجوز قالوا لأن بإظهار الواو لحركة اللام لأنهم إنما حذفوا الواو لسكونها فلما تحركت ردوها و الأجود في العربية حذفها و لا ينبغي أن يقرأ إلا بما وردت به رواية صحيحة فإن القراءة سنة متبعة قال أبو علي إنما بني الآن لتضمنه معنى الحرف و هو تضمن معنى التعريف لأن التعريف حكمه أن يكون بحرف و ليس تعرفه بما فيه من الألف و اللام لأنه لو كان كذلك للزم أن يكون قبل دخول اللام عليه نكرة كرجل و الرجل و كذلك الذي فإن فيه الألف و اللام و ليس تعرف الاسم بهما إنما تعرفه بغيرهما و هو كونه موصولا مخصوصا و لو كان تعرفه باللام لوجب أن يكون سائر الموصولات المتعرفة بالصلات نحو من و ما غير متعرفة و يقوي زيادة اللام ما رواه المبرد عن المازني قال سألت الأصمعي عن قول الشاعر:

و لقد جنيتك أكمؤا و عساقلا

و لقد نهيتك عن بنات الأوبر

 

لم أدخل اللام قال أدخله زيادة للضرورة كقول الآخر:

(بإعدام العمرو عن أسيرها)

 

و أنشد ابن الأعرابي:

يا ليت أم العمرو كانت صاحبي‏

مكان من أنشأ على الركائب‏

 

فكما أن اللام في الذي و في هذه الحكاية زائدة كذلك في الآن زائدة و قوله‏ «وَ ما كادُوا يَفْعَلُونَ» كاد يدل على مقاربة مباشرة و يفعلون في موضع نصب بأنه خبر كاد و الفصيح لا يدخل عليه أن لأن أن حرف يركب مع الفعل فيقوم مقام المصدر و إنما يسند إلى أن أفعال غير ثابتة و لا مستقرة مثل الطمع و الرجاء نحو عسى أن تفعل و دليل على ذلك أن أن لا تدخل على فعل الحال بل على ما يتوقع في المستأنف فلهذا كانت أن لازمة لعسى و لا


272
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[القصة] ..... ص : 273

يلزم كاد لأن كاد قريب من الحال و قد استعمل كاد مع أن في الشعر أنشد الأصمعي:

كادت النفس أن تفيض عليه‏

إذ ثوى حشو ريطة و برود.

 

[القصة]

كان السبب في أمر الله تعالى بذبح البقرة فيما

رواه العياشي مرفوعا إلى الرضا (ع) أن رجلا من بني إسرائيل قتل قرابة له ثم أخذه و طرحه على طريق أفضل سبط من أسباط بني إسرائيل ثم جاء يطلب بدمه فقالوا لموسى سبط آل فلان قتل فأخبرنا من قتله قال ائتوني ببقرة «قالُوا أَ تَتَّخِذُنا هُزُواً» الآية و لو أنهم عمدوا إلى بقرة أجزأتهم و لكن شددوا فشدد الله عليهم‏ «قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَ لا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ» أي لا صغيرة و لا كبيرة إلى قوله‏ «قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ» فطلبوها فوجدوها عند فتى من بني إسرائيل فقال لا أبيعها إلا بمل‏ء مسكها ذهبا فجاءوا إلى موسى فقالوا له قال فاشتروها قال و قال لرسول الله ص بعض أصحابه أن هذه البقرة ما شأنها فقال إن فتى من بني إسرائيل كان بارا بأبيه و أنه اشترى سلعة فجاء إلى أبيه فوجده نائما و الإقليد تحت رأسه فكره أن يوقظه فترك ذلك و استيقظ أبوه فأخبره فقال له أحسنت خذ هذه البقرة فهي لك عوض لما فاتك قال فقال رسول الله ص انظروا إلى البر ما بلغ بأهله‏

و قال ابن عباس كان القتيل شيخا مثريا قتله بنو أخيه و ألقوه على باب بعض الأسباط ثم ادعوا عليهم القتل فاحتكموا إلى موسى (ع) فسأل من عنده في ذلك علم فقالوا أنت نبي الله و أنت أعلم منا فأوحى الله تعالى إليه أن يأمرهم بذبح بقرة فأمرهم موسى (ع) أن يذبحوا بقرة و يضرب القتيل ببعضها فيحيي الله القتيل فيبين من قتله و قيل قتله ابن عمه استبطاء لموته فقتله ليرثه و

 

مجمع البيان فى تفسير القرآن    ج‏1    274    

قيل إنما قتله ليتزوج بنته و قد خطبها فلم ينعم له و خطبها غيره من خيار بني إسرائيل فأنعم له فحسده ابن عمه الذي لم ينعم له فقعد له فقتله ثم حمله إلى موسى فقال يا نبي الله هذا ابن عمي قد قتل فقال موسى من قتله قال لا أدري و كان القتل في بني إسرائيل عظيما فعظم ذلك على موسى (ع) و هذا هو المروي عن الصادق (ع).

المعنى‏

هذه الآيات معطوفة على ما تقدمها من الآيات الواردة في البيان لنعم الله تعالى على بني إسرائيل و مقابلتهم لها بالكفران و العصيان فقال و اذكروا أيضا من نكثكم ميثاقي الذي أخذته عليكم بالطاعة «إِذْ قالَ مُوسى‏ لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَ تَتَّخِذُنا هُزُواً» قال قوم موسى له أ تسخر بنا حيث سألناك عن القتيل فتأمرنا بذبح بقرة و إنما قالوا ذلك لتباعد ما بين الأمرين في الظاهر مع جهلهم بوجه الحكمة فيما أمرهم به لأن موسى ع أمرهم بالذبح و لم يبين لهم أن الذبح لأي معنى فقالوا أي اتصال لذبح البقرة بما ترافعنا فيه إليك فهذا استهزاء بنا «قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ‏


273
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 273

الْجاهِلِينَ» أي معاذ الله أن أكون من المستهزءين و إنما قال‏ «مِنَ الْجاهِلِينَ» ليدل على أن الاستهزاء لا يصدر إلا عن جاهل فإن من استهزأ بغيره لا يخلو إما أن يستهزئ بخلقته أو بفعل من أفعاله فأما الخلقة فلا معنى للاستهزاء بها و أما الفعل فإذا كان قبيحا فالواجب أن ينبه فاعله على قبحه لينزجر عنه فأما إن يستهزئ به فلا فالاستهزاء على هذا يكون كبيرة لا يقع إلا عن جاهل به أو محتاج إليه فإذا قيل لم أمروا بذبح البقرة دون غيرها فقد قيل فيه لأنها من جنس ما عبدوه من العجل ليهون عندهم ما كانوا يرونه من تعظيمه فيزول ما كان في نفوسهم من عبادته و إنما أحيا الله القتيل بقتل حي ليكون أظهر لقدرته في اختراع الأشياء من أضدادها فلما علموا أن ذبح البقرة فرض من الله تعالى سألوا عنها فبدأوا بسنها فقالوا «ادْعُ لَنا رَبَّكَ» أي سل من أجلنا ربك‏ «يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ» و لم يظهر في السؤال أن المسئول عنه سن البقرة و إنما ظهر ذلك في الجواب‏ «قالَ» موسى ع‏ «إِنَّهُ يَقُولُ» أي إن الله عز اسمه يقول‏ «إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَ لا بِكْرٌ» أي ليست بكبيرة هرمة و لا صغيرة «عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ» أي هي وسط بين الصغيرة و الكبيرة و هي أقوى ما يكون و أحسن من البقر و الدواب عن ابن عباس و قيل وسط ولدت بطنا أو بطنين عن مجاهد «فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ» أي اذبحوا ما أمرتم بذبحه فلما بين سبحانه سن البقرة سألوا عن لونها «قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها» أي سل ربك يبين لنا ما لون البقرة التي أمرنا بذبحها «قالَ» موسى‏ «إِنَّهُ» سبحانه و تعالى‏ «يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ» حتى قرنها و ظلفها أصفران عن الحسن و سعيد بن جبير «فاقِعٌ لَوْنُها» أي شديدة صفرة لونها و قيل خالص الصفرة و قيل حسن الصفرة و قوله‏ «تَسُرُّ النَّاظِرِينَ» أي تعجب الناظرين و تفرحهم بحسنها عن قتادة و غيره و

روي عن الصادق (ع) أنه قال‏ من لبس نعلا صفراء لم يزل مسرورا حتى يبليها كما قال الله تعالى‏ «صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ»

و لما بين سبحانه سن البقرة و لونها سألوا عن صفتها ف «قالُوا» يا موسى‏ «ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ» أي من العوامل أم من السوائم‏ «إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا» أي اشتبه علينا صفة البقرة التي أمرنا الله بذبحها «وَ إِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ» إلى صفة البقرة بتعريف الله إيانا و بما يشاؤه لنا من اللطف و الزيادة في البيان و

روى ابن جريج و قتادة عن ابن عباس عن النبي ص‏ أنهم أمروا بأدنى بقرة و لكنهم لما شددوا على أنفسهم شدد الله عليهم و أيم الله لو لم يستثنوا ما بينت لهم إلى آخر الأبد

«قالَ» يعني موسى (ع) «إِنَّهُ» يعني الله تعالى‏ «يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ» أي البقرة التي أمرتم بذبحها «لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ» أي لم يذللها العمل بإثارة الأرض بأظلافها «وَ لا تَسْقِي الْحَرْثَ» أي لا يستقي عليها الماء فتسقي الزرع‏ «مُسَلَّمَةٌ» أي بريئة من العيوب‏


274
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 273

عن قتادة و عطاء و قيل مسلمة من الشية ليس لها لون يخالف لونها عن مجاهد و قيل سليمة من آثار العمل لأن ما كان من العوامل لا يخلو من آثار العمل في قوائمه و بدنه و قال الحسن أنها كانت وحشية «لا شِيَةَ فِيها» قال أهل اللغة لا وضح فيها يخالف لون جلدها و قيل لا لون فيها سوى لونها عن قتادة و مجاهد «قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ» أي ظهر لنا الحق الآن و هي بقرة فلان و هذا يدل على أنهم جوزوا أنه قبل ذلك لم يجي‏ء بالحق على التفصيل و إنما أتى به على وجه الجملة و قال قتادة الآن بينت الحق و هذا يدل على أنه كان فيهم من يشك في أن موسى (ع) ما بين الحق‏ «فَذَبَحُوها» يعني ذبحوا البقرة على ما أمروا به‏ «وَ ما كادُوا يَفْعَلُونَ» أي قرب أن لا يفعلوا ذلك مخافة اشتهار فضيحة القاتل و قيل كادوا لا يفعلون ذلك لغلاء ثمنها فقد حكي عن ابن عباس أنهم اشتروها بمل‏ء جلدها ذهبا من مال المقتول و عن السدي بوزنها عشر مرات ذهبا قال عكرمة و ما ثمنها إلا ثلاثة دنانير و نذكر هاهنا فصلا موجزا ينجذب إلى الكلام في أصول الفقه اختلف العلماء في هذه الآيات فمنهم من ذهب إلى أن التكليف فيها متغاير و أنهم لما قيل لهم اذبحوا بقرة لم يكن المراد منهم إلا ذبح أي بقرة شاءوا من غير تعيين بصفة و لو أنهم ذبحوا أي بقرة اتفقت لهم كانوا قد امتثلوا الأمر فلما لم يفعلوا كان المصلحة أن يشدد عليهم التكليف و لما راجعوا المرة الثانية تغيرت مصلحتهم إلى تكليف ثالث ثم اختلف هؤلاء من وجه آخر فمنهم من قال في التكليف الأخير أنه يجب أن يكون مستوفيا لكل صفة تقدمت فعلى هذا القول يكون التكليف الثاني و الثالث ضم تكليف إلى تكليف زيادة في التشديد عليهم لما فيه من المصلحة و منهم من قال إنه يجب أن يكون بالصفة الأخيرة فقط دون ما تقدم و على هذا القول يكون التكليف الثاني نسخا للأول و التكليف الثالث نسخا للثاني و قد يجوز نسخ الشي‏ء قبل الفعل لأن المصلحة تجوز أن يتغير بعد فوات وقته و إنما لا يجوز نسخ الشي‏ء قبل وقت الفعل لأن ذلك يؤدي إلى البداء و ذهب آخرون إلى أن التكليف واحد و أن الأوصاف المتاخرة هي للبقرة المتقدمة و إنما تأخر البيان و هو مذهب المرتضى قدس الله روحه و استدل بهذه الآية على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة قال إنه تعالى لما كلفهم ذبح بقرة قالوا لموسى ع‏ «ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ» فلا يخلو قولهم ما هي من أن يكون كناية عن البقرة المتقدم ذكرها أو عن التي أمروا بها ثانيا و الظاهر من قولهم ما هي يقتضي أن يكون السؤال عن صفة البقرة المأمور بذبحها لأنه لا


275
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): الآيات 72 الى 73] ..... ص : 276

 

علم لهم بتكليف ذبح بقرة أخرى فيستفهموا عنها و إذا صح ذلك فليس يخلو قوله‏ «إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَ لا بِكْرٌ» من أن يكون الهاء فيه كناية عن البقرة الأولى أو عن غيرها و ليس يجوز أن يكون كناية عن بقرة ثانية لأن الظاهر يقتضي أن تكون الكناية متعلقة بما تضمنه سؤالهم و لأنه لو لم يكن الأمر على ذلك لم يكن جوابا لهم و قول القائل في جواب من سأله ما كذا و كذا أنه بالصفة الفلانية صريح في أن الهاء كناية عما وقع السؤال عنه هذا مع قولهم‏ «إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا» فإنهم لم يقولوا ذلك إلا و قد اعتقدوا أن خطابهم مجمل غير مبين و لو كان الأمر على ما ذهب إليه القوم فلم لم يقل لهم و أي تشابه عليكم و إنما أمرتم في الابتداء بذبح بقرة أي بقرة كانت و في الثاني بما يختص بالسن المخصوص و في الثالث بما يختص باللون المخصوص من أي البقر كان و أما قوله‏ «فَذَبَحُوها وَ ما كادُوا يَفْعَلُونَ» فالظاهر أن ذمهم مصروف إلى تقصيرهم أو تأخيرهم امتثال الأمر بعد البيان التام و هو غير مقتض ذمهم على ترك المبادرة في الأول إلى ذبح بقرة فلا دلالة في الآية على ذلك.

[سورة البقرة (2): الآيات 72 الى 73]

وَ إِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَ اللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى‏ وَ يُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73)

اللغة

ادارأتم اختلفتم و أصله تدارأتم فأدغمت التاء في الدال بعد أن سكنت ثم جعلوا قبلها همزة الوصل ليمكن النطق بالساكن و أصل الدرء الدفع و منه‏

الحديث‏ ادرءوا الحدود بالشبهات‏

و منه قوله‏ وَ يَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ‏ و قال رؤبة:

أدركتها قدام كل مدرة

 

بالدفع عني درء كل عنجة

     

 

و قيل الدارأ العوج و منه قول الشاعر:

فنكب عنهم درء الأعادي‏

 

و داووا بالجنون من الجنون‏

     

 

.

 

 

 

276
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 277

المعنى‏

ثم بين الله سبحانه المقصود من الأمر بالذبح فبدأ بذكر القتل و قال‏ «وَ إِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً» ذكر فيه وجهان (أحدهما) أنه متقدم في المعنى على الآيات المتقدمة في اللفظ فعلى هذا يكون تأويله و إذ قتلتم نفسا «فَادَّارَأْتُمْ فِيها» فسألتم موسى فقال لكم إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة فقدم المؤخر و أخر المقدم و نحو ذا كثير في القرآن و الشعر قال سبحانه‏ «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى‏ عَبْدِهِ الْكِتابَ وَ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً» تقديره أنزل على عبده الكتاب قيما و لم يجعل له عوجا و قال الشاعر:

إن الفرزدق صخرة ملمومة

طالت فليس ينالها الأوعالا

 

أي طالت الأوعال (و الوجه الآخر) أن الآية قد تعلقت بما هو متأخر في الحقيقة و هو قوله‏ «فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها» الآية فكأنه قال فذبحوها و ما كادوا يفعلون و لأنكم قتلتم نفسا فادارأتم فيها أمرناكم أن تضربوه ببعضها لينكشف أمره و المراد و اذكروا إذ قتلتم نفسا و هذا خطاب لمن كان على عهد النبي ص و المراد به أسلافهم على عادة العرب في خطاب الأبناء و الأحفاد بخطاب الأسلاف و الأجداد و خطاب العشيرة بما يكون من أحدها فقالت فعلت بنو تميم كذا و إن كان الفاعل واحدا و يحتمل أن يكون خطابا لمن كان في زمن موسى ع و تقديره و قلنا لهم و إذ قتلتم نفسا و قيل إن اسم المقتول عاميل‏ «فَادَّارَأْتُمْ فِيها» الهاء من فيها يعود إلى النفس أي كل واحد دفع قتل النفس عن نفسه و قيل إنها تعود إلى القتلة أي اختلفتم في القتلة لأن قوله‏ «قَتَلْتُمْ» يدل على المصدر و عودها إلى النفس أولى و أشبه بالظاهر «وَ اللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ» أي مظهر ما كنتم تسرون من القتل و قيل معناه أنه مخرج من غامض أخباركم و مطلع من معايبكم و معايب أسلافكم على ما تكتمونه أنتم و هو خطاب لليهود في زمن النبي ص‏ «فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها» أي قلنا لهم اضربوا القتيل ببعض البقرة و اختلفوا في البعض المضروب به القتيل فقيل ضرب بفخذ البقرة فقام حيا و قال قتلني فلان ثم عاد ميتا عن مجاهد و قتادة و عكرمة و قيل ضرب بذنبها عن سعيد بن جبير و قيل بلسانها عن الضحاك و قيل ضرب بعظم من عظامها عن أبي العالية و قيل بالبضعة التي بين الكتفين عن السدي و قيل ضرب ببعض آرابها عن أبي زيد و هذه الأقاويل كلها محتملة الظاهر و المعلوم أن الله سبحانه و تعالى أمر أن يضرب القتيل ببعض البقرة ليحيا القتيل إذا فعلوا ذلك فيقول فلان قتلني ليزول الخلف و التدارؤ بين القوم‏


277
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 74] ..... ص : 278

و الصانع عز اسمه و إن كان قادرا على إحيائه من دون ذلك فإنما أمرهم بذلك لأنهم سألوا موسى أن يبين لهم حال القتيل و هم كانوا يعدون القربان من أعظم القربات و كانوا جعلوا له بيتا على حدة لا يدخله إلا خيارهم فأمرهم الله بتقديم هذه القربة تعليما منه لكل من اعتاص عليه أمر من الأمور أن يقدم نوعا من القرب قبل أن يسأل الله تعالى كشف ذلك عنه ليكون أقرب إلى الإجابة و إنما أمرهم بضرب القتيل ببعضها بعد أن جعل اختيار وقت الإحياء يهم ليعلموا أن الله سبحانه و تعالى قادر على إحياء الأموات في كل وقت من الأوقات و التقدير في الآية فقلنا اضربوه ببعضها فضربوه فحيي كما قال سبحانه‏ «اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ» تقديره فضرب فانفلق و قوله‏ «كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى‏» يحتمل أن يكون حكاية عن قول موسى (ع) لقومه أي اعلموا بما عاينتموه أن الله تعالى قادر على إحياء الموتى للجزاء و يحتمل أن يكون خطابا من الله تعالى لمشركي قريش و الإشارة وقعت إلى قيام المقتول عند ضربه ببعض أعضاء البقرة لأنه‏

روي‏ أنه قام حيا و أوداجه تشخب دما فقال قتلني فلان ابن عمي ثم قبض‏

«وَ يُرِيكُمْ آياتِهِ» يعني المعجزات الباهرة الخارقة للعادة من إحياء ذلك الميت و غيره و قيل أراد الأعلام الظاهرة الدالة على صدق محمد ص‏ «لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» أي لكي تستعملوا عقولكم فإن من لم يستعمل عقله و لم يبصر رشده فهو كمن لا عقل له و قيل لكي تعقلوا ما يجب عليكم من أمور دينكم و احتج الله تعالى بهذه الآيات على مشركي العرب فيما استبعدوه من البعث و قيام الأموات بقولهم‏ «أَ إِذا كُنَّا عِظاماً وَ رُفاتاً أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً» فأخبرهم سبحانه بأن الذي أنكروه و استبعدوه لا يتعذر في اتساع قدرته و نبههم على ذلك بذكر المقتول و إحيائه بعد خروجه من الحياة و أبطنوا خبر قتله و كيفيته و قيامه بعد القتل حيا مخاطبا باسم قتلته مؤذنا لهم أن إحياء جميع الأموات بعد أن صاروا عظاما باليات لا يصعب عليه و لا يتعذر بل يهون عنده و يتيسر و فيها دلالة على صدق نبوة نبينا محمد ص حيث أخبرهم بغوامض أخبارهم التي لا يجوز أن يعلمها إلا من قرأ كتب الأولين أو أوحي إليه من عند رب العالمين و قد صدقه مخالفوه من اليهود فيما أخبر به من هذه الأقاصيص و قد علموا أنه أمي لم يقرأ كتابا و لم يرتابوا في ذلك و هذه آية صادعة و حجة ساطعة في تثبيت نبوته ص.

[سورة البقرة (2): آية 74]

ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَ إِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَ إِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَ إِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)


278
مجمع البيان في تفسير القرآن1

القراءة ..... ص : 279

القراءة

قرأ ابن كثير وحده هاهنا عما يعملون بالياء و الباقون بالتاء و اختلفوا في قوله تعالى «و ما الله بغافل عما تعملون» «و ما ربك بغافل عما تعملون» قرأهما أبو جعفر وحده بالتاء في كل القرآن إلا في الأنعام و قرأ ابن عامر بالياء في كل القرآن و قرأ حمزة و الكسائي الأول بالتاء و الثاني بالياء في كل القرآن و اختلف عن ابن كثير و نافع و عاصم و أبي عمرو.

الحجة

قال أبو علي القول في ذلك أن ما كان قبله خطاب جعل بالتاء ليكون الخطاب معطوفا على خطاب كقوله‏ «ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ» ثم قال‏ «عَمَّا تَعْمَلُونَ» بالتاء و لو كان بالياء على لفظ الغيبة أي و ما الله بغافل عما يعمل هؤلاء أيها المسلمون لكان حسنا و إن كان الذي قبله غيبة حسن أن يجعل على لفظ الغيبة و يجوز فيه الخطاب أيضا و وجه ذلك أن يجمع بين الغيبة و الخطاب فيغلب الخطاب على الغيبة كتغليب المذكر على المؤنث أ لا ترى أنهم قدموا الخطاب على الغيبة في باب الضمير و هو موضع ترد فيه الأشياء إلى أصولها نحو تك في نحو قوله (فلا تك ما أسأل و لا أغاما) فلما قدموا المخاطب على الغائب فقالوا أعطاكه و لم يقولوا أعطاهوك علم أنه أقدم في الرتبة فإذا كان الأمر على هذا فالخطاب في هذا النحو يعني به الغيب و المخاطبون فيغلب الخطاب على الغيبة و يجوز فيه وجه آخر و هو أن يراد به و قل لهم أيها النبي ما الله بغافل عما تعملون و الله أعلم.

اللغة

القسوة ذهاب اللين و الرحمة من القلب يقال قسا قلبه يقسو قسوا و قسوة و قساوة و القسوة الصلابة في كل شي‏ء و نقيضه الرقة و الشدة القوة في الجسم و الشدة صعوبة الأمر و الشد العقد و النهر المجرى الواسع من مجاري الماء و الجدول و السري دون ذلك يقال نهر و نهر و الفتح أفصح قال سبحانه‏ فِي جَنَّاتٍ وَ نَهَرٍ و جمعه نهر و أنهار و التفجر التفعل من فجر الماء و ذلك إذا أنزل خارجا من منبعه و كل سائل شخص خارجا من موضعه و مكانه فقد انفجر ماء كان أو دما أو غير ذلك قال عمر بن لجأ:


279
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى و الإعراب ..... ص : 280

 

و لما أن قرنت إلى جرير

أبى ذو بطنه إلا انفجارا

 

أي خروجا و سيلانا و أصل يشقق يتشقق أدغمت التاء في الشين و هو أن ينقطع من غير أن يبين و الغفلة السهو عن الشي‏ء و هو ذهاب المعنى عن النفس بعد حضوره و يقال تغافلت على عمد أي عملت عمل الساهي.

المعنى و الإعراب‏

لما قدم سبحانه ذكر المعجزات القاهرة و الأعلام الظاهرة بين ما فعلوا بعدها من العصيان و الطغيان فقال عز اسمه‏ «ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ» أي غلظت و يبست و عتت و قشت‏ «مِنْ بَعْدِ ذلِكَ» أي من بعد آيات الله كلها التي أظهرها على يد موسى ع و قيل أنه أراد بني أخي المقتول حين أنكروا قتله بعد أن سمعوه منه عند إحياء الله تعالى إياه أنه قتله فلان عن ابن عباس فيكون ذلك إشارة إلى الإحياء أي من بعد إحياء الميت لكم ببعض من أعضاء البقرة بعد أن تدارأتم فيه فأخبركم بقاتله و السبب الذي من أجله قتله و كان يجب ممن شاهد هذه الآية العجيبة و المعجزة الخارقة للعادة أن يخضع و يلين قلبه و يحتمل أن يكون ذلك إشارة أيضا إلى الآيات الآخر التي تقدمت كمسخ القردة و الخنازير و رفع الجبل فوقهم و انبجاس الماء من الحجر و انفراق البحر و غير ذلك و إنما جاز أن يقول ذلك و أن كانوا جماعة و لم يقل ذلكم لأن الجماعة في معنى الجمع و الفريق فلفظ الخطاب مفرد في معنى الجمع و لو قال ذلكم لجاز و قوله‏ «فَهِيَ كَالْحِجارَةِ» شبه قلوبهم بالحجارة في الصلابة و اليبس و الغلظ و الشدة و

قد ورد الخبر عن النبي ص أنه قال‏ لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله تقسي القلب و إن أبعد الناس من الله القاسي القلب‏

«أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً» أي أو هي أشد قسوة و يجوز أن يكون عطفا على موضع الكاف و كأنه قال فهي مثل الحجارة أو أشد قسوة أي أشد صلابة لامتناعهم عن الإقرار اللازم بقيام حجته و العمل بالواجب من طاعته بعد مشاهدة الآيات و قيل في تأويل أو هاهنا وجوه (أحدها) ما ذكره الزجاج أن معناها الإباحة كقولهم جالس الحسن أو ابن سيرين فإن جالست أحدهما أو جمعت بينهما فأنت مصيب فيكون معنى الآية على هذا أن قلوبهم قاسية فإن شبهت قسوتها بالحجر أصبت و إن شبهتها بما هو أشد أصبت و إن شبهتها بهما جميعا أصبت كما مر نحو هذا في قوله سبحانه‏ «أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ» (و ثانيها) أن يكون أو دخلت للتفصيل و التمييز فيكون معنى الآية إن قلوبهم قاسية فبعضها كالحجارة و بعضها أشد قسوة من الحجارة و قد يحتمل قوله تعالى‏ «أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ»


280
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى و الإعراب ..... ص : 280

هذا الوجه أيضا (و ثالثها) أن يكون أو دخلت على سبيل الإبهام فيما يرجع إلى المخاطب و إن كان تعالى عالما بذلك غير شاك فيه فأخبر أن قسوة قلوب هؤلاء كالحجارة أو أشد قسوة و المعنى أنها كأحد هذين لا يخرج عنهما كما يقال أكلت بسرة أو تمرة و هو يعلم ما أكله على التفصيل إلا أنه أبهم على المخاطب و كما قال لبيد:

تمنى ابنتاي أن يعيش أبوهما

و هل أنا إلا من ربيعة أو مضر

 

أراد و هل أنا إلا من أحد هذين الجنسين فسبيلي أن أفنى كما فنيا و إنما حسن ذلك لأن غرضه الذي نحاه هو أن يخبر بكونه ممن يموت و يفنى و لم يخل بقصده الذي أجري إليه إجمال ما أجمل من كلامه فكذلك هنا الغرض الإخبار عن شدة قسوة قلوبهم و أنها مما لا يصغي إلى وعظ و لا يعرج على خير فسواء كانت كالحجارة أو أشد منها في أنه لا يحتاج إلى ذكر تفصيله (و رابعها) أن يكون أو بمعنى بل كما قال الله تعالى‏ «وَ أَرْسَلْناهُ إِلى‏ مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ» و معناه بل يزيدون و روي عن ابن عباس أنه قال كانوا مائة ألف و بعضا و أربعين ألف و أنشد الفراء:

بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى‏

و صورتها أو أنت في العين أملح‏

 

كما تكون أم المنقطعة في الاستفهام بمعنى بل يقول القائل أ ضربت عبد الله أم أنت متعنت أي بل أنت و قال الشاعر:

فو الله ما أدري أ سلمى تغولت‏

أم النوم أم كل إلى حبيب‏

 

معناه بل كل و قد طعن على هذا الجواب فقيل كيف يجوز أن يخاطبنا الله عز اسمه بلفظة بل و هي تقتضي الاستدراك و النقض للكلام الماضي و الإضراب عنه و هذا غير سديد لأن الاستدراك أن أريد به الاستفادة أو التذكر لما لم يكن معلوما فلا يصح و إن أريد به الأخذ في الكلام الماضي و استئناف زيادة عليه فهو صحيح فالقائل إذا قال أعطيته ألفا بل ألفين لم ينقض الأول و كيف ينقضه و الأول داخل في الثاني و إنما أراد عليه و إنما يكون ناقضا للثاني لو قال لقيت رجلا بل حمارا لأن الأول لا يدخل في الثاني على وجه و قوله تعالى‏ «أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً» غير ناقض للأول لأنها لا تزيد على الحجارة إلا بأن يساويها و إنما تزيد عليها بعد المساواة (و خامسها) أن يكون بمعنى الواو كقوله تعالى‏ «أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ» معناه و بيوت آبائكم قال جرير:

أ ثعلبة الفوارس أو رياحا

عدلت بهم طهية و الخشابا

 


281
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى و الإعراب ..... ص : 280

أراد و رياحا و قال أيضا:

نال الخلافة أو كانت له قدرا

كما أتى ربه موسى على قدر

 

و قال توبة بن الحمير:

و قد زعمت ليلى بأني فاجر

لنفسي تقاها أو عليها فجورها

 

فإن قيل كيف يكون أو في الآية بمعنى الواو و الواو للجمع و الشي‏ء إذا كان على صفة لم يجز أن يكون على خلافها أجيب عنه بأنه ليس يمتنع أن تكون قلوبهم كالحجارة في حالة و أشد من الحجارة في حالة أخرى فيصح المعنى و لا يتنافى و فائدة هذا الجواب أن قلوب هؤلاء مع قساوتها ربما لانت بعض اللين و كادت تصغي إلى الحق فتكون في هذا الحال كالحجارة التي ربما لانت و تكون في حال أخرى في نهاية البعد عن الخير فتكون أشد من الحجارة.

و جواب آخر و هو أن قلوبهم لا تكون أشد من الحجارة إلا بعد أن يكون فيها قسوة الحجارة لأن قولنا فلان أعلم من فلان إخبار بأنه زائد عليه في العلم الذي اشتركا فيه فلا بد من الاشتراك ثم الزيادة فلا تنافي هاهنا ثم فضل سبحانه الحجارة على القلب القاسي فقال‏ «وَ إِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ» معناه أن من الحجارة ما هو أنفع من قلوبكم القاسية فيتفجر منه أنهار الماء و استغنى بذكر الأنهار عن ذكر الماء و قيل المراد منه الحجر الذي كان ينفجر منه اثنتا عشرة عينا و قيل هو عام‏ «وَ إِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ» يعني و من الحجارة ما يخرج منه الماء فيكون عينا نابعة لا أنهارا جارية حتى يكون مخالفا للأول و قال الحسين بن علي المغربي الحجارة الأولى حجارة الجبال منها تتفجر الأنهار و الثانية حجر موسى ع الذي كان يضربه فيخرج منه العيون فلا يكون تكرارا و قوله‏ «وَ إِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ» الضمير في منها يرجع إلى الحجارة أي و من الحجارة ما يهبط من خشية الله و عليه أكثر أهل التفسير و قيل يرجع إلى القلوب أي و من القلوب ما يهبط من خشية الله أي تخشع و هي قلوب من آمن من أهل الكتاب فيكونون مستثنين من القاسية قلوبهم عن أبي مسلم و من قال إن الضمير يرجع إلى الحجارة فإنهم اختلفوا في تأويله على وجوه (أحدها) ما روي عن مجاهد و ابن جريج أن كل حجر تردى من رأس جبل فهو من خشية الله فمعناه أن الحجارة قد تصير إلى الحال التي ذكرها


282
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى و الإعراب ..... ص : 280

من خشية الله و قلوب اليهود لا تخشى و لا تخشع و لا تلين لأنهم عارفون بصدق محمد ثم لا يؤمنون به فقلوبهم أقسى من الحجارة (و ثانيها) ما قاله الزجاج إن الله تعالى أعطى بعض الجبال المعرفة فعقل طاعة الله نحو الجبل الذي تجلى الله عز و جل له حين كلم موسى فصار دكا و كما

روي عن النبي ص أنه قال‏ إن حجرا كان يسلم علي في الجاهلية و إني لأعرفه الآن‏

و هذا الوجه ضعيف لأن الجبل إذا كان جمادا فمحال أن يكون فيه معرفة الله و إن كان بنيته بنية الحي فإنه لا يكون جبلا و أما الخبر فإن صح فإن معناه أنه سبحانه أحياه فسلم على النبي ص ثم أعاده حجرا و يكون معجزا له ع (و ثالثها) أنه يدعو المتفكر فيه إلى خشية الله أو يوجب الخشية له بدلالته على صانعه لما يرى فيه من الدلالات و العجائب و أضاف الخشية إليه لأن التفكر فيه هو الداعي إلى الخشية كما قال جرير بن عطية:

و أعور من نبهان أما نهاره‏

فأعمى و أما ليلة فبصير

 

فجعل الصفة لليل و النهار و هو يريد صاحبه النبهاني الذي يهجوه بذلك من أجل أنه كان فيهما على ما وصفه به (و رابعها) أنه إنما ذكر ذلك على سبيل ضرب المثل أي كأنه يخشى الله سبحانه في المثل لانقياده لأمره و وجد منه ما لو وجد من حي عاقل لكان دليلا على خشية كقوله سبحانه‏ «فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ» أي كأنه يريد لأنه ظهر فيه من الميل ما لو ظهر من حي لدل على إرادته الانقضاض و مثله قوله‏ «وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ» و كما قال زيد الخيل:

بجمع تضل البلق في حجراته‏

ترى الأكم فيها سجدا للحوافر

 

فجعل ما ظهر في الأكم من آثار الحوافر و قلة مدافعتها لها كما يدافع الحجر الصلد سجودا لها و لو كانت الأكم في صلابة الحديد حتى تمتنع على الحوافر لم يقل أنها تسجد للحوافر قال جرير:

لما أتى خبر الزبير تواضعت‏

سور المدينة و الجبال الخشع‏

 

أي كأنها كذلك و قال جرير أيضا:

و الشمس طالعة ليست بكاسفة

تبكي عليك نجوم الليل و القمرا

 


283
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 75] ..... ص : 284

و كما قال سبحانه‏ «لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى‏ جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ» أي لو كانت الجبال مما يخشع لشي‏ء ما لرأيته خاشعا و يؤيد هذا الوجه قوله سبحانه‏ «وَ تِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ».

و (خامسها) أن هبط يجوز أن يكون متعديا قال الشاعر:

ما راعني إلا جناح هابطا

على البيوت قوطه العلابطا

 

فاعمله بالقوط كما ترى و يكون على هبطت الشي‏ء فهبط فمعناه يهبط غيره من خشية الله أي إذا رآه الإنسان خشع لطاعة خالقه إلا أنه حذف المفعول تخفيفا و لدلالة الكلام عليه و نسب الفعل إلى الحجر لأن طاعة رائية لخالقه سببها النظر إليه أي منها ما يهبط الناظر إليه أي يخضعه و يخشعه و قوله‏ «وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ» أيها المكذبون بآياته الجاحدون نبوة نبيه محمد ص و قد ذكرناه قبل.

[سورة البقرة (2): آية 75]

أَ فَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَ قَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (75)

اللغة

الطمع تعليق النفس بما تظنه من النفع و نظيره الأمل و الرجاء و نقيضه اليأس و الفريق جمع كالطائفة لا واحد له من لفظه و هو فعيل من التفرق كما سميت الجماعة بالحزب من التحزب قال الأعشى بن ثعلبة:

أجدوا فلما خفت أن يتفرقوا

فريقين منهم مصعد و مصوب‏

 

و التحريف في الكلام تغيير الكلمة عن معناها.

الإعراب‏

«أَ فَتَطْمَعُونَ» ألف استخبار تجري في كثير من المواضع مجرى الإنكار إذا لم يكن معها نفي فإذا جاءت مع النفي فإنكار النفي تثبيت و يكون بمعنى الاستدعاء إلى الإقرار نحو أَ لَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ‏ فجوابه بلى كقوله‏ «أَ لَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قالُوا بَلى‏» و جواب أ فتطمعون لا على ما ذكرناه.


284
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 285

 

المعنى‏

هذا خطاب لأمة نبينا محمد ص يقول‏ «أَ فَتَطْمَعُونَ» أيها المؤمنون‏ «أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ» من طريق النظر و الاعتبار و الانقياد للحق بالاختيار «وَ قَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ» أي ممن هو في مثل حالهم من أسلافهم‏ «يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ» و يعلمون أنه حق و يعاندون فيحرفونه و يتأولونه على غير تأويله و قيل إنهم علماء اليهود الذين يحرفون التوراة فيجعلون الحلال حراما و الحرام حلالا اتباعا لأهوائهم و إعانة لمن يرشوهم عن مجاهد و السدي و قيل إنهم السبعون رجلا الذين اختارهم موسى من قومه فسمعوا كلام الله فلم يمتثلوا أمره و حرفوا القول في إخبارهم لقومهم حين رجعوا إليهم عن ابن عباس و الربيع فيكون على هذا كلام الله معناه كلام الله لموسى وقت المناجاة و قيل المراد بكلام الله صفة محمد ص في التوراة و قوله‏ «ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ» قيل فيه وجهان (أحدهما) أن يكون معناه أنهم غيروه من بعد ما فهموه فأنكروه عنادا «وَ هُمْ يَعْلَمُونَ» أنهم يحرفونه أي يغيرونه (و الثاني) أن معناه من بعد ما تحققوه و هم يعلمون ما عليهم في تحريفه من العقاب و الأول أليق بمذهبنا في الموافاة و إنما أراد الله سبحانه بالآية أن هؤلاء اليهود الذين كانوا على عهد النبي ص إن لم يؤمنوا به و كذبوه و جحدوا نبوته فلهم بآبائهم و أسلافهم الذين كانوا في زمان موسى (ع) أسوة إذا جروا على طريقتهم في الجحد و العناد و هؤلاء الذين عاندوا و حرفوا كانوا معدودين يجوز على مثلهم التواطؤ و الاتفاق في كتمان الحق و إن كان يمتنع ذلك على الجمع الكثير و الجم الغفير لأمر يرجع إلى اختلاف الدواعي و يبطل قول من قال إنهم كانوا كلهم عارفين معاندين لأن الله سبحانه إنما نسب فريقا منهم إلى المعاندة و إن كانوا بأجمعهم كافرين و في هذه الآية دلالة على عظم الذنب في تحريف الشرع و هو عام في إظهار البدع في الفتاوى و القضايا و جميع أمور الدين.

[سورة البقرة (2): آية 76]

وَ إِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَ إِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى‏ بَعْضٍ قالُوا أَ تُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (76)

 

 

 

285
مجمع البيان في تفسير القرآن1

اللغة ..... ص : 286

اللغة

الحديث و الخبر و النبأ نظائر مشتق من الحدوث و كأنه إخبار عن حوادث الزمان و الفتح في الأصل فتح المغلق و قد يستعمل في مواضع كثيرة فمنها الحكم يقال اللهم افتح بيني و بين فلان أي احكم‏ يَقُولُونَ مَتى‏ هذَا الْفَتْحُ‏ أي متى هذا القضاء و يوم الفتح يوم القضاء و قال الشاعر:

أ لا أبلغ بني عصم رسولا

فإني عن فتاحتكم غني‏

 

و يقال للقاضي الفتاح و منها التعليم يقال افتح علي هذا أي علمني ما عندك فيه و منها النصرة يقال استفتحه أي أطلب منه النصر و منه قوله‏ إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ‏ و يستعمل في فتح البلدان يقال فتح المسلمون أرض كذا و المحاجة و المجادلة و المناظرة نظائر فالمحاجة أن يحتج كل واحد من الخصمين على صاحبه و الحجة الوجه الذي به يكون الظفر عند الحجاج و يقال حاججته فحججته‏

و في الحديث‏ فحج آدم موسى‏

أي غلبه في الحجة و أصله من القصد و منه الحج و هو القصد إلى بيت الله الحرام على وجه مخصوص فالحجة هي النكتة المقصودة في تصحيح الأمور.

النزول‏

روي عن أبي جعفر الباقر ع أنه قال‏ كان قوم من اليهود ليسوا من المعاندين المتواطئين إذا لقوا المسلمين حدثوهم بما في التوراة من صفة محمد فنهاهم كبراؤهم عن ذلك و قالوا لا تخبروهم بما في التوراة من صفة محمد فيحاجوكم به عند ربكم فنزلت هذه الآية

و قال مجاهد نزلت في بني قريظة لما قال لهم النبي ص يا إخوة القردة و الخنازير

قالوا من أخبر محمدا بهذا ما خرج إلا منكم و قال السدي هؤلاء ناس من اليهود آمنوا ثم نافقوا فكانوا يحدثون المؤمنين من العرب بما عذب به أسلافهم فقال بعضهم لبعض أ تحدثونهم بما فتح الله عليكم من العذاب ليحاجوكم به فيقولون نحن أكرم على الله منكم.

المعنى‏

ثم ذكر الله سبحانه خصلة أخرى من خصالهم الذميمة فقال‏ «وَ» هم الذين‏ «إِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا» أي رأوهم‏ «قالُوا آمَنَّا» أي صدقنا بمحمد أنه نبي صادق نجده في كتابنا بنعته و صفته و بما صدقتم به و أقررنا بذلك أخبر الله تعالى عنهم أنهم تخلقوا بأخلاق المنافقين و تحلوا بحليتهم و استنوا بسنتهم‏ «وَ إِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى‏ بَعْضٍ» أي إذا خلا بعض هؤلاء اليهود الذين وصفهم الله إلى بعض منهم فصاروا في خلاء و هو


286
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 77] ..... ص : 287

 

الموضع الذي ليس فيه غيرهم‏ «قالُوا» يعني قال بعضهم لبعض‏ «أَ تُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ» قال الكلبي بما قضى الله عليكم في كتابكم أن محمدا حق و قوله صدق و روي سعيد بن جبير عن ابن عباس أن معناه قالوا لا تحدثوا العرب بهذا فإنكم قد كنتم تستفتحون به عليهم أي لا تقروا بأنه نبي و قد علمتم أنه قد أخذ له الميثاق عليكم باتباعه و أنه النبي الذي كنا ننتظره و نجده في كتابنا اجحدوه و لا تقروا لهم به و قال الكسائي أ تحدثونهم بما بينه الله لكم في كتابكم من العلم ببعث محمد ص و البشارة به و بعض الأقوال فيه ذكرناه في النزول و أقوى التأويلات قول من قال‏ «أَ تُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ» أي حكم الله به عليكم و قضاه فيكم و من حكمه عليكم ما أخذ به ميثاقكم من الإيمان بمحمد ص و صفته الموصوفة لكم في التوراة و من قضائه فيكم أنه جعل منكم القردة و الخنازير و قوله‏ «لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ» أي ليكون لهم الحجة عليكم عند الله في الدنيا و الآخرة في إيمانهم بالنبي ص إذ كنتم مقرين به و مخبرين بصحة أمره من كتابكم فهذا يبين حجتهم عليكم عند الله و قيل معناه ليجادلوكم و يقولوا لكم قد أقررتم أنه نبي حق في كتابكم ثم لا تتبعونه و قوله‏ «عِنْدَ رَبِّكُمْ» قال ابن الأنباري معناه في حكم ربكم كما يقال هذا حلال عند الشافعي أي في حكمه و هذا يحل عند الله أي في حكمه و قوله‏ «أَ فَلا تَعْقِلُونَ» أي أ فلا تفقهون أيها القوم أن إخباركم محمدا و أصحابه بما تخبرونهم به من وجود نعت محمد في كتبكم حجة عليكم عند ربكم يحتجون بها عليكم و قيل معناه أ فلا تعقلون أيها المؤمنون أنهم لا يؤمنون فلا تسمعوا في ذلك عن الحسن و قيل إنه خطاب لليهود أي فلا تعقلون أيها اليهود إذ تقبلون من رؤسائكم مثل هذا و هذا تحذير لهم عن الرجوع إلى قول رؤسائهم.

[سورة البقرة (2): آية 77]

أَ وَ لا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَ ما يُعْلِنُونَ (77)

المعنى‏

«أَ وَ لا يَعْلَمُونَ» يعني اليهود أن الله يعلم سرهم و علانيتهم فكيف يستجيزون أن يسروا إلى إخوانهم النهي عن التحدث بما هو الحق و هم مقرون بذلك غير جاحدين بأن الله يعلم سرهم و جهرهم كالكفار و المنافقين فهم من هذه الجهة ألوم و المذمة لهم ألزم عن أكثر المفسرين و قيل معناه أ و لا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون من كفرهم‏

 

 

 

287
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 78] ..... ص : 288

و تكذيبهم محمدا إذا خلا بعضهم إلى بعض و ما يعلنون من قولهم آمنا إذا لقوا أصحاب محمد ليرضوهم بذلك عن قتادة و أبي العالية.

[سورة البقرة (2): آية 78]

وَ مِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاَّ أَمانِيَّ وَ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (78)

القراءة

قرأ أبو جعفر و شيبة و الحسن أماني مخففة و الباقون بالتشديد و كذلك في قوله‏ «لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَ لا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ».

الحجة

قال ابن جني الأصل فيه التثقيل أماني جمع أمنية و التخفيف في هذا النحو كثير و المحذوف منه الياء الأولى التي هي نظيرة ياء المد مع غير الإدغام نحو ياء قراطيس و حوامين و أراجيح جمع حومانة و أرجوحة أ لا تراها قد حذفت في نحو قوله:

و البكرات الفسج العطامسا

 

و قوله:

و غير سفع مثل يحامم‏

 

يريد عطاميس و يحاميم على أن حذف الياء مع الإدغام أسهل من حذفه و لا إدغام معه و ذلك أن هذه الياء لما أدغمت خفيت و كادت تستهلك فإذا أنت حذفتها فكأنك إنما حذفت شيئا هو في حال وجوده في حكم المحذوف.

اللغة

الأمي الذي لا يحسن الكتابة و إنما سمي أميا لأحد وجوه (أحدها) أنه الأمة الخلقة فسمي أميا لأنه باق على خلقته و منه قول الأعشى:

و إن معاوية الأكرمين‏

حسان الوجوه طوال الأمم‏

 

(و ثانيها) أنه مأخوذ من الأمة التي هي الجماعة أي هو على أصل ما عليه الأمة في أنه لا يكتب لأنه يستفيد الكتابة بعد أن لم يكن يكتب (و ثالثها) أنه مأخوذ من الأم أي هو على ما ولدته أمه في أنه لا يكتب و قيل إنما نسب إلى أمه لأن الكتابة إنما تكون في الرجال دون النساء و الأمنية ذكر فيها وجوه (أحدها) أن معناها التلاوة يقال تمنى كتاب الله أي قرأ و تلا و قال كعب بن مالك:

تمنى كتاب الله أول ليلة

و آخره لاقى حمام المقادر

 


288
مجمع البيان في تفسير القرآن1

الإعراب ..... ص : 289

و قال آخر:

تمنى كتاب الله بالليل خاليا

تمني داود الزبور على رسل‏

 

(و ثانيها) أن المراد بالأماني الأحاديث المختلفة عن الفراء و العرب تقول أنت إنما تتمنى هذا القول أي تختلقه و قال بعضهم ما تمنيت مذ أسلمت أي ما كذبت (و ثالثها) أن المراد بالأماني أنهم يتمنون على الله ما ليس لهم مثل قولهم‏ «لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً» و قولهم‏ «نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَ أَحِبَّاؤُهُ» و قال الزجاج إذا قال القائل ما لا يعلمه فكأنه إنما يتمناه و هذا مستعمل في كلام الناس تقول للذي يقول ما لا حقيقة له و هو يحبه هذا أمنيتي و هذه أمنيته و الظن هو ترجيح أحد الجانبين على الآخر لأمارة صحيحة و ليس هو من قبيل الاعتقادات على الصحيح من المذهب و في الناس من قال هو اعتقاد.

الإعراب‏

قال الزجاج يرتفع أميون بالابتداء و منهم الخبر و في قول الأخفش يرتفع أميون بفعلهم كان المعنى و استقر منهم قال أبو علي ليس يرتفع أميون عند الأخفش بفعلهم و إنما يرتفع بالظرف الذي هو منهم و مذهب سيبويه أنه يرتفع بالابتداء ففي منهم عنده ضمير لقوله أميون و موضع منهم على مذهبه رفع لوقوعه موقع خبر الابتداء فأما على مذهب الأخفش فلا ضمير لقوله أميون في منهم و لا موضع له عنده كما لا موضع لذهب في قولك ذهب زيد و إنما رفع الأخفش الاسم بالظرف لأنه نظر إلى هذه الظروف فوجدها تجري مجرى الفعل في مواضع و في أنها تحتمل الضمير كما يحتمله الفعل و ما قام مقامه من أسماء الفاعلين و ما أشبه به و يؤكد ما فيها كما يؤكد ما في الفعل و ما قام مقامه في نحو مررت بقوم لك أجمعون و ينصب عنها الحال كما ينصب بالفعل و يوصل بهما الأسماء الموصولة كما يوصل بالفعل و الفاعل فيصير فيها ضمير الموصول كما يصير ضميره في الفعل و يوصف به النكرة كما يوصف بالفعل و الفاعل فلما رآها في هذه المواضع تقوم مقام الفعل أجراها أيضا مبتدأ مجرى الفعل فرفع بها الاسم كما رفع بالفعل إذا قامت هذه الظروف مقام الفعل في هذه المواضع فقال في عندك زيد و في الدار عمرو و منهم أميون و نحو ذلك أنه يرتفع بالظرف إذ كان الظرف قد أقيم مقام الفعل في غير هذه المواضع و الدليل على أن الاسم هاهنا مرتفع بالظرف دون الفعل الذي هو استقر و نحوه أنه لو كان مرتفعا بالفعل لجاز قائما في الدار زيد كما يجوز قائما استقر زيد فامتناع تقديم الحال هنا


289
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 290

يدل على أنه لا عمل للفعل هنا و قوله‏ «إِلَّا أَمانِيَّ» نصب على الاستثناء المنقطع كقوله‏ «ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ» و كقول الشاعر:

ليس بيني و بين قيس عتاب‏

غير طعن الكلى و ضرب الرقاب‏

 

و قول النابغة:

حلفت يمينا غير ذي مثنوية

و لا علم إلا حسن ظن بصاحب‏

 

و إن في قوله‏ «إِنْ هُمْ» بمعنى ما أي ما هم إلا ظانون فهم مبتدأ و يظنون خبره.

المعنى‏

«وَ مِنْهُمْ» يعني و من هؤلاء اليهود الذين قص الله قصصهم في هذه الآيات و قطع الطمع عن إيمانهم‏ «أُمِّيُّونَ» أي غير عالمين بمعاني الكتاب يعلمونها حفظا و تلاوة لا رعاية و دراية و فهما لما فيه عن ابن عباس و قتادة و قال أبو عبيدة الأميون هم الأمم الذين لم ينزل عليهم كتاب و النبي الأمي الذي لا يكتب و أنشد لتبع:

له أمة سميت في الزبور

أمية هي خير الأمم‏

 

و قوله‏ «لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ» أي لا يعلمون ما في الكتاب الذي أنزل الله عز و جل و لا يدرون ما أودعه الله إياه من الحدود و الأحكام و الفرائض فهم كهيئة البهائم مقلدة لا يعرفون ما يقولون و الكتاب المعنى به التوراة أدخل عليه لام التعريف‏ «إِلَّا» بمعنى لكن‏ «أَمانِيَّ» أي قولا يقولونه بأفواههم كذبا عن ابن عباس و قيل أحاديث يحدثهم بها علماؤهم عن الكلبي و قيل تلاوة يتلونها و لا يدرونها عن الكسائي و الفراء و قيل أماني يتمنون على الله الرحمة و يخطر الشيطان ببالهم أن لهم عند الله خيرا و يتمنون ذهاب الإسلام بموت الرسول ص و عود الرياسة إليهم و قيل أماني يتخرصون الكذب و يقولون الباطل و التمني في هذا الموضع هو تخلق الكذب و تخرصه و يقوي ذلك قوله‏ «وَ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ» فبين أنهم يختلقون ما يختلقون من الكذب ظنا لا يقينا و لو كان المعنى أنهم يتلونه لما كانوا ظانين و كذلك لو كانوا يتمنونه لأن الذي يتلوه إذا تدبره علمه و لا يقال للمتمني في حال وجود تمنيه أنه يظن تمنيه و لا أنه شاك فيما هو عالم به و اليهود الذين عاصروا النبي لم يشكوا في أن التوراة من عند الله و قوله‏ «وَ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ» و معناه أنهم يشكون و في هذه الآية دلالة على أن التقليد في معاني الكتاب و فيما طريقه العلم غير جائز و أن الاقتصار على‏


290
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 79] ..... ص : 291

الظن في أبواب الديانات لا يجوز و أن الحجة بالكتاب قائمة على جميع الخلق و إن لم يكونوا عالمين إذا تمكنوا من العلم به و إن من الواجب أن يكون التعويل على معرفة معاني الكتاب لا على مجرد تلاوته.

[سورة البقرة (2): آية 79]

فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَ وَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)

اللغة

الويل في اللغة كلمة يستعملها كل واقع في هلكة و أصله العذاب و الهلاك و مثله الويح و الويس و قال الأصمعي هو التقبيح و منه‏ وَ لَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ‏ و قال المفضل معناه الحزن و قال قوم هو الهوان و الخزي و منه قول الشاعر:

يا زبرقان أخا بني خلف‏

ما أنت ويل أبيك و الفخر

 

و أصل الكسب العمل الذي يجلب به نفع أو يدفع به ضرر و كل عامل عملا بمباشرة منه له و معاناة فهو كاسب له قال لبيد:

لمعفر قهد تنازع شلوه‏

غبس كواسب ما يمن طعامها

 

و قيل الكسب عبارة عن كل عمل بجارحة يجتلب به نفع أو يدفع به مضرة و منه يقال للجوارح من الطير كواسب.

الإعراب‏

ويل رفع بالابتداء و خبره للذين قال الزجاج و لو كان في غير القرآن لجاز فويلا للذين على معنى جعل الله ويلا للذين و الرفع على معنى ثبوت الويل للذين و قال غيره إذا أضفت ويل و ويح و ويس نصبت من غير تنوين فقلت ويح زيد و ويل زيد و أما التعس و البعد و ما أشبههما فلا يحسن فيها الإضافة بغير لام فلذلك لم ترفع و إنما يقال في نحوها تعسا له و بعدا له و تبا له و قد نصب أيضا ويل و ويح مع اللام فقالوا ويلا لزيد و ويحا


291
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 292

له قال الشاعر:

كسا اللؤم تيما خضرة في جلودها

فويلا لتيم من سرابيلها الخضر.

 

المعنى‏

ثم عاد سبحانه إلى ذكر علماء اليهود فقال‏ «فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ» قال ابن عباس الويل في الآية العذاب و قيل جبل في النار

و روى الخدري عن النبي ص‏ أنه واد في جهنم يهوي فيه الكافر أربعين خريفا قبل أن يبلغ قعره‏

و الأصل فيه ما ذكرناه من أنه كلمة التحسر و التفجع و التلهف و التوجع يقولها كل مكروب هالك و في التنزيل‏ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ‏ و قوله‏ «لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» معناه يتولون كتابته ثم يضيفونه إلى الله سبحانه كقوله سبحانه‏ «مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا» أي نحن تولينا ذلك لم نكله إلى أحد من عبادنا و مثله خلقت بيدي و يقال رأيته بعيني و سمعته بإذني و لقيته بنفسي و المعنى في جميع ذلك التأكيد و أيضا فقد يضيف الإنسان الكتاب إلى نفسه و قد أمر غيره بالكتابة عنه فيقول أنا كتبت إلى فلان و هذا كتابي إلى فلان و كقوله سبحانه‏ «يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ» و إنما أمر به فأعلمنا الله سبحانه أنهم يكتبونه بأيديهم و يقولون هو من عند الله و قد علموا يقينا أنه ليس من عنده و قيل معناه أنهم فعلوا ذلك من تلقاء أنفسهم كالرجل إذا اخترع مذهبا أو قولا لم يسبق إليه يقال له هذا مذهبك و هذا قولك و أن كان جميع ما يؤخذ عنه من الأقوال قوله و المراد أن هذا من تلقاء نفسك و أنك لم تسبق إليه‏

و قيل كتابتهم بأيديهم أنهم عمدوا إلى التوراة و حرفوا صفة النبي ص ليوقعوا الشك بذلك للمستضعفين من اليهود و هو المروي عن أبي جعفر الباقر ع‏

و عن جماعة من أهل التفسير و قيل كانت صفته في التوراة أسمر ربعة فجعلوه آدم طويلا و في رواية عكرمة عن ابن عباس قال إن أحبار اليهود وجدوا صفة النبي ص مكتوبة في التوراة أكحل أعين ربعة حسن الوجه فمحوه من التوراة حسدا و بغيا فأتاهم نفر من قريش فقالوا أ تجدون في التوراة نبيا منا قالوا نعم نجده طويلا أزرق سبط الشعر ذكره الواحدي بإسناده في الوسيط و قيل المراد بالآية كاتب كان يكتب للنبي فيغير ما يملى عليه ثم ارتد و مات فلفظته الأرض و الأول أوجه لأنه أليق بنسق الكلام و قوله‏ «لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا» يريد ليأخذوا به ما كانوا يأخذونه من عوامهم من الأموال و إنما ذكر لفظ الاشتراء توسعا و المراد أنهم تركوا الحق و أظهروا الباطل ليأخذوا على ذلك شيئا كمن يشتري السلعة بما يعطيه و الفائدة في قوله‏ «ثَمَناً قَلِيلًا» أن كل ثمن له لا يكون إلا قليلا و للعرب في ذلك طريقة معروفة يعرفها من تصفح كلامهم و قيل إنما بالقلة لأنه عرض الدنيا و هو قليل المدة كقوله تعالى‏ «قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ» عن أبي العالية و قيل إنما قال‏


292
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 80] ..... ص : 293

قليل لأنه حرام و قوله‏ «فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ» أي عذاب لهم و خزي لهم و قبح لهم مما فعلوا من تحريف الكتاب‏ «وَ وَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ» من المعاصي و قيل مما يجمعون من المال الحرام و الرشى التي يأخذونها عن العوام.

[سورة البقرة (2): آية 80]

وَ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (80)

اللغة

المس نظير اللمس و الفرق بينهما أن مع اللمس إحساسا و أصله اللصوق و حده الجمع بين الشيئين على نهاية القرب و الإخلاف نقض ما تقدم من العهد بالفعل.

الإعراب‏

أياما انتصب على الظرف و أصل اتخذتم أ اتخذتم دخلت همزة الاستفهام على همزة الوصل فسقطت همزة الوصل و من القراء من أدغم الذال في التاء من اتخذتم و فيهم من لم يدغم و أم هاهنا يحتمل أن تكون متصلة على المعادلة لهمزة الاستفهام كأنه قال على أي الحالتين أنتم أ تقولون على الله ما تعلمون أم تقولون عليه ما لا تعلمون و يحتمل أن تكون منقطعة على تقدير تمام الكلام قبله فيكون بمعنى بل و الهمزة كأنه استأنف فقال بل أ تقولون.

النزول‏

قال ابن عباس و مجاهد قدم رسول الله ص المدينة و اليهود تزعم أن مدة الدنيا سبعة آلاف سنة و إنما يعذب بكل ألف سنة يوما واحدا ثم ينقطع العذاب فأنزل الله هذه الآية و قال أبو العالية و عكرمة و قتادة هي أربعون يوما لأنها عدد الأيام التي عبدوا فيها العجل ..

المعنى‏

«وَ قالُوا» أي قالت اليهود «لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ» أي لن تصيبنا «إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً» معناه أياما قلائل كقوله‏ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ و قيل معدودة محصاة و المعدودة إذا أطلقت كان معناها القليلة قال الله سبحانه‏ «قُلْ» يا محمد لهم‏ «أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً» أي موثقا إنه لا يعذبكم إلا هذه المدة و عرفتم ذلك بوحيه و تنزيله فإن كان ذلك فالله سبحانه لا ينقض عهده و ميثاقه‏ «أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ» الباطل جهلا منكم به و جرأة عليه.

[سورة البقرة (2): الآيات 81 الى 82]

بَلى‏ مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَ أَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (81) وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (82)


293
مجمع البيان في تفسير القرآن1

القراءة ..... ص : 294

القراءة

قرأ أهل المدينة خطيئاته على الجمع و الباقون على التوحيد.

الحجة

قال أبو علي يجوز أن يكون من للجزاء الجازم و يجوز أن يكون للجزاء غير الجازم فتكون السيئة و إن كانت مفردة يراد بها الكثرة و كذلك تكون خطيئة مفردة و إنما حسن أن يفرد لأنه مضاف إلى ضمير مفرد و إن كان يراد به الكثرة كما قال تعالى‏ بَلى‏ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَ هُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ‏ فأفرد الوجه و الأجر و إن كان في المعنى جمعا في الموضعين فكذلك المضاف إليه الخطيئة لما لم يكن جمعا لم يجمع كما جمعت في قوله‏ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ‏ و لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا لأن ذلك مضاف إلى جمع و من قال خطيئاته فجمع حمله على المعنى و المعنى الجمع و الكثرة و يدل عليه قوله‏ «فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ» فأولئك خبر المبتدأ الذي هو من في قول من جعله جزاء مجزوما و في كلا الوجهين يراد به من في قوله‏ «بَلى‏ مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً» و مما يدل على أن من يراد به الكثرة فيجوز لذلك أن يجمع خطيئة لأنها مضافة إلى جمع في المعنى قوله بعد هذه‏ «وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» أ لا ترى أن الذين جمع و هو معادل به فكذلك المعادل به يكون جمعا مثل ما عودل.

الإعراب‏

بلى جواب لقولهم‏ لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً و الفرق بين بلى و نعم أن بلى جواب النفي و نعم جواب الإيجاب قال الفراء إنما امتنعوا من استعمال نعم في جواب الجحد لأنه إذا قال لغيره ما لك علي شي‏ء فقال له نعم فقد صدقه و كأنه قال نعم ليس لي عليك شي‏ء و إذ قال بلى فإنما هو رد لكلامه أي لي عليك شي‏ء و قوله‏ «هُمْ فِيها خالِدُونَ» عطف هذه الجملة على الأولى بغير حرف العطف لأن في الجملة الثانية ذكرا ممن في الأولى و الضمير يربط الكلام الثاني بالأول كما أن حرف العطف يربطه به مثل قوله‏ «إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ» و قال في موضع آخر و كانوا يصرون بالواو و قال‏ «سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَ يَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَ يَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَ ثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ» فحذفت الواو من قوله رابعهم و سادسهم استغناء


294
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 295

عنها بما في الجملة من ذكر ما في الأول لأن الحرف يدل على الاتصال و ما في الجملة من ذكر ما تقدمها اتصال أيضا فاستغنى به عنه.

المعنى‏

رد الله تعالى على اليهود قولهم‏ لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً فقال‏ «بَلى‏» أي ليس الأمر كما قالوا و لكن‏ «مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً» اختلف في السيئة فقال ابن عباس و مجاهد و قتادة و غيرهم السيئة هاهنا الشرك و قال الحسن هي الكبيرة الموجبة للنار و قال السدي هي الذنوب التي أوعد الله عليها النار و القول الأول يوافق مذهبنا لأن ما عدا الشرك لا يستحق به الخلود في النار عندنا و قوله‏ «أَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ» يحتمل أمرين (أحدهما) أنها أحدقت به من كل جانب كقوله تعالى‏ «وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ» (و الثاني) أن المعنى أهلكته من قوله‏ «إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ» و قوله‏ «وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ» و قوله‏ «وَ أُحِيطَ بِثَمَرِهِ» و هذا كله بمعنى البوار و الهلكة فالمراد أنها سدت عليهم طريق النجاة و روي عن ابن عباس و الضحاك و أبي العالية أن المراد بالخطيئة الشرك و عن الحسن إنها الكبيرة و عن عكرمة و مقاتل إنها الإصرار على الذنب و إنما قال‏ «مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَ أَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ» و لم يقل و أحاطت به سيئته خالف بين اللفظين ليكون أبلغ و أفصح‏ «فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ» أي يصحبون النار و يلازمونها «هُمْ فِيها خالِدُونَ» أي دائمون أبدا عن ابن عباس و غيره و الذي يليق بمذهبنا من تفسير هذه الآية قول ابن عباس لأن أهل الإيمان لا يدخلون في حكم هذه الآية و قوله‏ «وَ أَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ» يقوي ذلك لأن المعنى أن خطاياه قد اشتملت عليه و أحدقت به حتى لا يجد عنها مخلصا و لا مخرجا و لو كان معه شي‏ء من الطاعات لم تكن السيئة محيطة به من كل وجه و قد دل الدليل على بطلان التحابط و لأن قوله تعالى‏ «وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» فيه وعد لأهل التصديق و الطاعة بالثواب الدائم فكيف يجتمع الثواب الدائم مع العقاب الدائم و يدل أيضا على أن المراد بالسيئة في الآية الشرك فيبطل الاحتجاج بالآية على دخول العمل في الإيمان على ما ذكره أهل التفسير أن سيئة واحدة لا تحبط جميع الأعمال عند أكثر الخصوم فلا يمكن إذا إجراء الآية على العموم فيجب أن يحمل على أكبر السيئات و أعظم الخطيئات و هو الشرك ليمكن الجمع بين الآيتين.


295
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 83] ..... ص : 296

[سورة البقرة (2): آية 83]

وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَ ذِي الْقُرْبى‏ وَ الْيَتامى‏ وَ الْمَساكِينِ وَ قُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَ أَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83)

القراءة

قرأ ابن كثير و حمزة و الكسائي لا يعبدون بالياء و الباقون بالتاء و قرأ حمزة و الكسائي و قولوا للناس حسنا بفتح الحاء و السين و الباقون‏ حُسْناً بضم الحاء و إسكان السين.

الحجة

حجة من قرأ «لا تَعْبُدُونَ» بالتاء على الخطاب قوله‏ «إِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَ حِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ» إلى آخر الآية و يقويه قوله‏ «وَ قُولُوا» و قوله‏ «ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَ أَنْتُمْ مُعْرِضُونَ» فإذا كان هذا خطابا و هو عطف على ما تقدم وجب أن يكون المعطوف عليه في حكمه و حجة من قرأ بالياء قوله‏ «قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ» فحمله على لفظ الغيبة و أما قوله‏ «حُسْناً» فمن قرأه بضم الحاء ففيه ثلاثة أوجه (أحدها) أن يكون الحسن بمعنى الحسن كالنجل و النجل و الرشد و الرشد و جاز ذلك في الصفة كما جاز في الاسم قالوا العرب و العرب و هو صفة بدلالة قولهم مررت بقوم عرب أجمعين فعلى هذا يكون الحسن صفة كالحلو و المر و (ثانيها) أن يكون الحسن مصدرا كالشكر و الكفر و حذف المضاف معه أي قولوا قولا ذا حسن و (ثالثها) أن يكون منصوبا على أنه مصدر الفعل الذي دل عليه الكلام أي ليحسن قولكم حسنا و من قرأه حسنا جعله صفة و تقديره و قولوا للناس قولا حسنا كقوله تعالى‏ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا أي متاعا قليلا.

اللغة

الأخذ ضد الإعطاء و القربى مصدر قولهم قربت مني رحم فلان قرابة و قربى و قربا و اليتامى جمع يتيم مثل نديم و ندامى و اليتيم الذي مات أبوه إلى أن يبلغ الحلم و لا يقال لمن ماتت أمه يتيم يقال لمن يتم ييتم يتما إذا فقد أباه هذا في الإنسان فأما في غير الإنسان فيتمه من قبل أمه قال الأصمعي إن اليتم في الناس من قبل الأب و في‏


296
مجمع البيان في تفسير القرآن1

الإعراب ..... ص : 297

غير الناس من قبل الأم و المسكين هو المتخشع المتذلل من الحاجة مأخوذ من السكون كأنه قد أسكنه الفقر.

الإعراب‏

قوله‏ «لا تَعْبُدُونَ» لا يخلو إما أن يكون حالا أو يكون تلقي القسم أو يكون على لفظ الخبر و المعنى معنى الأمر أو يكون على تقدير أن لا تعبدوا فتحذف أن فيرتفع الفعل فإن جعلته حالا فالأولى أن يكون بالياء ليكون في الحال ذكر من ذي الحال و كأنه قال أخذنا ميثاقهم موحدين و إن جعلته تلقي قسم و عطفت عليه الأمر و هو قوله‏ «وَ قُولُوا» كنت قد جمعت بين أمرين لا يجمع بينهما فإن لم تحمل الأمر على القسم و أضمرت القول كأنه قال و إذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل تعبدون إلا الله و قلنا و أحسنوا بالوالدين إحسانا فيكون و قلنا على هذا معطوفا على أخذنا جاز لأن أخذ الميثاق قول فكأنه قال قلنا هم كذا و كذا و إن حملته على أن اللفظ لفظ خبر و المعنى معنى الأمر يكون مثل قوله‏ «تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ» و يدل على ذلك قوله‏ يَغْفِرْ لَكُمْ‏ و يؤكد ذلك أنه قد عطف عليه بالأمر و هو قوله‏ «وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً» «وَ قُولُوا» «وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ» و إن حملته على أن المعنى أخذنا ميثاقهم بأن لا تعبدوا فلما حذف أن ارتفع الفعل كما قال طرفة:

ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى‏

و أن أشهد اللذات هل أنت مخلدي‏

 

فإن هذا قول أن حملته عليه كان فيه حذف بعد حذف و زعم سيبويه أن حذف أن من هذا النحو قليل و قوله‏ «وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً» الحرف الجار يتعلق بفعل مضمر و لا يجوز أن يتعلق بقوله‏ «إِحْساناً» لأن ما تعلق بالمصدر لا يجوز أن يتقدم عليه. و أحسن يصل إلى المفعول بالباء كما يصل بالي يدلك على ذلك قوله‏ وَ قَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ‏ فتعدى بالباء كما تعدى بالي في قوله‏ وَ أَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ‏ و قوله‏ «ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ» قال الزجاج نصب قليلا على الاستثناء المعنى أستثني قليلا منكم قال أبو علي إن في هذا التمثيل إيهاما أن الاسم المستثنى ينتصب على معنى أستثني أو بإلا و ليس كذلك بل ينتصب الاسم المستثنى عن الجملة التي قبل إلا بتوسط إلا كما ينتصب الطيالسة و نحوها في قولك جاء البرد و الطيالسة و ما صنعت و أباك عن الجملة التي قبل الواو بتوسط الواو و يدل على ذلك قولهم ما جاءني إلا زيد فلو كان لإلا أو لما يدل عليه عمل في المستثنى لجاز نصب هذا كما أنك لو قلت أستثني زيدا لنصبته فإن قيل لا يجوز النصب هنا لأن الفعل يبقى فارغا بلا فاعل قيل فهلا ذلك امتناع هذا من الجواز على أن ما بعد إلا متصل بما قبلها و أنه ليس لإلا فيه عمل و لا أثر إلا ما يدل عليه من معنى الاستثناء.


297
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 298

المعنى‏

ثم عاد سبحانه إلى ذكر بني إسرائيل فقال‏ «وَ» اذكروا «إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ» أي عهدهم و قيل الميثاق الأدلة من جهة العقل و الشرع و قيل هو مواثيق الأنبياء على أممهم و العهد و الميثاق لا يكون إلا بالقول فكأنه قال أمرناهم و وصيناهم و أكدنا عليهم و قلنا لهم و الله‏ «لا تَعْبُدُونَ» إذا حملناه على جواب القسم و إذا حملناه على الحال أو على أن معناه الأمر فكما قلناه قبل و إذا حملناه على حذف أن فتقديره و إذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل بأن لا تعبدوا «إِلَّا اللَّهَ» وحده دون ما سواه من الأنداد «وَ» بأن تحسنوا إلى «الوالدين‏ إِحْساناً» و الإحسان الذي أخذ عليهم الميثاق بأن يفعلوه إلى الوالدين هو ما فرض على أمتنا أيضا من فعل المعروف بهما و القول الجميل و خفض جناح الذل لهما و التحنن عليهما و الرأفة بهما و الدعاء بالخير لهما و ما أشبه ذلك و قوله‏ «وَ ذِي الْقُرْبى‏» أي و بذي القربى أن تصلوا قرابته و رحمه‏ «وَ الْيَتامى‏» أي و باليتامى أن تعطفوا عليهم بالرأفة و الرحمة «وَ الْمَساكِينِ» أي و بالمساكين أن تؤتوهم حقوقهم التي أوجبها الله عليهم في أموالهم و قوله‏ «وَ قُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً» فيه عدول إلى الخطاب بعد الخبر و إنما استجازت العرب ذلك لأن الخبر إنما كان عمن خاطبوه بعينه لا عن غيره و قد يخاطبون أيضا ثم يصيرون بعد الخطاب إلى الخبر فمثال الأول قول عنترة:

شطت مزار العاشقين فأصبحت‏

عسرا علي طلابك ابنة مخرم‏

 

و مثال الثاني قول كثير عزة:

أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة

لدينا و لا مقلية إن تقلت‏

 

و قيل معناه قلنا لهم قولوا و اختلف في معنى قوله حسنا فقيل هو القول الحسن الجميل و الخلق الكريم و هو مما ارتضاه الله و أحبه عن ابن عباس و قيل هو الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر عن سفيان الثوري و قال الربيع بن أنس‏ «قُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً» أي معروفا و

روى جابر عن أبي جعفر الباقر ع‏ في قوله‏ «وَ قُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً» قال قولوا للناس أحسن ما تحبون أن يقال لكم فإن الله يبغض اللعان السباب الطعان على المؤمنين الفاحش المتفحش السائل الملحف و يحب الحليم العفيف المتعفف‏

ثم اختلف فيه من وجه آخر فقيل‏

هو عام في المؤمن و الكافر على ما روي عن الباقر ع‏

و قيل هو خاص في المؤمن و اختلف من قال أنه عام فقال ابن عباس و قتادة أنه منسوخ بآية السيف‏


298
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 84] ..... ص : 299

 

و

بقوله ع‏ قاتلوهم حتى يقولوا لا إله إلا الله أو يقروا بالجزية و قد روي ذلك أيضا عن الصادق ع‏

و قال الأكثرون إنها ليست بمنسوخة لأنه يمكن قتالهم مع حسن القول في دعائهم إلى الإيمان كما قال الله تعالى‏ «ادْعُ إِلى‏ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» و قال في آية أخرى‏ «وَ لا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ» و قوله‏ «وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ» أي أدوها بحدودها الواجبة عليكم‏ «وَ آتُوا الزَّكاةَ» أي أعطوها أهلها كما أوجبها الله عليكم روي عن ابن عباس أن الزكاة التي فرضها الله على بني إسرائيل كانت قربانا تهبط إليه نار من السماء فتحمله فكان ذلك تقبله و متى لم تفعل النار به ذلك كان غير متقبل و روي عنه أيضا أن المعني به طاعة الله و الإخلاص و قوله‏ «ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ» أي أعرضتم‏ «إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَ أَنْتُمْ مُعْرِضُونَ» أخبر الله سبحانه عن اليهود أنهم نكثوا عهده و نقضوا ميثاقه و خالفوا أمره و تولوا عنه معرضين إلا من عصمة الله منهم فوفى الله بعهده و ميثاقه و وصف هؤلاء بأنهم قليل بالإضافة إلى أولئك و اختلف فيه فقيل أنه خطاب لمن كان بين ظهراني مهاجر رسول الله ص من يهود بني إسرائيل و ذم لهم بنقضهم الميثاق الذي أخذ عليهم في التوراة و تبديلهم أمر الله و ركوبهم معاصيه و قيل أنه خطاب لأسلافهم المذكورين في أول الآية و إنما جمع بين التولي و الإعراض و إن كان معناهما واحدا تأكيدا و قيل معنى تولوا فعلوا الإعراض و هم معرضون أي مستمرون على ذلك و في هذه الآية دلالة على ترتيب الحقوق فبدأ الله سبحانه بذكر حقه و قدمه على كل حق لأنه الخالق المنعم بأصول النعم ثم ثنى بحق الوالدين و خصهما بالمزية لكونهما سببا للوجود و إنعامهما بالتربية ثم ذكر ذوي القربى لأنهم أقرب إلى المكلف من غيرهم ثم ذكر حق اليتامى لضعفهم و الفقراء لفقرهم.

[سورة البقرة (2): آية 84]

وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَ لا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَ أَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84)

اللغة

السفك الصب سفكت الدم أسفكه سفكا و واحد الدماء دم و أصله دمي في قول أكثر النحويين و دليل من قال إن أصله دمي قول الشاعر:

فلو أنا على حجر ذبحنا

 

جرى الدميان بالخبر اليقين‏

     

 

 

 

 

299
مجمع البيان في تفسير القرآن1

الإعراب ..... ص : 300

و قال قوم أصله دمي إلا أنه لما حذف و رد إليه ما حذف منه حركت الميم لتدل الحركة على أنه استعمل محذوفا و النفس مأخوذة من النفاسة و هي الجلالة فنفس الإنسان أنفس ما فيه و الدار هي المنزل الذي فيه أبنية المقام بخلاف منزل الارتحال و قال الخليل كل موضع حله قوم فهو دار لهم و إن لم يكن فيه أبنية و الإقرار الاعتراف و الشهادة أخذ من المشاهدة و هو الإخبار عن الشي‏ء بما يقوم مقام المشاهدة في المعرفة.

الإعراب‏

تقدير الإعراب في هذه الآية مثل الذي قلناه في الآية الأولى على السواء.

المعنى‏

ثم عطف سبحانه على ما تقدم من الأخبار عن اليهود بنقض المواثيق و العهود بقوله‏ «وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ» أي ميثاق أسلافكم الذين كانوا في زمن موسى و الأنبياء الماضين صلوات الله على نبينا و عليهم أجمعين و إنما أضاف الميثاق إليهم لما كانوا أخلافا لهم على ما سبق الكلام فيه و قوله‏ «لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ» معناه لا يقتل بعضكم بعضا لأن في قتل الرجل منهم الرجل قتل نفسه إذا كانت ملتهما واحدة و دينهما واحد أو أهل الدين الواحد بمنزلة الرجل الواحد في ولاية بعضهم بعضا

قال النبي ص‏ إنما المؤمنون في تراحمهم و تعاطفهم بمنزلة الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو واحد تداعى له سائر الجسد بالحمى و السهر

هذا قول قتادة و أبي العالية و قيل معناه لا يقتل الرجل منكم غيره فيقاربه قصاصا فيكون بذلك قاتلا لنفسه لأنه كالسبب فيه و قوله‏ «وَ لا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ» معناه لا يخرج بعضكم بعضا من دياركم بأن تغلبوا على الدار و قيل معناه لا تفعلوا ما تستحقون به الإخراج من دياركم كما فعله بنو النضير و قوله‏ «ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَ أَنْتُمْ تَشْهَدُونَ» أي أقررتم بذلك و أنتم شاهدون على من تقدمكم بأخذنا منهم الميثاق و بما بذلوه من أنفسهم من القبول و الالتزام و قيل معنى إقرارهم هو الرضاء به و الصبر عليه كما قال الشاعر:

أ لست كليبيا إذا سيم خطة

أقر كإقرار الحليلة للبعل‏

 

و اختلف في المخاطب بقوله‏ «وَ أَنْتُمْ تَشْهَدُونَ» فقيل اليهود الذين بين ظهراني مهاجر رسول الله ص أيام هجرته إليهم وبخهم الله تعالى على تضييعهم أحكام ما في أيديهم من التوراة التي كانوا يقرون بحكمها و قال لهم‏ «ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ» يعني أقر أولكم و سلفكم و أنتم تشهدون على إقرارهم بأخذي الميثاق عليهم بأن لا تسفكوا دماءكم و لا


300
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 85] ..... ص : 301

تخرجوا أنفسكم من دياركم و تصدقون بذلك عن ابن عباس و قيل إنه خبر من الله عز و جل عن أوائلهم و لكنه أخرج الخبر بذلك مخرج المخاطبة لهم على النحو الذي تقدم في الآيات و أنتم تشهدون أي و أنتم شهود عن أبي العالية و يحتمل قوله‏ «وَ أَنْتُمْ تَشْهَدُونَ» أمرين (أحدهما) أن معناه و أنتم تشهدون على أنفسكم بالإقرار و (الثاني) أن معناه و أنتم تحضرون سفك دمائكم و إخراج أنفسكم من دياركم و قال بعض المفسرين نزلت الآية في بني قريظة و النضير و قيل نزلت في أسلاف اليهود.

[سورة البقرة (2): آية 85]

ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَ تُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ وَ إِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى‏ تُفادُوهُمْ وَ هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَ فَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَ تَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى‏ أَشَدِّ الْعَذابِ وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)

القراءة

قرأ أهل الكوفة تظاهرون بتخفيف الظاء هاهنا و في التحريم و الباقون بالتشديد فيهما و قرأ أبو جعفر و نافع و عاصم و الكسائي و يعقوب‏ «أُسارى‏ تُفادُوهُمْ» بالألف فيهما و قرأ حمزة وحده أسرى تفدوهم بغير ألف فيهما و قرأ ابن كثير و ابن عامر و أبو عمرو أسارى بألف تفدوهم بغير ألف و كان أبو عمرو و حمزة و الكسائي يميلون الراء من أسارى و نافع يقرأ بين بين و الباقون يفتحون.

الحجة

من قرأ «تَظاهَرُونَ» بالتخفيف فالأصل فيه تتظاهرون فحذف التاء الثانية لاجتماع التاءين و من قرأ تظاهرون بالتشديد فالأصل فيه أيضا تتظاهرون فأدغم التاء في الظاء لقرب المخرجين و كل واحد من الفريقين كره اجتماع الأمثال ففريق خفف بالإدغام و فريق بالحذف فالتاء التي اعتلت بالإدغام هي التاء التي اعتلت بالحذف و وجه قول من قرأ أسرى أنه جمع أسير فعيل بمعنى مفعول نحو قتيل بمعنى مقتول و قتلي و جريح و جرحى‏


301
مجمع البيان في تفسير القرآن1

اللغة ..... ص : 302

و هو أقيس من أسارى و وجه قول من قال‏ «أُسارى‏» أنه شبهة بكسالى و ذلك أن الأسير لما كان محبوسا عن كثير من تصرفه للأسر كما أن الكسلان محتبس عن ذلك لعادته السيئة شبه به فأجرى عليه هذا الجمع كما قيل مرضى و موتى و هلكى لما كانوا مبتلين بهذه الأشياء المصابين بها فأشبه في المعنى فعيلا بمعنى مفعول فأجري عليه في الجمع اللفظ الذي لفعيل بمعنى مفعول و كما شبه أسارى بكسالى شبه كسلى بأسرى و من قرأ «تُفادُوهُمْ» فلأن لكل واحد من الفريقين فعلا فمن الآسر دفع الأسير و من المأسور منهم دفع فدائه فوجه تفادوهم على هذا ظاهر و من قرأ تفدوهم فالمعنى فيه مثل المعنى في‏ «تُفادُوهُمْ» و هذا الفعل يتعدى إلى مفعولين إلى الأول بنفسه و إلى الثاني بالجار كقوله‏ «وَ فَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ» و قول الشاعر:

يودون لو يفدونني بنفوسهم‏

و مثنى الأواقي و القيان النواهد

 

و قال الأعشى في فادي:

عند ذي تاج إذا قيل له‏

فاد بالمال تراخى و مرح‏

 

المفعول الأول محذوف و التقدير فاد الأسرى بالمال و في الآية المفعول الثاني الذي يصل إليه الفعل بالحرف محذوف.

اللغة

تظاهرون تعاونون و الظهير المعين و قوله‏ وَ الْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ التقدير فيه الجمع و اللفظ على الإفراد و مثله قول رؤبة:

(دعها فما النحوي من صديقها)

 

أي من أصدقائها و ظاهر بين درعين لبس إحداهما فوق الأخرى و الإثم الفعل القبيح الذي يستحق بها اللوم و نظيره الوزر و قال قوم معنى الإثم هو ما تنفر منه النفس و لم يطمئن إليه القلب و منه‏

قول النبي ص‏ لنواس بن سمعان حين سأله عن البر و الإثم فقال البر ما اطمأنت إليه نفسك و الإثم ما حك في صدرك‏

و العدوان الإفراط في الظلم يقال عدا فلان في ظلمه عدوا و عدوا و عدوانا و عداء و قيل العدوان مجاوزة الحد و الأسر الأخذ بالقهر و أصله الشد و الحبس و أسره إذا شده و قال أبو عمرو بن العلاء الأسارى الذين هم في الوثاق و الأسرى الذين هم في اليد و إن لم يكونوا في الوثاق و الخزي السوء و الذل يقال خزي الرجل خزيا و يقال في الحياء خزي خزاية.

الإعراب‏

قوله‏ «ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ» فيه ثلاثة أقوال (أحدها) أن أنتم مبتدأ و هؤلاء منادى مفرد تقديره يا هؤلاء و تقتلون خبر المبتدأ (و ثانيها) أن هؤلاء تأكيد لأنتم (و ثالثها) أنه بمعنى الذين و تقتلون صلة له أي أنتم الذين تقتلون أنفسكم فعلى هذا يكون تقتلون لا


302
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 303

موضع له من الإعراب و مثله في الصلة و قوله‏ «وَ ما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى‏» أي و ما التي بيمينك و أنشد النحويون في ذلك:

عدس ما لعباد عليك إمارة

نجوت و هذا تحملين طليق‏

 

و قوله‏ «تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ» في موضع نصب على الحال من تخرجون و قوله‏ «وَ هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ» هو على ضربين (أحدهما) أن يكون إضمار الإخراج الذي تقدم ذكره في قوله‏ «وَ تُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ» ثم بين ذلك بقوله‏ «إِخْراجُهُمْ» تأكيدا لتراخي الكلام (و الآخر) أن يكون هو ضمير القصة و الحديث فكأنه قال و الحديث محرم عليكم إخراجهم كما قال الله‏ «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» أي الأمر الذي هو الحق الله أحد.

المعنى‏

«ثُمَّ أَنْتُمْ» يا معشر يهود بني إسرائيل بعد إقراركم بالميثاق الذي أخذته عليكم أن لا تسفكوا دماءكم و لا تخرجوا أنفسكم من دياركم و بعد شهادتكم على أنفسكم بذلك أنه واجب عليكم و لازم لكم الوفاء به‏ «تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ» أي يقتل بعضكم بعضا كقوله سبحانه‏ «فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى‏ أَنْفُسِكُمْ» أي ليسلم بعضكم على بعض و قيل معناه تتعرضون للقتل‏ «وَ تُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ» أي متعاونين عليهم في إخراجكم إياهم‏ «بِالْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ وَ إِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى‏ تُفادُوهُمْ وَ هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ» أي و أنتم مع قتلكم من تقتلون منكم إذا وجدتم أسيرا في أيدي غيركم من أعدائكم تفدونهم و قتلكم إياهم و إخراجكموهم من ديارهم حرام عليكم كما أن تركهم أسرى في أيدي عدوهم حرام عليكم فكيف تستجيزون قتلهم و لا تستجيزون ترك فدائهم من عدوهم و هما جميعا في حكم اللازم لكم فيهم سواء لأن الذي حرمت عليكم من قتلهم و إخراجهم من دورهم نظير الذي حرمت عليكم من تركهم أسرى في أيدي عدوهم‏ «أَ فَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ» الذي فرضت عليكم فيه فرائضي و بينت لكم فيه حدودي و أخذت عليكم بالعمل بما فيه ميثاقي فتصدقون به فتفادون أسراكم من أيدي عدوهم‏ «وَ تَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ» و تكفرون ببعضه فتجحدونه فتقتلون من حرمت عليكم قتله من أهل دينكم و قومكم و تخرجونهم من ديارهم و قد علمتم أن الكفر منكم ببعضه نقض منكم لعهدي و ميثاقي و اختلف فيمن عنى بهذه الآية فروى عكرمة عن ابن عباس أن قريظة و النضير كانا أخوين كالأوس و الخزرج فافترقوا فكانت النضير مع الخزرج و كانت قريظة مع الأوس فإذا اقتتلوا عاونت كل فرقة حلفاءها فإذا وضعت الحرب أوزارها فدوا أسراها تصديقا لما في التوراة و الأوس و الخزرج أهل شرك‏


303
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 86] ..... ص : 304

يعبدون الأوثان لا يعرفون جنة و لا نارا و لا قيامة و لا كتابا فأنبأ الله تعالى اليهود بما فعلوه و قال أبو العالية كان بنو إسرائيل إذا استضعف قوم قوما أخرجوهم من ديارهم و قد أخذ عليهم الميثاق أن لا يسفكوا دماءهم و لا يخرجوا أنفسهم من ديارهم و أخذ عليهم الميثاق أن أسر بعضهم بعضا أن يفادوهم فأخرجوهم من ديارهم ثم فادوهم فآمنوا بالفداء ففدوا و كفروا بالإخراج من الديار فأخرجوهم و قيل ليس الذين أخرجوهم الذين فودوا و لكنهم قوم آخرون على ملتهم فأنبهم الله تعالى على ذلك و قال أبو مسلم الأصبهاني ليس المراد بقوله‏ «أَ فَتُؤْمِنُونَ» الآية أنهم يخرجون و هو محرم و يفدون و هو واجب و إنما يرجع ذلك إلى بيان صفة محمد ص و غيره و قوله‏ «فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا» اختلف في الخزي الذي خزاهم الله إياه بما سلف منهم من المعصية فقيل هو حكم الله الذي أنزله على نبيه محمد ص من أخذ القاتل بمن قتل و القود به قصاصا و الانتقام من الظالم للمظلوم و قيل بل هو أخذ الجزية منهم ما أقاموا على ذمتهم على وجه الذل و الصغار و قيل الخزي الذي خزوا به في الدنيا هو إخراج رسول الله ص بني النضير من ديارهم لأول الحشر و قتل بني قريظة و سبي ذراريهم و كان ذلك خزيا لهم في الدنيا ثم أعلم الله سبحانه أن ذلك غير مكفر عنهم ذنوبهم و أنهم صائرون بعده إلى عذاب عظيم فقال‏ «وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى‏ أَشَدِّ الْعَذابِ» أي إلى أشد العذاب الذي أعده الله لأعدائه و هو العذاب الذي لا روح فيه مع اليأس من التخلص‏ «وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ» أي و ما الله بساه عن أعمالهم الخبيثة بل هو حافظ لها و مجاز عليها و من قرأه بالتاء رده إلى المواجهين بالخطاب في قوله‏ «أَ فَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَ تَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ» و مما يسأل في هذه الآية أن ظاهرها يقتضي صحة اجتماع الإيمان و الكفر و ذلك مناف للصحيح من المذهب و القول فيه أن المعنى أنهم أظهروا التصديق ببعض الكتاب و الإنكار للبعض دون بعض و هذا يدل على أنهم لا ينفعهم الإيمان بالبعض مع الكفر بالبعض الآخر و في هذه الآية تسلية لنبينا ع في ترك قبول اليهود قوله و انحيازهم عن الإيمان به فكأنه يقول كيف يقبلون قولك و يسلمون لأمرك و يؤمنون بك و هم لا يعملون بكتابهم مع إقرارهم به و بأنه من عند الله تعالى.

[سورة البقرة (2): آية 86]

أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)


304
مجمع البيان في تفسير القرآن1

اللغة ..... ص : 305

اللغة

الخفة نقيض الثقل و التخفيف و التسهيل و التهوين نظائر و اختلف في الخفة و الثقل فقيل أنه يرجع إلى تناقص الجواهر و تزايدها و قيل إن الاعتماد اللازم سفلا يسمى ثقلا و الاعتماد اللازم المختص بجهة العلو يسمى خفة.

المعنى‏

أشار إلى الذين أخبر عنهم بأنهم يؤمنون ببعض الكتاب و يكفرون ببعض فقال‏ «أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا» أي ابتاعوا رياسة الدنيا «بِالْآخِرَةِ» أي رضوا بها عوضا من نعيم الآخرة التي أعدها الله تعالى للمؤمنين جعل سبحانه تركهم حظوظهم من نعيم الآخرة بكفرهم بالله ثمنا لما ابتاعوه به من خسيس الدنيا ثم أخبر أنهم لا حظ لهم في نعيم الآخرة بقوله‏ «فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ» أي لا ينقص من عذابهم و لا يهون عنهم‏ «وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ» أي لا ينصرهم أحد في الآخرة فيدفع عنهم بنصرته عذاب الله تعالى.

[سورة البقرة (2): آية 87]

وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَ قَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَ آتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَ أَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَ فَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى‏ أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ (87)

القراءة

قرأ ابن كثير القدس بسكون الدال في جميع القرآن و الباقون بضم القاف و الدال و روي في الشواذ عن أبي عمرو و أيدنه على زنة أفعلناه و القراءة «أَيَّدْناهُ» بالتشديد.

الحجة

التخفيف و التثقيل في القدس و كذلك فيما كان مثله نحو الحلم و الحلم و العنق و العنق و «أَيَّدْناهُ» إنما كانت القراءة المشهورة فيه فعلناه لما يعرض من تصحيح العين مخافة توالي إعلالين في أيدنه على أفعلناه و معنى هذا أنه لو أعلت عينه كما يجب إعلال عين أفعلت من الأجوف كأقمت و أبعت لتتابع فيه إعلالان لأن أصل آيدت أ أيدت كما أن أصل آمن ءأمن فانقلبت الهمزة الثانية ألفا لاجتماع همزتين في كلمة واحدة و الأولى منهما


305
مجمع البيان في تفسير القرآن1

اللغة ..... ص : 306

مفتوحة و الثانية ساكنة و كان يجب أيضا أن تلقى حركة العين على الفاء و تحذف العين كما ألقيت حركة الواو من أقومت على القاف قبلها فصار أقمت و كان يجب على هذا أن تقلب الفاء هنا واوا لأنها قد تحركت و انفتح ما قبلها و لا بد من قلبها لوقوع الهمزة الأولى قبلها كما قلبت في تكسير آدم أوادم فكان يجب أن تقول أودته كأقمته فتحذف العين كما ترى و تقلب الفاء التي هي في الأصل همزة واوا فيعتل الفاء و العين جميعا و إذا كان يؤدي القياس إلى هذا رفض و كثر فيه فعلت ليؤمن الإعلالان و جاء أيدت قليلا شاذا على الأصل و إذا كانوا قد أخرجوا عين أفعلت و هي حرف علة على الصحة في نحو قوله:

صددت فأطولت الصدود و قلما

وصال على طول الصدود يدوم‏

 

و أعوز القوم و أغيمت السماء و لو أعلت لم يخف فيه توالي إعلالين كان خروج أيدت على الصحة لئلا يجتمع إعلالان أولى و أحرى.

اللغة

قفينا أي أردفنا و أتبعنا بعضهم خلف بعض و أصله من القفا يقال قفوت فلانا إذا صرت خلف قفاه كما يقال دبرته قال امرؤ القيس:

و قفي على آثارهن بحاصب‏

و غيبة شؤبوب من الشد ملهب‏

 

و الرسل جمع رسول كالصبر و الشكر في جمع صبور و شكور و أيدناه قوينا من الأيد و الآد و هما القوة و مثلهما في البناء على فعل و فعل الذيم و الذام و العيب و العاب قال العجاج:

(من أن تبدلت بادي آدا)

 

أي بقوة شبابي قوة الشيب و القدس الطهر و التقديس التطهير و قولنا في صفة الله تعالى القدوس أي الطاهر المنزه عن أن يكون له ولد أو يكون في فعله و حكمه ما ليس بعدل و بيت المقدس لا يخلو المقدس فيه إما أن يكون مصدرا أو مكانا فإن كان مكانا فالمعنى بيت المكان الذي فعل فيه الطهارة و أضيف إلى الطهارة لأنه منسك كما جاء أن‏ طَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ‏ و تطهيره إخلاؤه من الصنم و إبعاده منه فعلى هذا يكون معناه بيت مكان الطهارة و إن كان مصدرا كان كقوله‏ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ‏ و نحوه من المصادر التي جاءت على هذا المثال و الهوى مقصورا و الشهوة نظيران هوي يهوى هوى.

المعنى‏

ثم ذكر سبحانه إنعامه عليهم بإرسال رسله إليهم و ما قابلوه به من‏


306
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 306

تكذيبهم فقال‏ «وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ» أي أعطيناه التوراة و أنزلنا إليه‏ «وَ قَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ» أي أتبعنا من بعد موسى‏ «بِالرُّسُلِ» رسولا بعد رسول يتبع الآخر الأول في الدعاء إلى وحدانية الله تعالى و القيام بشرائعه على منهاج واحد لأن كل من بعثه الله تعالى نبيا بعد موسى إلى زمن عيسى ع فإنما بعثه بإقامة التوراة و العمل بما فيها و الدعاء إلى ذلك‏ «وَ آتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ» أي أعطيناه المعجزات و الدلالات على نبوته من إحياء الموتى و إبراء الأكمه و الأبرص و نحو ذلك من الآيات الدالة على صدقه و صحة نبوته و قال بعضهم أراد بالبينات الإنجيل و ما فيه من الأحكام و الآيات الفاصلة بين الحلال و الحرام‏ «وَ أَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ» أي قويناه و أعناه بجبريل (ع) عن قتادة و السدي و الضحاك و الربيع و اختلف في سبب تسمية جبرائيل ع روحا على وجوه (أحدها) أنه يحيي بما يأتي به من البينات الأديان كما تحيى بالأرواح الأبدان (و ثانيها) أنه سمي بذلك لأن الغالب عليه الروحانية و كذلك سائر الملائكة و إنما خص بهذا الاسم تشريفا له (و ثالثها) أنه سمي به و أضيف إلى القدس لأنه كان بتكوين الله تعالى إياه روحا من عنده من غير ولادة والد ولده و قال ابن زيد المراد بروح القدس الإنجيل كما سمى الله تعالى القرآن روحا فقال‏ وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا فكذلك سمي الإنجيل روحا و روى الضحاك عن ابن عباس أن الروح الاسم الذي كان عيسى (ع) يحيي به الموتى و قال الربيع هو الروح الذي نفخ فيه فأضافه إلى نفسه تشريفا كما قال بيت الله و ناقَةَ اللَّهِ‏ و أقوى الأقوال و الوجوه قول من قال هو جبرائيل (ع) و إذا قيل لم خص عيسى (ع) من بين الأنبياء بأنه مؤيد بجبرائيل و كل نبي مؤيد به فالقول فيه إنه إنما خص بذلك لثبوت اختصاصه به من صغره إلى كبره فكان يسير معه حيث سار و لما هم اليهود بقتله لم يفارقه حتى صعد به إلى السماء و كان تمثل لمريم عند حملها به و بشرها به و نفخ فيها و اختلف في معنى القدس فقيل هو الطهر و قيل هو البركة عن السدي و حكى قطرب أنهم يقولون قدس عليه الأنبياء أي بركوا و على هذا فإنه كدعاء إبراهيم (ع) للحرم‏ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً و كقول زكريا وَ اجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا و قيل القدس هو الله تعالى عن الحسن و الربيع و ابن زيد و قالوا القدوس و القدس واحد و قوله‏ «أَ فَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى‏ أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ» خطاب لليهود فكأنه قال يا معشر يهود بني إسرائيل أ كلما جاءكم رسول من رسلي بغير الذي تهواه أنفسكم تعظمتم و تجبرتم و أنفتم من قبول قوله‏ «فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ» أي فكذبتم منهم بعضا ممن لم تقدروا على قتله مثل عيسى (ع) و محمد (ص) و قتلتم بعضا مثل يحيى و زكريا و غيرهما و ظاهر الخطاب و إن خرج مخرج التقرير


307
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 88] ..... ص : 308

فهو بمعنى الخبر و إنما أضاف هذا الفعل إليهم و إن لم يباشروه بنفوسهم لأنهم رضوا بفعل أسلافهم فأضيف الفعل إليهم و إن فعله أسلافهم ..

[سورة البقرة (2): آية 88]

وَ قالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ (88)

القراءة

القراءة المشهورة «غُلْفٌ» بسكون اللام و روي في الشواذ عن أبي عمرو غلف بضم اللام.

الحجة

من قرأ بالتسكين فهو جمع الأغلف مثل أحمر و حمر و يقال للسيف إذا كان في غلاف أغلف و قوس غلفاء و جمعها غلف و لا يجوز تثقيله إلا في ضرورة الشعر نحو قول طرفة:

أيها الفتيان في مجلسنا

جردوا منها ورادا و شقر

 

فحركت لضرورة الشعر فمن قرأ غلف مثقلا فهو جمع غلاف نحو مثال و مثل و حمار و حمر فيكون معناه أن قلوبنا أوعية للعلم فما بالها لا تفهم و يجوز أن يكون التسكين عن التثقيل مثل رسل و رسل.

اللغة

اللعن هو الإقصاء و الإبعاد يقال لعن فلان فلانا فهو ملعون ثم يصرف.

مفعول منه إلى فعيل فقيل لعين قال الشماخ:

و ماء قد وردت لوصل أروى‏

عليه الطير كالورق اللجين‏

 

ذعرت به القطا و نفيت عنه‏

مقام الذئب كالرجل اللعين‏

 

. الإعراب‏

«فَقَلِيلًا» منصوب بأنه صفة لمصدر محذوف و إنما حذف لأن الصفة تقوم مقامه و تدل عليه أي فإيمانا قليلا ما يؤمنون و قيل أنه منصوب على الحال أي يؤمنون و هم قليل و قيل و تقديره بقليل ما يؤمنون حذف الجار فوصل الفعل إليه فنصبه و ما هاهنا مزيدة للتوكيد و لا معنى لها كما في قوله‏ «فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ» و تقدير الكلام فقليلا يؤمنون و كما في قول الشاعر:

لو بأبانين جاء يخطبها

خضب ما أنف خاطب بدم‏

 

و قيل إن معنى ما هاهنا هو أن يدل على غاية التنكير في الاسم و فرط الإبهام فيه‏


308
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 309

كما يقال أمر ما و شي‏ء ما إذا أريد المبالغة في الإبهام.

المعنى‏

«وَ قالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ» رجع الكلام إلى الحكاية عن اليهود و عن سوء مقالهم و فعالهم فالمعنى على القراءة الأولى أنهم ادعوا أن قلوبهم ممنوعة من القبول فقالوا أي فائدة في إنذارك لنا و نحن لا نفهم ما تقول إذ ما تقوله ليس مما يفهم كقوله تعالى‏ «وَ قالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَ فِي آذانِنا وَقْرٌ» و قال أبو علي الفارسي ما يدرك به المعلومات من الحواس و غيرها من الأعضاء إذا ذكر بأنه لا يعلم وصف بأن عليه مانعا من ذلك و دونه حائلا فمن ذلك قوله تعالى‏ «أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى‏ قُلُوبٍ أَقْفالُها» لما كان القفل حاجزا بين المقفل عليه و حائلا من أن يدخله ما يدخل إذا لم يكن مقفلا جعل مثالا للقلوب بأنها لا تعي و لا تفقه و كذلك قوله‏ «لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا» و «الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي» و قوله‏ «بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ» كان شدة عنادهم تحملهم على الشك في المشاهدات و دفع المعلومات و أما المعنى على القراءة الثانية من تحريك العين في غلف فهو على أن المراد أن قلوبنا أوعية للعلم و نحن علماء و لو كان ما تقوله شيئا يفهم أوله طائل لفهمناه أو يكون المراد ليس في قلوبنا ما تذكره فلو كان علما لكان فيها و قوله‏ «بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ» رد الله سبحانه عليهم قولهم أي ليس ذلك كما زعموا لكن الله سبحانه قد أقصاهم و أبعدهم من رحمته و طردهم عنها بجحودهم به و برسله و قيل معنى لعنهم طبع على قلوبهم على سبيل المجازاة لهم بكفرهم و قوله‏ «فَقَلِيلًا ما يُؤْمِنُونَ» معناه أن هؤلاء الذين وصفهم قليلو الإيمان بما أنزل على نبيه محمد ص و إن كان معهم بعض الإيمان من التصديق بالله و بصفاته و غير ذلك مما كان فرضا عليهم و ذلك قليل بالإضافة إلى ما جحدوه من التصديق بنبوة نبينا ص و بما جاء به و الذي يليق بمذهبنا أن يكون المراد به لا إيمان لهم أصلا و إنما وصفهم بالقليل كما يقال قل ما رأيت هذا قط أي ما رأيت هذا قط و إن جعلت قليلا نصبا على الحال أي يؤمنون قليلا فمعناه لا يؤمن به إلا نفر قليل كعبد الله بن سلام و أصحابه و في هذه الآية رد على المجبرة لأن هؤلاء اليهود قالوا مثل ما يقولونه من أن على قلوبهم ما يمنع من الإيمان و يحول بينها و بينه فكذبهم الله تعالى في ذلك بأن لعنهم و ذمهم و لو كانوا صادقين لما استحقوا اللعن و الطرد و لكان الله سبحانه قد كلفهم ما لا يطيقونه ..


309
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 89] ..... ص : 310

[سورة البقرة (2): آية 89]

وَ لَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَ كانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ (89)

الإعراب‏

مصدق رفع لأنه صفة لكتاب و لو نصب على الحال لكان جائزا لكنه لم يقرأ به في المشهور و قيل ضم على الغاية و قد ذكرنا الوجه فيه فيما تقدم من قوله‏ قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ‏ و أما جواب لما في قوله‏ «وَ لَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» فعند الزجاج و الأخفش محذوف لأن معناه معروف يدل عليه قوله‏ «فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ» كما حذف جواب لو من نحو قوله‏ وَ لَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى‏ و تقديره و لو أن قرآنا سوى هذا القرآن سيرت به الجبال لسيرت بهذا القرآن و قيل إن قوله‏ «كَفَرُوا» جواب لقوله‏ «وَ لَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» و لقوله‏ «فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا» و إنما كرر لما لطول الكلام عن المبرد.

النزول‏

قال ابن عباس كانت اليهود يستفتحون أي يستنصرون على الأوس و الخزرج برسول الله ص قبل مبعثه فلما بعثه الله من العرب و لم يكن من بني إسرائيل كفروا به و جحدوا ما كانوا يقولون فيه فقال لهم معاذ بن جبل و بشر بن البراء بن معرور يا معشر اليهود اتقوا الله و أسلموا فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد و نحن أهل الشرك و تصفونه و تذكرون أنه مبعوث فقال سلام بن مشكم أخو بني النضير ما جاءنا بشي‏ء نعرفه و ما هو بالذي كنا نذكر لكم فأنزل الله تعالى هذه الآية و

روى العياشي بإسناده رفعه إلى أبي بصير عن أبي عبد الله ع قال‏ كانت اليهود تجد في كتبها أن مهاجر محمد رسول الله ص ما بين عير و أحد فخرجوا يطلبون الموضع فمروا بجبل يقال له حداد فقالوا حداد و أحد سواء فتفرقوا عنده فنزل بعضهم بتيماء و بعضهم بفدك و بعضهم بخيبر فاشتاق الذين بتيماء إلى بعض إخوانهم فمر بهم أعرابي من قيس فتكاروا منه و قال لهم أمر بكم ما بين عير و أحد فقالوا له إذا مررت بهما فأذنا بهما فلما توسط بهم أرض المدينة قال ذلك عير و هذا أحد فنزلوا عن ظهر إبله و قالوا له قد أصبنا بغيتنا فلا حاجة بنا إلى إبلك فاذهب حيث شئت و كتبوا إلى إخوانهم الذين بفدك و خيبر أنا قد أصبنا الموضع فهلموا إلينا


310
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 311

فكتبوا إليهم أنا قد استقرت بنا الدار و اتخذنا بها الأموال و ما أقربنا منكم فإذا كان ذلك فما أسرعنا إليكم و اتخذوا بأرض المدينة أموالا فلما كثرت أموالهم بلغ ذلك تبع فغزاهم فتحصنوا منه فحاصرهم ثم أمنهم فنزلوا عليه فقال لهم إني قد استطبت بلادكم و لا أراني إلا مقيما فيكم فقالوا له ليس ذلك لك إنها مهاجر نبي و ليس ذلك لأحد حتى يكون ذلك فقال لهم فإني مخلف فيكم من أسرتي من إذا كان ذلك ساعده و نصره فخلف حيين تراهم الأوس و الخزرج فلما كثروا بها كانوا يتناولون أموال اليهود فكانت اليهود تقول لهم أما لو بعث محمد لنخرجنكم من ديارنا و أموالنا فلما بعث الله محمد ص آمنت به الأنصار و كفرت به اليهود و هو قوله تعالى‏ «وَ كانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا» إلى آخر الآية.

المعنى‏

«وَ لَمَّا جاءَهُمْ» أي جاء اليهود من بني إسرائيل الذين وصفهم الله‏ «كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» يعني به القرآن الذي أنزله على نبيه محمد ص‏ «مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ» أي للذي معهم من الكتب التي أنزلها الله تعالى قبل القرآن من التوراة و الإنجيل و غيرهما و فيه وجهان (أحدهما) أن معناه إنه مصدق لما تقدم به الأخبار في التوراة و الإنجيل فهو مصدق لذلك من حيث كان مخبره على ما تقدم الخبر به (و الآخر) إنه مصدق لهما أي بأنهما من عند الله تعالى و أنهما حق‏ «وَ كانُوا» يعني اليهود «مِنْ قَبْلُ» أي من قبل مبعث النبي ص و نزول القرآن‏ «يَسْتَفْتِحُونَ» فيه وجوه (أحدها) أن معناه يستنصرون أي يقولون في الحروب اللهم افتح علينا و انصرنا بحق النبي الأمي اللهم انصرنا بحق النبي المبعوث إلينا فهم يسألون عن الفتح الذي هو النصر (و ثانيها) أنهم كانوا يقولون لمن ينابذهم هذا نبي قد أطل زمانه ينصرنا عليكم (و ثالثها) أن معنى يستفتحون يستعلمون من علمائهم صفة نبي يبعث من العرب فكانوا يصفونه لهم فلما بعث أنكروه (و رابعها) أن معنى يستفتحون يستحكمون ربهم على كفار العرب كما قال:

ألا أبلغ بني عصم رسولا

فإني عن فتاحتكم غني‏

 

أي عن محاكمتكم به و قوله‏ «عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا» أي مشركي العرب‏ «فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا» يعني محمدا ص أي عرفوا صفته و مبعثه‏ «كَفَرُوا بِهِ» حسدا و بغيا و طلبا


311
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 90] ..... ص : 312

للرياسة «فَلَعْنَةُ اللَّهِ» أي غضبه و عقابه‏ «عَلَى الْكافِرِينَ» و قد فسرنا معنى اللعنة و الكفر فيما مضى.

[سورة البقرة (2): آية 90]

بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى‏ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى‏ غَضَبٍ وَ لِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (90)

القراءة

قرأ أبو عمرو أن ينزل خفيفة كل القرآن إلا في الأنعام‏ أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً فإنه شددها و قرأ ابن كثير بالتخفيف كل القرآن إلا في سبحان‏ وَ نُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ‏ و حَتَّى تُنَزِّلَ‏ فإنه شددها و قرأ حمزة و الكسائي كل القرآن بالتشديد إلا في الم و حم عسق ينزل الغيث فإنهما قرءاها بالتخفيف و قرأ الباقون بالتشديد كل القرآن و اتفقوا في الحجر وَ ما نُنَزِّلُهُ‏ أنه مشدد.

الحجة

نزل فعل غير متعد و يعدى بالإضراب الثلاثة و هي النقل بالهمزة و تضعيف العين و حرف الجر فأنزل و نزل لغتان و مما عدي بالحرف قوله تعالى‏ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ‏ فيمن رفع الروح و قد كثر مجي‏ء التنزيل في القرآن فهذا يقوي نزل و لم يعلم فيه الإنزال و كثر فيه مجي‏ء أنزل.

اللغة

بئس و نعم فعلان ماضيان أصلهما على وزن فعل و فيها أربع لغات نعم و بئس مثل حمد و نعم و بئس بسكون العين و نعم و بئس بكسر الفاء و العين و نعم و بئس و اشتروا افتعلوا من الشراء و أكثر الكلام شريت بمعنى بعت و اشتريت بمعنى ابتعت قال يزيد الحميري:

و شريت بردا ليتني‏

من بعد برد كنت هامة

 

و ربما استعمل اشتريت بمعنى بعت و شريت بمعنى ابتعت و الأكثر ما تقدم و البغي أصله الفساد مأخوذ من قولهم بغى الجرح إذا فسد و قيل أصله الطلب لأن الباغي يطلب التطاول الذي ليس له ذلك و سميت الزانية بغيا لأنها تطلب و الإهانة الإذلال.

الإعراب‏

قال الزجاج بئس إذا وقعت على ما جعلت معها ما بمنزلة اسم منكور


312
مجمع البيان في تفسير القرآن1

الإعراب ..... ص : 312

و إنما كان ذلك في نعم و بئس لأنهما لا يعملان في اسم علم إنما يعملان في اسم منكور دال على جنس أو اسم فيه ألف و لام يدل على جنس و إنما كانت كذلك لأن نعم مستوفية لجميع المدح و بئس مستوفية لجميع الذم فإذا قلت نعم الرجل زيد فقد قلت استحق زيد المدح الذي يكون في سائر جنسه و كذا إذا قلت بئس الرجل زيد دللت على أنه قد استوفى الذم الذي يكون في سائر جنسه فلم يجز إذ كان يستوفي مدح الأجناس أن يعمل من غير لفظ جنس فإذا كان معها اسم جنس بغير ألف و لام فهو نصب أبدا و إذا كانت فيه ألف و لام فهو رفع أبدا نحو نعم الرجل زيد و نعم الرجل زيد و نعم رجلا زيد و إنما نصبت رجلا للتمييز و في نعم اسم مضمر على شريطة التفسير و لذلك كانت ما في نعم بغير صلة لأن الصلة توضح و تخصص و القصد في نعم أن يليها اسم منكور أو اسم جنس فقوله‏ «بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ» تقديره بئس شيئا اشتروا به أنفسهم قال أبو علي قوله و لذلك كانت ما في نعم بغير صلة يدل على أن ما إذا كانت موصولة لم يجز عنده أن تكون فاعلة نعم و بئس و ذلك عندنا لا يمتنع و جهة جوازه أن ما اسم مبهم يقع على الكثرة و لا يخصص واحدا بعينه كما أن أسماء الأجناس تكون للكثرة و ذلك في نحو قوله تعالى‏ وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَ لا يَنْفَعُهُمْ وَ يَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ‏ فالقصد به هنا الكثرة و إن كان في اللفظ مفردا بدلالة قوله‏ وَ يَقُولُونَ هؤُلاءِ و تكون معرفة و نكرة كما أن أسماء الأجناس تكون معرفة و نكرة و قد أجاز أبو العباس المبرد في الذي أن تلي نعم و بئس إذا كان عاما غير مخصوص كما في قوله‏ وَ الَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ‏ و إذا جاز في الذي كان في ما أجوز فقوله‏ «بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ» يجوز عندي أن تكون ما موصولة و موضعها رفع بكونها فاعلة لبئس و يجوز أن تكون منكورة فتكون اشتروا صفة غير صلة و يدل على صحة ما رأيته قول الشاعر:

و كيف أرهب أمرا أو أراع له‏

و قد زكات إلى بشر بن مروان‏

 

فنعم مزكا من ضاقت مذاهبه‏

و نعم من هو في سر و إعلان‏

 

أ لا ترى أنه جعل مزكا فاعل نعم لما كان مضافا إلى من و هي تكون عامة غير معينة و أما قوله‏ «أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ» فموضعه رفع و هو المخصوص بالذم فإن شئت رفعته على أنه مبتدأ مؤخر و إن شئت على أنه خبر مبتدإ محذوف أي هذا الشي‏ء المذموم كفرهم بما أنزل الله و قوله‏ «بَغْياً» نصب بأنه مفعول له كقول حاتم:

و أغفر عوراء الكريم ادخاره‏

و أعرض عن شتم اللئيم تكرما

 


313
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 314

المعنى أغفر عوراءه لادخاره و أعرض عن الشتم للتكرم و موضع أن الثانية نصب على حذف حرف الجر يعني بغيا لأن ينزل الله أي من أجل أن ينزل الله.

المعنى‏

ثم ذم الله سبحانه اليهود بإيثارهم الدنيا على الدين فقال‏ «بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ» أي بئس شيئا باعوا به أنفسهم أو بئس الشي‏ء باعوا به أنفسهم‏ «أَنْ يَكْفُرُوا» أي كفرهم‏ «بِما أَنْزَلَ اللَّهُ» يعني القرآن و دين الإسلام المنزل على محمد ص فإذا سأل كيف باعت اليهود أنفسها بالكفر فالجواب أن البيع و الشراء إزالة ملك المالك إلى غيره بعوض يعتاضه منه ثم يستعمل ذلك في كل معتاض من عمله عوضا خيرا كان أو شرا فاليهود لما أوبقوا أنفسهم بكفرهم بمحمد ص و أهلكوا خاطبهم الله بما كانوا يعرفونه فقال بئس الشي‏ء رضوا به عوضا من ثواب الله و ما أعده لهم لو كانوا آمنوا بالله و ما أنزل الله على نبيه النار و ما أعد لهم بكفرهم و نظير ذلك الآيات في سورة النساء من قوله‏ أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَ الطَّاغُوتِ‏ إلى قوله‏ وَ آتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً و قوله‏ «بَغْياً» أي حسدا لمحمد ص إذا كان من ولد إسماعيل و كانت الرسل قبل من بني إسرائيل و قيل طلبا لشي‏ء ليس لهم ثم فسر ذلك بقوله‏ «أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى‏ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ» و هو الوحي و النبوة و قوله‏ «فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى‏ غَضَبٍ» معناه رحبت اليهود من بني إسرائيل بعد ما كانوا عليه من الانتصار بمحمد و الاستفتاح به و الإخبار بأنه نبي مبعوث مرتدين ناكصين على أعقابهم حين بعثه الله نبيا بغضب من الله استحقوه منه بكفرهم و قال مؤرج معنى‏ «فَباؤُ بِغَضَبٍ» استوجبوا اللعنة بلغة جرهم و لا يقال باء مفردة حتى يقال إما بخير و إما بشر و قال أبو عبيدة «فَباؤُ بِغَضَبٍ» احتملوه و أقروا به و أصل البوء التقرير و الاستقرار و قوله‏ «عَلى‏ غَضَبٍ» فيه أقوال (أحدها) أن الغضب الأول حين غيروا التوراة قبل مبعث النبي و الغضب الثاني حين كفروا بمحمد ص عن عطاء و غيره (و ثانيها) أن الغضب الأول حين عبدوا العجل و الثاني حين كفروا بمحمد عن السدي (و ثالثها) أن الأول حين كفروا بعيسى (ع) و الثاني حين كفروا بمحمد ص عن الحسن و عكرمة و قتادة و (رابعها) أن ذلك على التوكيد و المبالغة إذ كان الغضب لازما لهم فيتكرر عليهم عن أبي مسلم و الأصم‏ «وَ لِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ» معناه للجاحدين بنبوة محمد عذاب مهين من الله إما في الدنيا و إما في الآخرة و المهين هو الذي يذل صاحبه و يخزيه و يلبسه الهوان و قيل المهين الذي لا ينتقل منه إلى إعزاز و إكرام و قد يكون غير مهين إذا


314
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 91] ..... ص : 315

كان تحميصا و تكفيرا ينتقل بعده إلى إعزاز تعظيم فعلى هذا من ينتقل من عذاب النار إلى الجنة لا يكون عذابه مهينا.

[سورة البقرة (2): آية 91]

وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَ يَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91)

اللغة

ما وراءه أي ما بعده قال الشاعر:

تمني الأماني ليس شي‏ء وراءها

كموعد عرقوب أخاه بيثرب‏

 

قال الفراء معنى وراءه سوى كما يقال للرجل تكلم بالكلام الحسن ما وراء هذا الكلام شي‏ء يراد ليس عند المتكلم به شي‏ء سوى ذلك الكلام.

الإعراب‏

قوله‏ «مُصَدِّقاً» نصب على الحال و هذه حال مؤكدة قال الزجاج زعم سيبويه و الخليل و جميع النحويين الموثوق بعلمهم أن قولك هو زيد قائما خطأ لأن قولك هو زيد كناية عن اسم متقدم فليس في الحال فائدة لأن الحال يوجب هاهنا أنه إذا كان قائما فهو زيد و إذا ترك القيام فليس بزيد فهذا خطأ فأما قولك هو زيد معروفا و هو الحق مصدقا ففي الحال هنا فائدة كأنك قلت أثبته له معروفا و كأنه بمنزلة قولك هو زيد حقا فمعروف حال لأنه إنما يكون زيدا بأنه يعرف بزيد و كذلك القرآن هو الحق إذا كان مصدقا لكتب الرسل ع و قوله‏ «فَلِمَ تَقْتُلُونَ» و إن كان بلفظ الاستقبال فالمراد به الماضي و إنما جاز ذلك لقوله‏ «مِنْ قَبْلُ» و إن بمعنى الشرط و يدل على جوابه ما تقدم و تقديره إن كنتم مؤمنين فلم قتلتم أنبياء الله و قيل إن بمعنى ما النافية أي ما كنتم مؤمنين.

المعنى‏

«وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ» يعني اليهود الذين تقدم ذكرهم‏ «آمِنُوا» أي صدقوا


315
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 92] ..... ص : 316

 

«بِما أَنْزَلَ اللَّهُ» من القرآن على محمد ص و الشرائع التي جاء بها «قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا» يعنون التوراة «وَ يَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ» أي يجحدون بما بعده يريد الإنجيل و القرآن أو بما سوى التوراة من الكتب المنزلة كقوله سبحانه‏ وَ أُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ‏ و قال ابن الأنباري تم الكلام عند قوله‏ «بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا» ثم ابتدأ الله بالإخبار عنهم فقال‏ «وَ يَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ» أي بما سواه‏ «وَ هُوَ الْحَقُّ» يعني القرآن‏ «مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ» يعني التوراة لأن تصديق محمد و ما أنزل معه من القرآن مكتوب عندهم في التوراة قال الزجاج و في هذا دلالة على أنهم قد كفروا بما معهم إذ كفروا بما يصدق ما معهم ثم رد الله تعالى عليهم قولهم‏ «نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا» فقال‏ «قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ» أي قل يا محمد لهم فلم قتلتم أنبياء الله و قد حرم الله في الكتاب الذي أنزل عليكم قتلهم و أمركم فيه باتباعهم و فرض عليكم طاعتهم و تصديقهم‏ «إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» بما أنزل عليكم و قال الزجاج إن بمعنى ما هاهنا كأنه قال ما كنتم مؤمنين و هذا وجه بعيد و إنما قال تقتلون بمعنى قتلتم لأن لفظ المستقبل يطلق على الماضي إذا كان ذلك من الصفات اللازمة كما يقال أنت تسرق و تقتل إذا صار ذلك عادة له و لا يراد بذلك ذمه و لا توبيخه على ذلك الفعل في المستقبل و إنما يراد به توبيخه على ما مضى و إنما أضاف إليهم فعل آبائهم و أسلافهم لأحد أمرين (أحدهما) أن الخطاب لمن شهد من أهل ملة واحدة و من غاب منهم واحد فإذا قتل أسلافهم الأنبياء و هم مقيمون على مذهبهم و طريقتهم فقد شركوهم في ذلك و الآخر أنهم رضوا بأفعالهم و الراضي بفعل قوم كالداخل فيه معهم و هذا المعنى قريب من الأول و في هذه الآية دلالة على أن الإيمان بكتاب من كتب الله لا يصح إذا لم يحصل الإيمان بما سواه من كتب الله المنزلة التي هي مثله في اقتران المعجزة به.

[سورة البقرة (2): آية 92]

وَ لَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى‏ بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَنْتُمْ ظالِمُونَ (92)

المعنى‏

ثم حكى سبحانه عنهم ما يدل على قلة بصيرتهم في الدين و ضعفهم في اليقين فقال‏ «وَ لَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى‏ بِالْبَيِّناتِ» الدالة على صدقه و المعجزات المؤيدة لنبوته كاليد البيضاء و انبجاس الماء من الحجر و فلق البحر و قلب العصا حية و الطوفان و الجراد و القمل و الضفادع و الدم و سماها بينات لظهورها و تبينها للناظرين إليها أنها معجزة يتعذر

 

 

 

316
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 93] ..... ص : 317

الإتيان بها على كل بشر و قوله‏ «ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ» يعني اتخذتم العجل إلها و عبدتموه‏ «مِنْ بَعْدِهِ» أي من بعد موسى لما فارقكم و مضى إلى ميقات ربه و يجوز أن يكون الهاء كناية عن المجي‏ء فيكون التقدير ثم اتخذتم العجل من بعد مجي‏ء البينات‏ «وَ أَنْتُمْ ظالِمُونَ» لأنفسكم بكفركم و عبادتكم العجل لأن العبادة لا تكون لغير الله.

[سورة البقرة (2): آية 93]

وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَ رَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَ اسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَ عَصَيْنا وَ أُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93)

اللغة

اسمعوا معناه اقبلوا و منه قوله (سمع الله لمن حمده) أي قبل الله حمد من حمده و قوله‏ «وَ أُشْرِبُوا» أصله من الشرب يقال شرب و أشرب غيره إذا حمله على الشرب و أشرب الزرع أي سقي و أشرب قلبه حب كذا قال زهير:

فصحوت عنها بعد حب داخل‏

و الحب يشربه فؤادك داء

 

. الإعراب‏

قوله‏ «الْعِجْلَ» أي حب العجل حذف المضاف و أقيم المضاف إليه مقامه و مثله قول الشاعر:

حسبت بغام راحلتي عناقا

و ما هي ويب غيرك بالعناق‏

 

أي حسبت بغام راحلتي بغام عناق و قال طرفة:

ألا إنني سقيت أسود حالكا

ألا بجلي من الشراب الأبجل‏

 

يريد سقيت سم أسود قال آخر:

و شر المنايا ميت وسط أهله‏

كهلك الفتى قد أسلم الحي حاضرة

 

أي منية ميت و قوله‏ «بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ» فقد تقدم ذكر إعرابه و أن يجوز أن‏


317
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 318

يكون بمعنى ما أي ما كنتم مؤمنين و جاز أن يكون تقديره إن كنتم مؤمنين فبئسما يأمركم به إيمانكم هذا.

المعنى‏

قوله‏ «وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَ رَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ» قد فسرناه فيما مضى و الفائدة في تكرير هذا و أمثاله التأكيد و إيجاب الحجة عليهم على عادة العرب في مخاطباتها و قيل إنه سبحانه لما عد فضائح اليهود أعاد ذكر رفع الجبل و قيل أنه تعالى إنما ذكر الأول للاعتبار بأخبار من مضى و الثاني للاحتجاج عليهم و قوله‏ «وَ اسْمَعُوا» أي اقبلوا ما سمعتم و اعملوا به و أطيعوا الله و قيل معناه اسمعوا ما يتلى عليكم أي استمعوا لتسمعوا و هذا اللفظ يحتمل الاستماع و القبول و لا تنافي بينهما فيحتمل عليهما فكأنه قيل استمعوا لتسمعوا ثم أقبلوا و أطيعوا و بدل عليه أنه قال في الجواب عنهم‏ «قالُوا سَمِعْنا وَ عَصَيْنا» و فيه قولان (أحدهما) أنهم قالوا هذا القول في الحقيقة استهزاء و معناه سمعنا قولك و عصينا أمرك (و الثاني) أن حالهم كحال من قال ذلك إذ فعلوا ما دل عليه كما قال الشاعر:

(قالت جناحاه لرجليه ألحقي)

 

و إن كان الجناح لا يقول ذلك و إنما رجع سبحانه عن لفظ الخطاب إلى الخبر عن الغائب على عادة العرب المألوفة و اختلف في هذا الضمير إلى من يعود فقيل إلى اليهود الذين كانوا في عصر النبي ص فإنهم قالوا ذلك ثم رجع إلى حديث أوائلهم فقال‏ «وَ أُشْرِبُوا» و قيل إلى اليهود الذين كانوا في عصر موسى ع إذ ردوا عليه قوله و قابلوه بالعصيان و قوله‏ «وَ أُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ» فمعناه دخل قلوبهم حب العجل و إنما عبر عن حب العجل بالشرب دون الأكل لأن شرب الماء يتغلغل في الأعضاء حتى يصل إلى بواطنها و الطعام يجاوز الأعضاء و لا يتغلغل فيها قال الشاعر:

تغلغل حيث لم يبلغ شراب‏

و لا حزن و لم يبلغ سرور

 

و ليس المعنى في قوله‏ «وَ أُشْرِبُوا» أن غيرهم فعل ذلك بهم بل هم الفاعلون لذلك كما يقول القائل أنسيت ذلك من النسيان و ليس يريد أن غيره فعل ذلك به و يقال أوتي فلان علما جما و إن كان هو المكتسب له و قوله‏ «بِكُفْرِهِمْ» ليس معناه أنهم أشربوا حب العجل جزاء على كفرهم لأن محبة العجل كفر قبيح و الله سبحانه لا يفعل الكفر في العبد لا ابتداء و لا جزاء بل معناه أنهم كفروا بالله تعالى بما أشربوه من محبة العجل و قيل إنما أشرب حب العجل قلوبهم من زينة عندهم و دعاهم إليه كالسامري و شياطين الجن و الإنس فقوله‏ «بِكُفْرِهِمْ» معناه لاعتقادهم التشبيه و جهلهم بالله تعالى و تجويزهم العبادة لغيره أشربوا


318
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 94] ..... ص : 319

في قلوبهم حب العجل لأنهم صاروا إلى ذلك لهذه المعاني التي هي كفر و قول من قال فعل الله ذلك بهم عقوبة و مجازاة غلط فاحش لأن حب العجل ليس من العقوبة في شي‏ء و لا ضرر فيه و قوله‏ «قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ» معناه قل يا محمد لهؤلاء اليهود بئس الشي‏ء الذي يأمركم به إيمانكم إن كان يأمركم بقتل أنبياء الله و رسله و التكذيب بكتبه و جحد ما جاء من عنده و معنى إيمانهم تصديقهم بالذي زعموا أنهم مصدقون به من كتاب الله بقولهم‏ نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا و قوله‏ «إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» أي مصدقين كنا زعمتم بالتوراة و في هذا نفي عن التوراة أن يكون يأمر بشي‏ء يكرهه الله من أفعالهم و إعلام بأن الذي يأمرهم بذلك أهواؤهم و يحملهم عليه آراؤهم.

[سورة البقرة (2): آية 94]

قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (94)

اللغة

الخالصة الصافية يقال خلص لي هذا الأمر أي صار لي وحدي و صفا لي يخلص خلوصا و خالصة مصدر كالعافية و أصل الخلوص أن يصفو الشي‏ء من كل شائبة و دون يستعمل على ثلاثة أوجه أن يكون الشي‏ء دون الشي‏ء في المكان و في الشرف و في الاختصاص و هو المراد في الآية و التمني من جنس الأقوال عند أكثر المتكلمين و هو أن يقول القائل لما كان ليته لم يكن و لما لم يكن ليته كان و قال أبو هاشم هو معنى في القلب و لا خلاف في أنه ليس من قبيل الشهوة.

الإعراب‏

خالصة نصب على الحال.

المعنى‏

ثم عاد سبحانه إلى الاحتجاج على اليهود بما فضح به أحبارهم و علماءهم و دعاهم إلى قضية عادلة بينه و بينهم فقال‏ «قُلْ» يا محمد لهم‏ «إِنْ كانَتْ» الجنة «خالِصَةً» لكم‏ «دُونِ النَّاسِ» كلهم أو دون محمد و أصحابه كما ادعيتم بقولكم‏ لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى‏ و كنتم صادقين في قولكم‏ نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَ أَحِبَّاؤُهُ‏ و إن الله لا يعذبنا «فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ» لأن من اعتقد أنه من أهل الجنة قطعا كان الموت أحب إليه من حياة الدنيا التي فيها أنواع المشاق و الهموم و الآلام و الغموم و من كان على يقين أنه إذا مات‏


319
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 95] ..... ص : 320

تخلص منها و فاز بالنعيم المقيم فإنه يؤثر الموت على الحياة أ لا ترى إلى‏

قول أمير المؤمنين ع‏ و هو يطوف بين الصفين بصفين في غلالة لما قال له الحسن ابنه ما هذا زي الحرب يا بني إن أباك لا يبالي وقع على الموت أو وقع الموت عليه‏

و قول عمار بن ياسر بصفين أيضا الآن ألاقي الأحبة محمدا و حزبه و أما

ما روي عن النبي ص أنه قال‏ لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به و لكن ليقل اللهم أحيني ما دامت الحياة خيرا لي و توفني ما كانت الوفاة خيرا لي‏

فإنما نهي عن تمني الموت لأنه يدل على الجزع و المأمور به الصبر و تفويض الأمور إليه تعالى و لأنا لا نأمن وقوع التقصير فما أمرنا به و نرجو في البقاء التلافي.

[سورة البقرة (2): آية 95]

وَ لَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95)

الإعراب‏

أبدا نصب على الظرف أي طول عمرهم يقول القائل لا أكلمك أبدا يريد ما عشت و ما بمعنى الذي أي بالذي قدمت أيديهم و يجوز أن يكون ما بمعنى المصدر فيكون المراد بتقدمة أيديهم.

المعنى‏

أخبر الله سبحانه عن هؤلاء الذين قيل لهم‏ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ‏ بأنهم لا يتمنون ذلك أبدا بما قدموه من المعاصي و القبائح و تكذيب الكتاب و الرسول عن الحسن و أبي مسلم و قيل بما كتموا من صفة النبي ص عن ابن جريج و أضاف ذلك إلى اليد و إن كانوا إنما فعلوا ذلك باللسان لأن العرب تقول هذا ما كسبت يداك و إن كان ذلك حصل باللسان و الوجه فيه أن الغالب أن تحصل الجناية باليد فيضاف بذلك إليها ما يحصل بغيرها و قوله‏ «وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ» خصص الظالمين بذلك و إن كان عليما بهم و بغيرهم بأن الغرض بذلك الزجر و التهديد كما يقال الإنسان لغيره إني عارف بصير بعملك و قيل معناه إن الله عليم بالأسباب التي منعتم عن تمني الموت و بما أضمروه و أسروه من كتمان الحق عنادا مع علم كثير منهم أنهم مبطلون و

روي عن النبي ص أنه قال‏ لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا و لرأوا مقاعدهم من النار فقال الله سبحانه إنهم‏ «لَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً» تحقيقا لكذبهم‏

و في ذلك أعظم دلالة على صدق نبينا و صحة نبوته لأنه‏


320
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 96] ..... ص : 321

 

أخبر بالشي‏ء قبل كونه فكان كما أخبر و أيضا فإنهم كفوا عن التمني للموت لعلمهم بأنه حق و أنهم لو تمنوا الموت لماتوا و

روى الكلبي عن ابن عباس أنه قال كان رسول الله ص يقول لهم‏ إن كنتم صادقين في مقالتكم فقولوا اللهم أمتنا فو الذي نفسي بيده لا يقولها رجل إلا غص بريقه فمات مكانه‏

و هذه القصة شبيهة بقصة المباهلة و أن النبي ص لما دعا النصارى إلى المباهلة امتنعوا لقلة ثقتهم بما هم عليه و خوفهم من صدق‏

النبي ص في قوله‏ لو باهلوني لرجعوا لا يجدون أهلا و لا مالا

فلما لم يتمن اليهود الموت افتضحوا كما أن النصارى لما أحجموا عن المباهلة افتضحوا و ظهر الحق فإن قيل من أين علمتم أنهم لم يتمنوا الموت بقلوبهم فالجواب أن من قال التمني هو القول فالسؤال ساقط عنه و من قال هو معنى في القلب قال لو تمنوه بقلوبهم لأظهروه بألسنتهم حرصا منهم على تكذيبه في إخباره و لأن تحديهم بتمني الموت إنما وقع بما يظهر على اللسان و كان يسهل عليهم أن يقولوا ليت الموت نزل بنا فلما عدلوا عن ذلك ظهر صدقه ص و وضحت حجته.

[سورة البقرة (2): آية 96]

وَ لَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى‏ حَياةٍ وَ مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَ ما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (96)

اللغة

وجده و صادفه و ألفاه نظائر يقال وجدت الشي‏ء وجدانا إذا أصبته و يقال وجدت بمعنى علمت و الحرص شدة الطلب و رجل حريص و قوم حراص و المودة المحبة يقال وددت الرجل أوده ودا و ودا و ودادا و ودادة و مودة و التعمير طول العمر و العمر و العمر لغتان و أصله من العمارة الذي هو ضد الخراب فالعمر المدة التي يعمر فيها البدن بالحياة و الألف من التأليف سمي بذلك العدد لأنه ضم مائة عشر مرات و الزحزحة التنحية يقال زحزحته فتزحزح و قال الشاعر:

و قالوا تزحزح لا بنا فضل حاجة

 

إليك و لا منا لوهيك راقع‏

     

 

 

 

 

321
مجمع البيان في تفسير القرآن1

الإعراب ..... ص : 322

و البصير بمعنى المبصر كما أن السميع بمعنى المسمع و لكنه صرف إلى فعيل و مثله‏ بَدِيعُ السَّماواتِ‏ بمعنى المبدع و العذاب الأليم بمعنى المؤلم هذا في اللغة و عند المتكلمين المبصر هو المدرك للمبصرات و البصير هو الحي الذي لا آفة به فهو ممن يجب أن يبصر المبصرات إذا وجدت و ليس أحدهما هو الآخر و كذلك القول في السميع و السامع.

الإعراب‏

«لَتَجِدَنَّهُمْ» اللام لام القسم و النون للتأكيد و تقديره و الله لتجدنهم قال سيبويه سألت الخليل عن قوله لتفعلن إذا جاءت مبتدأ فقال هي على نية القسم و هذه اللام إذا دخلت على المستقبل لزمته في الأمر الأكثر بالنون و إذا كان وجدت بمعنى وجدان الضالة يعدى إلى مفعول واحد كفقدت الذي هو ضده فينتصب أحرص على الحال و إذا كان بمعنى علمت تعدى إلى مفعولين ثانيهما عبارة عن الأول فيكون أحرص هو المفعول الثاني و هو الأصح و قوله‏ «وَ مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا» قال الفراء يريد و أحرص من الذين أشركوا أيضا كما يقال هو أسخى الناس و من حاتم و من هرم لأن تأويل قولك أسخى الناس إنما هو أسخى الناس و قال الزجاج تقديره و لتجدنهم أحرص من الذين أشركوا و قيل إنما دخلت من في قوله‏ «وَ مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا» و لم يدخل في قوله‏ «أَحْرَصَ النَّاسِ» لأنهم بعض الناس و الإضافة في باب أفعل لا يكون إلا كذلك تقول الياقوت أفضل الحجارة و لا تقول الياقوت أفضل الزجاج بل تقول أفضل من الزجاج فلذلك قال‏ «وَ مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا» لأن اليهود ليسوا هم بعض المجوس و هم بعض الناس و قوله‏ «وَ ما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ» فيه وجوه (أحدها) أن هو كناية عن أحدهم الذي جرى ذكره و أن يعمر في موضع رفع بأنه فاعل تقديره و ما أحدهم بمزحزحه من العذاب تعميره كما يقال مررت برجل معجب قيامه (و ثانيها) أنه كناية عما جرى ذكره من طول العمر و قوله أن يعمر بيان لقوله هو و تقديره و ما تعميره بمزحزحه من العذاب و كأنه قيل و ما هو الذي ليس بمزحزحه فقيل هو التعمير (و ثالثها) أنه عماد و أن يعمر في موضع الرفع بأنه مبتدأ و بمزحزحه خبره و منع الزجاج هذا القول الأخير قال لا يجيز البصريون ما هو قائما زيد و ما هو بقائم زيد بمعنى الأمر و الشأن و قال غيره إذا كانت ما غير عاملة في الباء جاز كقولهم ما بهذا بأس.

المعنى‏

ثم أخبر سبحانه عن أحوال اليهود فقال‏ «وَ لَتَجِدَنَّهُمْ» أي و لتعلمن‏


322
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 322

يا محمد هؤلاء اليهود و قيل يعني به علماء اليهود «أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى‏ حَياةٍ» أي أحرصهم على البقاء في الدنيا أشد من حرص سائر الناس‏ «وَ مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا» أي و لتجدنهم أحرص من الذين أشركوا و هم المجوس و من لا يؤمن بالبعث و قال أبو علي الجبائي إن الكلام تم عند قوله‏ «عَلى‏ حَياةٍ» و قوله‏ «وَ مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا» تقديره و من [اليهود] الذين أشركوا من يود أحدهم لو يعمر ألف سنة فحذف من و قال علي بن عيسى هذا غير صحيح لأن حذف من لا يجوز في مثل هذا الموضع و قال أبو مسلم الأصفهاني أن في هذا الكلام تقديما و تأخيرا و تقديره و لتجدنهم و طائفة من الذين أشركوا أحرص الناس على حيوة و أقول إذا جاز هاهنا أن يحذف الموصوف الذي هو طائفة و تقام الصفة مقامه و هو قوله‏ «مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا» فليجز على ما ذهب إليه الجبائي أن يكون تقديره و من الذين أشركوا طائفة يود أحدهم فيحذف الموصوف و يقام صفته الذي هو «يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ» مقامه فيصح على هذا تقدير الحذف و يستوي القولان من حيث الصورة و الصفة و يختلفان من حيث المعنى و يكون من هنا هي الموصوفة لا الموصولة كما قدره الجبائي و قوله‏ «يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ» ذكر الألف لأنها نهاية ما كانت المجوس يدعو به بعضهم لبعض و تحيى به الملوك يقولون عش ألف نوروز و ألف مهرجان قال ابن عباس هو قول أحدهم لمن عطس هزار سأل بزي يقال فهؤلاء الذين يزعمون أن لهم الجنة لا يتمنون الموت و هم أحرص ممن لا يؤمن بالبعث و كذلك يجب أن يكون هؤلاء لعلمهم بما أعد الله لهم في الآخرة من الجحيم و العذاب الأليم على كفرهم و عنادهم مما لا يقر به أهل الشرك فهم للموت أكره من أهل الشرك الذين لا يؤمنون بالبعث و على الحياة أحرص لهذه العلة و قوله‏ «وَ ما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ» أي و ما أحدهم بمنجيه من عذاب الله و لا بمبعده منه تعميره و هو أن يطول له البقاء لأنه لا بد للعمر من الفناء هذا هو أحسن الوجوه التي تقدم ذكرها «وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ» أي عليم بأعمالهم لا يخفى عليه شي‏ء منها بل هو محيط بجميعها حافظ لها حتى يذيقهم بها العذاب و في هذه الآية دلالة على أن الحرص على طول البقاء لطلب الدنيا و نحوه مذموم و إنما المحمود طلب البقاء للازدياد في الطاعة و تلافي الفائت بالتوبة و الإنابة و درك السعادة بالإخلاص في العبادة و إلى هذا المعنى‏

أشار أمير المؤمنين (ع) في قوله: بقية عمر المؤمن لا قيمة له يدرك بها ما فأت و يحيي بها ما أمات.


323
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): الآيات 97 الى 98] ..... ص : 324

[سورة البقرة (2): الآيات 97 الى 98]

قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى‏ قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَ هُدىً وَ بُشْرى‏ لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ رُسُلِهِ وَ جِبْرِيلَ وَ مِيكالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ (98)

القراءة

قرأ ابن كثير جبريل بفتح الجيم و كسر الراء من غير همز و قرأ حمزة و الكسائي و أبو بكر إلا يحيى جبرئيل بفتح الجيم و الراء مهموزا على زنة جبرعيل و روى يحيى كذلك إلا أنه حذف الياء بعد الهمز فصار مثل جبرعل و الباقون بكسر الجيم و الراء و بعدها ياء من غير همزة و قرأ أهل المدينة ميكائل بهمزة مكسورة بعد الألف على زنة ميكاعل و قرأ أهل البصرة «مِيكالَ» بغير همز و لا ياء و الباقون بإثبات ياء ساكنة بعد الهمزة على زنة ميكاعيل.

الحجة

قال أبو علي روينا عن أبي الحسن أنه قال في جبريل ست لغات جبرائيل و جبرائل و جبرئل و جبرال و جبريل و جبرئيل فمن قال جبريل كان على لفظ قنديل و برطيل و من قال جبرئيل كان على وزن عندليب و من قال جبرئل كان على وزن جحمرش و من قال ميكال على وزن قنطار و ميكائيل و جبرائيل خارج عن كلام العرب و هذه الأسماء معربة فإذا أتى بها على ما في أبنية العرب مثله كان أذهب في باب التعريب و قد جاء في أشعارهم ما هو على لفظ التعريب و ما هو خارج عن ذلك قال:

عبدوا الصليب و كذبوا بمحمد

و بجبرئيل و كذبوا ميكالا

 

و قال حسان:

و جبريل رسول الله منا

و روح القدس ليس له كفاء.

 

اللغة

جبرئيل و ميكائيل اسمان أعجميان عربا و قيل جبر في اللغة السريانية هو العبد و إيل هو الله و ميك هو عبيد فمعنى جبريل عبد الله و معنى ميكائيل عبيد الله و قال أبو علي الفارسي هذا لا يستقيم من وجهين أحدهما أن إيل لا يعرف من أسماء الله تعالى في‏


324
مجمع البيان في تفسير القرآن1

الإعراب ..... ص : 325

اللغة العربية و الآخر أنه لو كان كذلك لكان آخر الاسم مجرورا أبدا كقولهم عبد الله و البشرى و البشارة الخبر السار أول ما يرد فيظهر ذلك في بشرة الوجه.

الإعراب‏

جواب الشرط محذوف تقديره من كان عدوا لجبرائيل فليمت غيظا فإنه نزل الوحي على قلبك بإذن الله و الهاء في قوله فإنه تعود إلى جبريل و الهاء في نزله تعود إلى القرآن و إن لم يجر له ذكر كما أن هاء في قوله تعالى: ما تَرَكَ عَلى‏ ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ تعود إلى الأرض و يجوز أن يكون على معنى جبرئيل و تقديره فإن الله نزل جبريل على قلبك لا أنه نزل بنفسه و الأول أصح و نصب مصدقا على الحال من الهاء في نزله و هو ضمير القرآن أو جبريل ع.

النزول‏

قال ابن عباس كان سبب نزول هذه الآية ما روي أن ابن صوريا و جماعة من يهود أهل فدك لما قدم النبي ص المدينة سألوه فقالوا يا محمد كيف نومك فقد أخبرنا عن نوم النبي الذي يأتي في آخر الزمان فقال تنام عيناي و قلبي يقظان قالوا صدقت يا محمد فأخبرنا عن الولد يكون من الرجل أو المرأة فقال أما العظام و العصب و العروق فمن الرجل و أما اللحم و الدم و الظفر و الشعر فمن المرأة قالوا صدقت يا محمد فما بال الولد يشبه أعمامه ليس فيه من شبه أخواله شي‏ء أو يشبه أخواله و ليس فيه من شبه أعمامه شي‏ء فقال أيهما علا ماؤه كان الشبه له قالوا صدقت يا محمد قالوا فأخبرنا عن ربك ما هو فأنزل الله سبحانه‏ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ إلى آخر السورة فقال له ابن صوريا خصلة واحدة إن قلتها آمنت بك و اتبعتك أي ملك يأتيك بما ينزل الله عليك قال فقال جبريل قال ذاك عدونا ينزل بالقتال و الشدة و الحرب و ميكائيل ينزل باليسر و الرخاء فلو كان ميكائيل هو الذي يأتيك لآمنا بك.

المعنى‏

فأنزل الله تعالى هذه الآية جوابا لليهود و ردا عليهم فقال‏ «قُلْ» لهم يا محمد «مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ» إذا كان هو المنزل للكتاب عليك‏ «فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى‏ قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ» لا من تلقاء نفسه و إنما أضافه إلى قلبه لأنه إذا أنزل عليه كان يحفظه و يفهمه بقلبه و معنى قوله‏ «بِإِذْنِ اللَّهِ» بأمر الله و قيل أراد بعلمه أو بإعلام الله إياه ما ينزل على قلبك و قوله‏ «مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ» معناه موافقا لما بين يديه من الكتب و مصدقا له بأنه حق و بأنه من عند الله لا مكذبا لها «وَ هُدىً وَ بُشْرى‏ لِلْمُؤْمِنِينَ» معناه إن كان فيما أنزله الأمر بالحرب و الشدة على الكافرين فإنه هدى و بشرى للمؤمنين و إنما خص الهدى‏


325
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 99] ..... ص : 326

 

بالمؤمنين من حيث كانوا هم المهتدين به العاملين بما فيه و إن كان هدى لغيرهم أيضا و قيل أراد بالهدى الرحمة و الثواب فلذلك خصه بالمؤمنين و معنى البشرى أن فيه البشارة لهم بالنعيم الدائم و إن جعلت مصدقا و هدى و بشرى حالا لجبريل فالمعنى أنه يصدق بكتب الله الأولى و يأتي بالهدى و البشرى و إنما قال سبحانه‏ «عَلى‏ قَلْبِكَ» و لم يقل على قلبي على العرف المألوف كما تقول لمن تخاطبه لا تقل للقوم أن الخبر عندك و يجوز أن تقول لا تقل لهم أن الخبر عندي و كما تقول قال القوم جبريل عدونا و يجوز أن تقول قالوا جبريل عدوهم و أما قوله تعالى: «مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ رُسُلِهِ» فمعناه من كان معاديا لله أي يفعل فعل المعادي من المخالفة و العصيان فإن حقيقة العداوة طلب الإضرار به و هذا يستحيل على الله تعالى و قيل المراد به معاداة أوليائه كقوله‏ إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ‏ و قوله‏ «وَ مَلائِكَتِهِ» أي و معاديا لملائكته‏ «وَ رُسُلِهِ وَ جِبْرِيلَ وَ مِيكالَ» و إنما أعاد ذكرهما لفضلهما و منزلتهما كقوله تعالى‏ «فِيهِما فاكِهَةٌ وَ نَخْلٌ وَ رُمَّانٌ» و قيل إنما أعاد ذكرهما لأن اليهود قالت جبريل عدونا و ميكائيل ولينا فخصهما الله بالذكر لأن النزاع جرى فيهما فكان ذكرهما أهم و لئلا تزعم اليهود أنهما مخصوصان من جملة الملائكة و ليسا بداخلين في جملتهم فنص الله تعالى عليهما ليبطل ما يتأولونه من التخصيص ثم قال‏ «فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ» و لم يقل فإنه و كرر اسم الله لئلا يظن أن الكناية راجعة إلى جبرائيل أو ميكائيل و لم يقل لهم لأنه قد يجوز أن ينتقلوا عن العداوة بالإيمان و قد طعن بعض الملحدة في هذا فقال كيف يجوز أن يقول عاقل أنا عدو جبريل و ليس هذا القول من اليهود بمستنكر و لا عجب مع ما أخبر الله تعالى عن قولهم بعد مشاهدتهم فلق البحر و الآيات الخارقة للعادة اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ و قولهم‏ أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً و عبادتهم العجل و غير ذلك من جهالاتهم.

[سورة البقرة (2): آية 99]

وَ لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَ ما يَكْفُرُ بِها إِلاَّ الْفاسِقُونَ (99)

اللغة

الآية العلامة التي فيها عبرة و قيل العلامة التي فيها الحجة و البينة الدلالة الفاصلة الواضحة بين القضية الصادقة و الكاذبة مأخوذة من إبانة أحد الشيئين من الآخر ليزول التباسه به.

 

 

 

326
مجمع البيان في تفسير القرآن1

الإعراب ..... ص : 327

الإعراب‏

قد تدخل في الكلام لأحد أمرين أحدهما لقوم يتوقعون الخبر و الآخر لتقريب الماضي من الحال تقول خرجت و قد ركب الأمير و هي هنا مع لام القسم على تقدير قوم يتوقعون الخبر لأن الكلام إذا خرج ذلك المخرج كان أوكد و أبلغ.

النزول‏

قال ابن عباس إن ابن صوريا قال لرسول الله ص يا محمد ما جئتنا بشي‏ء نعرفه و ما أنزل الله عليك من آية بينة فنتبعك لها فأنزل الله هذه الآية.

المعنى‏

يقول‏ «وَ لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ» يا محمد «آياتٍ» يعني سائر المعجزات التي أعطيها النبي ص عن البلخي و قيل هي القرآن و ما فيها من الدلالات عن أبي مسلم و أبي علي و قيل هي علم التوراة و الإنجيل و الأخبار عما غمض مما في كتب الله السالفة عن الأصم كقوله تعالى‏ يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ‏ «بَيِّناتٍ» أي واضحات تفصل بين الحق و الباطل‏ «وَ ما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ» و معناه الكافرون و إنما سمي الكفر فسقا لأن الفسق خروج من شي‏ء إلى شي‏ء و اليهود خرجوا من دينهم و هو دين موسى بتكذيب النبي ص و إنما لم يقل الكافرون و إن كان الكفر أعظم من الفسق لأحد أمرين (أحدهما) أن المراد أنهم خرجوا عن أمر الله إلى ما يعظم من معاصيه و الثاني أن المراد به أنهم الفاسقون المتمردون في كفرهم لأن الفسق لا يكون إلا أعظم الكبائر فإن كان في الكفر فهو أعظم الكفر و إن كان فيما دون الكفر فهو أعظم المعاصي.

[سورة البقرة (2): آية 100]

أَ وَ كُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (100)

اللغة

النبذ طرحك الشي‏ء عن يدك أمامك أو خلفك و المنابذة انتباذ الفريقين للحرب و نابذناهم الحرب و المنبوذون هم الأولاد الذين يطرحون و المنابذة في البيع منهي عنها و هو كالرمي كأنه إذا رمى به وجب البيع له و سمي النبيذ نبيذا لأن التمر كان يلقى في الجرة و غيرها و قيل معنى نبذه تركه و قيل ألقاه قال أبو الأسود الدؤلي:

نظرت إلى عنوانه فنبذته‏

كنبذك نعلا أخلقت من نعالكا

 

.


327
مجمع البيان في تفسير القرآن1

الإعراب ..... ص : 328

الإعراب‏

الواو في قوله‏ «أَ وَ كُلَّما» عند سيبويه و أكثر النحويين واو العطف إلا أن ألف الاستفهام دخلت عليها لأن لها صدر الكلام و هي أم حروف الاستفهام بدلالة أن هذه الواو تدخل على هل تقول و هل زيد عالم لأن الألف أقوى منها و قال بعضهم يحتمل أن تكون زائدة كزيادة الفاء في قولك أ فالله ليفعلن و الأول أصح لأنه لا يحكم على الحرف بالزيادة مع وجود معنى من غير ضرورة و نصب كلما على الظرف و العامل فيه نبذه و لا يجوز أن يعمل فيه عاهدوا لأنه متمم لما إما صلة و إما صفة.

المعنى‏

أخبر الله سبحانه عن اليهود أيضا فقال‏ «أَ وَ كُلَّما عاهَدُوا» الله‏ «عَهْداً» أراد به العهد الذي أخذه الأنبياء عليهم أن يؤمنوا بالنبي الأمي عن ابن عباس و كلما لفظ يقتضي التكرر فيقتضي تكرر النقض منهم و قال عطاء هي العهود التي كانت بين رسول الله ص و بين اليهود فنقضوها كفعل قريظة و النضير عاهدوا أن لا يعينوا عليه أحدا فنقضوا ذلك و أعانوا عليه قريشا يوم الخندق‏ «نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ» أي نقضه جماعة منهم‏ «بَلْ أَكْثَرُهُمْ» أي أكثر المعاهدين‏ «لا يُؤْمِنُونَ» و لا تعود الهاء و الميم إلى فريق إذ كانوا كلهم غير مؤمنين فأما المعاهدون فمنهم من آمن كعبد الله بن سلام و كعب الأحبار و غيرهما فأما وجه دخول بل على قوله‏ «بَلْ أَكْثَرُهُمْ» فإنه لأمرين (أحدهما) أنه لما نبذه فريق منهم دل على أن ذلك الفريق كفر بالنقض فقال بل أكثرهم كفار بالنقض الذي فعلوه و إن كان بعضهم نقضه جهلا و بعضهم نقضه عنادا و الثاني أنه أراد كفر فريق منهم بالنقض و كفر أكثرهم بالجحد للحق و هو أمر النبي ص و ما يلزم من اتباعه و التصديق به.

[سورة البقرة (2): آية 101]

وَ لَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101)

الإعراب‏

لما في موضع نصب بأنه ظرف و يقع به الشي‏ء بوقوع غيره و العامل فيه نبذ و مصدق رفع لأنه صفة لرسول لأنهما نكرتان و لو نصب لكان جائزا لأن رسول قد وصف بقوله‏ «مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» فلذلك يحسن نصبه على الحال إلا أنه لا يجوز في القراءة إلا


328
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 329

الرفع لأن القراءة سنة متبعة و موضع ما جر باللام و مع صلة لها و الناصب لمع معنى الاستقرار و المعنى لما استقر معهم.

المعنى‏

«وَ لَمَّا جاءَهُمْ» أي و لما جاء اليهود الذين كانوا في عصر النبي ص‏ «رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» يعني محمدا ص عن أكثر المفسرين و قيل أراد بالرسول الرسالة كما قال كثير:

فقد كذب الواشون ما بحت عندهم‏

بليلى و ما أرسلتهم برسول‏

 

قال علي بن عيسى و هذا ضعيف لأنه خلاف الظاهر قليل في الاستعمال و قوله‏ «مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ» يحتمل أمرين (أحدهما) أنه مصدق لكتبهم من التوراة و الإنجيل لأنه جاء على الصفة التي تقدمت بها البشارة (و الثاني) أنه مصدق للتوراة بأنها حق من عند الله لأن الأخبار هاهنا إنما هو عن اليهود دون النصارى و الأول أحسن لأن فيه حجة عليهم و قوله‏ «نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ» أي ترك و ألقى طائفة منهم و إنما قال‏ «مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ» و لم يقل منهم و قد تقدم ذكرهم لأنه يريد به علماء اليهود فأعاد ذكرهم لاختلاف المعنى و قيل أنه لم يكن عنهم للبيان لما طال الكلام و قوله‏ «كِتابَ اللَّهِ» يحتمل أن يريد به التوراة و يحتمل أن يريد به القرآن و قوله‏ «وَراءَ ظُهُورِهِمْ» كناية عن تركهم العمل به قال الشعبي هو بين أيديهم يقرءونه و لكن نبذوا العمل به و قال سفيان بن عيينة أدرجوه في الحرير و الديباج و حلوه بالذهب و الفضة و لم يحلوا حلاله و لم يحرموا حرامه فذلك النبذ هذا إذا حمل الكتاب على التوراة و قال أبو مسلم لما جاءهم الرسول بهذا الكتاب فلم يقبلوه صاروا نابذين للكتاب الأول أيضا الذي فيه البشارة به و قال السدي نبذوا التوراة و أخذوا بكتاب آصف و سحر هاروت و ماروت يعني أنهم تركوا ما تدل عليه التوراة من صفة النبي ص و قال قتادة و جماعة من أهل العلم أن ذلك الفريق كانوا معاندين و إنما ذكر فريقا منهم لأن الجمع العظيم و الجم الغفير و العدد الكثير لا يجوز عليهم كتمان ما علموه مع اختلاف الهمم و تشتت الآراء و تباعد الأهواء لأنه خلاف المألوف من العادات إلا إذا كانوا عددا يجوز على مثلهم التواطؤ على الكتمان و قوله‏ «كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ» أي لا يعلمون أنه صدق و حق و المراد أنهم علموا و كتموا بغيا و عنادا و قيل المراد كأنهم لا يعلمون ما عليهم في ذلك من العقاب و قيل المراد كأنهم لا يعلمون ما في كتابهم أي حلوا محل الجاهل بالكتاب.


329
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 102] ..... ص : 330

[سورة البقرة (2): آية 102]

وَ اتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى‏ مُلْكِ سُلَيْمانَ وَ ما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَ لكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَ ما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَ مارُوتَ وَ ما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَ زَوْجِهِ وَ ما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَ يَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَ لا يَنْفَعُهُمْ وَ لَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَ لَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (102)

القراءة

قرأ ابن عامر و حمزة و الكسائي و لكن الشياطين كفروا و لكن الله قتلهم و لكن الله رمى بتخفيف النون من لكن و رفع الاسم بعدها و الباقون بالتشديد و روي في الشواذ على الملكين بكسر اللام عن ابن عباس و الحسن.

الحجة

قال أبو علي اعلم أن لكن لا نعلم شيئا على مثاله في الأسماء و لا في الأفعال و هي مثل إن في أنها مثقلة ثم تخفف إلا أن إن و أن إذا خففتا فقد ينصب بهما كما كان ينصب بهما مثقلتين و إن كان غير الأعمال أكثر و لم نعلم أن أحدا حكى النصب في لكن إذا خففت فيشبه إن و النصب لم يجي‏ء في هذا الحرف مخففا ليكون ذلك دلالة على أن الأصل في هذه الحروف أن لا تعمل إذا خففت لزوال اللفظ الذي به شابه الفعل في التخفيف و لكن و إن لم يشابه الفعل فإن فيه ما يشبه الفعل إذا فصلته كقولهم أراك منتفخا أريد أن تفخ مثل كتف فقدر منفصلا ثم خفف كذلك يقدر في لكن الانفصال فيشبه ليت و إن.


330
مجمع البيان في تفسير القرآن1

اللغة ..... ص : 331

اللغة

أتبعه أقتدي به و تتلو معناه تتبع لأن التالي تابع و قيل معناه تقرأ من تلوت كتاب الله أي قرأته قال الله تعالى هنالك تتلوا كل نفس ما أسلفت أي تتبع و قال حسان بن ثابت:

نبي يرى ما لا يرى الناس حوله‏

و يتلو كتاب الله في كل مشهد

 

و السحر و الكهانة و الحيلة نظائر يقال سحره يسحره سحرا و قال صاحب العين السحر عمل يقرب إلى الشياطين و من السحر الأخذة التي تأخذ العين حتى يظن أن الأمر كما ترى و ليس الأمر كما ترى و الجمع الأخذ فالسحر عمل خفي لخفاء سببه يصور الشي‏ء بخلاف صورته و يقلبه عن جنسه في الظاهر و لا يقلبه عن جنسه في الحقيقة أ لا ترى إلى قوله سبحانه و تعالى‏ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى‏ و السحر الغذاء قال امرؤ القيس:

أرانا موضعين لحتم غيب‏

و نسحر بالطعام و بالشراب‏

 

و السحر أيضا الرئة يقال للجبان انتفخ سحره و الفتنة و الامتحان و الاختبار نظائر يقال فتنته فتنة و أفتنه قال أعشى همدان فجاء باللغتين:

لقد فتنتني و هي بالأمس أفتنت‏

سعيدا فأمسى قد قلا كل مسلم‏

 

و فتنت الذهب في النار إذا اختبرته فيها لتعلم أ خالص هو أم مشوب فقيل لكل ما أحميته في النار فتنة و فتنت الخبزة في النار أنضجتها و منه قوله‏ يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ‏ أي يشوون و تعلم قد تكون بمعنى اعلم كما قيل علمت و أعلمت بمعنى و كذلك فهمت و أ فهمت قال كعب بن زهير:

تعلم رسول الله أنك مدركي‏

و أن وعيدا منك كالأخذ باليد

 

و قيل إن بينهما فرقا فمعنى تعلم تسبب إلى ما به تعلم من النظر في الأدلة و ليس في اعلم هذا المعنى فقد يقال ذلك لما يعلم بلا تأمل كقولك اعلم أن الفعل يدل على الفاعل و أن ما لم يسبق المحدث محدث و تقول في الأول تعلم النحو و الفقه و المرء تأنيثه المرأة و يقال مرة بلا ألف و الضرر و الألم و الأذى نظائر و الضر نقيض النفع يقال ضره يضره ضرا و أضر به إضرارا و اضطره إليه اضطرارا قال صاحب العين الضر و الضر لغتان فإذا ضممت إليه النفع فتحت الضاد و الضرير الذاهب البصر من الناس يقال رجل ضرير بين الضرارة


331
مجمع البيان في تفسير القرآن1

الإعراب ..... ص : 332

و

في الحديث‏ لا ضرر و لا ضرار

و ضريرا الوادي جانباه و كل شي‏ء دنا منك حتى يزحمك فقد أضر بك و أصل الباب الانتقاص و الأذن في اللغة على ثلاثة أقسام (أحدها) بمعنى العلم كقوله‏ فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ‏ أي فاعلموا و قال الحطيئة:

ألا يا هند إن جددت وصلا

و إلا فأذنيني بانصرام‏

 

و (الثاني) بمعنى الإباحة و الإطلاق كقوله تعالى‏ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَ‏ و الثالث بمعنى الأمر كقوله‏ نَزَّلَهُ عَلى‏ قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ‏ و النفع و المنفعة و اللذة نظائر و حد النفع هو كل ما يكون به الحيوان ملتذا أما لأنه لذة أو يؤدي إلى لذة و حد الضرر كل ما يكون به الحيوان ألما أما لأنه ألم أو يؤدي إلى ألم و الخلاق النصيب من الخير قال أمية بن أبي الصلت:

يدعون بالويل فيها لا خلاق لهم‏

إلا سرابيل من قطر و أغلال‏

 

. الإعراب‏

قوله‏ «ما تَتْلُوا» فيه وجهان أحدهما أن تكون تتلوا بمعنى تلت و إنما جاز ذلك لما عام من اتصال الكلام بعهد سليمان فيمن قال إن المراد على عهد ملك سليمان أو في زمن ملك سليمان أو بملك سليمان فيمن لم يقدر حذف المضاف فدل ذلك على إن مثال المضارع أريد به الماضي قال سيبويه قد تقع يفعل في موضع فعل كقول الشاعر:

و لقد أمر على اللئيم يسبني‏

فمضيت ثمة قلت لا يعنيني‏

 

و الوجه الآخر أن يكون يفعل على بابه لا يريد به فعل و لكنه حكاية حاول و إن كان ماضيا كقوله‏ وَ إِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ‏ فيسومونكم حكاية للحال في الوقت الذي كانت فيه و إن كان آل فرعون منقرضين في وقت هذا الخطاب و من هذا ما أنشده ابن الأعرابي:

جارية في رمضان الماضي‏

تقطع الحديث بالإيماض‏

 

و قوله‏ «وَ ما أُنْزِلَ» ذكر في ما ثلاثة أقوال (أحدها) أنه بمعنى الذي و أنزل صلته و موضعه نصب بكونه معطوفا على السحر و قيل أنه معطوف على قوله‏ «ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ» و (ثانيها) أنه بمعنى أيضا و موضعه جر و يكون معطوفا بالواو على ملك سليمان و (ثالثها) أنه بمعنى الجحد و النفي و تقديره و ما كفر سليمان و لم ينزل الله السحر على الملكين و بابل اسم بلد لا ينصرف للتعريف و التأنيث و قوله‏ فَيَتَعَلَّمُونَ» لا


332
مجمع البيان في تفسير القرآن1

الإعراب ..... ص : 332

يخلو من أحد أمرين إما أن يكون الفعل معطوفا بالفاء على فعل قبله أو يكون خبر مبتدأ محذوف و الفعل الذي قبله لا يخلو إما أن يكون كفروا من قوله‏ «وَ لكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا» فيجوز أن يكون فيتعلمون معطوفا عليه لأن كفروا في موضع رفع بكونه خبر لكن فعطف عليه بالمرفوع و هو قول سيبويه فأما يعلمون فيجوز أن تكون في موضع نصب على الحال من كفروا أي كفروا في حال تعليمهم و يجوز أن يكون بدلا من كفروا لأن تعليم الشياطين كفر في المعنى و إذا كان كذلك جاز البدل فيه إذا كان إياه في المعنى كما كان مضاعفة العذاب لما كان لقي الآثام في قوله‏ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ‏ جاز إبداله منه و إما أن يكون الفعل الذي عطف عليه يتعلمون قوله‏ «يُعَلِّمُونَ» و هو قول الفراء و أنكر الزجاج هذا القول قال لأن قوله‏ «مِنْهُما» دليل على التعلم من الملكين خاصة قال أبو علي فهذا يدخل على قول سيبويه أيضا كما يدخل على قول الفراء لأنهما جميعا قالا بعطفه على فعل الشياطين قال و هذا الاعتراض ساقط من جهتين إحداهما أن التعلم و إن كان من الملكين خاصة فلا يمتنع أن يكون قوله‏ «فَيَتَعَلَّمُونَ» عطف على كفروا و على يعلمون و إن كان متعلقا بهما و كان الضمير في منهما راجعا إلى الملكين فإن قلت كيف يجوز هذا و هل يسوغ أن يقدر هذا التقدير و يلزمك أن يكون النظم و لكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر فيتعلمون منهما فتضمر الملكين قبل ذكرهما و الإضمار قبل الذكر غير جائز و إن لزمك في هذا القول الإضمار قبل الذكر و كان ذلك غير جائز لزم أن لا تجيز العطف على واحد من الفعلين اللذين هما كفروا و يعلمون بل تعطفه على فعل مذكور بعد ذكر الملكين كما ذهب إليه أبو إسحاق الزجاج فإنه عطف على ما يوجبه معنى الكلام عند قوله‏ «فَلا تَكْفُرْ» أي فيأبون فيتعلمون أو على يعلمان من قوله‏ «ما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ» لأنهما فعلان مذكوران بعد الملكين فالجواب أما النظم فإنه على ما ذكرته و هو صحيح و أما الإضمار قبل الذكر فإن منهما في قوله‏ «فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما» إذا كان ضميرا عائدا إلى الملكين فإن إضمارهما بعد تقدم ذكرهما و ذلك سائغ و نظيره قوله تعالى‏ وَ إِذِ ابْتَلى‏ إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ‏ لما تقدم ذكره أضمر اسمه و لو قال ابتلى ربه إبراهيم لم يجز لكونه إضمار قبل الذكر و هذا بين جدا فالاعتراض بذلك على سيبويه و الفراء ساقط و أما الجهة الأخرى التي يسقط منها ذلك فهي أنه قد قيل في قوله تعالى‏ «وَ ما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ» ثلاثة أقوال يأتي شرحها في المعنى قولان منها تعلم السحر فيهما من الملكين و قول منها تعلمه من الشياطين فيكون نظم الكلام على هذا و لكن الشياطين هاروت و ماروت كفروا يعلمون الناس السحر فيتعلمون منهما «وَ ما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ» أي لم ينزل‏ «وَ ما


333
مجمع البيان في تفسير القرآن1

الإعراب ..... ص : 332

يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ» أي و ما يعلم هاروت و ماروت من أحد فمنهما على هذا القول لا يرجع إلى الملكين إنما يرجع إلى هاروت و ماروت اللذين هما الشياطين في المعنى فأما حمل الكلام على التثنية و الشياطين جمع فسائغ يجوز أن يحمل على المعنى فيجمع و على لفظ هاروت و ماروت فيثنى و نظيره قوله‏ وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا ثم قال‏ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى‏ و يجوز أن يكون يتعلمون معطوفا على يعلمان من قوله‏ «وَ ما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ» فيكون الضمير الذي في يتعلمون لأحد إلا أنه جمعه لما حمل على المعنى كقوله تعالى‏ فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ‏ فأما جواز عطفه على ما ذكره الزجاج من قوله و قيل إن يتعلمون عطف على ما يوجبه معنى الكلام لأن المعنى إنما نحن فتنة فلا تكفر فيأبون فيتعلمون و هذا قول حسن فهو قول الفراء قال أبو علي و هو عندي جائز لأنه من المضمر الذي فهم للدلالة عليه و أما كونه خبرا للمبتدأ المحذوف فعلى أن تقديره فهم يتعلمون منهما و ذلك غير ممتنع و قد قيل في قوله منهما أن الضمير عائد إلى السحر و الكفر قاله أبو مسلم قال لأنه تقدم الدليل عليها في قوله‏ «كَفَرُوا» و هذا كقوله سبحانه‏ سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى‏ وَ يَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى‏ أي يتجنب الذكرى و قوله‏ «وَ لَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ» قال الزجاج دخول اللام على قد على جهة القسم و التوكيد و قال النحويون في قوله‏ «لَمَنِ اشْتَراهُ» قولين جعل بعضهم من بمعنى الشرط و جعل الجواب‏ «ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ» و هذا ليس بموضع شرط و جزاء و لكن المعنى و لقد علموا الذي اشتراه ما له في الآخرة من خلاق كما تقول و الله لقد علمت للذي جاءك ما له من عقل انتهى كلام الزجاج و أقول فموضع من رفع بالابتداء و موضع‏ «ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ» رفع على أنه خبر المبتدأ و هذا قول سيبويه فاللام في قوله‏ «لَمَنِ اشْتَراهُ» لام الابتداء دون القسم لأن هذه اللام قد تكون تأكيدا لغير القسم و اللام مع الجملة التي بعدها في موضع نصب بعلموا كما أن الاستفهام كذلك في نحو علمت أ زيد في الدار أم عمرو و هذا هو المسمى تعليقا قال أبو علي قول من قال إن من جزاء بعيد لأنه إذا كان جزاء فاللام في لمن اشتراه سبب دخوله القسم كالتي في قوله‏ وَ لَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ‏ وَ لَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَ‏ فيقتضي ذلك قسما و القسم الذي يقتضيه قوله‏ «لَمَنِ اشْتَراهُ» إذا حملت من على أنه جزاء لا يخلو من أن يكون علموا لأن العلم و الظن قد يقامان مقام القسم كما في قوله:

و لقد علمت لتأتين منيتي‏

إن المنايا لا تطيش سهامها

 

و قوله‏ وَ ظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ‏ أو يكون مضمرا بين قوله‏ «عَلِمُوا» و قوله‏ «لَمَنِ اشْتَراهُ»


334
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 335

و يبعد أن يكون علموا قسما و قوله‏ «لَمَنِ اشْتَراهُ» جوابه هنا لأنه في هذا الموضع محلوف عليه مقسم و المقسم عليه لا يكون قسما لأنه يلزم من هذا أن يدخل قسم على قسم لأن في أول الكلام قسما و هو المضمر الجالب للأم في لقد فهذا هو القسم الأول و الثاني هو الذي يدخل عليه هذا القسم الأول المضمر و هو قد علموا إذا أجبته باللام فيمن جعله ابتداء و بالنفي فيمن جعل من جزاء و دخول القسم على القسم يبعد عند سيبويه و لا يسوغ فمن أجل هذا بعد عنده أن يكون علموا هنا بمنزلة القسم و أن يجاب بجوابه فقال سيبويه و الخليل لا يقوى أن تقول و حقك و حق زيد لأفعلن و الواو الثاني واو قسم لا يجوز إلا مستكرها لأنه لا يجوز هذا في محلوف عليه إلا أن يضم الآخر إلى الأول و يحلف بهما على المحلوف عليه و لهذا جعل هو و الخليل الحرف في قوله‏ وَ اللَّيْلِ إِذا يَغْشى‏ وَ النَّهارِ إِذا تَجَلَّى وَ ما خَلَقَ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى‏ للعطف دون القسم فلهذا حمل اللام في لمن اشتراه على أنها لام ابتداء دون قسم و ليست كاللام الأخرى في أنها تقتضي قسما لا محالة في نحو قولهم لعمرك لأفعلن كذا فلا يلزم على تأوله دخول قسم على قسم و يبعد أيضا أن يكون القسم مضمرا بين قوله‏ «وَ لَقَدْ عَلِمُوا» و بين‏ «لَمَنِ اشْتَراهُ» لأن علموا يقتضي مفعوليه و إذا وقع قسم بينه و بين مفعوليه لم يجب و كان لغوا كما أنه في نحو قولك زيد و الله منطلق و إن تأتني و الله أتيتك لغو لا جواب له و لأنه لو أجيب للزم اعتماد علمت عليه فصار القسم في موضع نصب لوقوعه موقع مفعولي علمت و ذلك يمتنع لأنك لو جعلته في موضع مفعوليه لأخرجته عما وضع له لأنه إذا وضع ليؤكد به غيره فلو جعلته في موضع المفعولين لأخرجته عن أن يكون تأكيدا لغيره و لجعلته قائما بنفسه و لو جاز أن يكون في موضع مفعولي علمت لجاز أن يوصل به و يوصف به النكرة و هذا ممتنع فمعلوم إذا أن القسم بعد علمت لا يلزم أن يكون له جواب فإضمار القسم بعد علموا غير جائز لأنه ليس يجوز إلا أن يكون له جواب يدل عليه إذا حذف كما يدل ليفعلن و نحوه من الجواب على القسم و المحذوف فإذا لم يجز أن يكون له جواب لم يجز حذفه و إرادته فقد بعد أيضا أن يكون القسم مضمرا بعد علمت فلما كان علموا مقسما عليه في هذا الموضع فإذا جعلت من بغير معنى الذي لزمك أن يكون علمت قسما و يكون قوله‏ «ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ» و جوابه و كان دخول القسم على القسم غير سائغ عند سيبويه و حمل اللام في لمن على أنه لام الابتداء و من بمعنى الذي لئلا يلزم ما لا يستحسنه و لا يستجيزه من دخول قسم على قسم فمذهب سيبويه في هذا هو البين.

المعنى‏

ثم عطف سبحانه على ما تقدم من أنه نبذ فريق من اليهود كتاب الله‏


335
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 335

الذي في أيديهم وراء ظهورهم فقال‏ «وَ اتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ» و اختلف في المعنى بقوله‏ «وَ اتَّبَعُوا» على ثلاثة أقوال (أحدها) أنهم اليهود الذين كانوا على عهد النبي ص عن الربيع و ابن إسحاق و السدي (و ثانيها) أنهم اليهود الذين كانوا في زمن سليمان عن ابن عباس و ابن جريج (و ثالثها) أن المراد به الجميع لأن متبعي السحر لم يزالوا منذ عهد سليمان إلى أن بعث محمد ص و روي عن الربيع أن اليهود سألوا محمدا ص زمانا عن التوراة لا يسألونه عن شي‏ء من ذلك إلا أنزل الله عليه ما سألوا عنه فيخصمهم فلما رأوا ذلك قالوا هذا أعلم بما أنزل علينا منا و أنهم سألوه عن السحر و خاصموه به فأنزل الله تعالى‏ «وَ اتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ» الآية أي اقتدوا بما كانت تتلو الشياطين أي تتبع و تعمل به عن ابن عباس و قيل معناه تقرأ عن عطا و قتادة و قيل معناه تكذب عن أبي مسلم يقال تلا عليه إذا كذب قال سبحانه و تعالى‏ وَ يَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ‏ أَ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ‏ فإذا صدق قيل تلا عنه و إذا أبهم جاز الأمران و اختلف في قوله‏ «الشَّياطِينُ» فقيل هم شياطين الجن لأنه المستفاد من إطلاق هذه اللفظة و قيل هم شياطين الإنس المتمردون في الضلالة كما قال جرير:

أيام يدعونني الشيطان من غزلي‏

و كن يهوينني إذ كنت شيطانا

 

و قيل هم شياطين الجن و الإنس و قوله‏ «عَلى‏ مُلْكِ سُلَيْمانَ» قيل معناه في ملك سليمان كقول أبي النجم:

(فهي على الأفق كعين الأحول)

 

أي في الأفق ثم إن هذا يحتمل معنيين (أحدهما) في عهد ملك سليمان (و الثاني) في نفس ملك سليمان كما يقال فلان يطعن في ملك فلان و في نفس فلان و قيل معناه على عهد ملك سليمان و قال أبو مسلم معناه ما كانت تكذب الشياطين على ملك سليمان و على ما أنزل على الملكين و أما قوله‏ «وَ ما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَ لكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ» بين بهذا أن ما كانت تتلوه الشياطين و تأثره و ترويه كان كفرا إذ برأ سليمان (ع) منه و لم يبين سبحانه بقوله‏ «ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى‏ مُلْكِ سُلَيْمانَ» أنها أي شي‏ء كانت تتلو الشياطين ثم لم يبين بقوله سبحانه‏ «وَ ما كَفَرَ سُلَيْمانُ» أن ذلك الكفر أي نوع من أنواع الكفر حتى قال‏ «وَ لكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ» فبين سبحانه أن ذلك الكفر كان من نوع السحر فإن اليهود أضافوا إلى سليمان السحر و زعموا أن ملكه كان به فبرأه الله منه و هو قول ابن عباس و ابن جبير و قتادة و اختلف في السبب الذي لأجله أضافت اليهود السحر إلى سليمان (ع) فقيل إن سليمان كان قد جمع كتب السحرة و وضعها في خزانته و قيل كتمها تحت كرسيه لئلا


336
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 335

يطلع عليها الناس و لا يعلموا بها فلما مات سليمان استخرجت السحرة تلك الكتب و قالوا إنما تم ملك سليمان بالسحر و به سخر الإنس و الجن و الطير و زينوا السحر في أعين الناس بالنسبة إلى سليمان (ع) و شاع ذلك في اليهود و قبلوه لعداوتهم لسليمان عن السدي و

روي العياشي بإسناده عن أبي بصير عن أبي جعفر (ع) قال‏ لما هلك سليمان وضع إبليس السحر ثم كتبه في كتاب و اطواه و كتب على ظهره هذا ما وضع آصف بن برخيا من ملك سليمان بن داود من ذخائر كنوز العلم من أراد كذا و كذا فليقل كذا و كذا ثم دفنه تحت السرير ثم استثاره لهم فقال الكافرون ما كان يغلبنا سليمان إلا بهذا و قال المؤمنون هو عبد الله و نبيه فقال الله في كتابه‏ «وَ اتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ» الآية

و في قوله‏ «وَ لكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا» ثلاثة أقوال (أحدها) أنهم كفروا بما استخرجوه من السحر و (ثانيها) أنهم كفروا بما نسبوا إلى سليمان من السحر (و ثالثها) أنهم سحروا فعبر عن السحر بالكفر و في قوله‏ «يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ» قولان (أحدهما) أنهم ألقوا السحر إليهم فتعلموه (و الثاني) أنهم دلوهم على استخراجه من تحت الكرسي فتعلموه و قوله‏ «وَ ما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَ مارُوتَ» فيه وجوه.

(أحدها) أن المراد أن الشياطين يعلمون الناس السحر و الذي أنزل على الملكين و إنما أنزل على الملكين وصف السحر و ماهيته و كيفية الاحتيال فيه ليعرفا ذلك و يعرفاه الناس فيجتنبوه غير أن الشياطين لما عرفوه استعملوه و إن كان المؤمنون إذا عرفوه اجتنبوه و انتفعوا بالاطلاع على كيفيته (و ثانيها) أن يكون المراد على ما ذكرناه قبل من أن معناه و اتبعوا ما كذبت به الشياطين على ملك سليمان و على ما أنزل على الملكين أي معهما و على ألسنتهما كما قال سبحانه‏ ما وَعَدْتَنا عَلى‏ رُسُلِكَ‏ أي معهم و على ألسنتهم (و ثالثها) أن يكون ما بمعنى النفي و المراد و ما كفر سليمان و لا أنزل الله السحر على الملكين و لكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل هاروت و ماروت و يكون قوله ببابل هاروت و ماروت من المؤخر الذي معناه التقديم و يكون في هذا التأويل هاروت و ماروت رجلين من جملة الناس و يكون الملكان اللذان نفى عنهما السحر جبرئيل و ميكائيل (ع) لأن سحرة اليهود فيما ذكر كانت تدعي أن الله عز و جل أنزل السحر على لسان جبرائيل و ميكائيل على سليمان فأكذبهم الله في ذلك و يجوز أن يكون هاروت و ماروت يرجعان إلى الشياطين كأنه قال و لكن الشياطين هاروت و ماروت كفروا و يسوغ ذلك كما ساغ في قوله‏ وَ كُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ‏ يعني لحكم داود و سليمان و يكون على هذا قوله‏ «وَ ما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ» راجعا إلى هاروت و ماروت و معنى قولهما إنما نحن فتنة


337
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 335

«فَلا تَكْفُرْ» يكون علي طريق الاستهزاء و التماجن لا على سبيل النصيحة و التحذير و يجوز على هذا التأويل أيضا الذي يتضمن النفي و الجحد أن يكون هاروت و ماروت اسمين للملكين و نفى عنهما إنزال السحر و يكون قوله‏ «وَ ما يُعَلِّمانِ» راجعا إلى قبيلتين من الجن و الإنس أو إلى شياطين الجن و الإنس فيحسن التثنية لهذا و روي هذا التأويل في حمل ما على النفي عن ابن عباس و غيره من المفسرين و حكي عنه أيضا أنه كان يقرأ على الملكين بكسر اللام و يقول متى كان العلجان ملكين إنما كانا ملكين و على هذه القراءة لا ينكر أن يرجع قوله‏ «وَ ما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ» إليهما و يمكن على هذه القراءة في الآية وجه آخر و إن لم يحمل قوله‏ «وَ ما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ» على الجحد و النفي و هو أن يكون هؤلاء الذين أخبر عنهم اتبعوا ما تتلوه الشياطين و تدعيه على ملك سليمان و اتبعوا ما أنزل على الملكين من السحر و لا يكون الإنزال مضافا إلى الله تعالى و إن أطلق لأنه جل و عز لا ينزل السحر بل يكون أنزله إليهما بعض الضلال و يكون معنى أنزل و إن كان من الأرض حمل إليهما لا من السماء أنه أتي به من نجود البلاد و أعاليها فإن من هبط من النجد إلى الغور يقال نزل و اختلف في بابل فقيل هي بابل العراق لأنه تبلبلت بها الألسن عن ابن مسعود و قيل هي بابل دماوند عن السدي و قيل هي نصيبين إلى رأس العين و هاروت و ماروت قيل هما رجلان على ما تقدم بيانه و قيل هما ملكان من الملائكة أهبطهما الله إلى الأرض على صورة الإنس لئلا ينفر الناس منهما إذا كانا على صورة الملائكة و اختلف في سبب هبوطهما فقيل إن الله أهبطهما ليأمرا بالدين و ينهيا عن السحر و يفرقا بينه و بين المعجز لأن السحر كان كثيرا في ذلك الوقت ثم اختلف في ذلك فقال قوم كانا يعلمان الناس كيفية السحر و ينهيان عن فعله ليكون النهي بعد العلم فإن من لا يعرف الشي‏ء لا يمكنه اجتنابه و قال آخرون لم يكن لهما تعليم السحر لما في ذلك من الإغراء بفعله و إنما اهبطا لمجرد النهي إذ كان السحر فاشيا و قيل أيضا في سبب هبوطهما

إن الملائكة تعجبت من معاصي بني آدم مع كثرة نعم الله عليهم فقال طائفة منهم يا ربنا أ ما تغضب مما يعمل خلقك في أرضك و مما يفترون عليك من الكذب و الزور و يرتكبونه من المعاصي و قد نهيتهم عنها و هم في قبضتك و تحت قدرتك فأحب الله سبحانه أن يعرفهم ما من به عليهم من عجيب‏


338
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 335

خلقهم و ما طبعهم عليه من الطاعة و عصمهم به من الذنوب فقال لهم اندبوا منكم ملكين حتى أهبطهما إلى الأرض و اجعل فيهما من طبائع المطعم و المشرب و الشهوة و الحرص و الأمل مثل ما جعلت في ولد آدم ثم اختبرهما في الطاعة لي قال فندبوا لذلك هاروت و ماروت و كانا من أشد الملائكة قولا في العيب لولد آدم و استجرار عتب الله عليهم قال فأوحى الله إليهما أن اهبطا إلى الأرض فقد جعلت فيكما من طبائع المطعم و المشرب و الشهوة و الحرص و الأمل مثل ما جعلت في ولد آدم و أنظر أن لا تشركا بي شيئا و لا تقتلا النفس التي حرم الله قتلها و لا تزنيا و لا تشربا الخمر ثم أهبطهما إلى الأرض على صورة البشر و لباسهم فرفع لهما بناء مشرف فأقبلا نحوه فإذا امرأة جميلة حسناء أقبلت نحوهما فوقعت في قلوبهما موقعا شديدا ثم إنهما ذكرا ما نهيا عنه من الزنا فمضيا ثم حركتهما الشهوة فرجعا إليها فراوداها عن نفسها فقالت إن لي دينا أدين به و لست أقدر في ديني على أن أجيبكما إلى ما تريدان إلا أن تدخلا في ديني فقالا و ما دينك فقالت لي إله من عبده و سجد له كان لي السبيل إلى أن أجيبه إلى كل ما سألني قالا و ما إلهك قالت هذا الصنم قال فائتمرا بينهما فغلبتهما الشهوة التي جعلت فيهما فقالا لها نجيبك إلى ما سألت قالت فدونكما فاشربا الخمر فإنه قربان لكما عنده و به تصلان إلى ما تريدان فقالا هذه ثلاث خصال قد نهانا ربنا عنها الشرك و الزنا و شرب الخمر فائتموا بينهما ثم قالا لها ما أعظم البلية بك قد أجبناك قال فشربا الخمر و سجدا للصنم ثم راوداها عن نفسها فلما تهيأت لهما دخل عليهما سائل يسأل فلما رأياه فزعا منه فقال لهما إنكما لمريبان قد خلوتما بهذه المرأة الحسناء إنكما لرجلا سوء و خرج عنهما فقالت لهما بادرا إلى هذا الرجل فاقتلاه قبل أن يفضحكما و يفضحني ثم دونكما فاقضيا حاجتكما و أنتما مطمئنان آمنان قال فقاما إلى الرجل فأدركاه فقتلاه ثم رجعا إليها فلم يرياها و بدت لهما سوآتهما و نزع عنهما رياشهما و سقط في أيديهما فأوحى الله تعالى إليهما إنما أهبطتكما إلى الأرض ساعة من نهار فعصيتماني بأربع معاص قد نهيتكما عنها و تقدمت إليكما فيها فلم تراقباني و لم تستحيا مني و قد كنتما أشد من ينقم على أهل الأرض من المعاصي فاختارا عذاب الدنيا أو عذاب الآخرة قال فاختارا عذاب الدنيا فكانا يعلمان الناس السحر بأرض بابل ثم لما علما الناس رفعا من الأرض إلى الهواء فهما معذبان منكسان معلقان في الهواء إلى يوم القيامة هذا الخبر رواه العياشي مرفوعا إلى أبي جعفر الباقر (ع)

و من قال بعصمة الملائكة (ع) لم يجز هذا الوجه و قوله‏ «وَ ما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ» يعني الملكين ما يعلمان أحدا و العرب تستعمل لفظة علم بمعنى أعلم أي لا يعرفان‏


339
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 335

صفات السحر و كيفيته حتى يقلا أي الأبعد أن يقولا إنما فتنة أي محنة لأن الفتنة بمعنى المحنة و الاختبار و الابتلاء و إنما كانا محنة من حيث ألقيا إلى المكلفين أمرا لينزجروا عنه و يمتنعوا من مواقعته و هم إذا عرفوه أمكن أن يستعملوه و يرتكبوه فقالا لمن يطلعانه على ذلك لا تكفر باستعماله و لا تعدل عن الغرض في إلقائه إليك فإنه إنما ألقي إليك لتجتنبه لا لتفعله و لا يكون على هذا التأويل تعلم السحر كفرا و معصية كما أن من عرف الزنا لم يأثم بأنه عرفه و إنما يأثم بالعمل و قيل إن المراد به نفي تعليمهما السحر و التقدير و لا يعلمان أحدا السحر فيقولان إنما نحن فتنة فعلى هذا يكون تعليم السحر من الشياطين و النهي عنه من الملكين و قوله‏ «فَلا تَكْفُرْ» يعني به أحد ثلاثة أشياء (أحدها) فلا تكفر بالعمل بالسحر (و الثاني) فلا تكفر بتعلم السحر و يكون مما امتحن الله عز و جل بالملكين الناس في ذلك الوقت و جعل المحنة في الكفر و الإيمان أن يقبل القابل تعلم السحر فيكون بتعلمه كافرا و بتركه التعلم مؤمنا لأن السحر كان قد كثر و هذا ممكن أن يمتحن الله به كما امتحن بالنهر في قوله‏ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي‏ (و الثالث) فلا نكفر بكليهما و قوله‏ «فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما» أي من هاروت و ماروت و قيل من السحر و الكفر و قيل أراد بدلا مما علماهم و يكون المعنى أنهم يعدلون عما علمهم الملكان من النهي عن السحر إلى فعله و استعماله كما يقال ليت لنا من كذا و كذا أي بدلا منه و كقول الشاعر:

جمعت من الخيرات و طبا و علبة

و صرا لإخلاف المزممة البزل‏

 

و من كل أخلاق الكرام نميمة

و سعيا على الجار المجاور بالمحل.

 

و قوله‏ «ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَ زَوْجِهِ» فيه وجوه (أحدها) أنهم يوجدون أحدهما على صاحبه و يبغضونه إليه فيؤدي ذلك إلى الفرقة عن قتادة (و ثانيها) أنه يغوون أحد الزوجين و يحملونه على الكفر و الشرك بالله تعالى فيكون بذلك قد فارق زوجة الآخر المؤمن المقيم على دينه فيفرق بينهما اختلاف النحلة و تباين الملة (و ثالثها) أنهم يسعون بين الزوجين بالنميمة و الوشاية حتى يؤول أمرهما إلى الفرقة و المباينة و قوله‏ «وَ ما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ» أي لا يلحقون بغيرهم ضررا إلا بعلم الله فيكون على وجه التهديد و قيل معناه إلا بتخلية الله عن الحسن قال من شاء الله منعه فلا يضره السحر و من شاء خلى بينه و بينه فيضره و قوله‏ «وَ يَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَ لا يَنْفَعُهُمْ» معناه يضرهم‏


340
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 335

في الآخرة و لا ينفعهم و إن كان ينفعهم في الدنيا لأنهم لما قصدوا بتعلمه أن يفعلوه و يرتكبوه لا أن يجتنبوه صار ذلك بسوء اختيارهم ضررا عليهم و قوله‏ «وَ لَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ» يعني اليهود الذين نبذوا كتاب وراء ظهورهم علموا لمن استبدل السحر بدين الله فالهاء في اشتراه كناية عن السحر عن قتادة و جماعة من المفسرين فما له في الآخرة من نصيب و قوله‏ «وَ لَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ» يعني بئس ما باعوا به حظ أنفسهم حيث اختاروا التكسب بالسحر و قوله‏ «لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ» بعد قوله‏ «وَ لَقَدْ عَلِمُوا» ذكر فيه وجوه (أحدها) أن يكون الذين علموا غير الذين لم يعلموا أو يكون الذين علموا الشياطين أو الذين خبر تعالى عنهم بأنهم نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم و الذين لم يعلموا هم الذين تعلموا السحر (و ثانيها) أن يكون الذين علموا هم الذين لم يعلموا إلا أنهم علموا شيئا و لم يعلموا غيره فكأنه تعالى وصفهم بأنهم عالمون بأنه لا نصيب لمن اشترى ذلك و رضيه لنفسه على الجملة و لم يعلموا كنه ما يصيرون إليه من العقاب الدائم (و ثالثها) أن تكون الفائدة في نفي العلم بعد إثباته أنهم لم يعملوا بما علموا فكأنهم لم يعلموا كما قال كعب بن زهير يصف ذئبا و غرابا تبعاه ليصيبا من زاده:

إذا حضراني قلت لو تعلمانه‏

أ لم تعلما أني من الزاد مرمل‏

 

فنفى عنهما العلم ثم أثبته و المعنى في نفيه العلم عنهما أنها لم يعملا بما علماه فكأنهما لم يعلماه و في هذه الآية دلالة على أن الأفعال تختلف باختلاف المقاصد و لذلك كان تعلم السحر لإزالة الشبهة و التحرز منه و اجتنابه إيمانا و لتصديقه و استعماله كفرا و اختلف في ماهية السحر على أقوال فقيل أنه ضرب من التخييل و صنعة من لطيف الصنائع و قد أمر الله تعالى بالتعوذ منه و جعل التحرز بكتابه وقاية منه و أنزل فيه سورة الفلق و هو قول الشيخ المفيد أبي عبد الله من أصحابنا و قيل أنه خدع و مخاريق و تمويهات لا حقيقة لها يخيل إلى المسحور أن لها حقيقة و قيل أنه يمكن الساحر أن يقلب الإنسان حمارا و يقلبه من صورة إلى صورة و ينشئ الحيوان على وجه الاختراع و هذا لا يجوز و من صدق به فهو لا يعرف النبوة و لا يأمن أن تكون معجزات الأنبياء من هذا النوع و لو أن الساحر و المعزم قدرا على نفع أو ضر و علما الغيب لقدرا على إزالة الممالك و استخراج الكنوز من معادنها و الغلبة على البلدان بقتل الملوك من غير أن ينالهم مكروه و ضرر فلما رأيناهم أسوء الناس حالا و أكثرهم مكيدة و احتيالا علمنا أنهم لا يقدرون على شي‏ء من‏


341
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 103] ..... ص : 342

ذلك فأما ما روي من الأخبار أن النبي ص سحر فكان يرى أنه فعل ما لم يفعله و أنه لم يفعله ما فعله فأخبار مفتعلة لا يلتفت إليها و قد قال الله سبحانه و تعالى حكاية عن الكفار إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً فلو كان للسحر عمل فيه لكان الكفار صادقين في مقالهم حاشا النبي ص من كل صفة نقص تنفر عن قبول قوله فإنه حجة الله على خليقته و صفوته على بريته.

[سورة البقرة (2): آية 103]

وَ لَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (103)

اللغة

المثوبة و الثواب و الأجر نظائر و نقيض المثوبة العقوبة يقال ثاب يثوب ثوبا و ثوابا و أثابه إثابة و مثوبة و ثوابا و الأصل في الثواب ما رجع إليك من شي‏ء يقال اعترت الرجل غشية ثم ثابت إليه نفسه و لذلك سمي الثواب ثوابا لأنه العائد إلى صاحبه مكافاة لما فعل و منه التثويب في الأذان و هو ترجيع الصوت يقال ثوب الداعي إذا كرر دعاءه إلى الحرب أو غيرها و يقال انهزم القوم ثم ثابوا أي رجعوا و الثوب مشتق من هذا أيضا لأنه ثاب لباسا بعد أن كان قطنا أو غزلا و المثابة الموضع يثوب إليه الناس و في الشواذ قرأ قتادة لمثوبة بسكون الثاء و فتح الواو و هي لغة كما قالوا مشورة و مشورة و أجمع العرب على قولهم هذا خير منه و هذا شر منه إلا بعض بني عامر فإنهم يقولون هذا أخير من ذا و أشر من ذا.

الإعراب‏

اللام في لمثوبة لام الابتداء و هي في موضع جواب لو لأنها تنبئ عن قولك لا تثيبوا و الضمير في أنهم عائد إلى الذين يتعلمون السحر.

المعنى‏

ثم قال سبحانه‏ «وَ لَوْ أَنَّهُمْ» يعني الذين يتعلمون السحر و يعملونه و قيل هم اليهود «آمَنُوا» أي صدقوا بمحمد ص و القرآن‏ «وَ اتَّقَوْا» السحر و الكفر و قيل جميع المعاصي‏ «لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ» أي لأثيبوا و ثواب الله خير «لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ» أي لو كانوا يستعملون ما يعلمونه و ليس أنهم كانوا يجهلون ذلك كما يقول الإنسان لصاحبه و هو يعظه ما أدعوك إليه خير لك لو كنت تعقل أو تنظر في العواقب و في قوله‏ «لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ» و هو خير علموا أو لم يعلموا وجهان (أحدهما) أن معناه لو كانوا يعلمون لظهر لهم بالعلم ذلك أي لعلموا أن ثواب الله خير من السحر (و الآخر) أن المعنى فيه الدلالة على جهلهم و ترغيبهم في أن يعلموا ذلك و أن يطلبوا ما هو خير لهم من السحر و هو ثواب الله الذي ينال بطاعاته و اتباع مرضاته و في هذه الآية دلالة على بطلان قول أصحاب‏


342
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 104] ..... ص : 343

المعارف لأنه نفى ذلك العلم عنهم.

 

مجمع البيان فى تفسير القرآن    ج‏1    343    

[سورة البقرة (2): آية 104]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَ قُولُوا انْظُرْنا وَ اسْمَعُوا وَ لِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (104)

اللغة

المراعاة التفقد للشي‏ء في نفسه أو أحواله و المراعاة و المحافظة و المراقبة نظائر و نقيض المراعاة الإغفال و رعى الله فلانا أي حفظه و رعيت له حقه و عهده فيمن خلف و أرعيته سمعي إذا أصغيت إليه و راعيته بعيني إذا لاحظته و جمع الراعي رعاء و رعاة و رعيان و كل من ولي قوما فهو راعيهم و هم رعيته و المرعي من الناس المسوس و الراعي السائس و استرعاه الله خلقه أي ولاه أمرهم ليرعاهم و الإرعاء الإبقاء على أخيك و الاسم الرعوى و الرعيا و راعني سمعك أي استمع و رجل ترعية للذي صنعته و صنعه آبائه الرعاية و قال الشاعر:

يسوسها ترعية حاف فضل‏

 

و أصل الباب الحفظ و نظرت الرجل أنظر نظرة بمعنى انتظرته و ارتقبته.

المعنى‏

لما قدم سبحانه نهي اليهود عن السحر عقبه بالنهي عن إطلاق هذه اللفظة فقال سبحانه‏ «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا» كان المسلمون يقولون يا رسول الله راعنا أي استمع منا فحرفت اليهود هذه اللفظة فقالوا يا محمد راعنا و هم يلحدون إلى الرعونة يريدون به النقيصة و الوقيعة فلما عوتبوا قالوا نقول كما يقول المسلمون فنهى الله عن ذلك بقوله‏ «لا تَقُولُوا راعِنا وَ قُولُوا انْظُرْنا» و قال قتادة إنها كلمة كانت تقولها اليهود على وجه الاستهزاء و قال عطا هي كلمة كانت الأنصار تقولها في الجاهلية فنهوا عنها في الإسلام و قال السدي كان ذلك كلام يهودي بعينه يقال له رفاعة بن زيد يريد بذلك الرعونة فنهي المسلمون عن ذلك و

قال الباقر (ع) هذه الكلمة سب بالعبرانية إليه كانوا يذهبون‏

و قيل كان معناه عندهم اسمع لا سمعت و روي عن الحسن أنه كان يقرأ راعنا بالتنوين و هو شاذ لا يؤخذ به و معنى‏ «انْظُرْنا» يحتمل وجوها (أحدها) انتظرنا نفهم و نتبين ما تعلمنا (و الآخر) فقهنا و بين لنا يا محمد (و الثالث) أقبل علينا و يجوز أن يكون معناه أنظر إلينا فحذف حرف الجر و قوله‏ «وَ اسْمَعُوا» يحتمل أمرين (أحدهما) أن معناه اقبلوا ما يأمركم به قوله سمع الله لمن حمده و سمع الله دعاءك أي قبله و (الثاني) أن معناه استمعوا ما يأتيكم به الرسول عن الحسن‏ «وَ لِلْكافِرِينَ» بمحمد و القرآن‏ «عَذابٌ أَلِيمٌ» أي موجع‏


343
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 105] ..... ص : 344

قال الحسن و الضحاك كل ما في القرآن‏ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فإنه نزل بالمدينة.

[سورة البقرة (2): آية 105]

ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَ لا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ اللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)

اللغة

المودة المحبة و الاختصاص بالشي‏ء هو الانفراد به و ضد الاختصاص الاشتراك و يقال خصه بالشي‏ء يخصه خصا إذا فضله به و الخصاص الفرج و الخص بيت من قصب أو شجر و إنما سمي خصا لأنه يرى ما فيه من خصاصة و كل خلل أو خرق يكون في السحاب أو المنخل فهو الخصاصة و أصل الباب الانفراد بالشي‏ء و منه يقال للفرج الخصائص لانفراد كل واحد عن الآخر من غير جمع بينها و يقال أخصصته بالفائدة و اختصصت أنا بها كما يقال أفردته بها و انفردت أنا بها.

الإعراب‏

«الَّذِينَ كَفَرُوا» في موضع رفع لأنه فاعل يود و المشركين في موضع جر بالعطف على أهل الكتاب و تقديره و لا من المشركين و قوله‏ «أَنْ يُنَزَّلَ» في موضع نصب لأنه مفعول يود و من في قوله‏ «مِنْ خَيْرٍ» زائدة مؤكدة كقولك ما جاءني من أحد و موضع من خير رفع و من في قوله‏ «مِنْ رَبِّكُمْ» لابتداء الغاية و التي في قوله‏ «مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ» للتنويع و التبيين مثل التي في قوله‏ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ‏.

المعنى‏

ثم أخبر سبحانه أيضا عن اليهود فقال‏ «ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَ لَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ» معناه ما يحب الكافرون من أهل الكتاب و لا من المشركين بالله من عبدة الأوثان أن ينزل الله عليكم شيئا من الخير الذي هو عنده و الخير الذي تمنوا أن لا ينزله الله عليهم ما أوحى إلى نبيه ص و أنزله عليه من القرآن و الشرائع بغيا منهم و حسدا «وَ اللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ» و

روي عن أمير المؤمنين (ع) و عن أبي جعفر الباقر (ع) أن المراد برحمته هنا النبوة

و به قال الحسن و أبو علي و الرماني و غيرهم من المفسرين قالوا يختص بالنبوة من يشاء من عباده‏ «وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ» هذا خبر منه سبحانه أن كل خير نال عباده في دينهم و دنياهم فإنه من‏


344
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 106] ..... ص : 345

عنده ابتداء منه إليهم و تفضلا عليهم من غير استحقاق منهم لذلك عليه فهو عظيم الفضل ذو المن و الطول.

[سورة البقرة (2): آية 106]

ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ (106)

القراءة

قرأ ابن عامر ما ننسخ بضم النون و كسر السين و الباقون بفتحها و قرأ ابن كثير و أبو عمرو ننساها بفتح النون و السين و إثبات الهمزة و الباقون بضم النون و كسر السين بلا همز.

الحجة

أما قراءة ابن عامر ننسخ فلا يخلو من أن يكون أفعل لغة في فعل نحو بدأ و أبدأ و حل من إحرامه و أحل أو تكون الهمزة للنقل نحو ضرب و أضربته و نسخ الكتاب و أنسخته الكتاب أو يكون المعنى في أنسخت الآية وجدتها منسوخة كقولهم أحمدت زيدا و أبخلته و الوجه الصحيح هو الأول و هو أن يكون نسخ و أنسخ لغتين متفقتين في المعنى و إن اختلفتا في اللفظ و قول من فتح النون أبين و أوضح و أما ننساها فهي من النسإ و هو التأخير يقال نسأت الإبل عن الحوض أنساها نسا إذا أخرتها عنه و انتسأت أنا أي تأخرت و منه قولهم أنسا الله أجلك و نسا في أجلك و أما القراءة الأخرى فمن النسيان الذي هو بمعنى السهو أو بمعنى الترك.

اللغة

النسخ في اللغة إبطال شي‏ء و إقامة آخر مقامه يقال نسخت الشمس الظل أي أذهبته و حلت محله و قال ابن دريد كل شي‏ء خلف شيئا فقد انتسخه و انتسخ الشيب الشباب و تناسخ الورثة أن تموت ورثة بعد ورثة و أصل الميراث قائم لم يقسم و كذلك تناسخ الأزمنة و القرون بعد القرون الماضية و أصل الباب الإبدال من الشي‏ء غيره و قال علي بن عيسى النسخ الرفع لشي‏ء قد كان يلزم العمل به إلى بدل منه كنسخ الشمس بالظل لأنه يصير بدلا منها في مكانها و هذا ليس بصحيح لأنه ينتقض بمن يلزمه الصلاة قائما فعجز عن القيام فإنه يسقط عنه القيام لعجزه و لا يسمى العجز ناسخا و لا القيام منسوخا و ينتقض‏


345
مجمع البيان في تفسير القرآن1

الإعراب ..... ص : 346

أيضا بمن يستبيح الشي‏ء بحكم العقل و ورد الشرع بخطره فإنه لا يقال إن الشرع نسخ حكم العقل و لا أن حكم العقل منسوخ و أولى ما يجد به النسخ أن يقال هو كل دليل شرعي دل على أن مثل الحكم الثابت بالنص الأول غير ثابت في المستقبل على وجه لولاه لكان ثابتا بالنص الأول مع تراخيه عنه و النسخ في القرآن على ضروب منها أن يرفع حكم الآية و تلاوتها كما روي عن أبي بكر أنه قال كنا نقرأ لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم و منها أن تثبت الآية في الخط و يرفع حكمها كقوله‏ وَ إِنْ فاتَكُمْ شَيْ‏ءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ‏ الآية فهذه ثابتة اللفظ في الخط مرتفعة الحكم و منها ما يرتفع اللفظ و يثبت الحكم كآية الرجم فقد قيل أنها كانت منزلة فرفع لفظها و قد جاءت أخبار كثيرة بأن أشياء كانت في القرآن فنسخ تلاوتها فمنها ما روي عن أبي موسى أنهم كانوا يقرءون لو أن لابن آدم واديين من مال لابتغى إليهما ثالثا و لا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب و يتوب الله على من تاب ثم رفع و عن أنس أن السبعين من الأنصار الذين قتلوا ببئر معونة قرأنا فيهم كتابا بلغوا عنا قومنا أنا لقينا ربنا فرضي عنا و أرضانا ثم إن ذلك رفع و قال أبو عبيدة معنى ننساها أي نمضيها فلا ننسخها قال طرفة:

أمون كالواح الأران نسأتها

على لا حب كأنه ظهر برجد

 

أي أمضيتها و قال غيره نسأت الإبل في ظمئها أنساها نسا إذا زدتها في ظمئها يوما أو يومين و ظمؤها منعها الماء و نسأت الماشية تنسأ نسا إذا سمنت و كل سمين ناسئ قال الزجاج و تأويله أن جلودها نسأت أي تأخرت عن عظامها و قال غيره إنما قيل ذلك لأنها تأخرت في المرعى حتى سمنت و يقال للعصا المنسأة لأنها ينسأ بها أي يؤخر ما يساق عن مكانه و يدفع بها الإنسان عن نفسه الأذى و نسأت ناقتي إذا دفعتها في السير و أصل الباب التأخير.

الإعراب‏

«ما نَنْسَخْ» ما اسم ناب مناب أن و هو في موضع نصب بننسخ و إنما لزمه التقديم و إن كان مفعولا و مرتبة المفعول أن يكون بعد الفاعل لنيابته عن حرف الشرط الذي له صدر الكلام و ننسخ مجزوم بالشرط و ننس جزم لأنه معطوف عليه و نأت مجزوم لأنه جزاء و من في قوله‏ «مِنْ آيَةٍ» للتبعيض و قيل هي مزيدة و لفظ أ لم هاهنا لفظ الاستفهام و معناه التقرير و تعلم مجزوم بلم لأن حرف الاستفهام لا يغير العامل عن عمله.

النظم‏

لما قال سبحانه في الآية الأولى‏ ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَ لَا


346
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 347

الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ‏ دل بهذه الآية على أنه سبحانه لا يخليهم من إنزال خير إليهم بخلاف ما تمناه أعداؤهم فيهم و أنه أبدا ينزل عليهم ما هو أصلح لهم عن علي بن عيسى و قيل إنه سبحانه لما عاب اليهود بأشياء و رد عليهم ما راموا به الطعن في أمر نبينا (ع) و كان مما طعنوا فيه أنه يقول بنسخ كل شريعة تقدمت شريعته فبين الله سبحانه جواز ذلك ردا عليهم عن أبي مسلم.

المعنى‏

«ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ» قد ذكرنا حقيقة النسخ عند المحققين و قيل معناه ما نرفع من آية أو حكم آية و قيل معناه ما نبدل من آية عن ابن عباس و من قرأ «أَوْ نُنْسِها» فمعناه على وجهين فإن لفظ النسي المنقول منه أنسى على ضربين (أحدهما) بمعنى النسيان الذي هو خلاف الذكر نحو قوله‏ وَ اذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ‏ (و الآخر) بمعنى الترك نحو قوله‏ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ‏ أي تركوا طاعة الله فترك رحمتهم أو ترك تخليصهم فالوجه الأول في الآية مروي عن قتادة و هو أن يكون محمولا على النسيان الذي هو مقابل الذكر و يجوز ذلك على الأمة بأن يؤمروا بترك قراءتها فينسونها على طول الأيام و لا يجوز ذلك على النبي ص لأنه يؤدي إلى التنفير كذا ذكره الشيخ أبو جعفر رحمه الله في تفسيره و قد جوز جماعة من المحققين ذلك على النبي ص قالوا أنه لا يؤدي إلى التنفير لتعلقه بالمصلحة و يجوز أيضا أن ينسيهم الله تعالى ذلك على الحقيقة و إن كانوا جمعا كثيرا و جما غفيرا بأن يفعل النسيان في قلوب الجميع و إن كان ذلك خارقا للعادة و يكون معجزا للنبي ص و استدل من حمل الآية على النسيان الذي هو خلاف الذكر و جوز كون النبي ص مرادا به بقوله سبحانه‏ سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى‏ إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ‏ أي إلا ما شاء الله أن تنساه قال و إلى هذا ذهب الحسن فقال إن نبيكم أقرئ القرآن ثم نسيه و أنكر الزجاج هذا القول فقال إن الله تعالى قد أنبأ النبي ص في قوله‏ وَ لَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ‏ لتفتري علينا غيره بأنه لا يشاء أن يذهب بما أوحي إلى النبي ص قال أبو علي الفارسي هذا الذي احتج به على من ذهب إلى أن ننسها من النسيان لا يدل على فساد ما ذهبوا إليه و ذلك أن قوله‏ وَ لَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ‏ إنما هو على ما لا يجوز عليه النسخ و التبديل من الأخبار و أقاصيص الأمم و نحو ذلك مما لا يجوز عليه التبديل و الذي ينساه النبي ص و هو ما يجوز أن ينسخ من الأوامر و النواهي الموقوفة على المصلحة و في الأوقات التي يكون ذلك فيها أصلح و يدل على أن ننسها من النسيان الذي هو خلاف الذكر قراءة من قرأ أو تنسها و هو قراءة سعد بن أبي وقاص و قراءة من قرأ أو ننسكها و هو المروي عن سالم مولى أبي حذيفة و قراءة من قرأ أو تنسها و هو المروي عن‏


347
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 347

سعد بن مالك فالمفعول المراد المحذوف في قراءة من قرأ «أَوْ نُنْسِها» مظهر في قراءة من قرأ ننسكها و يبينه ما روي عن الضحاك أنه قرأ ننسها و يؤكد ذلك أيضا ما روي من قراءة ابن مسعود ما ننسك من آية أو ننسخها و به قرأ الأعمش و روي عن مجاهد أنه قال قراءة أبي ما ننسخ من آية أو ننسك فهذا كله يثبت قراءة من جعل ننسها من النسيان و يؤكد ما روي عن قتادة أنه قال كانت الآية تنسخ بالآية و ينسي الله نبيه من ذلك شيئا و الوجه الثاني و هو أن المراد بالنسيان الترك في الآية مروي عن ابن عباس فعلى هذا يكون المراد بننسها نأمركم بتركها أي بترك العمل بها قال الزجاج إنما يقال في هذا نسيت إذا تركت و لا يقال فيه أنسيت تركت و إنما معنى‏ «أَوْ نُنْسِها» أو نتركها أي نأمركم بتركها قال أبو علي من فسر أنسيت بتركت لا يكون مخطئا لأنك إذا أنسيت فقد نسيت و من هذا قال علي بن عيسى إنما فسره المفسرون على ما يؤول إليه المعنى لأنه إذا أمر بتركها فقد تركها فإن قيل إذا كان نسخ الآية رفعها و تركها أن لا تنزل فما معنى ذلك و لم جمع بينهما قيل ليس معنى تركها ألا تنزل و قد غلط الزجاج في توهمه ذلك و إنما معناه إقرارها فلا ترفع كما قال ابن عباس نتركها فلا نبدلها و إضافة الترك إلى القديم سبحانه في نحو هذا اتساع كقوله تعالى‏ وَ تَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ‏ وَ تَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ‏ أي خليناهم و ذاك و أما من قرأ أو ننساها على معنى التأخير فقيل فيه وجوه (أحدها) أن معناه أو نؤخرها فلا ننزلها و ننزل بدلا منها مما يقوم مقامها في المصلحة أو يكون أصلح للعباد منها (و ثانيها) أن معناه نؤخرها إلى وقت ثان و نأتي بدلا منها في الوقت المتقدم بما يقوم مقامها (و ثالثها) أن يكون معنى التأخير أن ينزل القرآن فيعمل به و يتلى ثم يؤخر بعد ذلك بأن ينسخ فيرفع تلاوته البتة و يمحي فلا تنسأ و لا يعمل بتأويله مثل ما روي عن زر بن حبيش أن أبيا قال له كم تقرءون الأحزاب قال بضعا و سبعين آية قال قد قرأتها و نحن مع رسول الله ص أطول من سورة البقرة أورده أبو علي في كتاب الحجة (و رابعها) أن يؤخر العمل بالتأويل لأنه نسخ و يترك خطه مثبتا و تلاوته قرآن يتلى و هو ما حكي عن مجاهد يثبت خطها و يبدل حكمها و الوجهان الأولان عليهما الاعتماد لأن الوجهين الأخيرين يرجع معناهما إلى معنى النسخ فلا يحسن إذ يكون في التقدير محصولة ما ننسخ من آية أو ننسخها و هذا لا يصح على أن الوجه الأول أيضا فيه ضعف لأنه لا فائدة في تأخير ما لم يعرفه العباد و لا علموه و لا سمعوه فالأقوى هو الوجه الثاني و قوله‏ «نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها» فيه قولان (أحدهما) نأت بخير منها لكم في التسهيل و التيسير كالأمر بالقتال الذي سهل على المسلمين بقوله‏ الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ‏ أو مثلها في السهولة كالعبادة بالتوجه إلى‏


348
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 107] ..... ص : 349

الكعبة بعد أن كان إلى بيت المقدس عن ابن عباس (و الثاني) نأت بخير منها في الوقت الثاني أي هي لكم في الوقت الثاني خير لكم من الأولى في الوقت الأول في باب المصلحة أو مثلها في ذلك عن الحسن و قوله‏ «أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ» قيل هو خطاب للنبي ص و قيل هو خطاب لجميع المكلفين و المراد أ لم تعلم أيها السامع أو أيها الإنسان إن الله تعالى قادر على آيات و سور مثل القرآن ينسخ بها ما أمر فيقوم في النفع مقام المنسوخ و على القول الأول معناه أ لم تعلم يا محمد أنه سبحانه قادر على نصرك و الانتصار لك من أعدائك و قيل هو عام في كل شي‏ء و استدل من زعم أنه لا يجوز نسخ القرآن بالسنة المعلومة بهذه الآية قال أضاف الإتيان بخير منها إلى نفسه و السنة لا تضاف إليه حقيقة ثم قال بعد ذلك‏ «أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ» فلا بد من أن يكون أراد ما يختص سبحانه بالقدرة عليه من القرآن المعجز و الصحيح أن القرآن يجوز أن ينسخ بالسنة المقطوع عليها و معنى خير منها أي أصلح لنا منها في ديننا و أنفع لنا بأن نستحق به مزيد الثواب فأما إضافة ذلك إليه تعالى فصحيحة لأن السنة إنما هي بوحيه تعالى و أمره فإضافتها إليه كإضافة كلامه و آخر الآية إنما يدل على أنه قادر على أن ينسخ الآية بما هو أصلح و أنفع سواء كان ذلك بقرآن أو سنة و في هذه الآية دلالة على أن القرآن محدث و أنه غير الله تعالى لأن القديم لا يصح نسخه و لأنه أثبت له مثلا و الله سبحانه قادر عليه و ما كان داخلا تحت القدرة فهو فعل و الفعل لا يكون إلا محدثا.

[سورة البقرة (2): آية 107]

أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ (107)

اللغة

الولي هو القائم بالأمر و منه ولي عهد المسلمين و دون الله سوى الله قال أمية بن أبي الصلت:

يا نفس ما لك دون الله من واق‏

و ما على حدثان الدهر من باق‏

 

و النصير الناصر و هو المؤيد و المقوي.

الإعراب و المعنى‏

«أَ لَمْ تَعْلَمْ» استفهام تقرير و تثبيت و يؤول في المعنى إلى الإيجاب فكأنه يقول قد علمت حقيقة كما قال جرير:


349
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 108] ..... ص : 350

 

 

أ لستم خير من ركب المطايا

 

و أندى العالمين بطون راح‏

     

 

فلهذا خاطب به النبي ص و قيل إن الآية و إن كانت خطابا للنبي (ع) فالمراد به أمته كقوله‏ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ و مثله قول الكميت في مدح النبي (ع):

لج بتفضيلك اللسان و لو

 

أكثر فيك الضجاج و اللجب‏

     

 

و قيل أفرطت بل قصدت و لو

 

عنفني القائلون أو ثلبوا

     

 

أنت المصفى المهذب المحض‏

 

في النسبة إن نص قومك النسب‏

     

 

فأخرج كلامه مخرج الخطاب للنبي ص و أراد به أهل بيته لأن أحدا من المسلمين لا يعنف مادح النبي (ع) و لا يكثر الضجاج و اللجب في إطناب القول فيه فكأنه قال أ لم تعلم أيها الإنسان‏ «أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ» لأنه خلقهما و ما فيهما و قوله‏ «وَ ما لَكُمْ مِنْ» قال إن الآية خطاب للنبي ص قال أتي بضمير الجمع في الخطاب تفخيما لأمره و تعظيما لقدره و من قال هي خطاب له و للمؤمنين أو لهم خاصة فالمعنى أ لم تعلموا ما لكم أيها الناس‏ «مِنْ دُونِ اللَّهِ» أي سوى الله‏ «مِنْ وَلِيٍّ» يقوم بأمركم‏ «وَ لا نَصِيرٍ» ناصر ينصركم.

[سورة البقرة (2): آية 108]

أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى‏ مِنْ قَبْلُ وَ مَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (108)

اللغة

السؤال هو أن يطلب أمر ممن يعلم معنى الطلب و سواء بالمد على ثلاثة أوجه بمعنى قصد و عدل و بمعنى وسط في قوله‏ إِلى‏ سَواءِ الْجَحِيمِ‏ و بمعنى غير في قولك أتيت سواك أي غيرك و معنى ضل هاهنا ذهب عن الاستقامة قال الأخطل:

كنت القذى في موج أكدر مزبد

 

قذف الآتي به فضل ضلالا

     

 

.

 

 

 

350
مجمع البيان في تفسير القرآن1

الإعراب ..... ص : 351

الإعراب‏

أم هذه منقطعة فإن أم على ضربين متصلة و منقطعة فالمتصلة عديلة الألف و هي مفرقة لما جمعته أي كما أن أو مفرقة لما جمعه أحد تقول أضرب أيهم شئت زيدا أم عمرا أم بكرا كما تقول اضرب أحدهم زيدا أو عمرا أو بكرا و المنقطعة لا تكون إلا بعد كلام لأنها بمعنى بل و همزة الاستفهام كقول العرب أنها لإبل أم شاء كأنه قال بل أ هي شاء فقوله‏ «أَمْ تُرِيدُونَ» تقديره بل أ تريدون و مثله قول الأخطل:

كذبتك عينك أم رأيت بواسط

غلس الظلام من الرباب خيالا

 

«أَنْ تَسْئَلُوا» موصول و صلة في محل النصب لأنه مفعول تريدون كما أن الكاف حرف جر ما حرف موصول‏ «سُئِلَ مُوسى‏» جملة فعلية هي صلة ما و الموصول و الصلة في محل الجر بالكاف و الكاف متعلق بتسألوا و الجار و المجرور في محل النصب على المصدر و من قبل في محل النصب لأنه ظرف قوله‏ «سُئِلَ» و من اسم للشرط في محل الرفع بالابتداء و الفاء في قوله‏ «فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ» في محل الجزم لأنه جواب الشرط و معنى حرف الشرط الذي تضمنه من مع الجملتين في محل الرفع لأنه خبر المبتدأ.

النزول‏

اختلف في سبب نزول الآية فروي عن ابن عباس أنه قال إن رافع بن حرملة و وهب بن زيد قالا لرسول الله ص ائتنا بكتاب تنزله علينا من السماء نقرؤه و فجر لنا أنهارا نتبعك و نصدقك فأنزل الله هذه الآية و قال الحسن عنى بذلك مشركي العرب و قد سألوا فقالوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا إلى قوله‏ أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَ الْمَلائِكَةِ قَبِيلًا و قالوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى‏ رَبَّنا و قال السدي سألت العرب محمدا أن أتيهم بالله فيروه جهرة و قال مجاهد سألت قريش محمدا أن يجعل لهم الصفا ذهبا قال نعم و لكن يكون لكم كالمائدة لقوم عيسى (ع) فرجعوا و قال أبو علي الجبائي روي أن رسول الله ص سأله قوم أن يجعل لهم ذات أنواط كما كان للمشركين ذات أنواط و هي شجرة كانوا يعبدونها و يعلقون عليها الثمر و غيره من المأكولات كما سألوا موسى (ع) اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ.

المعنى‏

«أَمْ تُرِيدُونَ» أي بل أ تريدون‏ «أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ» يعني النبي محمدا «كَما سُئِلَ مُوسى‏» أي كما سأل قوم موسى موسى‏ «مِنْ قَبْلُ» من الاقتراحات أي ذهب يمينا و شمالا و السبيل و الطريق و المذهب نظائر و الجمع السبل.


351
مجمع البيان في تفسير القرآن1

النظم ..... ص : 352

و المحالات‏ «وَ مَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ» أي من استبدل الجحود بالله و بآياته بالتصديق بالله و الإقرار به و بآياته و اقترح المحالات على النبي ص و سأل عما لا يعنيه بعد وضوح الحق بالبراهين‏ «فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ» أي ذهب عن قصد الطريق و قيل عن طريق الاستقامة و قيل عن وسط الطريق لأن وسط الطريق خير من أطرافه.

النظم‏

وجه اتصال هذه الآية بما قبلها أنه لما دل الله تعالى بما تقدم على تدبيره لهم فيما يأتي به من الآيات و ما ينسخه و اختياره لهم ما هو الأصلح في كل حال قال أ ما ترضون بذلك و كيف تتخيرون محالات مع اختيار الله لكم ما يعلم فيه من المصلحة فإذا أتي بآية تقوم بها الحجة فليس لأحد الاعتراض عليها و لا اقتراح غيرها لأن ذلك بعد صحة البرهان بها يكون تعنتا.

[سورة البقرة (2): آية 109]

وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَ اصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ (109)

اللغة

الحسد إرادة زوال نعمة المحسود إليه أو كراهة النعمة التي هو فيها و إرادة أن تصير تلك النعمة بعينها له و قد يكون تمني زوال نعمة الغير حسدا و إن لم يطمع الحاسد في تحول تلك النعمة إليه و أشد الحسد التعرض للاغتمام بكون الخير لأحد و أما الغبطة فهي أن يراد مثل النعمة التي فيها الغير و إن لم يرد زوالها عنه و لا يكره كونها له فهذه غير مذموم و الحسد مذموم و يقال حسدته على الشي‏ء أحسده حسدا و حسدته الشي‏ء بمعنى واحد و منه قول الشاعر:

يحسد الناس الطعاما

 

و الصفح و العفو و التجاوز عن الذنب بمعنى و يقال لظاهر جلدة الإنسان صفحته و كذا هو من كل شي‏ء و منه صافحته أي لقت صفحة كفه صفحة كفي و قولهم صفحت عنه فيه قولان (أحدهما) أن معناه إني لم آخذه بذنبه و أبديت له مني صفحة جميلة و الآخر أنه لم ير مني ما يقبض صفحته و يقال صفحت الورقة أي تجاوزتها إلى غيرها و منه تصفحت الكتاب و قد يتصفح الكتاب من لا يحسن أن يقرأه.

الإعراب‏

من في قوله‏ «مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ» يتعلق بمحذوف تقديره فريق كائنون‏


352
مجمع البيان في تفسير القرآن1

النزول ..... ص : 353

من أهل الكتاب فيكون صفة لكثير من بعد في محل النصب على الظرف و العامل فيه يرد و كفارا مفعول ثان ليرد و مفعوله الأول كم من يردونكم و فيه انتصاب قوله‏ «حَسَداً» وجهان (أحدهما) أن الجملة التي قبله تدل على الفعل الذي هو مصدره و تقديره حسدوكم حسدا كما يقال فلان يتمنى لك الشر حسدا فكأنه قال يحسدك حسدا و الآخر أن يكون مفعولا له فكأنه قال يردونكم كفارا لأجل الحسد كما تقول جئته خوفا منه و قوله‏ «مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ» يتعلق بقوله‏ «وَدَّ كَثِيرٌ» لا بقوله‏ «حَسَداً» لأن حسد الإنسان لا يكون من غير نفسه قال الزجاج و قال غيره يجوز أن يتعلق بقوله‏ «حَسَداً» على التوكيد كقوله عز و جل‏ وَ لا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ‏ و يحتمل وجها آخر و هو أن يكون اليهود قد أضافوا الكفر و المعاصي إلى الله تعالى فقال سبحانه تكذيبا لهم إن ذلك‏ «مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ» و قوله‏ «ما تَبَيَّنَ» ما حرف موصول و تبين لهم الحق صلته و الموصول و الصلة في محل الجر بإضافة بعد إليه‏ «حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ» يأتي منصوب بإضمار أن و هما في محل الجر بحتى و الجار و المجرور مفعول فاعفوا و اصفحوا.

النزول‏

نزلت الآية في حيي بن أخطب و أخيه أبي ياسر بن أخطب و قد دخلا على النبي ص حين قدم المدينة فلما خرجا قيل لحيي أ هو نبي قال هو هو فقيل فما له عندك قال العداوة إلى الموت و هو الذي نقض العهد و أثار الحرب يوم الأحزاب عن ابن عباس و قيل نزلت في كعب بن الأشرف عن الزهري و قيل في جماعة اليهود عن الحسن.

المعنى‏

ثم أخبر الله سبحانه عن سرائر اليهود فقال‏ «وَدَّ» أي تمنى‏ «كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ» كحيي بن أخطب و كعب بن الأشرف و أمثالهما «لَوْ يَرُدُّونَكُمْ» يا معشر المؤمنين أي يرجعونكم‏ «مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً» منهم لكم بما أعد الله لكم من الثواب و الخير و إنما قال‏ «كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ» لأنه إنما آمن منهم القليل كعبد الله بن سلام و كعب الأحبار و قيل إنما حسد اليهود المسلمين على وضع النبوة فيهم و ذهابها عنهم و زوال الرياسة إليهم و قوله‏ «مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ» قد بينا ما فيه في الإعراب و قوله‏ «مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ» أي بعد ما تبين لهم أن محمدا رسول الله و الإسلام دين الله عن ابن عباس و قتادة و السدي و قوله‏ «فَاعْفُوا وَ اصْفَحُوا» أي تجاوزوا عنهم و قيل أرسلوهم فإنهم‏


353
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 110] ..... ص : 354

لا يفوتون الله و لا يعجزونه و إنما أمرهم بالعفو و الصفح و إن كانوا مضطهدين مقهورين من حيث أن كثيرا من المسلمين كانوا عزيزين في عشائرهم و أقوامهم يقدرون على الانتقام من الكفار فأمرهم الله بالعفو و إن كانوا قادرين على الانتصاف‏ «حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ» أي بأمره لكم بعقابهم أو يعاقبهم هو على ذلك ثم أتاهم بأمره فقال‏ قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ‏ الآية عن أبي علي و قيل بأمره أي بآية القتل و السبي لبني قريظة و الجلاء لبني النضير عن ابن عباس و قيل بأمره بالقتال عن قتادة فإنه قال هذه الآية منسوخة بقوله‏ قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ لا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ الآية و به قال الربيع و السدي و قيل نسخت بقوله‏ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ‏ و

روي عن الباقر (ع) أنه قال‏ لم يؤمر رسول الله ص بقتال و لا أذن له فيه حتى نزل جبرائيل (ع) بهذه الآية أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا و قلده سيفا

و قوله‏ «إِنَّ اللَّهَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ» فيه ثلاثة أقوال. (أحدها) أنه قدير على عقابهم إذ هو على كل شي‏ء قدير عن أبي علي (و ثانيها) أنه قدير على أن يدعو إلى دينه بما أحب مما هو الأليق بالحكمة فيأمر بالصفح تارة و بالعقاب أخرى على حسب المصلحة عن الزجاج (و ثالثها) أنه لما أمر بالإمهال و التأخير في قوله‏ «فَاعْفُوا وَ اصْفَحُوا» قال إن الله قادر على عقوبتهم بأن يأمركم بقتالهم و يعاقبهم في الآخرة بنفسه.

[سورة البقرة (2): آية 110]

وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ وَ ما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110)

الإعراب‏

ما اسم للشرط في موضع رفع بالابتداء و تقدموا شرط «مِنْ خَيْرٍ» من مزيدة و الجار و المجرور مفعول تقدموا و تجدوه مجزوم لأنه جزاء و علامة الجزم في الشرط و الجزاء سقوط النون و معنى حرف الشرط الذي تضمنه ما مع الشرط و الجزاء في محل الرفع لأنه خبر المبتدأ و ما في قوله‏ «بِما تَعْمَلُونَ» اسم موصول أو حرف موصول و الموصول و الصلة في موضع جر بالباء و الباء متعلق ببصير الذي هو خبر إن.

المعنى‏

لما أمر الله سبحانه المؤمنين بالصفح عن الكفار و التجاوز علم أنه يشق عليهم ذلك مع شدة عداوة اليهود و غيرهم لهم فأمرهم بالاستعانة على ذلك بالصلاة و الزكاة فإن في ذلك معونة لهم على الصبر مع ما يحوزون بهما من الثواب و الأجر كما قال في‏


354
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 111] ..... ص : 355

موضع آخر وَ اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلاةِ و قوله‏ «وَ ما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ» أي من طاعة و إحسان و عمل صالح‏ «تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ» أي تجدوا ثوابه معدا لكم عند الله و قيل معناه تجدوه مكتوبا محفوظا عند الله ليجازيكم به و في هذه الآية دلالة على أن ثواب الخيرات و الطاعات لا يضيع و لا يبطل و لا يحبط لأنه إذا أحبط لا تجدونه و قوله‏ «إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» أي لا يخفى عليه شي‏ء من أعمالكم سيجازيكم على الإحسان بما تستحقونه من الثواب و على الإساءة بما تستحقونه من العقاب فاعملوا عمل من يستيقن أنه يجازيه على ذلك من لا يخفى عليه شي‏ء من عمله و في هذا دلالة على الوعد و الوعيد و الأمر و الزجر و إن كان خبرا عن غير ذلك في اللفظ.

[سورة البقرة (2): آية 111]

وَ قالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى‏ تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (111)

اللغة

في هود ثلاثة أقوال (أحدها) أنه جمع هائد كعائذ و عوذ و عائط و عوط و هو جمع للمذكر و المؤنث على لفظ واحد و الهائد التائب الراجع إلى الحق (و ثانيها) أن يكون مصدرا يصلح للواحد و الجمع كما يقال رجل فطر و قوم فطر و رجل صوم و قوم صوم (و ثالثها) أن يكون معناه إلا من كان يهودا فحذفت الياء الزائدة و البرهان و الحجة و الدلالة و البيان بمعنى واحد و هو ما أمكن الاستدلال به على ما هو دلالة عليه مع قصد فاعله إلى ذلك و فرق علي بن عيسى بين الدلالة و البرهان بأن قال الدلالة قد تنبئ عن معنى فقط لا يشهد بمعنى آخر و قد تنبئ عن معنى يشهد بمعنى آخر و البرهان ليس كذلك لأنه بيان عن معنى ينبئ عن معنى آخر و قد نوزع في هذا الفرق و قيل أنه محض الدعوى.

الإعراب‏

قالوا جملة فعلية و الجنة ظرف مكان ليدخل و إلا هاهنا لنقض النفي و من موصول و هو مع صلته مرفوع الموضع بأنه فاعل يدخل و لن يدخل مع ما بعده معمول قالوا و إن حرف شرط و جوابه محذوف و تقديره إن كنتم صادقين فهاتوا برهانكم.

المعنى‏

ثم حكى سبحانه نبذا من أقوال اليهود و دعاويهم الباطلة فقال‏ «وَ قالُوا


355
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 112] ..... ص : 356

 

لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى‏» و هذا على الإيجاز و تقديره قالت اليهود لن يدخل الجنة إلا من كان يهوديا و قالت النصارى لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانيا و وحد كان لأن لفظة من قد تكون للواحد و قد تكون للجماعة و إنما قلنا أن الكلام مقدر هذا التقدير لأن من المعلوم أن اليهود لا يشهدون للنصارى بالجنة و لا النصارى لليهود فعلمنا أنه أدرج الخبر عنهما للإيجاز من غير إخلال بشي‏ء من المعنى فإن شهرة الحال تغني عن البيان الذي ذكرناه و مثله قول حسان بن ثابت:

أ من يهجو رسول الله منكم‏

 

و يمدحه و ينصره سواء

     

 

تقديره و من يمدحه و ينصره غير أنه لما كان اللفظ واحدا جمع مع الأول و صار كأنه إخبار عن جماعة واحدة و إنما حقيقته عن بعضين متفرقين و قوله‏ «تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ» أي تلك المقالة أماني كاذبة يتمنونها على الله عن قتادة و الربيع و قيل أمانيهم أباطيلهم بلغة قريش عن المؤرج و قيل معناه تلك أقاويلهم و تلاوتهم من قولهم تمنى أي تلا و قد يجوز في العربية أمانيهم بالتخفيف و التثقيل أجود «قُلْ» يا محمد «هاتُوا» أي أحضروا و ليس بأمر بل هو تعجيز و إنكار بمعنى إذا لم يمكنكم الإتيان ببرهان يصحح مقالتكم فاعلموا أنه باطل فاسد «بُرْهانَكُمْ» أي حجتكم عن الحسن و مجاهد و السدي‏ «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» في قولكم‏ «لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى‏» و في هذه الآية دلالة على فساد التقليد أ لا ترى أنه لو جاز التقليد لما أمروا بأن يأتوا فيما قالوه ببرهان و فيها أيضا دلالة على جواز المحاجة في الدين.

[سورة البقرة (2): آية 112]

بَلى‏ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَ هُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (112)

اللغة

أسلم يستعمل في شيئين (أحدهما) أسلمه إلى كذا أي صرفه إليه تقول أسلمت الثوب إليه (و الثاني) أسلم له بمعنى أخلص له و منه قوله‏ وَ رَجُلًا سَلَماً لِرَجُلٍ‏ أي خالصا و قال زيد بن عمرو بن نفيل:

أسلمت وجهي لمن أسلمت‏

 

له الأرض تحمل صخرا ثقالا

     

 

 

 

 

356
مجمع البيان في تفسير القرآن1

الإعراب ..... ص : 357

 

و أسلمت وجهي لمن أسلمت‏

له المزن تحمل عذبا زلالا

 

و يروى و أسلمت نفسي و الوجه مستقبل كل شي‏ء و وجه الإنسان محياه و يقال وجه الكلام تشبيها بوجه الإنسان لأنه أول ما يبدو منه و يعرف به و يقال هذا وجه الرأي أي الذي يبدو منه و يعرف به و الوجه من كل شي‏ء أول ما يبدو فيظهر بظهوره ما بعده و قد استعملت العرب لفظة وجه الشي‏ء و هم يريدون نفسه إلا أنهم ذكروه باللفظ الأشرف الأنبه و دلوا عليه به كما قال سبحانه‏ كُلُّ شَيْ‏ءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ‏ أي إلا هو وَ يَبْقى‏ وَجْهُ رَبِّكَ‏ أي ربك و قال الأعشى:

و أول الحكم على وجهه‏

ليس قضائي بالهوى الجائر

 

أي على ما هو به من الصواب و قال ذو الرمة:

فطاوعت همي و انجلى وجه نازل‏

من الأمر لم يترك خلاجا نزولها

 

يريد و انجلى النازل من الأمر.

الإعراب‏

بلى يدخل في جواب الاستفهام مثل قوله‏ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى‏ و يصلح أن يكون تقديره هنا أ ما يدخل الجنة أحد فقيل‏ «بَلى‏ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ» لأن ما تقدم يقتضي هذا السؤال و يصلح أن يكون جوابا للجحد على التكذيب كقولك ما قام زيد فيقول بلى قد قام و يكون التقدير هنا ليس الأمر كما قال الزاعمون‏ لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى‏ و لكن‏ «مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَ هُوَ مُحْسِنٌ» فهو يدخلها و من أسلم يجوز أن يكون من موصولا و يجوز أن يكون للشرط فيكون أسلم أما صلة له و أما مجزوم الموضع بكونه شرطا أو يكون من مبتدإ و الفاء في قوله‏ «فَلَهُ أَجْرُهُ» للجزاء و اللام تتعلق بمحذوف في محل الرفع لأنه خبر لقوله‏ أَجْرُهُ‏ و المبتدأ مع خبره في محل الرفع لوقوعه بعد الفاء و الفاء مع ما دخل فيه في محل الجزم و معنى حرف الشرط الذي تضمنه من مع الشرط و الجزاء في محل الرفع بأنه خبر المبتدأ و إن كان من موصولا فمن مع أسلم مبتدأ و الفاء مع الجملة بعده خبره و عند ربه ظرف مكان في موضع النصب على الحال تقديره كائنا عند ربه و العامل فيه المحذوف الذي تعلق به اللام و ذو الحال الضمير المستكن فيه و قوله‏ «وَ هُوَ مُحْسِنٌ» في موضع نصب على الحال و إنما قال‏ «فَلَهُ أَجْرُهُ» على التوحيد ثم قال‏ «وَ لا خَوْفٌ» عليهم لأن من مفرد اللفظ مجموع المعنى فيحمل على اللفظ مرة و على المعنى أخرى.

المعنى‏

ثم رد الله سبحانه عليهم مقالتهم فقال‏ «بَلى‏ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ» قيل‏


357
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 113] ..... ص : 358

معناه من أخلص نفسه لله بأن سلك طريق مرضاته عن ابن عباس و قيل وجه وجهه لطاعة الله و قيل فوض أمره إلى الله و قيل استسلم لأمر الله و خضع و تواضع لله لأن أصل الإسلام الخضوع و الانقياد و إنما خص الوجه لأنه إذا جاد بوجهه في السجود لم يبخل بسائر جوارحه‏ «وَ هُوَ مُحْسِنٌ» في عمله و قيل و هو مؤمن و قيل مخلص‏ «فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ» معناه فله جزاء عمله عند الله‏ «وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ» في الآخرة و هذا ظاهر على قول من يقول أنه لا يكون على أهل الجنة خوف و لا حزن في الآخرة و أما على قول من قال أن بعضهم يخاف ثم يأمن فمعناه أنهم لا يخافون فوت جزاء أعمالهم لأنهم يكونون على ثقة بأن ذلك لا يفوتهم.

[سورة البقرة (2): آية 113]

وَ قالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى‏ عَلى‏ شَيْ‏ءٍ وَ قالَتِ النَّصارى‏ لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى‏ شَيْ‏ءٍ وَ هُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113)

اللغة

القيامة مصدر إلا أنه صار كالعلم على وقت بعينه و هو الوقت الذي يبعث الله عز و جل فيه الخلق فيقومون من قبورهم إلى محشرهم تقول قام يقوم قياما و قيامة مثل عاد يعود عيادا و عيادة.

الإعراب‏

«وَ هُمْ يَتْلُونَ» جملة من مبتدإ و خبر منصوبة الموضع على الحال و العامل قالت و ذو الحال اليهود و النصارى و الكاف في كذلك يتعلق بيتلون أو بقال الذين و تقديره و هم يتلون الكتاب كتلاوتكم أو قال الذين لا يعلمون و هم المشركون كقول اليهود و النصارى و مثل صفة مصدر محذوف تقديره قولا مثل قولهم.

النزول‏

قال ابن عباس أنه لما قدم وفد نجران من النصارى على رسول الله ص أتتهم أحبار اليهود فتنازعوا عند رسول الله ص فقال رافع بن حرملة ما أنتم على شي‏ء و جحد نبوة عيسى و كفر بالإنجيل فقال رجل من أهل نجران ليست اليهود على شي‏ء و جحد نبوة موسى و كفر بالتوراة فأنزل الله هذه الآية.


358
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 359

المعنى‏

ثم بين سبحانه ما بين أهل الكتاب من الاختلاف مع تلاوة الكتاب فقال‏ «وَ قالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى‏ عَلى‏ شَيْ‏ءٍ» في تدينهم بالنصرانية «وَ قالَتِ النَّصارى‏ لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى‏ شَيْ‏ءٍ» في تدينهم باليهودية «وَ هُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ» أي يقرءونه و ذكر فيه وجهان (أحدهما) أن فيه حل الشبهة بأنه ليس في تلاوة الكتاب معتبر في الإنكار لما لم يؤت على إنكاره ببرهان فلا ينبغي أن يدخل الشبهة بإنكار أهل الكتاب لملة الإسلام إذ كل فريق من أهل الكتاب قد أنكر ما عليه الآخر ثم بين أن سبيلهم كسبيل من لا يعلم الكتاب من مشركي العرب و غيرهم ممن لا كتاب لهم في الإنكار لدين الإسلام (و الوجه الآخر) الذم لمن أنكر ذلك من أهل الكتاب على جهة العناد إذ قد ساوى المعاند منهم للحي الجاهل به في الدفع له فلم ينفعه علمه و قوله‏ «كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ» معناه أن مشركي العرب الذين هم جهال و ليس لهم كتاب هكذا قالوا لمحمد و أصحابه أنهم ليسوا على شي‏ء من الدين مثل ما قالت اليهود و النصارى بعضهم لبعض عن السدي و مقاتل و قيل معناه أن مشركي العرب قالوا بأن جميع الأنبياء و أممهم لم يكونوا على شي‏ء و كانوا على خطإ فقد ساووكم يا معشر اليهود في الإنكار و هم لا يعلمون و قيل أن هؤلاء الذين لا يعلمون أمم كانت قبل اليهود و النصارى و قبل التوراة و الإنجيل كقوم نوح و عاد و ثمود قالوا لأنبيائهم لستم على شي‏ء عن عطاء و قيل أن الأصح أن المراد بقوله‏ «كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ» أسلاف اليهود و المراد بقوله‏ «وَ قالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى‏ عَلى‏ شَيْ‏ءٍ» هؤلاء الذين كانوا على عهد النبي ص لأنه حكي قول مبطل لمبطل فلا يجوز أن يعطف عليه قول مبطل لمحق و قوله‏ «فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ» فيه وجوه (أحدها) أن حكمه بينهم أن يكذبهم جميعا و يدخلهم النار عن الحسن (و ثانيها) أن حكمه فيهم الانتصاف من الظالم المكذب بغير حجة و لا برهان للمظلوم المكذب عن أبي علي (و ثالثها) أن حكمه أن يريهم من يدخل الجنة عيانا و من يدخل النار عيانا و هذا هو الحكم الفصل في الآخرة بما يصير إليه كل فرقة فأما الحكم بينهم في العقد فقد بينه الله جل و عز فيما أظهر من حجج المسلمين و في عجز الخلق عن أن يأتوا بمثل هذا القرآن عن الزجاج.


359
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 114] ..... ص : 360

[سورة البقرة (2): آية 114]

وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَ سَعى‏ فِي خَرابِها أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاَّ خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (114)

اللغة

المنع و الصد و الحيلولة نظائر و ضد المنع الإطلاق يقال منعته فامتنع و رجل منيع أي لا يخلص إليه و هو في عز و منعة تخفف و تثقل و امرأة منيعة لا تؤاتي على فاحشة و السعي و الركض و العدو نظائر و ضد السعي الوقف و فلان يسعى على عياله أي يكسب لهم و سعى للسلطان إذا ولي أمر الصدقة قال الشاعر:

سعى عقالا فلم يترك لها سبدا

فكيف لو قد سعى عمرو عقالين‏

 

و العقال صدقة عام و ساعي الرجل الأمة إذا فجر بها و لا تكون المساعاة إلا في الإماء و الخراب و الهدم و النقض نظائر و الخربة سعة خرق الأذن و كل ثقب مستدير و الخارب اللص قال الأصمعي يختص بسارق الإبل و الخرابة سرقة الإبل.

الإعراب‏

موضع من رفع و هو استفهام و أظلم رفع لأنه خبر الابتداء و موضع أن نصب على البدل من مساجد و هو بدل الاشتمال و التقدير و من أظلم ممن منع أن يذكر في مساجد الله اسمه و يجوز أن يكون موضع أن نصبا على أنه مفعول له فيكون تقديره كراهة أن يذكر فيها اسمه و يجوز أن يكون على حذف من و تقديره من أن يذكر و أن يدخلوها في موضع رفع بأنه اسم كان و قيل إن كان هاهنا مزيدة و تقديره ما لهم أن يدخلوها فعلى هذا يكون موضع أن يدخلوها رفعا بالابتداء و إلا حرف استثناء و هو هنا لنقض النفي و خائفين منصوب على الحال و قوله‏ «خِزْيٌ» مرفوع من وجهين (أحدهما) الابتداء (و الآخر) أن يكون مرفوعا بلهم و قوله‏ «فِي الدُّنْيا» الجار و المجرور في موضع نصب على الحال و ذو الحال الضمير المستكن في لهم و كذلك قوله‏ «وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ».

النزول‏

اختلفوا في المعني بهذه الآية فقال ابن عباس و مجاهد أنهم الروم غزوا بيت المقدس و سعوا في خرابه حتى كانت أيام عمر فأظهر الله المسلمين عليهم و صاروا لا يدخلونه إلا خائفين و قال الحسن و قتادة هو بخت نصر خرب بيت المقدس و أعانه عليه‏


360
مجمع البيان في تفسير القرآن1

و المعنى ..... ص : 361

النصارى و

روي عن أبي عبد الله (ع) أنهم قريش حين منعوا رسول الله ص دخول مكة و المسجد الحرام‏

و به قال البلخي و الرماني و الجبائي و ضعف هذا الوجه الطبري بأن قال إن مشركي قريش لم يسعوا في تخريب المسجد الحرام و قوله‏ يُفْسِدُ بأن عمارة المساجد إنما تكون بالصلاة فيها و خرابها بالمنع من الصلاة فيها و قد وردت الرواية بأنهم هدموا مساجد كان أصحاب النبي ص يصلون فيها بمكة لما هاجر النبي ص إلى المدينة قال و هو أيضا لا يتعلق بما قبله من ذم أهل الكتاب كما يتعلق به إذا عني به النصارى و بيت المقدس و جوابه أنه قد جرى أيضا ذكر غير أهل الكتاب في قوله‏ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ‏ و هذا أقرب لأن الكلام خرج مخرج الذم فمرة توجه الذم إلى اليهود و مرة إلى النصارى و مرة إلى عبدة الأصنام و المشركين.

و المعنى‏

«وَ مَنْ أَظْلَمُ» أي و أي أحد أشد و أعظم ظلما «مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ» من‏ «أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ» و يكون معناه لا أحد أظلم ممن منع أن يذكر في مساجد الله اسمه سبحانه و عمل في المنع من إقامة الجماعة و العبادة فيها و إذا حمل قوله‏ «مَساجِدَ اللَّهِ» على بيت المقدس أو على الكعبة فإنما جاز جمعه على أحد وجهين أما أن تكون مواضع السجود فإن المسجد العظيم يقال لكل موضع منه مسجد و يقال لجملته مسجد و أما أن يدخل في هذه اللفظة المساجد التي بناها المسلمون للصلاة

و روي عن زيد بن علي عن آبائه عن علي (ع) أنه أراد جميع الأرض لقول النبي ص جعلت لي الأرض مسجدا و ترابها طهورا

و قوله‏ «وَ سَعى‏ فِي خَرابِها» أي عمل في تخريبها و التخريب إخراجهم أهل الإيمان منها عند الهجرة و قيل هو صدهم عنها و يجوز حمله على الأمرين و قيل المراد المنع عن الصلاة و الطاعة فيها و هو السعي في خرابها و قوله‏ «أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ» فيه خلاف قال ابن عباس معناه أنه لا يدخل نصراني بيت المقدس إلا نهك ضربا و أبلغ عقوبة و هو كذلك اليوم و من قال المراد به المسجد الحرام قال لما نزلت هذه الآية أمر النبي ص مناديا فنادى ألا لا يحجن بعد العام مشرك و لا يطوفن بهذا البيت عريان فكانوا لا يدخلونه بعد ذلك و قال الجبائي بين الله سبحانه أنه ليس لهؤلاء المشركين دخول المسجد الحرام و لا دخول غيره من المساجد فإن دخل منهم داخل إلى بعض المساجد كان على المسلمين إخراجه منه إلا أن يدخل إلى بعض الحكام لخصومة بينه و بين غيره فيكون في دخوله خائفا من الإخراج على وجه الطرد


361
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 115] ..... ص : 362

 

بعد انفصال خصومته و لا يقعد فيه مطمئنا كما يقعد المسلم قال الشيخ أبو جعفر قدس الله روحه و هذا يليق بمذهبنا و يمكن الاستدلال بهذه الآية على أن الكفار لا يجوز أن يمكنوا من دخول المساجد على كل حال فأما المسجد الحرام خاصة فيستدل على أن المشركين يمنعون من دخوله و لا يمكنون منه لحكومة و لا غيرها بأن الله تعالى قد أمر بمنعهم من دخوله بقوله‏ ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى‏ أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ يعني المسجد الحرام و قوله‏ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا و قال الزجاج أعلم الله سبحانه في هذه الآية أن أمر المسلمين يظهر على جميع من خالفهم حتى لا يمكن دخول مخالف إلى مساجدهم إلا خائفا و هذا كقوله سبحانه‏ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ‏ فكأنه قيل أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين لإعزاز الله الدين و إظهاره المسلمين و قوله‏ «لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ» قيل فيه وجوه (أحدها) أن يراد بالخزي أنهم يعطون الجزية عن يد و هم صاغرون عن قتادة (و ثانيها) أن المراد به القتل و سبي الذراري و النساء إن كانوا حربا و إعطاء الجزية إن كانوا ذمة عن الزجاج (و ثالثها) إن المراد بخزيهم في الدنيا أنه إذا قام المهدي و فتح قسطنطينية فحينئذ يقتلهم عن السدي (و رابعها) أن المراد بخزيهم طردهم عن دخول المساجد عن أبي علي و قوله‏ «وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ» يعني يوم القيامة يعذبهم الله في نار جهنم بالعذاب الأعظم إذ كانوا من كل ظالم أظلم.

[سورة البقرة (2): آية 115]

وَ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ (115)

اللغة

المشرق و الشرق اسمان لمطلع الشمس و القمر و شرقت الشمس إذا طلعت و أشرقت أضاءت و يقال لا أفعل ذلك ما ذر شارق أي ما طلع قرن الشمس و أيام التشريق أيام تشريق اللحم في الشمس و

في الحديث‏ لا تشريق إلا في مصر أو مسجد جامع‏

أي لا صلاة عيد لأن وقتها طلوع الشمس و المغرب و المغيب بمعنى و هو موضع الغروب يقال غربت الشمس تغرب إذا غابت و أصل الغرب الحد و التباعد و غربة النوى بعد المنتأى و غرب السيف حده سمي بذلك لأنه يمضي و لا يرد فهو مأخوذ من الإبعاد و الواسع الغني سمي به لسعة مقدوراته و قيل هو الكثير الرحمة و السعة و الفسحة من النظائر و ضد السعة الضيق يقال وسع يسع سعة و أوسع الرجل إذا صار ذا سعة في المال.

 

 

 

362
مجمع البيان في تفسير القرآن1

الإعراب ..... ص : 363

الإعراب‏

اللام في قوله‏ «وَ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ» لام الملك و إنما وحد المشرق و المغرب لأنه أخرج ذلك مخرج الجنس فدل على الجمع كما يقال أهلك الناس الدينار و الدرهم و ابن بني لتضمنه معنى الحرف و إنما بني على الفتح لالتقاء الساكنين و فيه معنى الشرط و تولوا مجزوم بالشرط و جوابه‏ «فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ» و علامة الجزم في تولوا سقوط النون و أين في موضع نصب لأنه ظرف لقوله‏ تُوَلُّوا و ما في قوله‏ «فَأَيْنَما» هي التي تهيئ الكلمة لعمل الجزم و لذلك لم يجاز بإذ و حيث حتى يضم إليهما ما فيقال حيثما تكن أكن و إذا ما تفعل أفعل و لا يقال حيث تكن أكن و إذ تفعل أفعل و يجوز في أين الجزم و إن لم يدخل ما عليها كقول الشاعر:

أين تضرب بنا العداة تجدنا

نصرف العيس نحوها للتلاقي‏

 

و ثم موضعه نصب لأنه ظرف مكان و بني على الفتح لالتقاء الساكنين و إنما بني في الأصل لأنه معرفة و حكم الاسم المعرف أن يكون بحرف فبني لتضمنه معنى الحرف الذي يكون به التعريف و العهد أ لا ترى أن ثم لا تستعمل إلا في مكان معهود معروف لمخاطبك.

النزول‏

اختلف في سبب نزول هذه الآية فقيل أن اليهود أنكروا تحويل القبلة إلى الكعبة عن بيت المقدس فنزلت الآية ردا عليهم عن ابن عباس و اختاره الجبائي قال بين سبحانه أنه ليس في جهة دون جهة كما تقول المجسمة و قيل كان للمسلمين التوجه حيث شاءوا في صلاتهم و فيه نزلت الآية ثم نسخ ذلك بقوله‏ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ‏ عن قتادة قال و كان النبي ص قد اختار التوجه إلى بيت المقدس و كان له إن يتوجه حيث شاء و قيل نزلت في صلاة التطوع على الراحلة تصليها حيثما توجهت إذا كنت في سفر و أما الفرائض فقوله‏ وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ‏ يعني‏

أن الفرائض لا تصليها إلا إلى القبلة و هذا هو المروي عن أئمتنا (ع)

قالوا و صلى رسول الله ص إيماء على راحلته أينما توجهت به حيث خرج إلى خيبر و حين رجع من مكة و جعل الكعبة خلف ظهره‏

و روي عن جابر قال‏ بعث رسول الله ص سرية كنت فيها فأصابتنا ظلمة فلم نعرف القبلة فقالت طائفة منا قد عرفنا القبلة هي هاهنا قبل الشمال فصلوا و خطوا خطوطا و قال بعضنا القبلة هاهنا قبل الجنوب و خطوا خطوطا فلما أصبحوا و طلعت‏


363
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 364

الشمس أصبحت تلك الخطوط لغير القبلة فلما قفلنا من سفرنا سألنا النبي ص عن ذلك فسكت فأنزل الله تعالى هذه الآية.

المعنى‏

«وَ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ» أراد أن المشرق و المغرب لله ملكا و قيل أراد أنه خالقهما و صانعهما و قيل معناه يتولى إشراق الشمس من مشرقها و إغرابها من مغربها «فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ» معناه فأينما تولوا وجوهكم فحذف المفعول للعلم به فثم أي فهناك وجه الله أي قبلة الله عن الحسن و مجاهد و قتادة و الوجه و الجهة و الوجهة القبلة و مثله الوزن و الزنة و العرب تسمي القصد الذي تتوجه إليه وجها قال الشاعر:

أستغفر الله ذنبا لست محصيه‏

رب العباد إليه الوجه و العمل‏

 

معناه إليه القصد بالعبادة و قيل معناه فثم الله يعلم و يرى فادعوه كيف توجهتم كقوله تعالى: يُرِيدُونَ وَجْهَهُ‏ أي يريدونه بالدعاء و يقال لما قرب من المكان هنا و لما تراخى ثم و هناك و قوله‏ كُلُّ شَيْ‏ءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ‏ أي إلا هو وَ يَبْقى‏ وَجْهُ رَبِّكَ‏ أي و يبقى ربك عن الكلبي و قيل معناه ثم رضوان الله يعني الوجه الذي يؤدي إلى رضوانه كما يقال هذا وجه الصواب عن أبي علي و الرماني‏ «إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ» أي غني عن أبي عبيدة و تقديره غني عن طاعتكم و إنما يريدها لمنافعكم و قيل واسع الرحمة فلذلك رخص في الشريعة عن الزجاج و قيل واسع المقدور يفعل ما يشاء «عَلِيمٌ» أي عالم بوجوه الحكمة فبادروا إلى ما أمركم به و قيل عليم أين يضع رحمته على ما توجبه الحكمة و قيل عليم بنياتكم حيثما صليتم و دعوتم.

النظم‏

و وجه اتصال الآية بما قبلها أن التقدير لا يمنعكم تخريب من خرب المساجد عن أن تذكروه حيث كنتم من أرضه فلله المشرق و المغرب و الجهات كلها عن علي بن عيسى و قيل لما تقدم ذكر الصلاة و المساجد عقبه بذكر القبلة و بيانها.

[سورة البقرة (2): آية 116]

وَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (116)

القراءة

قرأ ابن عامر قالوا بغير واو و الباقون بالواو.


364
مجمع البيان في تفسير القرآن1

الحجة ..... ص : 365

الحجة

حذف الواو هنا يجوز من وجهين (أحدهما) أن يستأنف الجملة فلا يعطفها على ما تقدم (و الآخر) أن للجملة التي هي‏ «قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً» ملابسة بما قبلها من قوله‏ وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ‏ الآية فإن الذين قالوا اتخذ الله ولدا من جملة هؤلاء الذين تقدم ذكرهم فيستغني عن الواو لالتباس الجملة بما قبلها كما استغني عنها في نحو قوله‏ وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ‏ و لو كان و هم فيها خالدون لكان حسنا.

اللغة

الأصل في القنوت الدوام ثم يستعمل على وجوه منها أن يكون بمعنى الطاعة كقوله‏ «كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ» أي مطيعون و منها أن يكون بمعنى الصلاة كقوله‏ يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَ اسْجُدِي وَ ارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ‏ و بمعنى طول القيام‏

و روى جابر بن عبد الله قال‏ سئل النبي ص أي الصلاة أفضل قال طول القنوت أي طول القيام‏

و يكون بمعنى الدعاء قال صاحب العين القنوت في الصلاة دعاء بعد القراءة في آخر الوتر يدعو قائما و منه قوله‏ أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَ قائِماً و يكون بمعنى السكوت قال زيد بن أرقم كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت‏ وَ قُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ‏ فأمسكنا عن الكلام.

النزول‏

نزلت الآية في النصارى حيث قالوا المسيح ابن الله و قيل نزلت فيهم و في مشركي العرب حيث قالوا الملائكة بنات الله.

المعنى‏

لما حكى الله سبحانه قول اليهود في أمر القبلة و رد عليهم قولهم ذكر مقالتهم في التوحيد رادا عليهم قال‏ «وَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ» أي إجلالا له عن اتخاذ الولد و تنزيها عن القبائح و السوء و الصفات التي لا تليق به‏

و روي عن طلحة بن عبيد الله‏ أنه سأل النبي ص عن معنى قوله‏ «سُبْحانَهُ» فقال تنزيها لله عن كل سوء بل له ما في السموات و الأرض‏

هذا رد عليهم قولهم‏ «اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً» أي ليس الأمر كما زعموا «بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ» ملكا و الولد لا يكون ملكا للأب لأن البنوة و الملك لا يجتمعان فكيف يكون الملائكة الذين هم في السماء و المسيح الذي هو في الأرض ولدا له فنبه بذلك على أن المسيح و غيره عبيد له مخلوقون مملوكون فهم بمنزلة سائر الخلق و قيل معناه بل له ما في السماوات و الأرض فعلا و الفعل لا يكون من جنس الفاعل و الولد لا يكون إلا من جنس أبيه فإن من تبنى إنسانا فالذي تبناه لا بد من أن يكون من جنسه و قوله‏ «كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ» قال ابن عباس و مجاهد معناه مطيعون و قال السدي كل له مطيع يوم القيامة و قال الحسن كل له قائم بالشهادة أنه عبده و قال الجبائي كل دائم على حال واحدة


365
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 117] ..... ص : 366

بالشهادة بما فيه من آثار الصنعة و الدلالة على الربوبية و قال أبو مسلم كل في ملكه و قهره يتصرف فيه كيف يشاء لا يمتنع عليه.

[سورة البقرة (2): آية 117]

بَدِيعُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ إِذا قَضى‏ أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117)

القراءة

قرأ ابن عامر فيكون بالنصب و الباقون بالرفع.

الإعراب و الحجة

قال أبو علي يمتنع النصب في قوله‏ «فَيَكُونُ» لأن قوله‏ كُنْ‏ و إن كان على لفظ الأمر فليس بأمر و لكن المراد به الخبر لأن المنفي الذي ليس بكائن لا يؤمر و لا يخاطب فالتقدير نكون فيكون فاللفظ لفظ الأمر و المراد الخبر كقولهم في التعجب أكرم بزيد فإذا لم يكن قوله‏ كُنْ‏ أمرا في المعنى و إن كان على لفظه لم يجز أن ينصب الفعل بعد الفاء بأنه جواب كما لم يجز النصب في الفعل الذي يدخله الفاء بعد الإيجاب نحو آتيك فأحدثك إلا أن يكون في شعر نحو قوله:

لنا هضبة لا ينزل الذل وسطها

و يأوي إليها المستجير فيعصما

 

و يدل أيضا على امتناع النصب فيه أن الجواب بالفاء مضارع الجزاء فلا يجوز اذهب فيذهب على قياس قراءة ابن عامر كن فيكون لأن المعنى يصير إن ذهبت ذهبت و هذا الكلام لا يفيد و إنما يفيد إذا اختلف الفاعلان و الفعلان نحو قم فأعطيك لأن المعنى إن قمت أعطيتك و إذا كان الأمر على هذا لم يكن ما روي عنه من نصبه فيكون متجها و يمكن أن يقال فيه أن اللفظ لما كان على لفظ الأمر حمله على اللفظ كما حمل أبو الحسن في نحو قوله‏ قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ على أنه أجري مجرى جواب الأمر و إن لم يكن جوابا له على الحقيقة فالوجه في يكون الرفع على أن يكون معطوفا على كن لأن المراد به نكون فيكون أو يكون خبر مبتدإ محذوف كأنه قال فهو يكون.

اللغة

البديع بمعنى المبدع كالسميع بمعنى المسمع و بينهما فرق من حيث أن في بديع مبالغة ليست في مبدع و يستحق الوصف به في غير حال الفعل على الحقيقة


366
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 367

بمعنى أن من شأنه إنشاء الأشياء على غير مثال و احتذاء و الابتداع و الاختراع و الإنشاء نظائر و كل من أحدث شيئا فقد أبدعه و الاسم البدعة

و في الحديث‏ كل بدعة ضلالة و كل ضلالة سبيلها إلى النار

و القضاء و الحكم من النظائر و أصل القضاء الفصل و إحكام الشي‏ء قال أبو ذؤيب:

و عليهما مسرودتان قضاهما

داود أو صنع السوابغ تبع‏

 

أي أحكمهما ثم ينصرف على وجوه منها الأمر و الوصية كقوله تعالى: وَ قَضى‏ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ‏ أي وصى ربك و أمر و منها أن يكون بمعنى الإخبار و الإعلام كقوله‏ وَ قَضَيْنا إِلى‏ بَنِي إِسْرائِيلَ‏ أي أخبرناهم و قوله‏ وَ قَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أي عهدنا إلى لوط و منها أن يكون بمعنى الفراغ نحو قوله‏ فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ‏ أي فرغتم من أمر المناسك و قوله‏ فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ

و فيما رواه علي بن موسى الرضا عن أبيه عن جده الصادق (ع) قال‏ القضاء على عشرة أوجه ذكر فيه الوجوه الثلاثة التي ذكرناها (و الرابع) بمعنى الفعل في قوله‏ فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ‏ أي فافعل ما أنت فاعل و منه قوله‏ إِذا قَضى‏ أَمْراً يعني إذا فعل أمرا كان في علمه أن يفعله‏ فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ‏ و منه قوله‏ إِذا قَضَى اللَّهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً يقول ما كان لمؤمن و لا مؤمنة إذا فعل الله و رسوله شيئا في تزويج زينب أن يكون لهم الخيرة من أمرهم (و الخامس) في قوله‏ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ‏ أي لينزل علينا الموت و قوله‏ لا يُقْضى‏ عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا أي لا ينزل بهم الموت و قوله‏ فَوَكَزَهُ مُوسى‏ فَقَضى‏ عَلَيْهِ‏ أي فأنزل به الموت (و السادس) قوله‏ وَ أَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ أي وجب العذاب فوقع بأهل النار و كذا قوله‏ وَ قالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ (و السابع) قوله‏ وَ كانَ أَمْراً مَقْضِيًّا أي مكتوبا في اللوح المحفوظ أنه يكون (و الثامن) بمعنى الإتمام في نحو قوله‏ فَلَمَّا قَضى‏ مُوسَى الْأَجَلَ‏ أي أتم و أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ‏ أي أتممت و قوله‏ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى‏ إِلَيْكَ وَحْيُهُ‏ يعني من قبل أن يتم جبرائيل إليك الوحي (و التاسع) بمعنى الحكم و الفصل كقوله‏ وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِ‏ و إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ‏ أي يفصل و في الإنعام‏ يَقْضِي بِالْحَقِ‏ أي يفصل الأمر بيني و بينكم بالعذاب (و العاشر) بمعنى الجعل في قوله‏ فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ‏ أي جعلهن‏

. المعنى‏

لما نزه الله سبحانه نفسه عن اتخاذ الأولاد و دل عليه بأن له ما في السماوات و الأرض أكد ذلك بقوله‏ «بَدِيعُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ» أي منشئ السماوات‏


367
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 367

و الأرض على غير مثال امتثله و لا احتذاء من صنع خالق كان قبله‏ «وَ إِذا قَضى‏ أَمْراً» قيل معناه إذا فعل أمرا أي أراد إحداث أمر كقوله تعالى: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ‏ أي إذا أردت قراءة القرآن و قيل معناه إذا أحكم أمرا و قيل معناه حكم و حتم بأنه يفعل أمرا و الأول أوجه و قوله‏ «فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» اختلف فيه على وجوه (أحدها) أنه بمنزلة التمثيل لأن المعدوم لا يصح أن يخاطب و لا يؤمر و حقيقة معناه أن منزلة الفعل في تسهله و تيسره عليه و انتفاء التعذر منه كمنزلة ما يقال له كن فيكون كما يقال قال فلان برأسه أو بيده كذا إذا حرك رأسه أو أومأ بيده و لم يقل شيئا على الحقيقة و كما قال أبو النجم:

قد قالت الأنساع للبطن الحق‏

قدما فاضت كالفنيق المحنق‏

 

و قال العجاج يصف ثورا:

و فيه كالأعراض للعكور

فكر ثم قال في التفكير

 

إن الحياة اليوم في الكرور

 

و قال عمرو بن قميئة السدوسي:

فأصبحت مثل النسر طارت فراخه‏

إذا رام تطيارا يقال له قع‏

 

و قال آخر:

و قالت له العينان سمعا و طاعة

و حدرتا كالدر لما يثقب‏

 

و المشهور فيه قول الشاعر:

امتلأ الحوض و قال قطني‏

مهلا رويدا قد ملأت بطني‏

 

و هو قول أبي علي و أبي القاسم و جماعة من المفسرين (و ثانيها) أنه علامة جعلها الله للملائكة إذا سمعوها علموا أنه أحدث أمرا و هذا هو المحكي عن أبي الهذيل.

(و ثالثها) ما قاله بعضهم أن الأشياء المعدومة لما كانت معلومة عند الله تعالى صارت كالموجود فصح أن يخاطبها و يقول لما شاء إيجاده منها كن و الأصح من الأقوال الأول و هو الأشبه بكلام العرب و يؤيده قوله تعالى: فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ‏ و إن حمل على القول الثاني فالمراد أن يقول للملائكة على جهة الإعلام منه‏


368
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 118] ..... ص : 369

 

لهم و إخباره إياهم عن الغيب كن أي يقول أكون فيكون فاعل كن الله و هو في معنى الخبر و إن كان اللفظ لفظ الأمر على ما تقدم بيانه و قد يجوز على هذا أن يكون فاعل كن الشي‏ء المعدوم المراد كونه و تقديره يقول من أجله للملائكة يكون شي‏ء كذا فيكون ذلك على ما يخبر به لا خلف له و لا تبديل عما يخبر به و أما القول الثالث فبعيد لأن المعدوم لا يصح خطابه و لا أمره بالكون و الوجود ليخرج بهذا الأمر إلى الوجود لأن ذلك امتثال للأمر و تلق له بالقبول و الطاعة و هذا إنما يتصور من المأمور الموجود دون المعدوم و لو صح ذلك لوجب أن يكون المأمور المعدوم فاعلا لنفسه كما يكون المتلقي لما يؤمر به بالقبول فاعلا لما أمر به و هذا فاسد ظاهر البطلان و قال بعضهم إنما يقول كن عند وجود الأشياء لا قبلها و لا بعدها كقوله تعالى: ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ‏ و إنما أراد أنه يدعوهم في حال خروجهم لا قبله و لا بعده و هذا الوجه أيضا ضعيف لأن من شرط حسن الأمر أن يتقدم المأمور به و كذلك الدعاء و في هذه الآية دلالة على أنه سبحانه لا يجوز أن يتخذ ولدا لأنه إذا ثبت أنه منشئ السماوات و الأرض ثبت بذلك أنه سبحانه ليس بصفة الأجسام و الجواهر لأن الجسم يتعذر عليه فعل الأجسام و من كان بهذه الصفة لم يجز عليه اتخاذ الولد و لأنه سبحانه قد أنشأ عيسى من غير أب من حيث هو مبدع الأشياء فجل عن اتخاذ الأبناء و تعالى علوا كبيرا.

[سورة البقرة (2): آية 118]

وَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118)

اللغة

اليقين و العلم و المعرفة نظائر في اللغة و نقيضه الشك و الجهل و أيقن و تيقن و استيقن بمعنى و قال صاحب العين اليقن اليقين قال:

و ما بالذي أبصرته العيون‏

 

من قطع يأس و لا من يقن‏

     

 

فاليقين علم يثلج به الصدر و لذلك يقال وجدت برد اليقين و لا يقال وجدت برد العلم.

 

 

 

369
مجمع البيان في تفسير القرآن1

الإعراب ..... ص : 370

الإعراب‏

لو لا بمعنى هلا و لا تدخل إلا على الفعل و معناها التحضيض قال:

تعدون عقر النيب أفضل مجدكم‏

بني ضوطرى لو لا الكمي المقنعا

 

أي هلا تعقرون الكمي المقنع و الكاف في كذلك تتعلق بقال و الجار و المجرور في موضع نصب على المصدر أي كقولهم.

المعنى‏

لما بين سبحانه حالهم في إنكارهم التوحيد و ادعائهم عليه اتخاذ الأولاد عقبه بذكر خلافهم في النبوات و سلوكهم في ذلك طريق التعنت و العناد فقال‏ «وَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ» و هم النصارى عن مجاهد و اليهود عن ابن عباس و مشركو العرب عن الحسن و قتادة و هو الأقرب لأنهم الذين سألوا المحالات و لم يقتصروا على ما ظهر و اتضح من المعجزات و قالوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً الآيات إلى آخرها و لأنه وصفهم بأنهم لا يعلمون فبين أنهم ليسوا من أهل الكتاب و من قال المراد به النصارى قال لأنه قال قبلها وَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً و هم الذين قالوا المسيح ابن الله و هذا لا دلالة فيه لأنه يجوز أن يذكر قوما ثم يستأنف فيخبر عن قوم آخرين على أن مشركي العرب قد أضافوا أيضا إلى الله سبحانه البنات فدخلوا في جملة من قال‏ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً و قوله‏ «لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ» أي هلا يكلمنا معاينة فيخبرنا بأنك نبي و قيل معناه هلا يكلمنا بكلامه كما كلم موسى و غيره من الأنبياء و قوله‏ «أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ» أي تأتينا آية موافقة لدعوتنا كما جاءت الأنبياء آيات موافقة لدعوتهم و لم يرد أنه لم تأتهم آية لأنه قد جاءتهم الآيات و المعجزات و قوله‏ «كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ» قيل هم اليهود حيث اقترحوا الآيات على موسى عن مجاهد لأنه حمل قوله‏ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ‏ على النصارى و قيل هم اليهود و النصارى جميعا عن قتادة و السدي و قيل سائر الكفار الذين كانوا قبل الإسلام عن أبي مسلم‏ «تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ» أي أشبه بعضها بعضا في الكفر و القسوة و الاعتراض على الأنبياء من غير حجة و التعنت و العناد كقول اليهود لموسى‏ أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً و قول النصارى للمسيح‏ أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ و قول العرب لنبينا ص حول لنا الصفا ذهبا و لذلك قال الله سبحانه‏ أَ تَواصَوْا بِهِ‏ و قوله‏ «قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ» يعني الحجج و المعجزات التي يعلم بها صحة نبوة محمد ص‏ «لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ» أي يستدلون بها من الوجه الذي يجب الاستدلال به فأيقنوا لذلك فكذلك‏


370
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 119] ..... ص : 371

فاستدلوا أنتم حتى توقنوا كما أيقن أولئك و المعنى فيه أن فيما ظهر من الآيات الباهرات الدالة على صدقه كفاية لمن ترك التعنت و العناد فإن قيل لم يؤتوا الآيات التي اقترحوها لتكون الحجة عليهم آكد قلنا الاعتبار في ذلك بالمصالح و لو علم الله سبحانه أن في إظهار ما اقترحوه من الآيات مصلحة لأظهرها فلما لم يظهرها علمنا أنه لم يكن في إظهارها مصلحة.

[سورة البقرة (2): آية 119]

إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَ نَذِيراً وَ لا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ (119)

القراءة

قرأ نافع‏

و لا تسئل بفتح التاء و الجزم على النهي‏ و روي ذلك عن أبي جعفر الباقر (ع)

و ابن عباس ذكر ذلك الفراء و أبو القاسم البلخي و الباقون على لفظ الخبر على ما لم يسم فاعله.

الحجة

الرفع في‏ «تُسْئَلُ» يحتمل وجهين (أحدهما) أن يكون حالا فيكون مثل ما عطف عليه من قوله‏ «بَشِيراً وَ نَذِيراً» أي و غير مسئول و يكون ذكر الجملة بعد المفرد الذي هو قوله‏ «بَشِيراً» كما ذكر الجملة في قوله‏ وَ يُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَ كَهْلًا بعد ما تقدم من المفرد و كذلك قوله‏ وَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ‏ و هو هنا يجري مجرى الجملة (و الآخر) أن يكون منقطعا عن الأول مستأنفا به كأنه قيل و لست تسأل عن أصحاب الجحيم و أما قراءة نافع و لا تسئل بالجزم ففيه قولان (أحدهما) أن يكون على النهي عن المسألة (و الآخر) أن يكون النهي لفظا و المعنى على تفخيم ما أعد لهم من العقاب كقول القائل لا تسأل عن حال فلان أي قد صار إلى أكثر مما تريده و سألت يتعدى إلى مفعولين مثل أعطيت قال الشاعر:

سألتاني الطلاق إذ رأتاني‏

قل ما لي قد جئتماني بنكر

 

و يجوز أن يقتصر فيه على مفعول واحد ثم يكون على ضربين (أحدهما) أن يتعدى بغير حرف كقوله‏ وَ سْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ‏ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ (و الآخر) أن يتعدى بحرف كقوله تعالى‏ سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ‏ و قولهم سألت عن زيد و إذا تعدى إلى مفعولين كان على ثلاثة أضرب (أحدها) أن يكون بمنزلة أعطيت كقوله سألت عمرا بعد بكر حقا فمعنى هذا استعطيته أي سألته أن يفعل ذلك (و الآخر) أن يكون بمنزلة اخترت الرجال زيدا و ذلك قوله تعالى‏ وَ لا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً أي لا يسأل حميم عن حميمه‏


371
مجمع البيان في تفسير القرآن1

اللغة ..... ص : 372

(و الثالث) أن يتعدى إلى مفعولين فيقع موقع المفعول الثاني منهما استفهام و ذلك كقوله تعالى‏ سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ‏ وَ سْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَ جَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ‏.

اللغة

الجحيم النار بعينها إذا شب وقودها و صار كالعلم على جهنم كقول أمية بن أبي الصلت:

إذا شبت جهنم ثم زادت‏

و أعرض عن قوابسها الجحيم‏

 

و جحمت النار تجحم جحما إذا اضطرمت و الجحمة العين بلغة حمير قال:

أيا جحمتي بكي على أم واهب‏

قتيلة قلوب بإحدى المذانب‏

 

و جحمتا الأسد عيناه و جاحم الحرب شدة القتل في معركتها قال سعد بن مالك بن ضبيعة:

و الحرب لا يبقى لجاحمها

التخيل و المراح‏

 

إلا الفتى الصبار في‏

النجدات و الفرس الوقاح‏

 

. المعنى‏

بين الله سبحانه في هذه الآية تأييده نبيه محمد ص بالحجج و بعثه الحق فقال‏ «إِنَّا أَرْسَلْناكَ» يا محمد «بِالْحَقِّ» قيل بالقرآن عن ابن عباس و قيل بالإسلام عن الأصم و قيل على الحق أي بعثناك على الحق كقوله سبحانه‏ خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِ‏ أي على أنهما حق لا باطل و قوله‏ «بَشِيراً وَ نَذِيراً» أي بشيرا من اتبعك بالثواب و نذيرا من خالفك بالعقاب و قوله‏ «وَ لا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ» أي لا تسأل عن أحوالهم و فيه تسلية للنبي ص إذ قيل له إنما أنت بشير و نذير و لست تسأل عن أهل الجحيم و ليس عليك إجبارهم على القبول منك و مثله قوله‏ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ‏ و قوله‏ لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ‏ و قيل معناه لا تؤاخذ بذنبهم كقوله سبحانه‏ عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَ عَلَيْكُمْ ما أي فعليه الإبلاغ و عليكم القبول.


372
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 120] ..... ص : 373

[سورة البقرة (2): آية 120]

وَ لَنْ تَرْضى‏ عَنْكَ الْيَهُودُ وَ لا النَّصارى‏ حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى‏ وَ لَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ (120)

اللغة

الرضا و المودة و المحبة نظائر و ضد الرضا الغضب و الرضا أيضا بمعنى المرضي و هو من بنات الواو و بدلالة قولهم الرضوان و تقول رجل رضا و رجال و نساء رضا و الملة و النحلة و الديانة نظائر و ملة رسول الله ص الأمر الذي أوضحه و امتل الرجل إذا أخذ في ملة الإسلام أي قصد ما أمل منه و الإملال إملاء الكتاب ليكتب.

الإعراب‏

تتبع نصب بحتى قال سيبويه و الخليل إن الناصب للفعل بعد حتى أن إلا أنها لا تظهر بعد حتى و يدل على أن حتى لا تنصب بنفسها إنها تجر الاسم في نحو قوله‏ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ و لا يعرف في العربية حرف يعمل في اسم يعمل في فعل و لا حرف جار يكون ناصبا للفعل فصار مثل اللام في قولك ما كان زيد ليضربك في أنها جارة و الناصب ليضربك أن المضمرة و لا يجوز إظهارها مع هذه اللام أيضا هو ضمير مرفوع بالابتداء أو فصل و الهدى خبر المبتدأ أو خبر إن و قوله‏ «مِنَ الْعِلْمِ» يتعلق بمحذوف في موضع الحال و ذو الحال الموصوف المحذوف الذي قوله‏ «الَّذِي جاءَكَ» صفته و كذلك قوله‏ «مِنَ اللَّهِ» في موضع الحال و «مِنْ وَلِيٍّ» في موضع رفع بالابتداء و من مزيدة و قوله‏ «ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ» في موضع الجزاء للشرط و لكن الجزاء إذا قدر فيه القسم لا يجزم فلا يكون في موضع جزم و لا بد أن يكون فيه أحد الحروف الدالة على القسم فحرف ما هاهنا تدل على القسم فلهذا لم يجزم.

المعنى‏

كانت اليهود و النصارى يسألون النبي ص الهدنة و يرونه أنه إن هادنهم و أمهلهم اتبعوه فآيسه الله تعالى من موافقتهم فقال‏ «وَ لَنْ تَرْضى‏ عَنْكَ الْيَهُودُ وَ لَا النَّصارى‏ حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ» و قيل أيضا أن النبي ص كان مجتهدا في طلب ما يرضيهم ليدخلوا في الإسلام فقيل له دع ما يرضيهم إلى ما أمرك الله به من مجاهدتهم و هذا يدل على أنه لا يصح إرضاء اليهود و النصارى على حال لأنه تعالى علق رضاءهم بأن يصير (ع) يهوديا أو نصرانيا و إذا استحال ذلك استحال إرضاؤهم يعني أنه لا يرضي كل فرقة منهم إلا أن يتبع ملتهم أي دينهم و قيل قبلتهم‏ «قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى‏» أي قل يا محمد لهم أن دين الله الذي يرضاه هو الهدى أي الدين الذي أنت عليه عن ابن عباس و قيل معناه أن هدى الله يعني القرآن هو الذي يهدي إلى الجنة لا طريقة اليهود و النصارى‏


373
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 121] ..... ص : 374

و قيل معناه أن دلالة الله هي الدلالة و هدى الله هو الحق كما يقال طريقة فلان هي الطريقة و قوله‏ «وَ لَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ» أي مراداتهم و قال ابن عباس معناه أن صليت إلى قبلتهم‏ «بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ» أي من البيان من الله تعالى و قيل من الدين‏ «ما لَكَ» يا محمد «مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ» يحفظك من عقابه‏ «وَ لا نَصِيرٍ» أي معين و ظهير يعينك عليه و يدفع بنصره عقابه عنك و هذه الآية تدل على أن من علم الله تعالى منه أنه لا يعصي يصح وعيده لأنه علم أن نبيه (ع) لا يتبع أهواءهم فجرى مجرى قوله‏ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ‏ و المقصود منه التنبيه على أن حال أمته فيه أغلظ من حاله لأن منزلتهم دون منزلته و قيل الخطاب للنبي (ع) و المراد أمته.

[سورة البقرة (2): آية 121]

الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ مَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (121)

الإعراب‏

«الَّذِينَ آتَيْناهُمُ» رفع بالابتداء و يتلونه في موضع خبره و أولئك ابتداء ثان و يؤمنون به خبره و إن شئت كان أولئك يؤمنون به في موضع خبر المبتدأ الذي هو الذين و يتلونه في موضع نصب على الحال و إن شئت كان خبر الابتداء يتلونه و أولئك جميعا فيكون للابتداء خبر إن كما تقول هذا حلو حامض و حق تلاوته منصوب على المصدر.

النزول‏

قيل نزلت في أهل السفينة الذين قدموا مع جعفر بن أبي طالب من الحبشة و كانوا أربعين رجلا اثنان و ثلاثون من الحبشة و ثمانية من رهبان الشام منهم بحيراء عن ابن عباس و قيل هم من آمن من اليهود كعبد الله بن سلام و شعبة بن عمرو و تمام بن يهودا و أسد و أسيد ابني كعب و ابن يامين و ابن صوريا عن الضحاك و قيل هم أصحاب محمد عن قتادة و عكرمة فعلى القولين الأولين يكون المراد بالكتاب التوراة و على القول الأخير المراد به القرآن.

المعنى‏

«الَّذِينَ آتَيْناهُمُ» أي أعطيناهم‏ «الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ» اختلف في معناه على وجوه (أحدها) أنه يتبعونه يعني التوراة حق اتباعه و لا يحرفونه ثم يعلمون بحلاله و يقفون عند حرامه و منه قوله‏ وَ الْقَمَرِ إِذا تَلاها أي تبعها و به قال ابن مسعود و مجاهد و قتادة إلا أن المراد به القرآن عندهم و (ثانيها) أن المراد به يصفونه حق صفته‏


374
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 122] ..... ص : 375

في كتبهم لمن يسألهم من الناس عن الكلبي و على هذا تكون الهاء راجعة إلى محمد ص و (ثالثها) ما

روي عن أبي عبد الله‏ أن‏ «حَقَّ تِلاوَتِهِ» هو الوقوف عند ذكر الجنة و النار يسأل في الأولى و يستعيذ من الأخرى.

و (رابعها) أن المراد يقرءونه حق قراءته يرتلون ألفاظه و يفهمون معانيه و (خامسها) أن المراد يعملون حق العمل به فيعملون بمحكمه و يؤمنون بمتشابهه و يكلون ما أشكل عليهم إلى عالمه عن الحسن و قوله‏ «أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ» أي بالكتاب عن أكثر المفسرين و قيل بالنبي (ع) عن الكلبي‏ «وَ مَنْ يَكْفُرْ بِهِ» و هم اليهود و قيل هم جميع الكفار و هو الأولى لعمومه‏ «فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ» خسروا أنفسهم و أعمالهم و قيل خسروا في الدنيا الظفر و النصرة في الآخرة ما أعد الله للمؤمنين من نعيم الجنة.

[سورة البقرة (2): آية 122]

يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَ أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (122)

المعنى‏

هذه الآية قد تقدم ذكر مثلها في رأس نيف و أربعين آية و مضى تفسيرها و قيل في سبب تكريرها ثلاثة أقوال (أحدها) أن نعم الله سبحانه لما كانت أصول كل نعمة كرر التذكير بها مبالغة في استدعائهم إلى ما يلزمهم من شكرها ليقبلوا إلى طاعة ربهم المظاهر نعمه عليهم و (ثانيها) أنه سبحانه لما ذكر التوراة و فيها الدلالة على شأن عيسى و محمد (ع) في النبوة و البشارة بهما ذكرهم نعمته عليهم بذلك و ما فضلهم به كما عدد النعم في سورة الرحمن و كرر قوله‏ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ‏ فكل تقريع جاء بعد تقريع فإنما هو موصول بتذكير نعمة غير الأولى و ثالثة غير الثانية إلى آخر السورة و كذلك الوعيد في سورة المرسلات بقوله‏ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ‏ إنما هو بعد الدلالة على أعمال تعظم التكذيب بما تدعو إليه الأدلة.

[سورة البقرة (2): آية 123]

وَ اتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَ لا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَ لا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ (123)


375
مجمع البيان في تفسير القرآن1

توضيح ..... ص : 376

[توضيح‏]

و مثل هذه الآية أيضا قد تقدم ذكره و مر تفسيره.

[سورة البقرة (2): آية 124]

وَ إِذِ ابْتَلى‏ إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)

القراءة

قرأ ابن عامر إبراهام هاهنا و في مواضع من القرآن و الباقون‏ «إِبْراهِيمَ» و قرأ حمزة و حفص عهدي بإرسال الياء و الباقون بفتحها.

الحجة

في إبراهيم خمس لغات إبراهيم و إبراهام و إبراهم فحذفت الألف استخفافا قال الشاعر:

عذت بما عاذ به إبراهم‏

 

و إبراهم قال أمية:

(مع إبراهم التقي و موسى)

 

و أبرهم قال:

نحن آل الله في كعبته‏

لم يزل ذاك على عهد أبرهم‏

 

و الوجه في هذه التغييرات ما تقدم ذكره من قولهم إن العرب إذا نطقت بالأعجمي خلطت فيه و تلعبت بحروفه فتغيرها و أما قوله‏ «عَهْدِي» فإنما فتح هذه الياء إذا تحرك ما قبلها لأن أصل هذه الياء الحركة فإنها بإزاء الكاف للمخاطب فكما فتحت الكاف كذلك تفتح الياء و من أسكنها فإنه يحتج بأن الفتحة مع الياء قد كرهت في الكلام كما كرهت الحركتان الأخريان فيها أ لا ترى أنهم قد أسكنوها في حال السعة إذا لزم تحريكها بالفتحة كما أسكنوها إذا لزم تحريكها بالحركتين الأخريين و ذلك قولهم قالي قلا و بادي و بدا و معديكرب فالياء في هذه المواضع في موضع الفتحة التي في آخر الاسمين نحو حضرموت و قد أسكنت كما أسكنت في الجر و الرفع.

اللغة

الابتلاء الاختبار و التمام و الكمال و الوفاء نظائر و ضد التمام النقصان يقال تم تماما و أتمه و تممه تتميما و تتمة و التم الشي‏ء التام و لكل حاملة تمام بفتح التاء و كسرها و بدر تمام و ليل تمام بالكسر و الذرية و النسل و الولد نظائر و بعض العرب يكسر منها الذال فيقول ذرية و روي أنه قراءة زيد بن ثابت و بعضهم فتحها فقال ذرية و في أصل الكلمة أربعة مذاهب من الذرء و من الذر و الذرو و الذري فإن جعلته من الذرء فوزنه فعلية كمريق ثم ألزمت‏


376
مجمع البيان في تفسير القرآن1

الإعراب ..... ص : 377

التخفيف أو البدل كنبي في أكثر اللغة و البرية و إن أخذته من الذر فوزنه فعلية كقمرية أو فعيلة نحو ذريرة فلما كثرت الراءات أبدلت الأخيرة ياء و أدغم الياء الأولى فيها نحو سرية فيمن أخذها من السر و هو النكاح أو فعولة نحو ذرورة فأبدلوا الراء الأخيرة لما ذكرنا فصار ذروية ثم أدغم فصار ذرية و إن أخذته من الذرو أو الذري فوزنه فعولة أو فعيلة و فيه كلام كثير يطول به الكتاب ذكره ابن جني في المحتسب و النيل و اللحاق و الإدراك نظائر و النيل و النوال ما نلته من معروف إنسان و أناله معروفه و نوله أعطاه قال طرفة:

إن تنوله فقد تمنعه‏

و تريه النجم يجري بالظهر

 

و قولهم نولك أن تفعل كذا معناه حقك أن تفعل.

الإعراب‏

اللام في قوله‏ «لِلنَّاسِ» تتعلق بمحذوف تقديره إماما استقر للناس فهو صفة لإمام فلما قدمه انتصب على الحال و يجوز أن تتعلق بجاعلك و قوله‏ «إِماماً» مفعول ثان لجعل‏ «وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي» تتعلق بمحذوف تقديره و اجعل من ذريتي.

المعنى‏

«وَ» اذكروا «إِذِ ابْتَلى‏ إِبْراهِيمَ رَبُّهُ» أي اختبر و هو مجاز و حقيقته أنه أمر إبراهيم ربه و كلفه و سمي ذلك اختبار لأن ما يستعمل الأمر منا في مثل ذلك يجري على جهة الاختبار و الامتحان فأجرى على أمره اسم أمور العباد على طريق الاتساع و أيضا فإن الله تعالى لما عامل عباده معاملة المبتلي المختبر إذ لا يجازيهم على ما يعلمه منهم أنهم سيفعلونه قبل أن يقع ذلك الفعل منهم كما لا يجازى المختبر للغير ما لم يقع الفعل منه سمي أمره ابتلاء و حقيقة الابتلاء تشديد التكليف و قوله‏ «بِكَلِماتٍ» فيه خلاف‏

فروي عن الصادق‏ أنه ما ابتلاه الله به في نومه من ذبح ولده إسماعيل أبي العرب فأتمها إبراهيم و عزم عليها و سلم لأمر الله فلما عزم الله ثوابا له لما صدق و عمل بما أمره الله‏ «إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً» ثم أنزل عليه الحنيفية و هي الطهارة و هي عشرة أشياء خمسة منها في الرأس و خمسة منها في البدن فأما التي في الرأس فأخذ الشارب و إعفاء اللحى و طم الشعر و السواك و الخلال و أما التي في البدن فحلق الشعر من البدن و الختان و تقليم الأظفار و الغسل من الجنابة و الطهور بالماء فهذه الحنيفية الظاهرة التي جاء بها إبراهيم فلم تنسخ و لا تنسخ إلى يوم القيامة و هو قوله‏ وَ اتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً ذكره علي بن إبراهيم بن هاشم في تفسيره‏

و قال قتادة و هو إحدى الروايتين عن ابن عباس أنها عشر خصال كانت فرضا في شرعه سنة في شريعتنا المضمضة و الاستنشاق و فرق الرأس و قص الشارب و السواك في الرأس و الختان و حلق العانة و نتف الإبط و تقليم الأظفار و الاستنجاء بالماء في البدن و في الرواية الأخرى‏


377
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 377

عن ابن عباس أنه ابتلاه بثلاثين خصلة من شرائع الإسلام لم يبتل أحدا بها فأقامها كلها إبراهيم فأتمهن فكتب له البراءة فقال‏ وَ إِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى‏ و هي عشر في سورة براءة التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ‏ إلى آخرها و عشر في الأحزاب‏ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَ الْمُسْلِماتِ‏ إلى آخرها و عشر في سورة المؤمنين‏ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ‏ إلى قوله‏ أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ‏ و روي و عشر في سورة سَأَلَ سائِلٌ‏ إلى قوله‏ وَ الَّذِينَ هُمْ عَلى‏ صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ‏ فجعلها أربعين و في رواية ثالثة عن ابن عباس أنه أمره بمناسك الحج و قال الحسن ابتلاه الله بالكوكب و القمر و الشمس و الختان و بذبح ابنه و بالنار و بالهجرة فكلهن وفى الله فيهن و قال مجاهد ابتلاه الله بالآيات التي بعدها و هي قوله‏ «إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً» إلى آخر القصة و قال أبو علي الجبائي أراد بذلك كلما كلفه من الطاعات العقلية و الشرعية و الآية محتملة لجميع هذه الأقاويل التي ذكرناها وكان سعيد بن المسيب يقول‏

كان إبراهيم أول الناس أضاف الضيف و أول الناس اختتن و أول الناس قص شاربه و استحد و أول الناس رأى الشيب فلما رآه قال يا رب ما هذا قال هذا الوقار قال يا رب فزدني وقارا و هذا أيضا قد رواه السكوني عن أبي عبد الله‏

و لم يذكر أول من قص شاربه و استحد و زاد فيه+ و أول من قاتل في سبيل الله إبراهيم و أول من أخرج الخمس إبراهيم و أول من اتخذ النعلين إبراهيم و أول من اتخذ الرايات إبراهيم و

روى الشيخ أبو جعفر بن بابويه رحمه الله في كتاب النبوة بإسناده مرفوعا إلى المفضل بن عمر عن الصادق (ع) قال‏ سألته عن قول الله عز و جل‏ «وَ إِذِ ابْتَلى‏ إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ» ما هذه الكلمات قال هي الكلمات التي تلقاها آدم (ع) من ربه فتاب عليه و هو أنه قال يا رب أسألك بحق محمد و علي و فاطمة و الحسن و الحسين إلا تبت علي فتاب الله عليه إنه هو التواب الرحيم فقلت له يا ابن رسول الله فما يعني بقوله‏ «فَأَتَمَّهُنَّ» قال أتمهن إلى القائم اثني عشر إماما تسعة من ولد الحسين (ع) قال المفضل فقلت له يا ابن رسول الله فأخبرني عن كلمة الله عز و جل‏ وَ جَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ‏ قال يعني بذلك الإمامة جعلها الله في عقب الحسين إلى يوم القيامة فقلت له يا ابن رسول الله فكيف صارت الإمامة في ولد الحسين دون ولد الحسن (ع) و هما جميعا ولدا رسول الله ص و سبطاه و سيدا شباب أهل الجنة فقال إن موسى و هارون نبيان مرسلان أخوان فجعل الله النبوة في صلب هارون دون صلب موسى و لم يكن لأحد أن يقول لم فعل الله ذلك و أن الإمامة خلافة الله عز و جل ليس لأحد أن يقول‏

378
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 377

لم جعلها الله في صلب الحسين دون صلب الحسن لأن الله عز و جل هو الحكيم في أفعاله‏ لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَ هُمْ يُسْئَلُونَ‏

و قال الشيخ أبو جعفر بن بابويه رحمه الله و لقوله تعالى‏ «وَ إِذِ ابْتَلى‏ إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ» وجه آخر فإن الابتلاء على ضربين (أحدهما) مستحيل على الله تعالى (و الآخر) جائز فالمستحيل هو أن يختبره ليعلم ما تكشف الأيام عنه و هذا ما لا يصح لأنه سبحانه علام الغيوب و الآخر أن يبتليه حتى يصبر فيما يبتليه به فيكون ما يعطيه من العطاء على سبيل الاستحقاق و لينظر إليه الناظر فيقتدي به فيعلم من حكمة الله عز و جل أنه لم تكن أسباب الإمامة إلا إلى الكافي المستقل بها الذي كشفت الأيام عنه فأما الكلمات سوى ما ذكرناه فمنها اليقين و ذلك قوله عز و جل‏ وَ لِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ‏ و منها المعرفة بالتوحيد و التنزيه عن التشبيه حين نظر إلى الكوكب و القمر و الشمس و منها الشجاعة بدلالة قوله‏ فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ‏ و مقاومته و هو واحد ألوفا من أعداء الله تعالى و منها الحلم و قد تضمنه قوله عز و جل‏ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ‏ و منها السخاء و يدل عليه قوله‏ هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ‏ ثم العزلة عن العشيرة و قد تضمنه قوله‏ وَ أَعْتَزِلُكُمْ وَ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ‏ ثم الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و بيان ذلك في قوله‏ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَ لا يُبْصِرُ الآيات ثم دفع السيئة بالحسنة في جواب قول أبيه‏ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَ اهْجُرْنِي مَلِيًّا قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا ثم التوكل و بيان ذلك في قوله‏ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ‏ الآيات ثم المحنة في النفس حين جعل في المنجنيق و قذف به في النار ثم المحنة في الولد حين أمر بذبح ابنه إسماعيل ثم المحنة في الأهل حين خلص الله حرمته من عبادة القبطي في الخبر المشهور ثم الصبر على سوء خلق سارة ثم استقصاره النفس في الطاعة بقوله‏ وَ لا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ‏ ثم الزلفة في قوله‏ ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَ لا نَصْرانِيًّا الآية ثم الجمع لشروط الطاعات في قوله‏ إِنَّ صَلاتِي وَ نُسُكِي وَ مَحْيايَ وَ مَماتِي‏ إلى قوله‏ وَ أَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ‏ ثم استجابه الله دعوته حين قال‏ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى‏ الآية ثم اصطفاه الله سبحانه إياه في الدنيا ثم شهادته له في العاقبة أنه من الصالحين في قوله‏ وَ لَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَ إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ‏ ثم اقتداء من بعده من الأنبياء به في قوله‏ وَ وَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَ يَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى‏ لَكُمُ الدِّينَ‏ الآية و في قوله‏ ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً انتهى كلام الشيخ أبي جعفر رحمه الله و قوله‏ «فَأَتَمَّهُنَّ» معناه وفى بهن في قول الحسن و عمل بهن على التمام في قول قتادة و الضمير في أتمهن عائد إلى الله تعالى في قول أبي القاسم البلخي و هو اختيار


379
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 377

الحسين بن علي المغربي قال البلخي و الكلمات هي الإمامة على ما قاله مجاهد قال لأن الكلام متصل و لم يفصل بين قوله‏ «إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً» و بين ما تقدمه بواو العطف و أتمهن الله بأن أوجب بها الإمامة بطاعته و اضطلاعه بما ابتلاه و قوله‏ «قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً» معناه قال الله تعالى (إني جاعلك إماما يقتدى بك في أفعالك و أقوالك) لأن المستفاد من لفظ الإمام أمران (أحدهما) أنه المقتدى به في أفعاله و أقواله (و الثاني) أنه الذي يقوم بتدبير الأمة و سياستها و القيام بأمورها و تأديب جناتها و تولية ولاتها و إقامة الحدود على مستحقيها و محاربة من يكيدها و يعاديها فعلى الوجه الأول لا يكون نبي من الأنبياء إلا و هو إمام و على الوجه الثاني لا يجب في كل نبي أن يكون إماما إذ يجوز أن لا يكون مأمورا بتأديب الجناة و محاربة العداة و الدفاع عن حوزة الدين و مجاهدة الكافرين فلما ابتلى الله سبحانه إبراهيم بالكلمات فأتمهن جعله إماما للأنام جزاء له على ذلك و الدليل عليه أن قوله‏ «جاعِلُكَ» عمل في قوله‏ «إِماماً» و اسم الفاعل إذا كان بمعنى الماضي لا يعمل عمل الفعل و لو قلت أنا ضارب زيدا أمس لم يجز فوجب أن يكون المراد أنه جعله إماما إما في الحال أو في الاستقبال و النبوة كانت حاصلة له قبل ذلك و قوله‏ «قالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي» أي و اجعل من ذريتي من يوشح بالإمامة و يوشح بهذه الكرامة و قيل إنما قال ذلك على جهة التعرف ليعلم هل يكون في عقبه أئمة يقتدى بهم و الأولى أن يكون ذلك على وجه السؤال من الله تعالى أن يجعلهم كذلك و قوله‏ «قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ» قال مجاهد

العهد الإمامة و هو المروي عن أبي جعفر و أبي عبد الله (ع)

أي لا يكون الظالم إماما للناس فهذا يدل على أنه يجوز أن يعطي ذلك بعض ولده إذا لم يكن ظالما لأنه لو لم يرد أن يجعل أحدا منهم إماما للناس لوجب أن يقول في الجواب لا أو لا ينال عهدي ذريتك و قال الحسن معناه أن الظالمين ليس لهم عند الله عهد يعطيهم به خيرا و إن كانوا قد يعاهدون في الدنيا فيوفى لهم و قد كان يجوز في العربية أن يقال لا ينال عهدي الظالمون لأن ما نالك فقد نلته و قد روي ذلك في قراءة ابن مسعود و استدل أصحابنا بهذه الآية على أن الإمام لا يكون إلا معصوما عن القبائح لأن الله سبحانه نفي أن ينال عهده الذي هو الإمامة ظالم و من ليس بمعصوم فقد يكون ظالما إما لنفسه و إما لغيره فإن قيل إنما نفى أن يناله ظالم في حال ظلمه فإذا تاب لا يسمى ظالما فيصح أن يناله فالجواب أن الظالم و إن تاب فلا يخرج من أن تكون الآية قد تناولته في حال كونه ظالما فإذا نفي أن يناله فقد حكم عليه بأنه لا ينالها و الآية مطلقة غير مقيدة بوقت دون وقت‏


380
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 125] ..... ص : 381

فيجب أن تكون محمولة على الأوقات كلها فلا ينالها الظالم و إن تاب فيما بعد.

[سورة البقرة (2): آية 125]

وَ إِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَ أَمْناً وَ اتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَ عَهِدْنا إِلى‏ إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَ الْعاكِفِينَ وَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)

القراءة

قرأ نافع و ابن عامر و اتخذوا مفتوحة الخاء و قرأ الباقون‏ «وَ اتَّخِذُوا» مكسورة الخاء.

الحجة

من قرأ بكسر الخاء فإنه على الأمر و الإلزام و يكون عطفا على قوله‏ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا و يجوز أن يكون عطفا على قوله‏ «وَ إِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ» من طريق المعنى لأن معناه ثوبوا و اتخذوا و من قرأ بالفتح عطفه على ما تقدمه من الفعل الذي أضيف إليه إذ فكأنه قال و إذ اتخذوا.

اللغة

البيت و المأوى و المنزل نظائر و البيت من أبيات الشعر سمي بذلك لضمه الحروف و الكلام كما يضم البيت من بيوت الناس أهله و البيت من بيوتات العرب و هي أحياؤها و امرأة الرجل بيته قال الراجز:

ما لي إذا أجذبها صائت‏

أ كبر قد غالني أم بيت‏

 

المثابة هاهنا الموضع الذي يثاب إليه من ثاب يثوب مثابة و مثابا و ثؤبا إذا رجع قال ورقة بن نوفل في صفة الحرم:

مثاب لإفناء القبائل كلها

تخب إليها اليعملات الطلائح‏

 

و منه ثاب إليه عقله أي رجع بعد عزوبه و أصل مثابة مثوبة نقلت حركة الواو إلى الثاء ثم قلبت ألفا على ما قبلها و قيل إن التاء فيه للمبالغة كما قيل نسابة و قيل إن معناهما واحد


381
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 382

كمقامة و مقام قال زهير:

و فيهم مقامات حسان وجوهها

و أندية ينتابها القول و الفعل‏

 

و جمع المقام مقاوم قال:

و إني لقوام مقاوم لم يكن‏

جرير و لا مولى جرير يقومها

 

و الطائف و الجائل و الداثر نظائر و يقال طاف يطوف طوفا إذا دار حول الشي‏ء و أطاف به إطافة إذا ألم به و أطاف به إذا أحاط به و الطائف العاس و الطوافون المماليك و الطائف طائف الجن و الشيطان و هو كل شي‏ء يغشى القلب من وسواسه و هو طيف أيضا و العاكف المقيم على الشي‏ء اللازم له و عكف يعكف عكفا و عكوفا قال النابغة:

عكوف على أبياتهم يثمدونها

رمى الله في تلك الأكف الكوانع‏

 

و العاكف المعتكف في المسجد و قل ما يقولون عكف و إنما يقولون اعتكف و الركع جمع الراكع و السجود جمع الساجد و كل فعل مصدره على فعول جاز في جمع الفاعل منه أن يكون على فعول كالقعود و الركوع و السجود و نحوها.

المعنى‏

قوله‏ «وَ إِذْ جَعَلْنَا» عطف على قوله‏ وَ إِذِ ابْتَلى‏ و ذلك معطوف على قوله‏ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ‏ و «الْبَيْتَ» الذي جعله الله مثابة هو البيت الحرام و هو الكعبة و روي أنه سمي البيت الحرام لأنه حرم على المشركين أن يدخلوه و سمي الكعبة لأنها مربعة و صارت مربعة لأنها بحذاء البيت المعمور و هو مربع و صار البيت المعمور مربعا لأنه بحذاء العرش و هو مربع و صار العرش مربعا لأن الكلمات التي بني عليها الإسلام أربع و هي سبحان الله و الحمد لله و لا إله إلا الله و الله أكبر و قوله‏ «مَثابَةً لِلنَّاسِ» ذكر فيه وجوه فقيل أن الناس يثوبون إليه كل عام أي ليس هو مرة في الزمان فقط على الناس عن الحسن و قيل معناه أنه لا ينصرف منه أحد و هو يرى أنه قد قضى منه وطرا فهم يعودون إليه عن ابن عباس‏

و قد ورد في الخبر أن من رجع من مكة و هو ينوي الحج من‏


382
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[القصة] ..... ص : 383

قابل زيد في عمره و من خرج من مكة و هو لا ينوي العود إليها فقد قرب أجله‏

و قيل معناه يحجون إليه فيثابون عليه و قيل مثابة معاذا و ملجأ و قيل مجمعا و المعنى في الكل يؤول إلى أنهم يرجعون إليه مرة بعد مرة و قوله‏ «وَ أَمْناً» أراد مأمنا أي موضع أمن و إنما جعله الله أمنا بأن حكم أن من عاذ به و التجأ إليه لا يخاف على نفسه ما دام فيه و بما جعله في نفوس العرب من تعظيمه حتى كانوا لا يتعرضون من فيه فهو آمن على نفسه و ماله و إن كانوا يتخطفون الناس من حوله و لعظم حرمته لا يقام في الشرع الحد على من جنى جناية فالتجأ إليه و إلى حرمه لكن يضيق عليه في المطعم و المشرب و البيع و الشراء حتى يخرج منه فيقام عليه الحد فإن أحدث فيه ما يوجب الحد أقيم عليه الحد فيه لأنه هتك حرمة الحرم فهو آمن من هذه الوجوه و كان قبل الإسلام يرى الرجل قاتل أبيه في الحرم فلا يتعرض له و هذا شي‏ء كانوا قد توارثوه من دين إسماعيل فبقوا عليه إلى أيام نبينا ص و قوله‏ «وَ اتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى» قال ابن عباس الحج كله مقام إبراهيم و قال عطاء مقام إبراهيم عرفة و المزدلفة و الجمار و قال مجاهد الحرم كله مقام إبراهيم و قال الحسن و قتادة و السدي‏

هو الصلاة عند مقام إبراهيم أمرنا بالصلاة عنده بعد الطواف‏ و هو المروي عن الصادق (ع)

و قد سئل عن الرجل يطوف بالبيت طواف الفريضة و نسي أن يصلي ركعتين عند مقام إبراهيم فقال يصليها و لو بعد أيام أن الله تعالى قال‏ «وَ اتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى» و هذا هو الظاهر لأن مقام إبراهيم إذا أطلق لا يفهم منه إلا المقام المعروف الذي هو في المسجد الحرام و في المقام دلالة ظاهرة على نبوة إبراهيم (ع) فإن الله جعل الحجر تحت قدميه كالطين حتى دخلت قدمه فيه و كان في ذلك معجزة له و

روي عن أبي جعفر الباقر (ع) أنه قال‏ نزلت ثلاثة أحجار من الجنة مقام إبراهيم و حجر بني إسرائيل و الحجر الأسود استودعه الله إبراهيم (ع) حجرا أبيض و كان أشد بياضا من القراطيس فاسود من خطايا بني آدم.

[القصة]

ابن عباس قال‏ لما أتى إبراهيم بإسماعيل و هاجر فوضعهما بمكة و أتت على ذلك مدة و نزلها الجرهميون و تزوج إسماعيل امرأة منهم و ماتت هاجر و استأذن إبراهيم سارة أن يأتي هاجر فأذنت له و شرطت عليه أن لا ينزل فقدم إبراهيم (ع) و قد ماتت هاجر فذهب إلى بيت إسماعيل فقال لامرأته أين صاحبك قالت ليس هنا ذهب يتصيد و كان إسماعيل يخرج من الحرم فيصيد ثم يرجع فقال لها إبراهيم هل عندك ضيافة قالت ليس عندي شي‏ء و ما عندي أحد فقال لها إبراهيم إذا جاء زوجك فأقرئيه السلام و قولي له فليغير عتبة بابه و ذهب إبراهيم (ع) فجاء إسماعيل (ع) فوجد ريح أبيه فقال لامرأته هل‏


383
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[القصة] ..... ص : 383

جاءك أحد قالت جاءني شيخ صفته كذا و كذا كالمستخفة بشأنه قال فما قال لك قالت قال لي أقرئي زوجك السلام و قولي له فليغير عتبة بابه فطلقها و تزوج أخرى فلبث إبراهيم ما شاء الله أن يلبث ثم استأذن سارة أن يزور إسماعيل فأذنت له و اشترطت عليه أن لا ينزل فجاء إبراهيم حتى انتهى إلى باب إسماعيل فقال لامرأته أين صاحبك قالت ذهب يتصيد و هو يجي‏ء الآن إن شاء الله فانزل يرحمك الله قال لها هل عندك ضيافة قالت نعم فجاءت باللبن و اللحم فدعا لهما بالبركة فلو جاءت يومئذ بخبز أو بر أو شعير أو تمر لكان أكثر أرض الله برا و شعيرا و تمرا فقالت له أنزل حتى أغسل رأسك فلم ينزل فجاءت بالمقام فوضعته على شقه الأيمن فوضع قدمه عليه فبقي أثره فغسلت شق رأسه الأيمن ثم حولت المقام إلى شقه الأيسر فغسلت شق رأسه الأيسر فبقي أثر قدمه عليه فقال لها إذا جاء زوجك فأقرئيه السلام و قولي له قد استقامت عتبة بابك فلما جاء إسماعيل (ع) وجد ريح أبيه فقال لامرأته هل جاءك أحد قالت نعم شيخ أحسن الناس وجها و أطيبهم ريحا فقال لي كذا و كذا و قلت له كذا و غسلت رأسه و هذا موضع قدميه على المقام فقال إسماعيل لها ذاك إبراهيم (ع) و قد روي هذه القصة بعينها علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن أبان عن الصادق (ع) و إن اختلف بعض ألفاظه و قال في آخرها إذا جاء زوجك فقولي له جاء هاهنا شيخ و هو يوصيك بعتبة بابك خيرا قال فأكب إسماعيل على المقام يبكي و يقبله‏

و

في رواية أخرى عنه (ع) أن إبراهيم استأذن سارة أن يزور إسماعيل فأذنت له أن لا يلبث عنها و أن لا ينزل من حماره فقيل له كيف كان ذلك فقال إن الأرض طويت له‏

و

روى عبد الله بن عمر عن رسول الله ص قال‏ الركن و المقام ياقوتتان من ياقوت الجنة طمس الله نورهما و لو لا أن نورهما طمس لأضاءا ما بين المشرق و المغرب‏

و قوله‏ «مُصَلًّى» فيه أقوال قيل مدعى من صليت أي دعوت عن مجاهد و قيل قبلة عن الحسن و

قيل موضع صلاة فأمر أن يصلي عنده عن قتادة و السدي‏ و هذا هو المروي عن أئمتنا (ع)

و استدل أصحابنا به على أن صلاة الطواف فريضة مثل الطواف لأن الله تعالى أمر بذلك و ظاهر الأمر يقتضي الوجوب و لا صلاة واجبة عند مقام إبراهيم غير صلاة الطواف بلا خلاف و قوله‏ «وَ عَهِدْنا إِلى‏ إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ» أي أمرناهما


384
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 126] ..... ص : 385

 

و ألزمناهما «أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ» أي قلنا لهما أن طهرا بيتي لأن أن هذه هي المفسرة التي تكون عبارة عن القول إذا صاحبت من الألفاظ ما يتضمن معنى القول كقوله سبحانه‏ «عَهِدْنا» هنا و ذكر في التطهير هنا وجوه (أحدها) أن المراد طهرا من الفرث و الدم الذي كان يطرحه المشركون عند البيت قبل أن يصير في يد إبراهيم و إسماعيل عن الجبائي (و ثانيها) أن المراد طهراه من الأصنام التي كانوا يعلقونها على باب البيت قبل إبراهيم عن مجاهد و قتادة (و ثالثها) أن المراد طهراه بنيانا بكماله على الطهارة كما قال سبحانه‏ أَ فَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى‏ تَقْوى‏ مِنَ اللَّهِ وَ رِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى‏ شَفا جُرُفٍ هارٍ و إنما أضاف البيت إلى نفسه تفضيلا له على سائر البقاع و تمييزا و تخصيصا و قوله‏ «لِلطَّائِفِينَ وَ الْعاكِفِينَ» أكثر المفسرين على أن الطائفين هم الدائرون حول البيت و العاكفين هم المجاورون للبيت و قال سعيد بن جبير أن الطائفين هم الطارئون على مكة من الآفاق و العاكفين هم المقيمون فيها و قال ابن عباس العاكفون المصلون و الأول أصح لأنه المفهوم من إطلاق اللفظ و قوله‏ «وَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ» قيل هم المصلون عند البيت يركعون و يسجدون عن قتادة و قيل هم جميع المسلمين لأن من شأن المسلمين الركوع و السجود عن الحسن و قال عطاء إذا طاف به فهو من الطائفين و إذا جلس فهو من العاكفين و إذا صلى فهو من الركع السجود

قال رسول الله ص‏ إن الله عز و جل في كل يوم و ليلة عشرين و مائة رحمة تنزل على هذا البيت ستون منها للطائفين و أربعون للعاكفين و عشرون للناظرين.

[سورة البقرة (2): آية 126]

وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَ ارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَ مَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى‏ عَذابِ النَّارِ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ (126)

القراءة

قرأ ابن عامر فأمتعه بسكون الميم خفيفة من أمتعت و الباقون بالتشديد و فتح الميم من متعت و روي في الشواذ عن ابن عباس فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب‏

 

 

 

385
مجمع البيان في تفسير القرآن1

الحجة ..... ص : 386

النار على الدعاء من إبراهيم (ع) و عن ابن محيصن ثم أطره بإدغام الضاد في الطاء.

الحجة

قال أبو علي التشديد في‏ «فَأُمَتِّعُهُ» أولى لأن التنزيل عليه قال سبحانه‏ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً و كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا و وجه قراءة ابن عامر إن أمتع لغة قال الراعي:

خليلين من شعبين شتى تجاورا

قديما و كانا بالتفرق أمتعا

 

قال أبو زيد أمتعا أراد تمتعا فأما قراءة ابن عباس فأمتعه فيحتمل أمرين من ابن جني (أحدهما) أن يكون الضمير في قال لإبراهيم أي قال إبراهيم أيضا و من كفر فأمتعه يا رب و حسن إعادة قال لطول الكلام و لأنه انتقل من الدعاء لقوم إلى الدعاء على آخرين و الآخر أن يكون الضمير في قال لله تعالى أي فأمتعه يا خالق أو يا إله يخاطب بذلك نفسه عز و جل فجرى ذلك على ما تعتاده العرب من أمر الإنسان لنفسه كقول الأعشى:

ودع هريرة إن الركب مرتحل‏

و هل تطيق وداعا أيها الرجل.

 

اللغة

البلد و المصر و المدينة نظائر و أصله من قولهم بلد للأثر في الجلد و غيره و جمعه أبلاد و من ذلك سميت البلاد لأنها مواضع مواطن الناس و تأثيرهم و من ذلك قولهم لكركرة البعير بلدة لأنه إذا برك تأثرت و الاضطرار هو الفعل في الغير على وجه لا يمكنه الانفكاك منه إذا كان من جنس مقدوره و لهذا لا يقال فلان مضطر إلى لونه و إن كان لا يمكنه دفعه عن نفسه لما لم يكن اللون من جنس مقدوره و يقال هو مضطر إلى حركة الفالج و حركة العروق لما كانت الحركة من جنس مقدوره و المصير الحال التي يؤدي إليها أول لها و صار و حال و آل نظائر و صير كل أمر مصيره و صير الباب شقة و

في الحديث‏ من نظر في صير باب فقد دمر

و صيور الأمر آخره.

الإعراب‏

قوله‏ «مَنْ آمَنَ» محله نصب لأنه بدل من أهله و هو بدل البعض من الكل كما تقول أخذت المال ثلثه و جعلت متاعك بعضه على بعض و قوله‏ «وَ مَنْ كَفَرَ» يجوز أن يكون موصولا و صلة في موضع الرفع على الابتداء و يجوز أن يكون من أسماء الشرط في موضع رفع بالابتداء و كفر شرطه و «فَأُمَتِّعُهُ» الفاء و ما بعده جزاء و معنى حرف الشرط الذي تضمنه من مع الشرط و الجزاء في موضع خبر المبتدأ و على القول الأول فالفاء و ما بعده خبر المبتدأ «وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ» فعل و فاعل في موضع الرفع لأنه خبر مبتدإ


386
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 387

محذوف تقديره و بئس المصير النار أو العذاب و انتصب قليلا على أحد وجهين (أحدهما) أن يكون صفة للمصدر نحو قوله‏ مَتاعاً حَسَناً قال سيبويه ترى الرجل يعالج شيئا فيقول رويدا أي علاجا رويدا و إنما وصفه بالقلة مع أن التمتيع يدل على التكثير من حيث كان إلى نفاد و نقص و تناه كقوله سبحانه‏ قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ‏ (و الثاني) أن يكون وصفا للزمان أي زمانا قليلا و يدل عليه قوله سبحانه‏ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ‏ و تقديره بعد زمان قليل كما يقال عرق عن الحمى و أطعمه عن الجوع أي بعد الحمى و بعد الجوع.

المعنى‏

«وَ» اذكر «إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا» أي هذا البلد يعني مكة «بَلَداً آمِناً» أي ذا أمن كما يقال بلد آهل أي ذو أهل و قيل معناه يأمنون فيه كما يقال ليل نائم أي ينام فيه قال ابن عباس يريد حراما محرما لا يصاد طيره و لا يقطع شجرة و لا يختلى خلاؤه و إلى هذا المعنى يؤول ما

روي عن الصادق (ع) من قوله‏ من دخل الحرم مستجيرا به فهو آمن من سخط الله عز و جل و من دخله من الوحش و الطير كان آمنا من أن يهاج أو يؤذى حتى يخرج من الحرم‏

و

قال رسول الله ص‏ يوم فتح مكة أن الله تعالى حرم مكة يوم خلق السموات و الأرض فهي حرام إلى أن تقوم الساعة لم تحل لأحد قبلي و لا تحل لأحد من بعدي و لم تحل لي إلا ساعة من النهار

فهذا الخبر و أمثاله المشهورة في روايات أصحابنا تدل على أن الحرم كان آمنا قبل دعوة إبراهيم (ع) و إنما تأكدت حرمته بدعائه (ع) و قيل إنما صار حرما بدعائه (ع) و قبل ذلك كان كسائر البلاد و استدل عليه‏

بقول النبي ص‏ إن إبراهيم حرم مكة و إني حرمت المدينة

و قيل كانت مكة حراما قبل الدعوة بوجه غير الوجه الذي صارت به حراما بعد الدعوة فالأول بمنع الله إياها من الاصطلام و الائتفاك كما لحق ذلك غيرها من البلاد و بما جعل ذلك في النفوس من تعظيمها و الهيبة لها و (الثاني) بالأمر بتعظيمه على ألسنة الرسل فأجابه الله تعالى إلى ما سأل و إنما سأله أن يجعلها آمنة من الجدب و القحط لأنه أسكن أهله بواد غير ذي زرع و لا ضرع و لم يسأله أمنها من الائتفاك و الخسف الذي كان حاصلا لها و قيل أنه (ع) سأله الأمرين على أن يديمهما و إن كان أحدهما مستأنفا و الآخر قد كان قبل و قوله‏ «وَ ارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ» أي أعط من أنواع الرزق و الثمرات‏ «مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ» سأل لهم الثمرات ليجتمع لهم الأمن و الخصب فيكونوا في رغد من العيش و

روي عن أبي جعفر (ع) أن المراد بذلك أن الثمرات تحمل إليهم من‏


387
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 127] ..... ص : 388

الآفاق‏

و

روي عن الصادق (ع) قال‏ هي ثمرات القلوب أي حببهم إلى الناس ليثوبوا إليهم‏

و إنما خص بذلك من آمن بالله لأن الله تعالى قد أعلمه أنه يكون في ذريته الظالمون في جواب مسألته إياه لذريته الإمامة بقوله‏ «لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ» فخص بالدعاء في الرزق المؤمنين تأدبا بأدب الله تعالى و قيل أنه (ع) ظن أنه إذا دعا للكفار بالرزق أنهم يكثرون بمكة و يفسدون فربما يصدون الناس عن الحج فخص بالدعاء أهل الإيمان و قوله‏ «قالَ وَ مَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا» أي قال الله سبحانه قد استجبت دعوتك فيمن آمن منهم و من كفر فأمتعه بالرزق الذي أرزقه إلى وقت مماته و قيل فأمتعه بالبقاء في الدنيا و قيل أمتعه بالأمن و الرزق إلى خروج محمد ص فيقتله إن أقام على كفره أو يجليه عن مكة عن الحسن‏ «ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى‏ عَذابِ النَّارِ» أي أدفعه إلى النار و أسوقه إليها في الآخرة «وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ» أي المرجع و المأوى و المال.

[سورة البقرة (2): آية 127]

وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَ إِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127)

اللغة

الرفع و الإعلاء و الإصعاد نظائر و نقيض الرفع الوضع و نقيض الإصعاد الإنزال يقال رفع يرفع رفعا و ارتفع الشي‏ء نفسه و المرفوع من عدو الفرس دون الحضر و فوق الموضوع يقال ارفع من دابتك و الرفع نقيض الخفض في كل شي‏ء و الرفعة نقيض الذلة و القواعد و الأساس و الأركان نظائر و واحد القواعد قاعدة و أصله في اللغة الثبوت و الاستقرار فمن ذلك القاعدة من الجبل و هي أصله و قاعدة البناء أساسه الذي بني عليه و امرأة قاعدة إذا أتت عليها سنون لم تتزوج و إذا لم تحمل المرأة أو النخلة قيل قد قعدت فهي قاعدة و جمعها قواعد و تأويله أنها قد ثبتت على ترك الحمل و إذا قعدت عن الحيض فهي قاعدة بغيرها لأنه لا فعل لها في قعودها عن الحيض و قعدت المرأة إذا أتت بأولاد لئام فهي قاعدة و قيل في أن واحدة النساء القواعد قاعد قولان (أحدهما) أنها من الصفات المختصة بالمؤنث نحو الطالق و الحائض فلم يحتج إلى علامة التأنيث (و الآخر) و هو الصحيح أن ذلك على معنى النسبة أي ذات قعود كما يقال نابل و دارع أي ذو نبل و ذو درع و لا يراد بذلك تثبيت الفعل.

الإعراب‏

قوله‏ «مِنَ الْبَيْتِ» الجار و المجرور يتعلق بيرفع أو بمحذوف فيكون في‏


388
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 389

محل النصب على الحال و ذو الحال القواعد و موضع الجملة من قوله‏ «رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا» نصب بقول محذوف كأنه قال يقولان ربنا تقبل منا و اتصل بما قبله لأنه من تمام الحال لأن يقولان في موضع الحال.

المعنى‏

ثم بين سبحانه كيف بنى إبراهيم البيت فقال‏ «وَ إِذْ يَرْفَعُ» و تقديره و اذكر إذ يرفع‏ «إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ» أي أصول البيت التي كانت قبل ذلك عن ابن عباس و عطاء قالا

قد كان آدم (ع) بناه ثم عفا أثره فجدده إبراهيم (ع) و هذا هو المروي عن أئمتنا (ع)

و قال مجاهد بل أنشأه إبراهيم (ع) بأمر الله عز و جل و كان الحسن يقول أول من حج البيت إبراهيم و في روايات أصحابنا أن أول من حج البيت آدم (ع) و ذلك يدل على أنه كان قبل إبراهيم و

روي عن الباقر أنه قال‏ أن الله تعالى وضع تحت العرش أربع أساطين و سماه الضراح و هو البيت المعمور و قال للملائكة طوفوا به ثم بعث ملائكة فقال ابنوا في الأرض بيتا بمثال و قدره و أمر من في الأرض أن يطوفوا بالبيت‏

و في كتاب العياشي بإسناده عن الصادق قال‏ أن الله أنزل الحجر الأسود من الجنة لآدم و كان البيت درة بيضاء فرفعه الله تعالى إلى السماء و بقي أساسه فهو حيال هذا البيت و قال يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يرجعون إليه أبدا فأمر الله سبحانه إبراهيم و إسماعيل أن يبنيا البيت على القواعد

و

عن أمير المؤمنين (ع) أن أول شي‏ء نزل من السماء إلى الأرض لهو البيت الذي بمكة أنزله الله ياقوتة حمراء ففسق قوم نوح في الأرض فرفعه‏

و قوله‏ «وَ إِسْماعِيلُ» أي يرفع إبراهيم و إسماعيل أساس الكعبة يقولان ربنا تقبل منا و في حرف عبد الله بن مسعود و يقولان ربنا تقبل منا و مثله قوله سبحانه‏ وَ الْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ‏ أي يقولون سلام عليكم‏ وَ الْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ‏ أي يقولون و قال بعضهم تقديره يقول ربنا برده إلى إبراهيم (ع) قال لأن إبراهيم وحده رفع القواعد من البيت و كان إسماعيل صغيرا في وقت رفعها و هو شاذ غير مقبول لشذوذه فإن الصحيح أن إبراهيم و إسماعيل كانا يبنيان الكعبة جميعا و قيل كان إبراهيم يبني و إسماعيل يناوله الحجر فوصفا بأنهما رفعا البيت عن ابن عباس و في قوله‏ «رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا» دليل على أنهما بنيا الكعبة مسجدا لا مسكنا لأنهما التمسا الثواب عليه و الثواب إنما يطلب على الطاعة و معنى‏ «تَقَبَّلْ مِنَّا» أثبنا على عمله و هو مشبه بقبول الهدية فإن الملك إذا قبل الهدية من إنسان أثابه على ذلك و قوله‏ «إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» أي أنت السميع لدعائنا العليم بنا و بما يصلحنا و

روي عن الباقر أن إسماعيل أول من شق‏


389
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[قصة مهاجرة إسماعيل و هاجر] ..... ص : 390

لسانه بالعربية و كان أبوه يقول له و هما يبنيان البيت يا إسماعيل هات ابن أي أعطني حجرا فيقول له إسماعيل بالعربية يا أبة هاك حجرا فإبراهيم يبني و إسماعيل يناوله الحجارة

و في هذه الآية دلالة على أن الدعاء عند الفراغ من العبادة مرغب فيه مندوب إليه كما فعله إبراهيم و إسماعيل (ع).

[قصة مهاجرة إسماعيل و هاجر]

روى علي بن إبراهيم بن هاشم عن أبيه عن النضر بن سويد عن هشام عن الصادق قال‏ إن إبراهيم كان نازلا في بادية الشام فلما ولد له من هاجر إسماعيل اغتمت سارة من ذلك غما شديدا لأنه لم يكن له منها ولد فكانت تؤذي إبراهيم في هاجر و تغمه فشكا ذلك إبراهيم إلى الله عز و جل فأوحى الله إليه إنما مثل المرأة مثل الضلع المعوج إن تركته استمتعت به و إن رمت أن تقيمه كسرته و قد قال القائل في ذلك:

هي الضلع العوجاء لست تقيمها

ألا إن تقويم الضلوع انكسارها

 

ثم أمره أن يخرج إسماعيل و أمه عنها فقال أي رب إلى أي مكان قال إلى حرمي و أمني و أول بقعة خلقتها من أرضي و هي مكة و أنزل عليه جبرائيل بالبراق فحمل هاجر و إسماعيل و إبراهيم فكان إبراهيم لا يمر بموضع حسن فيه شجر و نخل و زرع إلا قال يا جبرائيل إلى هاهنا إلى هاهنا فيقول جبرائيل لا امض لا امض حتى وافى مكة فوضعه في موضع البيت و قد كان إبراهيم عاهد سارة أن لا ينزل حتى يرجع إليها فلما نزلوا في ذلك المكان كان فيه شجر فألقت هاجر على ذلك الشجر كساء كان معها فاستظلت تحته فلما سرحهم إبراهيم و وضعهم و أراد الانصراف عنهم إلى سارة قالت له هاجر لم تدعنا في هذا الموضع الذي ليس فيه أنيس و لا ماء و لا زرع فقال إبراهيم ربي الذي أمرني أن أضعكم في هذا المكان ثم انصرف عنهم فلما بلغ كدى و هو جبل بذي طوى التفت إليهم إبراهيم فقال‏ رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ‏ إلى قوله‏ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ‏ ثم مضى و بقيت هاجر فلما ارتفع النهار عطش إسماعيل فقامت هاجر في الوادي حتى صارت في موضع المسعى فنادت هل في الوادي من أنيس فغاب عنها إسماعيل فصعدت على الصفا و لمع لها السراب في الوادي و ظنت أنه ماء فنزلت في بطن الوادي و سعت فلما بلغت المروة غاب عنها إسماعيل ثم لمع لها السراب في ناحية الصفا و هبطت إلى الوادي‏


390
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[قصة مهاجرة إسماعيل و هاجر] ..... ص : 390

تطلب الماء فلما غاب عنها إسماعيل عادت حتى بلغت الصفا فنظرت إلى إسماعيل حتى فعلت ذلك سبع مرات فلما كان في الشوط السابع و هي على المروة نظرت إلى إسماعيل و قد ظهر الماء من تحت رجليه فعدت حتى جمعت حوله رملا و أنه كان سائلا فزمته بما جعلت حوله فلذلك سميت زمزم و كانت جرهم نازلة بذي المجاز و عرفات فلما ظهر الماء بمكة عكفت الطير و الوحوش على الماء فنظرت جرهم إلى تعكف الطير على ذلك المكان فاتبعوها حتى نظروا إلى امرأة و صبي نزول في ذلك الموضع قد استظلوا بشجرة قد ظهر لهم الماء فقال لهم جرهم من أنت و ما شأنك و شأن هذا الصبي قالت أنا أم ولد إبراهيم خليل الرحمن (ع) و هذا ابنه أمره الله أن ينزلنا هاهنا فقالوا لها أ تأذنين أن نكون بالقرب منكم فقالت حتى أسأل إبراهيم قال فزارهما إبراهيم يوم الثالث فقالت له هاجر يا خليل الله إن هاهنا قوما من جرهم يسألونك أن تأذن لهم حتى يكونوا بالقرب منا أ فتأذن لهم في ذلك فقال إبراهيم نعم فأذنت هاجر لجرهم فنزلوا بالقرب منهم و ضربوا خيامهم و أنست هاجر و إسماعيل بهم فلما زارهم إبراهيم في المرة الثانية و نظر إلى كثرة الناس حولهم سر بذلك سرورا شديدا فلما تحرك إسماعيل و كانت جرهم قد وهبوا لإسماعيل كل واحد منهم شاة و شاتين و كانت هاجر و إسماعيل يعيشان بها فلما بلغ مبلغ الرجال أمر الله تعالى إبراهيم أن يبني البيت فقال يا رب في أي بقعة قال في البقعة التي أنزلت على آدم القبة فأضاءت الحرم قال و لم تزل القبة التي أنزلها الله على آدم قائمة حتى كان أيام الطوفان في زمان نوح فلما غرقت الدنيا رفع الله تلك القبة و غرقت الدنيا و لم تغرق مكة فسمي البيت العتيق لأنه أعتق من الغرق فلما أمر الله عز و جل إبراهيم أن يبني البيت لم يدر في أي مكان يبنيه فبعث الله جبرائيل فخط له موضع البيت و أنزل عليه القواعد من الجنة و كان الحجر الذي أنزله الله على آدم أشد بياضا من الثلج فلما مسته أيدي الكفار أسود قال فبنى إبراهيم البيت و نقل إسماعيل الحجر من ذي طوى فرفعه في السماء تسعة أذرع ثم دله على موضع الحجر فاستخرجه إبراهيم و وضعه في موضعه الذي هو فيه و جعل له بابين بابا إلى المشرق و بابا إلى المغرب فالباب الذي إلى المغرب يسمى المستجار ثم ألقى عليه الشيح و الإذخر و علقت هاجر على بابه كساء كان معها فكانوا يكونون تحته فلما بناه و فرغ حج إبراهيم و إسماعيل و نزل عليهما جبرائيل يوم التروية لثمان خلت من ذي الحجة فقال يا إبراهيم قم فارتو من الماء لأنه لم يكن بمنى و عرفات ماء فسميت التروية لذلك ثم‏


391
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 128] ..... ص : 392

أخرجه إلى منى فبات بها ففعل به ما فعل بآدم فقال إبراهيم لما فرغ من بناء البيت‏ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَ ارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ‏ الآية.

[سورة البقرة (2): آية 128]

رَبَّنا وَ اجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَ أَرِنا مَناسِكَنا وَ تُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128)

القراءة

قرأ ابن كثير أرنا بإسكان الراء كل القرآن و وافقه ابن عامر و أبو بكر عن عاصم في السجدة ربنا أرنا الذين و قرأ أبو عمرو بالاختلاس لكسرة الراء من غير إشباع كل القرآن و الباقون بالكسر.

الحجة

الاختيار كسرة الراء لأنها كسرة الهمزة قد حولت إلى الراء لأن أصله أرانا فنقلت الكسرة إلى الراء و سقطت الهمزة و لأن في إسكان الراء بعد سقوط الهمزة إجحافا بالكلمة و إبطالا للدلالة على الهمزة و من سكنه فعلى وجه التشبيه بما يسكن في مثل كبد و فخذ و نحو قول الشاعر:

(لو عصر منه ألبان و المسك انعصر)

 

و قال الآخر:

قالت سليمى اشتر لنا سويقا

و اشتر و عجل خادما لبيقا

 

و أما الاختلاس فلطلب الخفة و بقاء الدلالة على حذف الهمزة.

اللغة

الإسلام هو الانقياد لأمر الله تعالى بالخضوع و الإقرار بجميع ما أوجب الله و هو و الإيمان واحد عندنا و عند المعتزلة و في الناس من قال بينهما فرق و يبطله قوله سبحانه‏ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ‏ و مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ‏ و المناسك هاهنا المتعبدات قال الزجاج كل متعبد منسك و النسك في اللغة العبادة و رجل ناسك عابد و قد نسك نسكا و النسك الذبيحة يقال من فعل كذا فعليه نسك أي دم يهريقه و النسيكة الذبيحة و المنسك الموضع الذي تذبح فيه النسائك و المنسك أيضا هو النسك نفسه قال سبحانه‏ وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً و قال ابن دريد النسك أصله الذبائح كانت تذبح في الجاهلية و النسيكة شاة كانوا يذبحونها في المحرم في الإسلام ثم نسخ ذلك بالأضاحي قال الأعشى:


392
مجمع البيان في تفسير القرآن1

الإعراب ..... ص : 393

 

و ذا النصب المنصوب لا تنسكنه‏

و لا تعبد الشيطان و الله فاعبدا

 

قال أبو علي الفسوي المناسك جمع منسك و هو المصدر جمع لاختلاف ضروبه.

الإعراب‏

اللام في لك تعلق بمسلمين‏ «وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنا» من فيه تتعلق بمحذوف تقديره و اجعل من ذريتنا و الجار و المجرور مفعول اجعل و أمة مفعول ثان لأجعل و أرنا يحتمل وجهين (أحدهما) أن يكون منقولا من رأيت الذي هو بمعنى إدراك البصر نقلت بالهمزة فتعدت إلى مفعولين و التقدير حذف المضاف كأنه قال أرنا مواضع مناسكنا أي عرفناها لنقضي نسكنا فيها و ذلك نحو مواقيت الإحرام و الموقف بعرفات و موضع الطواف فهذا من رأيت الموضع و أريته إياه (و الآخر) أن يكون منقولا من نحو قولهم فلان يرى رأي الخوارج فيكون معناه علمنا مناسكنا و مثله قول الشاعر:

أريني جوادا مات هزلا لعلني‏

أرى ما ترين أو بخيلا مخلدا

 

أراد دليني و لم يرد رؤية العين.

المعنى‏

ثم ذكر تمام دعائهما (ع) فقال سبحانه: «رَبَّنا وَ اجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ» أي قال ربنا و اجعلنا مسلمين في مستقبل عمرنا كما جعلتنا مسلمين في ماضي عمرنا بأن توفقنا و تفعل بنا الألطاف التي تدعونا إلى الثبات على الإسلام و يجري ذلك مجرى أن يؤدب أحدنا ولده و يعرضه لذلك حتى صار أديبا فيجوز أن يقال جعل ولده أديبا و عكس ذلك إذا عرضه للبلاء و الفساد جاز أن يقال جعله ظالما فاسدا و قيل أن معنى مسلمين موحدين مخلصين لك لا نعبد إلا إياك و لا ندعو ربا سواك و قيل قائمين بجميع شرائع الإسلام مطيعين لك لأن الإسلام هو الطاعة و الانقياد و الخضوع و ترك الامتناع و قوله‏ «وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ» أي و اجعل من ذريتنا أي من أولادنا و من للتبعيض و إنما خصا بعضهم لأنه تعالى أعلم إبراهيم (ع) أن في ذريته من لا ينال عهده الظالمين لما يرتكبه من الظلم و قال السدي أراد بذلك العرب و الصحيح الأول أمة مسلمة لك أي جماعة موحدة منقادة لك يعني أمة محمد ص بدلالة قوله‏ وَ ابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ‏ و

روي عن الصادق‏ أن المراد بالأمة بنو هاشم خاصة

و قوله‏ «وَ أَرِنا مَناسِكَنا» أي عرفنا هذه المواضع التي تتعلق النسك بها لنفعله عندها و نقضي عباداتنا فيها على حد ما يقتضيه توفيقنا عليها قال قتادة فأراهما الله مناسكهما الطواف بالبيت و السعي بين الصفا و المروة و الإفاضة من عرفات و من جمع و رمي الجمار حتى أكمل بها الدين و قال‏


393
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 129] ..... ص : 394

عطاء و مجاهد معنى مناسكنا مذابحنا و الأول أقوى و قوله‏ «وَ تُبْ عَلَيْنا» فيه وجوه (أحدها) أنهما قالا هذه الكلمة على وجه التسبيح و التعبد و الانقطاع إلى الله سبحانه ليقتدي بهما الناس فيها و هذا هو الصحيح (و ثانيها) أنهما سألا التوبة على ظلمة ذريتهما (و ثالثها) أن معناه ارجع إلينا بالمغفرة و الرحمة و ليس فيه دلالة على جواز الصغيرة عليهم أو ارتكاب القبيح منهم لأن الدلائل القاهرة قد دلت على أن الأنبياء معصومون منزهون عن الكبائر و الصغائر و ليس هنا موضع بسط الكلام في ذلك‏ «إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ» أي القابل للتوبة من عظائم الذنوب و قيل الكثير القبول للتوبة مرة بعد أخرى‏ «الرَّحِيمُ» بعباده المنعم عليهم بالنعم العظام و تكفير السيئات و الآثام و في هذه الآية دلالة على أنه يحسن الدعاء بما يعلم الداعي أنه يكون لا محالة لأنهما كانا عالمين بأنهما لا يقارفان الذنوب و الآثام و لا يفارقان الدين و الإسلام.

[سورة البقرة (2): آية 129]

رَبَّنا وَ ابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ يُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)

اللغة

«الْعَزِيزُ» القدير الذي لا يغالب و قيل هو القادر الذي لا يمتنع عليه شي‏ء أراد فعله و نقيض العز الذل و عز يعز عزة و عزا إذا صار عزيزا و عز يعز عزا إذا قهر و منه قولهم من عز بز أي من علب سلب و اعتز الشي‏ء إذا صلب و هو من العزاز من الأرض و هو الطين الصلب الذي لا يبلغ أن يكون حجارة و عز الشي‏ء إذا قل حتى لا يكاد يوجد و اعتز فلان بفلان إذا تشرف به و الحكيم معناه المدبر الذي يحكم الصنع و يحسن التدبير فعلى هذا يكون من صفات الفعل و يكون بمعنى العليم فيكون من صفات الذات.

الإعراب‏

ابعث جملة فعلية معطوفة على تب فيهم تتعلق بابعث و يجوز أن تتعلق بمحذوف تقديره رسولا كائنا فيهم فيكون في موضع نصب على الحال و يتلو منصوب الموضع بكونه صفة قوله‏ رَسُولًا أي تاليا و عليهم تتعلق بيتلو.

المعنى‏

الضمير في قوله‏ «فِيهِمْ» يرجع إلى الأمة المسلمة التي سأل الله إبراهيم أن‏


394
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 130] ..... ص : 395

يجعلهم من ذريته و المعني به بقوله‏ «رَبَّنا وَ ابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ» هو نبينا ص لما

روي عنه أنه قال‏ أنا دعوة أبي إبراهيم و بشارة عيسى (ع)

يعني قوله‏ مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ و هو قول الحسن و قتادة و جماعة من العلماء و يدل على ذلك أنه دعا بذلك لذريته الذين يكونون بمكة و ما حولها على ما تضمنه الآية في قوله‏ «رَبَّنا وَ ابْعَثْ فِيهِمْ» أي في هذه الذرية «رَسُولًا مِنْهُمْ» و لم يبعث الله من هذه صورته إلا محمدا ص و قوله‏ «يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ» أي يقرأ عليهم آياتك التي نوحي بها إليه‏ «وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ» أي القرآن و هذا لا يعد من التكرار لأنه خص الأول بالتلاوة ليعلموا بذلك أنه معجز دال على صدقه و نبوته و خص الثاني بالتعليم ليعرفوا ما يتضمنه من التوحيد و أدلته و ما يشتمل عليه من أحكام شريعته و قوله‏ «وَ الْحِكْمَةَ» قيل هي هاهنا السنة عن قتادة و قيل المعرفة بالدين و الفقه في التأويل عن مالك بن أنس و قيل العلم بالأحكام التي لا يدرك علمها إلا من قبل الرسل عن ابن زيد و قيل أنه صفة للكتاب كأنه وصفه بأنه كتاب و أنه حكمة و أنه آيات و قيل الحكمة شي‏ء يجعله الله في القلب ينوره الله به كما ينور البصر فيدرك المبصر و قيل هي مواعظ القرآن و حرامه و حلاله عن مقاتل و كل حسن و قوله‏ «وَ يُزَكِّيهِمْ» أي يجعلهم مطيعين مخلصين و الزكاء هو الطاعة و الإخلاص لله سبحانه عن ابن عباس و قيل معناه يطهرهم من الشرك و يخلصهم منه عن ابن جريج و قيل معناه يستدعيهم إلى فعل ما يزكون به من الإيمان و الصلاح عن الجبائي و قيل يشهد لهم بأنهم أزكياء يوم القيامة إذا شهد على كل نفس بما كسبت عن الأصم و قوله‏ «إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» أي القوي في كمال قدرتك المنيع في جلال عظمتك المحكم لبدائع صنعتك و إنما ذكر هاتين الصفتين لاتصالهما بالدعاء فكأنه قال فزعنا إليك في دعائنا لأنك القادر على إجابتنا العالم بما في ضمائرنا و بما هو أصلح لنا مما لا يبلغه كنه علمنا و قصار بصائرنا و في هذه الآية دلالة على أن إبراهيم و إسماعيل (ع) دعوا لنبينا محمد ص بجميع شرائط النبوة لأن تحت التلاوة الأداء و تحت التعليم البيان و تحت الحكمة السنة و دعوا لأمته باللطف الذي لأجله تمسكوا بكتابه و شرعه فصاروا أزكياء و هذا لأن الدعاء صدر من إسماعيل (ع) فعلم بذلك أن النبي المدعو به من ولده لا من ولد إسحاق و لم يكن في ولد إسماعيل نبي غير نبينا ص سيد الأنبياء.

[سورة البقرة (2): آية 130]

وَ مَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَ لَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَ إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130)


395
مجمع البيان في تفسير القرآن1

اللغة ..... ص : 396

اللغة

الرغبة المحبة لما فيه للنفس منفعة و رغبت فيه ضد رغبت عنه و الرغبة و المحبة و الإرادة نظائر و نقيض الرغبة الرهبة و نقيض المحبة البغضة و نقيض الإرادة الكراهة و تقول رغبت فيه رغبة و رغبا و رغبا و رغبي إذا ملت إليه و رغبت عنه إذا صددت عنه و رجل رغيب نهم شديد الأكل و فرس رغيب الشحوة أي كثير الأخذ بقوائمه من الأرض و موضع رغيب واسع و الرغيبة العطاء الكثير الذي يرغب في مثله و الاصطفاء و الاجتباء و الاختيار نظائر و الصفاء و النقاء و الخلوص نظائر و الصفو نقيض الكدر و صفوة كل شي‏ء خالصة و صفي الإنسان أخوه الذي يصافيه المودة و ناقة صفي كثيرة اللبن و نخلة صفية كثيرة الحمل و الجمع الصفايا و اصطفينا على وزن افتعلنا من الصفوة و إنما قلبت التاء طاء لأنها أشبه بالصاد بالاستعلاء و الإطباق و هي من مخرج التاء فأتي بحرف وسط بين الحرفين.

الإعراب‏

«مَنْ يَرْغَبُ» لفظة من للاستفهام و معناه الجحد فكأنه قال ما يرغب عن ملة إبراهيم و لا يزهد فيها إلا من سفه نفسه أي الذي سفه نفسه فمن الأولى على الاستفهام و الثانية بمعنى الذي و إلا حرف الاستثناء و يجوز أن يكون لنقض النفي و من اسم موصول و سفه نفسه صلته و الموصول و الصلة في محل النصب على الاستثناء أو في محل الرفع بكونه بدلا من الضمير الذي في يرغب و في انتصاب نفسه خلاف قال الأخفش معناه سفه نفسه و قال يونس أراها لغة قال الزجاج أراد أن فعل لغة في المبالغة كما أن فعل كذلك و يجوز على هذا القول سفهت زيدا بمعنى سفهت زيدا و قال أبو عبيدة معناه أهلك نفسه و أوبق نفسه فهذا كله وجه واحد و الوجه الثاني أن يكون على التفسير كقوله‏ فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْ‏ءٍ مِنْهُ نَفْساً و هو قول الفراء قال أن العرب توقع سفه على نفسه و هي معرفة و كذلك‏ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها و أنكر الزجاج هذا الوجه قال إن معنى التمييز لا يحتمل التعريف لأن التمييز إنما هو واحد يدل على جنس أو خلة تخلص من خلال فإذا عرفته صار مقصودا قصده و هذا لم يقله أحد ممن تقدم من النحويين و الوجه الثالث أن يكون على التمييز و الإضافة على تقدير الانفصال كما تقول مررت برجل مثله أي مثل له و الوجه الرابع أن يكون على حذف الجار في معنى سفه في نفسه كقوله سبحانه‏ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ‏ أي لأولادكم فحذف حرف الجر من غير ظرف و مثله‏ وَ لا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ‏ أي على عقدة النكاح و مثله قول الشاعر:

نغالي اللحم للأضياف نيا

و نبذله إذا نضج القدور

 

و المعنى نغالي باللحم قال الزجاج و هذا مذهب صحيح و الوجه الخامس ما اختاره‏


396
مجمع البيان في تفسير القرآن1

النزول ..... ص : 397

الزجاج و هو أن سفه بمعنى جهل و هو موافق في المعنى لما قاله السراج في قوله‏ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها إن البطر مستقل للنعمة غير راض بها فعلى هذا يكون نفسه مفعولا به و أنه في الآخرة في تتعلق بمحذوف فهو منصوب الموضع على الحال و ذو الحال الضمير المستكن في قوله‏ «لَمِنَ الصَّالِحِينَ».

النزول‏

روي أن عبد الله بن سلام دعا ابني أخيه سلمة و مهاجرا إلى الإسلام فقال لقد علمنا أن صفة محمد في التوراة فأسلم سلمة و أبي مهاجر أن يسلم فأنزل الله هذه الآية.

المعنى‏

لما بين سبحانه قصة إبراهيم و أن ملته ملة محمد عقبه بذكر الحدث على اتباعها فقال: «وَ مَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ» أي لا يترك دين إبراهيم و شريعته إلا من أهلك نفسه و أوبقها و قيل أضل نفسه عن الحسن و قيل جهل قدره لأن من جهل خالقه فهو جاهل بنفسه عن الأصم و قيل جهل نفسه بما فيها من الآيات الدالة على أن لها صانعا ليس كمثله شي‏ء عن أبي مسلم و قوله‏ «وَ لَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا» أي اخترناه بالرسالة و اجتبيناه‏ «وَ إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ» أي من الفائزين عن الزجاج و قيل معناه لمع الصالحين أي مع آبائه الأنبياء في الجنة عن ابن عباس و قيل إنما خص الآخرة بالذكر و إن كان في الدنيا كذلك لأن المعنى من الذين يستوجبون على الله سبحانه الكرامة و حسن الثواب فلما كان خلوص الثواب في الآخرة دون الدنيا وصفه فيها بما ينبئ عن ذلك و في قوله سبحانه‏ «وَ مَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ» دلالة على أن ملة إبراهيم هي ملة نبينا ص لأن ملة إبراهيم داخلة في ملة محمد مع زيادات في ملة محمد فبين أن الذين يرغبون من الكفار عن ملة محمد التي هي ملة إبراهيم قد سفهوا أنفسهم و هذا معنى قول قتادة و الربيع و يدل عليه قوله‏ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ‏.

[سورة البقرة (2): آية 131]

إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (131)

الإعراب‏

قال فعل فارغ و له جار و مجرور و اللام تتعلق بقال و «قالَ لَهُ رَبُّهُ» مجرور الموضع بإضافة إذ إليه و اللام في‏ «لِرَبِّ الْعالَمِينَ» تتعلق بأسلمت.

المعنى‏

هذا متصل بقوله‏ وَ لَقَدِ اصْطَفَيْناهُ‏ و موضع‏ «إِذْ» نصب باصطفينا و تقديره و لقد اصطفيناه حين قال له ربه أسلم و اختلف في أنه متى قيل له ذلك فقال الحسن كان هذا


397
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 132] ..... ص : 398

حين أفلت الشمس و رأى إبراهيم تلك الآيات و الأدلة فاستدل بها على وحدانية الله سبحانه و قال‏ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِي‏ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ‏ الآية و أنه أسلم حينئذ و هذا يدل على أنه كان ذلك قبل النبوة و أنه قال له ذلك إلهاما استدعاء منه إلى الإسلام فأسلم حينئذ لما وضح له طريق الاستدلال بما رأى من الآيات و لا يصح أن يوحي الله إليه قبل إسلامه بأنه نبي الله لأن النبوة حال إجلال و إعظام و لا يكون ذلك قبل الإسلام و قال ابن عباس إنما قال ذلك إبراهيم (ع) حين خرج من السرب و قيل إنما قال ذلك بعد النبوة و معنى‏ «أَسْلِمْ» استقم على الإسلام و اثبت على التوحيد كقوله سبحانه‏ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ‏ و قيل إن معنى أسلم أخلص دينك بالتوحيد و قوله‏ «أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ» أي أخلصت الدين لله رب العالمين.

[سورة البقرة (2): آية 132]

وَ وَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَ يَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى‏ لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)

القراءة

قرأ أهل المدينة و الشام و أوصى بهمزة بين واوين و تخفيف الصاد و قرأ الباقون‏ «وَ وَصَّى» مشددة الصاد.

الحجة

حجة من قرأ «وَصَّى» قوله تعالى‏ فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً فتوصية مصدر وصى مثل قطع تقطعة و لا يكون منه تفعيل لأنك لو قلت في مصدر حييت تفعيل لكان يجتمع ثلاث ياءات فرفض ذلك و حجة من قرأ و أوصى بها إبراهيم قوله‏ يُوصِيكُمُ اللَّهُ‏ و مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ‏.

اللغة

وصى و أوصى و أمر و عهد بمعنى و قد قالوا وصى البيت إذا اتصل بعضه ببعض فالوصية كان الموصي بالوصية وصل جل أمره بالموصى إليه.

الإعراب‏

يعقوب رفع لأنه عطف على إبراهيم و التقدير و وصى إبراهيم و يعقوب و هذا معنى قول ابن عباس و قتادة و قيل أنه على الاستئناف كأنه قال و وصى يعقوب أن يا بني إن الله اصطفى لكم الدين و الأول أظهر و الفرق بين التقديرين أن الأول لا إضمار فيه لأنه معطوف و الثاني فيه إضمار و الهاء في بها تعود إلى الملة و قد تقدم ذكرها و هو قول‏


398
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 399

 

الزجاج و قيل إنها تعود إلى الكلمة التي هي‏ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ‏ و الألف و اللام في الدين للعهد دون الاستغراق لأنه أراد دين الإسلام و قوله‏ «فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ» و إن كان على لفظ النهي لهم عن الموت فالنهي على الحقيقة عن ترك الإسلام لئلا يصادفهم الموت عليه و مثله من كلام العرب لا أرينك هاهنا فالنهي في اللفظ للمتكلم و إنما هو في الحقيقة للمخاطب فكأنه قال لا تتعرض لأن أراك بكونك هاهنا و قوله‏ «وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ» جملة في موضع الحال و تقديره لا تموتوا إلا مسلمين و ذو الحال الواو في تموتوا و معناه ليأتكم الموت و أنتم مسلمون.

المعنى‏

لما بين عز اسمه دعاء إبراهيم (ع) لذريته و حكم بالسفه على من رغب عن ملته ذكر اهتمامه بأمر الدين و عهده به إلى نبيه في وصيته فقال‏ «وَ وَصَّى بِها» أي بالملة أو بالكلمة التي هي قوله‏ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ‏ و يؤيد هذا قوله تعالى‏ وَ جَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ‏ و قيل بكلمة الإخلاص و هي لا إله إلا الله‏ «إِبْراهِيمُ بَنِيهِ» إنما خص البنين لأن إشفاقه عليهم أكثر و هم بقبول وصيته أجدر و إلا فمن المعلوم أنه كان يدعو جميع الأنام إلى الإسلام‏ «وَ يَعْقُوبُ» و هو ابن إسحاق و إنما سمي يعقوب لأنه و عيصا كانا توأمين فتقدم عيص و خرج يعقوب على إثره أخذا بعقبه عن ابن عباس و المعنى و وصى يعقوب بنيه الاثني عشر و هم الأسباط «يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى‏ لَكُمُ الدِّينَ» أي فقالا جميعا يا بني إن الله اختار لكم دين الإسلام‏ «فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ» أي لا تتركوا الإسلام فيصادفكم الموت على تركه أو لا تتعرضوا للموت على ترك الإسلام بفعل الكفر و قال الزجاج معناه الزموا الإسلام فإذا أدرككم الموت صادفكم مسلمين و في هذه الآية دلالة على الترغيب في الوصية عند الموت و أنه ينبغي أن يوصي الإنسان من يلي أمرهم بتقوى الله و لزوم الدين و الطاعة.

[سورة البقرة (2): آية 133]

أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَ إِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133)

اللغة

الشهداء جمع شهيد و الشاهد و الحاضر من النظائر تقول حضرت القوم‏

 

 

 

399
مجمع البيان في تفسير القرآن1

الإعراب ..... ص : 400

أحضرهم حضورا إذا شهدتهم و الحضيرة الجماعة من الناس ما بين الخمسة إلى العشرة و أحضر الفرس إحضارا إذا عدا عدوا شديدا و حاضرت الرجل محاضرة إذا عدوت معه و حاضرته إذا جاثيته عند السلطان أو في خصومة و حضرة الرجل فناؤه و أصل الباب الحضور خلاف الغيبة.

الإعراب‏

أم هاهنا منقطعة و هي لا تجي‏ء إلا و قد تقدمها كلام لأنها التي تكون بمعنى بل و همزة الاستفهام كأنه قيل بل أ كنتم شهداء و معنى أم هاهنا الجحد أي ما كنتم شهداء و إنما كان اللفظ على الاستفهام و المعنى على خلافه لأن إخراجه مخرج الاستفهام أبلغ في الكلام و أشد مظاهرة في الحجاج إذ يخرج الكلام مخرج التقرير بالحق فيلزم الحجة أو الإنكار له فتظهر الفضيحة و إذ الأولى ظرف من قوله‏ «شُهَداءَ» و إذ الثانية بدل من إذ الأولى و قيل العامل في الثانية حضر و كلاهما جائز ما للاستفهام و هو منصوب الموضع لأنه مفعول تعبدون و «مِنْ بَعْدِي» الجار و المجرور في محل النصب على الظرف و قوله‏ «إِلهاً واحِداً» منصوب على أحد وجهين أن يكون حالا فكأنه قال نعبد إلهك في حال وحدانيته أو يكون بدلا من إلهك و تكون الفائدة فيه ذكر التوحيد و نحن له مسلمون جملة في موضع الحال و يجوز أن يكون على الاستئناف فلا يكون لها موضع من الإعراب و إبراهيم و إسماعيل و إسحاق في موضع جر على البدل من آبائك كما تقول مررت بالقوم أخيك و غلامك و صاحبك.

المعنى‏

خاطب سبحانه أهل الكتاب فقال: «أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ» أي ما كنتم حضورا «إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ» و ما كنتم حضورا «إِذْ قالَ‏ يعقوب‏ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي» و معناه أنكم لم تحضروا ذلك فلا تدعوا على أنبيائي و رسلي الأباطيل بأن تنسبوهم إلى اليهودية و النصرانية فإني ما بعثتهم إلا بالحنيفية و ذلك أن اليهود قالوا أن يعقوب يوم مات أوصى بنيه باليهودية فرد الله تعالى عليهم قولهم و إنما قال‏ «ما تَعْبُدُونَ» و لم يقل من تعبدون لأن الناس كانوا يعبدون الأصنام فقال أي الأشياء تعبدون من بعدي‏ «قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَ إِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ» و إنما قدم ذكر إسماعيل على إسحاق لأنه كان أكبر منه و إسماعيل كان عم يعقوب و جعله أبا له لأن العرب تسمي العم أبا كما تسمي الجد أبا و ذلك لأنه يجب تعظيمهما كتعظيم الأب و لهذا

قال النبي ص‏ ردوا علي أبي يعني العباس عمه‏

«إِلهاً واحِداً وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ» أي مذعنون مقرون بالعبودية و قيل خاضعون منقادون مستسلمون لأمره و نهيه قولا و عقدا و قيل داخلون في‏


400
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 134] ..... ص : 401

الإسلام يدل عليه قوله‏ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ‏.

[سورة البقرة (2): آية 134]

تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَ لَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (134)

اللغة

الأمة على وجوه (الأول) الجماعة كما في الآية (و الثاني) القدوة و الإمام في قوله‏ إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً (و الثالث) القامة في قول الأعشى:

و إن معاوية الأكرمين‏

حسان الوجوه طوال الأمم‏

 

(و الرابع) الاستقامة في الدين و الدنيا قال النابغة:

حلفت فلم أترك لنفسي ريبة

و هل يأثمن ذو أمة و هو طائع‏

 

أي ذو ملة و دين (و الخامس) الحين في قوله‏ وَ ادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ (و السادس) أهل الملة الواحدة في قولهم أمة موسى و أمة عيسى و أمة محمد ص و أصل الباب القصد من أمه يؤمه أما إذا قصده و خلت أي مضت و أصله الانفراد يقال خلا الرجل بنفسه إذا انفرد و خلا المكان من أهله إذا انفرد منهم و الفرق بين الخلو و الفراغ أن الخلو إذا لم يكن مع الشي‏ء غيره و قد يفرغ من الشي‏ء و هو معه يقال فرغ من البناء و هو معه فإذا قيل خلا منه فليس معه و الكسب العمل الذي يجلب به نفع أو يدفع به ضرر عن النفس و كسب لأهله إذا اجتلب ذلك لهم بعلاج و مراس و لذلك لا يطلق الكسب في صفة الله.

الإعراب‏

قوله‏ «لَها ما كَسَبَتْ» يحتمل أن يكون في موضع نصب على الحال فكأنه قيل ملزمة ما تستحقه بعملها و يجوز أن لا يكون لها موضع لأنها مستأنفة فلا تكون جزءا من الخبر الأول لكن تكون متصلة به في المعنى و إن لم تكن جزءا منه لأنهما خبران في المعنى عن شي‏ء واحد فكأنه قيل الجماعة قد خلت و الجماعة لها ما كسبت عما كانوا يعملون ما اسم موصول و كانوا يعملون صلته و الموصول و الصلة في موضع الجر بعن و عن تتعلق بتسألون.

المعنى‏

 

مجمع البيان فى تفسير القرآن    ج‏1    402    

«تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ» أي جماعة قد مضت يعني إبراهيم و أولاده‏ «لَها ما كَسَبَتْ» أي ما عملت من طاعة أو معصية «وَ لَكُمْ» يا معشر اليهود و النصارى‏ «ما كَسَبْتُمْ» أي ما عملتم من طاعة أو معصية «وَ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ» أي لا يقال‏


401
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 135] ..... ص : 402

لكم لم عملوا كذا و كذا على جهة المطالبة لكم بما يلزمهم من أجل أعمالهم كما لا يقال لهم لم عملتم أنتم كذا و كذا و إنما يطالب كل إنسان بعمله دون عمل غيره كما قال سبحانه‏ وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى‏ و في الآية دلالة على بطلان قول المجبرة أن الأبناء مؤاخذون بذنوب الآباء و إن ذنوب المسلمين تحمل على الكفار لأن الله تعالى نفى ذلك.

[سورة البقرة (2): آية 135]

وَ قالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى‏ تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135)

اللغة

الحنيف المائل عن الأديان الباطلة إلى الدين الحق قال ابن دريد الحنيف العادل عن دين إلى دين و به سميت الحنيفية لأنها مالت عن اليهودية و النصرانية و قيل الحنيف الثابت على الدين المستقيم و الحنيفية الاستقامة على دين إبراهيم و إنما قيل للذي تقبل إحدى قدميه على الأخرى أحنف تفاؤلا بالسلامة كما قيل للمهلكة مفازة تفاؤلا بالفوز و النجاة و هو قول كثير من المفسرين و أهل اللغة و قال الزجاج أصله من الحنف و هو ميل في صدر القدم و سمي الأحنف لحنف كان به و قالت حاضنته و هي ترقصه:

(و الله لو لا حنف برجله‏

ما كان في صبيانكم كمثله)

 

و

في الحديث‏ أحب الأديان إلى الله تعالى الحنيفية السمحة

و هي ملة النبي ص لا حرج فيها و لا ضيق.

الإعراب‏

جزم تهتدوا على الجواب للأمر و معنى الشرط قائم في الكلمة أي إن تكونوا على هذه الملة تهتدوا فإنما انجزم تهتدوا على الحقيقة بالجزاء و قوله‏ «مِلَّةَ إِبْراهِيمَ» في انتصابه وجوه (أحدها) أن تقديره بل اتبعوا ملة إبراهيم لأن قولهم‏ «كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى‏» تتضمن معنى اتبعوا اليهودية أو النصرانية و تقديره قالوا اتبعوا اليهودية أو النصرانية قل بل اتبعوا ملة إبراهيم فهذا عطف على المعنى (و الثاني) أن يكون على الحذف كأنه قيل بل نتبع ملة إبراهيم فالأول عطف و الثاني حذف (و الثالث) أن ينتصب على تقدير بل نكون أهل ملة إبراهيم فحذف المضاف و أقيم المضاف إليه مقامه كقوله تعالى‏ وَ سْئَلِ الْقَرْيَةَ فهذا عطف على اللفظ و هو قول الكوفيين و حنيفا نصب على الحال أي في حال حنيفيته.

النزول‏

عن ابن عباس أن عبد الله بن صوريا و كعب بن الأشرف و مالك بن الضيف و جماعة من اليهود و نصارى أهل نجران خاصموا أهل الإسلام كل فرقة تزعم أنها


402
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 403

أحق بدين الله من غيرها فقالت اليهود نبينا موسى أفضل الأنبياء و كتابنا التوراة أفضل الكتب و قالت النصارى نبينا عيسى أفضل الأنبياء و كتابنا الإنجيل أفضل الكتب و كل فريق منهما قالوا للمؤمنين كونوا على ديننا فأنزل الله تعالى هذه الآية و قيل إن ابن صوريا قال لرسول الله ص ما الهدى إلا ما نحن عليه فاتبعنا يا محمد تهتد و قالت النصارى مثل ذلك فأنزل الله هذه الآية.

المعنى‏

«وَ قالُوا» الضمير يرجع إلى اليهود و النصارى أي قالت اليهود «كُونُوا هُوداً» و قالت النصارى كونوا «نَصارى‏» كل فريق منهم دعا إلى ما هو عليه و معنى‏ «تَهْتَدُوا» أي تصيبوا طريق الحق كأنهم قالوا تهتدوا إلى الحق أي إذا فعلتم ذلك كنتم قد اهتديتم و صرتم على سنن الاستقامة «قُلْ» يا محمد «بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ» أي بل نتبع دين إبراهيم و على الوجه الآخر بل اتبعوا دين إبراهيم و قد عرفت الوجوه الثلاثة في الإعراب فلا معنى لإعادتها «حَنِيفاً» مستقيما و قيل مائلا إلى دين الإسلام و في الحنيفية أربعة أقوال (أحدها) أنها حج البيت عن ابن عباس و الحسن و مجاهد (و ثانيها) أنها اتباع الحق عن مجاهد (و ثالثها) أنها اتباع إبراهيم فيما أتى به من الشريعة التي صار بها إماما للناس بعده من الحج و الختان و غير ذلك من شرائع الإسلام (و الرابع) أنها الإخلاص لله وحده في الإقرار بالربوبية و الإذعان للعبودية و كل هذه الأقوال ترجع إلى ما قلناه من معنى الاستقامة و الميل إلى ما أتى به إبراهيم (ع) من الملة «وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» أي و ما كان إبراهيم من المشركين نفى الشرك عن ملته و أثبته في اليهود و النصارى حيث قالوا عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ‏ و الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ‏ و في قوله سبحانه‏ «بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ» حجة على وجوب اتباع ملة إبراهيم (ع) لسلامتها من التناقض و لوجود التناقض في اليهودية و النصرانية فلذلك صارت ملة إبراهيم أحرى بالاتباع من غيرها فمن التناقض في اليهودية منعهم من جواز النسخ مع ما في التوراة من الدلالة على جوازه و امتناعهم من العمل بما تقدمت به البشارة في التوراة من اتباع النبي الأمي مع إظهارهم التمسك بها و امتناعهم من الإذعان لما دلت عليه الآيات الظاهرة و المعجزات الباهرة من نبوة عيسى و محمد ص مع إقرارهم بنبوة عيسى بدلالة المعجزات عليها إلى غير ذلك من أنواع التناقض و من التناقض في قول النصارى قولهم الأب و الابن و روح القدس إله واحد مع زعمهم أن الأب ليس هو الابن و أن الأب إله و الابن إله و روح القدس إله و امتناعهم من أن يقولوا ثلاثة آلهة إلى غير ذلك من تناقضاتهم المذكورة في الكتب.


403
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 136] ..... ص : 404

[سورة البقرة (2): آية 136]

قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَ ما أُنْزِلَ إِلى‏ إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْباطِ وَ ما أُوتِيَ مُوسى‏ وَ عِيسى‏ وَ ما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136)

اللغة

الأسباط واحدهم سبط و هم أولاد إسرائيل و هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم و هم اثنا عشر سبطا من اثني عشر ابنا و قالوا الحسن و الحسين سبطا رسول الله أي ولداه و الأسباط في بني إسرائيل بمنزلة القبائل في ولد إسماعيل قال الزجاج السبط الجماعة يرجعون إلى أب واحد و السبط في اللغة الشجر فالسبط الذين هم من شجرة واحدة و قال ثعلب يقال سبط عليه العطاء أو الضرب إذا تابع عليه حتى يصل بعضه ببعض و أنشد التوزي في قطيع بقر:

(كأنه سبط من الأسباط)

 

شبهة بالجماعة من الناس يتتابعون في أمر و من ثم قيل لولد يعقوب أسباط و الفرق بين التفريق و الفرق أن التفريق جعل الشي‏ء مفارقا لغيره و الفرق نقيض الجمع و الجمع جعل الشي‏ء مع غيره و الفرق جعل الشي‏ء لا مع غيره و الفرق بالحجة هو البيان الذي يشهد أن الحكم لأحد الشيئين دون الآخر.

الإعراب‏

«ما أُوتِيَ» تقديره ما أوتيه حذف الهاء العائد إلى الموصول و من في قوله‏ «مِنْ رَبِّهِمْ» تتعلق بأوتي أو بمحذوف فيكون مع المحذوف في موضع نصب على الحال و ذو الحال الضمير المستكن في أوتي و العامل أوتي أو يكون العامل فيه أنزل و ذو الحال ما أوتي لا نفرق جملة منفية منصوبة الموضع على الحال و العامل فيه آمنا و منهم تتعلق بمحذوف مجرور الموضع بكونه صفة لأحد و معنى أحد منهم أي بين اثنين أو جماعة و تقديره و لا نفرق بين أحد و أحد منهم.

المعنى‏

«قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ» خطاب للمسلمين و قيل خطاب للنبي و المؤمنين أمرهم الله تعالى بإظهار ما تدينوا به على الشرع فبدأ بالإيمان بالله لأنه أول الواجبات و لأنه بتقدم معرفته تصح معرفة النبوات و الشرائع‏ «وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْنا» يعني القرآن نؤمن بأنه حق و صدق و واجب اتباعه في الحال و إن تقدمته كتب‏ «وَ ما أُنْزِلَ إِلى‏ إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْباطِ» قال قتادة هم يوسف و إخوته بنو يعقوب ولد كل واحد منهم أمة من الناس فسموا الأسباط و به قال السدي و الربيع و محمد بن إسحاق و ذكروا أسماء الاثني‏


404
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 137] ..... ص : 405

 

عشر يوسف و بنيامين و زابالون و روبيل و يهوذا و شمعون و لاوي و دان و قهاب و يشجر و نفتالي و جاد و أشرفهم ولد يعقوب لا خلاف بين المفسرين فيه و قال كثير من المفسرين أنهم كانوا أنبياء و الذي يقتضيه مذهبنا أنهم لم يكونوا أنبياء بأجمعهم لأن ما وقع منهم من المعصية فيما فعلوه بيوسف (ع) لا خفاء به و النبي عندنا معصوم من القبائح صغيرها و كبيرها و ليس في ظاهر القرآن ما يدل على أنهم كانوا أنبياء و قوله‏ «وَ ما أُنْزِلَ» إليهم لا يدل على أنهم كانوا أنبياء لأن الإنزال يجوز أن يكون كان على بعضهم ممن كان نبيا و لم يقع منه ما ذكرناه من الأفعال القبيحة و يحتمل أن يكون مثل قوله‏ «وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْنا» و أن المنزل على النبي خاصة لكن المسلمين لما كانوا مأمورين بما فيه أضيف الإنزال إليهم و قد

روى العياشي في تفسيره عن حنان بن سدير عن أبيه عن أبي جعفر الباقر قال‏ قلت له أ كان ولد يعقوب أنبياء قال لا و لكنهم كانوا أسباطا أولاد الأنبياء و لم يكونوا فارقوا الدنيا إلا سعداء تابوا و تذكروا ما صنعوا

و قوله‏ «وَ ما أُوتِيَ مُوسى‏ وَ عِيسى‏» أي أعطيا و خصهما بالذكر لأنه احتجاج على اليهود و النصارى و المراد بما أوتي موسى التوراة و بما أوتي عيسى الإنجيل‏ «وَ ما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ» أي ما أعطيه النبيون‏ «مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ» أي بأن نؤمن ببعض و نكفر ببعض كما فعله اليهود و النصارى فكفرت اليهود بعيسى و محمد و كفرت النصارى بسليمان و نبينا محمد ص‏ «وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ» أي نحن لما تقدم ذكره و قيل لله خاضعون بالطاعة مذعنون بالعبودية و قيل منقادون لأمره و نهيه و قد مضى هذا مستوفى فيما قبل و فائدة الآية الأمر بالإيمان بالله و الإقرار بالنبيين و ما أنزل إليهم من الكتب و الشرائع و الرد على من فرق بينهم فيما جمعهم الله عليه من النبوة و إن كانت شرائعهم غير لازمة لنا فإن الإيمان بهم لا يقتضي لزوم شرائعهم و روي عن الضحاك أنه قال علموا أولادكم و أهاليكم و خدمكم أسماء الأنبياء الذين ذكرهم الله في كتابه حتى يؤمنوا بهم و يصدقوا بما جاءوا به فإن الله تعالى يقول‏ «قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ» الآية.

[سورة البقرة (2): آية 137]

فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَ إِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137)

اللغة

الشقاق المنازعة و المحاربة و يحتمل أن يكون أصله مأخوذا من الشق لأنه‏

 

 

 

405
مجمع البيان في تفسير القرآن1

الإعراب ..... ص : 406

صار في شق غير شق صاحبه للعداوة و المباينة و يحتمل أن يكون مأخوذا من المشقة لأن كل واحد منهما يحرص على ما يشق على صاحبه و يؤذيه و الكفاية بلوغ الغاية يقال يكفي و يجزي و يغني بمعنى واحد و كفى يكفي كفاية إذا قام بالأمر و كفاك هذا الأمر أي حسبك و رأيت رجلا كافيك من رجل أي كفاك به رجلا.

الإعراب‏

الباء في قوله‏ «بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ» يحتمل ثلاثة أشياء (أحدها) أن تكون زائدة و التقدير فإن آمنوا مثل ما آمنتم به أي مثل إيمانكم به كما يقال كفى بالله أي كفى الله قال الشاعر:

(كفى الشيب و الإسلام للمرء ناهيا)

 

(و الثاني) أن يكون المعنى بمثل هذا و لا تكون زائدة كأنه قال فإن آمنوا على مثل إيمانكم كما تقول كتبت على مثل ما كتبت و بمثل ما كتبت كأنك تجعل المثل آلة توصل بها إلى العمل و هذا أجود من الأول (و الثالث) أن تلغي مثل كما ألغيت الكاف في قوله‏ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ‏ و هذا أضعف الوجوه لأنه إذا أمكن حمل كلام الله على فائدة فلا يجوز حمله على الزيادة و زيادة الاسم أضعف من زيادة الحرف نحو ما و لا و ما أشبه ذلك و قوله‏ «فَقَدِ اهْتَدَوْا» في محل الجزم أو في محل الرفع لأنه جواب شرط مبني و كذلك قوله‏ «فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ» و إنما حرف لإثبات الشي‏ء و نفي غيره و هم مبتدأ و في شقاق في موضع خبره.

النزول‏

لما نزل قوله تعالى‏ قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ‏ الآية قرأها النبي ص على اليهود و النصارى فلما سمعت اليهود ذكر عيسى أنكروا و كفروا و قالت النصارى إن عيسى ليس كسائر الأنبياء لأنه ابن الله فنزلت الآية.

المعنى‏

«فَإِنْ آمَنُوا» أخبر الله سبحانه أن هؤلاء الكفار متى آمنوا على حد ما آمن المؤمنون به‏ «فَقَدِ اهْتَدَوْا» إلى طريق الجنة و قيل سلكوا طريق الاستقامة و الهداية و قيل كان ابن عباس يقول اقرءوا بما آمنتم به فليس لله مثل و هذا محمول على أنه فسر الكلام لا أنه أنكر القراءة الظاهرة مع صحة المعنى و قوله‏ «وَ إِنْ تَوَلَّوْا» أي أعرضوا عن الإيمان و جحدوه و لم يعترفوا به‏ «فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ» أي في خلاف قد فارقوا الحق و تمسكوا بالباطل فصاروا مخالفين لله سبحانه عن ابن عباس و قريب منه ما

روي عن الصادق (ع) أنه قال‏ يعني في كفر

و قيل في ضلال عن أبي عبيدة و قيل في منازعة و محاربة عن أبي زيد و قيل في عداوة عن الحسن‏ «فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ» وعد الله سبحانه رسوله بالنصرة و كفاية من يعاديه من اليهود و النصارى الذين شاقوه و في هذا دلالة بينة على نبوته و صدقه ص المعنى أن الله سبحانه يكفيك يا محمد أمرهم‏ «وَ هُوَ


406
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 138] ..... ص : 407

السَّمِيعُ» لأقوالهم‏ «الْعَلِيمُ» بأعمالهم في إبطال أمرك و لن يصلوا إليك.

[سورة البقرة (2): آية 138]

صِبْغَةَ اللَّهِ وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَ نَحْنُ لَهُ عابِدُونَ (138)

اللغة

«صِبْغَةَ اللَّهِ» مأخوذة من الصبغ لأن بعض النصارى كانوا إذا ولد لهم مولود غمسوه في ماء لهم يسمونه المعمودية يجعلون ذلك تطهيرا له فقيل صبغة الله تطهير الله لا تطهيركم بتلك الصبغة و هو قول الفراء و قيل إن اليهود تصبغ أبناءها يهودا و النصارى تصبغ أبناءها نصارى أي يلقنون أولادهم اليهودية و النصرانية عن قتادة إلى هذا يؤول ما روي عن عمر بن الخطاب أخذ العهد على بني تغلب أن لا يصبغوا أولادهم أي لا يلقنونهم النصرانية لكن يدعونهم حتى يبلغوا فيختاروا لأنفسهم ما شاءوا من الأديان [في صبغة الله‏] و قيل سمي الدين صبغة لأنه هيئة تظهر بالمشاهدة من أثر الطهارة و الصلاة و غير ذلك من الآثار الجميلة التي هي كالصبغة عن الجبائي قال أمية:

في صبغة الله كان إذا نسي العهد

و خلى الصواب إذ عرفا

 

و يقال صبغ الثوب يصبغه بفتح الباء و ضمها و كسرها صبغا بفتح الصاد و كسرها.

الإعراب‏

نصب‏ «صِبْغَةَ اللَّهِ» على أنه بدل من قوله‏ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ‏ و تفسير له عن الأخفش و قيل أنه نصب على الإغراء تقديره اتبعوا صبغة الله و ألزموا صبغة الله و من استفهام و هو مبتدأ و أحسن خبره و صبغة نصب على التمييز.

المعنى‏

«صِبْغَةَ اللَّهِ» أي اتبعوا دين الله عن ابن عباس و الحسن و قتادة و مجاهد و يقرب منه ما

روي عن الصادق (ع) قال‏ يعني به الإسلام‏

و قيل شريعة الله التي هي الختان الذي هو تطهير عن الفراء و البلخي و قيل فطرة الله التي فطر الناس عليها عن أبي العالية و غيره‏ «وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً» أي لا أحد أحسن من الله صبغة أي بينا لفظه لفظ الاستفهام و معناه الجحد عن الحسن و غيره‏ «وَ نَحْنُ لَهُ عابِدُونَ» أي من نحن له عابدون يجب أن تتبع صبغته لا ما صبغنا عليه الآباء و الأجداد و قيل و نحن له عابدون في اتباعنا ملة إبراهيم صبغة الله.


407
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 139] ..... ص : 408

[سورة البقرة (2): آية 139]

قُلْ أَ تُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ وَ هُوَ رَبُّنا وَ رَبُّكُمْ وَ لَنا أَعْمالُنا وَ لَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَ نَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139)

اللغة

الحجاج و الجدال و الخصام نظائر و الأعمال و الأحداث و الأفعال نظائر و الإخلاص و الإفراد و الاختصاص نظائر و ضد الخالص المشوب.

الإعراب‏

«وَ هُوَ رَبُّنا وَ رَبُّكُمْ» المبتدأ و خبره في موضع نصب على الحال و العامل فيه تحاجون و ذو الحال الواو «وَ لَنا أَعْمالُنا وَ لَكُمْ أَعْمالُكُمْ» مبتدءان و خبران و الجملتان في موضع نصب على الحال بالعطف على‏ «هُوَ رَبُّنا وَ رَبُّكُمْ» «وَ نَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ» كذلك.

المعنى‏

أمر الله سبحانه نبيه (ع) في هذه الآية أن يقول لهؤلاء اليهود و غيرهم‏ «أَ تُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ» و معناه في دين الله أي أ تخاصموننا و تجادلوننا فيه و هو سبحانه خالقنا و المنعم علينا و خالقكم و المنعم عليكم و اختلف في محاجتهم كيف كان فقيل كانت محاجتهم للنبي (ع) أنهم يزعمون أنهم أولى بالحق لتقدم النبوة فيهم و الكتاب و قيل بل كانت محاجتهم أنهم قالوا نحن أحق بالإيمان من العرب الذين عبدوا الأوثان و قيل كانت محاجتهم أنهم قالوا يا محمد إن الأنبياء كانوا منا و لم يكن من العرب نبي فلو كنت نبيا لكنت منا و قال الحسن كانت محاجتهم أن قالوا نحن أولى بالله منكم و قالوا نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَ أَحِبَّاؤُهُ‏ و قالوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى‏ و كان غرضهم بذلك أن الدين يلتمس من جهتهم و أن النبوة أولى أن تكون فيهم فبين سبحانه أنه أعلم بتدبير خلقه بقوله‏ «وَ هُوَ رَبُّنا وَ رَبُّكُمْ» أي خالقنا و خالقكم فهو أعلم حيث يجعل رسالته و من الذي يقوم بأعبائها و يتحملها على وجه يكون أصلح للخلق و أولى بتدبيرهم و قوله‏ «وَ لَنا أَعْمالُنا وَ لَكُمْ أَعْمالُكُمْ» أي لنا ديننا و لكم دينكم و قيل معناه ما علينا مضرة من أعمالكم و ما لكم منفعة من أعمالنا فضرر أعمالكم عليكم و نفع أعمالنا لنا و قيل إنه إنكار لقولهم إن العرب تعبد الأوثان و بيان لأن لا حجة فيه إذ كل مأخوذ بما كسبت يداه و لا يؤخذ أحد بجرم غيره و قوله‏ «وَ نَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ» أي موحدون و المراد بذلك أن المخلص أولى بالحق من المشرك و قيل معناه الرد عليهم ما احتجوا به من عبادة العرب للأوثان فكأنه قال لا عيب علينا في ذلك إذا كنا موحدين كما لا عيب عليكم بفعل من عبد العجل من أسلافكم إذا اعتقدتم الإنكار عليهم في ذلك.


408
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[فصل في ذكر الإخلاص‏] ..... ص : 409

[فصل في ذكر الإخلاص‏]

روي عن حذيفة بن اليمان قال‏ سألت النبي ص عن الإخلاص ما هو قال سألت جبريل (ع) عن ذلك قال سألت رب العزة عن ذلك فقال هو سر من سري استودعته قلب من أحببته من عبادي‏

و

روي عن أبي إدريس الخولاني عن النبي ص قال‏ إن لكل حق حقيقة و ما بلغ عبد حقيقة الإخلاص حتى لا يحب أن يحمد على شي‏ء من عمل الله‏

و قال سعيد بن جبير الإخلاص أن يخلص العبد دينه و عمله لله و لا يشرك به في دينه و لا يرائي بعمله أحدا و قيل الإخلاص أن تستوي أعمال العبد في الظاهر و الباطن و قيل هو ما استتر من الخلائق و استصفى من العلائق و قيل هو أن يكتم حسناته كما يكتم سيئاته.

[سورة البقرة (2): آية 140]

أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى‏ قُلْ أَ أَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140)

القراءة

قرأ أهل الكوفة غير أبي بكر و ابن عامر «أم تقولون» بالتاء و الباقون بالياء.

الحجة

الأول على الخطاب فتكون أم متصلة بما قبلها من الاستفهام كأنه قال أ تحاجوننا في الله أم تقولون إن الأنبياء كانوا على دينكم و التقدير بأي الحجتين تتعلقون في أمرنا بالتوحيد فنحن موحدون أم باتباع دين الأنبياء فنحن لهم متبعون و الثاني و هو القراءة بالياء على العدول من الحجاج الأول إلى حجاج آخر فكأنه قال بل تقولون إن الأنبياء من قبل أن تنزل التوراة و الإنجيل كانوا هودا أو نصارى و تكون أم هذه هي المنقطعة فيكون قد أعرض عن خطابهم استجهالا لهم بما كان منهم كما يقبل العالم على من بحضرته بعد ارتكاب مخاطبه جهالة شنيعة فيقول قد قامت عليه الحجة أم يقول بإبطال النظر المؤدي إلى المعرفة.

اللغة

الأعلم و الأعرف و الأدرى بمعنى واحد و الأظلم و الأجور و الأعتى نظائر و أفعل هذه تستعمل بمعنى الزيادة و إنما يصح معناه فيما يقع فيه التزايد كقولهم أفضل و أطول و قد قال المحققون الصفات على ثلاثة أضرب صفة ذات و صفة تحصل بالفاعل‏


409
مجمع البيان في تفسير القرآن1

الإعراب ..... ص : 410

و صفة تحصل بالمعنى (فالأول) مثل كون الذات جوهرا أو سوادا و هذا لا يصح فيه التزايد (و الثاني) كالوجود و لا يصح فيه أيضا التزايد (و الثالث) على ضربين (أحدهما) يصح فيه التزايد و هو كل ما يوجبه معنى له مثل كالألوان و الأكوان و نحوها (و الآخر) لا يصح فيه التزايد و هو كل ما يوجبه معنى، و كتم و أخفى و أسر واحد و الغفلة و السهو و النسيان نظائر و هو ذهاب المعنى عن النفس و الصحيح أن السهو ليس بمعنى و إنما هو فقد علوم مخصوصة فإن استمر به السهو مع صحة سمي جنونا فإذا قارنه ضرب من الضعف سمي إغماء و إذا قارنه ضرب من الاسترخاء سمي نوما فإن قارنه نوع من الطرب سمي سكرا و إذا حصل السهو بعد علم سمي نسيانا.

الإعراب‏

«أَمِ اللَّهُ» الله مبتدأ و خبره محذوف تقديره أم الله أعلم و عنده ظرف مكان لكتم أو يكون صفة لشهادة تقديره شهادة كائنة عنده و من الله صفة لشهادة أيضا و هي صفة بعد صفة.

المعنى‏

قد ذكرنا الفرق في المعنى بين قوله‏ «أَمْ تَقُولُونَ» على المخاطبة و قوله أم يقولون بالياء على أن يكون المعنى لليهود و النصارى و هم غيب و في هذا احتجاج عليهم في قولهم‏ لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى‏ من وجوه (أحدها) ما أخبر به نبينا ص مع ظهور المعجز الدال على صدقه (و الثاني) ما في التوراة و الإنجيل من أن هؤلاء الأنبياء كانوا على الحنيفية (و الثالث) أن عندهم إنما يقع اسم اليهودية على من تمسك بشريعة التوراة و اسم النصرانية على من تمسك بشريعة الإنجيل و الكتابان أنزلا بعدهم كما قال سبحانه‏ وَ ما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَ الْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ‏ (و الرابع) أنهم ادعوا ذلك من غير برهان فوبخهم الله سبحانه بهذه الوجوه و قوله‏ «قُلْ أَ أَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ» صورته صورة الاستفهام و المراد به التوبيخ و مثله قوله‏ أَ أَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها و معناه قل يا محمد لهم أ أنتم أعلم أم الله و قد أخبر سبحانه أنهم كانوا على الحنيفية و زعمتم أنهم كانوا هودا أو نصارى فيلزمكم أن تدعوا أنكم أعلم من الله و هذا غاية الخزي فإن قيل لم قال أ أنتم أعلم أم الله و قد كانوا يعلمونه فكتموه و إنما ظاهر هذا الخطاب لمن لا يعلم فالجواب أن من قال إنهم كانوا على ظن و توهم فوجه الكلام على قوله واضح و من قال أنهم كانوا يعلمون ذلك و إنما كانوا يجحدونه فمعناه أن منزلتكم منزلة المعترض على ما يعلم أن الله أخبر به فما ينفعه ذلك مع إقراره بأن الله أعلم منه و أنه لا يخفى عليه شي‏ء لأن ما دل‏


410
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 141] ..... ص : 411

على أنه أعلم هو الدال على أنه لا يخفى عليه شي‏ء و هو أنه عالم لذاته يعلم جميع المعلومات و قوله‏ «وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ» فيه أقوال (أحدها) أن من في قوله من الله لابتداء الغاية و هو متصل بالشهادة لا بالكتمان و معناه و ما أحد أظلم ممن يكون عنده شهادة من الله فيكتمها و المراد بهذه الشهادة أن الله تعالى بين في كتابهم صحة نبوة محمد ص و البشارة به عن الحسن و قتادة و قيل المراد بها أن إبراهيم و إسماعيل و إسحاق و يعقوب و أولاده كانوا حنفاء مسلمين فكتموا هذه الشهادة و ادعوا أنهم كانوا على دينهم عن مجاهد فهذه شهادة من الله عندهم كتموها (و الثاني) أن من متصل بالكتمان أي من أظلم ممن كتم ما في التوراة من الله أي من عبادة الله أو كتم شهادة أن يؤديها إلى الله (و الثالث) أن المراد من أظلم في كتمان الشهادة من الله لو كتمها و ذلك نحو قولهم من أظلم ممن يجور على الفقير الضعيف من السلطان الغني القوي و المعنى أنه يلزمكم أنه لا أحد أظلم من الله إذا كتم شهادة عنده ليوقع عباده في الضلال و هو الغني عن ذلك المتعالي أي لو كانوا هودا أو نصارى لأخبر بذلك و هذا المعنى قول البلخي و أبي مسلم و قوله‏ «وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ» أوعدهم سبحانه بما يجمع كل وعيد أي ليس الله بساه عن كتمان الشهادة التي لزمكم القيام بها لله و قيل هو على عمومه أي لا يخفى على الله شي‏ء من المعلومات فكونوا على حذر من الجزاء على أعمالكم بما تستحقونه من العقاب.

[سورة البقرة (2): آية 141]

تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَ لَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (141)

[توضيح‏]

قد مضى تفسير هذه الآية و قيل في وجه تكراره إنه عنى بالأول إبراهيم و من ذكر معه من الأنبياء (ع) و بالثاني أسلاف اليهود و قيل إنه إذا اختلفت الأوقات و المواطن لم يكن التكرير معيبا و وجه اتصال الآية بما قبلها أنه يقول إذا سلم لكم ما ادعيتم من أن الأنبياء كانوا على دين اليهودية أو النصرانية فليس لكم فيه حجة لأنه لا يمتنع اختلاف الشرائع بالمصالح فلله سبحانه أن ينسخ من الشرائع ما شاء و يقر منها ما شاء على حسب ما تقتضيه الحكمة و قيل إن ذلك ورد مورد الوعظ لهم و الزجر حتى لا يتكلموا على فضل الآباء و الأجداد فإن ذلك لا ينفعهم إذا خالفوا أمر الله.

[سورة البقرة (2): آية 142]

سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (142)


411
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 142] ..... ص : 411

اللغة

السفيه و الجاهل و الغبي نظائر و قد ذكرنا معنى السفه و السفيه فيما مضى و ولاه عنه أي صرفه و قتله و اشتقاقه من الولي و هو القرب و هو حصول الثاني بعد الأول من غير فصل فالثاني يلي الأول و الثالث يلي الثاني ثم هكذا أبدا و ولى عنه خلاف ولى إليه مثل قولك عدل عنه و عدل إليه و انصرف عنه و انصرف إليه فإذا كان الذي يليه متوجها إليه فهو متول إليه و إذا كان متوجها إلى خلاف جهته فهو متول عنه و القبلة مثل الجلسة للحال التي يقابل الشي‏ء غيره عليها كما أن الجلسة للحال التي يجلس عليها و كان يقال فيما حكي هو لي قبلة و أنا له قبلة ثم صار علما على الجهة التي تستقبل في الصلاة.

الإعراب‏

«مِنَ النَّاسِ» في محل النصب حال من السفهاء و ما استفهام و هو مبتدأ و ولاهم خبره و «عَنْ قِبْلَتِهِمُ» مفعول ولى.

المعنى‏

ثم ذكر سبحانه الذين عابوا المسلمين بالانصراف عن قبلة بيت المقدس إلى الكعبة فقال‏ «سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ» أي سوف يقول الجهال و هم الكفار الذين هم بعض الناس‏ «ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها» أي أي شي‏ء حولهم و صرفهم يعني المسلمين عن بيت المقدس الذي كانوا يتوجهون إليها في صلاتهم اختلف في الذين قالوا ذلك فقال ابن عباس و غيره هم اليهود و قال الحسن هم مشركو العرب و إن رسول الله لما حول الكعبة من بيت المقدس قالوا يا محمد رغبت عن قبلة آبائك ثم رجعت إليها فلترجعن إلى دينهم و قال السدي هم المنافقون قالوا ذلك استهزاء بالإسلام و اختلف في سبب مقالتهم ذلك فقيل أنهم قالوا ذلك على وجه الإنكار للنسخ عن ابن عباس و قيل إنهم قالوا يا محمد ما ولاك عن قبلتك التي كنت عليها ارجع إلى قبلتنا نتبعك و نؤمن بك أرادوا بذلك فتنته عن ابن عباس أيضا و قيل إنما قاله مشركو العرب ليوهموا أن الحق ما هم عليه و أما الوجه في الصرف عن القبلة الأولى ففيه قولان (أحدهما) أنه لما علم الله تعالى في ذلك من تغير المصلحة و (الآخر) أنه لما بينه سبحانه بقوله‏ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى‏ عَقِبَيْهِ‏ لأنهم كانوا بمكة أمروا أن يتوجهوا إلى بيت المقدس ليتميزوا من المشركين الذين كانوا يتوجهون إلى الكعبة فلما انتقل رسول الله ص إلى المدينة كانت اليهود يتوجهون إلى بيت المقدس فأمروا بالتوجه إلى الكعبة


412
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 412

ليتميزوا من أولئك‏ «قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ» هو أمر من الله سبحانه لنبيه أن يقول لهؤلاء الذين عابوا انتقالهم من بيت المقدس إلى الكعبة المشرق و المغرب ملك لله سبحانه يتصرف فيهما كيف شاء على ما تقتضيه حكمته و في هذا إبطال لقول من زعم أن الأرض المقدسة أولى بالتوجه إليها لأنها مواطن الأنبياء و قد شرفها الله و عظمها فلا وجه للتولية عنها فرد الله سبحانه عليهم بأن المواطن كلها لله يشرف منها ما يشاء في كل زمان على ما يعلمه من مصالح العباد و عن ابن عباس كانت الصلاة إلى بيت المقدس بعد مقدم النبي ص المدينة سبعة عشر شهرا و عن البراء بن عازب قال صليت مع رسول الله ص نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا ثم صرفنا نحو الكعبة أورده مسلم في الصحيح و عن أنس بن مالك إنما كان ذلك تسعة أشهر أو عشرة أشهر و عن معاذ بن جبل ثلاثة عشر شهرا و

رواه علي بن إبراهيم بإسناده عن الصادق (ع) قال‏ تحولت القبلة إلى الكعبة بعد ما صلى النبي ص بمكة ثلاث عشرة سنة إلى بيت المقدس و بعد مهاجرته إلى المدينة صلى إلى بيت المقدس سبعة أشهر قال ثم وجهه الله إلى الكعبة و ذلك أن اليهود كانوا يعيرون رسول الله ص و يقولون له أنت تابع لنا تصلي إلى قبلتنا فاغتم رسول الله ص من ذلك غما شديدا و خرج في جوف الليل ينظر إلى آفاق السماء ينتظر من الله تعالى في ذلك أمرا فلما أصبح و حضر وقت صلاة الظهر كان في مسجد بني سالم قد صلى من الظهر ركعتين فنزل عليه جبرائيل (ع) فأخذ بعضديه و حوله إلى الكعبة و أنزل عليه‏ قَدْ نَرى‏ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ‏ و كان صلى ركعتين إلى بيت المقدس و ركعتين إلى الكعبة فقالت اليهود و السفهاء «ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها»

قال الزجاج إنما أمر بالصلاة إلى بيت المقدس لأن مكة بيت الله الحرام كانت العرب آلفة لحجة فأحب الله أن يمتحن القوم بغير ما ألفوه ليظهر من يتبع الرسول ممن لا يتبعه و قوله‏ «يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» أي يدله و يرشده إلى الدين و إنما سماه الصراط لأنه طريق الجنة المؤدي إليها كما يؤدي الطريق إلى المقصد و قيل طريق الجنة.


413
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 143] ..... ص : 414

[سورة البقرة (2): آية 143]

وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَ يَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَ ما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى‏ عَقِبَيْهِ وَ إِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (143)

القراءة

قرأ ابن كثير و نافع و ابن عامر و حفص عن عاصم‏ «لَرَؤُفٌ» على وزن رعوف و قرأ أبو جعفر لرووف مثقل غير مهموز و الباقون لرءوف على وزن رعف.

الحجة

وجه من قرأ «لَرَؤُفٌ» أن بناء فعول أكثر في كلامهم من فعل أ لا ترى أن باب ضروب و صبور أكثر من باب يقظ و حذر و قد جاء على هذه الزنة من صفات الله تعالى نحو غفور و شكور و ودود و لا نعلم فعلا فيها و قال كعب بن مالك الأنصاري:

نطيع نبينا و نطيع ربا

هو الرحمن كان بنا رءوفا

 

و من قرأ رءوفا قال إن ذلك الغالب على أهل الحجاز قال الوليد بن عقبة لمعاوية:

و شر الطالبين فلا تكنه‏

لقاتل عمه الرؤوف الرحيم‏

 

و قال جرير:

ترى للمسلمين عليك حقا

كفعل الوالد الرؤوف الرحيم.

 

اللغة

الوسط العدل و قيل الخيار و معناهما واحد لأن العدل خير و الخير عدل و قيل أخذ من المكان الذي يعدل المسافة منه إلى أطرافه و قيل بل أخذ من التوسط بين المقصر و الغالي فالحق معه قال مؤرج أي وسطا بين الناس و بين أنبيائهم قال زهير:

هم وسط يرضى الأنام بحكمهم‏

إذا طرقت إحدى الليالي بمعظم‏

 

قال صاحب العين الوسط من كل شي‏ء أعدله و أفضله و قيل الواسط و الوسط كما قيل اليابس و اليبس و قيل في صفة النبي ص كان من أوسط قومه أي من خيارهم و العقب مؤخر القدم و عقب الإنسان نسله قال ثعلب‏ نُرَدُّ عَلى‏ أَعْقابِنا أي نعقب بالشر بعد الخير و كذلك رجع على عقبيه و العقبة الكرة بعد الكرة في الركوب و المشي و التعقيب الرجوع إلى أمر تريده و منه و لم يعقب و عقب الليل النهار يعقبه و الإضاعة مصدر أضاع يضيع و ضاع الشي‏ء ضياعا و ضيع الشي‏ء تضييعا و قال صاحب العين ضيعة الرجل حرفته يقال ما ضيعتك أي حرفتك و منه كل رجل و ضيعته و ترك عياله بضيعة و مضيعة و الضيعة و الضياع‏


414
مجمع البيان في تفسير القرآن1

الإعراب ..... ص : 415

معروف و أصل الضياع الهلاك قال أبو زيد رأفت بالرجل أرأف به رأفة و رأفة و رؤفت به أرؤف به بمعنى.

الإعراب‏

في الآية ثلاث لامات مختلفات فاللام في قوله‏ «لِتَكُونُوا» لام كي و تكونوا في موضع نصب بإضمار أن و تقديره لأن تكونوا و أن تكونوا في موضع جر باللام لأنها اللام الجارة في الأصل و في قوله‏ «وَ إِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً» لام توكيد و هي لام الابتداء فصلت بينها و بين إن لئلا يجتمع حرفان متفقان في المعنى و هي تلزم إن المخففة من الثقيلة لئلا تلتبس بأن النافية التي هي بمعنى ما في مثل قوله‏ إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ و قال الكوفيون إن في مثل هذا الموضع بمعنى ما و اللام بمعنى إلا تقديره و ما كانت إلا كبيرة و أنكر البصريون ذلك لأنه لو كان كذلك لجاز أن يقال جاء القوم لزيدا بمعنى إلا زيدا و أما في قوله‏ «وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ» فلام تأكيد نفي و أصلها لام الإضافة أيضا و ينتصب الفعل بعدها بإضمار أن أيضا إلا أنه لا يجوز إظهار أن بعدها لأن التقدير ما كان الله مضيعا إيمانكم فلما حمل معناه على التأويل حمل لفظه أيضا على التأويل من غير تصريح بإظهار أن و يجوز إظهار أن بعد لام كي كما ذكرناه و الكاف في قوله‏ «وَ كَذلِكَ» كاف التشبيه و هو في موضع النصب بالمصدر و ذلك إشارة إلى الهداية من قوله‏ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ‏ و التقدير أنعمنا عليكم بالعدالة كما أنعمنا عليكم بالهداية و العامل في الكاف جعلنا كأنه قيل يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم فقد أنعمنا عليكم بذلك و جعلناكم أمة وسطا فأنعمنا مثل ذلك الإنعام إلا أن جعلنا يدل على أنعمنا و هدى الله صلة الذين و الضمير العائد إلى الموصول محذوف فتقديره على الذين هداهم الله و الجار و المجرور في محل نصب على الاستثناء تقديره و إن كانت لكبيرة على الكل إلا على الذين هدى الله.

المعنى‏

ثم بين سبحانه فضل هذه الأمة على سائر الأمم فقال سبحانه‏ «وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً» و قد ذكرنا وجه تعلق الكاف المضاف إلى ذلك بما تقدم أخبر عز اسمه أنه جعل أمة نبيه محمد ص عدلا و واسطة بين الرسول و الناس و متى قيل إذا كان في الأمة من ليس هذه صفته فكيف وصف جماعتهم بذلك فالجواب أن المراد به من كان بتلك الصفة و لأن كل عصر لا يخلو من جماعة هذه صفتهم و

روي بريد بن معاوية العجلي عن الباقر (ع) نحن الأمة الوسط و نحن شهداء الله على خلقه و حجته في أرضه‏

و

في رواية أخرى قال‏ إلينا يرجع الغالي و بنا يلحق المقصر

و روى الحاكم أبو القاسم الحسكاني‏


415
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 415

في كتاب شواهد التنزيل لقواعد التفضيل بإسناده عن سليم بن قيس الهلالي عن علي (ع) أن الله تعالى إيانا عنى بقوله‏ «لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ» فرسول الله شاهد علينا و نحن شهداء الله على خلقه و حجته في أرضه و نحن الذين قال الله تعالى‏ «كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً»

و قوله‏ «لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ» فيه ثلاثة أقوال (أحدها) أن المعنى لتشهدوا على الناس بأعمالهم التي خالفوا فيها الحق في الدنيا و في الآخرة كما قال‏ وَ جِي‏ءَ بِالنَّبِيِّينَ وَ الشُّهَداءِ و قال‏ وَ يَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ و قال ابن زيد الأشهاد أربعة الملائكة و الأنبياء و أمة محمد ص و الجوارح كما قال‏ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ‏ الآية (و الثاني) أن المعنى لتكونوا حجة على الناس فتبينوا لهم الحق و الدين و يكون الرسول عليكم شهيدا مؤديا للدين إليكم و سمي الشاهد شاهدا لأنه يبين و لذلك يقال للشهادة بينة (و الثالث) أنهم يشهدون للأنبياء على أممهم المكذبين لهم بأنهم قد بلغوا و جاز ذلك لإعلام النبي ص إياهم بذلك و قوله‏ «وَ يَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً» أي شاهدا عليكم بما يكون من أعمالكم و قيل حجة عليكم و قيل شهيدا لكم بأنكم قد صدقتم يوم القيامة فيما تشهدون به و تكون على بمعنى اللام كقوله‏ وَ ما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ‏ أي للنصب و قوله‏ «وَ ما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها» قيل معنى كنت عليها صرت عليها و أنت عليها يعني الكعبة كقوله‏ «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ» أي خير أمة و قيل هو الأصح يعني بيت المقدس الذي كانوا يصلون إليها أي صرفناك عن القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم أو ما جعلنا القبلة التي كنت عليها فصرفناك عنها «إِلَّا لِنَعْلَمَ» و حذف لدلالة الكلام عليه و في قوله‏ «إِلَّا لِنَعْلَمَ» أقوال (أولها) أن معناه ليعلم حزبنا من النبي و المؤمنين كما يقول الملك فتحنا بلد كذا أو فعلنا كذا أي فتح أولياؤنا و الثاني أن معناه ليحصل المعلوم موجودا و تقديره ليعلم أنه موجود فلا يصح وصفه بأنه عالم بوجود المعلوم قبل وجوده و الثالث أن معناه لنعاملكم معاملة المختبر الممتحن الذي كأنه لا يعلم إذ العدل يوجب ذلك من حيث لو عاملهم بما يعلم أنه يكون منهم قبل وقوعه كان ظلما و الرابع ما قاله علم الهدى المرتضى قدس الله روحه و هو أن قوله‏ «لِنَعْلَمَ» تقتضي حقيقة أن يعلم هو و غيره و لا يحصل علمه مع علم غيره إلا بعد حصول الاتباع فأما قبل حصوله فيكون القديم سبحانه هو المنفرد بالعلم به فصح ظاهر الآية و قوله‏ «مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ» أي يؤمن به و يتبعه في أقواله و أفعاله‏ «مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى‏ عَقِبَيْهِ» فيه قولان (أحدهما) أن قوما ارتدوا عن الإسلام لما حولت القبلة جهلا منهم بما فيه من وجوه‏


416
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 415

الحكمة و الآخر أن المراد به كل مقيم على كفره لأن جهة الاستقامة إقبال و خلافها إدبار و لذلك وصف الكافر بأنه أدبر و استكبر و أنه كذب و تولى أي عن الحق و قوله‏ «وَ إِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ» الضمير في كانت يعود إلى القبلة على قول أبي العالية أي و قد كانت القبلة كبيرة و قيل الضمير يرجع إلى التحويلة و ما أرقة القبلة الأولى عن ابن عباس و مجاهد و قتادة و هو الأقوى لأن القوم إنما ثقل عليهم التحول لا نفس القبلة و قيل الضمير يرجع إلى الصلاة عن ابن زيد و قوله‏ «لَكَبِيرَةً» قال الحسن معناه ثقيلة يعني التحويلة إلى بيت المقدس لأن العرب لم تكن قبلة أحب إليهم من الكعبة و قيل معناه عظيمة على من لا يعرف ما فيها من وجه الحكمة فأما الذين هداهم الله لذلك فلا تعظم عليهم و هم الذين صدقوا الرسول في التحول إلى الكعبة و إنما خص المؤمنين بأنه هداهم و إن كان قد هدى جميع الخلق لأنه ذكرهم على طريق المدح و لأنهم الذين انتفعوا بهدى الله و غيرهم كأنه لم يتعد بهم و قوله‏ «وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ» قيل فيه أقوال (أحدها) أنه لما حولت القبلة قال ناس كيف بأعمالنا التي كنا نعمل في قبلتنا الأولى فأنزل الله‏ «وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ» عن ابن عباس و قتادة و قيل أنهم قالوا كيف بمن مات من إخواننا قبل ذلك و كان قد مات أسعد بن زرارة و البراء بن معرور و كانا من النقباء فقال‏ «وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ» أي صلاتكم إلى بيت المقدس و يمكن على هذا أن يحمل الإيمان على أصله في التصديق أي لا يضيع تصديقكم بأمر تلك القبلة (و ثانيها) أنه لما ذكر ما عليهم من المشقة في التحويلة أتبعه بذكر ما لهم عنده بذلك من المثوبة و أنه لا يضيع ما عملوه من الكلفة فيه لأن التذكير به يبعث على ملازمة الحق و الرضا به عن الحسن (و ثالثها) أنه لما ذكر إنعامه عليهم بالتولية إلى الكعبة ذكر السبب الذي استحقوا به ذلك الإنعام و هو إيمانهم بما حملوه أولا فقال و ما كان الله ليضيع إيمانكم الذي استحققتم به تبليغ محبتكم في التوجه إلى الكعبة عن أبي القاسم البلخي و قوله‏ «إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ» رءوف بهم لا يضيع عنده عمل عامل منهم و الرأفة أشد الرحمة دل سبحانه بالرأفة و الرحمة على أنه يوفر عليهم ما استحقوه من الثواب من غير تضييع لشي‏ء منه و قيل أنه سبحانه دل بقوله‏ «لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ» على أنه منعم على الناس بتحويل القبلة و استدل كثير من العلماء بهذه الآية على أن إجماع الأمة حجة من حيث أنه وصفهم بأنهم عدول فإذا عدلهم الله تعالى لم يجز أن تكون شهادتهم مردودة و الصحيح أنها لا تدل على ذلك لأن ظاهر الآية أن يكون كل واحد من الأمة بهذه الصفة و معلوم خلاف ذلك و متى حملوا الآية على بعض الأمة لم يكونوا بأولى ممن يحملها على المعصومين و الأئمة من آل الرسول (ع) و في هذه الآية


417
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 144] ..... ص : 418

 

دلالة على جواز النسخ في الشريعة بل على وقوعه لأنه قال‏ «وَ ما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها» فأخبر أنه تعالى هو الجاعل لتلك القبلة و أنه هو الذي نقله عنها و ذلك هو النسخ.

[سورة البقرة (2): آية 144]

قَدْ نَرى‏ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144)

اللغة

الرؤية هي إدراك الشي‏ء بالبصر و نظيره الإبصار ثم تستعمل بمعنى العلم و التقلب و التحول و التصرف نظائر و هو التحرك في الجهات و يقال وليتك القبلة أي صيرتك تستقبلها بوجهك و ليس هذا المعنى في فعلت منه لأنك تقول وليت الدار فلا يكون فيه دلالة على أنك واجهتها ففعلت في هذه الكلمة ليس بمنقول من فعلت الذي هو وليت و قد جاءت هذه الكلمة مستعملة على خلاف المقابلة و المواجهة في نحو قوله‏ وَ يُوَلُّونَ الدُّبُرَ و قوله‏ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ فهذا منقول من قولهم داري تلي داره تقول وليت ميامنه و ولاني ميامنه مثل فرح و فرحته و الرضا و المحبة نظيران و إنما يظهر الفرق بضديهما فالمحبة ضدها البغض و الرضا ضده السخط و هو يرجع إلى الإرادة فإذا قيل رضي عنه فكأنه أراد تعظيمه و ثوابه و إذا قيل رضي عمله فكأنه أراد ذلك و السخط إرادة الانتقام و «شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ» أي نحوه و تلقاءه قال الشاعر:

و قد أظلكم من شطر ثغركم‏

 

هول له ظلم يغشاكم قطعا

     

 

أي من نحو ثغركم و قال:

إن العسير بها داء يخامرها

 

فشطرها نظر العينين محسور

     

 

أي نحوها قال الزجاج يقال هؤلاء القوم مشاطرونا أي دورهم تتصل بدورنا كما يقال هؤلاء يناحوننا أي نحن نحوهم و هم نحونا و قال صاحب العين شطر كل شي‏ء نصفه و شطره‏

 

 

 

418
مجمع البيان في تفسير القرآن1

الإعراب ..... ص : 419

نحوه و قصده و منه المثل احلب حلبا لك شطره أي نصفه و شطرت الشي‏ء أي جعلته و الحرام المحرم كما أن الكتاب بمعنى المكتوب و الحساب بمعنى المحسوب و الحق وضع الشي‏ء في موضعه إذا لم يكن فيه وجه من وجوه القبح و الغفلة هي السهو عن بعض الأشياء خاصة و إذا كان السهو عاما فهو فوق الغفلة لأن النائم لا يقال له غفل إلا مجازا.

الإعراب‏

«حَيْثُ ما كُنْتُمْ» موضع كنتم جزم بالشرط و تقديره و حيثما تكونوا و الفاء و ما بعده في موضع الجزاء و لا يجازى بحيث و إذ حتى يكف كل واحد منهما بما و ذلك لأنهما لا يكونان إلا مضافين إلى ما بعدهما من الجملة قبل المجازاة بهما فألزما في المجازاة ما لتكفهما عن الإضافة لأن الإضافة تمنع الجزاء بهما و ذلك لأن الفعل إذا وقع في موضع اسم ارتفع المضاف إليه في موضع اسم مجرور و موضعه جر بالإضافة فيمتنع جزمه بالجزاء مع وجود شرط الرفع فيه فلما كان كذلك كفا بما لتهيئهما لجزم فعل الشرط بالجزاء و شطر منصوب على الظرف.

النزول‏

قال المفسرون كانت الكعبة أحب القبلتين إلى رسول الله ص فقال لجبريل وددت أن الله صرفني عن قبلة اليهود إلى غيرها فقال له جبريل (ع) إنما أنا عبد مثلك و أنت كريم على ربك فادع ربك و سله ثم ارتفع جبريل و جعل رسول الله ص يديم النظر إلى السماء رجاء أن يأتيه جبريل بالذي سأل ربه فأنزل الله تعالى هذه الآية فقال.

المعنى‏

«قَدْ نَرى‏ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ» يا محمد «فِي السَّماءِ» لانتظار الوحي في أمر القبلة و قيل في سبب تقليب النبي وجهه في السماء قولان (أحدهما) أنه كان وعد بتحويل القبلة عن بيت المقدس فكان يفعل ذلك انتظارا و توقعا للموعود كما أن من انتظر شيئا فإنه يجعل بصره إلى الجهة التي يتوقع وروده منها (و الثاني) أنه كان يكره قبلة بيت المقدس و يهوى قبلة الكعبة و كان لا يسأل الله تعالى ذلك لأنه لا يجوز للأنبياء أن يسألوا الله تعالى شيئا من غير أن يؤذن لهم فيه لأنه يجوز أن لا يكون فيه مصلحة فلا يجابون إلى ذلك فيكون فتنة لقومهم و اختلف في سبب إرادته تحويل القبلة إلى الكعبة فقيل لأن الكعبة


419
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 419

كانت قبلة أبيه إبراهيم (ع) و قبلة آبائه عن ابن عباس و قيل لأن اليهود قالوا يخالفنا محمد في ديننا و يتبع قبلتنا عن مجاهد و قيل إن اليهود قالوا ما دري محمد و أصحابه أين قبلتهم حتى هديناهم عن ابن زيد و قيل كانت العرب يحبون الكعبة و يعظمونها غاية التعظيم فكان في التوجه إليها استمالة لقلوبهم ليكونوا أحرص على الصلاة إليها و كان ص حريصا على استدعائهم إلى الدين و يحتمل أن يكون إنما أحب ذلك لجميع هذه الوجوه إذ لا تنافي بينها و قوله‏ «فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها» أي فلنصرفنك إلى قبلة تريدها و تحبها و إنما أراد به محبة الطباع لا أنه كان يسخط القبلة الأولى‏ «فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ» أي حول نفسك نحو المسجد الحرام لأن وجه الشي‏ء نفسه و قيل إنما ذكر الوجه لأن به يظهر التوجه و قال أبو علي الجبائي أراد بالشطر النصف فأمره الله تعالى بالتوجه إلى نصف المسجد الحرام حتى يكون مقابل الكعبة و هذا خطأ لأنه خلاف أقوال المفسرين‏ «وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ» أي أينما كنتم من الأرض في بر أو بحر أو سهل أو جبل فولوا وجوهكم نحوه فالأول خطاب للنبي ص و أهل المدينة (و الثاني) خطاب لجميع أهل الآفاق و لو اقتصر على الأول لجاز أن يظن أن ذلك قبلتهم حسب فبين سبحانه أنه قبلة لجميع المصلين في مشارق الأرض و مغاربها و ذكر أبو إسحاق الثعلبي في كتابه عن ابن عباس أنه قال البيت كله قبلة و قبلة البيت الباب و البيت قبلة أهل المسجد و المسجد قبلة أهل الحرم و الحرم قبلة أهل الأرض كلها و هذا موافق لما قاله أصحابنا أن الحرم قبلة من نأى عن الحرم من أهل الآفاق و قوله‏ «وَ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ» أراد به علماء اليهود و قيل علماء اليهود و النصارى‏ «لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ» أي يعلمون أن تحويل القبلة إلى الكعبة حق مأمور به من ربهم و إنما علموا ذلك لأنه كان في بشارة الأنبياء لهم أن يكون نبي من صفاته كذا و كذا و كان في صفاته أنه يصلي إلى القبلتين و روي أنهم قالوا عند التحويل ما أمرت بهذا يا محمد و إنما هو شي‏ء تبتدعه من تلقاء نفسك مرة إلى هنا و مرة إلى هنا فأنزل الله تعالى هذه الآية و بين أنهم يعلمون خلاف ما يقولون‏ «وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ» أي ليس الله بغافل عما يعمل هؤلاء من كتمان صفة محمد ص و المعاندة و دل هذا على أن المراد بالآية قوم معدودون يجوز على مثلهم التواطؤ على الكذب و على أن يظهروا خلاف ما يبطنون فأما الجمع العظيم فلا يجوز عليهم التواطؤ على الكذب و لا يتأتى فيهم كلهم أن يظهروا خلاف ما يعلمون و هذه الآية ناسخة لفرض التوجه إلى بيت المقدس و قال ابن عباس أول ما نسخ من القرآن فيما ذكر لنا شأن القبلة و قال قتادة نسخت هذه الآية ما قبلها و قال جعفر بن مبشر هذا مما نسخ من السنة بالقرآن‏


420
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 145] ..... ص : 421

و هذا هو الأقوى لأنه ليس في القرآن ما يدل على التعبد بالتوجه إلى بيت المقدس و من قال إنها نسخت قوله‏ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ‏

فإن هذه الآية عندنا مخصوصة بالنوافل في حال السفر روي ذلك عن أبي جعفر و أبي عبد الله (ع)

و ليست بمنسوخة و اختلف الناس في صلاة النبي ص إلى بيت المقدس فقال قوم كان (ع) يصلي بمكة إلى الكعبة فلما هاجر إلى المدينة أمره الله تعالى أن يصلي إلى بيت المقدس ثم أعيد إلى الكعبة و قال قوم كان يصلي بمكة إلى بيت المقدس إلا أنه كان يجعل الكعبة بينه و بينها و لا يصلي في غير المكان الذي يمكن هذا فيه و قال قوم بل كان يصلي بمكة و بعد قدومه المدينة إلى بيت المقدس و لم يكن عليه أن يجعل الكعبة بينه و بينها ثم أمره الله تعالى بالتوجه إلى الكعبة.

[سورة البقرة (2): آية 145]

وَ لَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَ ما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَ ما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَ لَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145)

الإعراب‏

اختلف النحويون في أن لئن لم أجيبت بجواب لو فقال الأخفش أجيبت بجواب لو لأن الماضي وليها كما يلي لو فدخلت كل واحدة منهما على صاحبتها قال سبحانه‏ وَ لَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا فجرى لئن مجرى لو و قال‏ وَ لَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَ اتَّقَوْا ثم قال‏ لَمَثُوبَةٌ فجرى مجرى لئن و قال سيبويه و أصحابه أن معنى لظلوا ليظلن فمعنى لئن غير معنى لو و كل واحدة منهما على حقيقتها و حقيقة معنى لو أنها يمتنع بها الشي‏ء لامتناع غيره كقولك لو أتيتني لأكرمتك فامتنع الإكرام لامتناع الإتيان و معنى إن أن يقع بها الشي‏ء لوقوع غيره تقول إن تأتني أكرمك فالإكرام يقع بوقوع الإتيان و لو لما مضى و إن لما يستقبل و إنما الحق في الجواب هذا التداخل لدلالة اللام على معنى القسم فمجي‏ء جواب القسم أغنى عن جواب الشرط لدلالته عليه و كذلك قوله‏ «إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ» ليس بجواب للشرط على الحقيقة و لكنه جواب القسم و قد أغنى عن الجزاء بدلالته عليه و إنما يجاب الشرط بالفعل أو بالفاء أو بإذا على ما هو مشروح في مواضعه.

المعنى‏

«وَ لَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ» في الكلام معنى القسم أي و الله لئن‏


421
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 421

أتيت الذين أعطوا الكتاب يعني أهل العناد من علماء اليهود و النصارى عن الزجاج و البلخي و قيل المعني به جميع أهل الكتاب عن الحسن و أبي علي‏ «بِكُلِّ آيَةٍ» أي بكل حجة و دلالة «ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ» أي لا يجتمعون على اتباع قبلتك على القول الثاني و على القول الأول لا يؤمن منهم أحد لأن المعاند لا تنفعه الدلالة و إنما تنفع الجاهل الذي لا يعلم‏ «وَ ما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ» في معناه أربعة أقوال (أحدها) أنه رفع لتجويز النسخ و بيان أن هذه القبلة لا تنسخ (و ثانيها) أنه على وجه المقابلة لقوله‏ «ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ» كما يقال ما هم بتاركي إنكار الحق و ما أنت بتارك الاعتراف به فيكون الذي جر الكلام الثاني هو التقابل للكلام الأول (و ثالثها) أن المراد ليس يمكنك استصلاحهم باتباع قبلتهم لاختلاف وجهتهم لأن النصارى تتوجه إلى جهة المشرق الموضع الذي ولد فيه عيسى (ع) و اليهود إلى بيت المقدس فبين الله سبحانه أن إرضاء الفريقين محال (و رابعها) أن المراد حسم أطماع أهل الكتاب من اليهود إذ كانوا طمعوا في ذلك و ظنوا أنه يرجع إلى الصلاة إلى بيت المقدس و قوله‏ «وَ ما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ» في معناه قولان (أحدهما) أنه لا تصير النصارى كلهم يهودا أو تصير اليهود كلهم نصارى أبدا كما لا يتبع جميعهم الإسلام و هذا من الإخبار بالغيب قاله الحسن و السدي (الآخر) أن معناه إسقاط اعتلالهم بأنه لا يجوز مخالفة أهل الكتاب فيما ورثوه عن أنبياء الله و إن بيت المقدس لم يزل كان قبلة الأنبياء فهو أولى بأن يكون قبلة أي فكما جاز أن يخالف بين وجهتيهم للاستصلاح جاز أن يخالف بوجهة ثالثة في زمان آخر للاستصلاح و يحتمل أيضا أن يجري الكلام على الظاهر لأنه لم يثبت أن يهوديا تنصر و لا أن نصرانيا تهود فلا ضرورة بنا إلى العدول عن الظاهر إلى التأويل و هذا قول القاضي و قوله‏ «وَ لَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ» الخطاب للنبي ص و فيه أربعة أقوال (أولها) أن المراد به غيره من أمته و إن كان الخطاب له و المراد الدلالة على أن الوعيد يستحق باتباع أهوائهم و أن اتباعهم ردة عن الحسن و الزجاج (و ثانيها) أن المراد أن اتبعت أهواءهم في المداراة لهم حرصا أن يؤمنوا إنك إذا لمن الظالمين لنفسك مع إعلامنا إياك أنهم لا يؤمنون عن الجبائي و (ثالثها) أن معناه الدلالة على فساد مذاهبهم و تبكيتهم بها و أن من تبعهم كان ظالما (و رابعها) أنه على سبيل الزجر عن الركون إليهم و مقاربتهم تقوية لنفسه و متبعي شريعته ليستمروا على عداوتهم عن القاضي‏ «مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ» أي من الآيات و الوحي الذي هو طريق العلم و قيل من بعد ما علمت أن الحق ما أنت عليه من القبلة و الدين‏ «إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ» و قد مضى معناه و هو


422
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 146] ..... ص : 423

مثل قوله‏ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ‏ و في هذه الآية دلالة على فساد قول من قال أنه لا يصح الوعيد بشرط و إن من علم الله تعالى أنه يؤمن لا يستحق العقاب أصلا لأن الله تعالى علق الوعيد بشرط يوجب أنه متى حصل الشرط يحصل استحقاق العقاب و فيها دلالة على فساد قول من زعم أن في المقدور لطفا لو فعله الله تعالى بالكافر لآمن لا محالة لقوله إن أتيتهم بكل آية ما تبعوا قبلتك فعلى قول من قال المراد به المعاند لا ينفعه شي‏ء من الآيات و على قول من قال المراد به جميع الكفار فلا لطف لهم أيضا يؤمنون عنده فعلى الوجهين معا يبطل قولهم و فيها دلالة أيضا على أن جميع الكفار لا يؤمنون.

[سورة البقرة (2): آية 146]

الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَ إِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (146)

المعنى‏

أخبر الله سبحانه بأنهم يعرفون النبي (ع) و صحة نبوته فقال‏ «الَّذِينَ آتَيْناهُمُ» أي أعطيناهم‏ «الْكِتابَ» و هم العلماء منهم‏ «يَعْرِفُونَهُ» أي يعرفون محمدا و أنه حق‏ «كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ» قيل و الضمير في يعرفونه يعود إلى العلم من قوله‏ مِنَ الْعِلْمِ‏ يعني النبوة و قيل الضمير يعود إلى أمر القبلة أي يعرفون أن أمر القبلة حق عن ابن عباس فإن قيل كيف قال يعرفونه كما يعرفون أبناءهم و هم كانوا يعرفون أبناءهم من جهة الحكم و يعرفون أمر النبي (ع) من جهة الحقيقة قيل أنه شبه المعرفة بالمعرفة و لم يشبه طريق المعرفة بطريق المعرفة و كل واحدة من المعرفتين كالأخرى و إن اختلف الطريقان‏ «وَ إِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ» إنما خص الفريق منهم لأن من أهل الكتاب من أسلم كعبد الله بن سلام و كعب الأحبار و غيرهما.

[سورة البقرة (2): آية 147]

الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147)

اللغة

الامتراء الاستخراج و قيل الاستدرار قال الأعشى:

تدر على أسوق الممترين‏

و كفا إذا ما السحاب ارجحن‏

 

يعني الشاكين في درورها لطول سيرها و قيل المستخرجين ما عندها قال صاحب‏


423
مجمع البيان في تفسير القرآن1

الإعراب ..... ص : 424

العين المري مسحك ضرع الناقة تمريها لتسكن للحلب و الريح تمري السحاب مريا و المرية من ذلك و المرية الشك و منه الامتراء و التماري و المماراة و المراء الجدال و أصل الباب الاستدرار يقال بالشكر تمتري النعم أي تستدر.

الإعراب‏

الحق مرفوع بأنه خبر مبتدإ محذوف و تقديره ذلك الحق أو هو الحق و مثله مررت برجل كريم زيد أي هو زيد و لو نصب لجاز في العربية على تقدير اعلم الحق من ربك أو اقرأ الحق و النون في لا تكونن نون التأكيد يؤكد بها الأمر و النهي و لا يؤكد بها الخبر لما كان يدل على كون المخبر به و ليس كذلك الأمر و النهي و الاستخبار فألزم الخبر التأكيد بالقسم و جوابه و اختصت هذه الأشياء بنون التأكيد ليدل على اختلاف المعنى في المؤكد و لما كان الخبر أصل الجمل أكد بأبلغ التأكيد و هو القسم.

المعنى‏

هو «الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ» و هو ما آتاه الله من الوحي و الكتاب و الشرائع‏ «فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ» من الشاكين في الحق الذي تقدم إخبار الله تعالى به و في عناد من كتم النبوة و امتناعهم من الاجتماع على ما قامت به الحجة و قيل من الممترين في شي‏ء يلزمك العلم به و هذا أولى لأنه أعم و الخطاب و إن كان متوجها إلى النبي (ع) فالمراد به الأمة كقوله عز اسمه‏ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ و أمثاله و قيل الخطاب له لأنه يجوز عليه ذلك لملازمته أمر الله سبحانه و لو لم يكن هناك أمر لم تصح الملازمة و في هذا دلالة على جواز ثبوت القدرة على خلاف المعلوم خلافا لقول المجبرة.

[سورة البقرة (2): آية 148]

وَ لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ (148)

القراءة

قرأ ابن عامر و أبو بكر عن عاصم‏

هو مولاها و روي ذلك عن ابن عباس و محمد بن علي الباقر

و الباقون‏ «هُوَ مُوَلِّيها».

الحجة

من قرأ «هُوَ مُوَلِّيها» فالضمير الذي هو هو لله تعالى و التقدير الله موليها إياه حذف المفعول الثاني لجري ذكره المظهر و هو كل في قوله‏ «وَ لِكُلٍّ وِجْهَةٌ» و هو مبتدأ و موليها خبره و الجملة التي هي هو موليها في موضع رفع لكونها وصفا لوجهة من قرأ هو مولاها


424
مجمع البيان في تفسير القرآن1

اللغة ..... ص : 425

فالضمير الذي هو هو لكل و قد جرى ذكره و قد استوفى الاسم الجاري على الفعل المبني للمفعول مفعوليه اللذين يقتضيهما أحدهما الضمير المرفوع من مولى و الآخر ضمير المؤنث و يجوز أن يكون الضمير الذي هو هو في قوله‏ «هُوَ مُوَلِّيها» عائدا إلى كل و التقدير لكل وجهة هو موليها وجهة أي كل أهل وجهة هم الذين ولوا وجوههم إلى تلك الجهة.

اللغة

اختلف أهل العربية في وجهة فبعضهم يذهب إلى أنه مصدر شذ عن القياس فجاء مصححا و منهم من يقول هو اسم ليس بمصدر جاء على أصله و أنه لو كان مصدرا جاء مصححا للزم أن يجي‏ء فعله أيضا مصححا أ لا ترى أن هذا المصدر إنما اعتل على الفعل حيث كان عاملا عمله و كان على حركاته و سكونه فلو صح لصح الفعل لأن هذه الأفعال المعتلة إذا صحت في موضع تبعها باقي ذلك فوجهة اسم للمتوجه و الجهة المصدر قالوا وجه الحجر جهة ما له يريدون هنا المصدر و ما زائدة و له في موضع الصفة للنكرة و الاستباق و الابتدار و الإسراع نظائر و له في هذا الأمر سبقة و سابقة و سبق أي سبق الناس إليه.

المعنى‏

هذا بيان لأمر القبلة أيضا و قوله‏ «وَ لِكُلٍّ وِجْهَةٌ» فيه أقوال (أحدها) أن معناه لكل أهل ملة من اليهود و النصارى قبلة عن مجاهد و أكثر المفسرين و (ثانيها) أن لكل نبي و صاحب ملة وجهة أي طريقة و هي الإسلام و إن اختلفت الأحكام كقوله تعالى‏ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهاجاً يعني شرائع الأنبياء عن الحسن و (ثالثها) أن لكل من المسلمين و أهل الكتاب قبلة يعني صلاتهم إلى بيت المقدس و صلاتهم إلى الكعبة عن قتادة و (رابعها) أن لكل قوم من المسلمين وجهة من كان منهم وراء الكعبة أو قدامها أو عن يمينها أو عن شمالها و هو اختيار الجبائي‏ «هُوَ مُوَلِّيها» أي الله موليها إياهم و معنى توليته لهم إياها أنه أمرهم بالتوجه نحوها في صلاتهم إليها و يدل على ذلك قوله‏ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها و قيل معناه لكل مولي الوجهة وجهة أو نفسه إلا أنه استغنى عن ذكر النفس و الوجه و كل و إن كان مجموع المعنى فهو موحد اللفظ فجاء البناء على لفظه فلذلك قال هو في الكناية عنه و إن كان المراد به الجمع و المعنى كل جماعة منهم يولونها وجوههم و يستقبلونها و قوله‏ «فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ» معناه سارعوا إلى الخيرات عن الربيع و الخيرات هي الطاعات لله تعالى و قيل معناه بادروا إلى القبول من الله عز و جل فيما يأمركم به مبادرة من يطلب السبق إليه عن الزجاج و قيل معناه تنافسوا فيما رغبتم فيه من الخير فلكل عندي ثوابه عن ابن عباس و قوله‏ «أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً» أي حيثما متم من بلاد الله‏


425
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 149] ..... ص : 426

سبحانه يأت بكم الله إلى المحشر يوم القيامة و روي في أخبار أهل البيت (ع) أن المراد به أصحاب المهدي في آخر الزمان‏

قال الرضا (ع) و ذلك و الله لو قام قائمنا يجمع الله إليه جميع شيعتنا من جميع البلدان‏

«إِنَّ اللَّهَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ» أي هو قادر على جمعكم و حشركم و على كل شي‏ء.

[سورة البقرة (2): آية 149]

وَ مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ إِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149)

المعنى‏

«وَ مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ» من البلاد «فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ» أي فاستقبل بوجهك تلقاء المسجد الحرام و قيل في تكراره وجوه (أحدها) أنه لما كان فرضا نسخ ما قبله كان من مواضع التأكيد و التبيين لينصرف الخلق إلى الحال الثانية من الحال الأولى على يقين و (ثانيها) أنه مقدم لما يأتي بعده و يتصل به فأشبه الاسم الذي تكرر ليخبر عنه بأخبار كثيرة كما يقال زيد كريم زيد عالم زيد فاضل و ما أشبه ذلك مما يذكر لتعلق الفائدة به و (ثالثها) أنه في الأول بيان لحال الحضر و في الثاني بيان لحال السفر و قوله‏ «وَ إِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ» معناه و إن التوجه إلى الكعبة الحق المأمور به من ربك و يحتمل أن يراد بالحق الثابت الذي لا يزول بنسخ كما يوصف القديم سبحانه بأنه الحق الثابت الذي لا يزول‏ «وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ» معناه هنا التهديد كما يقول الملك لعبيدة ليس يخفى علي ما أنتم عليه فيه و مثله قوله‏ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ.

[سورة البقرة (2): آية 150]

وَ مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اخْشَوْنِي وَ لِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150)

الإعراب‏

«لِئَلَّا يَكُونَ» هو لأن لا كتبت الهمزة ياء لكسرة ما قبلها و ترك نافع همزها


426
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 427

تخفيفا و أدغمت النون في اللام و موضع اللام من لئلا نصب و العامل فيه فولوا و قال الزجاج العامل فيه ما دخل الكلام من معنى عرفتكم ذلك لئلا يكون و كذلك قوله‏ «وَ لِأُتِمَّ نِعْمَتِي» اللام تتعلق بقوله‏ فَوَلُّوا و تقديره لأن أتم و قوله‏ «إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا» فيه أقوال (أحدها) أنه استثناء منقطع كقوله‏ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِ‏ و يقال ما له علي حق إلا التعدي و الظلم يعني لكنه يتعدى و يظلم و قال النابغة:

و لا عيب فيهم غير أن سيوفهم‏

بهن فلول من قراع الكتائب‏

 

و كأنه يقول إن كان فيهم عيب فهذا و ليس هذا بعيب فإذا ليس فيهم عيب و هكذا في الآية إن كان على المؤمنين حجة فللظالم في احتجاجه و ليس للظالم حجة فإذا ليس عليهم حجة و (الثاني) أن تكون الحجة بمعنى المحاجة فكأنه قال لئلا يكون للناس عليكم حجاج إلا الذين ظلموا فإنهم يحاجونكم بالباطل فعلى هذا يكون الاستثناء متصلا و (الثالث) ما قاله أبو عبيدة أن إلا هاهنا بمعنى الواو أي و لا الذين ظلموا و أنكر عليه الفراء و المبرد قال الفراء إلا لا يأتي بمعنى الواو من غير أن يتقدمه استثناء كما قال الشاعر:

ما بالمدينة دار غيره واحدة

دار الخليفة إلا دار مروانا

 

أي دار الخليفة و دار مروان و أنشد الأخفش:

و أرى لها دارا بأغدرة السيدان‏

لم يدرس لها رسم‏

 

إلا رمادا هامدا دفعت‏

عنه الرياح خوالد سحم‏

 

أي أرى لها دارا و رمادا و قال المبرد لا يجوز أن يكون إلا بمعنى الواو أصلا و (الرابع) أن فيه إضمار على و تقديره إلا على الذين ظلموا منهم فكأنه قال لئلا يكون عليكم حجة إلا على الذين ظلموا فإنه يكون الحجة عليهم و هم الكفار عن قطرب و هو اختيار الأزهري قال علي بن عيسى و هذان الوجهان بعيدان و الاختيار القول الأول.

المعنى‏

قد مضى الكلام في معنى أول الآية و قيل في تكراره وجوه (أحدها) أنه لاختلاف المعنى و إن اتفق اللفظ لأن المراد بالأول‏ «وَ مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ» منصرفا عن التوجه إلى بيت المقدس‏ «فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ» و المراد بالثاني أين ما كنت من البلاد فتوجه نحوه من كل جهات الكعبة و سائر الأقطار (و ثانيها) أنه من مواضع‏


427
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 151] ..... ص : 428

التأكيد لما جرى من النسخ ليثبت في القلوب (و ثالثها) أنه لاختلاف المواطن و الأوقات التي تحتاج إلى هذا المعنى فيها و قوله‏ «لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ» قيل فيه وجوه (أولها) أن معناه لأن لا يكون لأهل الكتاب عليكم حجة إذا لم تصلوا نحو المسجد الحرام بأن يقولوا ليس هذا هو النبي المبشر به إذ ذاك نبي يصلي بالقبلتين (و ثانيها) أن معناه لا تعدلوا عما أمركم الله به من التوجه إلى الكعبة فتكون لهم عليكم حجة بأن يقولوا لو كنتم تعلمون أنه من عند الله لما عدلتم عنه عن الجبائي (و ثالثها) ما قاله أبو روق إن حجة اليهود أنهم كانوا قد عرفوا أن النبي المبعوث في آخر الزمان قبلته الكعبة فلما رأوا محمدا يصلي إلى الصخرة احتجوا بذلك فصرفت قبلته إلى الكعبة لئلا يكون لهم عليه حجة «إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ» يريد إلا الظالمين الذين يكتمون ما عرفوا من أنه يحول إلى الكعبة و على هذا يكون الاستثناء متصلا و قد مضى ذكر ما قيل فيه من الأقوال في الإعراب و إنما اختلف العلماء في وجه الاستثناء لأن الظالم لا يكون له حجة لكنه يورد ما هو في اعتقاده حجة و إن كانت باطلة كما قال سبحانه‏ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ و قيل المراد بالذين ظلموا قريش و اليهود فأما قريش فقالوا قد علم أننا على مدى فرجع إلى قبلتنا و سيرجع إلى ديننا و أما اليهود فقالوا لم ينصرف عن قبلتنا عن علم و إنما فعله برأيه و زعم أنه قد أمر به و قيل المراد بالذين ظلموا العموم يعني ظلموكم بالمقاتلة و قلة الاستماع و قوله‏ «فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اخْشَوْنِي» لما ذكرهم بالظلم و الخصومة و المحاجة طيب نفوس المؤمنين فقال لا تخافوهم و لا تلتفتوا إلى ما يكون منهم فإن عاقبة السوء عليهم و لا حجة لأحد منهم عليكم و لا يد و قيل لا تخشوهم في استقبال الكعبة و اخشوا عقابي في ترك استقبالها فإني أحفظكم من كيدهم و قوله‏ «وَ لِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ» عطف على قوله‏ «لِئَلَّا» و تقديره لئلا يكون لأحد عليكم حجة و لأتم نعمتي عليكم بهدايتي إياكم إلى قبلة إبراهيم (ع) بين سبحانه أنه حول القبلة لهذين الغرضين زوال القالة و تمام النعمة و روي عن ابن عباس أنه قال و لأتم نعمتي عليكم في الدنيا و الآخرة أما في الدنيا فأنصركم على أعدائكم و أورثكم أرضهم و ديارهم و أموالهم و أما في الآخرة فجنتي و رحمتي و

روي عن علي (ع) قال‏ النعم ستة الإسلام و القرآن و محمد ص و الستر و العافية و الغنى عما في أيدي الناس‏

«وَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ» أي لكي تهتدوا و لعل من الله واجب عن الحسن و جماعة و قيل لتهتدوا إلى ثوابها و قيل إلى التمسك بها.

[سورة البقرة (2): آية 151]

كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَ يُزَكِّيكُمْ وَ يُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ يُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151)


428
مجمع البيان في تفسير القرآن1

اللغة ..... ص : 429

اللغة

الإرسال التوجيه بالرسالة و التحميل لها ليؤدي إلى من قصد و التلاوة ذكر الكلمة بعد الكلمة على نظام متسق و أصله من الاتباع و منه تلاه أي تبعه و التزكية النسبة إلى الإزدياد من الأفعال الحسنة التي ليست بمشوبة و يقال أيضا على معنى التعويض لذلك بالاستدعاء إليه و اللطف فيه يقال زكى فلان فلانا إذا أطرأه و مدحه و زكاه حمله على ماله فيه الزكاء و النماء و الطهارة و القدس و الحكمة هي العلم الذي يمكن به الأفعال المستقيمة.

الإعراب‏

ما في قوله‏ «كَما أَرْسَلْنا» مصدرية فكأنه قال كإرسالنا فيكم و يحتمل أن تكون كافة كما قال الشاعر:

أ علاقة أم الوليد بعد ما

أفنان رأسك كالثغام المخلس‏

 

فإنه يجوز كما زيد محسن إليك فأحسن إلى أسبابه و العامل في الكاف من قوله‏ «كَما» يجوز أن يكون الفعل الذي قبله و هو قوله‏ وَ لِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ‏ فعلى هذا لا يوقف عند قوله‏ وَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ‏ و يكون الوقف عند قوله‏ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ‏ و يجوز أن يكون الفعل الذي بعده و هو قوله‏ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ‏ و على هذا يوقف عند قوله‏ تَهْتَدُونَ‏ و يبتدأ بقوله‏ «كَما أَرْسَلْنا» و لا يوقف عند قوله‏ تَعْلَمُونَ‏ و الأول أحد قولي الزجاج و اختيار الجبائي و الثاني قول مجاهد و الحسن و أحد قولي الزجاج و قوله‏ «مِنْكُمْ» في موضع نصب لأنه صفة لقوله‏ رَسُولًا و كذلك قوله‏ «يَتْلُوا» و ما بعده في موضع الصفة.

المعنى‏

قوله‏ «كَما أَرْسَلْنا» التشبيه فيه على القول الأول معناه أن النعمة في أمر القبلة كالنعمة بالرسالة لأن الله تعالى لطف لعباده بها على ما يعلم من المصلحة و محمود العاقبة و أما على القول الثاني فمعناه أن في بعثة الرسول منكم إليكم نعمة عليكم لأنه يحصل لكم به عز الرسالة فكما أنعمت عليكم بهذه النعمة العظيمة فاذكروني و اشكروا لي و اعبدوني أنعم عليكم بالجزاء و الثواب و الخطاب للعرب على قول جميع المفسرين و قوله‏ «رَسُولًا» يعني محمد ص‏ «مِنْكُمْ» بالنسب لأنه من العرب و وجه النعمة عليهم بكونه من العرب ما حصل لهم به من الشرف و الذكر و أن العرب لم تكن لتتبع رسولا يبعث إليهم من غيرهم مع نخوتهم و عزتهم في نفوسهم فكون الرسول منهم يكون أدعى لهم إلى الإيمان به‏


429
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 152] ..... ص : 430

 

و اتباعه و قوله‏ «يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا» أراد بها القرآن‏ «وَ يُزَكِّيكُمْ» و يعرضكم لما تكونون به أزكياء من الأمر بطاعة الله و اتباع مرضاته و يحتمل أن يكون معناه ينسبكم إلى أنكم أزكياء بشهادته لكم بذلك ليعرفكم الناس به‏ «وَ يُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ» الكتاب القرآن و الحكمة هي القرآن أيضا جمع بين الصفتين لاختلاف فائدتهما كما يقال الله العالم بالأمور كلها القادر عليها و قيل أراد بالكتاب القرآن و بالحكمة الوحي من السنة و ما لا يعلم إلا من جهته من الأحكام و قوله‏ «وَ يُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ» أي ما لا سبيل لكم إلى عمله إلا من جهة السمع فذكرهم الله بالنعمة فيه و يكون التعليم لما عليه دليل من جهة العقل تابعا للنعمة فيه و لا سيما إذا وقع موقع اللطف.

[سورة البقرة (2): آية 152]

فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَ اشْكُرُوا لِي وَ لا تَكْفُرُونِ (152)

اللغة

الذكر حضور المعنى للنفس و قد يكون بالقلب و قد يكون بالقول و كلاهما يحضر به المعنى للنفس و في أكثر الاستعمال يقال الذكر بعد النسيان و ليس ذلك بموجب أن لا يكون إلا بعد نسيان لأن كل من حضره المعنى بالقول أو العقد أو الخطور بالبال ذاكر له و أصله التنبيه على الشي‏ء فمن ذكرته شيئا فقد نبهته عليه و إذا ذكر بنفسه فقد تنبه عليه و الذكر الشرف و النباهة و الفرق بين الذكر و الخاطر أن الخاطر ما يمر بالقلب و الذكر قد يكون القول أيضا و في قوله‏ «وَ اشْكُرُوا لِي» محذوف أي اشكروا لي نعمتي لأن حقيقة الشكر الاعتراف بالنعمة و في قوله‏ «وَ لا تَكْفُرُونِ» أيضا محذوف لأن الكفر هو ستر النعمة و جحدها لا ستر المنعم و قولهم حمدت زيدا و ذممته لا حذف فيه و إن كنت إنما تحمد أو تذم من أجل الفعل كما أنه ليس في قولك زيد متحرك حذف و إن كان إنما تحرك لأجل الحركة فليس كل كلام دل على معنى غير مذكور يكون فيه حذف أ لا ترى أن قولك زيد ضارب دل على مضرب و ليس بمحذوف فالحمد للشي‏ء دلالة على أنه محسن و الذم للشي‏ء دلالة على أنه مسي‏ء كقولهم نعم الرجل زيد و بئس الرجل عمرو و قالوا شكرتك و شكرت لك و إنما قيل شكرتك لإيقاع اسم المنعم موقع النعمة فعدي الفعل بغير واسطة و الأجود شكرت لك النعمة لأنه الأصل في الكلام قال الشاعر:

هم جمعوا بؤسي و نعمى عليكم‏

 

فهلا شكرت القوم إذ لم تقابل‏

     

 

و مثل ذلك نصحتك و نصحت لك ذكرنا الموجه في حذف الياء في مثل‏ «وَ لا تَكْفُرُونِ» فيما مضى.

 

 

 

430
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 431

 

المعنى‏

«فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ» قيل معناه اذكروني بطاعتي أذكركم برحمتي عن سعيد بن جبير بيانه قوله سبحانه‏ وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ‏ و قيل اذكروني بطاعتي أذكركم بمعونتي عن ابن عباس و بيانه قوله‏ وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا و قيل اذكروني بالشكر أذكركم بالزيادة عن ابن كيسان بيانه‏ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ‏ و قيل اذكروني على ظهر الأرض أذكركم في بطنها و قد جاء في الدعاء اذكروني عند البلاء إذا نسيني الناسون من الورى و قيل اذكروني في الدنيا أذكركم في العقبي و قيل اذكروني في النعمة و الرخاء أذكركم في الشدة و البلاء و بيانه قوله سبحانه‏ فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى‏ يَوْمِ يُبْعَثُونَ‏ و

في الخبر تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة

و قيل اذكروني بالدعاء أذكركم بالإجابة بيانه قوله‏ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ‏ و

روي عن أبي جعفر الباقر (ع) قال قال النبي ص‏ إن الملك ينزل الصحيفة من أول النهار و أول الليل يكتب فيها عمل ابن آدم فأملوا في أولها خيرا و في آخرها خيرا فإن الله يغفر لكم ما بين ذلك إن شاء الله فإن الله يقول‏ «فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ»

و قال الربيع في هذه الآية إن الله عز و جل ذاكر من ذكره و زائد من شكره و معذب من كفره و قوله‏ «وَ اشْكُرُوا لِي» أي اشكروا نعمتي و أظهروها و اعترفوا بها «وَ لا تَكْفُرُونِ» و لا تستروا نعمتي بالجحود يعني بالنعمة قوله‏ «كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ» الآية.

[سورة البقرة (2): آية 153]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153)

الإعراب‏

«الَّذِينَ آمَنُوا» موضعه رفع بأنه صفة لأي كما أن الناس كذلك في قوله‏ يا أَيُّهَا النَّاسُ‏ و قد ذكرناه فيما مضى و هو قول جميع النحويين إلا الأخفش فإنه لا يجعله صفة لأي و يرفعه بأنه خبر مبتدإ محذوف كأنه قيل يا من هم الذين آمنوا إلا أنه لا يظهر المحذوف مع أي و إنما حمله على ذلك لزوم البيان لأي فقال الصفة لا تلزم و إنما تلزم الصلة قال علي بن عيسى و الوجه عندي أن يكون صفة بمنزلة الصلة في اللزوم و قد ذكرنا الوجه في لزومها أيضا عند قوله سبحانه‏ يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ‏ و قال أبو علي لا يجوز أن يكون أي في النداء موصولة لأنها لو كانت موصولة لوصلت بكل واحدة من الجمل الأربع و لم يقتصر بها على ضرب واحد منها لأن ذلك لم يفعل بشي‏ء من الأسماء الموصولة في‏

 

 

 

431
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 432

 

موضع و لجاز أيضا أن يقال يا أيها رجل لأن خبر المبتدأ لا يجوز أن يكون مقصورا على المعرفة بالألف و اللام و لا يغير عنه و في امتناع جميع النحويين من إجازة ذلك ما يدل على فساد هذا القول و أيضا فلو كانت موصولة للزم جواز إظهار المبتدأ المحذوف من الصلة و كان يجوز يا أيها هو الرجل و يا أيتها هي المرأة و لا خلاف في أنه لا يجوز ذلك.

المعنى‏

قد مضى تفسير قوله‏ «اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلاةِ» فيما مضى يخاطب المؤمنين فيقول‏ «اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ» أي بحبس النفس عما تشتهيه من المقبحات و حملها على ما تنفر منه من الطاعات و إلى هذا المعنى‏

أشار أمير المؤمنين (ع) في قوله‏ الصبر صبران صبر على ما تكره و صبر عما تحب‏

و بالصلاة لما فيها من الذكر و الخشوع لله و تلاوة القرآن الذي يتضمن ذكر الوعد و الوعيد و الهدى و البيان و ما هذه صفته يدعو إلى الحسنات و يزجر عن السيئات و اختلف في أن الاستعانة بهما على ما ذا فقيل على جميع الطاعات فكأنه قال استعينوا بهذا الضرب من الطاعة على غيره من الطاعات و قيل على الجهاد في سبيل الله و قوله‏ «إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ» فيه وجهان (أحدهما) أن معناه أنه معهم بالمعونة و النصرة كما يقال السلطان معك فلا تبال من لقيت (و الآخر) أن المراد هو معهم بالتوفيق و التسديد أي يسهل عليهم أداء العبادات و الاجتناب من المقبحات و نظيره قوله سبحانه‏ وَ يَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً‏ و لا يجوز أن يكون مع هنا بمعنى الاجتماع في المكان لأن ذلك من صفات الأجسام تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا و في الآية دلالة على أن في الصلاة لطفا للعبد لأنه سبحانه أمرنا بالاستعانة بها و يؤيده قوله سبحانه‏ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى‏ عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ.

[سورة البقرة (2): آية 154]

وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَ لكِنْ لا تَشْعُرُونَ (154)

اللغة

السبيل الطريق و سبيل الله طريق مرضاته و إنما قيل للجهاد سبيل الله لأنه طريق إلى ثواب الله عز و جل و القتل هو نقض بنية الحياة و الموت عند من قال أنه معنى عرض ينافي الحياة منافاة التعاقب و من قال أنه ليس بمعنى قال هو عبارة عن بطلان الحياة و هو الأصح فأما الحياة فلا خلاف في أنها معنى و هي عرض يصير الجملة كالشي‏ء الواحد حتى يصير قادرا واحدا عالما واحدا مريدا واحدا و لا يقدر على فعل الحياة إلا الله سبحانه‏

 

 

 

432
مجمع البيان في تفسير القرآن1

الإعراب ..... ص : 433

و الشعور هو ابتداء العلم بالشي‏ء من جهة المشاعر و هي الحواس و لذلك لا يوصف تعالى بأنه شاعر و لا بأنه يشعر و إنما يوصف بأنه عالم و يعلم و قيل إن الشعور هو إدراك ما دق للطف الحس مأخوذ من الشعر لدقته و منه الشاعر لأنه يفطن من إقامة الوزن و حسن النظم لما لا يفطن له غيره.

الإعراب‏

قوله‏ «أَمْواتٌ» مرفوع بأنه خبر مبتدإ محذوف تقديره لا تقولوا هم أموات و لا يجوز فيه النصب كما يجوز قلت حسنا لأن حسنا في موضع المصدر كأنه قال قلت قولا حسنا فأما قوله‏ وَ يَقُولُونَ طاعَةٌ فيجوز فيه النصب في العربية على تقدير نطيع طاعة و الفرق بين بل و لكن أن لكن نفي لأحد الشيئين و إثبات للآخر كقولك ما قام زيد لكن عمرو و ليس كذلك بل لأنها إضراب عن الأول و إثبات للثاني و لذلك وقعت في الإيجاب كقولك قام زيد بل عمرو.

النزول‏

عن ابن عباس أنها نزلت في قتلي بدر و قتل من المسلمين يومئذ أربعة عشر رجلا ستة من المهاجرين و ثمانية من الأنصار و كانوا يقولون مات فلان فأنزل الله تعالى هذه الآية.

المعنى‏

لما أمر الله سبحانه بالصبر و الصلاة للازدياد في القوة بهما على الجهاد قال‏ «وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ» فنهى أن يسمى من قتل في الجهاد أمواتا «بَلْ أَحْياءٌ» أي بل هم أحياء و قيل فيه أقوال (أحدها) و هو الصحيح أنهم أحياء على الحقيقة إلى أن تقوم الساعة و هو قول ابن عباس و قتادة و مجاهد و إليه ذهب الحسن و عمرو بن عبيد و واصل بن عطاء و اختاره الجبائي و الرماني و جميع المفسرين (و الثاني) أن المشركين كانوا يقولون إن أصحاب محمد يقتلون نفوسهم في الحروب بغير سبب ثم يموتون فيذهبون فأعلمهم الله أنه ليس الأمر على ما قالوه و أنهم سيحيون يوم القيامة و يثابون عن البلخي و لم يذكر ذلك غيره و (الثالث) معناه لا تقولوا هم أموات في الدين بل هم أحياء بالطاعة و الهدى و مثله قوله سبحانه‏ أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ‏ فجعل الضلال موتا و الهداية حياة عن الأصم و (الرابع) أن المراد أنهم أحياء لما نالوا من جميل الذكر و الثناء كما

روي عن أمير المؤمنين (ع) من قوله‏ هلك خزان الأموال و العلماء باقون ما بقي الدهر أعيانهم مفقودة و آثارهم في القلوب موجودة

و المعتمد هو القول الأول لأن عليه‏


433
مجمع البيان في تفسير القرآن1

النزول ..... ص : 433

إجماع المفسرين و لأن الخطاب للمؤمنين و كانوا يعلمون أن الشهداء على الحق و الهدى و أنهم ينشرون و يحيون يوم القيامة فلا يجوز أن يقال لهم‏ «وَ لكِنْ لا تَشْعُرُونَ» من حيث أنهم كانوا يشعرون ذلك و يقرون به و لأن حمله على ذلك يبطل فائدة تخصيصهم بالذكر و لو كانوا أيضا أحياء بما حصل لهم من جميل الثناء لما قيل أيضا و لكن لا تشعرون لأنهم كانوا يشعرون ذلك و وجه تخصيص الشهداء بكونهم أحياء و إن كان غيرهم من المؤمنين قد يكونون أحياء في البرزخ أنه على جهة التقديم للبشارة بذكر حالهم ثم البيان لما يختصون به من أنهم يرزقون كما في الآية الأخرى‏ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ‏ فإن قيل نحن نرى جثث الشهداء مطروحة على الأرض لا تنصرف و لا يرى فيها شي‏ء من علامات الأحياء فالجواب أن على مذهب من يقول بالإنسان من أصحابنا أن الله تعالى يجعل لهم أجساما كأجسامهم في دار الدنيا يتنعمون فيها دون أجسامهم التي في القبور فإن النعيم و العذاب إنما يحصل عنده إلى النفس التي هي الإنسان المكلف عنده دون الجثة و يؤيد ذلك ما

رواه الشيخ أبو جعفر في كتاب تهذيب الأحكام مسندا إلى علي بن مهزيار عن القاسم بن محمد عن الحسين بن أحمد عن يونس بن ظبيان قال‏ كنت عند أبي عبد الله (ع) جالسا فقال ما يقول الناس في أرواح المؤمنين قلت يقولون في حواصل طير خضر في قناديل تحت العرش فقال أبو عبد الله سبحان الله المؤمن أكرم على الله أن يجعل روحه في حوصلة طائر أخضر يا يونس المؤمن إذا قبضه الله تعالى صير روحه في قالب كقالبه في الدنيا فيأكلون و يشربون فإذا قدم عليهم القادم عرفوه بتلك الصورة التي كانت في الدنيا

و

عنه عن ابن أبي عمير عن حماد عن أبي بصير قال‏ سألت أبا عبد الله (ع) عن أرواح المؤمنين فقال في الجنة على صور أبدانهم لو رأيته لقلت فلان‏

فأما على مذهب من قال من أصحابنا إن الإنسان هذه الجملة المشاهدة و إن الروح هو النفس المتردد في مخارق الحيوان و هو أجزاء الجو فالقول إنه يلطف أجزاء من الإنسان لا يمكن أن يكون الحي حيا بأقل منها يوصل إليها النعيم و إن لم تكن تلك الجملة بكمالها لأنه لا معتبر بالأطراف و أجزاء السمن في كون الحي حيا فإن الحي لا يخرج بمفارقتها من كونه حيا و ربما قيل بأن الجثة يجوز أن تكون مطروحة في الصورة و لا تكون ميتة فتصل إليها اللذات كما أن النائم حي و تصل إليه اللذات مع أنه لا يحس و لا يشعر بشي‏ء من ذلك فيرى في النوم ما يجد به السرور و الالتذاذ حتى أنه يود أن يطول نومه فلا ينتبه و

قد جاء في الحديث‏ أنه يفسح له مد بصره و يقال له نم نومة العروس‏

و قوله‏ «وَ لكِنْ لا تَشْعُرُونَ» أي لا تعلمون أنهم أحياء و في هذه الآية دلالة على صحة مذهبنا في سؤال القبر و إثابة المؤمن‏


434
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 155] ..... ص : 435

فيه و عقاب العصاة على ما تظاهرت به الأخبار و إنما حمل البلخي الآية على حياة الحشر لإنكاره عذاب القبر.

[سورة البقرة (2): آية 155]

وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْ‏ءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَ الْجُوعِ وَ نَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَ الْأَنْفُسِ وَ الثَّمَراتِ وَ بَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155)

اللغة

البلاء الاختبار و يكون بالخير و الشر و الخوف انزعاج النفس لما يتوقع من الضرر و الجوع ضد الشبع و هو المخمصة و المجاعة عام فيه جوع و حقيقة الجوع الشهوة الغالبة إلى الطعام و الشبع زوال الشهوة و لا خلاف أن الشهوة معنى في القلب لا يقدر عليه غير الله تعالى و الجوع منه و أما الشبع فهو معنى عند أبي علي الجبائي و هو فعله تعالى و عند أبي هاشم ليس بمعنى و هكذا القول في العطش و الري و النقص نقيض الزيادة و النقصان يكون مصدرا و اسما و نقص الشي‏ء و نقصته لازم و متعد و دخل عليه نقص في عقله و دينه و لا يقال نقصان و النقيصة الوقيعة في الناس و النقيصة انتقاص الحق و تنقصه تناول عرضه و أصل النقص الحط من التمام و المال معروف و أموال العرب أنعامهم و رجل مال أي ذو مال و الثمرة أفضل ما تحمله الشجرة.

الإعراب‏

فتحت الواو في‏ «لَنَبْلُوَنَّكُمْ» كما فتحت الراء في‏ لَنَنْصُرَنَّكُمْ‏ و هو أنه بني على الفتحة لأنها أخف إذا استحق البناء على الحركة كما استحق يا في النداء حكم البناء على الحركة «مِنَ الْخَوْفِ وَ الْجُوعِ» الجار و المجرور صفة شي‏ء.

المعنى‏

لما بين سبحانه ما كلف عباده من العبادات عقبه ببيان ما امتحنهم به من فنون المشقات فقال‏ «وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ» أي و لنختبرنكم و معناه نعاملكم معاملة المختبر ليظهر المعلوم و الخطاب لأصحاب النبي (ع) عن عطاء و الربيع و لو قيل أنه خطاب لجميع الخلق لكان أيضا صحيحا «بِشَيْ‏ءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَ الْجُوعِ وَ نَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ» أي بشي‏ء من الخوف و شي‏ء من الجوع و شي‏ء من نقص الأموال فأوجز و إنما قال من الخوف على وجه التبعيض لأنه لم يكن مؤبدا و إنما عرفهم سبحانه ذلك ليوطنوا أنفسهم على المكاره التي تلحقهم في نصرة النبي ص لما لهم فيها من‏


435
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): الآيات 156 الى 157] ..... ص : 436

المصلحة فأما سبب الخوف فكان قصد المشركين لهم بالعداوة و سبب الجوع تشاغلهم بالجهاد في سبيل الله عن المعاش و احتياجهم إلى الإنفاق فيه و قيل للقحط الذي لحقهم و الجدب الذي أصابهم و سبب نقص الأموال الانقطاع بالجهاد عن العمارة و نقص الأنفس بالقتل في الحروب مع رسول الله ص و قيل نقص الأموال بهلاك المواشي‏ «وَ الْأَنْفُسِ» بالموت و قوله‏ «وَ الثَّمَراتِ» قيل أراد ذهاب حمل الأشجار بالجوانح و قلة النبات و ارتفاع البركات و قيل أراد به الأولاد لأن الولد ثمرة القلب و إنما قال ذلك لاشتغالهم بالقتال عن عمارة البستان و عن مناكحة النسوان فيقل نزل البساتين و حمل البنات و البنين و وجه الابتلاء بهذه الأشياء ما تقتضيه الحكمة من الألطاف و دقائق المصالح و الأغراض و يدخره سبحانه لهم ما يرضيهم به من جلائل الأعواض و قيل في وجه اللطف في ذلك قولان (أحدهما) أن من جاء من بعدهم إذا أصابهم مثل هذه الأمور علموا أنه لا يصيبهم ذلك لنقصان درجة و حط مرتبة فإن قد أصاب ذلك من هو أعلى درجة منهم و هم أصحاب النبي ص (و الآخر) أن الكفار إذا شاهدوا المؤمنين يتحملون المشاق في نصرة الرسول و موافقتهم له و تنالهم هذه المكاره فلا يتغيرون في قوة البصيرة و نقاء السريرة علموا أنهم إنما فعلوا ذلك لعلمهم بصحة هذا الدين و كونهم من معرفة صدقه على اليقين فيكون ذلك داعيا لهم إلى قبول الإسلام و الدخول في جملة المسلمين و قوله‏ «وَ بَشِّرِ الصَّابِرِينَ» أي أخبرهم بما لهم على الصبر في تلك المشاق و المكاره من المثوبة الجزيلة و العاقبة الجميلة.

[سورة البقرة (2): الآيات 156 الى 157]

الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَ إِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (156) أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ رَحْمَةٌ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)

القراءة

أمال الكسائي في بعض الروايات النون من إنا و اللام من لله و الباقون بالتفخيم.

الحجة

و إنما جازت الإمالة في هذه الألف مع اسم الله للكسرة مع كثرة الاستعمال حتى صارت بمنزلة الكلمة الواحدة قال الفراء لا يجوز إمالة إنا مع غير الاسم الله تعالى في مثل قولك إنا لزيد و إنما لم يجز ذلك لأن الأصل في الحروف و ما جرى مجراها امتناع الإمالة فيها فلا يجوز إمالة حتى و لكن ما أشبه ذلك لأن الحروف بمنزلة


436
مجمع البيان في تفسير القرآن1

اللغة ..... ص : 437

بعض الكلمة من حيث امتنع فيها التصريف الذي يكون في الأسماء و الأفعال.

اللغة

المصيبة المشقة الداخلة على النفس لما يلحقها من المضرة و هو من الإصابة كأنها تصيبها بالنكبة و الرجوع مصير الشي‏ء إلى ما كان يقال رجعت الدار إلى فلان إذا ملكها مرة ثانية و هو نظير العود و المصير و الاهتداء الإصابة لطريق الحق.

المعنى‏

ثم وصف عز اسمه الصابرين فقال‏ «الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ» أي نالتهم نكبة في النفس أو المال فوطنوا أنفسهم على ذلك احتسابا للأجر «قالُوا إِنَّا لِلَّهِ» هذا إقرار بالعبودية أي نحن عبيد الله و ملكه‏ «وَ إِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ» هذا إقرار بالبعث و النشور أي نحن إلى حكمه نصير و لهذا

قال أمير المؤمنين (ع) إن قولنا «إِنَّا لِلَّهِ» إقرار على أنفسنا بالملك و قولنا «وَ إِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ» إقرار على أنفسنا بالهلك‏

و إنما كانت هذه اللفظة تعزية عن المصيبة لما فيها من الدلالة على أن الله تعالى يجبرها إن كانت عدلا و ينصف من فاعلها إن كانت ظلما و تقديره إنا لله تسليما لأمره و رضاء بتدبيره و إنا إليه راجعون ثقة بأنا نصير إلى عدله و انفراده بالحكم في أموره و

في الحديث‏ من استرجع عند المصيبة جبر الله مصيبته و أحسن عقباه و جعل له خلفا صالحا يرضاه‏

و

قال (ع) من أصيب بمصيبة فأحدث استرجاعا و إن تقادم عهدها كتب الله له من الأجر مثل يوم أصيب‏

و

روى الصادق (ع) عن آبائه عن النبي ص قال‏ أربع من كن فيه كتبه الله من أهل الجنة من كانت عصمته شهادة أن لا إله إلا الله و من إذا أنعم الله عليه النعمة قال الحمد لله و من إذا أصاب ذنبا قال أستغفر الله و من إذا أصابته مصيبة قال‏ «إِنَّا لِلَّهِ وَ إِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ»

و قوله‏ «أُولئِكَ» إشارة إلى الذين وصفهم من الصابرين‏ «عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ» أي ثناء جميل من ربهم و تزكية و هو بمعنى الدعاء لأن الثناء يستحق دائما ففيه معنى اللزوم كما أن الدعاء يدعى به مرة بعد مرة ففيه معنى اللزوم و قيل بركات من ربهم عن ابن عباس و قيل مغفرة من ربهم‏ «وَ رَحْمَةٌ» أي نعمة عاجلا و آجلا فالرحمة النعمة على المحتاج و كل أحد يحتاج إلى نعمة الله في دنياه و عقباه‏ «وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ» أي المصيبون طريق الحق في الاسترجاع و قيل إلى الجنة و الثواب و كان عمر بن الخطاب إذا قرأ هذه الآية قال نعم العدلان و نعمت العلاوة.


437
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 158] ..... ص : 438

[سورة البقرة (2): آية 158]

إِنَّ الصَّفا وَ الْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَ مَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ (158)

القراءة

قرأ أهل الكوفة غير عاصم من يطوع بالياء و تشديد الطاء و الواو و كذلك ما بعده و وافقهم زيد و رويس عن يعقوب في الأول و الباقون‏ «تَطَوَّعَ» على أنه فعل ماض روي في الشواذ عن علي (ع) و ابن عباس و أنس و سعيد بن جبير و أبي بن كعب و ابن مسعود ألا يطوف بهما.

الحجة

يمكن أن يكون لا على هذه القراءة زائدة كما في قوله‏ لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ‏ أي ليعلم و كقوله:

من غير لا عصف و لا اصطراف‏

 

أي من غير عصف و يطوع تقديره يتطوع إلا أنه أدغم التاء في الطاء لتقاربهما.

اللغة

الصفا في الأصل الحجر الأملس مأخوذ من الصفو واحده صفاة قال امرؤ القيس:

لها كفل كصفاة المسيل‏

أبرز عنها جحاف مضر

 

فهو مثل حصاة و حصى و نواة و نوى و قيل إن الصفا واحد قال المبرد الصفا كل حجر لا يخلطه غيره من طين أو تراب و إنما اشتقاقه من صفا يصفو إذا خلص و أصله من الواو لأنك تقول في تثنيته صفوان و لا يجوز إمالته و المروة في الأصل الحجارة الصلبة اللينة و قيل الحصاة الصغيرة و المرو لغة في المروة و قيل هو جمع مثل تمرة و تمر قال أبو ذؤيب:

حتى كأني للحوادث مروة

بصفا المشرق كل يوم تقرع‏

 

و المرو نبت و أصله الصلابة فالنبت إنما سمي بذلك لصلابة بزره و قد صارا اسمين لجبلين معروفين بمكة و الألف و اللام فيهما للتعريف لا للجنس و الشعائر المعالم للأعمال و شعائر الله معالمه التي جعلها مواطن للعبادة و كل معلم لعبادة من دعاء أو صلاة أو غيرهما فهو مشعر لتلك العبادة و واحد الشعائر شعيرة فشعائر الله أعلام متعبداته من موقف أو مسعى أو منحر من شعرت به أي علمت قال الكميت:

نقتلهم جيلا فجيلا نراهم‏

شعائر قربان بهم يتقرب‏

 


438
مجمع البيان في تفسير القرآن1

الإعراب ..... ص : 439

و الحج في اللغة هو القصد على وجه التكرار و في الشريعة عبارة عن قصد البيت بالعمل المشروع من الإحرام و الطواف و السعي و الوقوف بالموقفين و غير ذلك قال الشاعر:

و أشهد من عوف حلولا كثيرة

يحجون بيت الزبرقان المزعفرا

 

يعني يكثرون التردد إليه لسؤدده و العمرة هي الزيارة أخذ من العمارة لأن الزائر يعمر المكان بزيارته و هي في الشرع زيارة البيت بالعمل المشروع و الجناح الميل عن الحق يقال جنح إليه جنوحا إذا مال و أجنحته فاجتنح أي أملته فمال و جناحا الطائر يداه و يدا الإنسان جناحاه و جناحا العسكر جانباه و الطواف الدوران حول الشي‏ء و منه الطائف و في عرف الشرع الدور حول البيت و الطائفة الجماعة كالحلقة الدائرة و يطوف أصله يتطوف و مثله يطوع و الفرق بين الطاعة و التطوع أن الطاعة موافقة الإرادة في الفريضة و النافلة و التطوع التبرع بالنافلة خاصة و أصلهما من الطوع الذي هو الانقياد و الشاكر فاعل الشكر و إنما يوصف سبحانه بأنه شاكر مجازا و توسعا لأنه في الأصل هو المظهر للإنعام عليه و الله يتعالى عن أن يكون عليه نعمة لأحد.

الإعراب‏

قوله‏ «فَمَنْ حَجَّ» «وَ مَنْ تَطَوَّعَ» يحتمل أمرين (أحدهما) أن يكون من موصولا بمنزلة الذي و الآخر أن يكون للجزاء فإن كان موصولا فلا موضع للفعل الذي بعده هو مع صلته في موضع رفع الابتداء و الفاء على هذا مع ما بعده في قوله‏ «فَلا جُناحَ عَلَيْهِ» «فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ» في موضع رفع بأنه خبر المبتدأ الموصول و إن كان للجزاء كان الفعل الذي بعده في موضع الجزم و كانت الفاء مع ما بعدها أيضا في موضع جزم لوقوعها موقع الفعل المجزوم الذي هو جزاء و الفعل الذي هو حج أو تطوع على لفظ الماضي و التقدير به المستقبل كما أن ذلك في قولك إن أكرمتني أكرمتك كذلك و قوله‏ «فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ» إنما يصح أن يقع موقع الجزاء أو موقع خبر المبتدأ و إن لم يكن فيه ضمير عائد لأن تقديره يعامله معاملة الشاكر بحسن المجازاة و إيجاب المكافاة و إنما دخلت الفاء في خبر المبتدأ الموصول لما فيه من معنى الجزاء و إن لم يكن في موضع الجزم أ لا ترى أن هذه الفاء تؤذن بأن الثاني وجب لوجوب الأول.

المعنى‏

لما ذكر سبحانه امتحان العباد بالتكليف و الإلزام مرة و بالمصائب و الآلام أخرى ذكر سبحانه أن من جملة ذلك أمر الحج فقال‏ «إِنَّ الصَّفا وَ الْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ» أي إنهما من أعلام متعبداته و قيل من مواضع نسكه و طاعاته عن ابن عباس و قيل من دين‏


439
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 439

الله عن الحسن و قيل فيه حذف و تقديره الطواف بين الصفا و المروة من شعائر الله و

روي عن جعفر الصادق (ع) أنه قال‏ نزل آدم على الصفا و نزلت حواء على المروة فسمي الصفا باسم آدم المصطفى و سميت المروة باسم المرأة

و قوله‏ «فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ» أي قصده بالأفعال المشروعة «أَوِ اعْتَمَرَ» أي أتى بالعمرة بالمناسك المشروعة و قوله‏ «فَلا جُناحَ عَلَيْهِ» أي لا حرج عليه‏ «أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما»

قال الصادق (ع) كان المسلمون يرون أن الصفا و المروة مما ابتدع أهل الجاهلية فأنزل الله هذه الآية و إنما قال‏ «فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما» و هو واجب أو طاعة على الخلاف فيه لأنه كان على الصفا صنم يقال له إساف و على المروة صنم يقال له نائلة و كان المشركون إذا طافوا بهما مسحوهما فتحرج المسلمون عن الطواف بهما لأجل الصنمين فأنزل الله تعالى هذه الآية

عن الشعبي و كثير من العلماء فرجع رفع الجناح عن الطواف بهما إلى تحرجهم عن الطواف بهما لأجل الصنمين لا إلى عين الطواف كما لو كان الإنسان محبوسا في موضع لا يمكنه الصلاة إلا بالتوجه إلى ما يكره التوجه إليه من المخرج و غيره فيقال له لا جناح عليك في الصلاة إلى ذلك المكان فلا يرجع رفع الجناح إلى عين الصلاة لأن عين الصلاة واجبة إنما يرجع إلى التوجه إلى ذلك المكان و رويت رواية أخرى‏

عن أبي عبد الله (ع) أنه كان ذلك في عمرة القضاء و ذلك أن رسول الله ص شرط عليهم أن يرفعوا الأصنام فتشاغل رجل من أصحابه حتى أعيدت الأصنام فجاءوا إلى رسول الله ص فقيل له إن فلانا لم يطف و قد أعيدت الأصنام فنزلت هذه الآية «فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما» أي و الأصنام عليهما قال فكان الناس يسعون و الأصنام على حالها فلما حج النبي ص رمى بها

و قوله‏ «مَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً» فيه أقوال (أولها) أن معناه من تبرع بالطواف و السعي بين الصفا و المروة بعد ما أدى الواجب من ذلك عن ابن عباس و غيره (و ثانيها) أن معناه من تطوع بالحج و العمرة بعد أداء الحج و العمرة المفروضين عن الأصم (و ثالثها) أن معناه من تطوع بالخيرات و أنواع الطاعات عن الحسن و من قال إن السعي ليس بواجب قال معناه من تبرع بالسعي بين الصفا و المروة و قوله‏ «فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ» أي مجازية على ذلك و إنما ذكر لفظ الشاكر تلطفا بعباده و مظاهرة في الإحسان و الإنعام إليهم كما قال‏ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً و الله سبحانه لا يستقرض عن عوز و لكنه ذكر هذا اللفظ على طريق التلطف أي يعامل عباده معاملة المستقرض من حيث إن العبد ينفق في حال غناه فيأخذ أضعاف ذلك في حال فقره و حاجته و كذلك لما كان يعامل عباده معاملة الشاكرين من حيث أنه يوجب الثناء له و الثواب سمى نفسه شاكرا و قوله‏ «عَلِيمٌ» أي بما تفعلونه من الأفعال فيجازيكم عليها


440
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 159] ..... ص : 441

و قيل عليم بقدر الجزاء فلا يبخس أحدا حقه و في هذه الآية دلالة على أن السعي بين الصفا و المروة عبادة و لا خلاف في ذلك و هو عندنا فرض واجب في الحج و في العمرة و به قال الحسن و عائشة و هو مذهب الشافعي و أصحابه و قال إن السنة أوجبت السعي و هو

قوله ص‏ كتب عليكم السعي فاسعوا

فأما ظاهر الآية فإنما يدل على إباحة ما كرهوه من السعي و عند أبي حنيفة و أصحابه هو تطوع و هو اختيار الجبائي و روي ذلك عن أنس و ابن عباس و عندنا و عند الشافعي من تركه متعمدا فلا حج له.

[سورة البقرة (2): آية 159]

إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَ الْهُدى‏ مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَ يَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ (159)

النزول‏

المعني بالآية اليهود و النصارى مثل كعب بن الأشرف و كعب بن أسد و ابن صوريا و زيد بن التابوه و غيرهم من علماء النصارى الذين كتموا أمر محمد و نبوته و هم يجدونه مكتوبا في التوراة و الإنجيل مثبتا فيهما عن ابن عباس و مجاهد و الحسن و قتادة و أكثر أهل العلم و قيل إنه متناول لكل من كتم ما أنزل الله و هو اختيار البلخي و هو الأقوى لأنه أعم فيدخل فيه أولئك و غيرهم.

المعنى‏

ثم حث الله سبحانه على إظهار الحق و بيانه و نهى عن إخفائه و كتمانه فقال‏ «إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ» أي يخفون‏ «ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ» أي من الحجج المنزلة في الكتب‏ «وَ الْهُدى‏» أي الدلائل فالأول علوم الشرع و الثاني أدلة العقل فعم بالوعيد في كتمان جميعها و قيل أراد بالبينات الحجج الدالة على نبوته (ع) و بالهدى ما يؤديه إلى الخلق من الشرائع و قيل البينات و الهدى هي الأدلة و هما بمعنى واحد و إنما كرر لاختلاف لفظيهما «مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ» يعني في التوراة و الإنجيل من صفته (ع) و من الأحكام و قيل في الكتب المنزلة من عند الله و قيل أراد بقوله‏ «ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ» الكتب المتقدمة و بالكتاب القرآن‏ «أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ» أي يبعدهم من رحمته بإيجاب العقوبة لأنه لا يجوز لهن من لا يستحق العقوبة «وَ يَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ» قيل الملائكة و المؤمنون عن قتادة و الربيع و هو الصحيح لقوله سبحانه‏ «عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَ الْمَلائِكَةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ» و قيل دواب الأرض و هوامها تقول منعنا القطر بمعاصي بني آدم عن‏


441
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 160] ..... ص : 442

مجاهد و عكرمة و قيل كل شي‏ء سوى الثقلين الجن و الإنس عن ابن عباس و قيل إذا تلا عن الرجلان رجعت اللعنة على المستحق لها فإن لم يستحقها واحد منهما رجعت على اليهود الذين كتموا ما أنزل الله عن ابن مسعود فإن قيل كيف يصح ذلك على قول من قال المراد باللاعنين البهائم و هذا الجمع لا يكون إلا للعقلاء قيل لما أضيف إليها فعل ما يعقل عوملت معاملة من يعقل كقوله سبحانه‏ وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ‏ و إنما أضيف اللعن إلى من لا يعقل لأن الله يلهمهم اللعن عليهم لما في ذلك من الزجر عن المعاصي لأن الناس إذا علموا أنهم إذا عملوا هذه المعاصي استحقوا اللعن حتى أنه يلعنهم الدواب و الهوام كان لهم في ذلك أبلغ الزجر و قيل إنما يكون ذلك في الآخرة يكمل الله عقولها فتلعنهم و في هذه الآية دلالة على أن كتمان الحق مع الحاجة إلى إظهاره من أعظم الكبائر و أن من كتم شيئا من علوم الدين و فعل مثل فعلهم فهو مثلهم في عظم الجرم و يلزمه كما لزمهم الوعيد و

قد روي عن النبي ص أنه قال‏ من سئل عن علم يعلمه فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار

و فيها أيضا دلالة على وجوب الدعاء إلى التوحيد و العدل لأن في كتاب الله تعالى ما يدل عليهما تأكيدا لما في العقول من الأدلة.

[سورة البقرة (2): آية 160]

إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَ أَصْلَحُوا وَ بَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَ أَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)

اللغة

التوبة هي الندم الذي يقع موقع التنصل من الشي‏ء و ذلك بالتحسر على مواقعته و العزم على ترك معاودته إن أمكنت المعاودة و اعتبروا قوم ترك المعاودة على مثله في القبح و هذا أقوى لأن الأمة أجمعت على سقوط العقاب عند هذه التوبة و فيما عداها خلاف و إصلاح العمل هو إخلاصه من قبيح ما يشوبه و التبيين هو التعريض للعلم الذي يمكن به صحة التمييز من البين الذي هو القطع.

الإعراب‏

موضع الذين نصب على الاستثناء من الكلام الموجب و معنى الاستثناء الاختصاص بالشي‏ء دون غيره فإذا قلت جاءني القوم إلا زيدا فقد اختصصت زيدا بأنه لم يجي‏ء و إذا قلت ما جاءني إلا زيد فقد اختصصته بالمجي‏ء و إذا قلت ما جاءني زيد إلا راكبا فقد اختصصته بهذه الحالة دون غيرها من المشي و العدو و غيرهما.

المعنى‏

ثم استثنى الله سبحانه في هذه الآية من تاب و أصلح و بين من جملة من‏


442
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): الآيات 161 الى 162] ..... ص : 443

 

استحق اللعنة فقال‏ «إِلَّا الَّذِينَ تابُوا» أي ندموا على ما قدموا «وَ أَصْلَحُوا» نياتهم فيما يستقبل من الأوقات‏ «وَ بَيَّنُوا» اختلف فيه فقال أكثر المفسرين بينوا ما كتموه من البشارة بالنبي ص و قيل بينوا التوبة و إصلاح السريرة بالإظهار لذلك فإن من ارتكب المعصية سرا كفاه التوبة سرا و من أظهر المعصية يجب عليه أن يظهر التوبة و قيل بينوا التوبة بإخلاص العمل‏ «فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ» أي أقبل و الأصل في أتوب أفعل التوبة إلا أنه لما وصل بحرف الإضافة دل على أن معناه أقبل التوبة إنما كان لفظه مشتركا بين فاعل التوبة و القابل لها للترغيب في صفة التوبة إذ وصف بها القابل لها و هو الله عز اسمه و ذلك من إنعام الله على عباده لئلا يتوهم بما فيها من الدلالة على مفارقة الذنب أن الوصف بها عيب فلذلك جعلت في أعلى صفات المدح‏ «وَ أَنَا التَّوَّابُ» هذه اللفظة للمبالغة إما لكثرة ما يقبل التوبة و إما لأنه لا يرد تائبا منيبا أصلا و وصفه سبحانه نفسه بالرحيم عقيب قوله‏ «التَّوَّابُ» يدل على أن إسقاط العقاب عند التوبة تفضل من الله سبحانه و رحمة من جهته على ما قاله أصحابنا و أنه غير واجب عقلا على ما يذهب إليه المعتزلة فإن قالوا قد يكون الفعل الواجب نعمة إذا كان منعما بسببه كالثواب و العوض لما كان منعما بالتكليف و بالآلام التي تستحق بها الأعواض جاز أن يطلق عليها اسم النعمة فالجواب أن ذلك إنما قلناه في الثواب و العوض ضرورة و لا ضرورة هاهنا تدعو إلى ارتكابه.

[سورة البقرة (2): الآيات 161 الى 162]

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ ماتُوا وَ هُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَ الْمَلائِكَةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ (162)

اللغة

واحد الناس إنسان في المعنى فأما في اللفظ فلا واحد له فهو كنفر و رهط مما يقال إنه اسم للجمع و الخلود اللزوم أبدا و البقاء الوجود في وقتين فصاعدا و لذلك لم يجز في صفات الله تعالى خالد و جاز باق و لذلك يقال أخلد إلى قوله أي لزم معنى ما أتى به و منه قوله‏ وَ لكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ‏ أي مال إليها ميل اللازم لها و الفرق بين الخلود و الدوام أن الدوام هو الوجود في الأزل و إلا يزال فإذا قيل دام المطر فهو على المبالغة و حقيقته لم يزل من وقت كذا إلى وقت كذا و الخلود هو اللزوم أبدا و التخفيف هو النقصان من المقدار الذي له و العذاب هو الألم الذي له امتداد و الإنظار الإمهال قدر ما يقع النظر

 

 

 

443
مجمع البيان في تفسير القرآن1

الإعراب ..... ص : 444

في الخلاص و أصل النظر الطلب فالنظر بالعين هو الطلب بالعين و كذلك النظر بالقلب أو باليد أو بغيرها من الحواس تقول أنظر الثوب أين هو أي اطلبه أين هو و الفرق بين العذاب و الإيلام أن الإيلام قد يكون بجزء من الألم في الوقت الواحد مقدار ما يتألم به و العذاب الألم الذي له استمرار في أوقات و منه العذب لاستمراره في الحلق و العذبة لاستمرارها بالحركة.

الإعراب‏

«وَ هُمْ كُفَّارٌ» جملة في موضع الحال و أجمعين تأكيد و إنما أكد به ليرتفع الإيهام و الاحتمال قبل أن ينظر في تحقيق الاستدلال و لهذا لم يجز الأخفش رأيت أحد الرجلين كليهما و أجاز رأيتهما كليهما لأنك إذا ذكرت الحكم مقرونا بالدليل أزلت الإيهام للفساد و إذا ذكرته وحده فقد يتوهم عليك الغلط في المقصد و أنت لما ذكرت التثنية في قولك أحد الرجلين و ذكرت أحدا كنت بمنزلة من ذكر الحكم و الدليل عليه فأما ذكر التثنية في رأيتهما فبمنزلة ذكر الحكم وحده و خالدين منصوب على الحال و العامل فيه الظرف من قوله‏ عَلَيْهِمْ‏ لأن فيه معنى الاستقرار للعنة و ذو الحال الهاء و الميم من عليهم كقولك عليهم المال صاغرين و قوله‏ «فِيها» الهاء يعود إلى اللعنة في قول الزجاج و إلى النار في قول أبي العالية «لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ» جملة في موضع الحال‏ «وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ» كذلك و هم تأكيد لضمير في فعل مقدر يفسره هذا الظاهر تقديره و لا هم ينظرون هم.

المعنى‏

لما بين سبحانه حال من كتم الحق و حال من تاب منهم عقبه بحال من يموت من غير توبة منهم أو من الكفار جميعا فقال‏ «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ ماتُوا وَ هُمْ كُفَّارٌ» أي ماتوا مصرين على الكفر و إنما قال‏ «وَ ماتُوا وَ هُمْ كُفَّارٌ» مع أن كل كافر ملعون في حال كفره ليصير الوعيد فيه غير مشروط لأن بالموت يفوت التلافي بالتوبة فلذلك شرط سبحانه و بين أن الكفار لم يموتوا على كفرهم لم تكن هذه حالهم و قيل إن هذا الشرط إنما هو في خلود اللعنة لهم كقوله‏ «خالِدِينَ فِيها» «أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ» أي إبعاده من رحمته و عقابه‏ «وَ الْمَلائِكَةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ» فإن قيل كيف قال‏ «وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ» و في الناس من لا يلعن الكافر فالجواب من وجوه (أحدها) أن كل أحد من الناس يلعن الكافر أما في الدنيا و أما في الآخرة أو فيهما جميعا كما قال‏ ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَ يَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً عن أبي العالية و (ثانيها) أنه أراد به المؤمنين كأنه لم يعتد بغيرهم كما يقال المؤمنون هم الناس عن قتادة و الربيع و (ثالثها) أنه لا يمتنع أحد من لعن الظالمين فيدخل في ذلك الكافر لأنه ظالم عن السدي و اللعنة إنما تكون من الناس على وجه الدعاء و من الله على‏


444
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 163] ..... ص : 445

وجه الحكم و قوله‏ «خالِدِينَ فِيها» أي دائمين فيها أي في تلك اللعنة عن الزجاج و الجبائي و قيل في النار لأنه كالمذكور لشهرته في حال المعذبين و لأن اللعن إبعاد من الرحمة و إيجاب للعقاب و العقاب يكون في النار و أما الخلود في اللعنة فيحتمل أمرين (أحدهما) الاستحقاق للعنة بمعنى أنها تحق عليهم أبدا (و الثاني) في عاقبة اللعنة و هي النار التي لا تفنى أبدا و قوله‏ «لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ» أي يكون عذابهم على وتيرة واحدة فلا يخفف أحيانا و يشتد أحيانا «وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ» أي لا يمهلون للاعتذار كما قال سبحانه‏ وَ لا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ‏ قطعا لطمعهم في التوبة عن أبي العالية و قيل معناه لا يؤخر العذاب عنهم بل عذابهم حاضر.

[سورة البقرة (2): آية 163]

وَ إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (163)

اللغة

واحد شي‏ء لا ينقسم عددا كان أو غيره و يجري على وجهين على الحكم و على جهة الوصف فالحكم كقولك جزء واحد فإنه لا ينقسم من جهة أنه جزء و الوصف كقولك إنسان واحد و دار واحدة فإنه لا ينقسم من جهة أنه إنسان.

الإعراب‏

هو من قوله‏ «لا إِلهَ إِلَّا هُوَ» في موضع رفع على البدل من موضع لا مع الاسم كقولك لا رجل إلا زيد كأنك قلت ليس إلا زيد كما تريد من المعنى إذ لم تعتد بغيره و لا يجوز النصب على قولك ما قام أحد إلا زيد لأن البدل يدل على أن الاعتماد على الثاني و المعنى ذلك و النصب يدل على أن الاعتماد في الأخبار إنما هو على الأول و العبارة الواضحة إن هو بدل من محل إله قبل التركيب و قوله‏ «لا إِلهَ إِلَّا هُوَ» هو إثبات الله سبحانه و هو بمنزلة قولك الله الآلة وحده و إنما كان كذلك لأنه القادر على ما يستحق به العبادة و لا لم يدل على النفي في هذا الخبر من قبل أنه لم يدل على إله موجود و لا معدوم سوى الله لكنه نقيض لقول من ادعى إلها مع الله و إنما النفي إخبار بعدم شي‏ء كما أن الإثبات إخبار بوجوده.

النزول‏

ابن عباس قال إن كفار قريش قالوا يا محمد صف لنا و انسب لنا ربك فأنزل الله هذه الآية و سورة الإخلاص.

المعنى‏

«وَ إِلهُكُمْ» أي خالقكم و المنعم عليكم بالنعم التي لا يقدر عليها غيره و الذي تحق له العبادة و قال علي بن عيسى معنى إله هو المستحق للعبادة و هذا غلط لأنه لو


445
مجمع البيان في تفسير القرآن1

النظم ..... ص : 446

 

كان كذلك لما كان القديم سبحانه إلها فيما لم يزل لأنه لم يفعل في الأزل ما يستحق به العبادة و معنى قولنا إنه تحق له العبادة أنه قادر على ما إذا فعله استحق به العبادة و قوله‏ «إِلهٌ واحِدٌ» وصفه سبحانه بأنه واحد على أربعة أوجه (أحدها) أنه ليس بذي أبعاض و لا يجوز عليه الانقسام و لا يحتمل التجزئة (و الثاني) أنه واحد لا نظير له و لا شبيه له (و الثالث) أنه واحد في الإلهية و استحقاق العبادة (و الرابع) أنه واحد في صفاته التي يستحقها لنفسه فإن معنى وصفنا لله تعالى بأنه قديم أنه المختص بهذه الصفة لا يشاركه فيها غيره و وصفنا له بأنه عالم قادر أنه المختص بكيفية استحقاق هاتين الصفتين لأن المراد به أنه عالم بجميع المعلومات لا يجوز عليه الجهل و قادر على الأجناس كلها لا يجوز عليه العجز و وصفنا له بأنه حي باق أنه لا يجوز عليه الموت و الفناء فصار الاختصاص بكيفية الصفات كالاختصاص بنفس الصفات يستحقها سبحانه وحده على وجه لا يشاركه فيه غيره و قوله‏ «لا إِلهَ إِلَّا هُوَ» هذه كلمة لإثبات الإلهية لله تعالى وحده و معناه الله هو الإله وحده و اختلف في أنه هل فيها نفي المثل عن الله سبحانه فقال المحققون ليس فيها نفي المثل عنه لأن النفي إنما يصح في موجود أو معدوم و الله عز اسمه ليس له مثل موجود و لا معدوم و قال بعضهم فيها نفي المثل المقدر عن الله سبحانه و قوله‏ «الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ» إنما قرن‏ «الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ» بقوله‏ «لا إِلهَ إِلَّا هُوَ» لأنه بين به سبب استحقاق العبادة على عباده و هو ما أنعم عليهم من النعم العظام التي لا يقدر عليها أحد غيره فإن الرحمة هي النعمة على المحتاج إليها و قد ذكرنا معنى‏ «الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ» فيما مضى.

النظم‏

الآية متصلة بما قبلها و بما بعدها فاتصالها بما قبلها كاتصال الحسنة بالسيئة لتمحو أثرها و يحذر من مواقعتها لأنه لما ذكر الشرك و أحكامه أتبع ذلك بذكر التوحيد و أحكامه و اتصالها بما بعدها كاتصال الحكم بالدلالة على صحته لأن ما ذكر في الآية التي بعدها هي الحجة على صحة التوحيد.

[سورة البقرة (2): آية 164]

إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ الْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَ بَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَ تَصْرِيفِ الرِّياحِ وَ السَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)

 

 

 

446
مجمع البيان في تفسير القرآن1

القراءة ..... ص : 447

القراءة

قرأ حمزة و الكسائي الريح على التوحيد و الباقون على الجمع و لم يختلفوا في توحيد ما ليس فيه ألف و لام و قرأ أبو جعفر «الرِّياحِ» على الجمع كل القرآن إلا في الذاريات و قرأ أبو عمرو و يعقوب و ابن عامر و عاصم‏ «الرِّياحِ» في عشرة مواضع في البقرة و الأعراف و الحجر و الكهف و الفرقان و النمل و الروم في موضعين و فاطر و الجاثية و قرأ نافع اثني عشر موضعا هذه العشرة و في إبراهيم و عسق و قرأ ابن كثير في خمسة مواضع البقرة و الحجر و الكهف و أول الروم و الجاثية و قرأ الكسائي‏ الرِّياحَ+ في ثلاثة مواضع في الحجر و الفرقان و أول الروم و وافقه حمزة إلا في الحجر.

الحجة

قال ابن عباس‏ «الرِّياحِ» للرحمة و الريح للعذاب و

روي‏ أن النبي ص كان إذا هبت ريح قال اللهم اجعلها رياحا و لا تجعلها ريحا

و يقوي هذا الخبر قوله سبحانه‏ وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ‏ و يشبه أن يكون النبي ص إنما قصد بقوله هذا الموضع و بقوله و لا تجعلها ريحا قوله سبحانه‏ وَ فِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ‏ و قد تختص اللفظة في التنزيل بشي‏ء فيكون أمارة له فمن ذلك أن عامة ما جاء في القرآن من قوله‏ ما يُدْرِيكَ+ مبهم غير مبين و ما كان من لفظ ما أَدْراكَ+ مفسر كقوله‏ وَ ما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ و مَا الْقارِعَةُ و ما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ‏ قال أبو علي‏ «وَ تَصْرِيفِ الرِّياحِ» على الجمع أولى لأن كل واحدة من الرياح مثل الأخرى في دلالتها على التوحيد و من وحد فإنه أراد الجنس كما قالوا أهلك الناس الدينار و الدرهم فأما قوله‏ وَ لِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً و إن كانت الرياح كلها سخرت له فالمراد بها الجنس و الكثرة و إن كانت قد سخرت له ريح بعينها كان كقولك الرجل و أنت تريد به العهد و أما قوله‏ وَ فِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ‏ فهي واحدة يدلك عليه قوله‏ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً و

في الحديث‏ نصرت بالصبا و أهلكت عاد بالدبور

فهذا يدل على أنها واحدة.

اللغة

الخلق هو الإحداث للشي‏ء على تقدير من غير احتذاء على مثال و لذلك لا يجوز إطلاقه إلا في صفات الله سبحانه لأنه لا أحد سوى الله يكون جميع أفعاله على ترتيب من غير احتذاء على مثال و قد استعمل الخلق بمعنى المخلوق كما استعمل الرضا

447
مجمع البيان في تفسير القرآن1

اللغة ..... ص : 447

بمعنى المرضي و هو بمنزلة المصدر و ليس معنى الصدر بمعنى المخلوق و اختلف أهل العلم فيه إذا كان بمعنى المصدر فقال قوم هو الإرادة له و قال آخرون إنما هو على معنى مقدر كقولك وجود و عدم و حدوث و قدم و هذه الأسماء تدل على مسمى مقدر للبيان عن المعاني المختلفة و إلا فالمعني بها هذا الموصوف في الحقيقة و السماوات جمع السماء و كل سقف سماء غير أنه إذا أطلق لم يفهم منه غير السماوات السبع و إنما جمعت السماوات و وحدت الأرض لأنه لما ذكر السماء بأنها سبع في قوله‏ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ‏ و قوله‏ خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ‏ جمع لئلا يوهم التوحيد معنى الواحدة من هذه السبع و قوله‏ وَ مِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ‏ و إن دل على معنى السبع فإنه لم يجر على جهة الإفصاع بالتفصيل في اللفظ و أيضا فإن الأرض لتشاكلها تشبه الجنس الواحد الذي لا يجوز جمعه إلا أن يراد الاختلاف و ليس تجري السماوات مجرى الجنس المتفق لأنه دبر في كل سماء أمرها التدبير الذي هو حقها و الاختلاف نقيض الاتفاق و «اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ» أخذ من الخلف لأن كل واحد منهما يخلف صاحبه على وجه المعاقبة و قيل هو من اختلاف الجنس كاختلاف السواد و البياض لأن أحدهما لا يسد مسد الآخر في الإدراك و المختلفان ما لا يسد أحدهما مسد الآخر فيما يرجع إلى ذاته و الليل هو الظلام المعاقب للنهار واحدته ليلة فهو مثل تمر و تمرة و النهار هو الضياء المتسع و أصله الاتساع و منه قول الشاعر:

ملكت بها كفي فأنهرت فتقها

يرى قائم من دونها ما وراءها

 

أي أوسعت و إنما جمعت الليلة و لم يجمع النهار لأن النهار بمنزلة المصدر كقولك الضياء يقع على الكثير و القليل على أنه قد جاء جمع النهار نهر على وجه الشذوذ و قال الشاعر:

لو لا الثريدان هلكنا بالضمر

ثريد ليل و ثريد بالنهر

 

و الفلك السفن تقع على الواحد و الجمع و الفلك فلك السماء و كل مستدير فلك فإن صاحب العين قيل هو اسم للدوران خاصة و قيل بل اسم لإطباق سبعة فيها النجوم و فلكت الجارية إذا استدار ثديها و أصل الباب الدور و ما أنزل الله من السماء و قال قوم السماء يقع على السحاب لأن كل شي‏ء علا شيئا فهو سماء له و قال علي بن عيسى قيل إن السحاب بخارات تصعد من الأرض و ذلك جائز لا يقطع به و لا مانع من صحته من دليل عقل و لا سمع و السماء السقف قال سبحانه‏ وَ جَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً فالسماء المعروفة سقف‏


448
مجمع البيان في تفسير القرآن1

اللغة ..... ص : 447

الأرض و أصله من السمو و هو العلو فالسماء الطبقة العالية على الطبقة السافلة و الأرض الطبقة السافلة و يقال أرض البيت و أرض الغرفة فهو سماء لما تحته من الطبقة السافلة و أرض لما فوقه إلا أنه صار ذلك الاسم بمنزلة الصفة الغالبة على السماء المعروفة و هذا الاسم كالعلم على الأرض المعروفة و البحر هو الخرق الواسع للماء الذي يزيد على سعة النهر و المنفعة هي اللذة و السرور أو ما أدى إليهما أو إلى واحد منهما و النفع و الخير و الحظ نظائر و قد تكون المنفعة بالآلام إذا أدت إلى لذات و الإحياء فعل الحياة و حياة الأرض عمارتها بالنبات و موتها خرابها بالجفاف الذي يمتنع معه النبات و البث التفريق و لك شي‏ء بثثته فقد فرقته و سمي الغم بثا لتقسم القلب به و الدابة من الدبيب و كل شي‏ء خلقه الله مما يدب فهو دابة و صار بالعرف اسما لما يركب و التصريف التقليب و صرف الدهر تقلبه و جمعه صروف و السحاب مشتق من السحب و هو جرك الشي‏ء على وجه الأرض كما تسحب المرأة ذيلها و كل منجر منسحب و سمي سحابا لانجراره في السماء و التسخير و التذليل و التمهيد نظائر يقال سخر الله لفلان كذا إذا سهله له و سخرت الرجل إذا كلفته عملا بلا أجرة و هي السخرة و سخر منه إذا استهزأ به و الرياح أربع الشمال و الجنوب و الصبا و الدبور فالشمال عن يمين القبلة و الجنوب عن يسارها و الصبا و الدبور متقابلان فالصبا من قبل المشرق و الدبور من قبل المغرب و أنشد أبو زيد:

إذا قلت هذا حين أسلو يهيجني‏

نسيم الصبا من حيث يطلع الفجر

 

فإذا جاءت الريح بين الصبا و الشمال فهي النكباء و التي بين الجنوب و الصبا الجربياء و الصبا هي القبول و الجنوب يسمى الأزيب و يسمى النعامي و الشمال يسمى محوة لا تنصرف و يسمى مسعا و نسعا و يسمى الجنوب لاقحا و الشمال حائلا قال أبو داود يصف سحابا:

لقحن ضحيا للقح الجنوب‏

فأصبحن ينتجن ماء الحيا

 

قوله للقح الجنوب أي لإلقاح الجنوب و قال زهير:

جرت سنحا فقلت لها مروعا

نوى مشمولة فمتى اللقاء

 

مشمولة أي مكروهة لأنهم يكرهون الشمال لبردها و ذهابها بالغيم فصار كل مكروه‏


449
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 450

عندهم مشمولا.

المعنى‏

لما أخبر الله سبحانه الكفار بأن إلههم إله واحد لا ثاني له قالوا ما الدلالة على ذلك فقال الله سبحانه‏ «إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ» أي في إنشائهما مقدرين على سبيل الاختراع‏ «وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ» كل واحد منهما يخلف صاحبه إذا ذهب أحدهما جاء الآخر على وجه المعاقبة أو اختلافهما في الجنس و اللون و الطول و القصر «وَ الْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ» أي السفن التي تحمل الأحمال‏ «بِما يَنْفَعُ النَّاسَ» خص النفع بالذكر و إن كان فيه نفع و ضر لأن المراد هنا عد النعم و لأن الضار غيره إنما يقصد منفعة نفسه و النفع بها يكون بركوبها و الحمل عليها في التجارات و المكاسب‏ «وَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ» أي من نحو السماء عند جميع المفسرين و قيل يريد به السحاب‏ «مِنْ ماءٍ» يعني المطر «فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها» أي فعمر به الأرض بعد خرابها لأن الأرض إذا وقع عليها المطر أنبتت و إذا لم يصبها مطر لم تنبت و لم يتم نباتها فكانت من هذا الوجه كالميت و قيل أراد به إحياء أهل الأرض بإحياء الأقوات و غيرها مما تحيى به نفوسهم‏ «وَ بَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ» أي فرق في الأرض من كل حيوان يدب و أراد بذلك خلقها في مواضع متفرقة «وَ تَصْرِيفِ الرِّياحِ» أي تقليبها بأن جعل بعضها صباء و بعضها دبورا و بعضها شمالا و بعضها جنوبا و قيل تصريفها بأن جعل بعضها يأتي بالرحمة و بعضها يأتي بالعذاب عن قتادة و روي أن الريح هاجت على عهد ابن عباس فجعل بعضهم يسب الريح فقال لا تسبوا الريح و لكن قولوا اللهم اجعلها رحمة و لا تجعلها عذابا «وَ السَّحابِ الْمُسَخَّرِ» أي المذلل‏ «بَيْنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ» يصرفها كما يشاء من بلد إلى بلد و من موضع إلى موضع‏ «لَآياتٍ» أي حججا و دلالات‏ «لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» قيل أنه عام في العقلاء من استدل منهم و من لم يستدل و قيل أنه خاص بمن استدل به لأن من لم ينتفع بتلك الدلالات و لم يستدل بها صار كأنه لا عقل له فيكون مثل قوله‏ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها و قوله‏ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ‏ و ذكر سبحانه الآيات و الدلالات و لم يذكر على ما ذا تدل فحذف لدلالة الكلام عليه و قد بين العلماء تفصيل ما تدل عليه فقالوا أما السماوات و الأرض فيدل تغير أجزائهما و احتمالهما الزيادة و النقصان و إنهما من الحوادث لا ينفكان عن حدوثهما ثم إن حدوثهما و خلقهما يدل على أن لهما خالقا لا يشبههما و لا يشبهانه لأنه لا يقدر على خلق الأجسام إلا القديم القادر لنفسه الذي ليس بجسم و لا عرض إذ جميع ما هو بصفة


450
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 450

الأجسام و الأعراض محدث و لا بد له من محدث ليس بمحدث لاستحالة التسلسل و يدل كونهما على وجه الإتقان و الإحكام و الاتساق و الانتظام على كون فاعلهما عالما حكيما و أما اختلاف الليل و النهار و جريهما على وتيرة واحدة و أخذ أحدهما من صاحبه الزيادة و النقصان و تعلق ذلك بمجاري الشمس و القمر فيدل على عالم مدبر يدبرهما على هذا الحد لا يسهو و لا يذهل من جهة أنها أفعال محكمة واقعة على نظام و ترتيب لا يدخلها تفاوت و لا اختلال و أما الفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس فيدل حصول الماء على ما تراه من الرقة و اللطافة التي لولاها لما أمكن جري السفن عليه و تسخير الرياح لإجرائها في خلاف الوجه الذي يجري الماء إليه على منعم منهم دبر ذلك لمنافع خلقه ليس من جنس البشر و لا من قبيل الأجسام لأن الأجسام يتعذر عليها فعل ذلك و أما الماء الذي ينزل من السماء فيدل إنشاؤه و إنزاله قطرة قطرة لا تلتقي أجزاؤه و لا تتألف في الجو فينزل مثل السيل فيخرب البلاد و الديار ثم إمساكه في الهواء مع أن من طبع الماء الانحدار إلى وقت نزوله بقدر الحاجة و في أوقاتها على أن مدبره قادر على ما يشاء من الأمور عالم حكيم خبير و أما إحياء الأرض بعد موتها فيدل بظهور الثمار و أنواع النبات و ما يحصل به من أقوات الخلق و أرزاق الحيوانات و اختلاف طعومها و ألوانها و روائحها و اختلاف مضارها و منافعها في الأغذية و الأدوية على كمال قدرته و بدائع حكمته سبحانه من عليم حكيم ما أعظم شأنه و أما بث كل دابة فيها فيدل على أن لها صانعا مخالفا لها منعما بأنواع النعم خالقا للذوات المختلفة بالهيئات المختلفة في التراكيب المتنوعة من اللحم و العظم و الأعصاب و العروق و غير ذلك من الأعضاء و الأجزاء المتضمنة لبدائع الفطرة و غرائب الحكمة الدالة على عظيم قدرته و جسيم نعمته و أما الرياح فيدل تصريفها بتحريكها و تفريقها في الجهات مرة حارة و مرة باردة و تارة لينة و أخرى عاصفة و طورا عقيما و طورا لاقحة على أن مصرفها قادر على ما لا يقدر عليه سواه إذ لو أجمع الخلق كلهم على أن يجعلوا الصبا دبورا أو الشمال جنوبا لما أمكنهم ذلك و أما السحاب المسخر فيدل على أن ممسكه هو القدير الذي لا شبيه له و لا نظير لأنه لا يقدر على تسكين الأجسام بغير علاقة و لا دعامة إلا الله سبحانه و تعالى القادر لذاته الذي لا نهاية لمقدوراته فهذه هي الآيات الدالة على أن الله سبحانه صانع غير مصنوع قادر لا يعجزه شي‏ء عالم لا يخفى عليه شي‏ء حي لا تلحقه الآفات و لا تغيره الحادثات و لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض و لا في السماء و هو السميع البصير استشهد بحدوث هذه الأشياء على قدمه و أزليته و بما وسمها به من العجز و التسخير على كمال قدرته و بما ضمنها من البدائع على عجائب خلقته و فيها أيضا أوضح‏


451
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 165] ..... ص : 452

دلالة على أنه سبحانه المنان على عباده بفوائد النعم المنعم عليهم بما لا يقدر غيره على الإنعام بمثله من جزيل القسم فيعلم بذلك أنه سبحانه الآلة الذي لا يستحق العبادة سواه و في هذه الآية أيضا دلالة على وجوب النظر و الاستدلال و أن ذلك هو الطريق إلى معرفته و فيها البيان لما يجب فيه النظر و إبطال التقليد.

[سورة البقرة (2): آية 165]

وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَ الَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَ لَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ (165)

القراءة

قرأ نافع و ابن عامر و يعقوب و لو ترى الذين ظلموا بالتاء على الخطاب و قرأ الباقون بالياء و كلهم قرءوا «إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ» بفتح الياء إلا ابن عامر فإنه قرأ إذ يرون بالضم و قرأ أبو جعفر و يعقوب أن القوة لله و إن الله بكسر الهمزة فيهما و الباقون بفتحها.

الحجة

قال أبو علي حجة من قرأ «وَ لَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا» بالياء أن لفظ الغيبة أولى من لفظ الخطاب من حيث أنه يكون أشبه بما قبله من قوله‏ «وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً» و هو أيضا أشبه بما بعده من قوله‏ كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ‏ و حجة من قرأ و لو ترى فجعل الخطاب للنبي (ع) لكثرة ما جاء في التنزيل من قوله‏ وَ لَوْ تَرى‏ و يكون الخطاب للنبي (ع) و المراد به الكافة و أما فتح أن القوة فيمن قرأ بالتاء فلا يخلو من أن يكون ترى من رؤية البصر أو المتعدية إلى مفعولين فإن جعلته من رؤية البصر لم يجز أن يتعدى إلى أن لأنها قد استوفت مفعولها الذي تقتضيه و هو الذين ظلموا و لا يجوز أن تكون المتعدية إلى مفعولين لأن المفعول الثاني في هذا الباب هو المفعول الأول في المعنى و قوله‏ «أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ» لا يكون‏ «الَّذِينَ ظَلَمُوا» فإذا يجب أن يكون منتصبا بفعل آخر غير ترى و ذلك الفعل هو الذي يقدر جوابا للو كأنه قال و لو ترى الذين ظلموا إذ يرون العذاب لرأوا أن القوة لله جميعا و المعنى أنهم شاهدوا من قدرته سبحانه ما تيقنوا معه أنه قوي عزيز و أن الأمر ليس على ما كانوا عليه من جحودهم لذلك أو شكهم فيه و مذهب من قرأ بالياء أبين لأنهم ينصبون أن بالفعل الظاهر دون المضمر و الجواب في هذا النحو يجي‏ء محذوفا فإذا أعمل الجواب في شي‏ء صار بمنزلة الأشياء المذكورة في اللفظ فحمل المفعول عليه‏


452
مجمع البيان في تفسير القرآن1

اللغة ..... ص : 453

يخالف ما عليه سائر هذا النحو من الآي التي حذفت الأجوبة معها لتكون أبلغ في باب التوعيد هذا كلام أبي علي الفارسي و نحن نذكر ما قاله غيره في كسر إن القوة و فتحها في الإعراب و حجة من قرأ «إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ» قوله‏ وَ رَأَوُا الْعَذابَ‏ و قوله‏ «وَ إِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ» و حجة ابن عامر قوله‏ «كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ» لأنك إذا بنيت هذا الفعل للمفعول به قلت يرون أعمالهم حسرات.

اللغة

الأنداد و الأشباه و الأمثال نظائر واحدها ند و قيل هي الأضداد و أصل الند المثل المناوئ و الحب خلاف البغض و المحبة هي الإرادة إلا أن فيها حذفا لا يكون في الإرادة فإذا قلت أحب زيدا فالمعنى إني أريد منافعه أو مدحه و إذا قلت أحب الله زيدا فالمعنى أنه يريد ثوابه و تعظيمه و إذا قلت أحب الله فالمعنى أريد طاعته و اتباع أوامره و لا يقال أريد زيدا و لا أن الله يريد المؤمن و لا أني أريد الله فاعتيد الحذف في المحبة و لم يعتد في الإرادة و قيل إن المحبة ليست من جنس الإرادة بل هي من جنس ميل الطبع كما تقول أحب ولدي أي يميل طبعي إليه و هذا من المجاز بدلالة أنهم يقولون أحببت أن أفعل بمعنى أردت أن أ و يقال أحبه أحبابا و حبه حبا و محبة و أحب البعير أحبابا إذا برك فلا يثور و هو كالحران في الخيل قال أبو عبيدة و منه قوله‏ أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي‏ أي لصقت بالأرض لحب الخيل حتى فاتتني الصلاة و يرى قال أبو علي الفارسي هو من رؤية العين يدل على ذلك تعديه إلى مفعول واحد تقديره و لو يرون أن القوة لله أي لو يرى الكفار ذلك و يدل عليه قوله‏ «إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ» و الشدة قوة العقد و هو ضد الرخاوة و القوة و القدرة واحدة.

الإعراب‏

يجوز فتح أن من ثلاثة أوجه و كسرها من ثلاثة أوجه مع القراءة بالياء فأما الفتح (فالأول) أن يفتح بإيقاع الفعل عليها بمعنى المصدر و تقديره و لو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب قوة الله و شدة عذابه (و الثاني) أن يفتح على حذف اللام كقولك لأن القوة لله (و الثالث) على تقدير لرأوا أن القوة لله و أن الله شديد العذاب على الاتصال بما حذف من الجواب و أما الوجه الأول في الكسر فعلى الاستئناف و الثاني على الحكاية مما حذف من الجواب كأنه قيل لقالوا إن القوة لله و الثالث على الاتصال بما حذف من الحال كأنه قيل يقولون إن القوة لله فأما مع القراءة بالتاء فيجوز أيضا كسر أن من ثلاثة أوجه و فتحها من‏


453
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 454

ثلاثة أوجه فأما الفتح (فأولها) أن يكون على البدل كقولك و لو ترى الذين ظلموا إن القوة لله عليهم عن الفراء و قال أبو علي و هذا لا يجوز لأن قوله إن القوة ليس الذين ظلموا و لا بعضهم و لا مشتملا عليهم (و الثاني) أن يفتح على حذف اللام كقولك لأن القوة (و الثالث) لرأيت أن القوة لله و أما الكسر مع التاء فكالكسر مع الياء قال الفراء و الاختيار مع الياء الفتح و مع التاء الكسر لأن الرؤية قد وقعت على الذين و جواب لو محذوف كأنه قيل لرأوا مضرة اتخاذهم الأنداد و لرأوا أمرا عظيما لا يحصر بالأوهام و حذف الجواب يدل على المبالغة كقولك لو رأيت السياط تأخذ فلانا لأن المحذوف يحتمل كل أمر و من قرأ «وَ لَوْ يَرَى» بالياء فالذين ظلموا في موضع رفع بأنهم الفاعلون و من قرأ بالتاء فالذين ظلموا في موضع نصب و قوله‏ «جَمِيعاً» نصب على الحال كأنه قيل إن القوة ثابتة لله في حال اجتماعها و هو صفة مبالغة بمعنى إذا رأوا مقدورات الله فيما تقدم الوعيد به علموا أن الله سبحانه قادر لا يعجزه شي‏ء و قوله‏ «يُحِبُّونَهُمْ» في موضع نصب على الحال من الضمير في يتخذ و إن كان الضمير في يتخذ على التوحيد لأنه يعود إلى من و يجوز أن يعود إليه الضمير على اللفظ مرة و على المعنى أخرى و يجوز أن يكون يحبونهم صفة لقوله‏ «أَنْداداً» قال أبو علي لو قلت كيف جاء إذ في قوله‏ «إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ» و هذا أمر مستقبل فالقول أنه جاء على لفظ المضي لإرادة التقريب في ذلك كما جاء وَ ما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ‏ و إن الساعة قريب و على هذا قوله‏ وَ نادى‏ أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ و من هذا الضرب ما جاء في التنزيل من قوله‏ وَ لَوْ تَرى‏ إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ‏ وَ لَوْ تَرى‏ إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ وَ لَوْ تَرى‏ إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ‏.

المعنى‏

«وَ مِنَ النَّاسِ» من للتبعيض هاهنا أي بعض الناس‏ «مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً» يعني آلهتهم من الأوثان التي كانوا يعبدونها عن قتادة و مجاهد و أكثر المفسرين و قيل رؤساؤهم الذين يطيعونهم طاعة الأرباب من الرجال عن السدي و على هذا المعنى ما

روى جابر عن أبي جعفر (ع) أنه قال‏ هم أئمة الظلمة و أشياعهم‏

و قوله‏ «يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ» على هذا القول الأخير أدل لأنه يبعد أن يحبوا الأوثان كحب الله مع علمهم بأنها لا تنفع و لا تضر و يدل أيضا عليه قوله‏ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا و معنى يحبونهم يحبون عبادتهم أو التقرب إليهم أو الانقياد لهم أو جميع ذلك كحب الله فيه ثلاثة أقوال (أحدها) كحبكم الله أي كحب المؤمنين الله عن ابن عباس و الحسن (و الثاني) كحبهم الله‏


454
مجمع البيان في تفسير القرآن1

النظم ..... ص : 455

 

يعني الذين اتخذوا الأنداد فيكون المعني به من يعرف الله من المشركين و يعبد معه الأوثان و يسوي بينهما في المحبة عن أبي علي و أبي مسلم (و الثالث) «كَحُبِّ اللَّهِ» أي كالحب الواجب عليهم اللازم لهم لا الواقع‏ «وَ الَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ» يعني حب المؤمنين فوق حب هؤلاء و حبهم أشد من وجوه (أحدها) إخلاصهم العبادة و التعظيم له و الثناء عليه من الإشراك (و ثانيها) أنهم يحبونه عن علم بأنه المنعم ابتداء و أنه يفعل بهم في جميع أحوالهم ما هو الأصلح لهم في التدبير و قد أنعم عليهم بالكثير فيعبدونه عبادة الشاكرين و يرجون رحمته على يقين فلا بد أن يكون حبهم له أشد (و ثالثها) أنهم يعلمون أن له الصفات العلى و الأسماء الحسنى و أنه الحكيم الخبير الذي لا مثل له و لا نظير يملك النفع و الضر و الثواب و العقاب و إليه المرجع و المآب فهم أشد حبا لله بذلك ممن عبد الأوثان و اختلف في معنى قوله‏ «أَشَدُّ حُبًّا» فقيل أثبت و أدوم لأن المشرك ينتقل من صنم إلى صنم عن ابن عباس و قيل لأن المؤمن يعبده بلا واسطة و المشرك يعبده بواسطة عن الحسن و قوله‏ «وَ لَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا» تقديره و لو يرى الظالمون أي يبصرون و قيل لو يعلم هؤلاء الظالمون‏ «إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ» و الصحيح الأول كما تقدم بيانه هذا على قراءة من قرأ بالياء و من قرأ بالتاء فمعناه و لو ترى يا محمد عن الحسن و الخطاب له و المراد غيره و قيل معناه لو ترى أيها السامع أو أيها الإنسان الظالمين إذ يرون العذاب و قوله‏ «أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ» فيه حذف أي لرأيت أن القوة لله‏ «جَمِيعاً» فعلى هذا يكون متصلا بجواب لو و من قرأ بالياء فمعناه و لو يرى الظالمون أن القوة لله جميعا لرأوا مضرة فعلهم و سوء عاقبتهم و معنى قوله‏ «أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً» أن الله سبحانه قادر على أخذهم و عقوبتهم و في هذا وعيد و إشارة إلى أن هؤلاء الجبابرة مع تعززهم إذا حشروا ذلوا و تخاذلوا و قد بينا الوجوه في فتح أن و كسرها فالمعنى تابع لها و دائر عليها و جواب لو محذوف على جميع الوجوه‏ «وَ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ» وصف العذاب بالشدة توسعا و مبالغة في الوصف فإن الشدة من صفات الأجسام.

النظم‏

وجه اتصال هذه الآية بما قبلها أن الله سبحانه أخبر أن مع وضوح هذه الآيات و الدلالات التي سبق ذكرها أقام قوم على الباطل و إنكار الحق فكأنه قال أ بعد هذا البيان و ظهور البرهان يتخذون من دون الله أندادا.

[سورة البقرة (2): الآيات 166 الى 167]

إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَ رَأَوُا الْعَذابَ وَ تَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ (166) وَ قالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَ ما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)

 

 

 

455
مجمع البيان في تفسير القرآن1

اللغة ..... ص : 456

اللغة

التبرؤ في اللغة و التفصي و التنزيل نظائر و أصل التبرؤ التولي و التباعد للعداوة و إذا قيل تبرأ الله من المشركين فكأنه باعدهم من رحمته للعداوة التي استحقوها بالمعصية و أصله من الانفصال و منه برأ من مرضه و برى‏ء يبرأ برءا و براء و بري‏ء من الدين براءة و الاتباع طلب الاتفاق في مقال أو فعال أو مكان فإذا قيل اتبعه ليلحقه فالمراد ليتفق معه في المكان و التقطع التباعد بعد اتصال و السبب الوصلة إلى المتعذر بما يصلح من الطلب و الأسباب الوصلات واحدها سبب و منه يسمى الحبل سببا لأنك تتوصل به إلى ما انقطع عنك من ماء بئر أو غيره و مضت سبة من الدهر أي ملاوة و الكرة الرجعة قال الأخطل:

و لقد عطفن على فزارة عطفة

كر المنيح وجلن ثم مجالا

 

و الكر نقيض الفر قال صاحب العين الكر الرجوع عن الشي‏ء و الكر الحبل الغليظ و قيل الشديد الفتل و الحسرات جمع الحسرة و هي أشد الندامة و الفرق بينها و بين الإرادة أن الحسرة تتعلق بالماضي خاصة و الإرادة تتعلق بالمستقبل لأن الحسرة إنما هي على ما فأت بوقوعه أو ينقضي وقته و الحسرة و الندامة من النظائر يقال حسر يحسر حسرا و حسرة إذا كمد على الشي‏ء الفائت و تلهف عليه و أصل الحسر الكشف تقول حسرت العمامة عن رأسي إذا كشفتها و حسر عن ذراعيه حسرا و الحاسر الذي لا درع عليه و لا مغفر.

الإعراب‏

العامل في إذ قوله‏ شَدِيدُ الْعَذابِ‏ أي وقت التبرؤ و انتصب فمتبرأ على أنه جواب التمني بالفاء كأنه قال ليت لنا كرورا فبرأ، و كلما عطف الفعل على ما تأويله‏


456
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 457

تأويل المصدر نصب بإضمار أن و لا يجوز إظهارها فيما لم يفصح بلفظ المصدر فيه لأنه لما حمل الأول على التأويل حمل الثاني على التأويل أيضا و يجوز فيه الرفع على الاستئناف أي فنحن نتبرأ منهم على كل حال و أما قوله‏ «لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً» ففي موضع الرفع لفعل محذوف تقديره لو صح أن لنا كرة لأن لو في التمني و في غيره تطلب الفعل و إن شئت قلت تقديره لو ثبت أن لنا كرة و أقول إن جواب لو هنا أيضا في التقدير محذوف و لذلك أفاد لو في الكلام معنى التمني فيكون تقديره لو ثبت أن لنا كرة فنتبرأ منهم لتشفينا بذلك و جازيناهم صاعا بصاع و هذا شي‏ء أخرجه لي الاعتبار و لم أره في الأصول و هو الصحيح الذي لا غبار عليه و بالله التوفيق و أما العامل في الكاف من كذلك فقوله‏ «يُرِيهِمُ اللَّهُ» أي يريهم الله أعمالهم حسرات كذلك أي مثل تبرؤ بعضهم من بعض و ذلك لانقطاع الرجاء من كل واحد منهما و قيل تقديره يريهم أعمالهم حسرات كما أراهم العذاب و ذلك لأنهم أيقنوا بالهلاك في كل واحد منهما.

المعنى‏

لما ذكر الذين اتخذوا الأنداد ذكر سوء حالهم في المعاد فقال سبحانه‏ «إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا» و هم القادة و الرؤساء من مشركي الإنس عن قتادة و الربيع و عطاء و قيل هم الشياطين الذين اتبعوا بالوسوسة من الجن عن السدي و قيل هم شياطين الجن و الإنس و الأظهر هو الأول‏ «مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا» أي من اتباع السفل‏ «وَ رَأَوُا» أي رأى التابعون و المتبوعون‏ «الْعَذابَ» أي عاينوه حين دخلوا النار «وَ تَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ» فيه وجوه (أحدها) الوصلات التي كانوا يتواصلون عليها عن مجاهد و قتادة و الربيع (و الثاني) الأرحام التي كانوا يتعاطفون بها عن ابن عباس (و الثالث) العهود التي كانت بينهم يتوادون عليها عن ابن عباس أيضا (و الرابع) تقطعت بهم أسباب أعمالهم التي كانوا يوصلونها عن ابن زيد و السدي (و الخامس) تقطعت بهم أسباب النجاة عن أبي علي و ظاهر الآية يحتمل الكل فينبغي أن يحمل على عمومه فكأنه قيل قد زال عنهم كل سبب يمكن أن يتعلق به فلا ينتفعون بالأسباب على اختلافها من منزلة أو قرابة أو مودة أو حلف أو عهد على ما كانوا ينتفعون بها في الدنيا و ذلك نهاية في الإياس‏ «وَ قالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا» يعني الأتباع‏ «لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً» أي عودة إلى دار الدنيا و حال التكليف‏ «فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ» أي من القادة في الدنيا «كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا» في الآخرة «كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ» (أحدها) أن المراد المعاصي يتحسرون عليها لم عملوها عن الربيع و ابن زيد و هو اختيار الجبائي و البلخي (و الثاني) المراد الطاعات يتحسرون عليها لم لم يعملوها و ضيعوها عن السدي‏


457
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 168] ..... ص : 458

(و الثالث)

ما رواه أصحابنا عن أبي جعفر (ع) أنه قال‏ هو الرجل يكتسب المال و لا يعمل فيه خيرا فيرثه من يعمل فيه عملا صالحا فيرى الأول ما كسبه حسرة في ميزان غيره‏

(و الرابع) أن الله سبحانه يريهم مقادير الثواب التي عرضهم لها لو فعلوا الطاعات فيتحسرون عليه لم فرطوا فيه و الآية محتملة لجميع هذه الوجوه فالأولى الحمل على العموم‏ «وَ ما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ» أي يخلدون فيها بين سبحانه في الآية أنهم يتحسرون في وقت لا ينفعهم فيه الحسرة و ذلك ترغيب في التحسر في وقت تنفع فيه الحسرة و أكثر المفسرين على أن الآية واردة في الكفار كابن عباس و غيره و في هذه الآية دلالة على أنهم كانوا قادرين على الطاعة و المعصية لأن ليس في المعقول أن يتحسر الإنسان على ترك ما كان لا يمكنه الانفكاك عنه أو على فعل ما كان لا يمكنه الإتيان به أ لا ترى أنه لا يتحسر الإنسان على أنه لم يصعد السماء لما لم يكن قادرا على الصعود إلى السماء.

[سورة البقرة (2): آية 168]

يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَ لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168)

القراءة

قرأ نافع و أبو عمرو و حمزة و أبو بكر إلا البرجمي خطوات بسكون الطاء حيث وقع و الباقون بضمها و روي في الشواذ عن علي (ع) خطؤات بضمتين و همزة و عن أبي السماك خطوات بفتح الخاء و الطاء.

الحجة

ما كان على فعلة من الأسماء فالأصل في جمعه التثقيل نحو غرفة و غرفات و حجرة و حجرات لأن التحريك فاصل بين الاسم و الصفة و من أسكنه قال‏ خُطُواتِ‏ فإنه نوى الضمة و أسكن الكلمة عنها طلبا للخفة و من ضم الخاء و الطاء مع الهمزة فكأنه ذهب بها مذهب الخطيئة فجعل ذلك على مثال فعله من الخطإ هذا قول الأخفش و قال أبو حاتم أرادوا إشباع الفتحة في الواو فانقلبت همزة و من فتح الخاء و الطاء فهو جمع خطوة فيكون مثل تمرة و تمرات.

اللغة

الأكل هو البلع عن مضغ و بلع الذهب و اللؤلؤ و ما أشبهه ليس بأكل في الحقيقة و قد قيل النعام تأكل الجمر فأجروه مجرى أكل الطعام و الحلال هو الجائز من‏


458
مجمع البيان في تفسير القرآن1

الإعراب ..... ص : 459

أفعال العباد و نظيره المباح و أصله الحل نقيض العقد و إنما سمي المباح حلالا لانحلال عقد الحظر عنه و لا يسمى كل حسن حلالا لأنه أفعاله تعالى حسنة و لا يقال إنها حلال إذ الحلال إطلاق في الفعل لمن يجوز عليه المنع يقال حل يحل حلالا و حل يحل حلولا و حل العقد يحله حلا و أحل من إحرامه و حل فهو محل و حلال و حلت عليه العقوبة وجبت و الطيب هو الخالص من شائب ينغص و هو على ثلاثة أقسام الطيب المستلذ و الطيب الجائز و الطيب الطاهر و الأصل هو المستلذ إلا أنه وصف به الطاهر و الجائز تشبيها إذ ما يزجر عنه العقل أو الشرع كالذي تكرهه النفس في الصرف عنه و ما تدعو إليه بخلاف ذلك و الطيب الحلال و الطيب النظيف و أصل الباب الطيب خلاف الخبيث و الخطوة بعد ما بين قدمي الماشي و الخطوة المرة من الخطو يقال خطوت خطوة واحدة و جمع الخطوة خطى و أصل الخطو نقل القدم و «خُطُواتِ الشَّيْطانِ» آثاره و العدو المباعد عن الخير إلى الشر و الولي نقيضه.

الإعراب‏

حلالا صفة مصدر محذوف أي كلوا شيئا حلالا و من في قوله‏ «مِمَّا فِي الْأَرْضِ» يتعلق بكلوا أو بمحذوف يكون معه في محل النصب على الحال و العامل فيه كلوا و ذو الحال قوله‏ «حَلالًا» و قوله‏ «طَيِّباً» صفة بعد صفة.

النزول‏

عن ابن عباس إنها نزلت في ثقيف و خزاعة و بني عامر بن صعصعة و بني مدلج لما حرموا على أنفسهم من الحرث و الأنعام و البحيرة و السائبة و الوصيلة فنهاهم الله عن ذلك.

المعنى‏

لما قدم سبحانه ذكر التوحيد و أهله و الشرك و أهله أتبع ذلك بذكر ما تتابع منه سبحانه على الفريقين من النعم و الإحسان ثم نهاهم عن اتباع الشيطان لما في ذلك من الجحود لنعمه و الكفران فقال‏ «يا أَيُّهَا النَّاسُ» و هذا الخطاب عام لجميع المكلفين من بني آدم‏ «كُلُوا» لفظه لفظ الأمر و معناه الإباحة «مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً» لما أباح الأكل بين ما يجب أن يكون عليه من الصفة لأن في المأكول ما يحرم و فيه ما يحل فالحرام يعقب الهلكة و الحلال يقوي على العبادة و إنما يكون حلالا بأن لا يكون مما تناوله الحظر و لا يكون لغير الآكل فيه حق و هو يتناول جميع المحللات و أما الطيب فقيل هو الحلال أيضا فجمع بينهما لاختلاف اللفظين تأكيدا و قيل معناه ما يستطيبونه و يستلذونه في العاجل و الآجل‏ «وَ لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ» اختلف في معناه فقيل أعماله عن ابن عباس و قيل خطاياه عن مجاهد و قتادة و قيل طاعتكم إياه عن السدي و قيل آثاره عن الخليل و

روي عن‏


459
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 169] ..... ص : 460

أبي جعفر و أبي عبد الله (ع) أن من خطوات الشيطان الحلف بالطلاق و النذور في المعاصي و كل يمين بغير الله تعالى‏

و قال القاضي يريد وساوس الشيطان و خواطره و قال الماوردي هو ما ينقلهم به من معصية إلى معصية حتى يستوعبوا جميع المعاصي مأخوذ من خطو القدم في نقلها من مكان إلى مكان حتى يبلغ مقصده‏ «إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ» أي مظهر للعداوة بما يدعوكم إليه من خلاف الطاعة لله تعالى و اختلف الناس في المأكل و المنافع التي لا ضرر على أحد فيها فمنهم من ذهب إلى أنها الحظر و منهم من ذهب إلى أنها على الإباحة و اختاره المرتضى قدس الله روحه و منهم من وقف بين الأمرين و جوز كل واحد منهما و هذه الآية دالة على إباحة المأكل إلا ما دل الدليل على حظره فجاءت مؤكدة لما في العقل.

[سورة البقرة (2): آية 169]

إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَ الْفَحْشاءِ وَ أَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (169)

اللغة

الأمر من الشيطان هو دعاؤه إلى الفعل فأما الأمر في اللغة فهو قول القائل لمن دونه افعل إذا كان الآمر مريدا للمأمور به و قيل هو الدعاء إلى الفعل بصيغة أفعل و السوء كل فعل قبيح يزجر عنه العقل أو الشرع و يسمى أيضا ما تنفر عنه النفس سوء تقول ساءني كذا يسوؤني سوءا و قيل إنما سمي القبيح سوءا لسوء عاقبته لأنه قد يلتذ به في العاجل و الفحشاء و الفاحشة و القبيحة و السيئة نظائر و هي مصدر نحو السراء و الضراء يقال فحش فحشا و فحشاء و كل من تجاوز قدره فهو فاحش و أفحش الرجل إذا أتى بالفحشاء و كل ما لا يوافق الحق فهو فاحشة و قوله‏ «إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ» معناه خروجها من بيتها بغير إذن زوجها المطلق لها و القول كلام له عبارة تنبئ عن الحكاية و ذلك ككلام زيد يمكن أن يأتي عمرو بعبارة عنه ينبئ عن الحكاية له فيقول قال زيد كذا و كذا فيكون قوله قال زيد يؤذن بأنه يحكي بعده كلام و ليس كذلك إذا قال تكلم زيد لأنه لا يؤذن بالحكاية و العلم ما اقتضى سكون النفس و قيل هو تبين الشي‏ء على ما هو به للمدرك له.

المعنى‏

لما قدم سبحانه ذكر الشيطان عقبة ببيان ما يدعو إليه من مخالفة الدين فقال‏ «إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ» أي المعاصي عن السدي و قتادة و قيل بما يسوء فاعله أي يضره و هو في المعنى مثل الأول‏ «وَ الْفَحْشاءِ» قيل المراد به الزنا و قيل السوء ما لا حد فيه و الفحشاء ما فيه حد عن ابن عباس‏ «وَ أَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ» قيل هو دعواهم له الأنداد و الأولاد و نسبتهم إليه الفواحش عن أبي مسلم و قيل أراد به جميع المذاهب‏


460
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 170] ..... ص : 461

الفاسدة و الاعتقادات الباطلة و مما يسأل على هذا أن يقال كيف يأمرنا الشيطان و نحن لا نشاهده و لا نسمع كلامه فالجواب أن معنى أمره هو دعاؤه إليه كما تقول نفسي تأمرني بكذا أي تدعوني إليه و قيل أنه يأمر بالمعاصي حقيقة و قد يعرف ذلك الإنسان من نفسه فيجد ثقل بعض الطاعات عليه و ميل نفسه إلى بعض المعاصي و الوسوسة هي الصوت الخفي و منه وسواس الحلي فيلقي إليه الشيطان أشياء بصوت خفي في أذنه و متى قيل كيف يميز الإنسان بين ما يلقي إليه الشيطان و ما تدعو إليه النفس فالقول أنه لا ضير عليه إذا لم يميز بينهما فإنه إذا ثبت عنده أن الشيطان قد يأمره بالمعاصي جوز في كل ما كان من هذا الجنس أن يكون من قبل الشيطان الذي ثبت له عداوته فيكون أرغب في فعل الطاعة مع ثقلها عليه و في ترك المعاصي مع ميل النفس إليها مخالفة للشيطان الذي هو عدوه.

[سورة البقرة (2): آية 170]

وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَ وَ لَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَ لا يَهْتَدُونَ (170)

اللغة

ألفينا أي صادفنا و وجدنا و الأب و الوالد واحد و الاهتداء الإصابة لطريق الحق بالعلم.

الإعراب‏

«أَ وَ لَوْ» هنا واو العطف دخلت عليها همزة الاستفهام و المراد به التوبيخ و التقريع و مثل هذه الواو أَ ثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ‏ أَ فَلَمْ يَسِيرُوا و إنما جعلت همزة الاستفهام للتوبيخ لأنه يقتضي ما الإقرار به فضيحة عليه كما يقتضي الاستفهام الإخبار بما يحتاج إليه و إنما دخلت الواو في مثل هذا الكلام لأنك إذا قلت اتبعه و لو ضرك فمعناه اتبعه على كل حال و ليس كذلك أتتبعه لو ضرك لأن هذا خاص و ذاك عام فدخلت الواو لهذا المعنى.

النزول‏

ابن عباس قال دعا النبي (ع) اليهود إلى الإسلام فقالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا فهم كانوا أعلم منا فنزلت هذه الآية و في رواية الضحاك عنه أنها نزلت في كفار قريش.

المعنى‏

لما تقدم ذكر الكفار بين سبحانه حالهم في التقليد و ترك الإجابة إلى‏


461
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 171] ..... ص : 462

 

الإقرار بصدق النبي ص فيما جاء به من الكتاب المجيد فقال‏ «وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ» اختلف في الضمير فقيل يعود إلى من من قوله‏ «مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً» و هم مشركو العرب و قيل يعود إلى الناس من قوله‏ «يا أَيُّهَا النَّاسُ» فعدل عن المخاطبة إلى الغيبة كما قال‏ «حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَ جَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ» و قيل يعود إلى الكفار إذ قد جرى ذكرهم و يصلح أيضا أن يعود إليهم و إن لم يجر ذكرهم لأن الضمير يعود إلى المعلوم كما يعود إلى المذكور و القائل لهم هو النبي ص و المسلمون‏ «اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ» أي من القرآن و شرائع الإسلام و قيل في التحريم و التحليل‏ «قالُوا» أي الكفار «بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا» أي وجدنا «عَلَيْهِ آباءَنا» من عبادة الأصنام إذا كان الخطاب للمشركين أو في التمسك باليهودية إذا كان الخطاب لليهود «أَ وَ لَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً» أي لا يعلمون شيئا من أمور الدين‏ «وَ لا يَهْتَدُونَ» أي لا يصيبون طريق الحق و معناه لو ظهر لكم أنهم لا يعلمون شيئا مما لزمهم معرفته أ كنتم تتبعونهم أم كنتم تنصرفون عن اتباعهم فإذا صح أنه يجب الانصراف عن اتباعهم فقد تبين أن الواجب اتباع الدليل دون اتباع هؤلاء.

[سورة البقرة (2): آية 171]

وَ مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعاءً وَ نِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (171)

اللغة

المثل قول سائر يدل على أن سبيل الثاني سبيل الأول نعق الراعي بالغنم ينعق نعيقا إذا صاح بها زجرا قال الأخطل:

فانعق بضانك يا جرير فإنما

 

منتك نفسك في الخلاء ضلالا

     

 

و نعق الغراب نعاقا و نعيقا إذا صوت من غير أن يمد عنقه و يحركها و نغق بالغين بمعناه فإذا مد عنقه و حركها ثم صاح قيل نعب و الناعقان كوكبان من كواكب الجوزاء و رجلها اليسرى و منكبها الأيمن و هو الذي يسمى الهنعة و هما أضوأ كواكب الجوزاء و الدعاء طلب الفعل من المدعو و نظيره الأمر و الفرق بينهما يظهر بالرتبة و النداء مصدر نادى مناداة و نداء و الدعاء و السؤال بمعناه و الندى له وجوه في المعنى يقال ندى الماء و ندى‏

 

 

 

462
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 463

الخير و الشر و ندى الصوت و ندى الحضر فالندى هو البلل و ندى الخير هو المعروف يقال أندى فلان علينا ندى كثيرا و يده ندية بالمعروف و ندى الصوت بعد مذهبه و ندى الحضر صحة جريه و اشتق النداء من ندى الصوت ناداه أي دعاه بأرفع صوته.

المعنى‏

ثم ضرب الله مثلا للكفار في تركهم إجابة من يدعوهم إلى التوحيد و ركونهم إلى التقليد فقال‏ «وَ مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ» أي يصوت‏ «بِما لا يَسْمَعُ» من البهائم‏ «إِلَّا دُعاءً وَ نِداءً» و اختلف في تقدير الكلام و تأويله على وجوه (أولها)

أن المعنى مثل الذين كفروا في دعائك إياهم أي مثل الداعي لهم إلى الإيمان كمثل الناعق في دعائه المنعوق به من البهائم التي لا تفهم و إنما تسمع الصوت فكما أن الأنعام لا يحصل لها من دعاء الراعي إلا السماع دون تفهم المعنى فكذلك الكفار لا يحصل لهم من دعائك إياهم إلى الإيمان إلا السماع دون تفهم المعنى لأنهم يعرضون عن قبول قولك و ينصرفون عن تأمله فيكونون بمنزلة من لم يعقله و لم يفهمه و هذا كما تقول العرب فلان يخافك كخوف الأسد و المعنى كخوفه من الأسد فأضاف الخوف إلى الأسد و هو في المعنى مضاف إلى الرجل قال الشاعر:

فلست مسلما ما دمت حيا

على زيد بتسليم الأمير

 

أراد بتسليمي على الأمير و هذا معنى قول ابن عباس و الحسن و مجاهد و قتادة و هو المروي عن أبي جعفر (ع)

و هو اختيار الجبائي و الرماني و الطبري (و ثانيها) أن يكون المعنى مثل الذين كفروا و مثلنا أو مثل الذين كفروا و مثلك يا محمد كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء و نداء أي كمثل الأنعام المنعوق بها و الناعق الراعي الذي يكلمها و هي لا تعقل فحذف المثل الثاني اكتفاء بالأول و مثله قوله سبحانه‏ «وَ جَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ» و أراد الحر و البرد و قال أبو ذؤيب:

عصيت إليها القلب إني لأمرها

مطيع فما أدري أ رشد طلابها

 

أراد أ رشد أم غي فاكتفى بذكر الرشد لوضوح الأمر و هو قول الأخفش و الزجاج و هذا لأن في الآية تشبيه شيئين بشيئين تشبيه الداعي إلى الإيمان بالراعي و تشبيه المدعوين من الكفار بالأنعام فحذف ما حذف للإيجاز و أبقي في الأول ذكر المدعو و في الثاني ذكر الداعي و فيما أبقي دليل على ما ألقى (و ثالثها) أن المعنى مثل الذين كفروا في دعائهم الأصنام كمثل الراعي في دعائه الأنعام بتعال و ما جرى مجراه من الكلام فكما أن من دعا


463
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 463

البهائم يعد جاهلا فداعي الحجارة أشد جهلا منه لأن البهائم تسمع الدعاء و إن لم تفهم معناه و الأصنام لا يحصل لها السماع أيضا عن أبي القاسم البلخي و غيره (و رابعها) أن مثل الذين كفروا في دعائهم الأصنام و هي لا تعقل و لا تفهم كمثل الذي ينعق دعاء و نداء بما لا يسمع صوته جملة و يكون المثل مصروفا إلى غير الغنم و ما أشبهها مما يسمع و إن لم يفهم و على هذا الوجه ينتصب دعاء و نداء بينعق و إلا ملغاة لتوكيد الكلام كما في قول الفرزدق:

هم القوم إلا حيث سلوا سيوفهم‏

و ضحوا بلحم من محل و محرم‏

 

و المعنى هم القوم حيث سلوا سيوفهم (و خامسها) أن يكون المعنى و مثل الذين كفروا كمثل الغنم الذي لا يفهم دعاء الناعق فأضاف سبحانه المثل الثاني إلى الناعق و هو في المعنى مضاف إلى المنعوق به على مذهب العرب في القلب نحو قولهم طلعت الشعري و انتصب العود على الحرباء و المعنى انتصب الحرباء على العود و أنشد الفراء:

إن سراجا لكريم مفخره‏

تجلى به العين إذا ما تجمره‏

 

أي تجلى بالعين و أنشد أيضا:

كانت فريضة ما تقول كما

كان الزنا فريضة الرجم‏

 

و المعنى كما كان الرجم فريضة الزنا و أنشد:

و قد خفت حتى ما تزيد مخافتي‏

على وعل في ذي المطارة عاقل‏

 

أي ما تزيد مخافة وعل على مخافتي و قال العباس بن مرداس:

فديت بنفسه نفسي و مالي‏

و ما آلوك إلا ما أطيق‏

 

أراد بنفسي نفسه ثم وصفهم سبحانه بما يجري مجرى التهجين و التوبيخ فقال‏ «صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ» أي صم عن استماع الحجة بكم عن التكلم بها عمي عن الأبصار لها و هو قول ابن عباس و قتادة و السدي و قد مر بيانه في أول السورة أبسط من هذا «فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ» أي هم بمنزلة من لا عقل له إذ لم ينتفعوا بعقولهم.


464
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 172] ص : 465

[سورة البقرة (2): آية 172]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَ اشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172)

اللغة

الشكر هو الاعتراف بالنعمة مع ضرب من التعظيم و يكون على وجهين (أحدهما) الاعتراف بالنعمة متى ذكرها المنعم عليه بالاعتقاد لها (و الثاني) الطاعة بحسب جلالة النعمة فالأول لازم في كل حال من أحوال الذكر و الثاني أنه يلزم في الحال التي يحتاج فيها إلى القيام بالحق و أما العبادة فهي ضرب من الشكر إلا أنها غاية فيه ليس وراءها شكر و يقترن به ضرب من الخضوع و لا يستحق العبادة غير الله سبحانه لأنها إنما تستحق بأصول النعم التي هي الحياة و القدرة و الشهوة و أنواع المنافع و بقدر من النفع لا يوازيه نعمة منعم فلذلك اختص الله سبحانه باستحقاقها.

الإعراب‏

«ما رَزَقْناكُمْ» موصول و صلة و العائد من الصلة إلى الموصول محذوف و تقديره ما رزقناكموه و جواب الشرط محذوف تقديره إن كنتم إياه تعبدون فكلوا من طيبات ما رزقناكم و اشكروا لله.

المعنى‏

ثم خاطب سبحانه المؤمنين و ذكر نعمه الظاهرة عليهم و إحسانه المبين إليهم فقال‏ «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا» ظاهره الأمر و المراد به الإباحة لأن تناول المشتهى لا يدخل في التعبد و قيل أنه أمر من وجهين. (أحدهما) بأكل الحلال (و الآخر) بالأكل وقت الحاجة دفعا للضرر عن النفس قال القاضي و هذا مما يعرض في بعض الأوقات و الآية غير مقصورة عليه فيحمل على الإباحة «مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ» أي مما تستلذونه و تستطيبونه من الرزق و فيه دلالة على النهي عن أكل الخبيث في قول البلخي و غيره كأنه قيل كلوا من الطيب غير الخبيث كما أنه لو قال كلوا من الحلال لكان ذلك دالا على حظر الحرام و هذا صحيح فيما له ضد قبيح مفهوم فأما غير ذلك فلا يدل على قبح ضده لأن قول القائل كل من مال زيد لا يدل على أنه أراد تحريم ما عداه لأنه قد يكون الغرض البيان لهذا خاصة و ما عداه موقوف على بيان آخر و ليس كذلك ما ضده قبيح لأنه قد يكون من البيان تقبيح ضده‏ «وَ اشْكُرُوا لِلَّهِ» لما نبه سبحانه على إنعامه علينا بما جعله لنا من لذيذ الرزق أمرنا بالشكر لأن الإنعام يقتضي الشكر و قوله‏ «إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ» أي إن كنتم تعبدونه عن علم بكونه منعما عليكم و قيل إن كنتم مخلصين له في العبادة و ذكر الشرط هنا إنما هو على وجه المظاهرة في الحجاج و لما فيه من حسن البيان و تلخيص‏


465
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 173] ص : 466

الكلام أن كانت العبادة لله سبحانه واجبة عليكم بأنه إلهكم فالشكر له واجب عليكم بأنه منعم محسن إليكم.

[سورة البقرة (2): آية 173]

إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَ الدَّمَ وَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)

القراءة

قرأ أبو جعفر الميتة مشددة كل القرآن و قرأ أهل الحجاز و الشام و الكسائي فمن اضطر غير باغ بضم النون و أبو جعفر منهم بكسر الطاء من اضطر و الباقون بكسر النون.

الحجة

الميتة أصلها المييتة فحذفت الياء الثانية استخفافا لثقل الياءين و الكسرة و الأجود في القراءة الميتة بالتخفيف و قوله فمن اضطر بالضم فهو للاتباع كما ضمت همزة الوصل في انصروا و أما الكسرة فعلى أصل الحركة لالتقاء الساكنين و أما قراءة أبي جعفر فمن اضطر فلأن الأصل اضطرر فسكنت الراء الأولى للإدغام و نقلت حركتها إلى الحرف الذي قبلها فصار اضطر و الأصل أن لا تنقل حركة الراء عند إسكانها لأن الطاء على حركتها الأصلية.

 

مجمع البيان فى تفسير القرآن    ج‏1    466    

اللغة

الإهلال في الذبيحة رفع الصوت بالتسمية و كان المشركون يسمون الأوثان و المسلمون يسمون الله و انهلال المطر شدة انصبابه و الهلال غرة القمر لرفع الناس أصواتهم عند رؤيته بالتكبير و المحرم يهل بالإحرام و هو أن يرفع صوته بالتلبية و استهل الصبي إذا بكى وقت الولادة و الاضطرار كل فعل لا يمكن المفعول به الامتناع منه و ذلك كالجوع الذي يحدث للإنسان فلا يمكنه الامتناع منه و الفرق بين الاضطرار و الإلجاء أن الإلجاء قد تتوفر معه الدواعي إلى الفعل من جهة الضرر و النفع و ليس كذلك الاضطرار قال صاحب العين رجل لحم إذا كان أكولا للحم و بيت لحم يكثر فيه اللحم و ألحمت القوم إذا قتلتهم و صاروا لحما و الملحمة الحرب ذات القتل الشديد و استلحم الطريد إذا اتسع و اللحمة قرابة النسب و أصل الباب اللزوم و منه اللحم للزوم بعضه بعضا و أصل البغي الطلب من قولهم بغى الرجل حاجته يبغي بغاء قال الشاعر:


466
مجمع البيان في تفسير القرآن1

الإعراب ص : 467

 

لا يمنعنك من بغاء الخير تعقاد التمائم‏

إن الأشائم كالأيامن و الأيامن كالأشائم‏

 

و البغاء طلب الزنا و العادي المعتدي:.

الإعراب‏

إنما تفيد إثبات الشي‏ء الذي يذكر بعدها و نفي ما عداه كقول الشاعر:

(و إنما عن أحسابهم أنا أو مثلي)

 

و إنما كانت لإثبات الشي‏ء و نفي ما سواه من قبل أن إن كانت للتوكيد و انضاف إليها ما للتوكيد أيضا أكدت أن من جهة التحقيق للشي‏ء و أكدت ما من جهة نفي ما عداه فإذا قلت إنما أنا بشر فكأنك قلت ما أنا إلا بشر و لو كانت ما بمعنى الذي لكتبت ما مفصولة و مثله قوله تعالى: «إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ» أي لا إله إلا الله إلا إله واحد و مثله‏ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ أي لا نذير إلا أنت فإذا ثبت ذلك فلا يجوز في الميتة إلا النصب لأن ما كافة و لو كانت ما بمعنى الذي لجاز في الميتة الرفع و غير باغ منصوب على الحال و تقديره لا باغيا و لا عاديا و لا يجوز أن يقع إلا هاهنا في موضع غير لما قلناه أنه بمعنى النفي و لذلك عطف عليه بلا فأما إلا فمعناه في الأصل الاختصاص لبعض من كل و ليس هاهنا كل يصلح أن يخص منه.

المعنى‏

لما ذكر سبحانه إباحة الطيبات عقبه بتحريم المحرمات فقال‏ «إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ» و هو ما يموت من الحيوان‏ «وَ الدَّمَ وَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ» خص اللحم لأنه المعظم و المقصود و إلا فجملته محرمة «وَ ما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ» قيل فيه قولان.

(أحدهما) أنه ما ذكر غير اسم الله عليه عن الربيع و جماعة من المفسرين و الآخر أنه ما ذبح لغير الله عن مجاهد و قتادة و الأول أوجه‏ «فَمَنِ اضْطُرَّ» إلى أكل هذه الأشياء ضرورة مجاعة عن أكثر المفسرين و قيل ضرورة إكراه عن مجاهد و تقديره فمن خاف على النفس من الجوع و لا يجد مأكولا يسد به الرمق و قوله‏ «غَيْرَ باغٍ» قيل فيه ثلاثة أقوال (أحدها) غير باغ اللذة «وَ لا عادٍ» سد الجوعة عن الحسن و قتادة و مجاهد (و ثانيها) غير باغ في الإفراط و لا عاد في التقصير عن الزجاج (و ثالثها)

غير باغ على إمام المسلمين و لا عاد بالمعصية طريق المحقين‏ و هو المروي عن أبي جعفر و أبي عبد الله‏

و عن مجاهد و سعيد بن جبير و اعترض علي بن عيسى على هذا القول بأن قال أن الله لم يبح لأحد قتل نفسه و التعرض للقتل قتل في حكم الدين و لأن الرخصة لأجل المجاعة لا لأجل سفر الطاعة و هذا فاسد لأن الباغي على الإمام معرض نفسه للقتل فلا يجوز لذلك استباحة ما حرم الله كما لا يجوز له أن يستبقي نفسه بقتل غيره من المسلمين و قوله أن الرخصة لأجل المجاعة


467
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 174] ص : 468

غير مسلم على الإطلاق بل هو مخصوص بمن لم يعرض نفسه لها «فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ» أي لا حرج عليه و إنما ذكر هذا اللفظ ليبين أنه ليس بمباح في الأصل و إنما رفع الحرج لأجل الضرورة «إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» و إنما ذكر المغفرة لأحد الأمرين أما ليبين أنه إذا كان يغفر المعصية فإنه لا يؤاخذ بما رخص فيه و أما لأنه وعد بالمغفرة عند الإنابة إلى طاعة الله مما كانوا عليه من تحريم ما لم يحرمه الله من السائبة و غيرها.

[سورة البقرة (2): آية 174]

إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ وَ يَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَ لا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ لا يُزَكِّيهِمْ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (174)

اللغة

البطن خلاف الظهر و البطن الغامض من الأرض و البطن من العرب دون القبيلة.

الإعراب‏

الذين مع صلته منصوب بأن و أولئك رفع بالابتداء و خبره‏ «ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ» و المبتدأ و خبره جملة في موضع الرفع بكونها خبر إن و النار نصب بيأكلون.

النزول‏

المعني في هذه الآية أهل الكتاب بإجماع المفسرين إلا أنها متوجهة على قول كثير منهم إلى جماعة قليلة من اليهود و هم علماؤهم ككعب بن الأشرف و حيي بن أخطب و كعب بن أسد و كانوا يصيبون من سفلتهم الهدايا و يرجون كون النبي منهم فلما بعث من غيرهم خافوا زوال مأكلتهم فغيروا صفته فأنزل الله هذه الآية.

المعنى‏

ثم عاد الكلام إلى ذكر اليهود الذين تقدم ذكرهم فقال تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ» أي صفة محمد و البشارة به عن ابن عباس و قتادة و السدي و قيل كتموا الأحكام عن الحسن و الكتاب على القول الأول هو التوراة و على الثاني يجوز أن يحمل على القرآن و على سائر الكتب‏ «وَ يَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا» أي يستبدلون به عرضا قليلا و ليس المراد أنهم إذا اشتروا به ثمنا كثيرا كان جائزا بل الفائدة فيه أن كل ما يأخذونه في مقابلة ذلك من حطام الدنيا فهو قليل و للعرب في ذلك عادة معروفة و مذهب مشهور و مثله في القرآن كثير قال‏ «وَ مَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ» وَ يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍ‏ و فيه دلالة على أن من ادعى أن مع الله إلها آخر لا يقوم له على‏


468
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ص : 468

قوله‏ بُرْهانَ‏ و إن قتل الأنبياء لا يكون إلا بغير حق و ذلك بأن وصف الشي‏ء بما لا بد أن يكون عليه من الصفة و مثله في الشعر قول النابغة:

يحفه جانبا نيق و يتبعه‏

مثل الزجاجة لم تكحل من الرمد

 

أي ليس بها رمد فيكتحل له و قول الآخر:

لا يغمز الساق من أين و من وصب‏

و لا يعض على شرسوفه الصفر

 

أي ليس بساقه أين و لا وصب فيغمزها من أجلهما و قول سويد بن أبي الكاهل:

من أناس ليس في أخلاقهم‏

عاجل الفحش و لا سوء الجزع‏

 

و لم يرد أن في أخلاقهم فحشا آجلا أو جزعا غير سي‏ء بل نفي الفحش و الجزع عن أخلاقهم و في أمثال هذا كثيرة «أُولئِكَ» يعني الذين كتموا ذلك و أخذوا الأجر على الكتمان‏ «ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ» و معناه أن أكلهم في الدنيا و إن كان طيبا في الحال فكأنهم لم يأكلوا إلا النار لأن ذلك يؤديهم إلى النار كقوله سبحانه في أكل مال اليتيم: «إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً» عن الحسن و الربيع و أكثر المفسرين و قيل إنهم يأكلون النار حقيقة في جهنم عقوبة لهم على كتمانهم فيصير ما أكلوا في بطونهم نارا يوم القيامة فسماه في الحال بما يصير إليه في المال و إنما ذكر البطون و إن كان الأكل لا يكون إلا في البطن لوجهين (أحدهما) أن العرب تقول جعت في غير بطني و شبعت في غير بطني إذا جاع من يجري جوعة مجرى جوعة و شبعه مجرى شبعه فذكر ذلك لإزالة اللبس (و الآخر) أنه لما استعمل المجاز بأن أجري على الرشوة اسم النار حقق بذكر البطن ليدل على أن النار تدخل أجوافهم‏ «وَ لا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ» فيه وجهان (أحدهما) أنه لا يكلمهم بما يحبون و في ذلك دليل على غضبه عليهم و إن كان يكلمهم بالسؤال بالتوبيخ و بما يغمهم كما قال‏ «فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ» و قال‏ اخْسَؤُا فِيها وَ لا تُكَلِّمُونِ‏ و هذا قول الحسن و الجبائي (و الثاني) أنه لا يكلمهم أصلا فتحمل آيات المسألة على أن الملائكة تسألهم عن الله و بأمره و يتأول قوله‏ اخْسَؤُا فيها على دلالة الحال و إنما يدل نفي الكلام على الغضب في الوجه الأول من حيث أن الكلام وضع في‏


469
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 175] ص : 470

الأصل للفائدة فلما انتفى الفائدة على وجه الحرمان دل على الغضب فأما الكلام على وجه الغم و الإيلام فخارج عن ذلك‏ «وَ لا يُزَكِّيهِمْ» معناه لا يثني عليهم و لا يصفهم بأنهم أزكياء و من لا يثني الله عليه فهو معذب و قيل لا تقبل أعمالهم كما تقبل أعمال الأزكياء و قيل معناه لا يطهرهم من خبث أعمالهم بالمغفرة «وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» أي موجع مؤلم.

[سورة البقرة (2): آية 175]

أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى‏ وَ الْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175)

الإعراب‏

«فَما أَصْبَرَهُمْ» قيل إن ما للتعجب كالتي في قوله‏ «قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ» أي قد حل محل ما يتعجب منه و حكي عن بعض العرب أنه قال لخصمه ما أصبرك على عذاب الله و قيل أنه للاستفهام على معنى أي شي‏ء أصبرهم يقال أصبرت السبع أو الرجل و نحوه إذا نصبته لما يكره قال الحطيئة:

قلت لها أصبرها دائبا

ويحك أمثال طريف قليل‏

 

أي ألزمها و اضطرها.

المعنى‏

«أُولئِكَ» إشارة إلى من تقدم ذكرهم‏ «الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى‏» أي استبدلوا الكفر بالنبي (ص) بالإيمان به فصاروا بمنزلة من يشتري السلعة بالثمن و قيل المراد بالضلالة كتمان أمره مع علمهم به و بالهدى إظهاره و قيل المراد بالضلالة العذاب و بالهدى الثواب و طريق الجنة أي استبدلوا النار بالجنة و قوله‏ «وَ الْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ» قيل أنه تأكيد لما تقدم عن أبي مسلم و قيل أنهم كانوا اشتروا العذاب بالمغفرة لما عرفوا ما أعد الله لمن عصاه من العذاب و لمن أطاعه من الثواب ثم أقاموا على ما هم عليه من المعصية مصرين عن القاضي و هذا أولى لأنه إذا أمكن حمل الكلام على زيادة فائدة كان أولى فكان اشتراؤهم الضلالة يرجع إلى عدولهم عن طريق العلم إلى طريق الجهل و اشتراؤهم العذاب بالمغفرة يرجع إلى عدولهم عما يوجب الجنة إلى ما يوجب النار و قوله‏ «فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ» فيه أقوال (أحدها)

إن معناه ما أجرأهم على النار ذهب إليه الحسن و قتادة و رواه علي بن إبراهيم بإسناده عن أبي عبد الله (ع)

(و الثاني)


470
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 176] ص : 471

ما أعملهم بأعمال أهل النار عن مجاهد و هو المروي عن أبي عبد الله (ع)

(و الثالث) ما أبقاهم على النار كما يقال ما أصبر فلانا على الحبس عن الزجاج (و الرابع) ما أدومهم على النار أي ما أدومهم على عمل أهل النار كما يقال ما أشبه سخاءك بحاتم عن الكسائي و قطرب و على هذه الوجوه فظاهر الكلام التعجب و التعجب لا يجوز على القديم سبحانه لأنه عالم بجميع الأشياء لا يخفى عليه شي‏ء و التعجب إنما يكون مما لا يعرف سببه و إذا ثبت ذلك فالغرض أن يدلنا على أن الكفار حلوا محل من يتعجب منه فهو تعجيب لنا منهم (و الخامس) ما روي عن ابن عباس أن المراد أي شي‏ء أصبرهم على النار أي حبسهم عليها فتكون للاستفهام و يمكن حمل الوجوه الثلاثة المتقدمة على الاستفهام أيضا فيكون المعنى أي شي‏ء أجرأهم على النار و أعملهم بأعمال أهل النار و أبقاهم على النار و قال الكسائي هو استفهام على وجه التعجب و قال المبرد هذا حسن لأنه كالتوبيخ لهم و التعجيب لنا كما يقال لمن وقع في ورطة ما اضطرك إلى هذا إذا كان غنيا عن التعرض للوقوع في مثلها و المراد به الإنكار و التقريع على اكتساب سبب الهلاك و تعجيب الغير منه و من قال معناه ما أجرأهم على النار فإنه عنده من الصبر الذي هو الحبس أيضا لأن بالجرأة يصبر على الشدة.

[سورة البقرة (2): آية 176]

ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَ إِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (176)

اللغة

الاختلاف الذهاب على جهة التفرق في الجهات و أصله من اختلاف الطريق تقول اختلفنا الطريق فجاء هذا من هنا و جاء ذاك من هناك ثم استعمل في الاختلاف في المذاهب تشبيها بالاختلاف في الطريق من حيث أن كل واحد منهم على نقيض ما عليه الآخر من الاعتقاد و أما اختلاف الأجناس فهو ما لا يسد أحدهما مسد الآخر فيما يرجع إلى ذاته كالسواد و البياض و الشقاق و المشاقة انحياز كل واحد عن شق صاحبه للعداوة له و هو طلب كل واحد منهما ما يشق على الآخر لأجل العداوة.

الإعراب‏

قال الزجاج ذلك مرفوع بالابتداء و الخبر محذوف أي ذلك الأمر و يجوز أن يكون مرفوعا بخبر الابتداء أي الأمر ذلك و يحتمل أن يكون موضع ذلك نصبا على‏


471
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ص : 472

تقدير فعلنا ذلك لأن في الكلام ما يدل على فعلنا.

المعنى‏

«ذلِكَ» إشارة إلى أحد ثلاثة أشياء (أولها) ذلك الحكم بالنار عن الحسن (و ثانيها) ذلك العذاب (و ثالثها) ذلك الضلال و في تقدير خبره ثلاثة وجوه (أحدها) ما ذكرناه من قول الزجاج (و ثانيها) إن تقديره ذلك الحكم الذي حكم فيهم أو حل بهم من العذاب أو ذلك الضلال معلوم بأن الله نزل الكتاب بالحق فحذف لدلالة ما تقدم من الكلام عليه (و الثالث) ذلك العذاب لهم‏ «بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ» و يكون الباء مع ما بعده في موضع الخبر و من ذهب إلى أن المعنى ذلك الحكم بدلالة أن الله نزل الكتاب بالحق فالكلام على صورته و من ذهب إلى أن المعنى ذلك العذاب أو الضلال بأن الله نزل الكتاب بالحق ففي الكلام محذوف و تقديره فكفروا به و المراد بالكتاب هاهنا التوراة و قال الجبائي هو القرآن و غيره و قال بعضهم المراد بالأول التوراة و بالثاني القرآن‏ «وَ إِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ» قيل هم الكفار أجمع عند أكثر المفسرين اختلفوا في القرآن على أقوال فمنهم من قال هو كلام السحرة و منهم من قال كلام تعلمه و منهم من قال كلام تقوله و قيل هم أهل الكتاب من اليهود و النصارى عن السدي اختلفوا في التأويل و التنزيل من التوراة و الإنجيل لأنهم حرفوا الكتاب و كتموا صفة النبي ص و جحدت اليهود الإنجيل و القرآن و قوله‏ «لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ» أي بعيد عن الألفة بالاجتماع على الصواب و قيل بعيد في الشقاق لشهادة كل واحد على صاحبه بالضلال و كلاهما عادل عن الحق و السداد و قيل في اختلاف شديد فيما يتصل بأحكام التوراة و الإنجيل.


472
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 177] ص : 473

[سورة البقرة (2): آية 177]

لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ وَ لكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ الْمَلائِكَةِ وَ الْكِتابِ وَ النَّبِيِّينَ وَ آتَى الْمالَ عَلى‏ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى‏ وَ الْيَتامى‏ وَ الْمَساكِينَ وَ ابْنَ السَّبِيلِ وَ السَّائِلِينَ وَ فِي الرِّقابِ وَ أَقامَ الصَّلاةَ وَ آتَى الزَّكاةَ وَ الْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَ الصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَ الضَّرَّاءِ وَ حِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)

القراءة

قرأ حفص عن عاصم غير هبيرة و حمزة ليس البر بنصب الراء و الباقون بالرفع و روي في الشواذ عن ابن مسعود و أبي‏ «لَيْسَ الْبِرَّ» بالنصب بأن يولوا بالياء و قرأ نافع و ابن عامر و لكن البر بالتخفيف و الرفع و الباقون‏ «وَ لكِنَّ الْبِرَّ» بالتشديد و النصب.

الحجة

قال أبو علي حجة من رفع البر أن ليس يشبه الفعل و كون الفاعل بعد الفعل أولى من كون المفعول بعده و حجة من نصب البر أنه قد حكي عن بعض شيوخنا أنه قال في هذا النحو أن يكون الاسم أن و صلتها أولى بشبهها بالمضمر في أنها لا توصف كما لا يوصف المضمر و كأنه اجتمع مضمر و مظهر و الأولى إذا اجتمعا أن يكون المضمر الاسم من حيث كان أذهب في الاختصاص من المظهر قال ابن جني يجوز أن يكون إنما نصب البر مع الباء بأن جعل الباء زائدة كقولهم‏ وَ كَفى‏ بِاللَّهِ وَكِيلًا.

اللغة

البر العطف و الإحسان مصدر و يجوز أن يكون بمعنى البار أي الواسع الإحسان و البر الصدق و البر الإيمان و التقوى و أصله من الاتساع و منه البر خلاف البحر لاتساعه و اختلف أهل اللغة و الفقهاء في المسكين و الفقير أيهما أشد أحوالا فقال جماعة المسكين الذي لا شي‏ء له و الفقير الذي له ما لا يكفيه و هو قول يونس و ابن دريد و قول أبي حنيفة و قال آخرون الفقير الذي لا شي‏ء له و المسكين من له شي‏ء يسير و هو قول الشافعي و السبيل الطريق و ابن السبيل هو المنقطع به إذا كان في سفره محتاجا و إن كان في بلده ذا يسار و هو من أهل الزكاة و قيل أنه الضيف عن قتادة و إنما قيل للمسافر ابن الطريق للزومه الطريق كما قيل للطير ابن الماء قال ذو الرمة:

وردت اعتسافا و الثريا كأنها

على قمة الرأس ابن ماء محلق‏

 

و الرقاب جمع رقبة و هي أصل العنق و يعبر به عن جميع البدن يقال أعتق الله رقبته و منه قوله‏ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ و البأساء و البؤس الفقر و الضراء السقم و الوجع و هما مصدران بنيا على فعلاء و ليس لهما أفعل لأن أفعل و فعلاء في الصفات و النعوت و لم يأتيا في الأسماء التي ليست بنعوت.

الإعراب‏

من نصب البر جعل أن مع صلتها اسم ليس أي ليس توليتكم وجوهكم‏


473
مجمع البيان في تفسير القرآن1

الإعراب ص : 473

البر كله و من رفع البر فالمعنى ليس البر كله توليتكم و كلا المذهبين حسن لأن كل واحد من اسم ليس و خبرها معرفة فإذا اجتمعا في التعريف تكافأ في كون أحدهما اسما و الآخر خبرا كما تتكافأ النكرتان و قد ذكرنا الوجه في ترجيح أحد المذهبين على الآخر و لكن البر إذا شددت لكن نصبت البر و إذا خففت رفعت البر و كسرت النون مع التخفيف لالتقاء الساكنين و أما الإخبار عن البر بمن آمن ففيه وجوه ثلاثة (أحدها) أن يكون البر بمعنى البار فجعل المصدر في موضع اسم الفاعل كما يقال ماء غور أي غائر و رجل صوم أي صائم و مثله قول الخنساء:

ترتع ما رتعت حتى إذا ادكرت‏

فإنما هي إقبال و إدبار

 

أي أنها مقبلة و مدبرة مثله:

تظل جيادهم نوحا عليهم‏

مقلدة أعنتها صفونا

 

أي نائحة و (ثانيها) إن المعنى و لكن ذا البر من آمن بالله فحذف المضاف من الاسم و (ثالثها) أن يكون التقدير و لكن البر بر من آمن بالله فحذف المضاف من الخبر و أقام المضاف إليه مقامه كقول الشاعر:

و كيف تواصل من أصبحت‏

خلالته كأبي مرحب‏

 

و كقول النابغة:

و قد خفت حتى ما تزيد مخافتي‏

على وعل في ذي المطارة عاقل‏

 

أي على مخافة و على و مثله قوله تعالى‏ «أَ جَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَ عِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ» ثم قال‏ «كَمَنْ آمَنَ» أي كإيمان من آمن و قوله‏ «وَ الْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا» في رفعه قولان أحدهما أن يكون مرفوعا على المدح لأن النعت إذا طال و كثر رفع بعضه و نصب على المدح و المعنى و هم الموفون و الآخر أن يكون معطوفا على من آمن و المعنى و لكن ذا البر أو ذوي البر المؤمنون و الموفون بعهدهم و أما قوله‏ «وَ الصَّابِرِينَ» فمنصوب على المدح أيضا لأن مذهبهم في الصفات و النعوت إذا طالت أن يعترضوا بينها بالمدح أو الذم ليميزوا الممدوح أو المذموم و تقديره أعني الصابرين قال أبو علي و الأحسن في هذه الأوصاف التي تقطعت للرفع من موصوفها و المدح أو الغض منهم و الذم أن يخالف بإعرابها و لا تجعل كلها جارية على موصوفها ليكون ذلك دلالة على هذا المعنى‏


474
مجمع البيان في تفسير القرآن1

النزول و النظم ص : 475

و انفصالا لما يذكر للتنويه و التنبيه أو النقص و الغض مما يذكر للتخليص و التمييز بين الموصوفين المشتبهين في الاسم المختلفين في المعنى و من ذلك قول الشاعر أنشده الفراء:

إلى الملك القرم و ابن الهمام‏

و ليث الكتيبة في المزدحم‏

 

و ذا الرأي حين تغم الأمور

بذات الصليل و ذات اللجم‏

 

فنصب ليث الكتيبة و ذا الرأي على المدح و أنشد أيضا:

فليت التي فيها النجوم تواضعت‏

على كل غث منهم و سمين‏

 

غيوث الحيا في كل محل و لزبة

أسود الشري يحمين كل عرين‏

 

و مما نصب على الذم:

سقوني الخمر ثم تكنفوني‏

عداة الله من كذب و زور

 

و شي‏ء آخر و هو أن هذا الموضع من مواضع الإطناب في الوصف و إذا خولف بإعراب الألفاظ كان أشد و أوقع فيما يعن و يعترض لصيرورة الكلام و كونه بذلك ضروبا و جملا و كونه في الإجزاء على الأول وجها واحدا و جملة واحدة فلذلك سبق قول سيبويه في قوله‏ وَ الْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ و أنه محمول على المدح قول من قال أنه محمول على قوله‏ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ‏ و بالمقيمين الصلاة و إن كان هذا غير ممتنع و قال بعض النحويين أن الصابرين معطوف على ذوي القربى قال الزجاج و هذا لا يصلح إلا أن تكون و الموفون رفعا على المدح للضميرين لأن ما في الصلة لا يعطف عليه بعد المعطوف على الموصول قال أبو علي لا وجه لهذا القول لأن و الصابرين لا يجوز حمله على‏ «وَ آتَى الْمالَ عَلى‏ حُبِّهِ» سواء كان قوله‏ «وَ الْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ» عطفا على الموصول أو مدحا لأن الفصل بين الصلة يقع به إذا كان مدحا كما يقع به إذا كان مفردا معطوفا على الموصول بل الفصل بينهما بالمدح أشنع لكون المدح جملة و الجمل ينبغي أن تكون في الفصل أشنع و أقبح بحسب زيادتها على المفرد و إن كان الجميع من ذلك ممتنعا.

النزول و النظم‏

لما حولت القبلة و كثر الخوض في نسخها و صار كأنه لا يراعى بطاعة الله إلا التوجه للصلاة و أكثر اليهود و النصارى ذكرها أنزل الله سبحانه هذه الآية عن أبي القاسم البلخي و عن قتادة أنها نزلت في اليهود.


475
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ص : 476

المعنى‏

«لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ» بين سبحانه أن البر كله ليس في الصلاة فإن الصلاة إنما أمر بها لكونها مصلحة في الإيمان و صارفة عن الفساد و كذلك العبادات الشرعية إنما أمر بها لما فيها من الألطاف و المصالح الدينية و ذلك يختلف بالأزمان و الأوقات فقال ليس البر كله في التوجه إلى الصلاة حتى يضاف إلى ذلك غيره من الطاعات التي أمر الله بها عن ابن عباس و مجاهد و اختاره أبو مسلم و قيل معناه ليس البر ما عليه النصارى من التوجه إلى المشرق و لا ما عليه اليهود من التوجه إلى المغرب عن قتادة و الربيع و اختاره الجبائي و البلخي‏ «وَ لكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ» أي لكن البر بر من آمن بالله كقولهم السخاء حاتم و الشعر زهير أي السخاء سخاء حاتم و الشعر شعر زهير عن قطرب و الزجاج و الفراء و اختاره الجبائي و قيل و لكن البار أو ذا البر من آمن بالله أي صدق بالله و يدخل فيه جميع ما لا يتم معرفة الله سبحانه إلا به كمعرفة حدوث العالم و إثبات المحدث و صفاته الواجبة و الجائزة و ما يستحيل عليه سبحانه و معرفة عدله و حكمته‏ «وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ» يعني القيامة و يدخل فيه التصديق بالبعث و الحساب و الثواب و العقاب‏ «وَ الْمَلائِكَةِ» أي و بأنهم عباد الله المكرمون لا يسبقونه بالقول و هم بأمره يعملون‏ «وَ الْكِتابِ» أي و بالكتب المنزلة من عند الله إلى أنبيائه‏ «وَ النَّبِيِّينَ» و بالأنبياء كلهم و أنهم معصومون مطهرون و فيما أدوه إلى الخلق صادقون و إن سيدهم و خاتمهم محمد ص و إن شريعته ناسخة لجميع الشرائع و التمسك بها لازم لجميع المكلفين إلى يوم القيامة «وَ آتَى الْمالَ» أي و أعطى المال‏ «عَلى‏ حُبِّهِ» فيه وجوه (أحدها) إن الكناية راجعة إلى المال أي على حب المال فيكون المصدر مضافا إلى المفعول و هو معنى قول ابن عباس و ابن مسعود قال هو أن تعطيه و أنت صحيح تأمل العيش و تخشى الفقر و لا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا (و ثانيها) أن تكون الهاء راجعة إلى من آمن فيكون المصدر مضافا إلى الفاعل و لم يذكر المفعول لظهور المعنى و وضوحه و هو مثل الوجه الأول سواء في المعنى (و ثالثها) أن تكون الهاء راجعة إلى الإيتاء الذي دل عليه قوله‏ «وَ آتَى الْمالَ» و المعنى على حبه الإعطاء و يجري ذلك مجرى قول القطامي:

هم الملوك و أبناء الملوك لهم‏

و الآخذون به و الساسة الأول‏

 

فكني بالهاء عن الملك لدلالة قول الملوك عليه (و رابعها) أن الهاء راجعة إلى الله لأن ذكره سبحانه قد تقدم أي يعطون المال على حب الله و خالصا لوجهه قال المرتضى‏


476
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ص : 476

قدس الله روحه لم نسبق إلى هذا الوجه في هذه الآية و هو أحسن ما قيل فيها لأن تأثير ذلك أبلغ من تأثير حب المال لأن المحب للمال الضنين به متى بذله و أعطاه و لم يقصد به القربة إلى الله تعالى لم يستحق شيئا من الثواب و إنما يؤثر حبه للمال في زيادة الثواب متى حصل قصد القربة و الطاعة و لو تقرب بالعطية و هو غير ضنين بالمال و لا محب له لا يستحق الثواب‏ «ذَوِي الْقُرْبى‏» أراد به قرابة المعطي كما

روي عن النبي ص‏ أنه سئل عن أفضل الصدقة فقال جهد المقل على ذي الرحم الكاشح‏

و

قوله لفاطمة بنت قيس‏ لما قالت يا رسول الله إن لي سبعين مثقالا من ذهب قال اجعليها في قرابتك‏

و يحتمل أن يكون‏

أراد قرابة النبي (ص) كما في قوله‏ «قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى‏» و هو المروي عن أبي جعفر و أبي عبد الله (ع)

«وَ الْيَتامى‏» اليتيم من لا أب له مع الصغر قيل أراد يعطيهم أنفسهم المال و قيل أراد ذوي اليتامى أي يعطي من تكفل بهم لأنه لا يصح إيصال المال إلى من لا يعقل فعلى هذا يكون اليتامى في موضع جر عطفا على القربى و على القول الأول يكون في موضع نصب عطفا على‏ «ذَوِي الْقُرْبى‏» «وَ الْمَساكِينَ» يعني أهل الحاجة «وَ ابْنَ السَّبِيلِ» يعني المنقطع به عن أبي جعفر و مجاهد و قيل الضيف عن ابن عباس و قتادة و ابن جبير «وَ السَّائِلِينَ» أي الطالبين للصدقة لأنه ليس كل مسكين يطلب‏ «وَ فِي الرِّقابِ» فيه وجهان (أحدهما) عتق الرقاب بأن يشتري و يعتق (و الآخر) في رقاب المكاتبين و الآية محتملة للأمرين فينبغي أن تحمل عليهما و هو اختيار الجبائي و الرماني و في هذه الآية دلالة على وجوب إعطاء مال الزكاة المفروضة بلا خلاف و قال ابن عباس في المال حقوق واجبة سوى الزكاة و قال الشعبي هي محمولة على وجوب حقوق في مال الإنسان غير الزكاة مما له سبب وجوب كالإنفاق على من يجب عليه نفقته و على من يجب عليه سد رمقه إذا خاف عليه التلف و على ما يلزمه من النذور و الكفارات و يدخل في هذا أيضا ما يخرجه الإنسان على وجه التطوع و القربة إلى الله لأن ذلك كله من البر و اختاره الجبائي قالوا و لا يجوز حمله على الزكاة المفروضة لأنه عطف عليه الزكاة و إنما خص هؤلاء لأن الغالب أنه لا يوجد الاضطرار إلا في هؤلاء «وَ أَقامَ الصَّلاةَ» أي أداها لميقاتها و على حدودها «وَ آتَى الزَّكاةَ» أي أعطى زكاة ماله‏ «وَ الْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا» أي و الذين إذا عاهدوا عهدا أوفوا به يعني العهود و النذور التي بينهم و بين الله تعالى و العقود التي بينهم و بين الناس و كلاهما يلزم الوفاء به‏ «وَ الصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَ الضَّرَّاءِ» يريد بالبأساء البؤس و الفقر و بالضراء الوجع و العلة عن ابن مسعود و قتادة و جماعة من المفسرين‏ «وَ حِينَ الْبَأْسِ» يريد وقت القتال و جهاد العدو و

روي عن علي‏


477
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 178] ص : 478

 

(ع) أنه قال‏ كنا إذا أحمر البأس اتقينا برسول الله فلم يكن أحد منا أقرب إلى العدو منه‏

يريد إذا اشتد الحرب‏ «أُولئِكَ» إشارة إلى من تقدم ذكرهم‏ «الَّذِينَ صَدَقُوا» أي صدقوا الله فيما قبلوا منه و التزموه علما و تمسكوا به عملا عن ابن عباس و الحسن و قيل الذين صدقت نياتهم لأعمالهم على الحقيقة «وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ» أي اتقوا بفعل هذه الخصال نار جهنم و استدل أصحابنا بهذه الآية على أن المعني بها أمير المؤمنين (ع) لأنه لا خلاف بين الأمة إنه كان جامعا لهذه الخصال فهو مراد بها قطعا و لا قطع على كون غيره جامعا لها و لهذا قال الزجاج و الفراء أنها مخصوصة بالأنبياء المعصومين لأن هذه الأشياء لا يؤديها بكليتها على حق الواجب فيها إلا الأنبياء.

[سورة البقرة (2): آية 178]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى‏ الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَ الْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَ الْأُنْثى‏ بِالْأُنْثى‏ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْ‏ءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَ أَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ رَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى‏ بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (178)

اللغة

كتب فرض و أصل الكتابة الخط الدال على معنى فسمي به ما دل على الفرض قال الشاعر:

كتب القتل و القتال علينا

 

و على الغانيات جر الذيول‏

     

 

و القصاص و المقاصة و المعاوضة و المبادلة نظائر يقال قص أثره أي تلاه شيئا بعد شي‏ء و منه القصاص لأنه يتلو أصل الجناية و يتبعه و قيل هو أن يفعل بالثاني ما فعله هو بالأول مع مراعاة المماثلة و منه أخذ القصص كأنه يتبع آثارهم شيئا بعد شي‏ء و الحر نقيض العبد و الحر من كل شي‏ء أكرمه و أحرار البقول ما يؤكل غير مطبوخ و تحرير الكتابة إقامة حروفها و العفو الترك و عفت الدار أي تركت حتى درست و العفو عن المعصية ترك العقاب‏

 

 

 

478
مجمع البيان في تفسير القرآن1

الإعراب ص : 479

عليها و قيل معنى العفو هاهنا ترك القود بقبول الدية من أخيه و جمع الأخ الأخوة إذا كانوا لأب فإن لم يكونوا لأب فهم إخوان ذكر ذلك صاحب العين و التأدية و الأداء تبليغ الغاية يقال أدى فلان ما عليه و فلان آدى للأمانة من غيره.

الإعراب‏

فاتباع مبتدأ و خبره محذوف أي فعليه اتباع أو خبر لمبتدء محذوف أي فحكمه اتباع و لو كان في غير القرآن لجاز فاتباعا بالمعروف و أداء إليه بإحسان على معنى فليتبع اتباعا و ليؤد أداء و لكن الرفع عليه إجماع القراء و هو الأجود في العربية.

النزول‏

نزلت هذه الآية في حيين من العرب لأحدهما طول على الآخر و كانوا يتزوجون نساءهم بغير مهور و أقسموا لنقتلن بالعبد منا الحر منهم و بالمرأة منا الرجل منهم و بالرجل منا الرجلين منهم و جعلوا جراحاتهم على الضعف من جراح أولئك حتى جاء الإسلام فأنزل الله هذه الآية.

المعنى‏

لما بين سبحانه أن البر لا يتم إلا بالإيمان و التمسك بالشرائع بين الشرائع و بدأ بالدماء و الجراح فقال‏ «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ» أي فرض عليكم و أوجب و قيل كتب عليكم في أم الكتاب و هو اللوح المحفوظ على جهة الفرض‏ «الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى‏» المساواة في القتلى أي يفعل بالقاتل مثل ما فعله بالمقتول و لا خلاف أن المراد به قتل العمد لأن العمد هو الذي يجب فيه القصاص دون الخطإ المحض و شبيه العمد و متى قيل كيف قال‏ «كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى‏» و الأولياء مخيرون بين القصاص و العفو و أخذ الدية و المقتص منه لا فعل له فيه فلا وجوب عليه فالجواب من وجهين (أحدهما) أنه فرض عليكم ذلك إن اختار أولياء المقتول القصاص و الفرض قد يكون مضيقا و قد يكون مخيرا فيه (و الثاني) أنه فرض عليكم التمسك بما حد عليكم و ترك مجاوزته إلى ما لم يجعل لكم و أما من يتولى القصاص فهو إمام المسلمين و من يجري مجراه فيجب عليه استيفاء القصاص عند مطالبة الولي لأنه حق الآدمي و يجب على القاتل تسليم النفس‏ «الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَ الْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَ الْأُنْثى‏ بِالْأُنْثى‏»

قال الصادق‏ و لا يقتل حر بعبد و لكن يضرب ضربا شديدا و يغرم دية العبد

و هذا مذهب الشافعي‏

و قال‏ إن قتل رجل امرأة فأراد أولياء المقتول أن يقتلوه أدوا نصف ديته إلى أهل الرجل‏

و هذا هو حقيقة المساواة فإن نفس المرأة لا تساوي نفس الرجل بل هي على النصف منها فيجب إذا أخذت النفس الكاملة بالنفس الناقصة أن يرد فضل ما بينهما و كذلك رواه الطبري في تفسيره عن علي السلام و يجوز قتل العبد بالحر و الأنثى بالذكر إجماعا و ليس في الآية ما


479
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ص : 479

يمنع من ذلك لأنه لم يقل لا تقتل الأنثى بالذكر و لا العبد بالحر فما تضمنته الآية معمول به و ما قلناه مثبت بالإجماع و بقوله سبحانه‏ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ‏ و قوله‏ «فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْ‏ءٌ» فيه قولان (أحدهما) أن معناه من ترك له و صفح عنه من الواجب عليه و هو القصاص في قتل العمد من أخيه أي من دم أخيه فحذف المضاف للعلم به و أراد بالأخ المقتول سماه أخا للقاتل فدل أن أخوة الإسلام بينهما لم تنقطع و إن القاتل لم يخرج عن الإيمان بقتله و قيل أراد بالأخ العافي الذي هو ولي الدم سماه الله أخا للقاتل و قوله‏ «شَيْ‏ءٌ» دليل على أن بعض الأولياء إذا عفا سقط القود لأن شيئا من الدم قد بطل بعفو البعض و الله تعالى قال‏ «فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْ‏ءٌ» و الضمير في قوله‏ «لَهُ» و في‏ «أَخِيهِ» كلاهما يرجع إلى من و هو القاتل أي من ترك له القتل و رضي منه بالدية هذا قول أكثر المفسرين قالوا العفو أن يقبل الدية في قتل العمد و لم يذكر سبحانه العافي لكنه معلوم أن المراد به من له القصاص و المطالبة و هو ولي الدم و القول الآخر أن المراد بقوله‏ «فَمَنْ عُفِيَ لَهُ» ولي الدم و الهاء في أخيه يرجع إليه و تقديره فمن بذل له من أخيه يعني أخا الولي و هو المقتول الدية و يكون العافي معطي المال ذكر ذلك عن مالك و من نصر هذا القول قال أن لفظ شي‏ء منكر و القود معلوم فلا يجوز الكناية عنه بلفظ النكرة فيجب أن يكون المعنى فمن بذل له من أخيه مال و ذلك يجوز أن يكون مجهولا لا يدري أنه يعطيه الدية أو جنسا آخر و مقدار الدية أو أقل أو أكثر فصح أن يقال فيه شي‏ء و هذا ضعيف و القول الأول أظهر و قد ذكرنا الوجه في تنكير قوله‏ «شَيْ‏ءٌ» هناك و أما الذي له العفو عن القصاص فكل من يرث الدية إلا الزوج و الزوجة عندنا و أما غير أصحابنا من العلماء فلا يستثنونهما و قوله‏ «فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ» أي فعلى العافي اتباع بالمعروف هي أن لا يشدد في الطلب و ينظره إن كان معسرا و لا يطالبه بالزيادة على حقه و على المعفو له‏ «وَ أَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ» أي‏

الدفع عند الإمكان من غير مطل و به قال ابن عباس و الحسن و قتادة و مجاهد و هو المروي عن أبي عبد الله (ع)

و قيل المراد فعلى المعفو عنه الاتباع و الأداء و قوله‏ «ذلِكَ» إشارة إلى جميع ما تقدم‏ «تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ رَحْمَةٌ» معناه أنه جعل لكم القصاص أو الدية أو العفو و خيركم بينها و كان لأهل التوراة القصاص أو العفو و لأهل الإنجيل العفو أو الدية و قوله‏ «فَمَنِ اعْتَدى‏ بَعْدَ ذلِكَ» أي‏

بأن قتل بعد قبول الدية أو العفو عن ابن عباس و الحسن و قتادة و مجاهد و هو المروي عن أبي جعفر و أبي عبد الله (ع)

و قيل بأن قتل غير قاتله أو طلب أكثر مما وجب له من الدية و قيل بأن جاوز الحد بعد ما بين له كيفية القصاص قال القاضي و يجب حمله على الجميع لعموم اللفظ «فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ» في الآخرة.


480
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 179] ص : 481

[سورة البقرة (2): آية 179]

وَ لَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)

اللغة

الألباب العقول واحدها لب مأخوذ من لب النخلة و لب بالمكان و ألب به إذا قام و اللب البال.

المعنى‏

ثم بين سبحانه وجه الحكمة في إيجاب القصاص فقال‏ «وَ لَكُمْ» أيها المخاطبون‏ «فِي الْقِصاصِ حَياةٌ» فيه قولان (أحدهما) أن معناه في إيجاب القصاص حياة لأن من هم بالقتل فذكر القصاص ارتدع فكان ذلك سببا للحياة عن مجاهد و قتادة و أكثر أهل العلم (و الثاني) أن معناه لكم في وقوع القتل حياة لأنه لا يقتل إلا القاتل دون غيره بخلاف ما كان يفعله أهل الجاهلية الذين كانوا يتفانون بالطوائل عن السدي و المعنيان جميعا حسنان و نظيره من كلام العرب القتلى أنفى للقتل إلا أن ما في القرآن أكثر فائدة و أوجز في العبارة و أبعد من الكلفة بتكرير الجملة و أحسن تأليفا بالحروف المتلائمة فأما كثرة الفائدة فلأن فيه جميع ما في قولهم القتل أنفى للقتل و زيادة معاني منها إبانة العدل لذكره القصاص و منها إبانة الغرض المرغوب فيه و هو الحياة و منها الاستدعاء بالرغبة و الرهبة و حكم الله به و أما الإيجاز في العبارة فإن الذي هو نظير القتلى أنفى للقتل قوله‏ «الْقِصاصِ حَياةٌ» و هو عشرة أحرف و ذلك أربعة عشر حرفا و أما بعده من الكلفة فهو أن في قولهم القتل أنفى للقتل تكريرا غيره أبلغ منه و أما الحسن بتأليف الحروف المتلائمة فإنه مدرك بالحس و موجود باللفظ فإن الخروج من الفاء إلى اللام أعدل من الخروج من اللام إلى الهمزة لبعد الهمزة من اللام و كذلك الخروج من الصاد إلى الحاء أعدل من الخروج من الألف إلى اللام فباجتماع هذه الأمور التي ذكرناها كان أبلغ منه و أحسن و إن كان الأول حسنا بليغا و قد أخذه الشاعر فقال:

أبلغ أبا مسمع عني مغلغلة

و في العتاب حياة بين أقوام‏

 

و هذا و إن كان حسنا فبينه و بين لفظ القرآن ما بين أعلى الطبقة و أدناها و أول ما فيه أن ذلك استدعاء إلى العتاب و هذا استدعاء إلى العدل و في ذلك إبهام و في الآية بيان عجيب و قوله‏ «يا أُولِي الْأَلْبابِ» معناه يا ذوي العقول لأنهم الذين يعرفون العواقب و يتصورون ذلك فلذلك خصهم‏ «لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» في لعل ثلاثة أقوال (أحدها) أنه بمعنى اللام أي لتتقوا (و الثاني) أنه للرجاء و الطمع كأنه قال على رجائكم و طمعكم في التقوى‏


481
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 180] ص : 482

(و الثالث) على معنى التعرض أي على تعرضكم للتقوى و في تتقون قولان (أحدهما) لعلكم تتقون القتل بالخوف من القصاص عن ابن عباس و الحسن و ابن زيد (و الثاني) لعلكم تتقون ربكم باجتناب معاصيه و هذا أعم.

[سورة البقرة (2): آية 180]

كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180)

اللغة

المعروف هو العدل الذي لا يجوز أن ينكر و لا حيف فيه و لا جور و الحضور وجود الشي‏ء بحيث يمكن أن يدرك و الحق هو الفعل الذي لا يجوز إنكاره و قيل هو ما علم صحته سواء كان قولا أو فعلا أو اعتقادا و هو مصدر حق يحق حقا.

الإعراب‏

قوله‏ «كُتِبَ عَلَيْكُمْ» المعنى و كتب عليكم إلا أن الكلام إذا طال استغني عن العطف بالواو و علم أن معناه معنى الواو لأن القصة الأولى قد استتمت و في القصة الثانية ذكر مما في الأولى فاتصلت هذه بتلك لأجل الذكر و الوصية ارتفعت لأحد وجهين إما بأنه اسم ما لم يسم فاعله و هو كتب و إما بأنه مبتدأ و قوله‏ «لِلْوالِدَيْنِ» خبره و الجملة في موضع رفع على الحكاية لأن معنى كتب عليكم قيل لكم الوصية للوالدين و أما العامل في إذا ففيه وجهان (أحدهما) كتب فكأنه قيل كتب عليكم الوصية وقت المرض (و الآخر) ما قاله الزجاج و هو أن الوصية رغب فيها في حال الصحة فتقديره كتب عليكم أن توصوا و أنتم قادرون على الوصية قائلين إذا حضرنا الموت فلفلان كذا و حقا نصب على المصدر و تقديره أحق ذلك حقا و قد استعمل على وجه الصفة بمعنى ذي الحق كما وصف بالعدل فعلى هذا يكون نصبا على الحال و يجوز أن يكون مصدر كتب من غير لفظة تقديره كتب كتابا.

المعنى‏

ثم بين سبحانه شريعة أخرى و هو الوصية فقال‏ «كُتِبَ عَلَيْكُمْ» أي فرض عليكم‏ «إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ» أي أسباب الموت من مرض و نحوه من الهرم و لم يرد إذا عاين البأس و ملك الموت لأن تلك الحالة تشغله عن الوصية و قيل فرض عليكم الوصية في حال الصحة أن تقولوا إذا حضرنا الموت فافعلوا كذا «إِنْ تَرَكَ خَيْراً» أي مالا و اختلف في المقدار الذي يجب الوصية عنده فقال الزهري في القليل و الكثير مما


482
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ص : 482

يقع عليه اسم المال و قال إبراهيم النخعي من ألف درهم إلى خمسمائة و قال ابن عباس إلى ثمانمائة درهم و

روي عن علي (ع) أنه دخل على مولى له في مرضه و له سبعمائة أو ستمائة درهم فقال أ لا أوصي فقال لا إن الله سبحانه قال‏ «إِنْ تَرَكَ خَيْراً» و ليس لك كثير مال‏

و هذا هو المأخوذ به عندنا لأن قوله حجة «الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ» أي الوصية لوالديه و قرابته‏ «بِالْمَعْرُوفِ» أي بالشي‏ء الذي يعرف أهل التمييز أنه لا جور فيه و لا حيف و يحتمل أن يرجع ذلك إلى قدر ما يوصي لأن من يملك المال الكثير إذا أوصى بدرهم فلم يوص بالمعروف و يحتمل أن يرجع إلى الموصى لهم فكأنه أمر بالطريقة الجميلة في الوصية فليس من المعروف أن يوصي للغني و يترك الفقير و يوصي للقريب و يترك الأقرب منه و يجب حمله على كلا الوجهين‏ «حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ» أي حقا واجبا على من آثر التقوى و هذا تأكيد في الوجوب و اختلف في هذه الآية فقيل أنها منسوخة و قيل أنها منسوخة في المواريث ثابتة في غير الوارث و قيل أنها غير منسوخة أصلا و هو الصحيح عند المحققين من أصحابنا لأن من قال أنها منسوخة بآية المواريث فقوله باطل بأن النسخ بين الخبرين إنما يكون إذا تنافي العمل بموجبهما و لا تنافي بين آية المواريث و آية الوصية فكيف تكون هذه ناسخة بتلك مع فقد التنافي و من قال أنها منسوخة

بقوله (ع) لا وصية لوارث‏

فقد أبعد لأن الخبر لو سلم من كل قدح لكان يقتضي الظن و لا يجوز أن ينسخ كتاب الله تعالى الذي يوجب العلم اليقين بما يقتضي الظن و لو سلمنا الخبر مع ما ورد من الطعن على رواية لخصصنا عموم الآية و حملناها على أنه لا وصية لوارث بما يزيد على الثلث لأن ظاهر الآية يقتضي أن الوصية جائزة لهم بجميع ما يملك و قول من قال حصول الإجماع على أن الوصية ليست بفرض يدل على أنها منسوخة يفسد بأن الإجماع إنما هو على أنها لا تفيد الفرض و ذلك لا يمنع من كونها مندوبا إليها مرغبا فيها و

قد روى أصحابنا عن أبي جعفر (ع) أنه سئل هل تجوز الوصية للوارث فقال نعم و تلا هذه الآية

و

روى السكوني عن أبي عبد الله عن أبيه عن علي (ع) قال‏ من لم يوص عند موته لذوي قرابته ممن لا يرث فقد ختم عمله بمعصية

و مما يؤيد ما ذكرناه ما

روي عن النبي ص أنه قال‏ من مات بغير وصية مات ميتة جاهلية

و

عنه (ع) أنه قال‏ من لم يحسن وصيته عند موته كان نقصا في مروءته و عقله‏

و

روي عن أبي عبد الله (ع) أنه قال‏ ما ينبغي لامرئ مسلم أن يبيت إلا و وصيته تحت رأسه.


483
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 181] ص : 484

[سورة البقرة (2): آية 181]

فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181)

المعنى‏

ثم أوعد سبحانه على تغيير الوصية فقال‏ «فَمَنْ بَدَّلَهُ» أي بدل الوصية و غيرها من الأوصياء أو الأولياء أو الشهود و إنما ذكر حملا على الإيصاء كقوله‏ «فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ» أي وعظ و التبديل تغيير الشي‏ء عن الحق فيه بأن يوضع غيره في موضعه‏ «بَعْدَ ما سَمِعَهُ» من الموصي الميت و إنما ذكر السماع ليدل على أن الوعيد لا يلزم إلا بعد العلم و السماع‏ «فَإِنَّما إِثْمُهُ» أي إثم التبديل‏ «عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ» أي على من يبدل الوصية و بري‏ء الميت‏ «إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» أي سميع لما قاله الموصي من العدل أو الجنف عليم بما يفعله الوصي من التصحيح أو التبديل و قيل سميع لوصاياكم عليم بنياتكم و قيل سميع بجميع المسموعات عليم بجميع المعلومات و في هذه الآية دلالة على أن الوصي أو الوارث إذا فرط في الوصية أو غيرها لا يأثم الموصي بذلك و لم ينقص من أجره شي‏ء فإنه لا يجازى أحد على عمل غيره و فيها أيضا دلالة على بطلان قول من يقول أن الوارث إذا لم يقض دين الميت فإنه يؤخذ به في قبره أو في الآخرة لما قلناه من أنه يدل على أن العبد لا يؤاخذ بجرم غيره إذ لا إثم عليه بتبديل غيره و كذلك لو قضى عنه الوارث من غير أن يوصي به لم يزل ذلك عقابه إلا أن يتفضل الله بإسقاطه عنه.

[سورة البقرة (2): آية 182]

فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182)

القراءة

قرأ أهل الكوفة غير حفص و يعقوب موص بالتشديد و قرأ الباقون‏ «مُوصٍ» بالتخفيف.

الحجة

ذكرناها عند قوله‏ وَ وَصَّى بِها إِبْراهِيمُ‏.

اللغة

الجنف الجور و هو الميل عن الحق و قال صاحب العين هو الميل في الكلام و في الأمور كلها يقال جنف علينا فلان و أجنف في حكمه و هو مثل الحيف إلا أن الحيف في الحكم خاصة و الجنف عام و رجل أجنف في أحد شقيه ميل على الآخر قال‏


484
مجمع البيان في تفسير القرآن1

الإعراب ص : 485

الشاعر في الجنف:

إني امرؤ منعت أرومة عامر

ضيمي و قد جنفت علي خصوم‏

 

. الإعراب‏

من في قوله‏ «مِنْ مُوصٍ» يتعلق بمحذوف تقديره فمن خاف جنفا كائنا من موص فموضع الجار و المجرور مع المحذوف نصب على الحال و ذو الحال قوله‏ «جَنَفاً» و بين ظرف مكان لأصلح و الضمير في بينهم عائد إلى معلوم بالدلالة عليه عند ذكر الموصي و الإصلاح لأنه يدل على الموصى لهم و من ينازعهم و أنشد الفراء في مثله:

أعمى إذا ما جارتي خرجت‏

حتى يواري جارتي الخدر

 

و يصم عما كان بينهما

سمعي و ما بي غيره وقر

 

أراد بينها و بين زوجها و إنما ذكرها وحدها.

المعنى‏

لما تقدم الوعيد لمن بدل الوصية بين في هذه الآية أن ذلك يلزم من غير حقا بباطل فأما من غير باطلا بحق فهو محسن فقال‏ «فَمَنْ خافَ» أي خشي و قيل علم لأن في الخوف طرفا من العلم و ذلك أن القائل إذا قال أخاف أن يقع أمر كذا فكأنه يقول أعلم و إنما يخاف لعلمه بوقوعه و منه قوله‏ «وَ أَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى‏ رَبِّهِمْ» و قوله‏ «إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ» «مِنْ مُوصٍ جَنَفاً» أي ميلا عن الحق فيما يوصي به فإن قيل كيف قال فمن خاف لما قد وقع و الخوف إنما يكون لما لم يقع قيل أن فيه قولين (أحدهما) أنه خاف أن يكون قد زل في وصيته فالخوف يكون للمستقبل و هو من أن يظهر ما يدل على أنه قد زل لأنه من جهة غالب الظن (و الثاني) أنه لما اشتمل على الواقع و على ما لم يقع جاز فيه خاف فيأمره بما فيه الصلاح فيما لم يقع و ما وقع رده إلى العدل بعد موته و قال الحسن الجنف هو أن يوصي به في غير قرابة و إنما قال ذلك لأن عنده الوصية للقرابة واجبة و الأمر بخلافه و قيل المراد من خاف من موص في حال مرضه الذي يريد أن يوصي جنفا و هو أن يعطي بعضا و يضر ببعض فلا إثم عليه أن يشير عليه بالحق و يرده إلى الصواب و يصلح بين الموصي و الورثة و الموصى له حتى يكون الكل راضين و لا يحصل جنف و لا إثم و يكون قوله‏ «فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ» أي فيما يخاف بينهم من حدوث الخلاف فيه فيما بعد و يكون قوله‏ «فَمَنْ خافَ» على ظاهره و يكون الخوف مترقبا غير واقع و هذا قريب غير أن الأول عليه أكثر المفسرين و هو المروي عن أبي جعفر و أبي‏


485
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ص : 485

عبد الله (ع) و قوله‏ «أَوْ إِثْماً»

الإثم أن يكون الميل عن الحق على وجه العمد و الجنف أن يكون على جهة الخطإ من حيث لا يدري أنه يجوز و هو معنى قول ابن عباس و الحسن و روي ذلك عن أبي جعفر (ع)

«فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ» أي بين الورثة و المختلفين في الوصية و هم الموصى لهم‏ «فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ» لأنه متوسط مريد للإصلاح و إنما قال‏ «فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ» و لم يقل يستحق الأجر لأن المتوسط إنما يجري أمره في الغالب على أن ينقص صاحب الحق بعض حقه بسؤاله إياه فبين سبحانه لنا أنه لا إثم عليه في ذلك إذا قصد الإصلاح و قيل إنه لما بين إثم المبدل و هذا أيضا ضرب من التبديل بين مخالفته للأول بكونه غير مأثوم برده الوصية إلى العدل ف «إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» يعني إذا كان يغفر الذنوب و يرحم المذنب فأولى و أحرى أن يكون كذلك و لا ذنب و

روي عن الصادق (ع) في قوله‏ «جَنَفاً أَوْ إِثْماً» أنه بمعنى إذا اعتدى في الوصية و زاد على الثلث‏

و روي ذلك عن ابن عباس و

روي عن رسول الله ص أنه قال‏ من حضره الموت فوضع وصيته على كتاب الله كان ذلك كفارة لما ضيع من زكاته في حياته و بالله التوفيق.

486