×
☰ فهرست و مشخصات
مجمع البيان في تفسير القرآن1

(1) سورة فاتحة الكتاب مكية و آياتها سبع(7) ..... ص : 87

الجزء الأول‏

(1) سورة فاتحة الكتاب مكية و آياتها سبع (7)

[توضيح‏]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏

مكية عن ابن عباس و قتادة و مدنية عن مجاهد و قيل أنزلت مرتين مرة بمكة و مرة بالمدينة.

أسماؤها

(فاتحة الكتاب) سميت بذلك لافتتاح المصاحف بكتابتها و لوجوب قراءتها في الصلاة فهي فاتحة لما يتلوها من سور القرآن في الكتاب و القراءة (الحمد) سميت بذلك لأن فيها ذكر الحمد (أم الكتاب) سميت بذلك لأنها متقدمة على سائر سور القرآن و العرب تسمي كل جامع أمر أو متقدم لأمر إذا كانت له توابع تتبعه أما فيقولون أم الرأس للجلدة التي تجمع الدماغ و أم القرى لأن الأرض دحيت من تحت مكة فصارت لجميعها أما و قيل لأنها أشرف البلدان فهي متقدمة على سائرها و قيل سميت بذلك لأنها أصل القرآن و الأم هي الأصل و إنما صارت أصل القرآن لأن الله تعالى أودعها مجموع ما في السور لأن فيها إثبات الربوبية و العبودية و هذا هو المقصود بالقرآن (السبع) سميت بذلك لأنها سبع آيات لا خلاف في جملتها (المثاني) سميت بذلك لأنها تثنى بقراءتها في كل صلاة فرض و نفل و قيل لأنها نزلت مرتين، هذه أسماؤها المشهورة، و قد ذكر في أسمائها (الوافية) لأنها لا تنتصف في الصلاة و (الكافية) لأنها تكفي عما سواها و لا يكفي ما سواها عنها و يؤيد ذلك ما

رواه عبادة بن الصامت عن النبي ص‏ أم القرآن عوض عن غيرها و ليس غيرها عوضا عنها

و (الأساس) لما روي عن ابن عباس أن لكل شي‏ء أساسا و ساق الحديث إلى أن قال و أساس القرآن الفاتحة و أساس الفاتحة بسم الله الرحمن الرحيم و (الشفاء) لما

روي عن النبي ص‏ فاتحة الكتاب شفاء من كل داء

و (الصلاة) لما

روي عن النبي ص قال‏ قال الله تعالى قسمت الصلاة بيني و بين عبدي نصفين نصفها لي و نصفها لعبدي فإذا قال العبد «الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» يقول الله حمدني عبدي فإذا قال‏ «الرَّحْمنِ‏


87
مجمع البيان في تفسير القرآن1

فضلها ..... ص : 88

الرَّحِيمِ» يقول الله أثنى علي عبدي فإذا قال العبد «مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ» يقول الله مجدني عبدي فإذا قال‏ «إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» يقول الله هذا بيني و بين عبدي و لعبدي ما سأل فإذا قال‏ «اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ» إلى آخره قال الله هذا لعبدي ما سأل، أورده مسلم بن الحجاج في الصحيح‏

فهذه عشرة أسماء.

فضلها

ذكر الشيخ أبو الحسين الخبازي المقري في كتابه في القراءة أخبرنا الإمام أبو بكر أحمد بن إبراهيم و الشيخ عبد الله بن محمد قالا حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن شريك قال حدثنا أحمد بن يونس اليربوعي قال حدثنا سلام بن سليمان المدائني قال حدثنا هارون بن كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أبي بن كعب قال قال رسول الله‏ أيما مسلم قرأ فاتحة الكتاب أعطي من الأجر كأنما قرأ ثلثي القرآن و أعطي من الأجر كأنما تصدق على كل مؤمن و مؤمنة و روي من طريق آخر هذا الخبر بعينه إلا أنه قال‏ كأنما قرأ القرآن‏

، و

روي غيره عن أبي بن كعب أنه قال‏ قرأت على رسول الله ص فاتحة الكتاب فقال و الذي نفسي بيده ما أنزل الله في التوراة و لا في الإنجيل و لا في الزبور و لا في القرآن مثلها هي أم الكتاب و هي السبع المثاني و هي مقسومة بين الله و بين عبده و لعبده ما سأل‏

، و

في كتاب محمد بن مسعود العياشي بإسناده أن النبي ص قال لجابر بن عبد الله الأنصاري‏ يا جابر أ لا أعلمك أفضل سورة أنزلها الله في كتابه قال فقال له جابر بلى بأبي أنت و أمي يا رسول الله علمنيها قال فعلمه الحمد أم الكتاب ثم قال يا جابر أ لا أخبرك عنها قال بلى بأبي أنت و أمي فأخبرني فقال هي شفاء من كل داء إلا السام و السام الموت،

و عن سلمة بن محرز عن جعفر بن محمد الصادق قال‏ من لم يبرئه الحمد لم يبرئه شي‏ء

و

روي عن أمير المؤمنين (ع) قال قال رسول الله ص‏ إن الله تعالى قال لي يا محمد وَ لَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ‏ فأفرد الامتنان علي بفاتحة الكتاب و جعلها بإزاء القرآن، و إن فاتحة الكتاب أشرف ما في كنوز العرش و إن الله خص محمدا و شرفه بها و لم يشرك فيها أحدا من أنبيائه ما خلا سليمان فإنه أعطاه منها «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» أ لا تراه يحكي عن بلقيس حين قالت‏ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَ إِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏ ألا فمن قرأها معتقدا لموالاة محمد و آله منقادا لأمرها. مؤمنا بظاهرها و باطنها. أعطاه الله بكل حرف منها حسنة كل واحدة منها أفضل له من الدنيا بما فيها من أصناف أموالها و خيراتها و من استمع إلى قارئ يقرؤها كان له قدر ثلث ما للقارى‏ء فليستكثر أحدكم من هذا الخير المعرض له فإنه غنيمة. لا يذهبن أوانه فتبقى في قلوبكم الحسرة

.


88
مجمع البيان في تفسير القرآن1

الاستعاذة ..... ص : 89

الاستعاذة

اتفقوا على التلفظ بالتعوذ قبل التسمية فيقول ابن كثير و عاصم و أبو عمرو: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) و نافع و ابن عامر و الكسائي: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. إن الله هو السميع العليم،) و حمزة: (نستعيذ بالله من الشيطان الرجيم،) و أبو حاتم (أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم)

. اللغة

الاستعاذة الاستجارة فمعناه أستجير بالله دون غيره و العوذ و العياذ هو اللجأ و [الشيطان‏] في اللغة هو كل متمرد من الجن و الإنس و الدواب و لذلك جاء في القرآن‏ شَياطِينَ الْإِنْسِ وَ الْجِنِ‏ و وزنه فيعال من شطنت الدار أي بعدت و قيل هو فعلان من شاط يشيط إذا بطل و الأول أصح لأنه قد جاء في الشعر شاطن بمعناه قال أمية بن أبي الصلت‏

أيما شاطن عصاه عكاه‏

ثم يلقى في السجن و الأغلال‏

 

و الرجيم فعيل بمعنى مفعول من الرجم و هو الرمي‏

. المعنى‏

أمر الله بالاستعاذة من الشيطان إذ لا يكاد يخلو من وسوسته الإنسان فقال‏ فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ‏، و معنى أعوذ ألجأ إلى الله من شر الشيطان أي البعيد من الخير المفارق أخلاقه أخلاق جميع جنسه و قيل المبعد من رحمة الله (الرجيم) أي المطرود من السماء المرمي بالشهب الثاقبة و قيل المرجوم باللغة (إن الله هو السميع) السميع لجميع المسموعات (العليم) بجميع المعلومات.

[سورة الفاتحة (1): آية 1]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1)

[توضيح‏]

اتفق أصحابنا أنها آية من سورة الحمد و من كل سورة و إن من تركها في الصلاة بطلت صلاته سواء كانت الصلاة فرضا أو نفلا و أنه يجب الجهر بها فيما يجهر فيه بالقراءة و يستحب الجهر بها فيما يخافت فيه بالقراءة و في جميع ما ذكرناه خلاف بين فقهاء الأمة و لا خلاف في أنها بعض آية من سورة النمل و كل من عدها آية جعل من قوله‏ صِراطَ الَّذِينَ‏ إلى آخر السورة آية و من لم يعدها آية جعل‏ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ‏ آية و قال إنها افتتاح للتيمن و التبرك و أما القراء فإن حمزة و خلفا و يعقوب و اليزيدي تركوا الفصل بين السور بالتسمية و الباقون يفصلون بينها بالتسمية إلا بين الأنفال و التوبة.

فضلها

روي عن علي بن موسى الرضا (ع) أنه قال‏ «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» أقرب إلى اسم الله الأعظم من سواد العين إلى بياضها

، و

روي عن ابن عباس عن‏


89
مجمع البيان في تفسير القرآن1

اللغة ..... ص : 90

النبي ص أنه قال‏ إذا قال المعلم للصبي قل‏ «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» فقال الصبي‏ «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» كتب الله براءة للصبي و براءة لأبويه و براءة للمعلم‏

و عن ابن مسعود قال من أراد أن ينجيه الله من الزبانية التسعة عشر فليقرأ «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» فإنها تسعة عشر حرفا ليجعل الله كل حرف منها جنة من واحد منهم و

روي عن الصادق (ع) أنه قال‏ ما لهم قاتلهم الله عمدوا إلى أعظم آية في كتاب الله فزعموا أنها بدعة إذا أظهروها و هي‏ «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ».

اللغة

الاسم مشتق من السمو و هو الرفعة أصله سمو بالواو لأن جمعه أسماء مثل قنو و أقناء. و حنو و أحناء و تصغيره سمي قال الراجز:

(باسم الذي في كل سورة سمه)

 

و سمه أيضا ذكره أبو زيد و غيره و قيل إنه مشتق من الوسم و السمة و الأول أصح لأن المحذوف الفاء نحو صلة و وصل و عدة و وعد لا تدخله همزة الوصل و لأنه كان يجب أن يقال في تصغيره وسيم، كما يقال وعيدة و وصيلة في تصغير عدة و صلة و الأمر بخلافه (الله) اسم لا يطلق إلا عليه سبحانه و تعالى و ذكر سيبويه في أصله قولين (أحدهما) أنه إلاه على وزن فعال فحذفت الفاء التي هي الهمزة و جعلت الألف و اللام عوضا لازما عنها بدلالة استجازتهم قطع هذه الهمزة الداخلة على لام التعريف في القسم و النداء في نحو قوله (أ فالله لتفعلن و يا الله اغفر لي) و لو كانت غير عوض لم تثبت الهمزة في الوصل كما لم تثبت في غير هذا الاسم و القول الآخر أن أصله لاه و وزنه فعل فالحق به الألف و اللام. يدل عليه قول الأعشى:

كحلفة من أبي رباح‏

يسمعها لاهه الكبار

 

و إنما أدخلت عليه الألف و اللام للتفخيم و التعظيم فقط و من زعم أنها للتعريف فقد أخطأ لأن أسماء الله تعالى معارف و الألف من لاه منقلبة عن ياء فأصله إليه كقولهم في معناه لهي أبوك قال سيبويه نقلت العين إلى موضع اللام و جعلت اللام ساكنة إذ صارت في مكان العين كما كانت العين ساكنة و تركوا آخر الاسم الذي هو لهي مفتوحا كما تركوا آخر أن مفتوحا و إنما فعلوا ذلك حيث غيروه لكثرته في كلامهم فغيروا إعرابه كما غيروا بناءه و هذه دلالة قاطعة لظهور الياء في لهي و الألف على هذا القول منقلبة كما ترى‏


90
مجمع البيان في تفسير القرآن1

اللغة ..... ص : 90

و في القول الأول زائدة لأنها ألف فعال و تقول العرب أيضا لاه أبوك تريد لله أبوك قال ذو الإصبع العدواني:

لاه ابن عمك لا أفضلت في حسب‏

عني و لا أنت دياني فتخزوني‏

 

أي تسوسني قال سيبويه حذفوا لام الإضافة و اللام الأخرى و لم ينكر بقاء عمل اللام بعد حذفها فقد حكى سيبويه من قولهم الله لأخرجن يريدون و الله و مثل ذلك كثير يطول الكلام بذكره فأما الكلام في اشتقاقه فمنهم من قال إنه اسم موضع غير مشتق إذ ليس يجب في كل لفظ أن يكون مشتقا لأنه لو وجب ذلك لتسلسل هذا قول الخليل و منهم من قال إنه مشتق ثم اختلفوا في اشتقاقه على وجوه: فمنها أنه مشتق من الألوهية التي هي العبادة و التأله التعبد قال رؤبة:

لله در الغانيات المده‏

سبحان و استرجعن من تألهي‏

 

أي تعبدي و قرأ ابن عباس و يذرك و إلهتك أي عبادتك و يقال أله الله فلان إلاهة كما يقال عبده عبادة فعلى هذا يكون معناه الذي يحق له العبادة و لذلك لا يسمى به غيره و يوصف فيما لم يزل بأنه إله (و منها) أنه مشتق من الوله و هو التحير يقال أله يأله إذا تحير- عن أبي عمرو- فمعناه أنه الذي تتحير العقول في كنه عظمته (و منها) أنه مشتق من قولهم ألهت إلى فلان أي فزعت إليه لأن الخلق يألهون إليه أي يفزعون إليه في حوائجهم فقيل للمألوه آله كما يقال للمؤتم به إمام (و منها) أنه مشتق من ألهت إليه أي سكنت إليه عن المبرد و معناه أن الخلق يسكنون إلى ذكره و منها أنه من لاه أي احتجب فمعناه أنه المحتجب بالكيفية عن الأوهام، الظاهر بالدلائل و الأعلام، «الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» اسمان وضعا للمبالغة، و اشتقا من الرحمة، و هي النعمة، إلا أن فعلان أشد مبالغة من فعيل و حكي عن أبي عبيدة أنه قال: الرحمن ذو الرحمة و الرحيم هو الراحم و كرر لضرب من التأكيد و أما ما روي عن ابن عباس أنهما اسمان رقيقان أحدهما أرق من الآخر فالرحمن الرقيق و الرحيم العطاف على عباده بالرزق و النعم فمحمول على أنه يعود عليهم بالفضل بعد الفضل، و النعمة بعد النعمة، فعبر عن ذلك بالرقة، لأنه لا يوصف بالرقة، و ما حكي عن تغلب أن لفظة الرحمن ليست بعربية و إنما هي ببعض اللغات مستدلا بقوله تعالى‏ «قالُوا وَ مَا الرَّحْمنُ» إنكارا منهم لهذا الاسم فليس بصحيح لأن هذه اللفظة مشهورة عند العرب‏


91
مجمع البيان في تفسير القرآن1

الإعراب ..... ص : 92

موجودة في أشعارها قال الشنفري:

أ لا ضربت تلك الفتاة هجينها

أ لا قضب الرحمن ربي يمينها

 

و قال سلامة بن جندل:

(و ما يشأ الرحمن يعقد و يطلق)

 

. الإعراب‏

«بِسْمِ اللَّهِ» الباء حرف جر أصله الإلصاق و الحروف الجارة موضوعة لمعنى المفعولية أ لا ترى أنها توصل الأفعال إلى الأسماء و توقعها عليها فإذا قلت مررت بزيد أوقعت الباء المرور على زيد فالجالب للباء فعل محذوف نحو ابدأوا بسم الله أو قولوا بسم الله فحمله نصب لأنه مفعول به و إنما حذف الفعل الناصب لأن دلالة الحال أغنت عن ذكره و قيل إن محل الباء رفع على تقدير مبتدإ محذوف و تقديره ابتدائي بسم الله فالباء على هذا متعلقة بالخبر المحذوف الذي قامت مقامه أي ابتدائي ثابت بسم الله أو ثبت ثم حذف هذا الخبر فأفضى الضمير إلى موضع الباء و هذا بمنزلة قولك زيد في الدار و لا يجوز أن يتعلق الباء بابتدائي المضمر لأنه مصدر و إذا تعلقت به صارت من صلته و بقي المبتدأ بلا خبر و إذا سأل عن تحريك الباء مع أن أصل الحروف البناء و أصل البناء السكون فجوابه أنه حرك للزوم الابتداء به و لا يمكن الابتداء بالساكن و إنما حرك بالكسر ليكون حركته من جنس ما يحدثه و إذا لزم كاف التشبيه في كزيد فجوابه أن الكاف لا يلزم الحرفية و قد تكون اسما في نحو قوله (يضحكن عن كالبرد المنهم) فخولف بينه و بين الحروف التي لا تفارق الحرفية و هذا قول أبي عمرو الجرمي و أصحابه فأما أبو علي الحسن بن عبد الغفار الفارسي فقال إنهم لو فتحوا أو ضموا لجاز لأن الغرض التوصل إلى الابتداء فبأي حركة توصل إليه جاز و بعض العرب يفتح هذه الباء و هي لغة ضعيفة و إنما حذفت الهمزة من بسم الله في اللفظ لأنها همزة الوصل تسقط في الدرج و حذفت هاهنا في الخط أيضا لكثرة الاستعمال و لوقوعها في موضع معلوم لا يخاف فيه اللبس و لا تحذف في نحو قوله‏ «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ» لقلة الاستعمال و إنما تغلظ لام الله إذا تقدمته الضمة أو الفتحة تفخيما لذكره، و إجلالا لقدره، و ليكون فرقا بينه و بين ذكر اللات. «اللَّهِ» مجرور بالإضافة و «الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» مجروران لأنهما صفتان لله.

المعنى‏

«بِسْمِ اللَّهِ» قيل المراد به تضمين الاستعانة فتقديره استعينوا بأن تسموا الله بأسمائه الحسنى، و تصفوه بصفاته العلي، و قيل المراد استعينوا بالله و يلتفت إليه قول أبي عبيدة أن الاسم صلة و المراد هو الله كقول لبيد:


92
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 92

 

إلى الحول ثم اسم السلام عليكما

و من يبك حولا كاملا فقد اعتذر

 

أي ثم السلام عليكما و الاسم قد يوضع موضع المسمى لما كان المعلق على الاسم ذكرا أو خطابا معلقا على المسمى تقول رأيت زيدا فتعلق الرؤية على الاسم و في الحقيقة تعلقها بالمسمى فإن الاسم لا يرى فحسن إقامة الاسم مقام المسمى و قيل المراد به أبتدأ بتسمية الله فوضع الاسم موضع المصدر كما يقال أكرمته كرامة أي إكراما و أهنته هوانا أي إهانة و منه قول الشاعر:

أ كفرا بعد رد الموت عني‏

و بعد عطائك المائة الرتاعا

 

أي بعد إعطائك، و قال الآخر:

فإن كان هذا البخل منك سجية

لقد كنت في طولي رجائك أشعبا

 

أراد في إطالتي رجائك فعلى هذا يكون تقدير الكلام ابتداء قراءتي بتسمية الله أو أقرأ مبتدئا بتسمية الله و هذا القول أولى بالصواب لأنا إنما أمرنا بأن نفتتح أمورنا بتسمية الله لا بالخبر عن كبريائه و عظمته كما أمرنا بالتسمية على الأكل و الشرب و الذبائح أ لا ترى أن الذابح لو قال بالله و لم يقل باسم الله لكان مخالفا لما أمر به و معنى الله و الإله أنه الذي تحق له العبادة و إنما تحق له العبادة لأنه قادر على خلق الأجسام و إحيائها و الإنعام عليها بما يستحق به العبادة و هو تعالى إله للحيوان و الجماد لأنه قادر على أن ينعم على كل منهما بما معه يستحق العبادة فأما من قال معنى الإله المستحق للعبادة يلزمه أن لا يكون إلها في الأزل لأنه لم يفعل الإنعام الذي يستحق به العبادة و هذا خطأ و إنما قدم الرحمن على الرحيم لأن الرحمن بمنزلة اسم العلم من حيث لا يوصف به إلا الله فوجب لذلك تقديمه بخلاف الرحيم لأنه يطلق عليه و على غيره و

روى أبو سعيد الخدري عن النبي ص‏ أن عيسى بن مريم قال الرحمن رحمن الدنيا و الرحيم رحيم الآخرة

و عن بعض التابعين قال الرحمن بجميع الخلق و الرحيم بالمؤمنين خاصة و وجه عموم الرحمن بجميع الخلق مؤمنهم و كافرهم و برهم و فاجرهم هو إنشاؤه إياهم و خلقهم أحياء قادرين و رزقه إياهم و وجه خصوص الرحيم بالمؤمنين هو ما فعله بهم في الدنيا من التوفيق‏


93
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة الفاتحة(1): آية 2] ..... ص : 94

و في الآخرة من الجنة و الإكرام، و غفران الذنوب و الآثام، و إلى هذا المعنى يؤول ما

روي عن الصادق ع أنه قال‏ الرحمن اسم خاص بصفة عامة و الرحيم اسم عام بصفة خاصة

و عن عكرمة قال الرحمن برحمة واحدة و الرحيم بمائة رحمة و هذا المعنى قد اقتبسه من‏

قول الرسول‏ أن لله عز و جل مائة رحمة و أنه أنزل منها واحدة إلى الأرض فقسمها بين خلقه بها يتعاطفون و يتراحمون و أخر تسعا و تسعين لنفسه يرحم بها عباده يوم القيامة

و

روي‏ أن الله قابض هذه إلى تلك فيكملها مائة يرحم بها عباده يوم القيامة.

[سورة الفاتحة (1): آية 2]

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2)

القراءة

أجمع القراء على ضم الدال من الحمد و كسر اللام من لله و روي في الشواذ بكسر الدال و اللام. و بفتح الدال و كسر اللام. و بضم الدال و اللام. و أجمعوا على كسر الباء من‏ «رَبِّ». و روي عن زيد بن علي نصب الباء و يحمل على أنه بين جوازه لا إنه قراءة.

اللغة

الحمد و المدح و الشكر متقاربة المعنى و الفرق بين الحمد و الشكر أن الحمد نقيض الذم كما أن المدح نقيض الهجاء. و الشكر نقيض الكفران. و الحمد قد يكون من غير نعمة و الشكر يختص بالنعمة إلا أن الحمد يوضع موضع الشكر و يقال الحمد لله شكرا فينصب شكرا على المصدر و لو لم يكن الحمد في معنى الشكر لما نصبه فإذا كان الحمد يقع موقع الشكر فالشكر هو الاعتراف بالنعمة مع ضرب من التعظيم و يكون بالقلب و هو الأصل و يكون أيضا باللسان و إنما يجب باللسان لنفي تهمة الجحود و الكفران و أما المدح فهو القول المنبئ عن عظم حال الممدوح مع القصد إليه (و أما الرب) فله معان (منها) السيد المطاع كقول لبيد:

و أهلكن قدما رب كندة و ابنه‏

و رب معد بين خبت و عرعر

 

أي سيد كندة (و منها) المالك نحو

قول النبي لرجل‏ أ رب غنم أم رب إبل فقال من كل ما آتاني الله فأكثر و أطيب.

(و منها) الصاحب نحو قول أبي ذؤيب:


94
مجمع البيان في تفسير القرآن1

الإعراب ..... ص : 95

 

قد ناله رب الكلاب بكفه‏

بيض رهاب ريشهن مقزع‏

 

أي صاحب الكلاب (و منها) المربب (و منها) المصلح و اشتقاقه من التربية يقال ربيته و رببته بمعنى و فلان يرب صنيعته إذا كان ينممها و لا يطلق هذا الاسم إلا على الله و يقيد في غيره فيقال رب الدار و رب الضيعة و (العالمون) جمع عالم و العالم جمع لا واحد له من لفظه كالنفر و الجيش و غيرهما و اشتقاقه من العلامة لأنه يدل على صانعه و قيل أنه من العلم لأنه اسم يقع على ما يعلم و هو في عرف اللغة عبارة عن جماعة من العقلاء لأنهم يقولون جاءني عالم من الناس و لا يقولون جاءني عالم من البقر و في المتعارف بين الناس هو عبارة عن جميع المخلوقات و تدل عليه الآية «قالَ فِرْعَوْنُ وَ ما رَبُّ الْعالَمِينَ قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُمَا» و قيل أنه اسم لكل صنف من الأصناف و أهل كل قرن من كل صنف يسمى عالما و لذلك جمع فقيل عالمون لعالم كل زمان و هذا قول أكثر المفسرين كابن عباس و سعيد بن جبير و قتادة و غيرهم و قيل العالم نوع ما يعقل و هم الملائكة و الجن و الإنس و قيل الجن و الإنس لقوله تعالى: «لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً» و قيل هم الإنس لقوله تعالى: «أَ تَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ».

الإعراب‏

«الْحَمْدُ» رفع بالابتداء و الابتداء عامل معنوي غير ملفوظ به و هو خلو الاسم عن العوامل اللفظية ليسند إليه خبر و خبره في الأصل جملة هي فعل مسند إلى ضمير المبتدأ و تقديره الحمد حق أو استقر لله إلا أنه قد استغنى عن ذكرها لدلالة قوله‏ «لِلَّهِ» عليها فانتقل الضمير منها إليه حيث سد مسدها و تسمى هذه جملة ظرفية هذا قول الأخفش و أبي علي الفارسي و أصل اللام للتحقيق و الملك، و أما من نصب الدال فعلى المصدر تقديره أحمد الحمد لله أو اجعل الحمد لله إلا أن الرفع بالحمد أقوى و أمدح لأن معناه الحمد وجب لله أو استقر لله و هذا يقتضي العموم لجميع الخلق و إذا نصب الحمد فكان تقديره أحمد الحمد كان مدحا من المتكلم فقط فلذلك اختير الرفع و من كسر الدال و اللام أتبع حركة الدال حركة اللام و من ضمهما أتبع حركة اللام حركة الدال و هذا أيسر من الأول لأنه اتبع حركة المبني حركة الإعراب و الأول اتبع حركة المعرب حركة البناء و اتبع الثاني الأول و هو الأصل في الاتباع و الذي كسر أتبع الأول الثاني و هذا ليس بأصل و أكثر النحويين ينكرون ذلك لأن حركة الإعراب غير لازمة فلا يجوز لأجلها الاتباع و لأن الاتباع‏


95
مجمع البيان في تفسير القرآن1

الإعراب ..... ص : 95

في الكلمة الواحدة ضعيف نحو الحلم فكيف في الكلمتين و قال أبو الفتح بن جني في كسر الدال و ضم اللام هنا دلالة على شدة ارتباط المبتدأ بالخبر لأنه اتبع فيهما ما في أحد الجزءين ما في الجزء الآخر و جعل بمنزلة الكلمة الواحدة نحو قولك أخوك و أبوك و أصل هذه اللام الفتح لأن الحرف الواحد لا حظ له في الإعراب و لكنه يقع مبتدأ في الكلام و لا يبتدأ بساكن فاختير له الفتح لأنه أخف الحركات تقول رأيت زيدا و عمرا قالوا و من عمرا- مفتوحة- و كذلك الفاء من فعمرا إلا أنهم كسروها لأنهم أرادوا أن يفرقوا بين لام الملك و لام التوكيد إذا قلت أن المال لهذا أي في ملكه و أن المال لهذا أي هو هو و إذا أدخلوا هذه اللام على مضمر ردوها إلى أصلها و هو الفتح قالوا لك و له لأن اللبس قد ارتفع و ذلك لأن ضمير الجر مخالف لضمير الرفع إذا قلت أن هذا لك و أن هذا لأنت إلا أنهم كسروها مع ضمير المتكلم نحو لي لأن هذه الياء لا يكون ما قبلها إلا مكسورا نحو غلامي و فرسي و هذا كله قول سيبويه و جميع النحويين المحققين و ليس من الحروف المبتدأ بها مما هو على حرف واحد حرف مكسور إلا الباء وحدها و قد مضى القول فيه و أما لام الجزم في ليفعل فإنما كسرت ليفرق بينها و بين لام التوكيد نحو ليفعل فاعلم و «رَبِّ الْعالَمِينَ» مجرور على الصفة و العامل في الصفة عند أبي الحسن الأخفش كونه صفة فذلك الذي يرفعه و ينصبه و يجره و هو عامل معنوي كما أن المبتدأ إنما رفعه الابتداء و هو معنى عمل فيه و استدل على أن الصفة لا يعمل فيه ما يعمل في الموصوف بأنك تجد في الصفات ما يخالف الموصوف في إعرابه نحو أيا زيد العاقل لأن المنادى مبني و العاقل الذي هو صفته معرب و دليل ثان و هو أن في هذه التوابع ما يعرب بإعراب ما يتبعه و لا يصح أن يعمل فيه ما يعمل في موصوفة و ذلك نحو أجمع و جمع و جمعاء و لما صح وجوب هذا فيها دل على أن الذي يعمل في الموصوف غير عامل في الصفة لاجتماعهما في أنهما تابعان و قال غيره من النحويين العامل في الموصوف هو العامل في الصفة و من نصب‏ «رَبِّ الْعالَمِينَ» فإنما ينصبه على المدح و الثناء كأنه لما قال‏ «الْحَمْدُ لِلَّهِ» استدل بهذا اللفظ على أنه ذاكر لله فكأنه قال اذكر رب العالمين فعلى هذا لو قرئ في غير القرآن رب العالمين مرفوعا على المدح أيضا لكان جائزا على معنى هو رب العالمين قال الشاعر:

لا يبعدن قومي الذين هم‏

سم العداة و آفة الجزر

 

النازلين بكل معترك‏

و الطيبون معاقد الأزر

 


96
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 97

و قد روي النازلون و النازلين و الطيبون و الطيبين و الوجه في ذلك ما ذكرناه و «الْعالَمِينَ» مجرور بالإضافة و الياء فيه علامة الجر و حرف الإعراب و علامة الجمع و النون هنا عوض عن الحركة في الواحد و إنما فتحت فرقا بينها و بين نون التثنية تقول هذا عالمان فتكسر نون الاثنين لالتقاء الساكنين و قيل إنما فتحت نون الجمع و حقها الكسر لثقل الكسرة بعد الواو كما فتحت الفاء من سوف و النون من أين و لم تكسر لثقل الكسرة بعد الواو و الياء.

المعنى‏

معنى الآية أن الأوصاف الجميلة و الثناء الحسن كلها لله الذي تحق له العبادة لكونه قادرا على أصول النعم و فاعلا لها و لكونه منشئا للخلق و مربيا لهم و مصلحا لشأنهم، و في الآية دلالة على وجوب الشكر لله على نعمه و فيها تعليم للعباد كيف يحمدونه.

[سورة الفاتحة (1): آية 3]

الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3)

[توضيح‏]

قد مضى تفسيرها و إنما أعاد ذكر الرحمن و الرحيم للمبالغة و قال علي بن عيسى الرماني في الأول ذكر العبودية فوصل ذلك بشكر النعم التي بها يستحق العبادة و هاهنا ذكر الحمد فوصله بذكر ما به يستحق الحمد من النعم فليس فيه تكرار ..

[سورة الفاتحة (1): آية 4]

مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)

الحجة

اختلفوا في أن أي القراءتين أمدح فمن قرأ «مالِكِ» قال إن هذه الصفة أمدح لأنه لا يكون مالكا للشي‏ء إلا و هو يملكه و قد يكون ملكا للشي‏ء و لا يملكه كما يقال ملك العرب و ملك الروم و إن كان لا يملكهم و قد يدخل في المالك ما لا يصح دخوله في الملك يقال فلان مالك الدراهم و لا يقال ملك الدراهم فالوصف بالمالك أعم من الوصف بالملك. و الله مالك كل شي‏ء و قد وصف نفسه بأنه «مالك الملك يؤتي الملك من يشاء» فوصفه بالمالك أبلغ في الثناء و المدح من وصفه بالملك و من قرأ الملك قال أن هذه الصفة أمدح لأنه لا يكون إلا مع التعظيم و الاحتواء على الجمع الكثير و اختاره أبو بكر محمد بن السري السراج و قال أن الملك الذي يملك الكثير من الأشياء و يشارك غيره من الناس في ملكه بالحكم عليه و كل ملك مالك و ليس كل مالك ملكا و إنما قال تعالى‏ «مالِكَ الْمُلْكِ» لأنه تعالى يملك ملوك الدنيا و ما ملكوا فمعناه أنه يملك ملك الدنيا فيؤتي الملك فيها من يشاء فأما يوم الدين فليس إلا ملكه و هو ملك الملوك‏


97
مجمع البيان في تفسير القرآن1

اللغة ..... ص : 98

يملكهم كلهم و قد يستعمل هذا في الناس يقال فلان ملك الملوك و أمير الأمراء و يراد بذلك أن من دونه ملوكا و أمراء و لا يقال ملك الملك و لا أمير الإمارة لأن أميرا و ملكا صفة غير جارية على فعل فلا معنى لإضافتها إلى المصدر فأما إضافة ملك إلى الزمان فكما يقال ملك عام كذا و ملوك الدهر الأول و ملك زمانه و سيد زمانه فهو في المدح أبلغ و الآية إنما نزلت في الثناء و المدح لله أ لا ترى إلى قوله‏ رَبِّ الْعالَمِينَ‏ و الربوبية و الملك متشابهان و قال أبو علي الفارسي يشهد لمن قرأ «مالِكِ» من التنزيل قوله تعالى‏ «وَ الْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ» لأن قولك الأمر له و هو مالك الأمر بمعنى أ لا ترى أن لام الجر معناها الملك و الاستحقاق و كذلك قوله تعالى: «يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً» يقوي ذلك و يشهد لقراءة من قرأ ملك قوله تعالى: «لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ» لأن اسم الفاعل من الملك الملك فإذا قال الملك له ذات اليوم كان بمنزلة قوله هو ملك ذلك اليوم و هذا مع قوله‏ فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُ‏ و الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ‏ و مَلِكِ النَّاسِ‏.

اللغة

(الملك) القادر الواسع المقدرة الذي له السياسة و التدبير (و المالك) القادر على التصرف في ماله و له أن يتصرف فيه على وجه ليس لأحد منعه منه و يوصف العاجز بأنه مالك من جهة الحكم يقال ملك بين الملك بضم الميم و مالك بين الملك و الملك بكسر الميم و فتحها و ضم الميم لغة شاذة و يقال طالت مملكتهم الناس و مملكتهم بكسر اللام و فتحها و لي في هذا الوادي ملك و ملك و ملك ذكرها أبو علي الفارسي و قال الملك للشي‏ء اختصاص من المالك به و خروجه من أن يكون مباحا لغيره و معنى الإباحة في الشي‏ء كالاتساع فيه و خلاف الحصر و القصر على الشي‏ء أ لا تراهم قالوا باح السر و باحت الدار و قال أبو بكر محمد بن السري السراج الملك و الملك يرجعان إلى أصل واحد و هو الربط و الشد كما قالوا ملكت العجين أي شددته قال الشاعر:

ملكت بها كفي فأنهرت فتقها

يرى قائم من دونها ما وراءها

 

يقول شددت بهذه الطعنة كفي و منه الأملاك و معناه رباط الرجل بالمرأة و (الدين) معناه في الآية الجزاء قال الشاعر

(و اعلم بأنك ما تدين تدان)

 

و هو قول سعيد بن جبير و قتادة و قيل‏

الدين الحساب‏ و هو المروي عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر ع‏


98
مجمع البيان في تفسير القرآن1

الإعراب ..... ص : 99

و ابن عباس و الدين الطاعة قال عمرو بن كلثوم:

و أيام لنا غر طوال‏

عصينا الملك فيها أم ندينا

 

و الدين العادة قال الشاعر:

تقول إذا درأت لها وضيني‏

أ هذا دينه أبدا و ديني‏

 

و الدين القهر و الاستعلاء قال الأعشى:

هو دان الرباب إذ كرهوا الدين‏

دراكا بغزوة و احتيال‏

 

ثم دانت بعد الرباب و كانت‏

كعذاب عقوبة الأقوال‏

 

و يدل على أن المراد به الجزاء و الحساب قوله تعالى: «الْيَوْمَ تُجْزى‏ كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ‏ و هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ».

الإعراب‏

«مالِكِ» مجرور على الوصف لله تعالى و ما جاء من النصب فعلى ما ذكرناه من نصب‏ «رَبِّ الْعالَمِينَ» و يجوز أن ينصب‏ «رَبِّ الْعالَمِينَ» و «مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ» على النداء كأنك قلت لك الحمد يا رب العالمين و يا مالك يوم الدين و من قرأ ملك يوم الدين بإسكان اللام فأصله ملك فخفف كما يقال فخذ و فخذ و من قرأ ملك يوم الدين جعله فعلا ماضيا و يوم مجرور بإضافة ملك أو مالك إليه و كذلك الدين مجرور بإضافة يوم إليه و هذه الإضافة من باب يا سارق الليلة أهل الدار اتسع في الظرف فنصب نصب المفعول به ثم أضيف إليه على هذا الحد كما قال الشاعر أنشده سيبويه:

و يوم شهدناه سليما و عامرا

قليل سوى الطعن النهال نوافله‏

 

فكأنه قال هو ملك ذلك اليوم و لا يؤتي أحدا الملك فيه كما آتاه في الدنيا فلا ملك يومئذ غيره و من قرأ «مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ» فإنه قد حذف المفعول به من الكلام للدلالة عليه و تقديره مالك يوم الدين الأحكام و القضاء لا يملك ذلك و لا يليه سواه [أي لا يكون أحد واليا سواه‏] إنما خص يوم الدين بذلك لتفرده تعالى بذلك في ذلك اليوم و جميع‏


99
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 100

الخلق يضطرون إلى الإقرار و التسليم و أما الدنيا فليست كذلك فقد يحكم فيها ملوك و رؤساء و ليست هذه الإضافة مثل قوله تعالى‏ وَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ لأن الساعة مفعول بها على الحقيقة و ليست مفعولا بها على السعة لأن الظرف إذا جعل مفعولا على السعة فمعناه معنى الظرف و لو كانت الساعة ظرفا لكان المعنى يعلم في الساعة و ذلك لا يجوز لأنه تعالى يعلم في كل وقت و المعنى أنه يعلم الساعة أي يعرفها.

المعنى‏

أنه سبحانه لما بين ملكه في الدنيا بقوله‏ «رَبِّ الْعالَمِينَ» بين أيضا ملكه في الآخرة بقوله‏ «مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ» و أراد باليوم الوقت و قيل أراد به امتداد الضياء إلى أن يفرغ من القضاء و يستقر أهل كل دار فيها و قال أبو علي الجبائي أراد به يوم الجزاء على الدين و قال محمد بن كعب أراد يوم لا ينفع إلا الدين و إنما خص يوم القيامة بذكر الملك فيه تعظيما لشأنه و تفخيما لأمره كما قال رب العرش و هذه الآية دالة على إثبات المعاد و على الترغيب و الترهيب لأن المكلف إذا تصور ذلك لا بد أن يرجو و يخاف.

[سورة الفاتحة (1): آية 5]

إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)

اللغة

العبادة في اللغة هي الذلة يقال طريق معبد أي مذلل بكثرة الوطء قال طرفة:

تباري عتاقا ناجيات و أتبعت‏

وظيفا وظيفا فوق مور معبد

 

و بعير معبد إذا كان مطليا بالقطران و سمي العبد عبدا لذلته و انقياده لمولاه و الاستعانة طلب المعونة يقال استعنته و استعنت به.

الإعراب‏

قال أبو إسحاق إبراهيم بن السري الزجاج موضع‏ «إِيَّاكَ» نصب بوقوع الفعل عليه و موضع الكاف في إياك خفض بإضافة إيا إليها و إيا اسم للضمير المنصوب إلا أنه ظاهر يضاف إلى سائر المضمرات نحو قولك إياك ضربت و إياه ضربت و إياي حدثت و لو قلت إيا زيد حدثت كان قبيحا لأنه خص به المضمر و قد روى الخليل عن العرب إذا بلغ الرجل الستين فإياه و إيا الشواب و هذا كلام الزجاج و رد عليه الشيخ أبو علي الفارسي فقال إن إيا ليس بظاهر بل هو مضمر يدل على ذلك تغير ذاته و امتناع ثباته في حال الرفع و الجر و ليس كذلك الاسم الظاهر أ لا ترى أنه يعتقب عليه الحركات في آخره و يحكم له بها في موضعه من غير تغير نفسه فمخالفته للمظهر فيما وصفناه يدل على أنه مضمر ليس‏


100
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 101

بمظهر قال و حكى السراج عن المبرد عن أبي الحسن الأخفش أنه اسم مفرد مضمر يتغير آخره كما تتغير أواخر المضمرات لاختلاف أعداد المضمرين و الكاف في إياك كالتي في ذلك و هي دالة على الخطاب فقط مجردة عن كونها علامة للمضمر فلا محل لها من الإعراب و أقول و هكذا الحكم في إياي و إيانا و إياه و إياها في أنها حروف تلحق إيا فالياء في إياي دليل على التكلم و الهاء في إياه تدل على الغيبة لا على نفس الغائب و يجري التأكيد على إيا منصوبا تقول إياك نفسك رأيت و إياه نفسه ضربت و إياهم كلهم عنيت فاعرفه و لا يجيز أبو الحسن إياك و إيا زيد و يستقل روايتهم عن العرب إذا بلغ الرجل الستين فإياه و إيا الشواب و يحمله على الشذوذ لأن الغرض في الإضافة التخصيص و المضمر على نهاية التخصيص فلا وجه إذا لإضافته و الأصل في نستعين نستعون لأنه من المعونة و العون لكن الواو قلبت ياء لثقل الكسرة عليها فنقلت كسرتها إلى العين قبلها فتصير الياء ساكنة لأن هذا من الإعلال الذي يتبع بعضه بعضا نحو أعان يعين و قام يقوم و في شرحه كلام و ربما يأتي مشروحا فيما بعد إن شاء الله و قوله نعبد و نستعين مرفوع لوقوعه موقعا يصلح للاسم أ لا ترى أنك لو قلت أنا عابدك و أنا مستعينك لقام مقامه و هذا المعنى عمل فيه الرفع و أما الإعراب في الفعل المضارع فلمضارعته الاسم لأن الأصل في الفعل البناء و إنما يعرب منه ما شابه الأسماء و هو ما لحقت أوله زيادة من هذه الزيادات الأربع التي هي الهمزة و النون و التاء و الياء.

المعنى‏

قوله تعالى: «إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» أدل على الاختصاص من أن نقول نعبدك و نستعينك لأن معناه نعبدك و لا نعبد سواك و نستعينك و لا نستعين غيرك كما إذا قال الرجل إياك أعني فمعناه لا أعني غيرك و يكون أبلغ من أن يقول أعنيك و العبادة ضرب من الشكر و غاية فيه لأنها الخضوع بأعلى مراتب الخضوع مع التعظيم بأعلى مراتب التعظيم و لا يستحق إلا بأصول النعم التي هي خلق الحياة و القدرة و الشهوة و لا يقدر عليه غير الله تعالى فلذلك اختص سبحانه بأن يعبد و لا يستحق بعضنا على بعض العبادة كما يستحق بعضنا على بعض الشكر و تحسن الطاعة لغير الله تعالى و لا تحسن العبادة لغيره و قول من قال أن العبادة هي الطاعة للمعبود يفسد بأن الطاعة موافقة الأمر و قد يكون موافقا لأمره و لا يكون عابدا له أ لا ترى أن الابن يوافق أمر الأب و لا يكون عابدا له و كذلك العبد يطيع مولاه و لا يكون عابدا له بطاعته إياه و الكفار يعبدون الأصنام و لا يكونون مطيعين لهم إذ لا يتصور من جهتهم الأمر و معنى قوله‏ «إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» إياك نستوفق و نطلب المعونة على عبادتك و على أمورنا كلها و التوفيق هو أن يجمع بين جميع الأسباب التي يحتاج إليها في‏


101
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 101

حصول الفعل و لهذا لا يقال فيمن أعان غيره وفقه لأنه لا يقدر أن يجمع بين جميع الأسباب التي يحتاج إليها في حصول الفعل و أما تكرار قوله‏ «إِيَّاكَ» فلأنه لو اقتصر على واحد ربما توهم متوهم أنه لا يتقرب إلى الله تعالى إلا بالجمع بينهما و لا يمكنه أن يفصل بينهما و هو إذا تفكر في عظمة الله تعالى كان عبادة و إن لم يستعن به و قيل أنه جمع بينهما للتأكيد كما يقال الدار بين زيد و بين عمرو و لو اقتصر على واحد فقيل بين زيد و عمرو كان جائزا قال عدي بن زيد:

و جاعل الشمس مصرا لا خفاء به‏

بين النهار و بين الليل قد فصلا

 

و قال أعشى همدان:

بين الأشج و بين قيس باذخ‏

بخ بخ لوالده و للمولود

 

و هذا القول فيه نظر لأن التكرير إنما يكون تأكيدا إذا لم يكن محمولا على فعل ثان و «إِيَّاكَ» الثاني في الآية محمول على‏ «نَسْتَعِينُ» و مفعول له فكيف يكون تأكيدا و قيل أيضا أنه تعليم لنا في تجديد ذكره تعالى عند كل حاجة فإن قيل أن عبادة الله تعالى لا تتأتى بغير إعانة منه فكان يجب أن يقدم الاستعانة على العبادة فالجواب أنه قدم العبادة على الاستعانة لا على الإعانة و قد تأتي بغير استعانة و أيضا فإن أحدهما إذا كان مرتبطا بالآخر لم يختلف التقديم و التأخير كما يقال قضيت حقي فأحسنت إلي و أحسنت إلي فقضيت حقي و قيل أن السؤال للمعونة إنما يقع على عبادة مستأنفة لا على عبادة واقعة منهم و إنما حسن طلب المعونة و إن كان لا بد منها مع التكليف على وجه الانقطاع إليه تعالى كقوله‏ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِ‏ و لأنه ربما لا يكون اللطف في إدامة التكليف و لا في فعل المعونة به إلا بعد تقديم الدعاء من العبد و قد أخطأ من استدل بهذه الآية على أن القدرة مع الفعل من حيث أن القدرة لو كانت متقدمة لما كان لطلب المعونة وجه لأن للرغبة إلى الله تعالى في طلب المعونة وجهين أحدهما أن يسأل الله تعالى من ألطافه و ما يقوي دواعيه و يسهل الفعل عليه ما ليس بحاصل و متى لطف له بأن يعلمه أن له في فعله الثواب العظيم زاد ذلك في نشاطه و رغبته و الثاني أن يطلب بقاء كونه قادرا على طاعته المستقبلة بأن تجدد له القدرة حالا بعد حال عند من لا يقول ببقائها و أن لا يفعل ما يضادها و ينفيها عند من قال ببقائها و أما العدول عن الخبر إلى الخطاب في قوله‏ «إِيَّاكَ نَعْبُدُ» إلى آخر السورة فعلى عادة العرب المشهورة و أشعارهم من ذلك مملوءة قال لبيد:

باتت تشكي إلي النفس مجهشة

و قد حملتك سبعا بعد سبعينا

 


102
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة الفاتحة(1): آية 6] ..... ص : 103

و قال أبو كثير الهذلي:

يا لهف نفسي كان جدة خالد

و بياض وجهك للتراب الأعفر

 

فرجع من الإخبار عن النفس إلى مخاطبتها في البيت الأول و من الإخبار عن خالد إلى خطابه في البيت الثاني و قال الكسائي تقديره قولوا إياك نعبد أو قل يا محمد هذا كما قال الله تعالى‏ «وَ لَوْ تَرى‏ إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا» و قال‏ «وَ الْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ» أي يقولون سلام.

[سورة الفاتحة (1): آية 6]

اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)

القراءة

قرأ حمزة بإشمام الصاد الزاي إلا العجلي و برواية خلاد و ابن سعدان يشم هاهنا في الموضعين فقط و قرأ الكسائي من طريق أبي حمدون بإشمام السين و يعقوب من طريق رويس بالسين و الباقون بالصاد.

الحجة

الأصل في الصراط السين لأنه مشتق من السرط و مسترط الطعام ممره و منه قولهم سرطراط و الأصل سريط فمن قرأ بالسين راعى الأصل و من قرأ بالصاد فلما بين الصاد و الطاء من المؤاخاة بالاستعلاء و الإطباق و لكراهة أن يتسفل بالسين ثم يتصعد بالطاء في السراط و إذا كانوا قد أبدلوا من السين الصاد مع القاف في صقب و صويق ليجعلوها في استعلاء القاف مع بعد القاف من السين و قرب الطاء منها فأن يبدلوا منها الصاد مع الطاء أجدر من حيث كان الصاد إلى الطاء أقرب أ لا ترى أنهما جميعا من حروف طرف اللسان و أصول الثنايا و أن الطاء تدغم في الصاد و من قرأ بإشمام الزاي فللمؤاخاة بين السين و الطاء بحرف مجهور من مخرج السين و هو الزاي من غير إبطال الأصل.

اللغة

الهداية في اللغة الإرشاد و الدلالة على الشي‏ء يقال لمن يتقدم القوم و يدلهم على الطريق هاد خريت أي دال مرشد قال طرفة:

للفتى عقل يعيش به‏

حيث تهدي ساقه قدمه‏

 

و الهداية التوفيق قال:

فلا تعجلن هداك المليك‏

فإن لكل مقام مقالا

 

أي وفقك و الصراط الطريق الواضح المتسع و سمي بذلك لأنه يسرط المارة أي‏


103
مجمع البيان في تفسير القرآن1

الإعراب ..... ص : 104

يبتلعها و المستقيم المستوي الذي لا اعوجاج فيه قال جرير:

أمير المؤمنين على صراط

إذا أعوج الموارد مستقيم‏

 

. الإعراب‏

«اهْدِنَا» مبني على الوقف و فاعله الضمير المستكن فيه لله تعالى و الهمزة مكسورة لأن ثالث المضارع منه مكسور و موضع النون و الألف من اهدنا نصب لأنه مفعول به و الصراط منصوب لأنه مفعول ثان.

المعنى‏

قيل في معنى‏ «اهْدِنَا» وجوه (أحدها) أن معناه ثبتنا على الدين الحق لأن الله تعالى قد هدى الخلق كلهم إلا أن الإنسان قد يزل و ترد عليه الخواطر الفاسدة فيحسن أن يسأل الله تعالى أن يثبته على دينه و يديمه عليه و يعطيه زيادات الهدى التي هي إحدى أسباب الثبات على الدين كما قال الله تعالى‏ «وَ الَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً» و هذا كما يقول القائل لغيره و هو يأكل كل أي دم على الأكل (و ثانيها) أن الهداية هي الثواب لقوله تعالى: يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ‏ فصار معناه اهدنا إلى طريق الجنة ثوابا لنا و يؤيده قوله‏ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا (و ثالثها) أن المراد دلنا على الدين الحق في مستقبل العمر كما دللتنا عليه في الماضي و يجوز الدعاء بالشي‏ء الذي يكون حاصلا كقوله تعالى:

قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِ‏ و قوله حكاية عن إبراهيم ع: وَ لا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ‏ و ذلك أن الدعاء عبادة و فيه إظهار الانقطاع إلى الله تعالى فإن قيل ما معنى المسألة في ذلك و قد فعله الله بجوابه أنه يجوز أن يكون لنا في الدعاء به مصلحة في ديننا و هذا كما تعبدنا بأن نكرر التسبيح و التحميد و الإقرار لربنا عز اسمه بالتوحيد و إن كنا معتقدين لجميع ذلك و يجوز أن يكون الله تعالى يعلم أن أشياء كثيرة تكون أصلح لنا إذا سألناه و إذا لم نسأله لا تكون مصلحة فيكون ذلك وجها في حسن المسألة و يجوز أن يكون المراد استمرار التكليف و التعريض للثواب لأن إدامته ليس بواجب بل هو تفضل محض فجاز أن يرغب إليه فيه بالدعاء و قيل في معنى‏ «الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ» وجوه.

(أحدها)

أنه كتاب الله‏ و هو المروي عن النبي ص و عن علي ع‏

و ابن مسعود (و ثانيها) أنه الإسلام و هو المروي عن جابر و ابن عباس (و ثالثها) أنه دين الله الذي لا يقبل من العباد غيره عن محمد بن الحنفية (و الرابع)

أنه النبي ص و الأئمة القائمون مقامه‏ و هو المروي في أخبارنا

و الأولى حمل الآية على العموم حتى يدخل جميع ذلك فيه لأن الصراط المستقيم هو الدين الذي أمر الله به من التوحيد و العدل و ولاية من أوجب الله طاعته.


104
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة الفاتحة(1): آية 7] ..... ص : 105

[سورة الفاتحة (1): آية 7]

صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لا الضَّالِّينَ (7)

القراءة

قرأ حمزة عليهم بضم الهاء و إسكان الميم و كذلك لديهم و إليهم و قرأ يعقوب بضم كل هاء قبلها ياء ساكنة في التثنية و الجمع المذكر و المؤنث نحو عليهما و فيهما و عليهم و فيهم و عليهن و فيهن و قرأ الباقون‏ «عَلَيْهِمْ» و أخواتها بالكسر و قرئ في الشواذ عليهموا قراءة ابن أبي إسحاق و عيسى الثقفي و عليهمي قراءة الحسن البصري و عمر بن قايد و عليهم مكسورة الهاء مضمومة الميم بغير واو و عليهم مضمومة الهاء و الميم من غير بلوغ واو مرويتان عن الأعرج فهذه سبع قراءات ثم اختلف القراء في الميم فأهل الحجاز وصلوا الميم بواو انضمت الهاء قبلها أو انكسرت قالوا عليهموا و على قلوبهموا و على سمعهموا و منهموا و لهموا إلا أن نافعا اختلف عنه فيه و الباقون بسكون الميم فأما إذا لقي الميم حرف ساكن فإن القراء اختلفوا فأهل الحجاز و عاصم و ابن عامر يضمون على كسر الهاء و يضمون الميم نحو عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ و مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ‏ و أبو عمرو يكسر الهاء و الميم و حمزة و الكسائي يضمان الهاء و الميم معا و كل هذا الاختلاف في الهاء التي قبلها كسرة أو ياء ساكنة فإذا جاوزت هذين الأمرين لم يكن في الهاء إلا الضم و قرأ صراط من أنعمت عليهم عمر بن الخطاب و عمرو بن عبد الله الزبيري و روي ذلك عن أهل البيت ع و قرئ أيضا في الشواذ غير المغضوب عليهم بالنصب و قرأ غير الضالين عمر بن الخطاب و روي ذلك عن علي ع.

الحجة

من قرأ عليهم بضم الهاء فإنه رده إلى الأصل لأنه إذا انفرد من حروف يتصل بها قيل هم فعلوا بضم الهاء قال السراج و هي القراءة القديمة و لغة قريش و أهل الحجاز و من حولهم من فصحاء اليمن و إنما خص حمزة هذه الحروف الثلاثة بالضم لأن الياء قبلها كانت ألفا مثل على القوم و لدى القوم و إلى القوم و لا يجوز كسر الهاء إذا كان قبلها ألف و من قرأ عليهموا فإنه اتبع الهاء ما أشبهها و هو الياء و ترك ما لا يشبه الياء و الألف على الأصل و هو الميم و من قرأ «عَلَيْهِمْ» فكسر الهاء و أسكن الميم فلأنه أمن اللبس إذا كانت الألف في التثنية قد دلت على الاثنين و لا ميم في الواحد فلما لزمت الميم الجمع حذفوا الواو و أسكنوا الميم طلبا للتخفيف إذا كان ذلك لا يشكل و إنما كسر الهاء مع أن‏


105
مجمع البيان في تفسير القرآن1

الإعراب ..... ص : 106

الأصل الضم للياء التي قبلها و من قرأ عليهموا فلأنه الأصل لأن وسيلة هذه الواو في الجمع وسيلة لألف في التثنية أعني أن ثبات الواو كثبات الألف و من قرأ عليهمي فإنه كسر الهاء لوقوع الياء قبلها ساكنة و كسر الميم كراهة للخروج من كسرة الهاء إلى ضمة الميم ثم انقلبت الواو ياء لسكونها و انكسار ما قبلها و من كسر الهاء و ضم الميم و حذف الواو فإنه احتمل الضمة بعد الكسرة لأنها غير لازمة إذا كانت ألف التثنية تفتحها لكنه حذف الواو تفاديا من ثقلها مع ثقل الضمة و من قرأ «عَلَيْهِمْ» فإنه حذف الواو استخفافا و احتمل الضمة قبلها دليلا عليها و أما من ضم الميم إذا لقيها ساكن و كسر الهاء فإنما يحتج بأن يقول لما احتجت إلى الحركة رددت الحرف إلى أصله فضممت و تركت الهاء على كسرها لأنه لم تأت ضرورة تحوج إلى ردها إلى الأصل و لأن الهاء إنما تبعت الياء لأنها شبهت بها و لم يتبعها الميم لبعدها منه و احتج من كسر الميم و الهاء بأن قال أتبعت الكسر الكسر لثقل الضم بعد الكسر قال سيبويه الهاء تكسر إذا كان قبلها ياء أو كسرة لأنها خفيفة و هي من حروف الزيادة كما أن الياء من حروف الزيادة و هي من موضع الألف و هي أشبه الحروف بالياء و كما أمالوا الألف في مواضع استخفافا كذلك كسروا هذه الهاء و قلبوا الواو ياء لأنه لا تثبت واو ساكنة و قبلها كسرة كقولك مررت بهي و مررت بدار هي قبل.

الإعراب‏

«صِراطَ الَّذِينَ» صفة لقوله‏ «الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ» و يجوز أن يكون بدلا عنه و الفصل بين الصفة و البدل أن البدل في تقدير تكرير العامل بدلالة تكرير حرف الجر في قوله تعالى: قالَ (الْمَلَأُ) الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا (مِنْ قَوْمِهِ) لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ‏ و ليس كذلك الصفة فكما أعيدت اللام الجارة في الاسم فكذلك العامل الرافع أو الناصب في تقدير التكرير فكأنه قال اهدنا صراط الذين و ليس يخرج البدل و إن كان كذلك عن أن يكون فيه تبيين للأول كما أن الصفة كذلك و لهذا لم يجز سيبويه المسكين بي كان الأمر و لا بك المسكين كما أجاز ذلك في الغائب نحو مررت به المسكين و الذين موصول و أنعمت عليهم صلة و قد تم بها اسما مفردا يكون في موضع جر بإضافة صراط إليه و لا يقال في موضع الرفع اللذون لأنه اسم غير متمكن و قد حكي اللذون شاذا كما حكي الشياطون في حال الرفع و أما «غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ» ففي الجر فيه ثلاثة أوجه (أحدها) أن يكون بدلا من الهاء و الميم في عليهم كقول الشاعر:

على حالة لو أن في القوم حاتما

على جوده لضن بالماء حاتم‏

 


106
مجمع البيان في تفسير القرآن1

الإعراب ..... ص : 106

فجر حاتم على البدل من الهاء في جوده (و ثانيها) أن يكون بدلا من الذين (و ثالثها) أن يكون صفة للذين و إن كان أصل غير أن يكون صفة للنكرة تقول مررت برجل غيرك كأنك قلت مررت برجل آخر أو برجل ليس بك قال الزجاج و إنما جاز ذلك لأن الذين هاهنا ليس بمقصود قصدهم فهو بمنزلة قولك إني لأمر بالرجل مثلك فأكرمه و قال علي بن عيسى الرماني إنما جاز أن يكون نعتا للذين لأن الذين بصلتها ليست بالمعرفة الموقتة كالأعلام نحو زيد و عمرو و إنما هي كالنكرات إذا عرفت نحو الرجل و الفرس فلما كانت الذين كذلك كانت صفتها كذلك أيضا كما يقال لا أجلس إلا إلى العالم غير الجاهل و لو كانت بمنزلة الإعلام لما جاز كما لم يجز مررت بزيد غير الظريف بالجر على الصفة و قال أبو بكر السراج و الذي عندي أن غير في هذا الموضع مع ما أضيف إليه معرفة لأن حكم كل مضاف إلى معرفة أن يكون معرفة و إنما تنكرت غير و مثل مع إضافتهما إلى المعارف من أجل معناهما و ذلك أنك إذا قلت رأيت غيرك فكل شي‏ء ترى سوى المخاطب فهو غيره و كذلك إذا قلت رأيت مثلك فما هو مثله لا يحصى فأما إذا كان شيئا معرفة له ضد واحد و أردت إثباته و نفي ضده فعلم ذلك السامع فوصفته بغير و أضفت غير إلى ضده فهو معرفة و ذلك نحو قولك عليك بالحركة غير السكون فغير السكون معرفة و هي الحركة فكأنك كررت الحركة تأكيدا فكذلك قوله تعالى: «الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ» فغير المغضوب هم الذين أنعم الله عليهم فمتى كانت غير بهذه الصفة فهي معرفة و كذلك إذا عرف إنسان بأنه مثلك في ضرب من الضروب فقيل فيه قد جاء مثلك كان معرفة إذا أردت المعروف بشبهك قال و من جعل غير بدلا استغنى عن هذا الاحتجاج لأن النكرة قد تبدل من المعرفة و في نصب غير ثلاثة أوجه أيضا (أحدها) أن يكون نصبا على الحال من المضمر في عليهم و العامل في الحال أنعمت فكأنه قال صراط الذين أنعمت عليهم لا مغضوبا عليهم (و ثانيها) أن يكون نصبا على الاستثناء المنقطع لأن المغضوب عليهم من غير جنس المنعم عليهم (و ثالثها) أن يكون نصبا على أعني كأنه قال أعني غير المغضوب عليهم و لم يجز أن يقال غير المغضوبين عليهم لأن الضمير قد جمع في عليهم فاستغنى عن أن يجمع المغضوب و هذا حكم كل ما تعدى بحرف جر تقول رأيت القوم غير المذهوب بهم استغنيت بالضمير المجرور في بهم عن جمع المذهوب و أما لا من قوله‏ «وَ لَا الضَّالِّينَ» فذهب البصريون إلى أنها زائدة لتوكيد النفي و ذهب الكوفيون إلى أنها بمعنى غير و وجه قول البصريين أنك إذا قلت ما قام زيد و عمرو احتمل أن تريد ما قاما معا و لكن قام كل واحد منهما بانفراده فإذا قلت ما قام زيد و لا عمرو زال الاحتمال و غير متضمن معنى‏


107
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى و اللغة ..... ص : 108

النفي و لهذا أجاز النحويون أنت زيدا غير ضارب لأنه بمنزلة قولك إنك أنت زيدا لا ضارب و لا يجوزون أنت زيدا مثل ضارب لأن زيدا من صلة ضارب و لا يتقدم عليه و قال علي بن عيسى الرماني من نصب على الاستثناء جعل لا صلة كما أنشد أبو عبيدة

(في بئر لا حور سرى و ما شعر)

 

أي في بئر هلكة و تقديره غير المغضوب عليهم و الضالين كما قال‏ ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ بمعنى أن تسجد.

المعنى و اللغة

معنى الآية بيان الصراط المستقيم أي صراط من أنعمت عليهم بطاعتك و هم الذين ذكرهم الله تعالى في قوله‏ «مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ الرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَ الصِّدِّيقِينَ وَ الشُّهَداءِ وَ الصَّالِحِينَ» و أصل النعمة المبالغة و الزيادة يقال دققت الدواء فأنعمت دقة أي بالغت في دقة و هذه النعمة و إن لم تكن مذكورة في اللفظ فالكلام يدل عليها لأنه لما قال‏ اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ‏ و قد بينا المراد بذلك بين أن هذا صراط من أنعم عليهم به و لم يحتج إلى إعادة اللفظ كما قال النابغة:

كأنك من جمال بني أقيش‏

يقعقع خلف رجليه بشن‏

 

أي كأنك من جمالهم جمل يقعقع خلف رجليه و أراد بالمغضوب عليهم اليهود عند جميع المفسرين الخاص و العام و يدل عليه قوله تعالى‏ «مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَ غَضِبَ عَلَيْهِ وَ جَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَ الْخَنازِيرَ» و هؤلاء هم اليهود بدلالة قوله تعالى‏ «وَ لَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ» و أراد بالضالين النصارى بدلالة قوله تعالى:

«وَ لا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَ أَضَلُّوا كَثِيراً وَ ضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ» و قال الحسن البصري أن الله تعالى لم يبرأ اليهود من الضلالة بإضافة الضلالة إلى النصارى و لم يبرأ النصارى من الغضب بإضافة الغضب إلى اليهود بل كل واحدة من الطائفتين مغضوب عليهم و هم ضالون إلا أن الله تعالى يخص كل فريق بسمة يعرف بها و يميز بينه و بين غيره بها و إن كانوا مشتركين في صفات كثيرة و قيل المراد بالمغضوب عليهم و الضالين جميع الكفار و إنما ذكروا بالصفتين لاختلاف الفائدتين و اختار الإمام عبد القاهر الجرجاني قولا آخر قال إن حق اللفظ فيه أن يكون خرج مخرج الجنس كما تقول نعوذ بالله أن يكون حالنا حال المغضوب عليهم فإنك لا تقصد به قوما بأعيانهم و لكنك تريد ما تريده بقولك إذا قلت اللهم اجعلني ممن أنعمت عليهم و لا تجعلني ممن غضبت عليهم فلا تريد أن هاهنا


108
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى و اللغة ..... ص : 108

قوما بأعيانهم قد اختصوا بهذه الصفة التي هي كونهم منعما عليهم و ليس يخفى على من عرف الكلام أن العقلاء يقولون اجعلني ممن تديم له النعمة و هم يريدون أن يقولوا أدم علي النعمة و لا يشك عاقل إذا نظر لقول عنترة:

و لقد نزلت فلا تظني غيره‏

مني بمنزلة المحب المكرم‏

 

إنه لم يرد أن يشبهها بإنسان هو محب مكرم عنده أو عند غيره و لكنه أراد أن يقول إنك محبة مكرمة عندي و أما الغضب من الله تعالى فهو إرادته إنزال العقاب المستحق بهم و لعنهم و براءته منهم و أصل الغضب الشدة و منه الغضبة و هي الصخرة الصلبة الشديدة المركبة في الجبل و الغضوب الحية الخبيثة و الناقة العبوس و أصل الضلال الهلاك و منه قوله‏ «أَ إِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ» أي هلكنا و منه قوله‏ «وَ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ» أي أهلكها و الضلال في الدين الذهاب عن الحق و إنما لم يقل الذين أنعمت عليهم غير الذين غضبت عليهم مراعاة للأدب في الخطاب و اختيارا لحسن اللفظ المستطاب و في تفسير العياشي رحمه الله‏

روى محمد بن مسلم عن أبي عبد الله ع قال‏ سألته عن قوله تعالى: «وَ لَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ» قال فاتحة الكتاب يثني فيها القول قال و قال رسول الله ص إن الله تعالى من علي بفاتحة الكتاب من كنز الجنة فيها «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» الآية التي يقول الله فيها: «وَ إِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى‏ أَدْبارِهِمْ نُفُوراً» و «الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» دعوى أهل الجنة حين شكروا لله حسن الثواب و «مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ» قال جبرائيل ع ما قالها مسلم إلا صدقه الله تعالى و أهل سمائه‏ «إِيَّاكَ نَعْبُدُ» إخلاص للعبادة و «إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» أفضل ما طلب به العباد حوائجهم‏ «اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ» صراط الأنبياء و هم الذين أنعم الله عليهم‏ «غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ» اليهود «وَ لَا الضَّالِّينَ» النصارى‏

و

روى محمد الحلبي عن أبي عبد الله ع‏ أنه كان يقرأ ملك يوم الدين و يقرأ اهدنا صراط المستقيم‏ و في رواية أخرى‏ يعني أمير المؤمنين (ع)

و

روي جميل عن أبي عبد الله ع قال‏ إذا كنت خلف إمام ففرغ من قراءة الفاتحة فقل أنت من خلفه الحمد لله رب العالمين‏

و

روى فضيل بن يسار عنه ع قال‏ إذا قرأت الفاتحة ففرغت من قراءتها فقل الحمد لله رب العالمين.


109
مجمع البيان في تفسير القرآن1

النظم ..... ص : 110

النظم‏

و أما نظم هذه السورة فأقول فيه أن العاقل المميز إذ عرف نعم الله سبحانه بالمشاهدة و كان له من نفسه بذلك أعدل شاهد و أصدق رائد ابتدأ بآية التسمية استفتاحا باسم المنعم و اعترافا بإلهيته و استرواحا إلى ذكر فضله و رحمته و لما اعترف بالمنعم الفرد اشتغل بالشكر له و الحمد فقال‏ الْحَمْدُ لِلَّهِ‏ و لما رأى نعم الله تعالى على غيره واضحة كما شاهد آثارها على نفسه لائحة عرف أنه رب الخلائق أجمعين فقال‏ رَبِّ الْعالَمِينَ‏ و لما رأى شمول فضله للمربوبين و عموم رزقه للمرزوقين قال‏ الرَّحْمنِ‏ و لما رأى تقصيرهم في واجب شكره و تعذيرهم في الانزجار عند زجره و اجتناب نهيه و امتثال أمره و أنه تعالى يتجاوز عنهم بالغفران و لا يؤاخذهم عاجلا بالعصيان و لا يسلبهم نعمه بالكفران قال‏ الرَّحِيمِ‏ و لما رأى ما بين العباد من التباغي و التظالم و التكالم و التلاكم و أن ليس بعضهم من شر بعض بسالم على أن وراءهم يوما ينتصف فيه للمظلوم من الظالم فقال‏ مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ‏ و إذا عرف هذه الجملة فقد علم أن له خالقا رازقا رحيما يحيي و يميت و يبدئ و يعيد و هو الحي لا يشبهه شي‏ء و الإله الذي لا يستحق العبادة سواه و لما صار الموصوف بهذا الوصف كالمدرك له بالعيان المشاهد بالبرهان تحول عن لفظ الغيبة إلى لفظ الخطاب فقال‏ إِيَّاكَ نَعْبُدُ و هذا كما أن الإنسان يصف الملك بصفاته فإذا رآه عدل عن الوصف إلى الخطاب و لما رأى اعتراض الأهواء و الشبهات و تعاور الآراء المختلفات و لم يجد معينا غير الله تعالى سأله الإعانة على الطاعات بجميع الأسباب لها و الوصلات فقال‏ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏ و لما عرف هذه الجملة و تبين له أنه بلغ من معرفة الحق المدى و استقام على منهج الهدى و لم يأمن العثرة لارتفاع العصمة سأل الله تعالى التوفيق للدوام عليه و الثبات و العصمة من الزلات فقال‏ اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ‏ و هذا لفظ جامع يشتمل على مسألة معرفة الأحكام و التوفيق لإقامة شرائع الإسلام و الاقتداء بمن أوجب الله طاعته من أئمة الأنام و اجتناب المحارم و الآثام و إذا علم ذلك علم أن لله سبحانه عبادا خصهم بنعمته و اصطفاهم على بريته و جعلهم حججا على خليقته فسأله أن يلحقه بهم و يسلك به سبيلهم و أن يعصمه عن مثل أحوال الزالين المزلين و الضالين المضلين ممن عاند الحق و عمي عن طريق الرشد و خالف سبيل القصد فغضب الله عليه و لعنه و أعد له الخزي المقيم و العذاب الأليم أو شك في واضح الدليل فضل عن سواء السبيل فقال‏ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لَا الضَّالِّينَ‏.


110
مجمع البيان في تفسير القرآن1

(2) سورة البقرة مدنية و آياتها ست و ثمانون و مائتان(286) ..... ص : 111

(2) سورة البقرة مدنية و آياتها ست و ثمانون و مائتان (286)

[نزول‏]

مدنية كلها إلا آية واحدة منها و هي قوله‏ وَ اتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ‏ الآية فإنها نزلت في حجة الوداع بمنى عدد آيها مائتان و ست و ثمانون آية في العدد الكوفي و هو العدد المروي عن أمير المؤمنين علي ع و سبع في العدد البصري و خمس حجازي و أربع شامي خلافها إحدى عشر آية عد الكوفي‏ الم‏ آية و عد البصري‏ إِلَّا خائِفِينَ‏ آية و قَوْلًا مَعْرُوفاً بصري‏ عَذابٌ أَلِيمٌ‏ شامي‏ مُصْلِحُونَ‏ غيرهم‏ يا أُولِي الْأَلْبابِ‏ عراقي و المدني الأخير من خلاف الثاني غير المدني الأخير يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ‏ مكي و المدني الأول‏ تَتَفَكَّرُونَ‏ كوفي و شامي و المدني الأخير الْحَيُّ الْقَيُّومُ‏ مكي بصري و المدني الأخير مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ. المدني الأول و روي عن أهل مكة وَ لا يُضَارَّ كاتِبٌ وَ لا شَهِيدٌ.

فضلها

أبي بن كعب عن النبي ص قال‏ من قرأها فصلوات الله عليه و رحمته و أعطي من الأجر كالمرابط في سبيل الله سنة لا تسكن روعته و قال لي يا أبي مر المسلمين أن يتعلموا سورة البقرة فإن تعلمها بركة و تركها حسرة و لا يستطيعها البطلة قلت يا رسول الله ما البطلة قال السحرة

و

روى سهل بن سعد قال قال رسول الله ص‏ إن لكل شي‏ء سناما و سنام القرآن سورة البقرة من قرأها في بيته نهارا لم يدخل بيته شيطان ثلاثة أيام و من قرأها في بيته ليلا لم يدخله شيطان ثلاث ليال‏

و

روي‏ أن النبي ص بعث بعثا ثم تتبعهم يستقرئهم فجاء إنسان منهم فقال ما ذا معك من القرآن حتى أتى على أحدثهم سنا فقال له ما ذا معك من القرآن قال كذا و كذا و سورة البقرة فقال أخرجوا و هذا عليكم أمير قالوا يا رسول الله ص هو أحدثنا سنا قال معه سورة البقرة

و

سئل النبي ص أي سور القرآن أفضل قال البقرة قيل أي آي البقرة أفضل قال آية الكرسي‏

فقال الصادق ع‏ من قرأ البقرة و آل عمران جاء يوم القيامة تظلانه على رأسه مثل الغمامتين أو مثل الغيابتين‏


111
مجمع البيان في تفسير القرآن1

تفسيرها ..... ص : 112

تفسيرها

[سورة البقرة (2): آية 1]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏

الم (1)

[توضيح‏]

(كوفي) اختلف العلماء في الحروف المعجمة المفتتحة بها السور فذهب بعضهم إلى‏

أنها من المتشابهات التي استأثر الله تعالى بعلمها و لا يعلم تأويلها إلا هو هذا هو المروي عن أئمتنا ع‏

و

روت العامة عن أمير المؤمنين ع أنه قال‏ إن لكل كتاب صفوة و صفوة هذا الكتاب حروف التهجي‏

و عن الشعبي قال: لله في كل كتاب سر و سره في القرآن سائر حروف الهجاء المذكورة في أوائل السور و فسرها الآخرون على وجوه.

(أحدها) إنها أسماء السور و مفاتحها عن الحسن و زيد بن أسلم (و ثانيها) أن المراد بها الدلالة على أسماء الله تعالى فقوله تعالى‏ «الم» معناه أنا الله أعلم و «المر» معناه أنا الله أعلم و أرى و «المص» معناه أنا الله أعلم و أفصل و الكاف في‏ كهيعص‏ من كاف و الهاء من هاد و الياء من حكيم و العين من عليم و الصاد من صادق عن ابن عباس و عنه أيضا أن‏ «الم» الألف منه تدل على اسم الله و اللام تدل على اسم جبرائيل و الميم تدل على اسم محمد ص و

روى أبو إسحاق الثعلبي في تفسيره مسندا إلى علي بن موسى الرضا ع قال‏ سئل جعفر بن محمد الصادق عن قوله‏ «الم» فقال في الألف ست صفات من صفات الله تعالى (الابتداء) فإن الله ابتدأ جميع الخلق و الألف ابتداء الحروف و (الاستواء) فهو عادل غير جائر و الألف مستو في ذاته و (الانفراد) فالله فرد و الألف فرد و (اتصال الخلق بالله) و الله لا يتصل بالخلق و كلهم محتاجون إلى الله و الله غني عنهم و كذلك الألف لا يتصل بالحروف و الحروف متصلة به و هو منقطع من غيره و الله عز و جل بائن بجميع صفاته من خلقه و معناه من الألفة فكما أن الله عز و جل سبب ألفة الخلق فكذلك الألف عليه تألفت الحروف و هو سبب ألفتها

(و ثالثها) أنها أسماء الله تعالى منقطعة لو أحسن الناس تأليفها لعلموا اسم الله الأعظم تقول‏ الر و حم‏ و ن‏ فيكون الرحمن و كذلك سائرها إلا أنا لا نقدر على وصلها و الجمع بينها عن سعيد بن جبير (و رابعها) أنها أسماء القرآن عن قتادة (و خامسها) أنها أقسام أقسم الله تعالى بها و هي من أسمائه عن ابن عباس و عكرمة قال الأخفش و إنما أقسم الله تعالى بالحروف المعجمة


112
مجمع البيان في تفسير القرآن1

اللغة ..... ص : 113

لشرفها و فضلها و لأنها مباني كتبه المنزلة بالألسنة المختلفة و أسمائه الحسنى و صفاته العليا و أصول كلام الأمم كلها بها يتعارفون و يذكرون الله عز اسمه و يوحدونه فكأنه هو أقسم بهذه الحروف أن القرآن كتابه و كلامه (و سادسها) أن كل حرف منها مفتاح اسم من أسماء الله تعالى و ليس فيها حرف إلا و هو في آلائه و بلائه و ليس فيها حرف إلا و هو في مدة قوم و آجال آخرين عن أبي العالية و قد ورد أيضا مثل ذلك في أخبارنا (و سابعها) أن المراد بها مدة بقاء هذه الأمة عن مقاتل بن سليمان قال مقاتل حسبنا هذه الحروف التي في أوائل السور بإسقاط المكرر فبلغت سبع مائة و أربعا و أربعين سنة و هي بقية مدة هذه الأمة قال علي بن فضال المجاشعي النحوي و حسبت هذه الحروف التي ذكرها مقاتل فبلغت ثلاثة آلاف و خمسا و ستين فحذفت المكررات فبقي ستمائة و ثلاث و تسعون و الله أعلم بما فيها و أقول قد حسبتها أنا أيضا فوجدتها كذلك و يروى أن اليهود لما سمعوا «الم» قالوا مدة ملك محمد ص قصيرة إنما تبلغ إحدى و سبعين سنة فلما نزلت‏ الر المر و المص‏ و كهيعص‏ اتسع عليهم الأمر هذه أقوال أهل التفسير (و ثامنها) أن المراد بها حروف المعجم استغني بذكر ما ذكر منها في أوائل السور عن ذكر بواقيها التي هي تمام الثمانية و العشرين حرفا كما يستغني بذكر قفا نبك عن ذكر باقي القصيدة و كما يقال أب في أبجد و في أ ب ت ث و لم يذكروا باقي الحروف قال الراجز:

لما رأيت أنها في حطي‏

أخذت منها بقرون شمط

 

و إنما أراد الخبر عن المرأة بأنها في أبجد فأقام قوله حطي مقامه لدلالة الكلام عليه (و تاسعها) أنها تسكيت للكفار لأن المشركين كانوا تواصوا فيما بينهم أن لا يستمعوا لهذا القرآن و أن يلغوا فيه كما ورد به التنزيل من قوله‏ «لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَ الْغَوْا فِيهِ» الآية فربما صفروا و ربما صفقوا و ربما لغطوا ليغلطوا النبي ص فأنزل الله تعالى هذه الحروف حتى إذا سمعوا شيئا غريبا استمعوا إليه و تفكروا و اشتغلوا عن تغليطه فيقع القرآن في مسامعهم و يكون ذلك سببا موصلا لهم إلى درك منافعهم (و عاشرها) أن المراد بها أن هذا القرآن الذي عجزتم عن معارضته من جنس هذه الحروف التي تتحاورون بها في خطبكم و كلامكم فإذا لم تقدروا عليه فاعلموا أنه من عند الله لأن العادة لم تجر بأن الناس يتفاوتون في القدر هذا التفاوت العظيم و إنما كررت في مواضع استظهارا في الحجة و هو المحكي عن قطرب و اختاره أبو مسلم محمد بن بحر الأصفهاني.

اللغة

أجود هذه الأقوال القول الأول المحكي عن الحسن لأن أسماء الأعلام‏


113
مجمع البيان في تفسير القرآن1

الإعراب ..... ص : 114

منقولة إلى التسمية عن أصولها للتفرقة بين المسميات فتكون حروف المعجم منقولة إلى التسمية و لهذا في أسماء العرب نظير قالوا أوس بن حارثة بن لام الطائي و لا خلاف بين النحويين أنه يجوز أن يسمى بحروف المعجم كما يجوز أن يسمى بالجمل نحو تابط شرا و برق نحره و كل كلمة لم تكن على معنى الأصل فهي منقولة إلى التسمية للفرق نحو جعفر إذا لم يرد به معنى النهر لم يكن إلا منقولا إلى العلمية و كذلك أشباهه و لو سميت بالم لحكيت جميع ذلك و أما قول ابن عباس أنه اختصار من أسماء يعلم النبي ص تمامها فنحوه قول الشاعر:

نادوهم أن ألجموا ألاتا

قالوا جميعا كلهم ألافا

 

يريد أ لا تركبون قالوا ألا فاركبوا و قول الآخر:

قلنا لها قفي قالت قاف‏

لا تحسبي أنا نسينا الإيجاف‏

 

يريد قالت أنا واقفة.

الإعراب‏

أما موضع‏ «الم» من الإعراب فمختلف على حسب اختلاف هذه المذاهب أما على مذهب الحسن فموضعها رفع على إضمار مبتدإ محذوف كأنه قال هذه الم و أجاز الرماني أن يكون الم مبتدأ و ذلك الكتاب خبره و تقديره حروف المعجم ذلك الكتاب و هذا فيه بعد لأن حكم المبتدأ أن يكون هو الخبر في المعنى و لم يكن الكتاب هو حروف المعجم و يجوز أن يكون الم في موضع نصب على إضمار فعل تقديره اتل الم و أما على مذهب من جعلها قسما فموضعها نصب بإضمار فعل لأن حرف القسم إذا حذف يصل الفعل إلى المقسم به فينصبه فإن معنى قولك بالله أقسم بالله ثم حذفت أقسم فبقي بالله فلو حذفت الباء لقلت الله لأفعلن و أما على مذهب من جعل هذه الحروف اختصارا من كلام أو حروفا مقطعة فلا موضع لها من الإعراب لأنها بمنزلة قولك زيد قائم في أن موضعه لا حظ له في الإعراب و إنما يكون للجملة موضع إذا وقعت موقع الفرد كقولك زيد أبوه قائم و إن زيدا أبوه قائم لأنه بمنزلة قولك زيد قائم و إن زيدا قائم و هذه الحروف موقوفة على الحكاية كما يفعل بحروف التهجي لأنها مبنية على السكت كما أن العدد مبني‏


114
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 2] ..... ص : 115

على السكت يدل على ذلك جمعك بين ساكنين في قولك لام ميم و تقول في العدد واحد اثنان ثلاثة أربعة فتقطع ألف اثنين و ألف اثنين ألف وصل و تذكر الهاء في ثلاثة و أربعة و لو لا أنك تقدر السكت لقلت ثلاثة بالتاء و يدل عليه قول الشاعر:

أقبلت من عند زياد كالخرف‏

تخط رجلاي بخط مختلف‏

 

تكتبان في الطريق لام ألف‏

 

كأنه قال لام ألف و لكنه ألقى حركة همزة الألف على الميم ففتحها و إذا أخبرت عن حروف الهجاء أو أسماء الأعداد أعربتها لأنك أدخلتها بالإخبار عنها في جملة الأسماء المتمكنة و أخرجتها بذلك من حيز الأصوات كما قال الشاعر

(كما بينت كاف تلوح و ميمها)

 

و قال آخر:

إذا اجتمعوا على ألف و باء

و واو هاج بينهم جدال‏

 

و تقول هذا كاف حسن و هذه كاف حسنة من ذكره فعلى معنى الحرف و من أنثه فعلى معنى الكلمة.

[سورة البقرة (2): آية 2]

ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2)

القراءة

قرأ ابن كثير فيهي هدى يوصل الهاء بياء في اللفظ و كذلك كل هاء كناية قبلها ياء ساكنة فإن كان قبلها ساكن غير الياء وصلها بالواو و وافقه حفص في قوله فيهي مهانا و قتيبة في قوله فملاقيه و سأصليه و الباقون لا يشبعون و إذا تحرك ما قبل الهاء فهم مجمعون على إشباعه.

الحجة

اعلم أنه يجوز في العربية في فيه أربعة أوجه فيهو و فيهي و فيه و فيه و الأصل فيهو كما قيل لهو مال فمن كسر الهاء من فيه و نحوه مع أن الأصل الضم فلأجل الياء أو الكسرة قبل الهاء و الهاء تشبه الألف لكونها من حروف الحلق و لما فيها من الخفاء فكما نحوا بالألف نحو الياء بالإمالة لأجل الكسرة أو الياء كذلك كسروا الهاء للكسرة أو الياء ليتجانس الصوتان و من ترك الإشباع فلكراهة اجتماع المشابهة فإن الهاء حرف خفي فإذا اكتنفها ساكنان من حروف اللين كان كان الساكنين التقيا لخفاء الهاء فإنهم لم يعتدوا


115
مجمع البيان في تفسير القرآن1

اللغة ..... ص : 116

بها حاجزا في نحو فيهي و خذ و هو كما لم يعتد بها في نحو رد من أتبع الضم إذا وصل الفعل بضمير المؤنث فقال ردها بالفتح لا غير و لم يتبع الضم الضم و جعل الدال كأنها لازقة بالألف و أما من أشبع و أتبعها الياء قال الهاء و إن كانت خفية فليس يخرجها ذلك من أن تكون كغيرها من حروف المعجم التي لا خفاء فيها فإذا كان كذلك كان حجزها بين الساكنين كحجز غيرها من الحروف التي لا خفاء فيها.

اللغة

ذلك لفظة يشار بها إلى ما بعد و هذا إلى ما قرب و الاسم من ذلك ذا و الكاف زيدت للخطاب و لا حظ لها من الإعراب و اللام تزاد للتأكيد و كسرت لالتقاء الساكنين و تسقط معها هاء تقول ذاك و ذلك و هذاك و لا تقول هذلك و الكتاب مصدر و هو بمعنى المكتوب كالحساب قال الشاعر:

بشرت عيالي إذ رأيت صحيفة

أتتك من الحجاج يتلى كتابها

 

أي مكتوبها و أصله الجمع من قولهم كتبت القربة إذا خرزتها و الكتبة الخرزة و كتبت البغلة إذا جمعت بين شفريها بحلقة و منه قيل للجند كتيبة لانضمام بعضهم إلى بعض و الريب الشك و قيل هو أسوء الشك و هو مصدر رابني الشي‏ء من فلان يريبني إذا كانت مستيقنا منه بالريبة فإذا أسأت به الظن و لم تستيقن بالريبة منه قلت أرابني من فلان أمر إرابة و أراب الرجل إذا صار صاحب ريبة كما قيل ألام أي استحق أن يلام و الهدى الدلالة مصدر هديته و فعل قليل في المصادر قال أبو علي يجوز أن يكون فعل مصدر اختص به المعتل و إن لم يكن في المصادر كما كان كينونة و نحوه لا يكون في الصحيح و الفعل منه يتعدى إلى مفعولين يتعدى إلى الثاني منهما بأحد حرفي جر إلى أو اللام كقوله‏ «وَ اهْدِنا إِلى‏ سَواءِ الصِّراطِ و الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا» و قد يحذف منه حرف الجر فيصل الفعل إلى المفعول نحو اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ‏ أي دلنا عليه و اسلك بنا فيه و كأنه استنجاز لما وعدوا به في قوله‏ «يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ» أي سبل دار السلام و الأصل في المتقين الموتقين مفتعلين من الوقاية فقلبت الواو تاء و أدغمتها في التاء التي بعدها و حذفت الكسرة من الياء استثقالا لها ثم حذفتها لالتقاء الساكنين فبقي متقين و التقوى أصله وقوى قلبت الواو تاء كالتراث أصله وراث و أصل الاتقاء الحجز بين الشيئين يقال اتقاه بالترس أي جعله حاجزا بينه و بينه قال الشاعر:


116
مجمع البيان في تفسير القرآن1

الإعراب ..... ص : 117

 

فألقت قناعا دونها الشمس و اتقت‏

بأحسن موصولين كف و معصم‏

 

و منه الوقاية لأنها تمنع رؤية الشعر.

الإعراب‏

ذلك في موضع رفع من وجوه (أحدها) أن تجعله خبرا عن الم كما مضى القول فيه (و ثانيها) أن يكون مبتدأ و الكتاب خبره (و ثالثها) أن يكون مبتدأ و الكتاب عطف بيان أو صفة له أو بدل منه و لا ريب فيه جملة في موضع الخبر (و رابعها) أن يكون مبتدأ و خبره هدى و يكون لا ريب في موضع الحال و العامل في الحال معنى الإشارة (و خامسها) أن يكون لا ريب فيه و هدى جميعا خبرا بعد خبر كقولك هذا حلو حامض أي جمع الطعمين و منه قول الشاعر:

من يك ذا بت فهذا بتي‏

مقيظ مصيف مشتي‏

 

(و سادسها) أن يكون خبر مبتدإ محذوف تقديره هذا ذلك الكتاب و إن حملت على هذا الوجه أو على أنه مبتدأ و لا ريب فيه الخبر أو على أنه خبر الم أو على أن الكتاب خبر عنه كان قوله‏ «هُدىً» في موضع نصب على الحال أي هاديا للمتقين و العامل فيه معنى الإشارة و الاستقرار الذي يتعلق به فيه و قوله‏ «لا رَيْبَ» قال سيبويه لا تعمل فيما بعدها فتنصبه بغير تنوين و قال غيره من حذاق النحويين جعل لا مع النكرة الشائعة مركبا فهو أوكد من تضمين الاسم معنى الحرف لأنه جعل جزءا من الاسم بدلالة أنك تضيف إليه مجموعا و تدخل عليه حرف الجر فتقول جئتك بلا مال و لا زاد فلما صار كذلك بني على الفتح و هما جميعا في موضع الرفع على الابتداء فموضع خبره موضع خبر المبتدأ و على هذا فيجوز أن تجعل فيه خبر و يجوز أن تجعله صفة فإن جعلته صفة أضمرت الخبر و إن جعلته خبرا كان موضعه رفعا في قياس قول سيبويه من حيث يرتفع خبر المبتدأ و على قول أبي الحسن الأخفش موضعه رفع و الموضع للظرف نفسه لا لما كان يتعلق به لأن الحكم له من دون ما كان يكون الظرف منتصبا به في الأصل أ لا ترى أن الضمير قد صار في الظرف و أما قوله‏ «هُدىً» فيجوز أن يكون في موضع رفع من ثلاثة أوجه غير الوجه الذي ذكرناه قبل و هو أن يكون خبرا عن ذلك أحدها أن يكون مبتدأ و فيه الخبر على أن تضمر للا ريب خبرا كأنك قلت لا ريب فيه فيه هدى و الوقف على هذا الوجه على قوله‏ «لا رَيْبَ فِيهِ» و يبتدئ هدى للمتقين و الوجه الثاني أن يكون خبرا عن الم على قول من جعله اسما


117
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 118

للسورة و الوجه الثالث أن يكون خبرا لمبتدء محذوف تقديره هو هدى.

المعنى‏

المراد بالكتاب القرآن و قال الأخفش ذلك بمعنى هذا لأن الكتاب كان حاضرا و أنشد لخفاف بن ندبة

أقول له و الرمح يأطر متنه‏

تأمل خفافا إنني أنا ذلكا

 

أي أنا هذا و هذا البيت يمكن إجراؤه على ظاهره أي إنني أنا ذلك الرجل الذي سمعت شجاعته و إذا جرى للشي‏ء ذكر يجوز أن يقول السامع هذا كما قلت و ذلك كما قلت و تقول أنفقت ثلاثة و ثلاثة فهذا ستة أو فذلك ستة و إنما تقول هذا لقربه بالإخبار عنه و تقول ذلك لكونه ماضيا و قيل إن الله وعد نبيه أن ينزل عليه كتابا لا يمحوه الماء و لا يخلق على كثرة الرد فلما أنزل القرآن قال هذا القرآن ذلك الكتاب الذي وعدتك عن الفراء و أبي علي الجبائي و قيل معناه هذا القرآن ذلك الكتاب الذي وعدتك به في الكتب السالفة عن المبرد و من قال إن المراد بالكتاب التوراة و الإنجيل فقوله فاسد لأنه وصف الكتاب بأنه لا ريب فيه و أنه هدى و وصف ما في أيدي اليهود و النصارى بأنه محرف بقوله‏ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ‏ و معنى قوله‏ «لا رَيْبَ فِيهِ» أي أنه بيان و هدى و حق و معجز فمن هاهنا استحق الوصف بأنه لا شك فيه لا على جهة الإخبار بنفي شك الشاكين و قيل أنه على الحذف كأنه قال لا سبب شك فيه لأن الأسباب التي توجب الشك في الكلام هي التلبيس و التعقيد و التناقض و الدعاوي العارية من البرهان و هذه كلها منفية عن كتاب الله تعالى و قيل إن معناه النهي و إن كان لفظه الخبر أي لا ترتابوا أو لا تشكوا فيه كقوله تعالى‏ «فَلا رَفَثَ وَ لا فُسُوقَ» و أما تخصيص المتقين بأن القرآن هدى لهم و إن كان هدى لجميع الناس فلأنهم هم الذين انتفعوا به و اهتدوا بهداه كما قال‏ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها و إن كان ص منذرا لكل مكلف لأنه إنما انتفع بإنذاره من يخشى نار جهنم على أنه ليس في الإخبار بأنه هدى للمتقين ما يدل على أنه ليس بهدى لغيرهم و بين في آية أخرى أنه هدى للناس.

[فصل في التقوى و المتقي‏]

روي عن النبي ص أنه قال‏ جماع التقوى في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ‏ الآية

و قيل المتقي الذي اتقى ما حرم عليه و فعل ما أوجب عليه‏


118
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 3] ..... ص : 119

و قيل هو الذي يتقي بصالح أعماله عذاب الله و سأل عمر بن الخطاب كعب الأحبار عن التقوى فقال هل أخذت طريقا ذا شوك فقال نعم قال فما عملت فيه قال حذرت و تشمرت فقال كعب ذلك التقوى و نظمه بعض الناس فقال.

خل الذنوب صغيرها و كبيرها فهو التقى‏

و اصنع كماش فوق أرض الشوك يحذر ما يرى‏

 

لا تحقرن صغيرة أن الجبال من الحصى‏

 

و

روي عن النبي ص أنه قال‏ إنما سمي المتقون لتركهم ما لا بأس به حذرا للوقوع فيما به بأس‏

و قال عمر بن عبد العزيز التقي ملجم كالمجرم في الحرم و قال بعضهم التقوى أن لا يراك الله حيث نهاك و لا يفقدك حيث أمرك.

[سورة البقرة (2): آية 3]

الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3)

القراءة

قرأ أبو جعفر و عاصم في رواية الأعشى عن أبي بكر بترك كل همزة ساكنة مثل‏ يُؤْمِنُونَ‏ و يَأْكُلُونَ‏ و يُؤْتُونَ‏ و بِئْسَ‏ و نحوها و يتركان كثيرا من المتحركة مثل‏ يُؤَدِّهِ‏ و لا يُؤاخِذُكُمُ‏ و يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ‏ و مذهب أبي جعفر فيه تفصيل يطول ذكره و أما أبو عمرو فيترك كل همزة ساكنة إلا أن يكون سكونها علامة للجزم مثل ننسئها و تَسُؤْكُمْ‏ و يُهَيِّئْ لَكُمْ‏ و مَنْ يَشَأِ و يُنَبِّئُهُمُ‏ و اقْرَأْ كِتابَكَ‏ و نحوها فإنه لا يترك الهمزة فيها و روي عنه الهمزة أيضا في الساكنة و أما نافع فيترك كل همزة ساكنة و متحركة إذا كانت فاء من الفعل نحو يُؤْمِنُونَ‏ و لا يُؤاخِذُكُمُ‏ و اختلفت قراءة الكسائي و حمزة و لكل واحد منهم مذهب فيه يطول ذكره فالهمز على الأصل و تركه للتخفيف.

اللغة و الإعراب‏

الذين جمع الذي و اللائي و اللاتي جمع التي و تثنيتهما اللذان و اللتان في حال الرفع و اللذين و اللتين في حال الجر و النصب و هي من الأسماء التي لا تتم إلا بصلاتها نحو من و ما و أي و صلاتها لا تكون إلا جملا خبرية يصح فيها الصدق و الكذب و لا بد أن يكون فيها ضمير يعود إلى الموصول فإذا استوفت الموصولات صلاتها كانت في تأويل اسم مفرد مثل زيد و عمرو و يحتاج إلى جزء آخر تصير به جملة فقوله‏ «الَّذِينَ» موصول و يؤمنون صلته و يحتمل أن يكون محله نصبا و جرا و رفعا فالنصب على المدح تقديره أعني الذين يؤمنون و أما الجر فعلى أنه صفة للمتقين و أما الرفع فعلى المدح أيضا كأنه لما قيل‏ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ‏ قيل من هم قيل هم الذين يؤمنون بالغيب فيكون خبر مبتدإ محذوف و يؤمنون‏


119
مجمع البيان في تفسير القرآن1

اللغة و الإعراب ..... ص : 119

معناه يصدقون و الواو في موضع الرفع بكونه ضمير الفاعلين و النون علامة الرفع و الأصل في يفعل يؤفعل و لكن الهمزة حذفت لأنك إذا أنبأت عن نفسك قلت أنا أفعل فكانت تجتمع همزتان فاستثقلتا فحذفت الهمزة الثانية فقيل أفعل ثم حذفت من الصيغ الآخر نفعل و تفعل و يفعل كما أن باب يعد حذفت منه الواو لوقوعها بين ياء و كسرة إذ الأصل يوعد ثم حذفت في تعد و أعد و نعد ليجري الباب على سنن واحد قال الأزهري اتفق العلماء على أن الإيمان هو التصديق قال الله تعالى‏ وَ ما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا أي ما أنت بمصدق لنا قال أبو زيد و قالوا ما أمنت أن أجد صحابة أي ما وثقت فالإيمان هو الثقة و التصديق قال الله تعالى‏ «الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا» أي صدقوا و وثقوا بها و قال الشاعر أنشده ابن الأنباري:

و من قبل آمنا و قد كان قومنا

يصلون للأوثان قبل محمدا

 

و معناه آمنا محمدا أي صدقناه و يجوز أن يكون آمن من قياس فعلته فأفعل تقول أمنته فآمن مثل كببته فأكب و الأمن خلاف الخوف و الأمانة خلاف الخيانة و الأمون الناقة القوية كأنها يؤمن عثارها و كلالها و يجوز أن يكون آمن بمعنى صار ذا آمن على نفسه بإظهار التصديق نحو أجرب و أعاه و أصح و أسلم صار ذا سلم أي خرج عن أن يكون جربا هذا في أصل اللغة أما في الشريعة فالإيمان هو التصديق بكل ما يلزم التصديق به من الله تعالى و أنبيائه و ملائكته و كتبه و البعث و النشور و الجنة و النار و أما قولنا في وصف القديم تعالى المؤمن فإنه يحتمل تأويلين أحدهما أن يكون من آمنت المتعدي إلى مفعول فنقل بالهمزة فتعدى إلى مفعولين فصار من أمن زيد العذاب و آمنته العذاب فمعناه المؤمن عذابه من لا يستحقه من أوليائه و من هذا وصفه سبحانه بالعدل كقوله قائما بالقسط و هذا الوجه مروي في أخبارنا و الآخر أن يكون معناه المصدق أي يصدق الموحدين على توحيدهم إياه يدل عليه قوله‏ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لأن الشاهد مصدق لما يشهد به كما أنه مصدق من يشهد له فإذا شهد بالتوحيد فقد صدق الموحدين و أما الغيب فهو كلما غاب عنك و لم تشهده و قوله‏ «بِالْغَيْبِ» كأنه إجمال لما فصل في قوله‏ «كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ» أي يؤمنون بما كفر به الكفار من وحدانية الله و إنزال كتبه و إرسال رسله فكل هذا غيب فعلى هذا يكون الجار و المجرور في موضع نصب بأنه مفعول به و فيه وجه آخر و هو أن يكون أراد يؤمنون إذا غابوا عنكم و لم يكونوا كالمنافقين و مثله قوله‏ وَ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ‏ فعلى هذا يكون الجار و المجرور في موضع الحال أي يؤمنون غائبين عن مراءة الناس لا يريدون بإيمانهم تصنعا لأحد و لكن يخلصونه لله و «يُقِيمُونَ الصَّلاةَ» يؤدونها بحدودها و فرائضها يقال‏


120
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 121

أقام القوم سوقهم إذا لم يعطلوها من البيع و الشراء و قال الشاعر.

أقامت غزالة سوق الضراب‏

لأهل العراقين حولا قميطا

 

و قال أبو مسلم‏ «يُقِيمُونَ الصَّلاةَ» أي يديمون أداء فرائضها يقال للشي‏ء الراتب قائم و يقال فلان يقيم أرزاق الجند و الصلوة في اللغة الدعاء قال الأعشى:

و أقبلها الريح في ظلها

و صلى على دنها و ارتسم‏

 

أي دعا لها و منه‏

الحديث‏ إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب و إن كان صائما فليصل‏

أي فليدع له بالبركة و الخير و قيل أصله رفع الصلا في الركوع و هو عظم في العجز و قوله‏ «وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ» ما هذه حرف موصول و رزقناهم صلته و هما جميعا بمعنى المصدر تقديره و من رزقنا إياهم ينفقون أو اسم موصول و العائد من الصلة إلى الموصول محذوف و التقدير و من الذي رزقناهموه ينفقون فيكون ما رزقناهم في موضع جر بمن و الجار و المجرور في موضع نصب بأنه مفعول ينفقون و الرزق هو العطاء الجاري و هو نقيض الحرمان و الإنفاق إخراج المال يقال أنفق ماله أي أخرجه عن ملكه و نفقت الدابة إذا خرج روحها و النافقاء جحر اليربوع لأنه يخرج منها و منه النفاق لأن المنافق يخرج إلى المؤمن بالإيمان و إلى الكافر بالكفر.

المعنى‏

لما وصف القرآن بأنه‏ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ‏ بين صفة المتقين فقال‏ «الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ» أي يصدقون بجميع ما أوجبه الله تعالى أو ندب إليه أو أباحه و قيل يصدقون بالقيامة و الجنة و النار عن الحسن و قيل بما جاء من عند الله عن ابن عباس و قيل بما غاب عن العباد علمه عن ابن مسعود و جماعة من الصحابة و هذا أولى لعمومه و يدخل فيه ما رواه أصحابنا من زمان غيبة المهدي ع و وقت خروجه و قيل الغيب هو القرآن عن زر بن حبيش و قال الرماني الغيب خفاء الشي‏ء عن الحسن قرب أو بعد إلا أنه كثرت صفة غايب على البعيد الذي لا يظهر للحس و قال البلخي الغيب كل ما أدرك بالدلائل و الآيات مما يلزم معرفته و قالت المعتزلة بأجمعها الإيمان هو فعل الطاعة ثم اختلفوا فمنهم من اعتبر الفرائض و النوافل و منهم من اعتبر الفرائض حسب و اعتبروا اجتناب الكبائر كلها و

قد روى الخاص و العام عن علي بن موسى الرضا ع‏ أن الإيمان هو التصديق بالقلب‏


121
مجمع البيان في تفسير القرآن1

النزول ..... ص : 122

و الإقرار باللسان و العمل بالأركان‏ و قد روي ذلك على لفظ آخر عنه أيضا الإيمان قول مقول و عمل معمول و عرفان بالعقول و اتباع الرسول‏

و أقول أن أصل الإيمان هو المعرفة بالله و برسله و بجميع ما جاءت به رسله و كل عارف بشي‏ء فهو مصدق به يدل عليه هذه الآية فإنه تعالى لما ذكر الإيمان علقه بالغيب ليعلم أنه تصديق للمخبر به من الغيب على معرفة و ثقة ثم أفرده بالذكر عن سائر الطاعات البدنية و المالية و عطفهما عليه فقال‏ «وَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ» و الشي‏ء لا يعطف على نفسه و إنما يعطف على غيره و يدل عليه أيضا أنه تعالى حيث ذكر الإيمان إضافة إلى القلب فقال‏ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ‏ و قال‏ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ‏ و

قال النبي ص‏ الإيمان سر و أشار إلى صدره و الإسلام علانية

و قد يسمى الإقرار إيمانا كما يسمى تصديقا إلا أنه متى صدر عن شك أو جهل كان إيمانا لفظيا لا حقيقيا و قد تسمى أعمال الجوارح أيضا إيمانا استعارة و تلويحا كما تسمى تصديقا كذلك فيقال فلان تصدق أفعاله مقاله و لا خير في قول لا يصدقه الفعل و الفعل ليس بتصديق حقيقي باتفاق أهل اللغة و إنما استعير له هذا الاسم على الوجه الذي ذكرناه فقد آل الأمر تسليم صحة الخبر و قبوله إلى أن الإيمان هو المعرفة بالقلب و التصديق به على نحو ما تقتضيه اللغة و لا يطلق لفظه إلا على ذلك إلا أنه يستعمل في الإقرار باللسان و العمل بالأركان مجازا و اتساعا و بالله التوفيق و قد ذكرنا في قوله‏ «وَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ» وجهين اقتضاهما اللغة و قيل أيضا إنه مشتق من القيام في الصلوة و لذلك قيل قد قامت الصلاة و إنما ذكر القيام لأنه أول أركان الصلاة و أمدها و إن كان المراد به هو و غيره و الصلاة في الشرع عبارة عن أفعال مخصوصة على وجوه مخصوصة و هذا يدل على أن الاسم ينقل من اللغة إلى الشرع و قيل إن هذا ليس بنقل بل هو تخصيص لأنه يطلق على الذكر و الدعاء في مواضع مخصوصة و قوله تعالى‏ «وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ» يريد و مما أعطيناهم و ملكناهم يخرجون على وجه الطاعة و حكي عن ابن عباس أنه الزكاة المفروضة و عن ابن مسعود أنه نفقة الرجل على أهله لأن الآية نزلت قبل وجوب الزكاة و عن الضحاك هو التطوع بالنفقة و

روي محمد بن مسلم عن الصادق ع‏ أن معناه و مما علمناهم يبثون‏

و الأولى حمل الآية على عمومها و حقيقة الرزق هو ما صح أن ينتفع به المنتفع و ليس لأحد منعه منه و هذه الآية تدل على أن الحرام لا يكون رزقا لأنه تعالى مدحهم بالإنفاق مما رزقهم و المنفق من الحرام لا يستحق المدح على الإنفاق بالاتفاق فلا يكون رزقا.

النزول‏

قال بعضهم هذه الآية تناولت مؤمني العرب خاصة بدلالة قوله فيما بعد «وَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ» الآية فهذا في مؤمني أهل الكتاب إذ لم يكن للعرب كتاب‏


122
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 4] ..... ص : 123

قبل القرآن و هذا غير صحيح لأنه لا يمتنع أن تكون الآية الأولى عامة في جميع المؤمنين و إن كانت الثانية خاصة في قوم منهم و يجوز أن يكون المراد بالآيات قوما واحدا وصفوا بجميع ذلك بأن جمع بين أوصافهم بواو العطف كقول الشاعر.

إلى الملك القرم و ابن الهمام‏

و ليث الكتيبة في المزدحم.

 

[سورة البقرة (2): آية 4]

وَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)

القراءة

أهل الحجاز غير ورش و أهل البصرة لا يمدون حرفا لحرف و هو أن تكون المدة من كلمة و الهمزة من أخرى نحو «بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ» و نحوه و أما أهل الكوفة و ابن عامر و ورش عن نافع فإنهم يمدون ذلك و ورش أطولهم مدا ثم حمزة ثم عاصم برواية الأعشى و الباقون يمدون مدا وسطا من غير إفراط فالمد للتحقيق و حذفه للتخفيف و أما السكتة بين المدة و الهمزة فعن حمزة و وافقه عاصم و الكسائي على اختلاف عنهما و كان يقف حمزة قبل الهمزة أيضا فيسكت على اللام شيئا من قوله‏ بِالْآخِرَةِ ثم يبتدئ بالهمزة و كذلك يقطع على الياء من شي‏ء كأنه يقف ثم يهمز و الباقون بغير سكتة.

الإعراب‏

إليك و لديك و عليك الأصل فيها إلاك و علاك و لداك إلا أن الألف غيرت مع المضمر فأبدلت ياء ليفصل بين الألف في آخر الاسم المتمكن و بينها في آخر غير المتمكن الذي الإضافة لازمة له أ لا ترى أن إلى و على و لدى لا تنفرد من الإضافة فشبهت بها كلا إذا أضيفت إلى الضمير لأنها لا تنفرد و لا تكون كلاما إلا بالإضافة و ما موصول و أنزل صلته و فيه ضمير يعود إلى ما و الموصول مع صلته في موضع جر بالباء و الجار و المجرور في موضع نصب بأنه مفعول يؤمنون و يؤمنون صلة للذين و «الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ» في موضع جر بالعطف و العطف فيه على وجهين أحدهما أن يكون عطف أحد الموصوفين على الآخر و الآخر أن يكون جمع الأوصاف لموصوف واحد.

المعنى‏

ثم بين تعالى تمام صفة المتقين فقال‏ «وَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ» يعني القرآن‏ «وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ» يعني الكتب المتقدمة و قوله‏ «وَ بِالْآخِرَةِ» أي بالدار الآخرة لأن الآخرة صفة فلا بد لها من موصوف و قيل أراد به الكرة الآخرة و إنما وصفت بالآخرة لتأخرها عن الدنيا كما سميت الدنيا دنيا لدنوها من الخلق و قيل لدناءتها «هُمْ يُوقِنُونَ» يعلمون و سمي‏


123
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 5] ..... ص : 124

العلم يقينا لحصول القطع عليه و سكون النفس إليه فكل يقين علم و ليس كل علم يقينا و ذلك أن اليقين كأنه علم يحصل بعد الاستدلال و النظر لغموض المعلوم المنظور فيه أو لإشكال ذلك على الناظر و لهذا لا يقال في صفة الله تعالى موقن لأن الأشياء كلها في الجلاء عنده على السواء و إنما خصهم بالإيقان بالآخرة و إن كان الإيمان بالغيب قد شملها لما كان من كفر المشركين بها و جحدهم إياها في نحو ما حكي عنهم في قوله‏ وَ قالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَ نَحْيا فكان في تخصيصهم بذلك مدح لهم.

[سورة البقرة (2): آية 5]

أُولئِكَ عَلى‏ هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)

اللغة

«أُولئِكَ» اسم مبهم يصلح لكل حاضر تعرفه الإشارة و هو جمع ذلك في المعنى و أولاء جمع ذا في المعنى و من قصر قال أولا و ألاك و أولالك و إذا مد لم يجز زيادة اللام لئلا يجتمع ثقل الزيادة و ثقل الهمزة قال الشاعر:

ألا لك قوم لم يكونوا أشابة

و هل يعظ الضليل إلا أولالكا

 

و «الْمُفْلِحُونَ» المنجحون الفائزون و الفلاح النجاح قال الشاعر:

اعقلي إن كنت لما تعقلي‏

فلقد أفلح من كان عقل‏

 

أي ظفر بحاجته و الفلاح أيضا البقاء قال لبيد:

نحل بلادا كلها حل قبلنا

و نرجو الفلاح بعد عاد و تبعا

 

و أصل الفلح القطع و منه قيل الفلاح للأكار [الحراث‏] لأنه يشق الأرض و في المثل الحديد بالحديد يفلح فالمفلح على هذا كأنه قطع له بالخير.

الإعراب‏

موضع أولئك رفع بالابتداء و الخبر «عَلى‏ هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ» و هو اسم مبني و الكاف حرف خطاب لا محل له من الإعراب و كسرت الهمزة فيه لالتقاء الساكنين و كذلك قوله‏ «وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» إلا أن قوله‏ «هُمُ» فيه وجهان (أحدهما) أنه فصل يدخل بين المبتدأ أو الخبر و ما كان في الأصل مبتدأ و خبرا للتأكيد و لا موضع له من الإعراب و الكوفيون يسمونه عمادا و إنما يدخل ليؤذن أن الاسم بعده خبر و ليس بصفة و إنما يدخل أيضا إذا كان الخبر معرفة أو ما أشبه المعرفة نحو قوله تعالى‏ «تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً»


124
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 125

و الوجه الآخر أن يكون هم مبتدأ ثانيا و المفلحون خبره و الجملة في موضع رفع بكونها خبر أولئك.

المعنى‏

لما وصف المتقين بهذه الصفات بين ما لهم عنده تعالى فقال‏ «أُولئِكَ» إشارة إلى الموصوفين بجميع الصفات المتقدمة و هم جملة المؤمنين‏ «عَلى‏ هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ» أي من دين ربهم و قيل على دلالة و بيان من ربهم و إنما قال‏ «مِنْ رَبِّهِمْ» لأن كل خير و هدى فمن الله تعالى أما لأنه فعله و أما لأنه عرض له بالدلالة عليه و الدعاء إليه و الإثابة على فعله و على هذا يجوز أن يقال الإيمان هداية منه تعالى و إن كان من فعل العبد ثم كرر تفخيما فقال‏ «وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» أي الظافرون بالغيبة و الباقون في الجنة.

النزول‏

قال مجاهد أربع آيات من أول السورة نزلت في المؤمنين و آيتان بعدها نزلت في الكافرين و ثلاث عشرة آية بعدها نزلت في المنافقين.

[سورة البقرة (2): آية 6]

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (6)

القراءة

قوله تعالى: «أَ أَنْذَرْتَهُمْ» فيه ثلاث قراءات قرأ عاصم و حمزة و الكسائي إذا حقق بهمزتين و قرأ أهل الحجاز و أبو عمر بالهمزة و المد و تليين الهمزة الثانية و الباقون يجعلونها بين بين و كذلك قراءة الكسائي إذا خففت و أبو عمرو أطول مدا من ابن كثير و اختلف في المد عن نافع و قرأ ابن عامر بألف بين همزتين و يجوز في العربية ثلاثة أوجه غيرها «أَ أَنْذَرْتَهُمْ» بتحقيق الهمزة الأولى و تخفيف الثانية بجعلها بين بين و أنذرتهم بهمزة واحدة و عليهم أنذرتهم على إلقاء حركة الهمزة على الميم نحو قد أفلح فيما روي عن نافع.

الحجة

أما وجه الهمزتين فهو أنه الأصل لأن الأولى همزة الاستفهام و الثانية همزة أفعل و أما إدخال الألف بين الهمزتين فمن قرأه أراد أن يفصل بين الهمزتين استثقالا لاجتماع المثلين كما فصل بين النونين في نحو أضربنان استثقالا لاجتماع النونات و منه قول ذي الرمة:

فيا ظبية الوعساء بين جلاجل‏

و بين النقاء أنت أم أم سالم‏

 

و أما من فصل بين الهمزتين و لين الثانية فوجهه التخفيف من جهتين الفصل و التليين لأنك إذا لينتها فقد أمتها و صار اللفظ كأنه لا استفهام فيه ففي المد توكيد الدلالة على‏


125
مجمع البيان في تفسير القرآن1

اللغة ..... ص : 126

الاستفهام كما في تحقيق الهمزة و أما من حقق الأولى و لين الثانية من غير فصل بالألف فهو القياس لأنه جعل التليين عوضا عن الفصل و أما من اكتفى بهمزة واحدة فإنه طرح همزة الاستفهام و هو ضعيف و قد جاء في الشعر قال عمر بن أبي ربيعة:

لعمرك ما أدري و إن كنت داريا

بسبع رمين الجمر أم بثمان‏

 

و أما من ألقى حركة الهمزة على الميم فإنه على تليين الأولى و تحقيق الثانية و العرب إذا لينوا الهمزة المتحركة و قبلها ساكن ألقوا حركتها على ما قبلها قالوا من بوك و من مك و كم بلك.

اللغة

الكفر خلاف الشكر كما أن الحمد خلاف الذم فالكفر ستر النعمة و إخفاؤها و الشكر نشرها و إظهارها و الشكر نشرها و إظهارها و كل ما ستر شيئا فقد كفره قال لبيد

(في ليلة كفر النجوم غمامها)

 

أي سترها و سواء مصدر أقيم مقام الفاعل كقولك زور و صوم و معناه مستو و الاستواء الاعتدال و السواء العدل قال زهير:

أروني خطة لا خسف فيها

يسوي بيننا فيها السواء

 

و قالوا سي بمعنى سواء كما قالوا قي و قواء و سيان أي مثلان و الإنذار إعلام معه تخويف فكل منذر معلم و ليس كل معلم منذرا و يوصف القديم تعالى بأنه منذر لأن الإعلام يجوز وصفه به و التخويف أيضا كذلك لقوله‏ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ‏ فإذا جاز وصفه بالمعنيين جاز وصفه بما يشتمل عليهما و أنذرت يتعدى إلى مفعولين كقوله‏ «إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً» و قد ورد إلى المفعول الثاني بالباء في قوله‏ قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ‏ و قيل الإنذار هو التحذير من مخوف يتسع زمانه للاحتراز منه فإن لم يتسع فهو أشعار.

الإعراب‏

إن حرف توكيد و هي تنصب الاسم و ترفع الخبر و إنما نصبت و رفعت لأنها تشبه الفعل لكونها على وزنه و لأنها توكيد و التوكيد من معاني الفعل و تشبهه في اتصال ضمير المتكلم نحو إنني و هي مبنية على الفتح كالفعل الماضي و إنما ألزمت تقديم المنصوب على المرفوع ليعلم أنها إنما عملت على جهة التشبيه فجعلت كفعل قدم مفعوله على فاعله و «الَّذِينَ كَفَرُوا» في موضع نصب لكونه اسم إن و كفروا صلة الذين و أما خبرها ففيه وجهان (أحدهما) أن يكون الجملة التي هي‏ «سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ» فعلى هذا يكون سواء يرتفع بالابتداء و كما بعده مما دخل عليه حرف الاستفهام في موضع الخبر و الجملة في موضع رفع بأنها خبر إن و يكون قوله‏ «لا يُؤْمِنُونَ» حالا من الضمير المنصوب‏


126
مجمع البيان في تفسير القرآن1

الإعراب ..... ص : 126

على حد معه صقر صائدا به و بالِغَ الْكَعْبَةِ و يستقيم أن يكون أيضا استئنافا و الوجه الثاني أن يكون لا يؤمنون خبر إن و يكون قوله‏ «سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ» اعتراضا بين الخبر و الاسم فلا يكون له موضع من الإعراب كما حكم على موضعه بالرفع بالوجه الأول فأما إذا قدرت هذا الكلام على ما عليه المعنى فقلت سواء عليهم الإنذار و تركه كان سواء خبر المبتدأ لأنه يكون تقديره الإنذار و تركه مستويان عليهم و إنما قلنا أنه مرتفع بالابتداء على ما عليه التلاوة لأنه لا يجوز أن يكون خبرا فإنه ليس في ظاهر الكلام مخبر عنه و إذا لم يكن مخبر عنه بطل أن يكون خبرا فإذا فسد ذلك ثبت أنه مبتدأ و أيضا فإنه قبل الاستفهام و ما قبل الاستفهام لا يكون داخلا في حيز الاستفهام فلا يجوز إذا أن يكون الخبر عما في الاستفهام متقدما على الاستفهام و نظير ما في الآية من أن خبر المبتدأ ليس المبتدأ و لا له فيه ذكر ما أنشده أبو زيد:

فإن حراما لا أرى الدهر باكيا

على شجوة إلا بكيت على عمرو

 

و قوله‏ «أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ» لفظه لفظ الاستفهام و معناه الخبر و هذه الهمزة تسمى ألف التسوية و التسوية آلتها همزة الاستفهام و أم تقول أ زيد عندك أم عمرو تريد أيهما عندك و لا يجوز في مكانها أو لأن أو لا يكون معادلة الهمزة و تفسير المعادلة أن تكون أم مع الهمزة بمنزلة أي فإذا قلت أ زيد عندك أو عمرو كان معناه أحد هذين عندك و يدل على ذلك أن الجواب مع زيد أم عمرو يقع بالتعيين و مع أ زيد أو عمرو يقع بنعم أو لا و إنما جرى عليه لفظ الاستفهام و إن كان خبرا لأن فيه التسوية التي في الاستفهام أ لا ترى أنك إذا قلت سواء علي أ قمت أم قعدت فقد سويت الأمرين عليك كما إنك إذا استفهمت فقلت أ قام زيد أم قعد فقد استوى الأمران عندك في الاستفهام و عدم علم أحدهما بعينه فلما عمتهما التسوية جرى على هذا الخبر لفظ الاستفهام لمشاركته له في الإبهام فكل استفهام تسوية و إن لم يكن كل تسوية استفهاما و قال النحويون إن نظير سواء في هذا قولك ما أبالي أقبلت أم أدبرت لأنه وقع موقع أي فكأنك قلت ما أبالي أي هذين كان منك و ما أدري أحسنت أم أسأت و ليت شعري أ قام أم قعد و قال حسان:

ما أبالي أنب بالحزن تيس‏

أم لحاني بظهر غيب لئيم‏

 

و مثله في أنه في صورة الاستفهام و هو خبر قول جرير:

أ لستم خير من ركب المطايا

و أندى العالمين بطون راح‏

 


127
مجمع البيان في تفسير القرآن1

النزول ..... ص : 128

و لو كان استفهاما لم يكن مدحا و قول الآخر:

سواء عليه أي حين أتيته‏

أ ساعة نحس تتقي أم بأسعد.

 

النزول‏

قيل نزلت في أبي جهل و خمسة من أهل بيته قتلوا يوم بدر عن الربيع بن أنس و اختاره البلخي و قيل نزلت في قوم بأعيانهم من أحبار اليهود ممن كفر بالنبي ص عنادا و كتم أمره حسدا عن ابن عباس و قيل نزلت في أهل الختم و الطبع الذين علم الله أنهم لا يؤمنون عن أبي علي الجبائي و قيل نزلت في مشركي العرب عن الأصم و قيل هي عامة في جميع الكفار أخبر تعالى بأن جميعهم لا يؤمنون و يكون كقول القائل لا يقدم جميع إخوتك اليوم فلا ينكر أن يقدم بعضهم و اختار الشيخ أبو جعفر قدس الله روحه أن يكون على الاختصاص و تجويز كل واحد من الأقوال الآخر و هذا أظهر و أسبق إلى الفهم.

المعنى‏

لما بين تعالى حال المؤمنين وصله بذكر الكافرين و الكفر في الشرع عبارة عن جحد ما أوجب الله تعالى معرفته من توحيده و عدله و معرفة نبيه و ما جاء به من أركان الشرع فمن جحد شيئا من ذلك كان كافرا و هذه الآية تدل على أن في المكلفين من لا لطف له لأنه لو كان لفعل و لآمنوا فلما أخبر أنهم لا يؤمنون علم أنهم لا لطف لهم و تدل على صدق النبي ص لأنه أخبر بأنهم لا يؤمنون فكان كما أخبر و تدل أيضا على أنه يجوز أن يخاطب الله تعالى بالعام و المراد به الخاص في قول من قال الآية عامة لأنا نعلم أن في الكفار من آمن و انتفع بالإنذار.

سؤال‏

إن قال قائل إذا علم الله تعالى بأنهم لا يؤمنون و كانوا قادرين على الإيمان عندكم فما أنكرتم أن يكونوا قادرين على إبطال علم الله بأنهم لا يؤمنون.

الجواب‏

أنه لا يجب ذلك كما أنه لا يجب إذا كانوا مأمورين بالإيمان أن يكونوا مأمورين بإبطال علم الله كما لا يجب إذا كان الله تعالى قادرا على أن يقيم القيامة الساعة أن يكون قادرا على إبطال علمه بأنه لا يقيمها الساعة و الصحيح أن نقول إن العلم يتناول الشي‏ء على ما هو به و لا يجعله على ما هو به فلا يمتنع أن يعلم حصول شي‏ء بعينه و إن كان غيره مقدورا.


128
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 7] ..... ص : 129

[سورة البقرة (2): آية 7]

خَتَمَ اللَّهُ عَلى‏ قُلُوبِهِمْ وَ عَلى‏ سَمْعِهِمْ وَ عَلى‏ أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (7)

القراءة

القراءة الظاهرة «غِشاوَةٌ» بكسر الغين و رفع الهاء و روي عن عاصم في الشواذ غشاوة بالنصب و عن الحسن بضم الغين و عن بعضهم بفتح الغين و عن بعضهم غشوة بغير ألف و قرأ أبو عمرو و الكسائي على أبصارهم بالإمالة و الباقون بالتفخيم و للقراء في الإمالة مذاهب يطول شرحها.

الحجة

حجة من رفع غشاوة أنه لم يحمله على ختم كما في الآية الأخرى‏ وَ خَتَمَ عَلى‏ سَمْعِهِ وَ قَلْبِهِ وَ جَعَلَ عَلى‏ بَصَرِهِ غِشاوَةً فإذا لم يحملها عليه قطعها عنه فكانت مرفوعة إما بالظرف و إما بالابتداء و كذلك قوله‏ «وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ» فإن عند سيبويه ترتفع غشاوة و عذاب بأنه مبتدأ فكأنه قال غشاوة على أبصارهم و عذاب لهم و عند الأخفش يرتفع بالظرف لأن الظرف يضمر فيه فعل و ستعرف فائدة اختلافهما في هذه المسألة بعد إن شاء الله تعالى و من نصب غشاوة فأما أن يحملها على ختم كأنه قال و ختم على أبصارهم بغشاوة فلما حذف حرف الجر وصل الفعل إليها فنصبها و هذا لا يحسن لأنه فصل بين حرف العطف و المعطوف به و ذلك إنما يجوز في الشعر و إما أن يحملها على فعل مضمر كأنه قال و جعل على أبصارهم غشاوة نحو قول الشاعر

(علفتها تبنا و ماء باردا)

 

أي و سقيتها و قول الآخر:

يا ليت بعلك قد غزا

متقلدا سيفا و رمحا

 

أي و حاملا رمحا و هذا أيضا لا يوجد في حال الاختيار فقد صح أن الرفع أولى و تكون الواو عاطفة جملة على جملة و الغشاوة فيها ثلاث لغات فتح الغين و ضمها و كسرها و كذلك الغشوة فيها ثلاث لغات.

اللغة

الختم نظير الطبع يقال طبع عليه بمعنى ختم عليه و يقال طبعه أيضا بغير حرف و لا يمتنع في ختم ذلك قال:

كان قرادى زورة طبعتهما

بطين من الجولان كتاب أعجم‏

 

و قوله‏ خِتامُهُ مِسْكٌ‏ أي آخره و منه ختم الكتاب لأنه آخر حال الفراغ منه و قوله‏ «عَلى‏ سَمْعِهِمْ» يريد على أسماعهم و السمع مصدر تقول يعجبني ضربكم أي ضروبكم فيوحد لأنه مصدر و يجوز أن يريد على مواضع سمعهم فحذفت مواضع و دل السمع عليها كما يقال‏


129
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 130

أصحابك عدل أي ذوو عدل و يجوز أن يكون لما أضاف السمع إليهم دل على معنى إسماعهم قال الشاعر:

بها جيف الحسرى فأما عظامها

فبيض و أما جلدها فصليب‏

 

و قال الآخر

(في حلقكم عظم و قد شجينا)

 

أي في حلوقكم و الغشاوة الغطاء و كل ما اشتمل على الشي‏ء بني على فعالة نحو العمامة و القلادة و العصابة و كذلك أسماء الصناعات كالخياطة و القصارة و الصياغة لأن معنى الصناعة الاشتمال على كل ما فيها و كذلك كل من استولى على شي‏ء فاسم ما استولى عليه الفعالة كالإمارة و الخلافة و غير ذلك و سمي القلب قلبا لتقلبه بالخواطر قال الشاعر:

ما سمي القلب إلا من تقلبه‏

و الرأي يعزب و الإنسان أطوار

 

و الفؤاد محل القلب و الصدر محل الفؤاد و قد يعبر عن القلب بمحله كقوله‏ «لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ» و قال‏ «أَ لَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ» يعني به القلب في الموضعين و العذاب استمرار الألم يقال عذبته تعذيبا و عذابا و يقال عذب الماء إذا استمر في الحلق و حمار عاذب و عذوب إذا استمر به العطش فلم يأكل من شدة العطش و فرس عذوب مثل ذلك و أعذبته عن الشي‏ء بمعنى فطمته و العظيم الكبير يقال هو عظيم الجثة و عظيم الشأن سمي سبحانه عظيما و عظمته كبرياؤه.

المعنى‏

قيل في معنى الختم وجوه (أحدها) أن المراد بالختم العلامة و إذا انتهى الكافر من كفره إلى حالة يعلم الله تعالى أنه لا يؤمن فإنه يعلم على قلبه علامة و قيل هي نكتة سوداء تشاهدها الملائكة فيعلمون بها أنه لا يؤمن بعدها فيذمونه و يدعون عليه كما أنه تعالى يكتب في قلب المؤمن الإيمان و يعلم عليه علامة تعلم الملائكة بها أنه مؤمن فيمدحونه و يستغفرون له و كما طبع على قلب الكافر و ختم عليه فوسمه بسمة تعرف بها الملائكة كفره فكذلك وسم قلوب المؤمنين بسمات تعرفهم الملائكة بها و قد تأول على مثل هذا مناولة الكتاب باليمين و الشمال في أنها علامة أن المناول باليمين من أهل الجنة و المناول بالشمال من أهل النار و قوله تعالى‏ «بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ» يحتمل أمرين أحدهما أنه طبع عليها جزاء للكفر و عقوبة عليه و الآخر أنه طبع عليها بعلامة كفرهم كما تقول طبع عليه بالطين و ختم عليه بالشمع (و ثانيها) أن المراد بالختم على القلوب إن الله شهد عليها و حكم بأنها لا تقبل الحق كما يقال أراك تختم على كل ما يقوله فلان أي تشهد


130
مجمع البيان في تفسير القرآن1

سؤال ..... ص : 131

به و تصدقه و قد ختمت عليك بأنك لا تفلح أي شهدت و ذلك استعارة (و ثالثها) أن المراد بذلك أنه تعالى ذمهم بأنها كالمختوم عليها في أنه لا يدخلها الإيمان و لا يخرج عنها الكفر كقوله‏ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ‏ و كقول الشاعر

(أصم عما ساءه سميع)

 

و قول الآخر:

لقد أسمعت لو ناديت حيا

و لكن لا حياة لمن تنادي‏

 

و المعنى أن الكفر تمكن من قلوبهم فصارت كالمختوم عليها و صاروا بمنزلة من لا يفهم و لا يبصر و لا يسمع عن الأصم و أبي مسلم الأصفهاني (و رابعها) أن الله وصف من ذمه بهذا الكلام بأن قلبه ضاق عن النظر و الاستدلال فلم ينشرح له فهو خلاف من ذكره في قوله‏ أَ فَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى‏ نُورٍ مِنْ رَبِّهِ‏ و مثل قوله‏ «أَمْ عَلى‏ قُلُوبٍ أَقْفالُها» و قوله‏ «وَ قالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ‏ و قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ» و يقوي ذلك أن المطبوع على قلبه وصف بقلة الفهم بما يسمع من أجل الطبع فقال‏ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا و قال‏ وَ طُبِعَ عَلى‏ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ‏ و يبين ذلك قوله تعالى‏ «قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَ أَبْصارَكُمْ وَ خَتَمَ عَلى‏ قُلُوبِكُمْ» فعدل الختم على القلوب بأخذه السمع و البصر فدل هذا على أن الختم على القلب هو أن يصير على وصف لا ينتفع به فيما يحتاج فيه إليه كما لا ينتفع بالسمع و البصر مع أخذهما و إنما يكون ضيقه بأن لا يتسع لما يحتاج إليه فيه من النظر و الاستدلال الفاصل بين الحق و الباطل و هذا كما يوصف الجبان بأنه لا قلب له إذا بولغ في وصفه بالجبن لأن الشجاعة محلها القلب فإذا لم يكن القلب الذي هو محل الشجاعة لو كانت فإن لا تكون الشجاعة أولى قال طرفة:

فالهبيت لا فؤاد له‏

و الثبيت قلبه قيمه‏

 

و كما وصف الجبان بأنه لا فؤاد له و أنه يراعة و أنه مجوف كذلك وصف من بعد عن قبول الإسلام بعد الدعاء إليه و إقامة الحجة عليه بأنه مختوم على قلبه و مطبوع عليه و ضيق صدره و قلبه في كنان و في غلاف و هذا من كلام الشيخ أبي علي الفارسي و إنما قال ختم الله و طبع الله لأن ذلك كان لعصيانهم الله تعالى فجاز ذلك اللفظ كما يقال أهلكته فلانة إذا أعجب بها و هي لا تفعل به شيئا لأنه هلك في اتباعها.

سؤال‏

إن قيل لم خص هذه الأعضاء بالذكر.

فالجواب‏

قيل إنها طرق العلم فالقلب محل العلم و طريقه إما السماع أو الرؤية.

[سورة البقرة (2): آية 8]

وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ ما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8)


131
مجمع البيان في تفسير القرآن1

اللغة ..... ص : 132

اللغة

الناس و البشر و الإنس نظائر و هي الجماعة من الحيوان المتميزة بالصورة الإنسانية و أصله أناس من الإنس و وزنه فعال فأسقطت الهمزة منها لكثرة الاستعمال إذا دخلها الألف و اللام للتعريف ثم أدغمت لام التعريف في النون كما قيل لكنا و الأصل لكن إنا و قيل الناس مأخوذة من النوس و هو الحركة و تصغيره نويس و وزنه فعل و قيل أخذ من الظهور فسمي ناسا و إنسانا لظهوره و إدراك البصر إياه يقال آنست ببصري شيئا و قال الله سبحانه إني آنست نارا و الإنسان واحد و الناس جمعه لا من لفظه و قيل أخذ من النسيان لقوله تعالى‏ «فَنَسِيَ وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً» و أصل الإنسان إنسيان و لذلك قيل في تحقيره و تصغيره أنيسيان فرد إلى الأصل و اليوم الآخر يوم القيامة و إنما سمي آخرا لأنه يوم لا يوم بعده سواه إذ ليس بعده ليلة و قيل لأنه متأخر عن أيام الدنيا و إنما فتح نون من عند التقاء الساكنين استثقالا لتوالي الكسرتين لو قلت من الناس فأما عن الناس فلا يجوز فيه إلا الكسر لأن أول عن مفتوح و من يقول النون تدغم في الياء فمنهم من يدغم بغنة و منهم من يدغم بغير غنة.

الإعراب‏

من يقول موصول و صلة و هو مرفوع بالابتداء أو بالظرف على ما تقدم بيانه و قوله‏ «آمَنَّا بِاللَّهِ وَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ» حديث يتعلق بقوله يقول و ما حرف شبه بليس من حيث يدخل على المبتدأ و الخبر كما يدخل ليس عليهما و فيه نفي الحال كما في ليس فأجري مجراه في العمل في قول أهل الحجاز على ما جاء به التنزيل و هم مرفوع لأنه اسم ما و الباء في قوله‏ «بِمُؤْمِنِينَ» مزيدة دخلت توكيدا للنفي و هو حرف جار و مؤمنين مجرور به و بمؤمنين في موضع نصب بكونه خبر ما و لفظة من تقع على الواحد و الاثنين و الجمع و المذكر و المؤنث و لذلك عاد الذكر إليه مجموعا على المعنى و منه قول الفرزدق:

تعال فإن عاهدتني لا تخونني‏

نكن مثل من يا ذئب يصطحبان‏

 

فثني الضمير العائد إلى من على المعنى.

النزول‏

نزلت في المنافقين و هم عبد الله بن أبي بن سلول و جد بن قيس و معتب بن قشير و أصحابهم و أكثرهم من اليهود.

المعنى‏

بين الله تعالى حالهم فأخبر سبحانه أنهم يقولون صدقنا بالله و ما أنزل على رسوله من ذكر البعث فيظهرون كلمة الإيمان و كان قصدهم أن يطلعوا على أسرار


132
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 9] ..... ص : 133

المسلمين فينقلوها إلى الكفار أو تقريب الرسول إياهم كما كان يقرب المؤمنين ثم نفى عنهم الإيمان فقال‏ «وَ ما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ» و في هذا تكذيبهم فيما أخبروا عن اعتقادهم من الإيمان و الإقرار بالبعث فبين أن ما قالوه بلسانهم مخالف لما في قلوبهم و هذا يدل على فساد قول من يقول الإيمان مجرد القول.

[سورة البقرة (2): آية 9]

يُخادِعُونَ اللَّهَ وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ ما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَ ما يَشْعُرُونَ (9)

القراءة

قرأ نافع و ابن كثير و أبو عمرو و ما يخادعون إلا أنفسهم و الباقون‏ «وَ ما يَخْدَعُونَ».

الحجة

حجة من قرأ «يَخْدَعُونَ» أن فعل هنا أليق بالموضع من فاعل الذي هو في أكثر الأمر يكون لفاعلين و يدل عليه قوله في الآية الأخرى‏ «يُخادِعُونَ اللَّهَ وَ هُوَ خادِعُهُمْ» و حجة من قرأ يخادعون هو أن ينزل ما يخطر بباله من الخدع منزلة آخر يجازيه ذلك و يعاوضه إياه فيكون الفعل كأنه من اثنين فيلزم أن يقول فاعل كقول الكميت و ذكر حمارا أراد الورود

يذكر من أنى و من أين شربه‏

يؤامر نفسية كذي الهجمة الإبل‏

 

فجعل ما يكون منه من وروده الماء أو تركه الورود و التمثيل بينهما بمنزلة نفسين.

اللغة

أصل الخدع الإخفاء و الإبهام بخلاف الحق و التزوير يقال خدعت الرجل أخدعه خدعا بالكسر و خديعة و قالوا إنك لأخدع من ضب حرشته و خادعت فلانا فخدعته و النفس في الكلام على ثلاثة أوجه النفس بمعنى الروح و النفس بمعنى التأكيد تقول جاءني زيد نفسه و النفس بمعنى الذات و هو الأصل و يقال النفس غير الروح و يقال هما اسمان بمعنى واحد و يشعرون يعلمون و أصل الشعر الإحساس بالشي‏ء من جهة تدق و من هذا اشتقاق الشعر لأن الشاعر يفطن لما يدق من المعنى و الوزن و لا يوصف الله تعالى بأنه يشعر لما فيه من معنى التلطف و التخيل.

الإعراب‏

يخادعون فعل و فاعل و النون علامة الرفع و الجملة في موضع نصب بكونها حالا و ذو الحال الضمير الذي في قوله‏ «آمَنَّا» العائد إلى من و الله نصب بيخادعون‏


133
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 134

و الذين آمنوا عطف و ما نفي و إلا إيجاب و أنفسهم نصب بأنه مفعول يخادعون الثانية و ما نفي و يشعرون فعل و فاعل و كل موضع يأتي فيه إلا بعد نفي فهو إيجاب و نقض للنفي.

المعنى‏

معنى قوله‏ «يُخادِعُونَ اللَّهَ» أي يعملون عمل المخادع لأن الله تعالى لا يصح أن يخادعه من يعرفه و يعلم أنه لا يخفى عليه خافية و هذا كما تقول لمن يزين لنفسه ما يشوبه بالرياء في معاملته ما أجهله يخادع الله و هو أعلم به من نفسه أي يعمل عمل المخادع و هذا يكون من العارف و غير العارف و قيل المعنى يخادعون رسول الله لأن طاعته طاعة الله و معصيته معصية الله فحذف المضاف و أقيم المضاف إليه مقامه و هذا كقوله تعالى‏ وَ إِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ‏ و المفاعلة قد تقع من واحد كقولهم عافاه الله و عاقبت اللص و طارقت النعل فكذلك يخادعون إنما هو من واحد فمعنى يخادعون يظهرون غير ما في نفوسهم و قوله‏ «وَ الَّذِينَ آمَنُوا» أي و يخادعون المؤمنين بقولهم إذا رأوهم قالوا آمنا و هم غير مؤمنين أو بمجالستهم و مخالطتهم إياهم حتى يفشوا إليهم أسرارهم فينقلوها إلى أعدائهم و التقية أيضا تسمى خداعا فكأنهم لما أظهروا الإسلام و أبطنوا الكفر صارت تقيتهم خداعا من حيث أنهم نجوا بها من إجراء حكم الكفر عليهم و معنى قوله‏ «وَ ما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ» أنهم و إن كانوا يخادعون المؤمنين في الظاهر فهم يخادعون أنفسهم لأنهم يظهرون لها بذلك أنهم يعطونها ما تمنت و هم يوردونها به العذاب الشديد فوبال خداعهم راجع إلى أنفسهم‏ «وَ ما يَشْعُرُونَ» أي ما يعلمون أنه يرجع عليهم بالعذاب فهم في الحقيقة إنما خدعوا أنفسهم كما لو قاتل إنسان غيره فقتل نفسه جاز أن يقال أنه قاتل فلانا و لم يقتل إلا نفسه و قوله‏ «وَ ما يَشْعُرُونَ» يدل على بطلان قول أصحاب المعارف لأنه تعالى أخبر عنهم بالنفاق و بأنهم لا يعلمون ذلك.

[سورة البقرة (2): آية 10]

فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (10)

القراءة

قرأ ابن عامر و حمزة فزادهم الله بإمالة الزاي و كذلك شاء و جاء و قرأ أهل الكوفة «يَكْذِبُونَ» بفتح الياء مخففا و الباقون يكذبون.

الحجة

حجة من أمال الألف من زاد أنه يريد أن يدل بالإمالة على أن العين ياء كما أبدلوا من الضمة كسرة في عين و بيض جمع أعين و أبيض لتصح الياء و لا تقلب إلى‏


134
مجمع البيان في تفسير القرآن1

اللغة ..... ص : 135

الواو و حجة من قرأ «يَكْذِبُونَ» أن يقول إن ذلك أشبه بما قبل الكلمة و ما بعدها لأن قولهم‏ آمَنَّا بِاللَّهِ‏ كذب منهم فلهم عذاب أليم بكذبهم و ما و صلته بمعنى المصدر و في قولهم فيما بعد إِذا خَلَوْا إِلى‏ شَياطِينِهِمْ (قالُوا) إِنَّا مَعَكُمْ‏ دلالة أيضا على كذبهم فيما ادعوه من إيمانهم و إذا كان أشبه بما قبله و ما بعده كان أولى و حجة من قرأ يكذبون بالتشديد قوله‏ «وَ لَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ» و قوله‏ «وَ إِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي» و قوله‏ «بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ» و قوله‏ «وَ إِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ» و نحو ذلك و التكذيب أكثر من الكذب لأن كل من كذب صادقا فقد كذب و ليس كل من كذب مكذبا فكأنه قال و لهم عذاب أليم بتكذيبهم و أدخل كان ليدل على أن ذلك كان فيما مضى.

اللغة

المرض العلة في البدن و نقيضه الصحة قال سيبويه أمرضته جعلته مريضا و مرضته قمت عليه و وليته و زاد فعل يتعدى إلى مفعولين قال الله تعالى‏ «وَ زِدْناهُمْ هُدىً» و «زادَهُ بَسْطَةً» و مصدره الزيادة و الزيد قال‏

(كذلك زيد المرء بعد انتقاصه)

 

و الأليم الموجع فعيل بمعنى مفعل كالسميع بمعنى المسمع و النذير بمعنى المنذر و البديع بمعنى المبدع قال ذو الرمة

(يصك وجوهها وهج أليم)

 

و الكذب ضد الصدق و هو الإخبار عن الشي‏ء لا على ما هو به و الكذب ضرب من القول و هو نطق فإذا جاز في القول أن يتسع فيه فيجعل غير نطق في نحو قوله‏

(قد قالت الأنساع للبطن الحقي)

 

جاز أيضا في الكذب أن يجعل غير نطق في نحو قوله:

و ذبيانية وصت بنيها

بأن كذب القراطف و القروف‏

 

فيكون في ذلك انتفاء لها كما أنه إذا أخبر عن الشي‏ء بخلاف ما هو به كان فيه انتفاء للصدق أي كذب القراطف فأوجدوها بالغارة.

المعنى‏

«فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ» المراد بالمرض في الآية الشك و النفاق بلا خلاف و إنما سمي الشك في الدين مرضا لأن المرض هو الخروج عن حد الاعتدال فالبدن ما لم تصبه آفة يكون صحيحا سويا و كذلك القلب ما لم تصبه آفة من الشك يكون صحيحا و قيل أصل المرض الفتور فهو في القلب فتوره عن الحق كما أنه في البدن فتور الأعضاء و تقدير الآية في اعتقاد قلوبهم الذي يعتقدونه في الله و رسوله مرض أي شك حذف المضاف‏


135
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): الآيات 11 الى 12] ..... ص : 136

و أقيم المضاف إليه مقامه و قوله‏ «فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً» قيل فيه وجوه (أحدها) أن معناه ازدادوا شكا عند ما زاد الله من البيان بالآيات و الحجج إلا أنه لما حصل ذلك عند فعله نسب إليه كقوله تعالى في قصة نوح (ع) «فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً» لما ازدادوا فرارا عند دعاء نوح (ع) نسب إليه و كذلك قوله‏ «وَ أَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ» الآيات لم تزدهم رجسا و إنما ازدادوا رجسا عندها (و ثانيها) ما قاله أبو علي الجبائي أنه أراد في قلوبهم غم بنزول النبي ص المدينة و بتمكنه فيها و ظهور المسلمين و قوتهم فزادهم الله غما بما زاده من التمكين و القوة و أمده به من التأييد و النصرة (و ثالثها) ما قاله السدي إن معناه زادتهم عداوة الله مرضا و هذا في حذف المضاف مثل قوله تعالى‏ «فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ» أي من ترك ذكر الله (و رابعها) أن المراد في قلوبهم حزن بنزول القرآن بفضائحهم و مخازيهم فزادهم الله مرضا بأن زاد في إظهار مقابحهم و مساويهم و الإخبار عن خبث سرائرهم و سوء ضمائرهم و سمي الغم مرضا لأنه يضيق الصدر كما يضيقه المرض (و خامسها) ما قاله أبو مسلم الأصفهاني أن ذلك على سبيل الدعاء عليهم كقوله تعالى‏ «ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ» فكأنه دعاء عليهم بأن يخليهم الله و ما اختاروه و لا يعطيهم من زيادة التوفيق و الألطاف ما يعطي المؤمنين فيكون خذلانا لهم و هو في الحقيقة إخبار عن خذلان الله إياهم و إن خرج في اللفظ مخرج الدعاء عليهم ثم قال‏ «وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» و هو عذاب النار «بِما كانُوا يَكْذِبُونَ» أي بتكذيبهم الله و رسوله فيما جاء به من الدين أو بكذبهم في قولهم‏ «آمَنَّا بِاللَّهِ وَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ ما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ».

[سورة البقرة (2): الآيات 11 الى 12]

وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَ لكِنْ لا يَشْعُرُونَ (12)

القراءة

قرأ الكسائي قيل و غيض و سي‏ء و سيئت و حيل و سيق و جي‏ء بضم أوائل ذلك كله و روي عن يعقوب مثل ذلك و وافقهما نافع في سي‏ء و سيئت و ابن عامر فيهما و في حيل و سيق و الباقون يكسرون كلها.

الحجة

في هذه كلها ثلاث لغات الكسر و إشمام الضم و قول بالواو فأما قيل بالكسر فعلى نقل حركة العين إلى الفاء لأن أصله قول ثم قلبت الواو ياء لسكونها و انكسار ما قبلها و هو قياس مطرد في كل ما اعتلت عينه و أما الإشمام فلأجل الدلالة على الأصل‏


136
مجمع البيان في تفسير القرآن1

اللغة ..... ص : 137

مع التخفيف.

اللغة

الإفساد إحداث الفساد و هو كل ما تغير عن استقامة الحال و الصلاح نقيض الفساد و الأرض مستقر الحيوان و يقال لقوائم الفرس أرض لأنه يستقر عليها قال:

إذا ما استحمت أرضه من سمائه‏

جرى و هو مودوع و واعد مصدق‏

 

. الإعراب‏

إذا لفظة وضعت للوقت بشرط أن يكون ظرفا زمانيا و فيها معنى الشرط و إنما يعمل فيها جوابها ففي هذه الآية إذا في محل نصب لأنه ظرف قالوا لأنه الجواب و لا يجوز أن يعمل فيه قيل لهم لأن إذا في التقدير مضاف إلى قيل و المضاف إليه لا يعمل في المضاف و كذلك قوله‏ «وَ إِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا» و إذا مبني و إنما بني لتضمنه معنى في و لزومه إياه و قد يكون إذا ظرفا مكانيا في نحو قولك خرجت فإذا الناس وقوف أي ففي المكان الناس وقوف و يجوز أن ينصب وقوفا على الحال لأن ظرف المكان يجوز أن يكون خبرا عن الجثة و قيل مبني على الفتح و كذلك كل فعل ماض فمبني على الفتح و لا حرف نهي و هي تعمل الجزم في الفعل و تفسدوا مجزوم بلا و علامة الجزم فيه سقوط النون و الواو ضمير الفاعلين و ما في قوله‏ «إِنَّما» كافة كفت إن عن العمل فعاد ما بعدها إلى ما كان عليه في الأصل من كونه مبتدأ و خبرا و هو قوله‏ «نَحْنُ مُصْلِحُونَ» فنحن مبتدأ و مصلحون خبره و موضع الجملة نصب بقالوا كما تقول قلت حقا أو باطلا و نحن مبنية لمشابهتها للحروف و بنيت على الضم لأنها من ضمائر الرفع و الضمة علامة الرفع لأنها ضمير الجمع و الضمة بعض الواو و الواو علامة الجمع في نحو ضاربون و يضربون و قوله‏ «لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ» جملة في موضع رفع على تقدير قيل لهم شي‏ء فهي اسم ما لم يسم و قوله إلا كلمة تنبيه و افتتاح للكلام تدخل على كل كلام مكتف بنفسه نحو قوله‏ أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ‏ و أصله لا دخل عليه ألف الاستفهام و الألف إذا دخل على الجحد أخرجه إلى معنى التقرير و التحقيق كقوله‏ «أَ لَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى‏ أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى‏» لأنه لا يجوز للمجيب إلا الإقرار ببلى و هم في إنهم في موضع نصب بأن و هم الآخر يجوز أن يكون فصلا على ما فسرناه قبل و يجوز أن يكون مبتدأ و المفسدون خبره و الجملة خبر إن و ضم الميم من هم لالتقاء الساكنين ردوه إلى الأصل.


137
مجمع البيان في تفسير القرآن1

الإعراب ..... ص : 137

النزول‏

الآية نزلت في المنافقين الذين نزلت فيهم الآيات المتقدمة و روي عن سلمان رضي الله عنه أن أهل هذه الصفة لم يأتوا بعد و الأول يقتضيه نظم الكلام و يجوز أن يراد بها من صورتهم صورة هؤلاء فيكون قول سلمان محمولا على أنه أراد بعد انقراض المنافقين الذين تناولتهم الآية.

المعنى‏

المراد «وَ إِذا قِيلَ» للمنافقين‏ «لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ» بعمل المعاصي و صد الناس عن الإيمان على ما روي عن ابن عباس أو بممالأة الكفار فإن فيه توهين الإسلام على ما قاله أبو علي أو بتغيير الملة و تحريف الكتاب على ما قاله الضحاك‏ «قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ» و هو يحتمل أمرين أحدهما أن الذي يسمونه فسادا هو عندنا صلاح لأنا إنما نفعل ذلك كي نسلم من الفريقين و الآخر أنهم جحدوا ذلك و قالوا أنا لا نعمل بالمعاصي و لا نمالئ الكفار و لا نحرف الكتاب و كان ذلك نفاقا منهم كما قالوا «آمَنَّا بِاللَّهِ» و لم يؤمنوا ثم قال إلا أنهم أي اعلموا أن هؤلاء المنافقين الذين يعدون الفساد صلاحا «هُمُ الْمُفْسِدُونَ» و هذا تكذيب من الله تعالى لهم‏ «وَ لكِنْ لا يَشْعُرُونَ» أي لا يعلمون أن ما يفعلونه فساد و ليس بصلاح و لو علموا ذلك لرجي صلاحهم و قيل لا يعلمون ما يستحقونه من العقاب و هذه الآية تدل على بطلان مذهب أصحاب المعارف لقوله‏ «لا يَعْلَمُونَ» و إنما جاز تكليفهم و إن لم يشعروا أنهم على ضلال لأن لهم طريقا إلى العلم بذلك.

[سورة البقرة (2): آية 13]

وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَ نُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَ لكِنْ لا يَعْلَمُونَ (13)

القراءة

«السُّفَهاءُ» إلا أهل الكوفة و ابن عامر حققوا الهمزتين و أهل الحجاز و أبو عمرو همزوا الأولى و لينوا الثانية و كذا كل همزتين مختلفتين من كلمتين و قد ذكرنا الوجه فيها حيث ذكرنا اجتماع الهمزتين في كلمة واحدة و هو قوله: «أنذرتهم» ..

اللغة

السفهاء جمع سفيه و السفيه الضعيف الرأي الجاهل القليل المعرفة بمواضع المنافع و المضار و لذلك سمى الله الصبيان و النساء سفهاء بقوله‏ «وَ لا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً» و قال قطرب السفيه العجول الظلوم القائل خلاف الحق‏


138
مجمع البيان في تفسير القرآن1

الإعراب ..... ص : 139

و قال مؤرج السفيه الكذاب البهات المتعمد بخلاف ما يعلم و قيل السفه خفة الحلم و كثرة الجهل يقال ثوب سفيه إذا كان رقيقا باليا و سفهته الرياح أي طيرته و

قد جاء في الأخبار أن شارب الخمر سفيه‏

و الألف و اللام في الناس و في السفهاء للعهد لا للجنس و المراد بهم المؤمنون من أصحاب النبي ص و إنما سموا الناس لأن الغلبة كانت لهم.

الإعراب‏

قوله‏ «كَما آمَنَ» الكاف في موضع نصب بكونه صفة لمصدر محذوف و ما مع صلته بمعنى المصدر أي آمنوا إيمانا مثل إيمان الناس فحذف الموصوف و أقام الصفة مقامه و الهمزة في أ نؤمن للإنكار و أصلها الاستفهام و مثله‏ أَ نُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ‏ و إذا ظرف لقوله‏ «قالُوا أَ نُؤْمِنُ» و قد مضى الكلام فيه.

المعنى‏

المراد بالآية و إذا قيل للمنافقين صدقوا بمحمد ص و ما أنزل عليه كما صدقه أصحابه و قيل كما صدق عبد الله بن سلام و من آمن معه من اليهود قالوا أ نصدق كما صدق الجهال ثم كذبهم الله تعالى و حكم عليهم بأنهم هم الجهال في الحقيقة لأن الجاهل إنما يسمى سفيها لأنه يضيع من حيث يرى أنه يحفظ فكذلك المنافق يعصي ربه من حيث يظن أنه يطيعه و يكفر به من حيث يظن أنه يؤمن به.

[سورة البقرة (2): آية 14]

وَ إِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَ إِذا خَلَوْا إِلى‏ شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (14)

القراءة

بعض القراء ترك الهمزة من‏ «مُسْتَهْزِؤُنَ» و قوله‏ «خَلَوْا إِلى‏» قراءة أهل الحجاز خلو لي حذفوا الهمزة و ألقوا حركتها على الواو قبلها و كذلك أمثاله و الباقون أسكنوا الواو و حققوا الهمزة.

الحجة

قال سيبويه الهمزة المضمومة المكسور ما قبلها تجعلها إذا خففتها بين بين و كذلك الهمزة المكسورة إذا كان ما قبلها مضموما نحو مرتع إبلك تجعلها بين بين و ذهب الأخفش إلى أن تقلب الهمزة ياء في مستهزيون قلبا صحيحا من أجل الكسرة التي قبلها و لا تجعلها بين بين و لا تقلبها واوا مع تحركها بالضمة لخروجه إلى ما لا نظير له أ لا ترى أنه واو مضمومة قبلها كسرة و ذلك مرفوض عندهم.

اللغة

اللقاء نقيض الحجاب قال الخليل كل شي‏ء استقبل شيئا أو صادفه فقد لقيه و أصل اللقاء الاجتماع مع الشي‏ء على طريق المقاربة و الاجتماع قد يكون لا على‏


139
مجمع البيان في تفسير القرآن1

الإعراب ..... ص : 140

طريق المجاورة كاجتماع العرضين في محل و الخلأ نقيض الملأ و يقال خلوت إليه و خلوت معه و يقال خلوت به على ضربين أحدهما بمعنى خلوت معه و الآخر بمعنى سخرت منه و قد ذكرنا معنى الشيطان في مفتتح سورة الفاتحة و يستهزءون أي يهزءون و مثله يستسخرون أي يسخرون و قر و استقر و علا قرنه و استعلى قرنه و رجل هزاءة يهزأ بالناس و هزأة يهزأ به الناس و هذا قياس.

الإعراب‏

«إِنَّا» أصله إننا لكن النون حذفت لكثرة النونات و المحذوفة النون الثانية من إن لأنها التي تحذف في نحو وَ إِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ‏ و قد جاء على الأصل في قوله‏ «إِنَّنِي مَعَكُما» و معكم انتصب انتصاب الظروف نحو إنا خلفكم أي إنا مستقرون معكم و القراءة بفتح العين و يجوز للشاعر إسكان العين قال:

و ريشي منكم و هواي معكم‏

و إن كانت زيارتكم لماما.

 

المعنى‏

«وَ إِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا» يعني أن المنافقين إذا رأوا المؤمنين‏ «قالُوا آمَنَّا» أي صدقنا نحن بما أنزل على محمد ص كما صدقتم أنتم و «إِذا خَلَوْا إِلى‏ شَياطِينِهِمْ» قيل رؤساؤهم من الكفار عن ابن عباس و قيل هم اليهود الذين أمروهم بالتكذيب و

روي عن أبي جعفر الباقر ع‏ أنهم كهانهم‏

«قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ» أي على دينكم‏ «إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ» أي نستهزئ بأصحاب محمد ص و نسخر بهم في قولنا آمنا.

[سورة البقرة (2): آية 15]

اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَ يَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15)

اللغة

المد أصله الزيادة في الشي‏ء و المد الجذب لأنه سبب الزيادة في الطول و المادة كل شي‏ء يكون مددا لغيره و قال بعضهم كل زيادة حدثت في الشي‏ء من نفسه فهو مددت بغير ألف كما تقول مد النهر و مده نهر آخر و كل زيادة أحدثت في الشي‏ء من غيره فهو أمددت بالألف كما يقال أمد الجرح لأن المدة من غير الجرح و أمددت الجيش و الطغيان من قولك طغى الماء يطغى إذا تجاوز الحد و الطاغية الجبار العنيد و العمة التحير يقال عمه يعمه فهو عمه و عامة قال رؤبة:


140
مجمع البيان في تفسير القرآن1

الإعراب ..... ص : 141

 

و مهمة أطرافه في مهمة

أعمى الهدى بالحائرين العمة

 

. الإعراب‏

 

مجمع البيان فى تفسير القرآن    ج‏1    141    

«يَعْمَهُونَ» جملة في موضع الحال.

و المعنى‏

قيل في معنى الآية و تأويلها وجوه أحدها أن يكون معنى‏ «اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ» يجازيهم على استهزائهم و العرب تسمي الجزاء على الفعل باسمه و في التنزيل‏ وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها وَ إِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ‏ و قال عمرو بن كلثوم:

ألا لا يجهلن أحد علينا

فنجهل فوق جهل الجاهلينا

 

و إنما جاز ذلك لأن حكم الجزاء أن يكون على المساواة (و ثانيها) أن يكون معنى استهزاء الله تعالى بهم تخطئته إياهم و تجهيله لهم في إقامتهم على الكفر و إصرارهم على الضلال و العرب تقيم الشي‏ء مقام ما يقاربه في معناه قال الشاعر:

إن دهرا يلف شملي بجمل‏

لزمان يهم بالإحسان‏

 

و قال آخر:

كم أناس في نعيم عمروا

في ذري ملك تعالى فبسق‏

 

سكت الدهر زمانا عنهم‏

ثم أبكاهم دما حين نطق‏

 

و الدهر لا يوصف بالسكوت و النطق و الهم و إنما ذكر ذلك على الاستعارة و التشبيه (و ثالثها) أن يكون معنى الاستهزاء المضاف إليه تعالى أن يستدرجهم و يهلكهم من حيث لا يعلمون و قد روي عن ابن عباس أنه قال في معنى الاستدراج أنهم كلما أحدثوا خطيئة جدد الله لهم نعمة و إنما سمي هذا الفعل استهزاء لأن ذلك في الظاهر نعمة و المراد به استدراجهم إلى الهلاك و العقاب الذي استحقوه بما تقدم من كفرهم (و رابعها) أن معنى استهزائه بهم أنه جعل لهم بما أظهروه من موافقة أهل الإيمان ظاهر أحكامهم من الموارثة و المناكحة و المدافنة و غير ذلك من الأحكام و إن كان قد أعد لهم في الآخرة أليم العقاب بما أبطنوه من النفاق فهو سبحانه كالمستهزئ بهم من حيث جعل لهم أحكام المؤمنين ظاهرا ثم ميزهم منهم في الآخرة (و خامسها) ما روي عن ابن عباس أنه قال يفتح لهم و هم في النار باب من الجنة فيقبلون من النار إليه مسرعين حتى إذا انتهوا إليه سد عليهم و فتح لهم باب آخر في موضع آخر فيقبلون من النار إليه مسرعين حتى إذا انتهوا إليه سد


141
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 16] ..... ص : 142

عليهم فيضحك المؤمنون منهم فلذلك قال الله عز و جل: «فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ» و هذه الوجوه الذي ذكرناها يمكن أن تذكر في قوله تعالى: «وَ يَمْكُرُونَ وَ يَمْكُرُ اللَّهُ» و «يُخادِعُونَ اللَّهَ وَ هُوَ خادِعُهُمْ» و أما قوله‏ «وَ يَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ» ففيه وجهان:

(أحدهما) أن يريد أن يملي لهم ليؤمنوا و هم مع ذلك متمسكون بطغيانهم و عمههم و الآخر أنه يريد أن يتركهم من فوائده و منحه التي يؤتيها المؤمنين ثوابا لهم و يمنعها الكافرين عقابا لهم كشرح الصدر و تنوير القلب فهم في طغيانهم أي كفرهم و ضلالهم يعمهون أي يتحيرون لأنهم قد أعرضوا عن الحق فتحيروا و ترددوا.

[سورة البقرة (2): آية 16]

أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى‏ فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَ ما كانُوا مُهْتَدِينَ (16)

القراءة

قرأ جميع القراء «اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ» بضم الواو و في الشواذ عن يحيى بن يعمر أنه كسرها تشبيها بواو لو في قوله‏ لَوِ اسْتَطَعْنا و روي عن يحيى بن وثاب أنه ضم واو لو و أو تشبيها بواو الجمع.

الحجة

الواو في‏ «اشْتَرَوُا» ساكنة فإذا سقطت همزة الوصل التقت مع الساكن المبدل من لام المعرفة فالتقى ساكنان فحرك الأول منهما لالتقائهما و صار الضم أولى بها ليفصل بالضم بينها و بين واو" لو" و" أو" يدل على ذلك اتفاقهم على التحريك بالضم في نحو قوله‏ «لَتُبْلَوُنَّ» و «لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ» و مصطفو الله للدلالة على الجمع و يدل على تقرير ذلك في هذه الواو أنهم شبهوا بها الواو التي في أو و لو فحركوها بالضم تشبيها بها فكما شبهوا الواو التي في أو بالتي تدل على الجمع كذلك شبهوا هذه بها فأجازوا فيها الكسر أ لا ترى أنهم أجازوا الضم في‏ لَوِ اسْتَطَعْنا تشبيها بالتي للجمع و مثل هذا إجازتهم الجر في الضارب الرجل تشبيها بالحسن الوجه و إجازتهم النصب في الحسن الوجه تشبيها بالضارب الرجل.

اللغة

حقيقة الاشتراء الاستبدال و العرب تقول لمن تمسك بشي‏ء و ترك غيره قد اشتراه و ليس ثم شراء و لا بيع قال الشاعر:

أخذت بالجمعة رأسا أزعرا

و بالثنايا الواضحات الدردرا

 

و بالطويل العمر عمرا جيدرا

كما اشترى المسلم إذ تنصرا

 


142
مجمع البيان في تفسير القرآن1

الإعراب ..... ص : 143

و الربح الزيادة على رأس المال و منه (و من نجا برأسه فقد ربح) و التجارة التعرض للربح في البيع و قوله‏ «فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ» أي فما ربحوا في تجارتهم و العرب تقول ربح بيعك و خسر بيعك و خاب بيعك على معنى ربحت في بيعك و إنما أضافوا الربح إلى التجارة لأن الربح يكون فيها.

الإعراب‏

«أُولئِكَ» موضعه رفع بالابتداء و خبره‏ «الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى‏» و ما حرف نفي و كان صورته صورة الفعل و يستعمل على نحوين أحدهما أن لا يدل على حدث بل يدل على زمان مجرد مثل كان زيد قائما فإذا استعمل على هذا فلا بد له من خبر لأن الجملة غير مكتفية بنفسها فيزداد خبر حديثا عن الاسم و يكون اسمه و خبره في الأصل مبتدأ و خبرا فيجب لذلك أن يكون خبره هو الاسم أو فيه ذكر منه كما أن في الآية الواو في موضع الرفع لأنه اسم كان و مهتدين منصوب بأنه خبره و الياء فيه علامة النصب و الجمع و حرف الإعراب و النون عوض من الحركة و التنوين في الواحد و كان في الأصل مهتديين سكنت الياء الأولى التي هي لام الفعل استثقالا للحركة عليها ثم حذفت لالتقاء الساكنين و فتحت النون فرقا بينها و بين نون التثنية و الآخر من نحوي كان ما هو فعل حقيقي يدل على زمان و حدث كقوله تعالى: «إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً» أي تحدث فإذا استعمل هكذا فهي جملة مستقلة لا تحتاج إلى خبر.

المعنى‏

أشار إلى من تقدم ذكرهم من المنافقين فقال: «أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى‏» قال ابن عباس أخذوا الضلالة و تركوا الهدى و معناه استبدلوا الكفر بالإيمان و متى قيل كيف قال ذلك و إنما كانوا منافقين و لم يتقدم نفاقهم إيمانا فنقول للعلماء فيه وجوه (أحدها) أن المراد باشتروا استحبوا و اختاروا لأن كل مشتر مختار ما في يدي صاحبه على ما في يديه عن قتادة (و ثانيها)

أنهم ولدوا على الفطرة كما جاء في الخبر

فتركوا ذلك إلى الكفر فكأنهم استبدلوه به (و ثالثها) أنهم استبدلوا بالإيمان الذي كانوا عليه قبل البعثة كفرا لأنهم كانوا يبشرون بمحمد و يؤمنون به ص فلما بعث كفروا به فكأنهم استبدلوا الكفر بالإيمان عن الكلبي و مقاتل و قوله‏ «فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ» أي خسروا في استبدالهم الكفر بالإيمان و العذاب بالثواب و قوله: «وَ ما كانُوا مُهْتَدِينَ» أي مصيبين في تجارتهم كأصحاب محمد ص و قيل أراد سبحانه أن ينفي عنهم‏


143
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 17] ..... ص : 144

الربح و الهداية فإن التاجر قد يخسر و لا يربح و يكون على هدى فإن قيل كيف قال‏ «فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ» في موضع ذهبت فيه رءوس أموالهم فالجواب أنه ذكر الضلالة و الهدى فكأنه قال طلبوا الربح فلم يربحوا و هلكوا و المعنى فيه أنه ذهبت رءوس أموالهم و يحتمل أن يكون ذكر ذلك على التقابل و هو أن الذين اشتروا الضلالة بالهدى لم يربحوا كما أن الذين اشتروا الهدى بالضلالة ربحوا ..

[سورة البقرة (2): آية 17]

مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَ تَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (17)

اللغة

المثل و المثل و الشبه نظائر و حقيقة المثل ما جعل كالعلم على معنى سائر يشبه فيه الثاني بالأول و مثاله قول كعب بن زهير:

كانت مواعيد عرقوب لنا مثلا

و ما مواعيده إلا الأباطيل‏

 

فمواعيد عرقوب علم في كل ما لا يصح من المواعيد و منه التمثال لأنه يشبه الصورة و الذي قد يوضع موضع الجمع كقوله تعالى: «وَ الَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَ صَدَّقَ بِهِ» ثم قال‏ «أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ» قال الشاعر:

و إن الذي حانت بفلج دماؤهم‏

هم القوم كل القوم يا أم خالد

 

و استوقد بمعنى أوقد مثل استجاب بمعنى أجاب و قيل استوقد أي طلب الوقود و الوقود بفتح الواو الحطب و النار جوهر مضي‏ء حار محرق و أصله من النور يقال نار و أنار و استنار بمعنى و المنارات العلامات و أضاء يكون لازما و متعديا يقال أضاء الشين بنفسه و أضاء غيره و الذي في الآية متعد و الترك للشي‏ء و الكف عنه و الإمساك نظائر و الظلمات جمع ظلمة و أصلها انتقاص الحق من قوله‏ وَ لَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً أي لم تنقص و منه و من أشبه أباه فما ظلم أي ما انتقص حق الشبه و الإبصار إدراك الشي‏ء بحاسة البصر يقال أبصر بعينه و الإبصار بالقلب مشبه به.

الإعراب‏

مثلهم مبتدأ و كمثل الذي خبره و الكاف زائدة تقديره مثلهم مثل الذي استوقد نارا و نحوه قوله‏ «لَيْسَ كَمِثْلِهِ» أي ليس مثله شي‏ء و استوقد نارا و ما اتصل به من‏


144
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 145

صلة الذي و العائد إلى المضمر الذي في استوقد و لما يدل على وقوع الشي‏ء لوقوع غيره و هو بمعنى الظرف و العامل فيه جوابه و تقديره فلما أضاءت ما حوله طفئت أي طفئت حين أضاءت و ما في قوله‏ «ما حَوْلَهُ» اسم موصول منصوب بوقوع الإضاءة عليه و حوله نصب على الظرف و هو صلة ما يقال هم حوله و حوليه و حوالة و حواليه و قوله‏ «ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ» أي أذهب الله نورهم و الفعل الذي لا يتعدى يتعدى إلى المفعول بحرف الجر و بهمزة النقل و الباء في قوله‏ «بِنُورِهِمْ» يتعلق بذهب و «فِي ظُلُماتٍ» يتعلق بتركهم و قوله‏ «لا يُبْصِرُونَ» في موضع نصب على الحال و العامل فيه تركهم أي تركهم غير مبصرين.

المعنى‏

«مَثَلُهُمْ» أي مثل هؤلاء المنافقين لما أظهروا الإيمان و أبطنوا الكفر «كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ» أي أوقد نارا أو كمثل الذي طلب الضياء بإيقاد النار في ليلة مظلمة فاستضاء بها و استدفأ و رأى ما حوله فاتقى ما يحذر و يخاف و أمن فبينا هو كذلك إذا طفئت ناره فبقي مظلما خائفا متحيرا كذلك المنافقون لما أظهروا كلمة الإيمان و استناروا بنورها و اعتزوا بعزها فناكحوا المسلمين و وارثوهم و أمنوا على أموالهم و أولادهم فلما ماتوا عادوا إلى الظلمة و الخوف و بقوا في العذاب و ذلك معنى قوله‏ «فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ» و هذا هو المروي عن ابن عباس و قتادة و الضحاك و السدي و كان يجب في حق النظم أن يكون اللفظ فلما أضاءت ما حوله أطفأ الله ناره ليشاكل جواب لما معنى هذه القضية و لكن لما كان إطفاء هذه النار مثلا لإذهاب نورهم أقيم إذهاب النور مقام الإطفاء و حذف جواب لما إيجازا و اختصارا لدلالة الكلام عليه كما قال أبو ذؤيب:

دعاني إليها القلب إني لأمره‏

مطيع فما أدري أ رشد طلابها

 

و تقديره أ رشد أم غي طلابها فحذف للإيجاز و معنى إذهاب الله نورهم هو أن الله تعالى يسلبهم ما أعطوا من النور مع المؤمنين في الآخرة و ذلك قوله تعالى فيما أخبر عنهم‏ «انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً» و قيل في معنى إذهاب نور المنافقين وجه آخر و هو اطلاع الله المؤمنين على كفرهم فقد ذهب منهم نور الإسلام بما أظهر الله من كفرهم و قال سعيد بن جبير و محمد بن كعب و عطا الآية نزلت في اليهود و انتظارهم خروج النبي ص و إيمانهم به و استفتاحهم به على مشركي العرب فلما خرج كفروا به و ذلك أن قريظة و النضير و بني قينقاع قدموا من الشام إلى يثرب حين انقطعت النبوة من بني إسرائيل و أفضت إلى العرب فدخلوا المدينة يشهدون لمحمد ص‏


145
مجمع البيان في تفسير القرآن1

سؤال ..... ص : 146

بالنبوة و أن أمته خير الأمم و كان يغشاهم رجل من بني إسرائيل يقال له عبد الله بن هيبان قبل أن يوحى إلى النبي ص كل سنة فيحضهم على طاعة الله عز و جل و إقامة التوراة و الإيمان بمحمد ص و يقول إذا خرج فلا تفرقوا عليه و انصروه و قد كنت أطمع أن أدركه ثم مات قبل خروج النبي ص فقبلوا منه ثم لما خرج النبي ص كفروا به فضرب الله لهم هذا المثل.

سؤال‏

كيف الله شبه المنافقين أو اليهود و هم جماعة بالذي استوقد نارا و هو واحد.

الجواب‏

على وجوه (أحدها) أن الذي في معنى الجمع كما قيل في الآية الأخرى‏ وَ الَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَ صَدَّقَ بِهِ‏ (و ثانيها) أن يقال النون محذوفة من الذي كما جاء في قول الأخطل:

أ بني كليب أن عمي اللذا

قتلا الملوك و فككا الأغلالا

 

(و ثالثها) أن يكون الكلام على حذف كأنه قال مثلهم كمثل اتباع الذي استوقد نارا ثم حذف المضاف و أقام المضاف إليه مقامه كما قال الجعدي:

و كيف تواصل من أصبحت‏

خلالته كأبي مرحب‏

 

يريد كخلالة أبي مرحب (و رابعها) أن يقال أراد بالمستوقد الجنس لما في الذي من الإبهام إذ ليس يراد به تعريف واحد بعينه و على هذا يكون جواب‏ «فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ» محذوفا كأنه قال طفئت و الضمير في قوله‏ «ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ» يعود إلى المنافقين (و خامسها) أن يقال هذا تشبيه الحال بالحال فتقديره حال بحال فتقديره حال هؤلاء المنافقين في جهلهم كحال المستوقد نارا و تشبيه الحال بالحال جائز كما يقال بلادة هؤلاء كبلادة الحمار و لو قلت هؤلاء كالحمار لم يجز و معنى قوله‏ «وَ تَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ» معناه لم يفعل الله لهم النور إذ الترك هو الكف عن الفعل بالفعل و هذا إنما يصح فيمن حله فعله و الله سبحانه منزه عن أن يحله فعله فمعناه أنه لم يفعل لهم النور حتى صاروا في ظلمة أشد مما كان قبل الإيقاد و قوله‏ «لا يُبْصِرُونَ» أي لا يبصرون الطريق.

[سورة البقرة (2): آية 18]

صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (18)


146
مجمع البيان في تفسير القرآن1

اللغة ..... ص : 147

اللغة

الأصم هو الذي ولد كذلك و كذلك الأبكم هو الذي ولد أخرس و أصل الصم السد و الصمم سد الأذن بما لا يقع منه سمع و قناة صماء صلبة مكتنزة الجوف لسد جوفها بامتلائها و حجر أصم صلب و فتنة صماء شديدة و الصمام ما يسد به رأس القارورة و أصل البكم الاعتقال في اللسان و هو آفة تمنع من الكلام و أصل العمى ذهاب الإدراك بالعين و العمى في القلب مثل العمى في العين آفة تمنع من الفهم و يقال ما أعماه من عمى القلب و لا يقال ذلك في العين و إنما يقال ما أشد عماه و ما جرى مجراه و العماية الغواية و العماء السحاب الكثيف المطبق و الرجوع قد يكون عن الشي‏ء أو إلى الشي‏ء فالرجوع عن الشي‏ء هو الانصراف عنه بعد الذهاب إليه و الرجوع إلى الشي‏ء هو الانصراف إليه بعد الذهاب عنه.

الإعراب‏

«صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ» رفع على خبر مبتدإ محذوف أي هؤلاء الذين قصتهم هذه صم بكم عمي.

المعنى‏

قال قتادة «صُمٌّ» لا يسمعون الحق‏ «بُكْمٌ» لا ينطقون به‏ «عُمْيٌ» لا يبصرونه فهم لا يرجعون عن ضلالتهم و لا يتوبون و إنما شبههم الله بالصم لأنهم لم يحسنوا الإصغاء إلى أدلة الله تعالى فكأنهم صم و إذا لم يقروا بالله و برسوله فكأنهم بكم و إذا لم ينظروا في ملكوت السماوات و الأرض فكأنهم عمي لما لم تصل إليهم منفعة هذه الأعضاء فكأنهم ليس لهم هذه الأعضاء. و هذا يدل على أن معنى الختم و الطبع ليس على وجه الحيلولة بينهم و بين الإيمان لأنه جعل الفهم بالكفر و استثقالهم للحق بمنزلة الصم و البكم و العمي مع صحة حواسهم و كذلك قوله‏ طَبَعَ اللَّهُ عَلى‏ قُلُوبِهِمْ‏ و أَضَلَّهُمُ‏ و فَأَصَمَّهُمْ وَ أَعْمى‏ أَبْصارَهُمْ‏ و أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ‏ فإن جميع ذلك إخبار عما أحدثوه عند امتحان الله إياهم و أمره لهم بالطاعة و الإيمان لا أنه فعل بهم ما منعهم به عن الإيمان و هذا كما قيل في المثل حبك الشي‏ء يعمي و يصم قال مسكين الدارمي:

أعمى إذا ما جارتي خرجت‏

حتى يواري جارتي الخدر

 

و تصم عما كان بينهما

أذني و ما في سمعها وقر

 

و في التنزيل‏ «وَ تَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَ هُمْ لا يُبْصِرُونَ» و قوله‏ «فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ» يحتمل أمرين أحدهما أنه على الذم و الاستبطاء عن ابن عباس و الثاني أنهم لا يرجعون إلى الإسلام عن ابن مسعود.


147
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 19] ..... ص : 148

[سورة البقرة (2): آية 19]

أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَ رَعْدٌ وَ بَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَ اللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (19)

القراءة

ظلمات أجمع القراء على ضم اللام منه على الاتباع و روي في الشواذ عن الحسن و أبي السماك بسكون اللام و عن بعضهم بفتح اللام و أبو عمرو يميل الكاف من الكافرين في موضع الخفض و النصب و روي ذلك عن الكسائي و الباقون لا يميلون.

الحجة

الوجه في ذلك أنهم كرهوا اجتماع الضمتين فتارة عدلوا إلى الفتح فقالوا ظلمات و تارة عدلوا إلى السكون فقالوا ظلمات و كلا الأمرين حسن في اللغة و إنما أمالوا الكاف من الكافرين للزوم كسرة الراء بعد الفاء المكسورة و الراء لما فيها من التكرير تجري مجرى الحرفين المكسورين و كلما كثرت الكسرات غلبت الإمالة و حسنتها و للقراء في الإمالة مذاهب و اختلافات يطول استقصاؤها و أبو علي الفارسي رحمه الله قد بلغ الغاية و جاوز النهاية في احتجاجاتهم و ذكر من التحقيق فيها و التدقيق ما ينبو عنه فهم كثير من علماء الزمان فالتعمق في إيراد أبوابها و حججها و الغوص إلى لججها لا يليق بتفسير القرآن و كذلك ما يتعلق بفن القراءة من علوم الهمزة و الإدغام و المد فإن لذلك كتبا مؤلفة يرجع إليها و يعول عليها فالرأي أن نلم بأطرافها و نقتصر على بعض أوصافها فيما يأتي من الكتاب أن شاء الله تعالى.

اللغة

الصيب المطر أصله صيوب فيعل من الصواب لكن اجتمعت الواو و الياء و أولاهما ساكنة فصارتا ياء مشددة و مثله سيد و جيد و السماء: المعروف و كل ما علاك و أظلك فهو سماء و سماء البيت سقفه و أصابهم سماء أي مطر و أصله سما من سموت فقلبت الواو همزة لوقوعها طرفا بعد ألف زائدة و جعل يكون على وجوه (أحدها) أن يتعدى إلى مفعولين نحو جعلت الطين خزفا أي صيرت (و ثانيها) أن يأتي بمعنى صنع يتعدى إلى مفعول واحد نحو قوله‏ «وَ جَعَلَ الظُّلُماتِ وَ النُّورَ» (و ثالثها) أن يأتي بمعنى التسمية كقوله تعالى‏ «وَ جَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً» أي سموا له (و رابعها) أن يأتي بمعنى أفعال المقاربة نحو جعل زيد


148
مجمع البيان في تفسير القرآن1

الإعراب ..... ص : 149

يفعل كذا و الصواعق جمع صاعقة و هي الوقع الشديد من السحاب يسقط معه نار تحرق و الصاعقة صيحة العذاب و الحذر طلب السلامة مما يخاف.

الإعراب‏

«أَوْ» هاهنا للإباحة إذا قيل لك جالس الفقهاء أو المحدثين فكلا الفريقين أهل أن يجالس فإن جالست أحدهما فأنت مطيع و إن جالست الآخر فأنت مطيع و إن جالستهما فأنت مطيع فكذلك هاهنا إن مثلت المنافقين بالمستوقد كنت مصيبا و إن مثلتهم بأصحاب الصيب فأنت مصيب و إن مثلتهم بكلا الفريقين فأنت مصيب و تقديره أو كأصحاب صيب حذف المضاف و أقام المضاف إليه مقامه لأن هذا عطف على قوله‏ «كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً» و الصيب ليس بعاقل فلا يعطف على العاقل و يجعلون في موضع الحال من أصحاب الصيب و قوله‏ «فِيهِ ظُلُماتٌ» جملة في موضع الجر بأنها صفة صيب و الضمير المتصل بفي عائد إلى صيب أو إلى السماء و «حَذَرَ الْمَوْتِ» منصوب بأنه مفعول له لأن المعنى يفعلون ذلك لحذر الموت قال الزجاج و إنما نصبه الفعل لأنه في تأويل مصدره لأن جعلهم أصابعهم في آذانهم يدل على حذرهم الموت قال الشيخ أبو علي المفعول له لا يكون إلا مصدرا لأنه يدل على أنه فعل لأجل ذلك الحدث و الحدث مصدر لكنه ليس مصدرا عن هذا الفعل بل عن فعل آخر.

المعنى‏

مثل هؤلاء المنافقين في جهلهم و شدة تحيرهم‏ «كَصَيِّبٍ» أي كأصحاب مطر «مِنَ السَّماءِ» أي منزل من السماء «فِيهِ» أي في هذا المطر أو في السماء لأن المراد بالسماء السحاب فهو مذكر «ظُلُماتٌ» لأن السحاب يغشي الشمس بالنهار و النجوم بالليل فيظلم الجو «وَ رَعْدٌ» قيل إن الرعد صوت ملك يزجر السحاب و قيل‏

الرعد هو ملك موكل بالسحاب يسبح روي ذلك عن ابن عباس و مجاهد و هو المروي عن أئمتنا ع‏

و قيل هو ريح تختنق تحت السماء رواه أبو الجلد عن ابن عباس و قيل هو صوت اصطكاك أجرام السحاب و من قال أنه ملك قدر فيه صوت كأنه قال فيه ظلمات و صوت رعد لأنه روي أنه يزعق الراعي بغنمه و قوله‏ «وَ بَرْقٌ» قيل أنه مخاريق الملائكة من حديد تضرب به السحاب فتنقدح عنه النار عن علي (ع) و قيل أنه سوط من نور يزجر به الملك السحاب عن ابن عباس و قيل هو مصع ملك من مجاهد و المصاع المجالدة بالسيوف و غيرها قال الأعشى:

إذا هن نازلن أقرانهن‏

كان المصاع بما في الجؤن‏

 

و قيل أنه نار تنقدح من اصطكاك الأجرام و في تأويل الآية و تشبيه المثل أقوال‏


149
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 149

(أحدها) أنه شبه المطر المنزل من السماء بالقرآن و ما فيه من الظلمات بما في القرآن من الابتلاء و ما فيه من الرعد بما في القرآن من الزجر و ما فيه من البرق بما فيه من البيان و ما فيه من الصواعق بما في القرآن من الوعيد آجلا و الدعاء إلى الجهاد عاجلا عن ابن عباس (و ثانيها) أنه مثل للدنيا شبه ما فيها من الشدة و الرخاء بالصيب الذي يجمع نفعا و ضررا و أن المنافق يدفع عاجل الضرر و لا يطلب آجل النفع (و ثالثها) أنه مثل للإسلام لأن فيه الحياة كما في الغيث الحياة و شبه ما فيه من الظلمات بما في إسلامهم من إبطان الكفر و ما فيه من الرعد بما في الإسلام من فرض الجهاد و خوف القتل و بما يخافونه من وعيد الآخرة لشكهم في دينهم و ما فيه من البرق بما في إظهار الإسلام من حقن دمائهم و مناكحتهم و موارثتهم و ما فيه من الصواعق بما في الإسلام من الزواجر بالعقاب في العاجل و الآجل و يقوي ذلك ما روي عن الحسن أنه قال مثل إسلام المنافق كصيب هذا وصفه (و رابعها) ما روي عن ابن مسعود و جماعة من الصحابة أن رجلين من المنافقين من أهل المدينة هربا من رسول الله ص فأصابهما المطر الذي ذكره الله تعالى فيه رعد شديد و صواعق و برق و كلما أضاء لهما الصواعق جعلا أصابعهما في آذانهما مخافة أن تدخل الصواعق في آذانهما فتقتلهما و إذا لمع البرق مشيا في ضوئه و إذا لم يلمع لم يبصرا فأقاما فجعلا يقولان يا ليتنا قد أصبحنا فنأتي محمدا فنضع أيدينا في يديه فأصبحا فأتياه فأسلما و حسن إسلامهما فضرب الله شأن هذين الرجلين مثلا لمنافقي المدينة و أنهم إذا حضروا النبي جعلوا أصابعهم في آذانهم فرقا من كلام النبي ص أن ينزل فيهم شي‏ء كما كان ذانك الرجلان يجعلان أصابعهما في آذانهما و كلما أضاء لهم مشوا فيه يعني شي‏ء كما كان ذانك الرجلان يجعلان أصابعهما في آذانهما و كلما أضاء لهم مشوا فيه يعني إذا كثرت أموالهم و أصابوا غنيمة أو فتحا مشوا فيه و قالوا دين محمد صحيح و «إِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا» يعني إذا هلكت أموالهم و أصابهم البلاء قالوا هذا من أجل دين محمد فارتدوا كما قام ذانك الرجلان إذا أظلم البرق عليهما و قوله‏ «وَ اللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ» يحتمل وجوها.

(أحدها) أنه عالم بهم فيعلم سرائرهم و يطلع نبيه على ضمائرهم عن الأصم (و ثانيها) أنه قادر عليهم لا يستطيعون الخروج عن قدرته قال الشاعر:

أحطنا بهم حتى إذا ما تيقنوا

بما قد رأوا مالوا جميعا إلى السلم‏

 

أي قدرنا عليهم (و ثالثها) ما روي عن مجاهد أنه جامعهم يوم القيامة يقال أحاط بكذا إذا لم يشذ منه شي‏ء و منه‏ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عِلْماً أي لم يشذ عن علمه شي‏ء (و رابعها) أنه مهلكهم يقال أحيط بفلان فهو محاط به إذا دنا هلاكه قال سبحانه و أُحِيطَ


150
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 20] ..... ص : 151

بِثَمَرِهِ‏ أي أصابه ما أهلكه و قوله‏ «إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ» معناه أن تهلكوا جميعا.

[سورة البقرة (2): آية 20]

يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَ إِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَ أَبْصارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ (20)

اللغة

الخطف أخذ في استلاب يقال خطف يخطف و خطف يخطف لغتان و الثاني أفصح و عليه القراءة و منه الخطاف و يقال للذي يخرج به الدلو من البئر خطاف لاختطافه قال النابغة:

خطاطيف حجن في حبال متينة

تمد بها أيد إليك نوازع‏

 

و قاموا أي وقفوا و المشيئة الإرادة و الشي‏ء ما يصح أن يعلم و يخبر عنه قال سيبويه هو أول الأسماء و أعمها و أبهمها لأنه يقع على المعدوم و الموجود و قيل أنه لا يقع إلا على الموجود و الصحيح الأول و هو مذهب المحققين من المتكلمين و يؤيده قوله تعالى في هذه الآية «إِنَّ اللَّهَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ» فإن كل شي‏ء سواه محدث و كل محدث فله حالتان حالة عدم و حالة وجود و إذا وجد خرج عن أن يكون مقدورا للقادر لأن من المعلوم ضرورة أن الموجود لا يصح أن يوجد فعلمنا أنه إنما يقدر عليه في حال عدمه ليخرجه من العدم إلى الوجود و على هذه المسألة يدور أكثر مسائل التوحيد.

الإعراب‏

كاد من أفعال المقاربة و لا يتم بالفاعل و يحتاج إلى خبر و خبره الفعل المضارع فقوله‏ «يَكادُ» فعل و البرق مرفوع بأنه اسم يكاد و فاعله و يخطف أبصارهم في موضع نصب بأنه خبر يكاد و كلما أصله كل و ضم إليه ما الجزاء و هو منصوب بالظرف و العامل فيه أضاء و معناه متى ما أضاء لهم مشوا فيه و أضاء في موضع جزم بالشرط و مشوا في موضع الجزاء و إذا أظلم قد تقدم إعراب مثله و لو حرف معناه امتناع الشي‏ء لامتناع غيره و إذا وقع الفعل بعده و هو منفي كان مثبتا في المعنى و إذا وقع مثبتا كان منفيا في المعنى فقوله‏ «وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَ أَبْصارِهِمْ» قد انتفى فيه ذهاب السمع و الأبصار بسبب انتفاء المشيئة.


151
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 152

المعنى‏

«يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ» المراد يكاد ما في القرآن من الحجج النيرة يخطف قلوبهم من شدة إزعاجها إلى النظر في أمور دينهم كما أن البرق يكاد يخطف أبصار أولئك‏ «كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ» لاهتدائهم إلى الطريق بضوء البرق كذلك المنافقون كلما دعوا إلى خير و غنيمة أسرعوا و إذا وردت شدة على المسلمين تحيروا لكفرهم و وقفوا كما وقف أولئك في الظلمات متحيرين و قيل إذا آمنوا صار الإيمان لهم نورا فإذا ماتوا عادوا إلى ظلمة العقاب و قيل هم اليهود لما نصر المسلمون ببدر قالوا هذا الذي بشر به موسى فلما نكبوا بأحد وقفوا و شكوا و قوله‏ «وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَ أَبْصارِهِمْ» إنما خص السمع و البصر بالذكر لما جرى من ذكرهما في الآيتين فقال‏ «وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ» أذهبهما من المنافقين عقوبة لهم على نفاقهم و كفرهم و هذا وعيد لهم بالعقاب كما قال في الآية الأولى‏ «وَ اللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ» و قوله‏ «بِسَمْعِهِمْ» مصدر يدل على الجمع أو واحد موضوع للجمع كقول الشاعر:

كلوا في بعض بطنكم تعيشوا

فإن زمانكم زمن خمص‏

 

أي بطونكم و المعنى و لو شاء الله لأظهر على كفرهم فأهلكهم و دمر عليهم لأنه على كل شي‏ء قدير و هو مبالغة القادر و قيل إن قوله سبحانه‏ «إِنَّ اللَّهَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ» عام فهو قادر على الأشياء كلها على ثلاثة أوجه على المعدومات بأن يوجدها و على الموجودات بأن يفنيها و على مقدور غيره بأن يقدر عليه و يمنع منه و قيل هو خاص في مقدوراته دون مقدور غيره فإن مقدورا واحدا بين قادرين لا يمكن أن يكون لأنه يؤدي إلى أن يكون الشي‏ء الواحد موجودا معدوما و لفظة كل قد يستعمل على غير عموم نحو قوله تعالى‏ «تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْ‏ءٍ بِأَمْرِ رَبِّها».

[سورة البقرة (2): آية 21]

يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)

اللغة

الخلق أ على تقدير و خلق السموات فعلها على تقدير ما تدعو إليه الحكمة من غير زيادة و نقصان و الخلق الطبع و الخليقة الطبيعة و الخلاق النصيب.

الإعراب‏

يا حرف النداء و أي اسم مبهم يقع على أجناس كثيرة لأنه إنما يتم بأن‏


152
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 153

يوصف و صفته تكون باسم الجنس لأنه لما كان لا يتم إلا بصفة و هي لفظة دالة على ما دل أي عليه مخصصة له و كان التخصيص في الإشارة يقع بالجنس ثم بالوصف وصف بأسماء الأجناس كالناس في قوله‏ «يا أَيُّهَا النَّاسُ» فأي منادى مفرد معرفة مبني لأنه وقع موقع حرف الخطاب و هو الكاف و إنما بني على الحركة مع أن الأصل في البناء السكون ليعلم أنه ليس بعريق في البناء و البناء عارض فيه و إنما حرك بالضم لأنه كان في أصله التنوين فلما سقط التنوين في البناء أشبه قبل و بعد الذي قطع عنه الغاية فارتفع و قد ذكر فيه وجوه آخر توجد في مظانها و الناس مرفوع لأنه صفة لأي فتبعه على حركة لفظه و لا يجوز هنا النصب و إن كانت الأسماء المناديات المفردة المعرفة يجوز في صفاتها النصب و الرفع لأن هنا الصفة هو المنادى في الحقيقة و أي وصلة إليه و يدل على ذلك لزوم ها و هو حرف التنبيه قبل الناس و بنائها و امتناعهم من حذفها فصار ذلك كالإيذان باستئناف نداء و العلم لأن لا يجوز الاقتصار على المنادى قبله كما جاز في سائر المناديات و أجاز المازني في يا أيها الرجل النصب و ذلك فاسد لما ذكرناه و لأنه لا مجاز لذلك في كلام العرب و لم يرو عنها غير الرفع و «الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ» في موضع نصب لأنه عطف على الكاف و الميم في قوله‏ «خَلَقَكُمْ» و هو مفعول به و من قبلكم صلة الذين و لعل حرف ناصب من أخوات إن و قد ذكرنا القول في مشابهة الفعل و عمله النصب و الرفع فيما تقدم و كذلك حكم لعل و شبه بالفعل أظهر لأن معناه الترجي و كم في موضع نصب بكونه اسم لعل و تتقون جملة في موضع الرفع بأنه خبره.

المعنى‏

هذا الخطاب متوجه إلى جميع الناس مؤمنهم و كافرهم إلا من ليس بمكلف من الأطفال و المجانين و روي عن ابن عباس و الحسن أن ما في القرآن من‏ «يا أَيُّهَا النَّاسُ» فإنه نزل بمكة و ما فيه من‏ «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» فإنه نزل بالمدينة «اعْبُدُوا رَبَّكُمُ» أي تقربوا إليه بفعل العبادة و عن ابن عباس أنه قال معناه وحدوه و قوله‏ «الَّذِي خَلَقَكُمْ» أي أوجدكم بعد أن لم تكونوا موجودين و أوجد من تقدم زمانكم من الخلائق و البشر بين سبحانه نعمه عليهم و على آبائهم لأن نعمه عليهم لا تتم إلا بنعمه على آبائهم‏ «لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» أي خلقكم لتتقوه و تعبدوه كقوله تعالى‏ «وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ» و قيل معناه اعبدوه لتتقوا و قيل معناه لعلكم تتقون الحرمات بينكم و تكفون عما حرم الله و هذا كما يقول القائل اقبل قولي لعلك ترشد فليس أنه من ذلك على شك و إنما

153
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 22] ..... ص : 154

يريد أقبله ترشد و إنما أدخل الكلام لعل ترقيقا للموعظة و تقريبا لها من قلب الموعوظ و يقول القائل لأجيره اعمل لعلك تأخذ الأجرة و ليس يريد بذلك الشك و إنما يريد لتأخذ أجرتك و مثله قول الشاعر:

و قلتم لنا كفوا الحروب لعلنا

نكف و وثقتم لنا كل موثق‏

 

فلما كففنا الحرب كانت عهودكم‏

كلمح سراب في الملأ متألق‏

 

أراد قلتم لنا كفوا لنكف لأنه لو كان شاكا لما قال وثقتم كل موثق و قال سيبويه إنما وردت لفظة لعل على أنه ترج للمخاطبين كما قال‏ «فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى‏» و أراد بذلك الإبهام على موسى و هارون فكأنه قال اذهبا أنتما على رجائكما و طمعكما و الله عز و جل من وراء ذلك و عالم بما يؤول إليه أمر فرعون و قيل فائدة إيراد لفظة لعل هي أن لا يحل العبد أبدا محل الآمن المدل بعمله بل يزداد حالا بعد حال حرصا على العمل و حذرا من تركه و أكثر ما جاءت لفظة لعل و غيرها من معاني الشك فيما يتعلق بالآخرة في دار الدنيا فإذا ذكرت الآخرة مفردة جاء اليقين و قيل معناه لعلكم توقون النار في ظنكم و رجائكم و أجرى لعل على عباده دون نفسه و هذا قريب مما قاله سيبويه.

[سورة البقرة (2): آية 22]

الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَ السَّماءَ بِناءً وَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)

القراءة

أدغم جماعة من القراء قوله‏ «جَعَلَ لَكُمُ» فقالوا جعلكم و الباقون يظهرون.

الحجة

فمن أدغم فلاجتماع حرفين من جنس واحد و كثرة الحركات و من أظهر و عليه أكثر القراء فلأنهما منفصلان من كلمتين و في الإدغام و اختلاف القراء فيه و الاحتجاجات لهم كلام كثير خارج عن الغرض بعلوم تفسير القرآن فمن أراد ذلك فليطلبه من الكتب المؤلفة فيه.

اللغة

الجعل و الخلق و الإحداث نظائر و الأرض هي المعروفة و الأرض قوائم الدابة و منه قول الشاعر:


154
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 155

 

و أحمر كالديباج أما سماؤه‏

فريا و أما أرضه فمحول‏

 

و الأرض الرعدة و في كلام ابن عباس أ زلزلت الأرض أم بي أرض و الفراش و البساط و المهاد نظائر و سمي السماء سماء لعلوها على الأرض و كل شي‏ء كان فوق شي‏ء فهو لما تحته سماء و سما فلان لفلان إذا قصد نحوه عاليا عليه قال الفرزدق:

سمونا لنجران اليمان و أهله‏

و نجران أرض لم تديث مقاوله‏

 

قال الزجاج كل ما علا الأرض فهو بناء و الماء أصله موه و جمعه أمواه و تصغيره مويه و أنزل من السماء أي من ناحية السماء قال الشاعر:

(أ منك البرق أرقبه فهاجا)

 

أي من ناحيتك و الند المثل و العدل قال حسان بن ثابت:

أ تهجوه و لست له بند

فشركما لخيركما الفداء

 

و قال جرير:

أ تيما تجعلون إلي ندا

و ما تيم لذي حسب نديد

 

و قيل الند الضد.

المعنى‏

معنى هذه الآية يتعلق بما قبلها لأنه تعالى أمرهم بعبادته و الاعتراف بنعمته ثم عدد لهم صنوف نعمه ليستدلوا بذلك على وجوب عبادته فإن العبادة إنما تجب لأجل النعم المخصوصة فقال سبحانه: «الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً» أي بساطا يمكنكم أن تستقروا عليها و تفترشوها و تتصرفوا فيها و ذلك لا يمكن إلا بأن تكون مبسوطة ساكنة دائمة السكون‏ «وَ السَّماءَ بِناءً» أي سقفا مرفوعا مبنيا «وَ أَنْزَلَ مِنَ» نحو «السَّماءَ» أي من السحاب‏ «ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ» أي بالماء «مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ» أي عطاء لكم و ملكا لكم و غذاء لكم و هذا تنبيه على أنه هو الذي خلقهم و الذي رزقهم دون من جعلوه ندا له من الأوثان ثم زجرهم عن أن يجعلوا له ندا مع علمهم بأن ذلك كما أخبرهم به بقوله‏ «فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً» و قوله‏ «أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ» يحتمل وجوها (أحدها) أن يريد أنكم تعلمون أن الأصنام التي تعبدونها لم تنعم عليكم بهذه النعم التي عددناها و لا بأمثالها و أنها لا تضر و لا تنفع (و ثانيها) أن يريد أنكم تعقلون و تميزون و من كان بهذه الصفة فقد استوفى شرائط التكليف و لزمته الحجة و ضاق عذره في التخلف عن النظر و إصابة الحق (و ثالثها) ما قاله مجاهد و غيره أن المراد بذلك أهل التوراة و الإنجيل‏


155
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 23] ..... ص : 156

دون غيرهم أي تعلمون ذلك في الكتابين و قال الشريف الأجل المرتضى قدس الله روحه استدل أبو علي الجبائي بقوله تعالى: «الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً» و في آية أخرى‏ «بِساطاً» على بطلان ما يقوله المنجمون من أن الأرض كروية الشكل قال و هذا القدر لا يدل لأنه يكفي من النعمة علينا أن يكون في الأرض بسائط و مواضع مفروشة و مسطوحة و ليس يجب أن يكون جميعها كذلك و معلوم ضرورة أن جميع الأرض ليس مسطوحا مبسوطا و إن كان مواضع التصرف فيها بهذه الصفة و المنجمون لا يدفعون أن يكون في الأرض سطوح يتصرف فيها و يستقر عليها و إنما يذهبون إلى أن جملتها كروية الشكل.

[سورة البقرة (2): آية 23]

وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى‏ عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَ ادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (23)

اللغة

إن دخلت هاهنا لغير شك لأن الله تعالى علم أنهم مرتابون و لكن هذا على عادة العرب في خطابهم كقولهم إن كنت إنسانا فافعل كذا و إن كنت ابني فأطعني و إن كان كونه إنسانا و ابنا معلوما و إنما خاطبهم الله تعالى على عادتهم في الخطاب و الريب الشك مع تهمة و العبد المملوك من جنس ما يعقل و نقيضه الحر من التعبيد و هو التذليل لأن العبد يذل لمولاه و العبودية من أحكام الشرع لأنه بمنزلة ذبح الحيوان و يستحق عليها العوض و ليست بعقوبة و لذلك يسترق المؤمن و الصبي و السورة غير مهموزة مأخوذة من سورة البناء و كل منزلة رفيعة فهي سورة و منه قول النابغة:

أ لم تر أن الله أعطاك سورة

ترى كل ملك دونها يتذبذب‏

 

هذا قول أبي عبيدة و ابن الأعرابي في تفسير السورة فكل سورة من القرآن بمنزلة درجة رفيعة و منزل عال رفيع يرتفع القارئ منها إلى منزلة أخرى إلى أن يستكمل القرآن و قيل السورة مهموزة و المراد بها القطعة من القرآن انفصلت عما سواها و أبقيت و سؤر كل شي‏ء بقيته و أسأرت في الإناء أبقيت فيه قال الأعشى يصف امرأة:

فبانت و قد أسأرت في الفؤاد

صدعا علي نأيها مستطيرا

 

. الإعراب‏

إن حرف شرط تجزم الفعل المضارع و تدخل على الفعل الماضي فتصرفه إلى معنى الاستقبال و لا بد للشرط من جزاء و هما جملتان ربطت إحداهما بالأخرى‏


156
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 157

نحو إن تفعل أفعل فقولك إن تفعل شرط و هو مجزوم بإن و قولك أفعل جزاء و هو مجزوم بالشرط لا بإن وحدها و لا بالفعل فإن كان الجزاء جملة من فعل و فاعل كان مجزوما و إن كان جملة من مبتدإ و خبر فلا بد من الفاء و كانت الجملة في موضع الجزم فقوله‏ «كُنْتُمْ» في موضع الجزم بإن و قوله‏ «فَأْتُوا بِسُورَةٍ» ائتوا مبني على الوقف لأنه أمر المخاطبين و الواو فاعل و الفاء و ما بعده في موضع جزم بأنه جزاء و ما قبل الفاء لا يعمل فيما بعده و من يقع على أربعة أوجه (أحدها) أن يكون بمعنى ابتداء الشي‏ء من مكان ما كقولك خرجت من البصرة. (و ثانيها) بمعنى التبعيض كقولك أخذت من الطعام قفيزا (و ثالثها) بمعنى التبيين كقوله تعالى: «فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ» و هي في التبيين تخصص الجملة التي قبلها كما أنها في التبعيض تخصص الجملة التي بعدها (و رابعها) أن تقع مزيدة نحو ما جاءني من رجل فإذا قد عرفت هذا فقوله تعالى: «مِنْ مِثْلِهِ» قال بعضهم أن من بمعنى التبعيض و تقديره فأتوا ببعض ما هو مثل له و هو سورة و قيل هو لتبيين الصفة و قيل أن من مزيدة لقوله في موضع آخر «بِسُورَةٍ مِثْلِهِ» أي مثل هذا القرآن و تعود الهاء في مثله إلى ما من قوله‏ «مِمَّا نَزَّلْنا عَلى‏ عَبْدِنا» في الأقوال الثلاثة و قيل أن من بمعنى ابتداء الغاية و الهاء من مثله يعود إلى عبدنا فيكون معناه بسورة من رجل مثله و الأول أقوى لما نذكره بعد.

المعنى‏

لما احتج الله تعالى للتوحيد عقبه من الاحتجاج للنبوة بما قطع عذرهم فقال‏ «وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ» من صدق هذا الكتاب الذي أنزلنا على محمد ص و قلتم لا ندري هل هو من عند الله أم لا «فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ» أي من مثل القرآن و على قول من يقول الضمير في مثله عائد إلى عبدنا فالمعنى فأتوا بسورة من بشر أمي مثله لا يحسن الخط و الكتابة و لا يدري الكتب و الصحيح هو الأول لقوله تعالى في سورة أخرى: «فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ» و قوله‏ «فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ» و قوله‏ «لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى‏ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ» يعني فأتوا بسورة مثل ما أتى به محمد في الإعجاز من حسن النظم و جزالة اللفظ و الفصاحة التي اختصت به و الإخبار عما كان و عما يكون دون تعلم الكتب و دراسة الأخبار و قوله: «وَ ادْعُوا شُهَداءَكُمْ» قال ابن عباس يعني أعوانكم و أنصاركم الذين يظاهرونكم على تكذيبكم و سمي أعوانهم شهداء لأنهم يشاهدونهم عند المعاونة و الشهيد يكون بمعنى المشاهد كالجليس و الأكيل و يسمى الشاهد على الشي‏ء لغيره بما يحقق دعواه بأنه شهيد أيضا و قوله‏ «مِنْ دُونِ اللَّهِ»


157
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 24] ..... ص : 158

أي من غير الله كما يقال ما دون الله مخلوق يريد و ادعوا من اتخذتموهم معاونين من غير الله‏ «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» في أن هذا الكتاب يقوله محمد من نفسه و قال الفراء أراد و ادعوا آلهتكم و قال مجاهد و ابن جريج أراد قوما يشهدون لكم بذلك ممن يقبل قولهم و قول ابن عباس أقوى لأن معناه استنصروا أعوانكم على أن يأتوا بمثله لأن الدعاء بمعنى الاستعانة كما قال الشاعر:

فلما التقت فرساننا و رجالنا

دعوا يا لكعب و اعتزينا لعامر

 

و قال آخر:

و قبلك رب خصم قد تمالوا

علي فما جزعت و لا دعوت‏

 

و أما قول مجاهد فلا وجه له لأن الشاهدين لا يخلو إما أن يكونوا مؤمنين أو كفارا فالمؤمنون لا يكونون شهداء للكفار و الكفار لا بد أن يسارعوا إلى إبطال الحق أو تحقيق الباطل إذا دعوا إليه فمن أي الفريقين يكون شهداؤهم و لكن ينبغي أن يجري ذلك مجرى قوله تعالى: «قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى‏ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً» و قال قوم أن هذا الوجه جائز أيضا صحته لأن العقلاء لا يجوز أن يحملوا نفوسهم على الشهادة بما يفتضحون به في كلام أنه مثل القرآن و لا يكون مثله كما لا يجوز أن يحملوا نفوسهم على أن يعارضوا ما ليس بمعارض على الحقيقة و هذه الآية تدل على صحة نبوة نبينا محمد ص و أن الله تعالى تحدى بالقرآن و ببعضه و وجه الاستدلال بها أنه تعالى خاطب قوما عقلاء فصحاء قد بلغوا الغاية القصوى من الفصاحة و تسنموا الذروة العليا من البلاغة فأنزل إليهم كلاما من جنس كلامهم و تحداهم بالإتيان بمثله أو ببعضه بقوله: «فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ» و «بِسُورَةٍ مِثْلِهِ» و جعل عجزهم عن ذلك حجة عليهم و دلالة على صدق رسوله ص و هم أهل الحمية و الأنفة فبذلوا أموالهم و نفوسهم في إطفاء أمره و لم يتكلفوا في معارضة القرآن بسورة و لا خطبة فعلمنا أن المعارضة كانت متعذرة عليهم فدل ذلك على أن القرآن معجز دال على صحة نبوته.

[سورة البقرة (2): آية 24]

فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَ لَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَ الْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (24)


158
مجمع البيان في تفسير القرآن1

الإعراب ..... ص : 159

الإعراب‏

إن حرف شرط و لم حرف يدخل على الفعل المضارع فينفيه و يجعله بمعنى الماضي و يعمل فيه الجزم و تفعلوا فعل و فاعل و هو مجزوم بلم و علامة الجزم فيه سقوط النون و «لَمْ تَفْعَلُوا» في موضع جزم أيضا بأن و لن حرف يدخل على الفعل المضارع فيخصه بالاستقبال و ينفيه و يعمل فيه النصب و علامة النصب في تفعلوا سقوط النون أيضا و قال سيبويه في لن زعم الخليل أنها لا أن و لكنهم حذفوا لكثرته في كلامهم كما قالوا ويلمه و جعلت بمنزلة حرف واحد كما جعلوا هلا بمنزلة حرف واحد و إنما هي هل و لا قال و هذا ليس بجيد لأنه لو كان كذلك لم يجز زيدا لن أضرب و أقول أن معنى هذا القول هو أنه لو كان أصل لن لا أن و ما بعد أن يكون صلة لها و لا يجوز تقديم معمول ما في الصلة على الموصول فكان يجب أن لا يجوز تقديم زيدا في قولك لن أضرب زيدا على لن كما لم يجز تقديمه على أن فلا تقول زيدا أن أضرب و زيدا لا أن أضرب و لا خلاف بين النحويين في جواز التقديم هناك و قوله‏ «وَ لَنْ تَفْعَلُوا» لا موضع له من الإعراب لأنه اعتراض وقع بين الشرط و الجزاء كما يقع بين المبتدأ و الخبر في قولك زيد فافهم ما أقول لك عالم و الاعتراض غير واقع موقع المفرد فيكون له موضع إعراب.

المعنى‏

«فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا» أي فإن لم تأتوا بسورة من مثله و قد تظاهرتم أنتم و شركاؤكم عليه و أعوانكم و تبين لكم عجزكم و عجز جميع الخلق عنه و علمتم أنه من عندي فلا تقيموا على التكذيب به و معنى‏ «وَ لَنْ تَفْعَلُوا» أي و لن تأتوا بسورة مثله أبدا لأن لن تنفي على التأبيد في المستقبل و فيه دلالة على صحة نبوة نبينا محمد ص لأنه يتضمن الإخبار عن حالهم في مستقبل الأوقات بأنهم لا يأتون بمثله فوافق المخبر عنه الخبر و قوله: «فَاتَّقُوا النَّارَ» أي فاحذروا أن تصلوا النار بتكذيبكم و إنما جاز أن يكون قوله‏ «فَاتَّقُوا النَّارَ» جواب الشرط مع لزوم اتقاء النار كيف تصرفت الحال لأنه لا يلزمهم الاتقاء إلا بعد التصديق بالنبوة و لا يصح العلم بالنبوة إلا بعد قيام المعجزة فكأنه قال:

«فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَ لَنْ تَفْعَلُوا» فقد قامت الحجة و وجب اتقاء «النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا» أي حطبها «النَّاسُ وَ الْحِجارَةُ» و هي جمع حجر و قيل أنها حجارة الكبريت لأنها أحر شي‏ء إذا أحميت عن ابن مسعود و ابن عباس و الظاهر أن الناس و الحجارة وقود النار أي حطبها يريد بها أصنامهم المنحوتة من الحجارة كقوله تعالى: «إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ‏


159
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 25] ..... ص : 160

 

حَصَبُ جَهَنَّمَ» و قيل ذكر الحجارة دليل على عظم تلك النار لأنها لا تأكل الحجارة ألا و هي في غاية الفظاعة و الهول و قيل معناه أن أجسادهم تبقى على النار بقاء الحجارة التي توقد بها النار بتبقية الله إياها و يؤيد ذلك قوله‏ «كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ» الآية و قيل معناه أنهم يعذبون بالحجارة المحمية بالنار و قوله تعالى: «أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ» معناه خلقت و هيئت للكافرين لأنهم الذين يخلدون فيها و لأنهم أكثر أهل النار فأضيفت إليهم و قيل إنما خص النار بكونها معدة للكافرين و إن كانت معدة للفاسقين أيضا لأنه يريد بذلك نارا مخصوصة لا يدخلها غيرهم كما قال: «إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ» و هذه الآية تدل على بطلان قول من حرم النظر و الحجاج العقلي لأن الله عز اسمه احتج على الكفار بما ذكره في هذه الآية و ألزمهم به تصديق نبيه ع و قررهم بأن القرآن كلامه إذ قال إن كان هذا القرآن كلام محمد فأتوا بسورة من مثله لأنه لو كان كلام البشر لتهيأ لكم مع تقدمكم في البلاغة و الفصاحة الإتيان بمثله أو بسورة منه مع قوة دواعيكم إليه فإذا لم يتأت لكم ذلك فاعلموا بعقولكم أنه كلام الله تعالى و هذا هو المراد بالاحتجاج العقلي و استدل بقوله‏ «أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ» على أن النار مخلوقة الآن لأن المعد لا يكون إلا موجودا و كذلك الجنة بقوله‏ «أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ» و الفائدة في ذلك أنا و إن لم نشاهدهما فإن الملائكة يشاهدونهما و هم من أهل التكليف و الاستدلال فيعرفون ثواب الله للمتقين و عقابه للكافرين.

[سورة البقرة (2): آية 25]

وَ بَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَ أُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَ لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (25)

اللغة

البشارة هي الإخبار بما يسر المخبر به إذا كان سابقا لكل خبر سواه لأن الثاني لا يسمى بشارة و قد قيل للإخبار بما يغم أيضا بشارة كقوله تعالى: «فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ» و ذلك على سبيل التوسع و هي مأخوذة من البشرة و هي ظاهر الجلد لتغيرها

 

 

 

160
مجمع البيان في تفسير القرآن1

الإعراب ..... ص : 161

بأول خبر و تباشير الصبح أوله و الجنات جمع الجنة و هي البستان و المراد بذلك الجنة ما في الجنة من أشجارها و ثمارها دون أرضها فلذلك قال‏ «تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ» لأن من المعلوم أنه أراد الخبر عن ماء أنهارها بأنه جار تحت الأشجار لأن الماء إذا كانت تحت الأرض فلا حظ فيها للعيون على أنه روي عن مسروق أن أنهار الجنة جارية في غير أخاديد رواه عنه أبو عبيدة و غيره و أصلها من الجن و هو الستر و منه الجن لتسترها عن عيون الناس و الجنون لأنه يستر العقل و الجنة لأنها تستر البدن و الجنين لتستره بالرحم قال المفضل البستان إذا كان فيه الكرم فهو فردوس سواء كان فيه شجر غيره أو لم يكن و الجنة كل بستان فيه نخل و إن لم يكن فيه غيره و الأزواج جمع زوج و الزوج يقع على الرجل و المرأة و يقال للمرأة زوجة أيضا و زوج كل شي‏ء شكله و الخلود الدوام و البقاء.

الإعراب‏

موضع أن مع اسمه و خبره نصب معناه بشر المؤمنين بأن لهم جنات فلما سقطت الباء أفضى الفعل إلى أن فنصبه و على قول الخليل يكون أن في موضع جر و إن سقطت الباء و جنات منصوب بأنه اسم أن و لهم الجار و المجرور في موضع خبره و التاء تاء جماعة المؤنث تكون في حال النصب و الجر على صورة واحدة كما أن ياء جماعة الذكور في الزيدين و نحوه يكون في حال النصب و الجر على صورة واحدة و قوله‏ «تَجْرِي» مع ما اتصل به جملة منصوبة الموضع بكونها صفة لجنات و كلما ضم كل إلى ما الجزاء فصارا أداة للتكرار و هو منصوب على الظرف و العامل فيه رزقوا منها من ثمرة من مزيدة أي ثمرة و قال علي بن عيسى هي بمعنى التبعيض لأنهم يرزقون بعض الثمرات في كل وقت و يجوز أن يكون بمعنى تبيين الصفة و هو أن يبين الرزق من أي جنس هو و من قبل تقديره أي من قبل هذا الزمان أو هذا الوقت فحذف المضاف إليه منه لفظا مع أن الإضافة مرادة معنى فبني لأجل مشابهته الحرف و إنما بني على الحركة ليدل على تمكنه في الأصل و إنما خص بالضم لأن إعرابه عند الإضافة كان بالفتح أو الجر نحو من قبلك و قبلك لكونه ظرفا فبني على حركة لم تكن تدخلها في الإعراب و هي الضمة و موضعه نصب على الظرف و متشابها نصب على الحال و أزواج رفع أما بالابتداء أو بالظرف.

المعنى‏

قرن الله تعالى الوعد في هذه الآية بالوعيد فيما قبلها ليحصل الترغيب و الترهيب فقال‏ «وَ بَشِّرِ» أي أخبر بما يسر «الَّذِينَ آمَنُوا» أي صدقوا «وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ» فيما بينهم و بين ربهم عن ابن عباس ب «أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا»


161
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 161

أي من تحت أشجارها و مساكنها «الْأَنْهارُ» و النهر لا يجري و إنما يجري الماء فيه و يستعمل الجري فيه توسعا لأنه موضع الجري و قوله: «كُلَّما رُزِقُوا مِنْها» أي من الجنات و المعنى من أشجارها و تقديره كلما رزقوا من أشجار البساتين التي أعدها الله للمؤمنين‏ «مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً» أي أعطوا من ثمارها عطاء و أطعموا منها طعاما لأن الرزق عبارة عما يصح الانتفاع به و لا يكون لأحد المنع منه‏ «قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ» فيه وجوه (أحدها) أن ثمار الجنة إذا جنيت من أشجارها عاد مكانها مثلها فيشتبه عليهم فيقولون هذا الذي رزقنا من قبل هذا قول أبي عبيدة و يحيى بن كثير (و ثانيها) أن معناه هذا الذي رزقنا من قبل في الدنيا عن ابن عباس و ابن مسعود و قيل هذا الذي وعدنا به في الدنيا (و ثالثها) معناه هذا الذي رزقناه من قبل في الجنة أي كالذي رزقنا و هم يعلمون أنه غيره و لكنهم شبهوه به في طعمه و لونه و ريحه و طيبه و جودته عن الحسن و واصل قال الشيخ أبو جعفر رحمه الله و أقوى الأقوال قول ابن عباس لأنه تعالى قال: «كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ» فعم و لم يخص فأول ما أتوا به لا يتقدر فيه هذا القول إلا بأن يكون إشارة إلى ما تقدم رزقه في الدنيا و يكون التقدير هذا مثل الذي رزقناه في الدنيا لأن ما رزقوه في الدنيا قد عدم فأقام المضاف إليه مقام المضاف كما أن القائل إذا قال لغيره أعددت لك طعاما و وصفه له يحسن أن يقول هذا طعامي في منزلي يريد مثله و من جنسه و قوله‏ «وَ أُتُوا بِهِ» أي جيئوا به و ليس معناه أعطوه و قوله‏ «مُتَشابِهاً» فيه وجوه (أحدها) أنه أراد متشابها في اللون مختلفا في الطعم عن ابن عباس و مجاهد (و ثانيها) أن كلها متشابه في الجودة خيار لا رذل فيه عن الحسن و قتادة و اختاره الأخفش قال و هذا كما يقول القائل و قد جي‏ء بأشياء فاضلة فاشتبهت عليه في الفضل لا أدري ما اختار منها كلها عندي فاضل كقول الشاعر:

من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم‏

مثل النجوم التي يسري بها الساري‏

 

يعني أنهم قد تساووا في الفضل (و ثالثها) أنه يشبه ثمر الدنيا غير أن ثمر الجنة أطيب عن عكرمة (و رابعها) أنه يشبه بعضه بعضا في اللذة و جميع الصفات عن أبي مسلم (و خامسها) أن التشابه من حيث الموافقة فالخادم يوافق المسكن و المسكن يوافق الفرش و كذلك جميع ما يليق به و قوله‏ «وَ لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ» قيل هن الحور العين و قيل هن‏


162
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 26] ..... ص : 163

من نساء الدنيا قال الحسن هن عجائزكم الغمص الرمص العمش طهرن من قذرات الدنيا «مُطَهَّرَةٌ» قيل في الأبدان و الأخلاق و الأعمال فلا يحضن و لا يلدن و لا يتغوطن و لا يبلن قد طهرن من الأقذار و الآثام و هو قول جماعة المفسرين‏ «وَ هُمْ فِيها» أي في الجنة «خالِدُونَ» يعني دائمون يبقون بقاء الله لا انقطاع لذلك و لا نفاد لأن النعمة تتم بالخلود و البقاء كما تنتقص بالزوال و الفناء و الخلود هو الدوام من وقت مبتدإ و لهذا لا يقال لله تعالى خالد.

[سورة البقرة (2): آية 26]

إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَ أَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَ يَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَ ما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ (26)

القراءة

يستحيي بيائين و روي عن ابن كثير يستحي بياء واحدة و وجه هذه القراءة أنه استثقل اجتماع اليائين فحذف إحداهما و هي لغة بني تميم.

اللغة

الاستحياء من الحياء و نقيضه القحة. و الضرب يقع على جميع الأعمال إلا قليلا يقال ضرب في التجارة و ضرب في الأرض و ضرب في سبيل الله و ضرب بيده إلى كذا و ضرب فلان على يد فلان إذا أفسد عليه أمرا أخذ فيه و ضرب الأمثال إنما هو جعلها لتسير في البلاد يقال ضربت القول مثلا و أرسلته مثلا و ما أشبه ذلك و البعوض القرقس و هو صغار البق الواحدة بعوضة و المثل و المثل كالشبه و الشبه قال كعب بن زهير:

كانت مواعيد عرقوب لنا مثلا

و ما مواعيده إلا الأباطيل‏

 

و الفسق و الفسوق الترك لأمر الله و قال الفراء الفسق الخروج عن الطاعة تقول العرب فسقت الرطبة عن قشرها إذا خرجت و لذلك سميت الفأرة فويسقة لخروجها من جحرها.

الإعراب‏

ما في قوله‏ «ما بَعُوضَةً» بالنصب فيه وجوه (أحدها) أن تكون ما


163
مجمع البيان في تفسير القرآن1

الإعراب ..... ص : 163

مزيدة و معناها التوكيد كما في قوله‏ «فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ» و تقديره أن الله لا يستحي أن يضرب بعوضة مثلا أو مثلا بعوضة فيكون بعوضة مفعولا ثانيا ليضرب (و ثانيها) أن يكون ما نكرة مفسرة ببعوضة كما يكون نكرة موصوفة في قوله تعالى: «هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ» فيكون تقديره لا يستحيي أن يضرب مثلا شيئا من الأشياء بعوضة فتكون بعوضة بدلا من شيئا (و ثالثها) ما يحكى عن الفراء أن معناه ما بين بعوضة إلى ما فوقها كما يقال مطرنا ما زبالة إلى التعلبية و له عشرون ما ناقة فجملا و هي أحسن الناس ما قرنا فقدما يعنون ما بين في جميع ذلك و الاختيار عند البصريين الوجه الأول و إنما اختير هذا الوجه لأن ضرب هاهنا بمعنى جعل فجاز أن يتعدى إلى مفعولين و يدخل على المبتدأ و الخبر و في التنزيل ما يدل عليه و هو قوله تعالى: «إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ» فمثل الحياة مبتدأ و كماء خبره و في موضع آخر وَ اضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ فدخل اضرب على المبتدأ و الخبر فصار بمنزلة قولك ظننت زيدا كعمرو و يجوز في الإعراب الرفع في بعوضة و إن لم تجز القراءة به و فيه وجهان (أحدهما) أن يكون خبرا لمبتدء محذوف في صلة ما فكأنه قال الذي هو بعوضة كقراءة من قرأ تماما على الذي أحسن بالرفع و هذا عند سيبويه ضعيف و هو في الذي أقوى لأن الذي أطول و ليس للذي مذهب غير الأسماء. (و الثاني) على الجواب كأنه لما قيل‏ «إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما» قيل ما هو فقيل‏ «بَعُوضَةً» أي بعوضة كما تقول مررت برجل زيد أي هو زيد فتكون ما على هذا الوجه نكرة مجردة من الصفة و الصلة و قوله‏ «فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا» لغة العرب جميعا بالتشديد و كثير من بني تميم يقولون أيما فلان فيفعل كذا و أنشد بعضهم:

مبتلة هيفاء أيما وشاحها

فيجري و أيما الحجل منها فلا يجري‏

 

و هي كلمة تجي‏ء في شيئين أو أشياء يفصل القول بينهما كقولك أما زيد فمحسن و أما عمرو فمسي‏ء فزيد مبتدأ و محسن خبره و فيها معنى الشرط و الجزاء و تقديره مهما يكن من شي‏ء فزيد محسن ثم أقيم أما مقام الشرط فيحصل أما فزيد محسن ثم أخر الفاء إلى الخبر لإصلاح اللفظ و لكراهة أن تقع الفاء التي للتعقيب في أول الكلام فقوله‏ «الَّذِينَ آمَنُوا» على هذا يكون مبتدأ و يعلمون خبره و كذلك‏ «الَّذِينَ كَفَرُوا» مبتدأ و يقولون خبره و قوله‏ «ما ذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا» ما استفهام و هو اسم في موضع الرفع بالابتداء و ذا بمعنى الذي و صلته ما بعده و هو في موضع رفع بأنه خبر المبتدأ تقديره أي شي‏ء الذي أراد


164
مجمع البيان في تفسير القرآن1

النزول ..... ص : 165

الله فعلى هذا يكون الجواب رفعا كقولك البيان لحال الذي ضرب له المثل و يحتمل أن يكون ما و ذا بمنزلة اسم واحد تقديره أي شي‏ء أراد الله فيكون في موضع نصب بأنه مفعول أراد فعلى هذا يكون الجواب نصبا كقولك البيان لحال من ضرب له المثل و مثال الأول قوله تعالى: «ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ» و مثال الثاني قوله‏ «ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً» و مثلا منصوب على الحال و قيل على القطع و قيل على التفسير.

النزول‏

روي عن ابن مسعود و ابن عباس أن الله تعالى لما ضرب المثلين قبل هذه الآية للمنافقين يعني قوله‏ «مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً» و قوله‏ «أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ» قال المنافقون الله أعلى و أجل من أن يضرب هذه الأمثال فأنزل الله تعالى هذه الآية و روي عن قتادة و الحسن لما ضرب المثل بالذباب و العنكبوت تكلم فيه قوم من المشركين و عابوا ذكره فأنزل الله هذه الآية.

المعنى‏

«إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي» أي لا يدع و قيل لا يمتنع لأن أحدنا إذا استحيى من شي‏ء تركه و امتنع منه و معناه أن الله لا يدع ضرب المثل بالأشياء الحقيرة لحقارتها إذا رأى الصلاح في ضرب المثل بها و قيل معناه هو أن الذي يستحيي منه ما يكون قبيحا في نفسه و يكون لفاعله عيب في فعله فأخبر الله تعالى أن ضرب المثل ليس بقبيح و لا عيب حتى يستحيي منه و قيل معناه أنه لا يخشى أن يضرب مثلا كما قال‏ «وَ تَخْشَى النَّاسَ وَ اللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ» أي تستحيي الناس و الله أحق أن تستحييه فالاستحياء بمعنى الخشية هنا كما أن الخشية بمعنى الاستحياء هناك و أصل الاستحياء الانقباض عن الشي‏ء و الامتناع منه خوفا من مواقعة القبيح و قال علي بن عيسى معناه أنه ليس في ضرب المثل بالحقير للحقير عيب يستحيي منه فكأنه قال لا يحل ضرب المثل بالبعوض محل ما يستحيي منه فوضع قوله‏ «إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي» موضعه و قوله‏ «ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها» أي ما هو أعظم منها عن قتادة و ابن جريج و قيل فما فوقها في الصغر و القلة لأن الغرض هاهنا الصغر و قال الربيع بن أنس أن البعوضة تحيى ما جاعت فإذا سمنت ماتت فكذلك القوم الذين ضرب لهم هذا المثل إذا امتلئوا من الدنيا ريا أخذهم الله عند ذلك ثم تلا «حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً» و

روي عن الصادق ع أنه قال‏ إنما ضرب الله المثل بالبعوضة لأن البعوضة على صغر حجمها خلق الله فيها جميع ما خلق في الفيل مع كبره و زيادة عضوين آخرين فأراد الله تعالى أن ينبه بذلك المؤمنين على لطيف خلقه و عجيب صنعه‏

و قد استشهد على استحسان ضرب المثل بالشي‏ء الحقير في كلام العرب بقول الفرزدق:


165
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 165

 

ضربت عليك العنكبوت بنسجها

و قضى عليك به الكتاب المنزل‏

 

و بقوله أيضا

و هل شي‏ء يكون أذل بيتا

من اليربوع يحتفر الترابا

 

و قوله‏ «فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا» أي صدقوا محمدا و القرآن و قبلوا الإسلام‏ «فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ» مدحهم الله تعالى بأنهم تدبروا حتى علموا أنه من ربهم و أن المثل وقع في حقه‏ «وَ أَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا» بالقرآن‏ «فَيَقُولُونَ» أي فلإعراضهم عن طريق الاستدلال و إنكارهم الحق قالوا «ما ذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا» أي ما ذا أراد الله بهذا المثل فحذف الألف و اللام و قوله‏ «يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَ يَهْدِي بِهِ كَثِيراً» فيه وجهان (أحدهما) حكي عن الفراء أنه قال أنه حكاية عمن قال ما ذا أراد الله بهذا مثلا يضل به كثيرا و يهدي به كثيرا أي يضل به قوم و يهتدي به قوم ثم قال الله تعالى‏ «وَ ما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ» فبين تعالى أنه لا يضل إلا فاسقا ضالا و هذا وجه حسن و الآخر أنه كلامه تعالى ابتداء و كلاهما محتمل و إذا كان محمولا على هذا فمعنى قوله‏ «يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً» إن الكفار يكذبون به و ينكرونه و يقولون ليس هو من عند الله فيضلون بسببه و إذا حصل الضلال بسببه أضيف إليه و قوله‏ «وَ يَهْدِي بِهِ كَثِيراً» يعني الذين آمنوا به و صدقوه و قالوا هذا في موضعه فلما حصلت الهداية بسببه أضيف إليه فمعنى الإضلال على هذا تشديد الامتحان الذي يكون عنده الضلال و ذلك بأن ضرب لهم الأمثال لأن المحنة إذا اشتدت على الممتحن فضل عندها سميت إضلالا و إذا سهلت فاهتدى سميت هداية فالمعنى إن الله تعالى يمتحن بهذه الأمثال عباده فيضل بها قوم كثير و يهتدي بها قوم كثير و مثله قوله‏ «رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ» أي ضلوا عندها و هذا كما يقال للرجل إذا أدخل الفضة النار لينظر فسادها من صلاحها فظهر فسادها أفسدت فضتك و هو لم يفعل فيها الفساد و إنما يراد أن فسادها ظهر عند محنته و قريب من ذلك قولهم فلان أضل ناقته و لا يريدون أنه أراد أن يضل و إنما يريدون ضلت منه لا من غيره و قولهم أفسدت فلانة فلانا و أذهبت عقله و هي ربما لم تعرفه و لكن لما ذهب عقله و فسد من أجلها أضيف الفساد إليها و قد يكون الإضلال بمعنى التخلية على جهة العقوبة و ترك المنع بالقهر و منع الألطاف التي يفعل بالمؤمنين جزاء على إيمانهم و هذا كما يقال لمن لا يصلح سيفه أفسدت سيفك أريد به أنك لم تحدث فيه الإصلاح في كل وقت‏


166
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[فصل في حقيقة الهداية و الهدى‏] ..... ص : 167

بالصقل و الإحداد و قد يكون الإضلال بمعنى التسمية بالضلال و الحكم به كما يقال أضله إذا نسبه إلى الضلال و أكفره إذا نسبه إلى الكفر قال الكميت:

فطائفة قد أكفروني بحبكم‏

و طائفة قالوا مسي‏ء و مذنب‏

 

و قد يكون الإضلال بمعنى الإهلاك و العذاب و التدمير و منه قوله تعالى‏ «إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَ سُعُرٍ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى‏ وُجُوهِهِمْ» و منه قوله تعالى‏ «أَ إِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ» أي هلكنا و قوله‏ «وَ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ» أي لن يبطل‏ سَيَهْدِيهِمْ وَ يُصْلِحُ بالَهُمْ‏ فعلى هذا يكون المعنى أن الله تعالى يهلك و يعذب بالكفر به كثيرا بأن يضلهم عن الثواب و طريق الجنة بسببه فيهلكوا و يهدي إلى الثواب و طريق الجنة بالإيمان به كثيرا عن أبي علي الجبائي و يدل على ذلك قوله‏ «وَ ما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ» لأنه لا يخلو من أن يكون أراد به العقوبة على التكذيب كما قلناه أو يكون أراد به التحيير و التشكيك فإن أراد الحيرة فقد ذكر أنه لا يفعل إلا بالفاسق المتحير الشاك فيجب أن لا تكون الحيرة المتقدمة التي بها صاروا فساقا من فعله إلا إذا وجدت حيرة قبلها أيضا و هذا يوجب وجود ما لا نهاية له من حيرة قبل حيرة لا إلى أول أو ثبوت إضلال لا إضلال قبله و إذا كان ذلك من فعله فقد أضل من لم يكن فاسقا و هو خلاف قوله‏ «وَ ما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ» و على هذا الوجه فيجوز أن يكون حكم الله تعالى عليهم بالكفر و براءته منهم و لعنته عليهم إهلاكا لهم و يكون إهلاكه إضلالا و كل ما في القرآن من الإضلال المنسوب إلى الله تعالى فهو بمعنى ما ذكرناه من الوجوه و لا يجوز أن يضاف إلى الله تعالى الإضلال الذي أضافه إلى الشيطان و إلى فرعون و السامري بقوله‏ وَ لَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً و قوله‏ «وَ أَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ» و قوله‏ «وَ أَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ» و هو أن يكون بمعنى التلبيس و التغليط و التشكيك و الإيقاع في الفساد و الضلال و غير ذلك مما يؤدي إلى التظليم و التجويز على ما يذهب إليه المجبرة تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

[فصل في حقيقة الهداية و الهدى‏]

و إذا قد ذكرنا أقسام الإضلال و ما يجوز إضافته إلى الله تعالى منها و ما لا يجوز


167
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 27] ..... ص : 168

فلنذكر أقسام الهداية التي هي ضده اعلم أن الهداية في القرآن تقع على وجوه (أحدها) أن تكون بمعنى الدلالة و الإرشاد يقال هداه الطريق و للطريق و إلى الطريق إذا دله عليه و هذا الوجه عام لجميع المكلفين فإن الله تعالى هدى كل مكلف إلى الحق بأن دله عليه و أرشده إليه لأنه كلفه الوصول إليه فلو لم يدله عليه لكان قد كلفه بما لا يطيق و يدل عليه قوله تعالى‏ «وَ لَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى‏» و قوله‏ «إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ» و قوله‏ «أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ» و قوله‏ «وَ أَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى‏ عَلَى الْهُدى‏» و قوله‏ «وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» و قوله‏ «وَ هَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ» و ما أشبه ذلك من الآيات (و ثانيها) أن يكون بمعنى زيادة الألطاف التي بها يثبت على الهدى و منه قوله تعالى‏ «وَ الَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً» أي شرح صدورهم و ثبتها (و ثالثها) أن يكون بمعنى الإثابة و منه قوله تعالى‏ «يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ» و قوله‏ «وَ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَ يُصْلِحُ بالَهُمْ» و الهداية التي تكون بعد قتلهم هي إثابتهم لا محالة لأنه ليس بعد الموت تكليف (و رابعها) الحكم بالهداية كقوله تعالى‏ «وَ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ» و هذه الوجوه الثلاثة خاصة بالمؤمنين دون غيرهم لأنه تعالى إنما يثيب من يستحق الإثابة و هم المؤمنون و يزيدهم بإيمانهم و طاعاتهم ألطافا و يحكم لهم بالهداية لذلك أيضا (و خامسها) أن تكون الهداية بمعنى جعل الإنسان مهتديا بأن يخلق الهداية فيه كما يجعل الشي‏ء متحركا بخلق الحركة فيه و الله تعالى يفعل العلوم الضرورية في القلوب فذلك هداية منه تعالى و هذا الوجه أيضا عام لجميع العقلاء كالوجه الأول فأما الهداية التي كلف الله تعالى العباد فعلها كالإيمان به و بأنبيائه و غير ذلك فإنها من فعل العباد و لذلك يستحقون عليها المدح و الثواب و إن كان الله سبحانه قد أنعم عليهم بدلالتهم على ذلك و إرشادهم إليه و دعائهم إلى فعله و تكليفهم إياه و أمرهم به فهو من هذا الوجه نعمة منه سبحانه عليهم و منة منه واصلة إليهم و فضل منه و إحسان لديهم فهو سبحانه مشكور على ذلك محمود إذ فعل بتمكينه و ألطافه و ضروب تسهيلاته و معوناته‏

[سورة البقرة (2): آية 27]

الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَ يَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (27)


168
مجمع البيان في تفسير القرآن1

اللغة ..... ص : 169

اللغة

النقض نقيض الإبرام و العهد العقد و العهد الموثق و العهد الالتقاء و هو قريب العهد بكذا و عهد الله وصيته و أمره يقال عهد الخليفة إلى فلان بكذا أي أمره و أوصاه به و منه قوله تعالى‏ «أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ» و الميثاق ما وقع التوثيق به كما أن الميقات ما وقع التوقيت به و يقال فلان ثقة يستوي فيه الواحد و الجمع و المذكر و المؤنث و يقال ثقات في الرجال و النساء و القطع الفصل بين الشيئين و أصل ذلك في الأجسام و يستعمل ذلك أيضا في الأعراض تشبيها به يقال قطع الحبل و قطع الكلام و الأمر هو قول القائل لمن دونه افعل هذه صيغته ثم يصير أمرا بإرادة الآمر المأمور به و صيغة الأمر تستعمل في الإباحة نحو قوله‏ فَاصْطادُوا و في التهديد نحو قوله‏ «اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ» و في التحدي نحو قوله‏ «فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ» و في التكوين كقوله‏ «كُنْ فَيَكُونُ» و الأصل في الجميع الطلب و الوصل نقيض الفصل و هو الجمع بين شيئين من غير حاجز و الخسران النقصان و الخسار الهلاك و الخاسرون الهالكون و أصل الخسران ذهاب رأس المال.

الإعراب‏

«الَّذِينَ يَنْقُضُونَ» في موضع النصب لأنها صفة الفاسقين و أولئك مبتدأ و الخاسرون خبره و هم فصل و يجوز أن يكون مبتدأ و الخاسرون خبره و الجملة خبر أولئك و قوله‏ «مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ» من مزيدة و قيل معناه ابتداء الغاية و الهاء في ميثاقه عائد إلى العهد و يجوز أن يكون عائدا إلى اسم الله تعالى و قوله‏ «أَنْ يُوصَلَ» بدل من الهاء التي في به أي ما أمر الله بأن يوصل فهو في موضع جر به.

المعنى‏

ثم وصف الله الفاسقين المذكورين في الآية فقال هم‏ «الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ» أي يهدمونه لا يفون به و قيل في عهد الله وجوه (أحدها) أنه ما ركب في عقولهم من أدلة التوحيد و العدل و تصديق الرسل و ما احتج به لرسله من المعجزات الشاهدة لهم على صدقهم و نقضهم لذلك تركهم الإقرار بما قد بينت لهم صحته بالأدلة (و ثانيها) أنه وصية الله إلى خلقه على لسان رسوله بما أمرهم به من طاعته و نهاهم عنه من معصيته و نقضهم لذلك تركهم العمل به (و ثالثها) أن المراد به كفار أهل الكتاب و عهد الله الذي نقضوه‏ «مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ» هو ما أخذه عليهم في التوراة من اتباع محمد ص و التصديق بما جاء به من عند ربه و نقضهم لذلك هو جحودهم به بعد معرفتهم بحقيقته و كتمانهم ذلك عن الناس بعد أن أخذ الله ميثاقهم ليبيننه للناس و لا يكتمونه و أنهم إن جاءهم نذير آمنوا به فلما جاءهم النذير ازدادوا نفورا و نبذوا العهد وراء ظهورهم و اشتروا به ثمنا قليلا و اختار هذا الوجه الطبري (و رابعها) أنه العهد الذي أخذه عليهم حين أخرجهم من صلب‏


169
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 28] ..... ص : 170

آدم كما وردت به القصة و هذا الوجه ضعيف لأنه لا يجوز أن يحتج على عباده بعهد لا يذكرونه و لا يعرفونه و لا يكون عليه دليل و قوله تعالى‏ «وَ يَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ» معناه أمروا بصلة النبي ص و المؤمنين فقطعوهم عن الحسن و قيل أمروا بصلة الرحم و القرابة فقطعوها عن قتادة و قيل أمروا بالإيمان بجميع الأنبياء و الكتب ففرقوا و قطعوا ذلك و قيل أمروا بأن يصلوا القول بالعمل ففرقوا بينهما بأن قالوا و لم يعملوا و قيل معناه الأمر بوصل كل من أمر الله بصلته من أوليائه و القطع و البراءة من أعدائه و هذا أقوى لأنه أعم و يدخل فيه الجميع و قوله‏ «وَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ» قال قوم استدعاؤهم إلى الكفر هو الفساد في الأرض و قيل إخافتهم السبيل و قطعهم الطريق و قيل نقضهم العهد و قيل أراد كل معصية تعدى ضررها إلى غير فاعلها و الأولى حمله على العموم‏ «أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ» أي أهلكوا أنفسهم فهم بمنزلة من هلك رأس ماله و روي عن ابن عباس أن كل ما نسبه الله تعالى من الخسار إلى غير المسلمين فإنما عنى به الكفر و ما نسبه إلى المسلمين فإنما عنى به الدنيا ..

[سورة البقرة (2): آية 28]

كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَ كُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28)

القراءة

قرأ يعقوب ترجعون بفتح التاء على أن الفعل لهم و الباقون بضم التاء و فتح الجيم على ما لم يسم فاعله.

الإعراب‏

كيف في الأصل سؤال عن الحال و يتضح ذلك في الجواب إذا قيل كيف رأيت زيدا فتقول مسرورا أو مهموما و ما أشبه ذلك فتجيب بأحواله فكيف ينتظم جميع الأحوال كما أن كم ينتظم جميع العدد و ما ينتظم جميع الجنس و أين ينتظم جميع الأماكن و من ينتظم جميع العقلاء و معناه في الآية التوبيخ و تقديره أ متعلقين بحجة تكفرون فيكون منصوب الموضع على الحال و العامل فيه تكفرون و قال الزجاج هو استفهام في معنى التعجب و هذا التعجب إنما هو للخلق أو للمؤمنين أي أعجبوا من هؤلاء كيف يكفرون و قد ثبتت حجة الله عليهم و معنى و كنتم و قد كنتم و الواو واو الحال و إضمار قد جائز إذا كان في الكلام دليل عليه و مثله قوله تعالى‏ «أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ» أي قد حصرت صدورهم و هي جملة في موضع الحال و إنما وجب إظهار قد في مثل هذا أو


170
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 171

 

تقديرها لأن الماضي لا يكون حالا و قد إنما يكون لتقريب العهد و لتقريب الحال فبدخوله يصلح أن يكون الفعل الماضي حالا.

المعنى‏

ثم عاد الله تعالى إلى الاحتجاج على الكفار في إنكارهم البعث و جحودهم لرسله و كتبه بما أنعم به عليهم فقال‏ «كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ» و من قال هو توبيخ قال معناه ويحكم كيف تكفرون كما يقال كيف تكفر نعمة فلان و قد أحسن إليك و من قال هو تعجب قال تقديره عجبا منكم على أي حال يقع منكم الكفر بالله مع الدلائل الظاهرة على وحدانيته و المعجزات القاهرة على صدق من اختصه برسالته و قيام الحجج الباهرة على وجوب طاعته و شكر نعمته ثم ذكر سبحانه بعض نعمه عليهم فقال‏ «وَ كُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ» أي و حالكم أنكم كنتم أمواتا و فيه وجوه (أحدها) أنهم كانوا أمواتا في أصلاب آبائهم يعني نطفا فأحياهم الله ثم أماتهم الموتة التي لا بد منها ثم أحياهم بعد الموت فهما حياتان و موتتان عن قتادة (و ثانيها) أن معناه لم تكونوا شيئا فخلقكم ثم يميتكم ثم يحييكم يوم القيامة عن ابن عباس و ابن مسعود (و ثالثها) أن معناه كنتم أمواتا يعني خاملي الذكر فأحياكم بالظهور ثم يميتكم عند تقضي آجالكم ثم يحييكم للبعث و العرب تسمي كل امرئ خامل ميتا و كل امرئ مشهور حيا كما قال أبو نخيلة السعدي‏

فأحييت من ذكري و ما كان خاملا

 

و لكن بعض الذكر أنبه من بعض‏

     

 

(و رابعها) أن معناه كنتم نطفا في أصلاب آبائكم و بطون أمهاتكم و النطفة موات فأخرجكم إلى دار الدنيا أحياء «ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ» في القبر للمسائلة «ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» أي يبعثكم يوم الحشر للحساب و المجازاة على الأعمال و سمي الحشر رجوعا إلى الله تعالى لأنه رجوع إلى حيث لا يكون أحد يتولى الحكم فيه غير الله كما يقال رجع أمر القوم إلى الأمير و لا يراد به الرجوع من مكان إلى مكان و إنما يراد به أن النظر صار له خاصة دون غيره و إنما بدأ الله تعالى بذكر الحياة و من بين سائر النعم التي أنعم بها على العبد لأن أول نعمة أنعم الله بها عليه خلقه إياه حيا لينفعه و بالحياة يتمكن الإنسان من الانتفاع و الالتذاذ و إنما عد الموت من النعم و هو يقطع النعم في الظاهر لأن الموت يقطع التكليف فيصل المكلف بعده إلى الثواب الدائم فهو من هذا الوجه نعمة و قيل إنما ذكر الموت لتمام الاحتجاج لا لكونه نعمة و في هذه الآية دلالة على أنه تعالى لم يرد من عباده الكفر و لا خلقه فيهم لأنه لو أراده منهم أو خلقه فيهم لم يجز أن يضيفه إليهم بقوله‏ «كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ» كما لا يجوز أن يقول لهم كيف أو لم كنتم طوالا أو قصارا و ما أشبه ذلك مما

 

 

 

171
مجمع البيان في تفسير القرآن1

اللغة ..... ص : 172

هو من فعله تعالى فيهم.

[سورة البقرة (2): آية 29]

هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى‏ إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَلِيمٌ (29)

اللغة

أصل الخلق التقدير و الجمع الضم و نقيضه الفرق و سميت الجمعة جمعة لاجتماع الناس و الاستواء الاعتدال و الاستقامة و نقيضه الاعوجاج و السبع للمؤنث و السبعة للمذكر و السبع مشتق من ذلك لأنه مضاعف القوى كأنه ضوعف سبع مرات و العليم في معنى العالم قال سيبويه إذا أرادوا المبالغة عدوا إلى فعيل نحو عليم و رحيم.

المعنى‏

قال المفسرون لما استعظم المشركون أمر الإعادة عرفهم الله تعالى خلق السموات و الأرض ليدلهم بذلك على قدرته على الإعادة فقال‏ «هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ» أي لأجلكم‏ «ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً» ما في موضع نصب بأنه مفعول بها و معناه أن الأرض و جميع ما فيها نعم من الله تعالى مخلوقة لكم إما دينية فتستدلون بها على معرفته و إما دنياوية فتنتفعون بها بضروب النفع عاجلا و قوله‏ «ثُمَّ اسْتَوى‏ إِلَى السَّماءِ» فيه وجوه (أحدها) أن معناه قصد للسماء و لتسويتها كقول القائل كان الأمير يدبر أمر الشام ثم استوى إلى أهل الحجاز أي تحول تدبيره و فعله إليهم (و ثانيها) أنه بمعنى استولى على السماء بالقهر كما قال‏ لِتَسْتَوُوا عَلى‏ ظُهُورِهِ‏ أي تقهروه و منه قوله‏ «وَ لَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ اسْتَوى‏» أي تمكن من أمره و قهر هواه بعقله فعلى هذا يكون معناه ثم استوى إلى السماء في تفرده بملكها و لم يجعلها كالأرض ملكا لخلقه و منه قول الشاعر:

فلما علونا و استوينا عليهم‏

تركناهم صرعى لنسر و كاسر

 

و قال آخر:

ثم استوى بشر على العراق‏

من غير سيف و دم مهراق‏

 

(و ثالثها) أن معناه ثم استوى أمره و صعد إلى السماء لأن أوامره و قضاياه تنزل من السماء إلى الأرض عن ابن عباس (و رابعها) ما روي عن ثعلب أحمد بن يحيى أنه سئل‏


172
مجمع البيان في تفسير القرآن1

سؤال ..... ص : 173

عن معنى الاستواء في صفة الله عز و جل فقال الاستواء الإقبال على الشي‏ء يقال كان فلان مقبلا على فلان [يشتمه‏] ثم استوى علي و إلي يكلمني على معنى أقبل إلي و علي فهذا معنى قوله‏ «ثُمَّ اسْتَوى‏ إِلَى السَّماءِ» و قوله‏ «فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ» التسوية جعل الشيئين أو الأشياء على استواء يقال سويت الشيئين فاستويا و إنما قال‏ «فَسَوَّاهُنَّ» فجمع الضمير العائد إلى السماء لأن السماء اسم جنس يدل على القليل و الكثير كقولهم أهلك الناس الدينار و الدرهم و قيل السماء جمع سماوة و سماءة و لذلك يؤنث مرة و يذكر أخرى فقيل‏ السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ‏ كما يفعل ذلك بالجمع الذي بينه و بين واحده الهاء نحو نخل و نخلة و بقر و بقرة و قيل إن السماوات كانت سماء فوق سماء فهي في التقدير واحدة و تكون الواحدة جماعة كما يقال ثوب أخلاق و أسمال و برقة أعشار و أرض أعقال و المعنى أن كل ناحية منها كذلك فجمع على هذا المعنى جعلهن سبع سموات مستويات بلا فطور و لا أمت قال علي بن عيسى أن السموات غير الأفلاك لأن الأفلاك تتحرك و تدور و السموات لا تتحرك و لا تدور لقوله‏ «إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ أَنْ تَزُولا» و هذا قول ضعيف لأن قوله‏ أَنْ تَزُولا معناه لا تزول عن مراكزها التي تدور عليها و لو لا إمساكه لزالت عنها.

سؤال‏

ظاهر قوله تعالى‏ «ثُمَّ اسْتَوى‏ إِلَى السَّماءِ» يوجب أنه خلق الأرض قبل السماء لأن ثم للتعقيب و التراخي و قوله في سورة أخرى‏ «وَ الْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها» بخلافه فكيف يجمع بينهما الجواب معناه أن الله خلق الأرض قبل السماء غير أنه لم يدحها فلما خلق السماء دحاها بعد ذلك و دحوها بسطها و مدها عن الحسن و عمرو بن عبيد و قد يجوز أيضا أن لا يكون معنى ثم و بعد في هذه الآيات الترتيب في الأوقات و إنما هو على جهة تعداد النعم و التنبيه عليها و الإذكار لها كما يقول القائل لصاحبه أ ليس قد أعطيتك ثم رفعت منزلتك ثم بعد هذا كله فعلت بك و فعلت و ربما يكون بعض ما ذكره متقدما في اللفظ كان متأخرا لأن المراد لم يكن الإخبار عن أوقات الفعل و إنما المراد التذكير كما ذكره و قوله‏ «وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَلِيمٌ» و لم يقل قدير لأنه لما وصف نفسه بالقدرة و الاستيلاء وصل ذلك بالعلم إذ بهما يصح وقوع الفعل على وجه الإتقان و الإحكام و أيضا فإنه أراد أن يبين أنه عالم بما يؤول إليه حاله و حال المنعم به عليه فتتحقق بذلك النعمة و في هذه الآية دلالة على أن صانع السماء و الأرض قادر و عالم و أنه تعالى إنما يفعل الفعل لغرض و أن له تعالى‏

173
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 30] ..... ص : 174

 

على الكفار نعما يجب شكره عليهم بها و فيها أيضا دلالة على أن الأصل في الأشياء الإباحة لأنه ذكر أنه خلق ما في الأرض لمنفعة العباد ثم صار حظا لكل واحد منهم فما يتفرد كل منهم بالتصرف فيه يحتاج إلى دليل.

[سورة البقرة (2): آية 30]

وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَ يَسْفِكُ الدِّماءَ وَ نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَ نُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (30)

اللغة

القول موضوع في كلام العرب للحكاية نحو قولك قال زيد خرج عمرو و الرب السيد يقال رب الدار و رب الفرس و لا يقال الرب بالألف و اللام إلا لله تعالى و أصله من ربيته إذا قمت بأمره و منه قيل للعالم رباني لأنه يقوم بأمر الأمة و الملائكة جمع ملك و اختلف في اشتقاقه فذهب أكثر العلماء إلى أنه من الألوكة و هي الرسالة و قال الخليل الألوك الرسالة و هي المالكة و المالكة على مفعلة و قال غيره إنما سميت الرسالة الوكا لأنها تولك في الفم أي تمضغ و الفرس تألك اللجام و تعلك قال عدي بن زيد:

أبلغا النعمان عني مالكا

 

أنه قد طال حسبي و انتظاري‏

     

 

و يروى ملاءكا و قال لبيد:

و غلام أرسلته أمه‏

 

بالوك فبذلنا ما سأل‏

     

 

و قال الهذلي:

ألكني إليها و خير الرسول‏

 

أعلمهم بنواحي الخبر

     

 

فالملائكة على هذا وزنها معافلة لأنها مفاعلة مقلوبة جمع ملأك في معنى مالك قال الشاعر:

فلست لإنسي و لكن لملأك‏

 

تنزل من جو السماء يصوب‏

     

 

 

 

 

174
مجمع البيان في تفسير القرآن1

اللغة ..... ص : 174

فوزن ملأك معفل مقلوب مالك مفعل و من العرب من يستعمله مهموزا و الجمهور منهم على إلقاء حركة الهمزة على اللام و حذفها فيقال ملك و ذهب أبو عبيدة إلى أن أصله من لاك إذا أرسل فملأك على هذا القول مفعل و ملائكة مفاعلة غير مقلوبة و الميم في هذين الوجهين زائدة و ذهب ابن كيسان إلى أنه من الملك و أن وزن ملأك فعال مثل شمال و ملائكة فعائلة فالميم على هذا القول أصلية و الهمزة زائدة و الملك و إن كان أصله الرسالة فقد صار صفة غالبة على صنف من رسل الله غير البشر كما أن السماء و إن كان أصله الارتفاع فقد صار غالبا على السماوات المعروفة و قال أصحابنا رضي الله عنهم أن جميع الملائكة ليسوا برسل الله بدلالة قوله تعالى‏ «يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَ مِنَ النَّاسِ» فلو كانوا كلهم رسلا لكان جميعهم مصطفين فعلى هذا يكون الملك اسم جنس و لا يكون من الرسالة و الجعل و الخلق و الفعل و الإحداث نظائر إلا أن الجعل قد يتعلق بالشي‏ء لا على سبيل الإيجاد بخلاف الفعل و الإحداث تقول جعلته متحركا و حقيقة الجعل تغيير الشي‏ء عما كان عليه و حقيقة الفعل و الإحداث الإيجاد و الخليفة و الإمام واحد في الاستعمال إلا أن بينهما فرقا فالخليفة استخلف في الأمر مكان من كان قبله فهو مأخوذ من أنه خلف غيره و قام مقامه و الإمام مأخوذ من التقدم فهو المتقدم فيما يقتضي وجوب الاقتداء به و فرض طاعته فيما تقدم فيه و السفك صب الدم و الدم قد اختلف في وزنه فقال بعضهم دمي على وزن فعل قال الشاعر:

فلو أنا على حجر ذبحنا

جرى الدميان بالخبر اليقين‏

 

و قيل أصله دمي على وزن فعل و الشاعر لما رد الياء في التثنية لقلة الاسم حركه ليعلم أنه متحركا قبل ذلك و التسبيح التنزيه لله تعالى عن السوء و عما لا يليق به و السبوح المستحق للتنزيه و التعظيم و القدوس المستحق للتطهير و التقديس التطهير و نقيضه التنجيس و القدس السطل الذي يتطهر منه و قد حكى سيبويه أن منهم من يقول سبوح قدوس بالفتح و الضم أكثر في الكلام و الفتح أقيس لأنه ليس في الكلام فعول إلا ذروح و سبحان اسم المصدر قال سيبويه سبحان الله معناه براءة الله من كل سوء و تنزيه الله قال الأعشى:

أقول لما جاءني فخره‏

سبحان من علقمة الفاخر

 

أي براءة منه قال و هو معرفة علم خاص لا ينصرف للتعريف و الزيادة و قد اضطر الشاعر فنونه قال أمية:


175
مجمع البيان في تفسير القرآن1

الإعراب ..... ص : 176

 

سبحانه ثم سبحانا يعود له‏

و قبله سبح الجودي و الجمد

 

و هو مشتق من السبح الذي هو الذهاب و لا يجوز أن يسبح غير الله و إن كان منزها لأنه صار علما في الدين على أعلى مراتب التعظيم التي لا يستحقها سواه كما أن العبادة هي غاية في الشكر لا يستحقها سواه.

الإعراب‏

قال أبو عبيدة إذ هاهنا زائدة و أنكر الزجاج و غيره عليه هذا القول و قالوا أن الحرف إذا أفاد معنى صحيحا لم يجز إلغاؤه قال الزجاج و معناه الوقت و لما ذكر الله تعالى خلق الناس و غيرهم فكأنه قال ابتداء خلقكم‏ «إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ» و قال علي بن عيسى تقديره اذكر إذ قال ربك للملائكة فموضع إذ نصب على إضمار فعل و الواو عاطفة جملة على جملة و «إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً» جملة في موضع نصب بقال و قوله‏ «أَ تَجْعَلُ فِيها» إلى قوله‏ «وَ نُقَدِّسُ لَكَ» في موضع نصب بقالوا و الواو في قوله‏ «وَ نَحْنُ» واو الحال و تسمى واو القطع و واو الاستئناف و واو الابتداء و واو إذ كذا كان يمثلها سيبويه و مثله الواو في قوله‏ «يَغْشى‏ طائِفَةً مِنْكُمْ وَ طائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ» أي إذ طائفة و كذا هاهنا إذ نحن نسبح و العامل في الحال هاهنا أ تجعل كأنه قال أ تجعل فيها من يفسد فيها و هذه حالنا و الباء في بحمدك تتعلق بنسبح و اللام من لك تتعلق بنقدس و ما موصولة و صلته لا تعلمون و العائد ضمير المفعول حذف لطول الكلام أي لا تعلمونه و هو في موضع النصب بأعلم.

المعنى‏

اذكر يا محمد «إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ» قيل أنه خطاب لجميع الملائكة و قيل خطاب لمن أسكنه الأرض بعد الجان من الملائكة عن ابن عباس‏ «إِنِّي جاعِلٌ» أي خالق‏ «فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً» أراد بالخليفة آدم (ع) فهو خليفة الله في أرضه يحكم بالحق إلا أنه تعالى كان أعلم ملائكته أنه يكون من ذريته من يفسد فيها عن ابن عباس و ابن مسعود و قيل إنما سمى الله تعالى آدم خليفة لأنه جعل آدم و ذريته خلفاء للملائكة لأن الملائكة كانوا من سكان الأرض و قيل كان في الأرض الجن فأفسدوا فيها و سفكوا الدماء فأهلكوا فجعل آدم و ذريته بدلهم عن ابن عباس و قيل عنى بالخليفة ولد آدم يخلف بعضهم بعضا و هم خلفوا أباهم آدم في إقامة الحق و عمارة الأرض عن الحسن البصري و قيل أراد بالأرض مكة لأن النبي ص قال دحيت الأرض من مكة و لذلك سميت أم القرى و روي أن قبر نوح و هود و صالح و شعيب بين زمزم و الركن و المقام و الظاهر أنها الأرض‏


176
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 176

المعروفة و هو الصحيح و قوله‏ «قالُوا» يعني الملائكة لله تعالى أ تجعل فيها أي في الأرض من يفسد فيها بالكفر و المعاصي و يسفك الدماء بغير حق و ذكر فيه وجوه (أحدها) أن خلقا يقال لهم الجان كانوا في الأرض فأفسدوا فيها فبعث الله ملائكة أجلتهم من الأرض و كان هؤلاء الملائكة سكان الأرض من بعدهم فقالوا يا ربنا «أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها» كما فعل بنو الجان قاسوا بالشاهد على الغائب و هو قول كثير من المفسرين (و ثانيها) أن الملائكة إنما قالت ذلك على سبيل الاستفهام و على وجه الاستخبار و الاستعلام عن وجه المصلحة و الحكمة لا على وجه الإنكار و لا على سبيل إخبار فكأنهم قالوا يا الله إن كان هذا كما ظننا فعرفنا ما وجه الحكمة فيه (و ثالثها) أن الله تعالى أخبر الملائكة بأنه سيكون من ذرية هذا الخليفة من يعصي و يسفك الدماء على ما روي عن ابن عباس و ابن مسعود و الغرض في إعلامه إياهم أن يزيدهم يقينا على وجه علمه بالغيب لأنه وجد بعد ذلك على ما أخبرهم به و قيل ليعلم آدم أنه خلق للأرض لا للجنة فقالت الملائكة أ تجعل فيها من يفعل كذا و كذا على وجه التعرف لما في هذا من التدبير و الاستفادة لوجه الحكمة فيه و هذا الوجه يقتضي أن يكون في أول الكلام حذف و يكون التقدير إني جاعل في الأرض خليفة و إني عالم بأنه سيكون في ذريته من يفسد فيها و يسفك الدماء فحذف اختصارا و كذلك قوله‏ «أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَ يَسْفِكُ الدِّماءَ وَ نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَ نُقَدِّسُ لَكَ» في ضمنه اختصار شديد أي فنحن على ما نظنه و يظهر لنا من الأمر أولى بالخلافة في الأرض لأنا نطيع و غيرنا يعصي و في قوله‏ «إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ» اختصار أيضا لأنه يتضمن أني أعلم من مصالح المكلفين ما لا تعلمونه و ما يكون مخالفا لما تظنونه على ظواهر الأمور و مثل هذه الحذوف العجيبة و الاختصارات البديعة كثيرة في القرآن و الحذف معدود في أنواع الفصاحة إذا كان فيما أبقي دليل على ما ألقي و مما جاء منه في الشعر قول الشنفري:

و لا تقبروني إن قبري محرم‏

عليكم و لكن خامري أم عامر

 

أي لا تدفنوني بل دعوني تأكلني التي يقال لها خامري أم عامر يعني الضبع و قول أبي داود:

إن من شيمتي لبذل تلادي‏

دون عرضي فإن رضيت فكوني‏

 


177
مجمع البيان في تفسير القرآن1

النظم ..... ص : 178

أي فكوني على ما أنت عليه و إن سخطت فبيني فحذف و قال عنترة:

هل تبلغني دارها شدنية

لعنت بمحروم الشراب مصرم‏

 

أي دعي عليها بانقطاع لبنها و جفاف ضرعها فصارت كذلك و الناقة إذا كانت لا تنتج كانت أقوى على السير و إنما أرادت الملائكة بقولهم‏ «أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها» ولد آدم الذين ليسوا بأنبياء و لا معصومين لا آدم نفسه و من يجري مجراه من الأنبياء و المعصومين و معنى قولهم‏ «وَ نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ» نتكلم بالحمد لك و النطق بالحمد لله تسبيح له كقوله تعالى‏ «وَ الْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ» و إنما يكون حمد الحامد سبحانه تسبيحا لأن معنى الحمد لله الثناء عليه و الشكر له و هذا تنزيه له و اعتراف بأنه أهل لأن ينزه و يعظم و يثني عليه عن مجاهد و قيل معنى‏ «نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ» نصلي لك كقوله‏ «فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ» أي من المصلين عن ابن عباس و ابن مسعود و قيل هو رفع الصوت بذكر الله عن المفضل و منه قول جرير:

قبح الإله وجوه تغلب كلما

سبح الحجيج و كبروا إهلالا

 

و قوله‏ «وَ نُقَدِّسُ لَكَ» أي ننزهك عما لا يليق بك من صفات النقص و لا نضيف إليك القبائح فاللام على هذا زائدة نقدسك و قيل نقدس لك أي نصلي لأجلك و قيل نطهر أنفسنا من الخطايا و المعاصي قوله‏ «إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ» قيل أراد ما أضمره إبليس من الكبر و العجب و المعصية لما أمره الله سبحانه بالسجود لآدم عن ابن عباس و ابن مسعود و قيل أراد أعلم من في ذرية آدم من الأنبياء و الصالحين عن قتادة و قيل أراد به ما اختص الله تعالى بعلمه من تدبير المصالح و

روي عن أبي عبد الله قال‏ إن الملائكة سألت الله تعالى أن يجعل الخليفة منهم و قالوا نحن نقدسك و نطيعك و لا نعصيك كغيرنا قال فلما أجيبوا بما ذكر في القرآن علموا أنهم تجاوزوا ما لهم فلاذوا بالعرش استغفارا فأمر الله تعالى آدم بعد هبوطه أن يبني له في الأرض بيتا يلوذ به المخطئون كما لاذ بالعرش الملائكة المقربون فقال الله تعالى للملائكة إني أعرف بالمصلحة منكم و هو معنى قوله‏ «أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ»

و هذا يدل على أنه تعالى لا يفعل القبيح لأنه لو كان يحسن منه كل شي‏ء لم يكن لهذا الكلام معنى لأنه إنما يفيد في الجواب متى حمل على أنه أراد إني أعلم بالمصالح فأفعل ما هو الأصلح.

النظم‏

و اتصال هذه الآية بما قبلها أن الله تعالى ذكر أول النعم له علينا و هي نعمة


178
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 31] ..... ص : 179

الحياة ثم ذكر بعده إنعامه علينا بخلق الأرض و ما فيها و بخلق السماء ثم أراد أن يذكر نعمته علينا بخلق أبينا آدم ع و ما أعطاه من الفضيلة فكأنه قال اذكر لهم كيف تكفرون بالله و قد فعل بكم كذا و كذا و أنعم عليكم بكذا أو كذا.

[سورة البقرة (2): آية 31]

وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (31)

القراءة

قرأ أهل المدينة و أهل البصرة هؤلاء بمدة واحدة لا يمدونها إلا على قدر خروج الألف و يمدون أولاء كأنهم يجعلونه كلمتين و الباقون يمدون مدتين في كل القرآن فأما الهمزتان من كلمتين نحو «هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» و نحوها فأبو جعفر و نافع برواية ورش و ابن كثير برواية القواس و يعقوب يهمزون الأولى و يخففون الثانية و يشيرون بالكسرة إليها و كذلك يفعلون في كل همزتين متفقتين تلتقيان من كلمتين مكسورتين كانتا أو مضمومتين أو مفتوحتين فالمكسورتان على البغاء إن أردن و المضمومتان أولياء أولئك ليس في القرآن غيره و المفتوحتان جاء أحدكم و شاء أنشره و أبو عمرو و البزي بهمزة واحدة فيتركان إحداهما أصلا إذا كانتا متفقتين و نافع برواية إسماعيل و ابن كثير برواية ابن فليح بتليين الأولى و تحقيق الثانية و إذا اختلفتا فاتفقوا على همز الأولى و تليين الثانية نحو السُّفَهاءُ أَلا و الْبَغْضاءَ إِلى‏ يَوْمِ الْقِيامَةِ فأما ابن عامر و عاصم و الكسائي فإنهم يهمزون همزتين في جميع ذلك متفقتين كانتا أو مختلفتين أما الحذف و التليين فللتخفيف و أما الهمز فللحمل على الأصل.

اللغة

في اشتقاق آدم قولان (أحدهما) أنه مأخوذ من أديم الأرض فإذا سميت به في هذا الوجه ثم نكرته صرفته (و الثاني) أنه مأخوذ من الأدمة على معنى اللون و الصفة فإذا سميت به في هذا الوجه ثم نكرته لم تصرفه و الأدمة و السمرة و الدكتة و الورقة متقاربة المعنى و آدم أبو البشر ع قال صاحب العين الأدمة في الناس شربة من سواد و هي السمرة و في الإبل و الظباء بياض و كل لفظة عموم على وجه الاستيعاب و حقيقته للإحاطة بالأبعاض يقال أ بعض القوم جاءك أم كلهم و يكون تأكيدا مثل أجمعون إلا أنه يبدأ في الذكر بكل كقوله تعالى‏ «فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ» لأن كلا قد يلي العوامل و أجمعون لا يكون إلا تابعا و العرض من قولهم عرضت الشي‏ء عليه و عرضت الجند قال الزجاج أصله في اللغة الناحية من نواحي الشي‏ء فمن ذلك العرض خلاف الطول و عرض‏


179
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 180

الرجل ما يمدح به أو يذم و يقال عرضه خليقته المحمودة و يقال عرضه حسبه و قال علي بن عيسى هو ناحيته التي يصونها عن المكروه و السب، و العرض و ما يعرض في الجسم و يغير صفته و يقال عرضت المتاع على البيع عرضا أي أظهرته حتى عرفت جهته و الإنباء و الإعلام و الإخبار واحد و النبأ الخبر و يقال منه أنبأته و نبأته و أنبئوني بأسماء هؤلاء أي أخبروني بها أما المتعدي إلى ثلاثة مفاعيل نحو أنبأت زيدا عمرا خير الناس و كذلك نبأت فهو هذا في الأصل إلا أنه حمل على المعنى فعدي إلى ثلاثة مفاعيل لأن الإنباء بمعنى الإعلام و دخول هذا المعنى فيه و حصول مشابهته للإعلام لم يخرجه عن الأصل الذي هو له من الإخبار و عن أن يتعدى إلى مفعولين أحدهما بالباء أو بعن نحو نَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ‏ و النبوة إذا أخذت من الإنباء فهي مهموزة و

قد روي عن النبي ص أنه قال‏ لا تنبئن باسمي لرجل قال له يا نبي‏ء الله‏

مهموزا و النبي بغير همز الطريق الواضح يأخذ بك إلى حيث تريد و الفرق بين الإعلام و الإخبار أن الإعلام قد يكون بخلق العلم الضروري في القلب كما خلق الله من كمال العقل و العلم بالمشاهدات و قد يكون بنصب الأدلة على الشي‏ء و الإخبار هو إظهار الخبر علم به أو لم يعلم و لا يكون مخبرا بما يحدثه من العلم في القلب كما يكون معلما بذلك.

المعنى‏

ثم أبان سبحانه و تعالى لملائكته فضل آدم عليهم و على جميع خلقه بما خصه به من العلم فقال سبحانه و تعالى‏ «وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها» أي علمه معاني الأسماء إذ الأسماء بلا معان لا فائدة فيها و لا وجه لإشارة الفضيلة بها و قد نبه الله تعالى الملائكة على ما فيها من لطيف الحكمة فأقروا عند ما سئلوا عن ذكرها و الإخبار عنها أنه لا علم لهم بها فقال الله تعالى‏ «يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ» عن قتادة و قيل أنه سبحانه علمه جميع الأسماء و الصناعات و عمارة الأرضين و الأطعمة و الأدوية و استخراج المعادن و غرس الأشجار و منافعها و جميع ما يتعلق بعمارة الدين و الدنيا عن ابن عباس و مجاهد و سعيد بن جبير و عن أكثر المتأخرين و قيل أنه علمه أسماء الأشياء كلها ما خلق و ما لم يخلق بجميع اللغات التي يتكلم بها ولده بعده عن أبي علي الجبائي و علي بن عيسى و غيرهما قالوا فأخذ عنه ولده اللغات فلما تفرقوا تكلم كل قوم بلسان ألفوه و اعتادوه و تطاول الزمان على ما خالف ذلك فنسوه و يجوز أن يكونوا عالمين بجميع تلك اللغات إلى زمن نوح (ع) فلما أهلك الله الناس إلا نوحا و من تبعه كانوا هم العارفين بتلك اللغات فلما كثروا و تفرقوا اختار كل قوم منهم لغة تكلموا بها و تركوا ما سواه و نسوة و

قد روي عن الصادق (ع) أنه سئل عن هذه الآية فقال الأرضين و الجبال و الشعاب و الأودية ثم نظر إلى بساط تحته فقال‏


180
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 180

و هذا البساط مما علمه‏

و قيل أنه علمه أسماء الملائكة و أسماء ذريته عن الربيع و قيل أنه علمه ألقاب الأشياء و معانيها و خواصها و هو أن الفرس يصلح لما ذا و الحمار يصلح لما ذا و هذا أبلغ لأن معاني الأشياء و خواصها لا تتغير بتغير الأزمنة و الأوقات و ألقاب الأشياء تتغير على طول الأزمنة و قال بعضهم أنه تعالى لم يعلمه اللغة العربية فإن أول من تكلم بالعربية إسماعيل (ع) و قالوا أن الله جعل الكلام معجزة لثلاثة من الأنبياء آدم و إسماعيل و محمد ص ثم اختلف في كيفية تعليم الله تعالى آدم الأسماء فقيل علمه بأن أودع قلبه معرفة الأسماء و فتق لسانه بها فكان يتكلم بتلك الأسماء كلها و كان ذلك معجزة له لكونه ناقصا للعادة و قيل علمه إياها بأن اضطره إلى العلم بها و قيل علمه لغة الملائكة ثم علمه بتلك اللغة سائر اللغات و قيل إنما علمه أسماء الأشخاص بأن أحضر تلك الأشياء و علمه أسماءها في كل لغة و أنه لأي شي‏ء يصلح و أي نفع فيه و أي ضرر و قوله‏ «ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ» روي عن ابن عباس أنه قال عرض الخلق و عن مجاهد قال عرض أصحاب الأسماء و على هذا فيكون معناه ثم عرض المسميات على الملائكة و فيهم من يعقل و فيهم من لا يعقل فقال عرضهم غلب العقلاء فأجرى على الجميع كناية من يعقل كقوله‏ «وَ اللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى‏ بَطْنِهِ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى‏ رِجْلَيْنِ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى‏ أَرْبَعٍ» أجري عليهم كناية من يعقل و في قراءة أبي ثم عرضها و في قراءة ابن مسعود ثم عرضهن و على هاتين القراءتين يصلح أن يكون عبارة عن الأسماء دون المسميات و اختلف في كيفية العرض على الملائكة فقيل إنما عرضها على الملائكة بأن خلق معاني الأسماء التي علمها آدم حتى شاهدتها الملائكة و قيل صور في قلوبهم هذه الأشياء فصارت كأنهم شاهدوها و قيل عرض عليهم من كل جنس واحد و أراد بذلك تعجيزهم فإن الإنسان إذا قيل له ما اسم شي‏ء صفته كذا و كذا فلم يعلم كان أبلغ عذرا ممن عرض عليه شي‏ء بعينه و سئل عن اسمه فلم يعرفه و بين بذلك أن آدم ع أصلح لكدخدائية الأرض و عمارتها لاهتدائه إلى ما لا تهتدي الملائكة إليه من الصناعات المختلفة و حرث الأرض و زراعتها و إنباط الماء و استخراج الجواهر من المعادن و قعر البحار بلطائف الحكمة و هذا يقوي قول من قال أنه علمه خواص الأشياء و أراد به أنكم إذا عجزتم عن معرفة هذه الأشياء مع مشاهدتكم لها فأنتم عن معرفة الأمور المغيبة عنكم أعجز «فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» أن سأل فقيل ما الذي ادعت الملائكة حتى خوطبوا بهذا و كيف أمرهم الله سبحانه أن يخبروا بما لا يعلمون فالجواب أن للعلماء فيه وجوها من الكلام (أحدها) أن الله تعالى لما أخبر الملائكة بأنه جاعل في الأرض خليفة هجس في نفوسها


181
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 32] ..... ص : 182

 

أنه إن كان الخليفة منهم بدلا من آدم و ذريته لم يكن في الأرض فساد و لا سفك دم كما يكون في ولد آدم و إن كان الله لا يفعل إلا ما هو الأصلح في التدبير و الأصوب في الحكمة فقال الله تعالى‏ «أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» فيما ظننتم من هذا المعنى ليدلهم على أنهم إذا لم يعلموا باطن ما شاهدوا فهم من أن يعلموا باطن ما غاب عنهم أبعد (و ثانيها) أنه خطر ببالهم أنه لن يخلق الله خلقا إلا و هم أعلم منه و أفضل في سائر أنواع العلم فقيل‏ «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» في هذا الظن فأخبروا بهذه الأسماء (و ثالثها) أن المراد أن كنتم صادقين في أنكم تعلمون لم أجعل في الأرض خليفة أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين لأن كل واحد من الأمرين من علم الغيب فكما لم تعلموا أحدهما لا تعلمون الآخر عن ابن عباس (و رابعها) ما قاله الأخفش و الجبائي و علي بن عيسى و هو أن المراد «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» فيما تخبرون به من أسمائهم فأخبروا بها و هذا كقول القائل لغيره (أخبر بما في يدي إن كنت صادقا) أي إن كنت تعلم فأخبر به لأنه لا يمكنه أن يصدق في مثل ذلك إلا إذا أخبر عن علم منه و لا يصح أن يكلف ذلك إلا مع العلم به و لا بد إذا استدعوا إلى الإخبار عما لا يعلمون من أن يشترط هذا الشرط و على هذا فيكون لفظه الأمر و معناه التنبيه أو يكون أمرا مشروطا كما يقول العالم للمتعلم ما تقول في كذا و يعلم أنه لا يحسن الجواب لينبهه عليه و يحثه على طلبه و البحث عنه و لو قال له أخبر بذلك أن كنت تعلم أو إن كنت صادقا لكان حسنا فإذا تنبه على أنه لا يمكنه الجواب أجابه حينئذ فيكون جوابه بهذا التدريج أثبت في قلبه و أوقع في نفسه و لا يجوز أن يكون ذلك تكليفا لأنه لو كان تكليفا لم يكن تبيينا لهم أن آدم يعرف أسماء هذه الأشياء بتعريف الله إياه و تخصيصه من ذلك بما لا يعرفونه هم فلما أراد تعريفهم ما خص به آدم من ذلك علمنا أنه ليس بتكليف و في هذه الآية دلالة على شرف العلم و أهله من حيث إن الله سبحانه لما أراد تشريف آدم (ع) اختصه بعلم أبانه به من غيره و فضله به على من سواه ..

[سورة البقرة (2): آية 32]

قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاَّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32)

اللغة

الحكمة نقيض السفه و الإحكام الإتقان و الحكيم المانع من الفساد و منه حكمة اللجام لأنها تمنع الفرس من الجري الشديد قال جرير:

 

 

 

182
مجمع البيان في تفسير القرآن1

الإعراب ..... ص : 183

 

أ بني حنيفة أحكموا سفهاءكم‏

إني أخاف عليكم أن أغضبا

 

أي امنعوهم و الحكمة هي التي تقف بك على مر الحق الذي لا يخلطه باطل و الصدق الذي لا يشوبه كذب و منه قوله‏ حِكْمَةٌ بالِغَةٌ و رجل حكيم إذا كان ذلك شأنه و كانت معه أصول من العلم و المعرفة و يقال حكم يحكم في الحكم بين الناس و حكم يحكم إذا صار حكيما و الحكمة في الإنسان هي العلم الذي يمنع صاحبه من الجهل.

الإعراب‏

سبحانك نصب على المصدر قال سيبويه سبحت الله تسبيحا و سبحانا فالمصدر تسبيح و سبحان اسم يقوم مقام المصدر و اللام من قوله‏ «لَنا» يتعلق بمحذوف فيكون جملة ظرفية في موضع رفع بالخبر لأن لا علم في موضع رفع بالابتداء و «ما عَلَّمْتَنا» موصول و صلة و الضمير من علمتنا العائد إليه محذوف تقديره ما علمتنا و هو في موضع رفع بدل من موضع لا علم و أنت يجوز أن يكون فصلا فيكون لا موضع له من الإعراب و خبر إن العليم الحكيم و يجوز أن يكون مبتدأ و الجملة خبر إن.

المعنى‏

ثم أخبر سبحانه عن الملائكة بالرجوع إليه و التسليم لأمره و قال‏ «قالُوا» أي الملائكة «سُبْحانَكَ» أي تنزيها لك و تعظيما عن أن يعلم الغيب أحد سواك عن ابن عباس و قيل تنزيها لك عن الاعتراض عليك في حكمك و قيل إنهم أرادوا أن يخرجوا الجواب مخرج التعظيم فقالوا تنزيها لك عن فعل كل قبيح و أن كنا لا نعلم وجه الحكمة في أفعالك و قيل أنه على وجه التعجب لسؤالهم عما لا يعلمونه و قوله‏ «لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا» معناه إنا لا نعلم إلا بتعليمك و ليس هذا فيما علمتنا و لو أنهم اقتصروا على قولهم‏ «لا عِلْمَ لَنا» لكان كافيا في الجواب لكن أرادوا أن يضيفوا إلى ذلك التعظيم له و الاعتراف بإنعامه عليهم بالتعليم و أن جميع ما يعلمونه إنما يعلمونه من جهته و أن هذا ليس من جملة ذلك و إنما سألهم سبحانه عما علم أنهم لا يعلمونه ليقررهم على أنهم لا يملكون إلا ما علمهم الله و ليرفع به درجة آدم عندهم بأنه علمه ما لم يعلموه و قوله‏ «إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ» أي العالم بجميع المعلومات لأنه من صفات ذاته و هو مبالغة العالم و قيل أنهم أثبتوا له ما نفوه عن أنفسهم أي أنت العالم من غير تعليم و نحن المعلمون و قوله‏ «الْحَكِيمُ» يحتمل أمرين (أحدهما) أنه بمعنى العالم لأن العالم بالشي‏ء يسمى بأنه حكيم فعلى هذا يكون من صفات الذات مثل العالم و يوصف بهما فيما لم يزل لأن ذلك واجب في العالم لنفسه (و الثاني) أن معناه المحكم لأفعاله و يكون فعيلا بمعنى مفعل و على هذا يكون من صفات الأفعال و معناه أن أفعاله كلها حكمة و صواب و ليس فيها تفاوت و لا وجه من وجوه القبح‏


183
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 33] ..... ص : 184

و على هذا فلا يوصف بذلك فيما لم يزل و روي عن ابن عباس أنه قال العليم الذي كمل في علمه و الحكيم الذي كمل في حكمته و في هذه الآية دلالة على أن العلوم كلها من جهته تعالى و إنما كان كذلك لأن العلوم لا تخلو إما أن تكون ضرورية فهو الذي فعلها و إما أن تكون استدلالية فهو الذي أقام الأدلة عليها فلا علم لأحد إلا ما علمه الله تعالى.

[سورة البقرة (2): آية 33]

قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ أَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33)

القراءة

روي عن ابن عامر أنبئهم بالهمزة و كسر الهاء و الباقون بضم الهاء.

الحجة

من ضم الهاء حملها على الأصل لأن الأصل أن تكون هاء الضمير مضمومة و إنما تكسر الهاء إذا وليها كسرة أو ياء نحو بهم و عليهم و مع هذا فقد ضمه قوم حملا على الأصل و من كسر الهاء التي قبلها همزة مخففة فإن لذلك وجها من القياس و هو أنه اتبع كسرة الهاء الكسرة التي قبلها و لم يعتد بالحاجز الساكن كما حكي عنهم هذا المرء و رأيت المرء و مررت بالمرء فاتبعوا مع هذا الفصل كما اللغة في اللغة الأخرى هذا امرؤ و رأيت امرءا و مررت بامرئ و حكى أبو زيد عن بعض العرب أخذت هذا منه و منهما و منهمي فكسر المضمر في الإدراج و الوقف و لم أعرفه و لم أضربه.

اللغة

الإبداء و الإظهار و الإعلان بمعنى واحد و ضد الإبداء الكتمان و ضد الإظهار الإبطان و ضد الإعلان الإسرار و يقال بدا يبدو بدوا من الظهور و بدأ يبدأ بدءا بالهمزة بمعنى استأنف و قال علي بن عيسى الرماني حد الظهور الحصول على حقيقة يمكن أن تعلم بسهولة و الله سبحانه ظاهر بأدلته باطن عن إحساس خلقه و كل استدلال فإنما هو ليظهر شي‏ء بظهور غيره.

الإعراب‏

آدم منادى مفرد معرفة مبني على الضم و محله النصب لأن المنادى مدعو و المدعو مفعول.

المعنى‏

ثم خاطب الله تعالى آدم ف «قالَ: يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ» أي أخبر الملائكة


184
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 184

«بِأَسْمائِهِمْ» يعني بأسماء الذين عرضهم عليهم و هم كناية عن المرادين بقوله‏ بِأَسْماءِ هؤُلاءِ و قد مضى بيانه‏ «فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ» يعني أخبرهم آدم‏ «بِأَسْمائِهِمْ» أي باسم كل شي‏ء و منافعه و مضارة «قالَ» الله تعالى للملائكة «أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ» الألف للتنبيه و إن كان أصلها الاستفهام كقول القائل (أ ما ترى اليوم ما أطيبه) لمن يعلم ذلك و حكى سيبويه أ ما ترى أي برق هاهنا و من الناس من قال أن هذه الألف معناها التوبيخ و من لم يجز على الملائكة المعصية منع من ذلك‏ «إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ» أي أعلم ما غاب فيهما عنكم فلم تشاهدوه كما أعلم ما حضركم فشاهدتموه‏ «وَ أَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ» قيل فيه أقوال: (أحدها) أنه أراد أعلم سركم و علانيتكم و ذكر ذلك تنبيها لهم على ما يحيلهم عليه من الاستدلال لأن الأصول الأول التي يستدل بها إنما تذكر على وجه التنبيه ليستخرج بها غيرها فيستدل بعلمه الغيب على أنه خلق عباده على ما خلقهم عليه للاستصلاح في التكليف و ما توجبه الحكمة (و ثانيها) أنه أراد «أَعْلَمُ ما تُبْدُونَ» من قولكم‏ أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها «وَ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ» من إضمار إبليس المعصية و المخالفة قال علي بن عيسى و هذا ليس بالوجه لأن الخطاب للملائكة و ليس إبليس منهم و لأنه عام فلا يخص إلا بدليل و جوابه أن إبليس لما دخل معهم في الأمر بالسجود جاز أن يذكر في جملتهم و قد رويت روايات تؤيد هذا القول و اختاره الطبري (و ثالثها) أن الله تعالى لما خلق آدم مرت به الملائكة قبل أن ينفخ فيه الروح و لم تكن رأت مثله فقالوا لن يخلق الله خلقا إلا كنا أكرم منه و أفضل عنده فهذا ما أخفوه و كتموه و أما ما أبدوه فقولهم‏ «أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها» روي ذلك عن الحسن و الأول أقوى لأنه أعم و مما يسأل في هذه الآية أن يقال ما وجه ذكره تعالى لهم الأسرار من علم الغيب و الجواب أنه على معنى الجواب فيما سألوا عنه من خلق من يفسد و يسفك الدماء على وجه التعريض دون التصريح لأنه لو صرح بذلك لقال خلقت من يفسد و يسفك الدماء لما أعلم في ذلك من المصلحة لعبادي فيما كلفتهم إياه فدل سبحانه الإحالة في الجواب على العلم بباطن الأمور و ظاهرها أنه خلقهم لأجل علمه بالمصلحة في ذلك و دلهم بذلك على أن عليهم الرضا بأمر الله و التسليم لقضاء الله لأنه يعلم من الغيب ما لا يعلمونه و يعلم من مصالحهم في دينهم و دنياهم ما لا يطلعون عليه فإن قيل فأي شي‏ء في تعليم الله تعالى آدم الأسماء كلها مما يدل على علمه بالغيب فالجواب قيل أنه تعالى علمه الأسماء كلها بما فيها من المعاني التي تدل عليها على جهة فتق لسانه بذلك و الهامة إياها فهي معجزة أقامها الله تعالى للملائكة تدل على نبوته و جلالة قدره و ارتفاع شأنه بما اختصه الله به من العلم الذي لا


185
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 184

يوصل إليه إلا بتعليم الله عز و جل و دلهم على ذلك بأن قررهم أولا فأقروا بأن لا علم لهم به ثم أظهر لهم أن آدم يعلمه بتعليم الله إياه فبان بذلك الإعجاز بالاطلاع على ما لا سبيل إلى علمه إلا من علام الغيوب و فيه من المعجزة أنه فتق لسانه على خلاف مجرى العادة و أنه علمه من لطائف الحكمة ما لا تعلمه الملائكة مع كثرة علومها و أنها أعرف الخلق بربها فعرفوا ما دلهم على علم الغيب بالمعجزة مؤكدا لما يعلمونه من ذلك بالأدلة العقلية و لذلك نبههم فقال‏ «أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ» أي قد دللتكم على ذلك قبل و هذه دلالة بعد و قد افتتح الله تعالى الدلالة على الإعجاز بالكلام في آدم ثم ختم به في محمد ص قال السيد الأجل المرتضى قدس الله روحه و في هذه الآية سؤال لم أجد أحدا من مفسري القرآن تعرض له و ذلك أن يقال من أين علمت الملائكة صحة قول آدم و مطابقة الأسماء المسميات و هي لم تكن عالمة بذلك من قبل و الكلام يقتضي أنهم لما أنبأهم آدم بالأسماء علموا صحتها و لو لا ذلك لم يكن لقوله تعالى: «أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ» معنى و لا كانوا أيضا مستفيدين نبوته و تميزه و اختصاصه بما ليس لهم لأن كل ذلك إنما يتم مع العلم و الجواب أنه غير ممتنع أن يكون الله تعالى جعل لهم العلم الضروري بصحة الأسماء و مطابقتها للمسميات أما عن طريق أو ابتداء بلا طريق فعلموا بذلك تمييزه و اختصاصه و ليس في علمهم بصحة ما أخبر به ما يقتضي العلم بنبوته ضرورة بل بعده درجات و مراتب لا بد من الاستدلال عليها حتى يحصل العلم بنبوته ضرورة. و وجه آخر و هو أنه لا يمتنع أن يكون للملائكة لغات مختلفة و كل قبيل منهم يعرف أسماء الأجناس في لغته دون لغة غيره إلا أنه يكون إحاطة عالم واحد بأسماء الأجناس في جميع لغاتهم خارقة للعادة فلما أراد الله تعالى التنبيه على نبوة آدم علمه جميع تلك الأسماء فلما أخبرهم بها علم كل فريق مطابقة ما أخبر به من الأسماء للغته و علم مطابقة ذلك لباقي اللغات بخبر كل قبيل و على هذا الجواب فيكون معنى‏ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ ليخبرني كل قبيل منكم بجميع الأسماء و هذان الجوابان مبنيان على أنه لم يتقدم لهم العلم بنبوة آدم و أن إخباره بالأسماء كان مفتتح معجزاته لأنه لو كان نبيا قبل ذلك و كانوا قد علموا نبوته بمعجزات تقدم ظهورها على يده لم يحتج إلى هذين الجوابين لأنهم يعلمون مطابقة الأسماء للمسميات بعد أن لم يعلموا بقوله الذي علموا أنه حق و صدق.


186
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 34] ..... ص : 187

[سورة البقرة (2): آية 34]

وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى‏ وَ اسْتَكْبَرَ وَ كانَ مِنَ الْكافِرِينَ (34)

القراءة

قرأ أبو جعفر وحده للملائكة اسجدوا بضم التاء حيث وقع و كذلك قل رب احكم بضم الباء.

الحجة

أتبع التاء ضمة الجيم و قيل أنه نقل ضمة الهمزة لو ابتدئ بها و الأول أقوى لأن الهمزة تسقط في الدرج فلا يبقى فيها حركة تنقل.

اللغة

السجود الخضوع و التذلل في اللغة و هو في الشرع عبارة عن عمل مخصوص في الصلاة كالركوع و القنوت و غيرهما و هو وضع الجبهة على الأرض و يقال سجد و أسجد إذا خضع قال الأعشى:

من يلق هوذة يسجد غير متئب‏

إذا تعمم فوق الرأس أو خضعا

 

و قال آخر:

فكلتاهما خرت و أسجد رأسها

كما سجدت نصرانة لم تحنف‏

 

و نساء سجد إذا كن فاترات الأعين قال‏

(و لهوي إلى حور المدامع سجد)

 

و الإسجاد الإطراق و إدامة النظر في فتور و سكون قال:

أغرك مني أن دلك عندنا

و إسجاد عينيك الصيودين رابح‏

 

و أبي معناه ترك الطاعة و امتنع و الإباء و الترك و الامتناع بمعنى و نقيض أبى أجاب و رجل أبي من قوم أباة و ليس الإباء بمعنى الكراهة لأن العرب تتمدح أنها تأبى الضيم و لا مدح في كراهية الضيم و إنما المدح في الامتناع منه كقوله تعالى: «وَ يَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَ لَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ» أي يمنع الكافرين من إطفاء نوره و الاستكبار و التكبر و التعظم و التجبر نظائر و ضده التواضع و حقيقة الاستكبار الأنفة مما لا ينبغي أن يؤنف منه و قيل حده الرفع للنفس إلى منزلة لا تستحقها فأصل الباب الكبر و هو العظم و يقال على وجهين كبر


187
مجمع البيان في تفسير القرآن1

الإعراب ..... ص : 188

الجثة و كبر الشأن و الله سبحانه الكبير من كبر الشأن و ذلك يرجع إلى سعة مقدوراته و معلوماته فهو القادر على ما لا يتناهى من جميع أجناس المقدورات و العالم بجميع المعلومات و إبليس اسم أعجمي لا ينصرف في المعرفة للتعريف و العجمة قال الزجاج و غيره من النحويين هو اسم أعجمي معرب و استدلوا على ذلك بامتناع صرفه و ذهب قوم إلى أنه عربي مشتق من الإبلاس و وزنه إفعيل و أنشدوا للعجاج:

يا صاح هل تعرف رسما مكرسا

قال نعم أعرفه و أبلسا

 

و زعموا أنه لم يصرف استثقالا له من حيث أنه اسم لا نظير له في أسماء العرب فشبهته العرب بأسماء العجم التي لا تنصرف و زعموا أن إسحاق من أسحقه الله تعالى إسحاقا و أيوب من أب يؤب و إدريس من الدرس في أشباه ذلك و غلطوا في جميع ذلك لأن هذه الألفاظ معربة وافقت الألفاظ العربية و كان أبو بكر السراج يمثل ذلك على جهة التبعيد بمن زعم أن الطير ولدت الحوت و غلطوا أيضا في أنه لا نظير له في أسماء العرب لأنهم يقولون إزميل للشفرة و إغريض للطلع و إحريض لصبغ أحمر و يقال هو العصفر و سيف إصليت ماض كثير الماء و ثوب إضريج مشبع الصبغ و قالوا هو من الصفرة خاصة و مثل هذا كثير و سبيل إبليس سبيل إنجيل في أنه معرب غير مشتق.

الإعراب‏

قوله‏ «وَ إِذْ» في موضع نصب لأنها معطوفة على إذ الأولى و قوله‏ «لِآدَمَ» آدم في موضع جر باللام لا ينصرف لأنه على وزن أفعل فإذا قلت مررت بآدم و آدم آخر فإن سيبويه و الخليل يقولان أنه لا ينصرف في النكرة لأنك إذا نكرته فقد أعدته إلى حال كان فيها لا ينصرف قال الأخفش إذا سميت به فقد أخرجته من باب الصفة فيجب إذا نكرته أن تصرفه فتقول و آدم آخر و قوله‏ «اسْجُدُوا» الأصل في همزة الوصل أن تكسر لالتقاء الساكنين و لكنها ضمت لاستثقال الضمة بعد الكسرة و كذلك كل ما كان ثالثة مضموما في الفعل المستقبل نحو قوله‏ انْظُرُونا و اقْتُلُوا يُوسُفَ‏ و ليس في كلام العرب فعل لكراهتهم الضمة بعد الكسرة و إبليس نصب على الاستثناء المتصل من الكلام الموجب و هو في مذهب من جعله من الملائكة و على الاستثناء المنقطع على مذهب من جعله من غير الملائكة.

المعنى‏

ثم بين سبحانه ما آتاه آدم ع من الإعظام و الإجلال و الإكرام فقال و اذكر يا محمد «إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ» و الظاهر يقتضي أن الأمر بالسجود له كان لجميع الملائكة حتى جبرائيل و ميكائيل لقوله‏ «فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ» و في هذا


188
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 188

تأكيد للعموم و قال قوم أن الأمر كان خاصا لطائفة من الملائكة كانوا مع إبليس طهر الله بهم الأرض من الجن و اختلف في سجود الملائكة لآدم على أي وجه كان‏

فالمروي عن أئمتنا ع‏ أنه على وجه التكرمة لآدم و التعظيم لشأنه و تقديمه عليهم‏

و هو قول قتادة و جماعة من أهل العلم و اختاره علي بن عيس الرماني و لهذا جعل أصحابنا رضي الله عنهم هذه الآية دلالة على أن الأنبياء أفضل من الملائكة من حيث أنه أمرهم بالسجود لآدم و ذلك يقتضي تعظيمه و تفضيله عليهم و إذا كان المفضول لا يجوز تقديمه على الفاضل علمنا أنه أفضل من الملائكة و قال الجبائي و أبو القاسم البلخي و جماعة أنه جعله قبلة لهم فأمرهم بالسجود إلى قبلتهم و فيه ضرب من التعظيم و هذا غير صحيح لأنه لو كان على هذا الوجه لما امتنع إبليس من ذلك و لما استعظمته الملائكة و قد نطق القرآن بأن امتناع إبليس عن السجود إنما هو لاعتقاده تفضيله به و تكرمته مثل قوله‏ «أَ رَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ» و قوله‏ «أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ» و لو لم يكن الأمر على هذا الوجه لوجب أن يعلمه الله تعالى بأنه لم يأمره بالسجود على جهة تعظيمه و تفضيله عليه و إنما أمره على الوجه الآخر الذي لا تفضيل فيه و لم يجز إغفال ذلك فإنه سبب معصية إبليس و ضلالته فلما لم يقع ذلك علمنا أن الأمر بالسجود له لم يكن إلا على وجه التعظيم و التفضيل و الإكرام و التبجيل ثم اختلف في إبليس هل كان من الملائكة أم لا فذهب قوم‏

أنه كان منهم و هو المروي عن ابن عباس و ابن مسعود و قتادة و اختاره الشيخ السعيد أبو جعفر الطوسي قدس الله روحه قال‏ و هو المروي عن أبي عبد الله (ع)

و الظاهر في تفاسيرنا ثم اختلف من قال أنه من الملائكة فمنهم من قال أنه كان خازنا على الجنان و منهم من قال كان له سلطان سماء الدنيا و سلطان الأرض و منهم من قال أنه كان يسوس ما بين السماء و الأرض و قال الشيخ المفيد أبو عبد الله محمد بن محمد بن النعمان قدس الله روحه أنه كان من الجن و لم يكن من الملائكة قال و قد جاءت الأخبار بذلك متواترة عن أئمة الهدى عليهم السلام و هو مذهب الإمامية و هو المروي عن الحسن البصري و هو قول علي بن عيسى و البلخي و غيره و احتجوا على صحة هذا القول بأشياء (أحدها) قوله تعالى: «إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ» و من أطلق لفظ الجن لم يجز أن يعني به إلا الجنس المعروف و كل ما في القرآن من ذكر الجن مع الإنس يدل عليه (و ثانيها) قوله تعالى: «لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ» فنفى المعصية عنهم نفيا


189
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 188

عاما (و ثالثها) أن إبليس له نسل و ذرية قال الله تعالى‏ «أَ فَتَتَّخِذُونَهُ وَ ذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَ هُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ» و قال الحسن إبليس أب الجن كما أن آدم أب الإنس و إبليس مخلوق من النار و الملائكة روحانيون خلقوا من الريح في قول بعضهم و من النور في قول الحسن لا يتناسلون و لا يطعمون و لا يشربون (و رابعها) قوله تعالى: «جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا» و لا يجوز على رسل الله الكفر و لا الفسق و لو جاز عليهم الفسق لجاز عليهم الكذب و قالوا إن استثناء الله تعالى إياه منهم لا يدل على كونه من جملتهم و إنما استثناه منهم لأنه كان مأمورا بالسجود معهم فلما دخل معهم في الأمر جاز إخراجه بالاستثناء منهم و قيل أيضا أن الاستثناء هنا منقطع كقوله تعالى‏ «ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ» و أنشد سيبويه:

و الحرب لا يبقى لجا

حمها التخيل و المراح‏

 

إلا الفتى الصبار في‏

النجدات و الفرس الوقاح‏

 

و كقول النابغة

(و ما بالربع من أحد)

 

(إلا الأواري)

 

و يؤيد هذا القول ما

رواه الشيخ أبو جعفر بن بابويه رحمه الله في كتاب النبوة بإسناده عن ابن أبي عمير عن جميل بن دراج عن أبي عبد الله (ع) قال‏ سألته عن إبليس أ كان من الملائكة أو كان يلي شيئا من أمر السماء فقال لم يكن من الملائكة و لم يكن يلي شيئا من أمر السماء و كان من الجن و كان مع الملائكة و كانت الملائكة ترى أنه منها و كان الله سبحانه يعلم أنه ليس منها فلما أمر بالسجود لآدم كان منه الذي كان‏

و كذا رواه العياشي في تفسيره و أما من قال أنه كان من الملائكة فإنه احتج بأنه لو كان من غير الملائكة لما كان ملوما بترك السجود فإن الأمر إنما يتناول الملائكة دون غيرهم و قد مضى الجواب عن هذا و يزيده بيانا قوله تعالى: «ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ» فعلمنا أنه من جملة المأمورين بالسجود و إن لم يكن من جملتهم و هذا كما إذا قيل أمر أهل البصرة بدخول الجامع فدخلوا إلا رجلا من أهل الكوفة فإنه يعلم من هذا أن غير أهل البصرة كان مأمورا بدخول الجامع غير أن أهل البصرة خصوا بالذكر لكونهم الأكثر فكذلك القول في الآية و أجاب القوم عن الاحتجاج الأول و هو قوله تعالى‏ «كانَ مِنَ الْجِنِّ» بأن الجن جنس من الملائكة سموا بذلك لاجتنانهم عن العيون قال الأعشى قيس بن ثعلبة:

و لو كان شي‏ء خالدا أو معمرا

لكان سليمان البري من الدهر

 

برأه إلهي و اصطفاه عباده‏

و ملكه ما بين تونا إلى مصر

 

و سخر من جن الملائك تسعة

قياما لديه يعملون بلا أجر

 


190
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 188

و قد قال الله تعالى: «وَ جَعَلُوا بَيْنَهُ وَ بَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً» لأنهم قالوا الملائكة بنات الله و أجابوا عن الثاني و هو قوله تعالى: «لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ» الآية بأنه صفة لخزنة النيران لا لجميع الملائكة فلا يوجب عصمة لغيرهم من الملائكة و أجابوا عن الثالث بأنه يجوز أن يكون الله تعالى ركب في إبليس شهوة النكاح تغليظا عليه في التكليف و إن لم يكن ذلك في باقي الملائكة و يجوز أن يكون الله تعالى لما أهبطه إلى الأرض تغيرت حاله عن حال الملائكة قالوا و أما قولكم أن الملائكة خلقوا من الريح و هو مخلوق من النار فإن الحسن قال خلقوا من النور و النار و النور سواء و قولكم إن الجن يطعمون و يشربون فقد جاء عن العرب ما يدل على أنهم لا يطعمون و لا يشربون أنشد ابن دريد قال أنشد أبو حاتم:

و نار قد حضأت بعيد وهن‏

بدار ما أريد بها مقاما

 

سوى ترحيل راحلة و عين‏

أكالئها مخافة أن تناما

 

أتوا ناري فقلت منون أنتم‏

فقالوا الجن قلت عموا ظلاما

 

فقلت إلى الطعام فقال منهم‏

زعيم نحسد الإنس الطعاما

 

لقد فضلتم بالأكل فينا

و لكن ذاك يعقبكم سقاما

 

فهذا يدل على أنهم لا يأكلون و لا يشربون لأنهم روحانيون و قد جاء في الأخبار النهي عن التمسح بالعظم و الروث لأن ذلك طعام الجن و طعام دوابهم و قد قيل أنهم يتشممون ذلك و لا يأكلونه و أجابوا عن الرابع و هو قوله: «جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا» بأن هذه الآية معارضة بقوله تعالى: «اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَ مِنَ النَّاسِ» لأن من للتبعيض و كلا القولين مروي عن ابن عباس و روي عنه أنه قال أن الملائكة كانت تقاتل الجن فسبي إبليس و كان صغيرا فكان مع الملائكة فتعبد معها بالأمر بالسجود لآدم فسجدوا و أبى إبليس فلذلك قال الله تعالى: «إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ» و روى مجاهد و طاووس عنه أيضا أنه قال كان إبليس قبل أن يرتكب المعصية ملكا من الملائكة اسمه عزازيل و كان من سكان الأرض و كان سكان الأرض من الملائكة يسمون الجن و لم يكن من الملائكة أشد اجتهادا و لا أكثر علما منه فلما تكبر على الله و أبى السجود لآدم و عصاه لعنه و جعله شيطانا و سماه إبليس و أما قوله تعالى: «وَ كانَ مِنَ الْكافِرِينَ» قيل معناه كان كافرا في الأصل و هذا القول يوافق مذهبنا في الموافاة و قيل أراد كان في علم الله تعالى من الكافرين و قيل معناه صار من الكافرين كقوله تعالى: «فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ» و استدل بعضهم بهذه الآية على أن أفعال الجوارح من الإيمان فقال لو لم يكن كذلك لوجب أن يكون إبليس‏


191
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 35] ..... ص : 192

 

مؤمنا بما معه من المعرفة بالله تعالى و إن فسق بآبائه و هذا ضعيف لأنا إذا علمنا كفره بالإجماع علمنا أنه لم يكن معه إيمان أصلا كما أنا إذا رأينا من يسجد للصنم علمنا أنه كافر و إن كان نفس السجود ليس بكفر و اختلفوا في صفة أمر الله سبحانه الملائكة بالسجود فقيل كان بخطاب من الله تعالى للملائكة و لإبليس و قيل بوحي من الله إلى من بعثه إليهم من رسله لأن كلام الرسول كلام المرسل و قيل أن الله تعالى أظهر فعلا دلهم به على أنه أمرهم بالسجود فإن قيل لم حكم الله بكفره مع أن من ترك السجود الآن لا يكفر قلنا لأنه جمع إلى ترك السجود خصالا من الكفر منها أنه اعتقد أن الله تعالى أمره بالقبيح و لم ير أمره بالسجود حكمة و منها أنه امتنع من السجود تكبرا و ردا على الله تعالى أمره و من تركه الآن كذلك يكفر أيضا و منها أنه استخف بنبي الله و ازدراه و هذا لا يصدر إلا من معتقد الكفر و في هذه الآية دلالة على بطلان مذهب الجبر من وجوه منها قوله‏ «أَبى‏» فدل على قدرته على السجود الذي أباه و تركه و إلا لم يصح وصفه بالآباء و منها قوله‏ «فَسَجَدُوا» فدل على أن السجود فعلهم و منها أنه مدح الملائكة بالسجود و ذم إبليس بترك السجود و عندهم إنما لم يسجد لأنه لم يخلق فيه السجود و لا القدرة الموجبة له.

[سورة البقرة (2): آية 35]

وَ قُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَ كُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَ لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (35)

اللغة

السكون و الاطمئنان و الهدو نظائر و السكن بسكون الكاف العيال و أهل البيت و السكن بالفتح المنزل و السكن الرحمة و البركة في قوله‏ «إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ» و الزوج بطرح الهاء قال الأصمعي هو أكثر كلام العرب و الأكل و المضغ و اللقم متقارب و ضد الأكل الأزم و سأل عمر بن الخطاب الحارث بن كلدة طبيب العرب فقال يا حار ما الدواء فقال الأزم أي ترك الأكل و الرغد النفع الواسع الكثير الذي ليس فيه عناء قال ابن دريد الرغد السعة في العيش و المشيئة من قبيل الإرادة و كذلك المحبة و الاختيار و الإيثار و إن كان لها شروط ذكرت في أصول الكلام و القرب الدنو قرب الشي‏ء يقرب قربا و قرب فلان أهله يقرب قربانا إذا غشيها و ما قربت هذا الأمر قربانا و قربا و الشجرة ما قام على ساق و جمعها أشجار و شجرات و شجر و تشاجر القوم اختلفوا أخذ من الشجر لاشتباك أغصانه‏

 

 

 

192
مجمع البيان في تفسير القرآن1

اللغة ..... ص : 192

و الظلم و الجور و العدوان متقارب و ضد الظلم الإنصاف و ضد الجور العدل و أصل الظلم انتقاص الحق قال الله تعالى‏ كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَ لَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً أي لم تنقص و قيل أصله وضع الشي‏ء في غير موضعه من قولهم من أشبه أباه فما ظلم أي فما وضع الشبه في غير موضعه و كلاهما مطرد و على الوجهين فالظلم اسم ذم لا يجوز إطلاقه على الأنبياء و المعصومين.

الإعراب‏

قوله: «اسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ» استقبح عطف الظاهر على الضمير المستكن و المتصل فقال‏ «اسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ الْجَنَّةَ» فأنت تأكيد للضمير المستكن في اسكن الذي هو فاعله و زوجك معطوف على موضع أنت فلو عطفه على الضمير المستكن لكان أشبه في الظاهر عطف الاسم على الفعل فأتى بالضمير المنفصل فعطفه عليه و رغدا منصوب لأنه صفة لمصدر محذوف كأنه قال أكلا رغدا أي واسعا كثيرا و يجوز أن يكون مصدرا وضع موضع الحال من قوله‏ «كُلا» قال الخليل يقال قوم رغد و نساء رغد و عيش رغد و رغيد قال امرؤ القيس:

بينما المرء تراه ناعما

يأمن الأحداث في عيش رغد

 

فعلى هذا يكون تقديره و كلا منها متوسعين في العيش و حيث مبني على الضم كما تبنى الغاية نحو مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ بَعْدُ لأنه منع من الإضافة إلى مفرد كما منعت الغاية من الإضافة و إنما يأتي بعده جملة اسمية أو فعلية في تقدير المضاف إليه و «لا تَقْرَبا» مجزوم بالنهي و الألف ضمير الفاعلين و قوله‏ «فَتَكُونا» يحتمل أمرين أحدهما أن يكون جوابا للنهي فيكون منصوبا بإضمار أن و أن مع الفعل في تأويل اسم مفرد و إذا قدر إضمار أن بعد الفاء كان ذلك عطفا على مصدر الفعل المتقدم فيكون تقديره لا يكون منكما قرب لهذه الشجرة فتكونا من الظالمين فيكون الكلام جملة واحدة لأن المعطوف يكون من جملة المعطوف عليه و إنما سميناه جوابا لمشابهته الجزاء في أن الثاني سببه الأول لأن معنى الكلام أن تقربا هذه الشجرة تكونا من الظالمين و الثاني أن يكون معطوفا على النهي فيكون مجزوما و تكون الفاء عاطفة جملة على جملة فكأنه قال فلا تكونا من الظالمين.

المعنى‏

ثم ذكر سبحانه ما أمر به آدم (ع) بعد أن أنعم عليه بما اختصه من العلوم لما أوجب له به من الإعظام و أسجد له الملائكة الكرام فقال عز اسمه‏ «وَ قُلْنا» و هذه‏


193
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 193

نون الكبرياء و العظمة لا نون الجمع‏ «يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ الْجَنَّةَ» أي اتخذ أنت و امرأتك الجنة مسكنا و مأوى لتأوي إليه و تسكن فيه أنت و امرأتك و اختلف في هذا الأمر فقيل أنه أمر تعبد و قيل هو إباحة لأنه ليس فيه مشقة فلا يتعلق به تكليف و قوله‏ «وَ كُلا» إباحة و قوله‏ «وَ لا تَقْرَبا» تعبد بالاتفاق و روي عن ابن عباس و ابن مسعود أنه لما أخرج إبليس من الجنة و لعن و بقي آدم وحده استوحش إذ ليس معه من يسكن إليه فخلقت حواء ليسكن إليها و روي أن الله تعالى ألقى على آدم النوم و أخذ منه ضلعا فخلق منه حواء فاستيقظ آدم فإذا عند رأسه امرأة فسألها من أنت قالت امرأة قال لم خلقت قالت لتسكن إلي فقالت الملائكة ما اسمها يا آدم قال حواء قالوا و لم سميت حواء قال لأنها خلقت من حي فعندها قال الله تعالى‏ «اسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ الْجَنَّةَ» و قيل إنها خلقت قبل أن يسكن آدم الجنة ثم أدخلا معا الجنة و في كتاب النبوة أن الله تعالى خلق آدم من الطين و خلق حواء من آدم فهمة الرجال الماء و الطين و همة النساء الرجال قال أهل التحقيق ليس يمتنع أن يخلق الله حواء من جملة جسد آدم بعد أن لا يكون مما لا يتم الحي حيا إلا معه لأن ما هذه صفته لا يجوز أن ينقل إلى غيره أو يخلق منه حي آخر من حيث يؤدي إلى أن لا يمكن إيصال الثواب إلى مستحقه لأن المستحق لذلك هو الجملة بأجمعها و إنما سميت حواء لأنها خلقت من حي على ما ذكرناه قبل و قيل لأنها أم كل حي و اختلف في الجنة التي أسكن فيها آدم فقال أبو هاشم هي جنة من جنان السماء غير جنة الخلد لأن جنة الخلد أكلها دائم و لا تكليف فيها و قال أبو مسلم هي جنة من جنان الدنيا في الأرض و قال أن قوله‏ «اهْبِطُوا مِنْها» لا يقتضي كونها في السماء لأنه مثل قوله‏ «اهْبِطُوا مِصْراً» و استدل بعضهم على أنها لم تكن جنة الخلد بقوله تعالى حكاية عن إبليس‏ «هَلْ أَدُلُّكَ عَلى‏ شَجَرَةِ الْخُلْدِ» فلو كانت جنة الخلد لكان آدم عالما بذلك و لم يحتج إلى دلالة و قال أكثر المفسرين و الحسن البصري و عمرو بن عبيد و واصل بن عطاء و كثير من المعتزلة كالجبائي و الرماني و ابن الإخشيد إنها كانت جنة الخلد لأن الألف و اللام للتعريف و صارا كالعلم عليها قالوا و يجوز أن تكون وسوسة إبليس من خارج الجنة من حيث يسمعان كلامه قالوا و قال من يزعم أن جنة الخلد من يدخلها لا يخرج منها غير صحيح لأن ذلك إنما يكون إذا استقر أهل الجنة فيها للثواب فأما قبل ذلك فإنها تفنى لقوله تعالى‏ «كُلُّ شَيْ‏ءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ» و قوله‏ «وَ كُلا مِنْها رَغَداً» أي كلا من الجنة كثيرا واسعا لا عناء فيه‏ «حَيْثُ شِئْتُما» من بقاع الجنة و قيل منها أي من ثمارها إلا ما استثناه‏

«وَ لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ» أي لا تأكلا منها و هو المروي عن الباقر (ع)

فمعناه لا تقرباها بالأكل و يدل عليه أن المخالفة وقعت بالأكل‏


194
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 193

بلا خلاف لا بالدنو منها و لذلك قال فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما و اختلف في هذا النهي فقيل أنه نهي التحريم و قيل أنه نهي التنزيه دون التحريم كمن يقول لغيره لا تجلس على الطرق و هو قريب من مذهبنا فإن عندنا أن آدم كان مندوبا إلى ترك التناول من الشجرة و كان بالتناول منها تاركا نفلا و فضلا و لم يكن فاعلا لقبيح فإن الأنبياء ع لا يجوز عليهم القبائح لا صغيرها و لا كبيرها و قالت المعتزلة كان ذلك صغيرة من آدم (ع) على اختلاف بينهم في أنه وقع منه على سبيل العمد أو السهو أو التأويل و إنما قلنا أنه لا يجوز مواقعة الكبائر على الأنبياء ع من حيث إن القبيح يستحق فاعله به الذم و العقاب لأن المعاصي عندنا كلها كبائر و إنما تسمى صغيرة بإضافتها إلى ما هو أكبر عقابا منها لأن الإحباط قد دل الدليل عندنا على بطلانه و إذا بطل ذلك فلا معصية إلا و يستحق فاعلها الذم و العقاب و إذا كان الذم و العقاب منفيين عن الأنبياء ع وجب أن ينتفي عنهم سائر الذنوب و لأنه لو جاز عليهم شي‏ء من ذلك لنفر عن قبول قولهم و المراد بالتنفير أن النفس إلى قبول قول من لا تجوز عليه شيئا من المعاصي أسكن منها إلى قول من يجوز عليه ذلك و لا يجوز عليهم كل ما يكون منفرا عنه من الخلق المشوهة و الهيئات المستنكرة و إذا صح ما ذكرناه علمنا أن مخالفة آدم (ع) لظاهر النهي كان على الوجه الذي بيناه و اختلف في الشجرة التي نهي عنها آدم فقيل هي السنبلة عن ابن عباس و قيل هي الكرمة عن ابن مسعود و السدي و قيل هي التينة عن ابن جريج و قيل‏

هي شجرة الكافور يروي عن علي (ع)

و قيل هي شجرة العلم علم الخير و الشر عن الكلبي و قيل هي شجرة الخلد التي كانت تأكل منها الملائكة عن ابن جذعان و قوله‏ «فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ» أي تكونا بأكلها من الظالمين لأنفسكما و يجوز أن يقال لمن بخس نفسه الثواب أنه ظالم لنفسه كقوله تعالى حكاية عن أيوب‏ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ‏ حيث بخس نفسه الثواب بترك المندوب إليه و اختلفوا هل كان يجوز ابتداء الخلق في الجنة فجوز البصريون من أهل العدل ذلك قالوا يجوز أن ينعمهم الله في الجنة مؤبدا تفضلا منه لا على وجه الثواب لأن ذلك نعمة منه تعالى كما أن خلقهم و تعريضهم للثواب نعمة و قال أبو القاسم البلخي لا يجوز ذلك لأنه لو فعل ذلك لا يخلو إما أن يكونوا متعبدين بالمعرفة أو لا يكونوا كذلك فلو كانوا متعبدين لم يكن بد من ترغيب و ترهيب و وعد و وعيد و كان يكون لا بد من دار أخرى يجازون فيها و يخلدون و إن كانوا غير متعبدين كانوا مهملين و ذلك غير جائز و جوابه أنه سبحانه لو ابتدأ خلقهم في الجنة لكان يضطرهم إلى المعرفة و يلجئهم إلى فعل الحسن و ترك القبيح و متى راموا القبيح منعوا منه فلا يؤدي إلى ما قاله و هذا كما يدخل الله الجنة


195
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 36] ..... ص : 196

الأطفال و غير المكلفين لا على وجه الثواب.

[سورة البقرة (2): آية 36]

فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَ قُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَ مَتاعٌ إِلى‏ حِينٍ (36)

القراءة

قرأ حمزة فأزالهما بالألف و الباقون‏ «فَأَزَلَّهُمَا».

الحجة

من قرأ أزالهما قال إن قوله‏ «اسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ» معناه اثبتا فثبتا فأزالهما الشيطان فقابل الثبات بالزوال الذي هو خلافه و حجة من قرأ «فَأَزَلَّهُمَا» أنه يحتمل تأويلين أحدهما كسبهما الزلة و الآخر أزل من أزل أي عثر و يدل على الوجه الأول ما جاء في التنزيل من قوله‏ «ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ وَ قاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ» و قوله‏ «فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ» الآية و قد نسب كسب الشيطان الزلة إلى الشيطان في قوله‏ «إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ» و استزل و أزل بمعنى واحد و يدل على الوجه الثاني قوله‏ «فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ» فكما أن خروج الإنسان عن الموضع الذي هو فيه انتقال منه إلى غيره كذلك عثاره و زلله.

اللغة

الزلة و الخطيئة و المعصية و السيئة بمعنى واحد و ضد الخطيئة الإصابة يقال زلت قدمه زلا و زل في مقالته زلة و المزلة المكان الدحض و المزلة الزلل في الدحض و أزللت إلى فلان نعمة أي أسديت و

في الحديث‏ من أزلت إليه نعمة فليشكرها

قال كثير:

و إني و إن صدت لمثن و صادق‏

عليها بما كانت إلينا أزلت‏

 

و الأصل في ذلك الزوال و الزلة زوال عن الحق و أزله الشيطان إذا أزاله عن الحق و الهبوط و النزول و الوقوع نظائر و هو التحرك من علو إلى سفل و يقال هبطته و أهبطته و الهبوط كالحدور و هو الموضع الذي يهبطك من أعلى إلى أسفل و قد يستعمل الهبوط بمعنى الحلول في المكان و النزول به قال الله تعالى‏ اهْبِطُوا مِصْراً و يقول القائل هبطنا بلد كذا يريد حللنا قال زهير:

ما زلت أرمقهم حتى إذا هبطت‏

أيدي الركاب بهم من راكس فلقا

 

و العدو نقيض الولي و العداوة المصدر و أصله من المجاوزة و القرار الثبات و البقاء


196
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 197

و ضد القرار الانزعاج و ضد الثبات الزوال و ضد البقاء الفناء و الاستقرار الكون أكثر من وقت واحد على حال و المستقر يحتمل أن يكون بمعنى الاستقرار و يحتمل أن يكون بمعنى المكان الذي يستقر فيه و المتاع و التمتع و المتعة و التلذذ متقاربة المعنى و كل شي‏ء تمتعت به فهو متاع و الحين و المدة و الزمان متقارب و الحين في غير هذا الموضع ستة أشهر يدل عليه قوله تعالى‏ «تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها» و الحين يصلح للأوقات كلها إلا أنه في الاستعمال في الكثير منها أكثر.

المعنى‏

ثم بين سبحانه حال آدم ع قال‏ «فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ» أي حملهما على الزلة نسب الإزلال إلى الشيطان لما وقع بدعائه و وسوسته و إغوائه‏ «عَنْها» أي عن الجنة و ما كانا فيه من عظيم الرتبة و المنزلة و الشيطان المراد به إبليس‏ «فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ» من النعمة و الدعة و يحتمل أن يكون أراد إخراجهما من الجنة حتى اهبطا و يحتمل أن يكون أراد من الطاعة إلى المعصية و أضاف الإخراج إليه لأنه كان السبب فيه كما يقال صرفني فلان عن هذا الأمر و لم يكن إخراجهما من الجنة و إهباطهما إلى الأرض على وجه العقوبة لأن الدليل قد دل على أن الأنبياء عليهم السلام لا تجوز عليهم القبائح على حال و من أجاز العقاب على الأنبياء فقد أساء عليهم الثناء و أعظم الفرية على الله سبحانه و تعالى و إذا صح ما قلناه فإنما أخرج الله آدم من الجنة لأن المصلحة قد تغيرت بتناوله من الشجرة فاقتضت الحكمة و التدبير الإلهي إهباطه إلى الأرض و ابتلاءه بالتكليف و المشقة و سلبه ما ألبسه إياه من ثياب الجنة لأن إنعامه عليه بذلك كان على وجه التفضل و الامتنان فله أن يمنع ذلك تشديدا للبلوى و الامتحان كما له أن يفقر بعد الإغناء و يميت بعد الإحياء و يسقم بعد الصحة و يعقب المحنة بعد المحنة و اختلف في كيفية وصول إبليس إلى آدم و حواء حتى وسوس إليهما و إبليس كان قد أخرج من الجنة حين أبى السجود و هما في الجنة فقيل إن آدم كان يخرج إلى باب الجنة و إبليس لم يكن ممنوعا من الدنو منه فكان يكلمه و كان هذا قبل أن أهبط إلى الأرض و بعد أن أخرج من الجنة عن أبي علي الجبائي و قيل أنه كلمهما من الأرض بكلام عرفاه و فهماه منه و قيل أنه دخل في فقم الحية و خاطبهما من فقمها و الفقم جانب الشدق و قيل أنه راسلهما بالخطاب و ظاهر القرآن يدل على أنه شافههما بالخطاب و قوله‏ «وَ قُلْنَا اهْبِطُوا» خاطب بخطاب الجمع و فيه وجوه (أحدها) أنه خاطب آدم و حواء و إبليس و هو اختيار الزجاج و قول جماعة من المفسرين و هذا غير منكر و أن إبليس قد


197
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 197

أخرج قبل ذلك بدلالة قوله‏ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ‏ فجمع الخبر للنبي ص لأنهم قد اجتمعوا في الهبوط و إن كانت أوقاتهم متفرقة فيه كما يقال أخرج جميع من في الحبس و إن أخرجوا متفرقين و الثاني أنه أراد آدم و حواء و الحية و في هذا الوجه بعد لأن خطاب من لا يفهم الخطاب لا يحسن و لأنه لم يتقدم للحية ذكر و الكناية عن غير مذكور لا تحسن إلا بحيث لا يقع لبس مثل قوله‏ «حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ» و قوله‏ «ما تَرَكَ عَلى‏ ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ» و قول حاتم:

أ ماوي ما يغني الثراء عن الفتى‏

إذا حشرجت يوما و ضاق بها الصدر

 

(و الثالث) أنه أراد آدم و حواء و ذريتهما لأن الوالدين يدلان على الذرية و يتعلق بهما (و الرابع) أن يكون الخطاب يختص بآدم و حواء عليهما السلام و خاطب الاثنين على الجمع على عادة العرب و ذلك لأن الاثنين أول الجمع قال الله تعالى‏ «إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَ كُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ» أراد حكم داود و سليمان و قد تأول قوله تعالى‏ «فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ» على معنى فإن كان له أخوان (و الخامس) آدم و حواء و الوسوسة عن الحسن و هذا ضعيف و قوله‏ «بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ» يعني آدم و ذريته و إبليس و ذريته و لم يكن من آدم إليه ما يوجب عداوته إياه و لكن حسده الملعون و خالفه فنشأت بينهما العداوة ثم إن عداوة آدم له إيمان و عداوة إبليس له كفر و قال الحسن يريد بني آدم و بني إبليس و ليس ذلك بأمر بل هو تحذير يعني أن الله تعالى لا يأمر بالعداوة فالأمر مختص بالهبوط و المعاداة يجري مجرى الحال لأن الظاهر يقتضي أنه أمرهما بالهبوط في حال عداوة بعضهم بعضا فأما على الوجه الذي يتضمن أن الخطاب يختص بآدم و حواء فالمراد به أن ذريتهما يعادي بعضهم بعضا و علق الخطاب بهما للاختصاص بين الذرية و بين أصلها و قوله‏ «وَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ» أي مقر و مقام و ثبوت بأن جعل الأرض قرارا لكم‏ «وَ مَتاعٌ» أي استمتاع‏ «إِلى‏ حِينٍ» إلى وقت الموت و قيل إلى يوم القيامة و قيل إلى فناء الآجال أي كل امرئ مستقر إلى فناء أجله و قال أبو بكر السراج لو قال و لكم في الأرض مستقر و متاع لظن أنه غير منقطع فقال‏ «إِلى‏ حِينٍ» أي إلى حين انقطاعه و الفرق بين قول القائل أن هذا لكم حينا و بين قوله‏ «إِلى‏ حِينٍ» إلى أن يدل على الانتهاء و لا بد أن يكون له ابتداء و ليس كذلك الوجه الآخر و في هذه الآية دلالة على أن الله تعالى لا يريد المعصية و لا يصد أحدا عن الطاعة و لا يخرجه عنها


198
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 37] ..... ص : 199

و لا يسبب المعصية ذلك إلى الشيطان جل ربنا و تقدس عما نسبه إلى إبليس و الشياطين و يدل أيضا على أن لوسوسة إبليس تأثيرا في المعاصي.

[سورة البقرة (2): آية 37]

فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37)

القراءة

قرأ ابن كثير آدم بالنصب و كلمات بالرفع و قرأ الباقون برفع‏ «آدَمُ» و نصب‏ «كَلِماتٍ».

الحجة

حجة ابن كثير في نصب آدم أنه في المعنى كالقراءة الأخرى فإن الأفعال المتعدية على ثلاثة أضرب منها ما يجوز فيه أن يكون الفاعل له مفعولا به و المفعول فاعلا نحو ضرب زيد عمروا و منها ما لا يجوز لك فيه نحو أكلت الخبز و نحوه و منها ما يكون إسناده إلى الفاعل في المعنى كإسناده إلى المفعول به نحو نلت و أصبت و تلقيت تقول نالني خير و نلت خيرا و أصابني شي‏ء و أصبت شيئا و تلقاني زيد و تلقيت زيدا و مثل هذه الآية قوله تعالى‏ «لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ» و في حرف عبد الله فيما قيل (لا ينال عهدي الظالمون).

اللغة

التلقي نظير التلقن يقال تلقيت منه أي أخذت و قبلت و أصله من لقيت خيرا فتعدى إلى مفعول واحد ثم يعدى إلى مفعولين بتضعيف العين نحو لقيت زيدا خيرا كقوله تعالى‏ «وَ لَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَ سُرُوراً» و مطاوعة تلقيته بالقبول أي قبلته منه و من ذلك قول أبي مهدية في آيات من القرآن تلقيتها من عمي تلقاها من أبي هريرة تلقاها من رسول الله و تلقيت الرجل استقبلته و تلقاني استقبلني و كلمات جمع كلمة و الكلمة اسم جنس لوقوعها على الكثير من ذلك و القليل قالوا قال امرؤ القيس في كلمته يعنون في قصيدته و قال قس في كلمته يعنون خطبته فقد وقعت على الكثير و قيل لكل واحد من الكلم الثلاث كلمة فوقعت على القليل من الاسم المفرد و الفعل المفرد و الحرف المفرد و أما الكلام فإن سيبويه قد استعمله فيما كان مؤلفا من هذه الكلم و على هذا جاء التنزيل قال الله تعالى‏ «يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ» يعني به قوله تعالى‏ «فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى‏ طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً» أ لا ترى إلى قوله‏ كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ‏ يقال كلمه تكليما و كلاما و تكلم تكلما و الكلم الجرح يقال كلمته أكلمه و أصل الباب التأثر و الكلم أثر دال على الجارح و الكلام أثر دال على المعنى الذي تحته و الذي حرره المتكلمون في حد الكلام هو أنه ما انتظم من حرفين فصاعدا من هذه الحروف المعقولة إذا وقع ممن يصح منه أو من قبيله الإفادة و قال بعضهم هو ما انتظم من الحروف المسموعة المتميزة ليتميز من‏


199
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 200

الكتابة التي ليست بمسموعة و يتميز من أصوات كثير من الطيور لأنها ليست بمتميزة و ينقسم الكلام إلى مهمل و مستعمل و إنما أراد سيبويه بقوله إن المهمل لا يكون كلاما أنه لا يكون مفيدا إذ الكلام عنده لا يقع إلا على المفيد و به قال أبو القاسم البلخي و التوبة و الإقلاع و الإنابة في اللغة نظائر و ضد التوبة الإصرار و الله تعالى يوصف بالتواب و معناه أنه يقبل التوبة عن عباده و أصل التوبة الرجوع عما سلف و الندم على ما فرط فالله تعالى تائب على العبد بقبول توبته و العبد تائب إلى الله تعالى بندمه على معصيته.

المعنى‏

قوله‏ «فَتَلَقَّى آدَمُ» أي قبل و أخذ و تناول على سبيل الطاعة «مِنْ رَبِّهِ» و رب كل شي‏ء «كَلِماتٍ» و أغنى قوله‏ «فَتَلَقَّى» عن أن يقول فرغب إلى الله بهن أو سأله بحقهن لأن معنى التلقي يقيد ذلك و ينبئ عما حذف من الكلام اختصارا و لهذا قال تعالى‏ «فَتابَ عَلَيْهِ» لأنه لا يتوب عليه إلا بأن سأل بتلك الكلمات و على قراءة من قرأ فتلقى آدم من ربه كلمات لا يكون معنى التلقي القبول بل معناه أن الكلمات تداركته بالنجاة و الرحمة و اختلف في الكلمات ما هي فقيل هي قوله‏ رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا الآية عن الحسن و قتادة و عكرمة و سعيد بن جبير و أن في ذلك اعترافا بالخطيئة فلذلك وقعت موقع الندم و حقيقته الإنابة و

قيل هي قوله (اللهم لا إله إلا أنت سبحانك و بحمدك رب إني ظلمت نفسي فارحمني إنك خير الراحمين) (اللهم لا إله إلا أنت سبحانك و بحمدك رب إني ظلمت نفسي فتب علي إنك أنت التواب الرحيم) عن مجاهد و هو المروي عن أبي جعفر الباقر ع‏

و قيل بل هي سبحان الله و الحمد لله و لا إله إلا الله و الله أكبر و قيل و هي‏

رواية تختص بأهل البيت عليهم السلام‏ أن آدم رأى مكتوبا على العرش أسماء معظمة مكرمة فسأل عنها فقيل له هذه أسماء أجل الخلق منزلة عند الله تعالى و الأسماء محمد و علي و فاطمة و الحسن و الحسين فتوسل آدم ع إلى ربه بهم في قبول توبته و رفع منزلته‏

قوله‏ «فَتابَ عَلَيْهِ» فيه حذف أي تاب آدم فتاب الله عليه أي قبل توبته و قيل تاب عليه أي وفقه للتوبة و هداه إليها بأن لقنه الكلمات حتى قالها فلما قالها قبل توبته‏ «إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ» أي كثير القبول للتوبة يقبل مرة بعد مرة و هو في صفة العباد الكثير التوبة و قيل إن معناه أنه يقبل التوبة و إن عظمت الذنوب فيسقط عقابها قوله‏ «الرَّحِيمُ» إنما ذكره ليدل به على أنه متفضل بقبول التوبة و منعم به و أن ذلك ليس على وجه الوجوب و إنما قال فتاب عليه و لم يقل عليهما لأنه اختصر و حذف للإيجاز و التغليب كقوله سبحانه و تعالى‏ «وَ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ» و معناه أن يرضوهما و قوله‏ «وَ إِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا


200
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[فصل مختصر في التوبة و شروطها و الاختلاف فيها] ..... ص : 201

إِلَيْها» و كقول الشاعر

رماني بأمر كنت منه و والدي‏

بريا و من جول الطوي رماني‏

 

و قال الآخر:

نحن بما عندنا و أنت بما

عندك راض و الرأي مختلف‏

 

فكذلك معنى الآية فتاب عليهما و قال الحسن البصري لم يخلق الله آدم إلا للأرض و لو لم يعص لأخرجه إلى الأرض على غير تلك الحال و قال غيره يجوز أن يكون خلقه للأرض إن عصى و لغيرها إن لم يعص و هو الأقوى.

[فصل مختصر في التوبة و شروطها و الاختلاف فيها]

اعلم أن من شروط التوبة الندم على ما مضى من القبيح و العزم على أن لا يعود إلى مثله في القبح فإن هذه التوبة أجمع المسلمون على سقوط العقاب عندها و اختلفوا فيما عداها و كل معصية لله تعالى فإنه يجب التوبة منها و الطاعة لا يصح التوبة منها و عندنا يصح التوبة إذا كانت من ترك الندب و يكون ذلك على وجه الرجوع إلى فعله و على هذا يحمل توبة الأنبياء ع في جميع ما نطق به القرآن و قبول التوبة و إسقاط العقاب عندها تفضل من الله تعالى غير واجب عليه عندنا و عند جميع المعتزلة واجب و قد وعد الله تعالى بذلك و إن كان تفضلا و علمنا أنه لا يخلف الميعاد و أما التوبة من قبيح مع الإقامة على قبيح آخر يعلم أو يعتقد قبحه فعند أكثر المتكلمين هي صحيحة و عند أبي هاشم و أصحابه لا يصح و اعتمد الأولون على أن قالوا كما يجوز أن يمتنع عن قبيح لقبحه مع أنه يفعل قبيحا آخر و إن علم قبحه كذلك يجوز أن يندم من قبيح مع المقام على قبيح آخر يعلم قبحه و اختلفوا في التوبة عند ظهور أشراط الساعة هل تصح أم لا فقال الحسن يحجب عنها عند الآيات الست و

روي عن النبي ص أنه قال‏ بادروا بالأعمال ستا طلوع الشمس من مغربها و الدجال و الدخان و دابة الأرض و خويصة أحدكم يعني الموت و أمر العامة يعني القيامة

و قيل لا شك أن التوبة عند بعض هذه الآيات تحجب و عند بعضها يجوز أن لا تحجب و الله أعلم.


201
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 38] ..... ص : 202

[سورة البقرة (2): آية 38]

قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (38)

القراءة

قرأ يعقوب فلا خوف بنصب الفاء في جميع القرآن و قرأ الباقون بالرفع و التنوين و أجمعوا على إثبات الألف في‏ «هُدايَ» و تحريك الياء و روي عن الأعرج بسكون الياء و هو غلط إلا أن يكون نوى الوقف و روى بعضهم هدي و هي لغة هذيل يقلبون الألف إلى الياء للياء التي بعدها لأن شأن ياء الإضافة أن يكسر ما قبلها فجعل قلب الألف ياء بدل كسرها إذ الألف لا يتحرك فهو مثل علي ولدي و قالوا هوي قال أبو ذؤيب:

سبقوا هوي و أعنقوا لسبيلهم‏

فتخرموا و لكل جنب مضجع.

 

اللغة

الهبوط النزول من موضع عال إلى استفال و قد يستعمل في هبوط المنزلة قال لبيد:

كل بني حرة مصيرهم‏

قل و إن أكثروا من العدد

 

إن يغبطوا يهبطوا و إن أمروا

يوما فهم للفناء و الفند

 

و الإتيان و المجي‏ء و الإقبال نظائر و نقيضه الذهاب و الانصراف و الاتباع و الاقتداء و الاحتذاء نظائر و التابع التالي و في الحديث القادة و الأتباع فالقادة السادة و الأتباع الذين يتبعونهم و التبيع ولد البقرة و ثلاثة أتبعة و الجمع أتابيع و التبع الظل و الخوف و الجزع و الفزع نظائر و نقيض الخوف الأمن و طريق مخوف يخافه الناس و مخيف يخيف الناس و الحزن و الغم و الهم نظائر و نقيضه السرور يقال حزن حزنا و حزنه حزنا و يقال حزنه و أحزنه و هو محزون و محزن و قال قوم لا يقولون حزنه الأمر و يقولون يحزنه فإذا صاروا إلى الماضي قالوا أحزنه و هذا شاذ نادر لأنه استعمل أحزن و أهمل يحزن و استعمل يحزن و أهمل حزن و أصل الباب غلظ الهم مأخوذ من الحزن و هو ما غلظ من الأرض.

الإعراب‏

إما هو أن الجزاء دخلت عليها" ما" ليصح دخول نون التأكيد في الفعل و لو أسقطت لم يجز دخول النون لأنها لا تدخل في الخبر الواجب إلا في القسم أو ما أشبه‏


202
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 203

القسم كقولك زيد ليأتينك و لو قلت بغير لام لم يجز و كذلك تقول بعين ما أرينك و بجهد ما تبلغن و في عضة ما ينبتن شكيرها و لو قلت بعين أرينك بغير ما لم يجز فدخول ما هاهنا كدخول اللام في أنها تؤكد أول الكلام و تؤكد النون آخره و الأمر و النهي و الاستفهام تدخل النون فيه و إن لم يكن معه ما إذ كان الأمر و النهي مما يشتد الحاجة إلى التوكيد فيه و الاستفهام مشبه به إذ كان معناه أخبرني و النون إنما تلحق للتوكيد فلذلك كان من مواضعها قال الله تعالى‏ «لا تَقُولَنَّ لِشَيْ‏ءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً» قال الزجاج و إنما فتح ما قبل النون في قوله‏ «يَأْتِيَنَّكُمْ» لسكون الياء و سكون النون الأولى قال أبو علي و لو كان كذلك لما حرك في نحو هل تضربن و نحوه من الصحيح لأن الساكنين لا يلتقيان في هذا النحو و في هذا ما يدل على أن هذه الحركة للبناء دون ما ذكره من التقاء الساكنين و جواب الشرط في الفاء مع الشرط الثاني و جزائه لأن الشرط و جوابه بمنزلة المبتدأ و الخبر فكما أن المبتدأ لا يتم إلا بخبره فكذلك الشرط لا يتم إلا بجزائه و لك أن تجعل خبر المبتدأ جملة هي مبتدأ و خبر كقولك زيد أبوه منطلق فكذلك أن التي للجزاء إذا كان جوابه بالفاء و وقع بعد الفاء الكلام مستأنفا صلح أن يكون جزاء و غير جزاء تقول إن تأتني فأنت مكرم و لك أن تقول أن تأتني فمن يكرمك أكرمه فقوله‏ «فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ» شرط و يأتينكم في موضع الجزم بإن و جزاؤه الفاء و ما بعده من قوله‏ «فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ» الآية و من في موضع الرفع بالابتداء و تبع في موضع الجزم بالشرط و جزاؤه الفاء و ما بعده و هو قوله‏ «فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ» و لا خوف عليهم جملة اسمية «وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ» جملة اسمية معطوفة على الجملة التي قبلها و الفاء مع ما بعده في موضع جزم بالجزاء لقوله‏ «فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ» و الشرط و الجزاء مع معنى حرف الشرط الذي تضمنته من في موضع رفع بأنها خبر المبتدأ الذي هو من ثم الفاء و ما بعده من قوله‏ «فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ» الآية في موضع جزم بأنه جزاء لقوله‏ «فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ» و هذا في المقدمات القياسية يسمى الشرطية المركبة و ذلك أن المقدم فيها إذا وجب وجب التالي المركب عليه.

المعنى‏

ثم بين تعالى إهباطهم إلى الأرض فقال‏ «اهْبِطُوا» أي انزلوا و الخطاب لآدم و حواء على ما ذكرناه من الاختلاف فيه فيما تقدم و اختلف في تكرار الهبوط فقيل الهبوط الأول من الجنة إلى السماء و هذا الهبوط من السماء إلى الأرض عن أبي علي و قيل إنما كرر للتأكيد و قيل إنما كرر لاختلاف الحالين فقد بين بقوله‏ «وَ قُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ» إن الإهباط إنما كان في حال عداوة بعضهم لبعض و بين بقوله‏ «قُلْنَا اهْبِطُوا


203
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 39] ..... ص : 204

مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً» أن الإهباط إنما كان للابتلاء و التكليف كما يقال اذهب سالما معافى اذهب مصاحبا و إن كان الذهاب واحدا لاختلاف الحالين‏ «فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً» أي بيان و دلالة و قيل أنبياء و رسل و على هذا القول الأخير يكون الخطاب في قوله‏ اهْبِطُوا لآدم و حواء و ذريتهما كقوله تعالى‏ «فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ» أي أتينا بما فينا من الخلق طائعين‏ «فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ» أي اقتدى برسلي و احتذى أدلتي فلا يلحقهم خوف من أهوال يوم القيامة من العقاب و لا هم يحزنون على فوات الثواب فأما الخوف و الحزن في الدنيا فإنه يجوز أن يلحقهم لأن من المعلوم أن المؤمنين لا ينفكون منه و في هذه الآية دلالة على أن الهدى قد يثبت و لا اهتداء و أن الاهتداء إنما يقع بالاتباع و القبول.

[سورة البقرة (2): آية 39]

وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (39)

اللغة

الكفر و التكذيب قد مضى معناهما فيما تقدم ذكره و الآيات جمع آية و معنى الآية في اللغة العلامة و منه قوله تعالى‏ «عِيداً لِأَوَّلِنا وَ آخِرِنا وَ آيَةً مِنْكَ» أي علامة لإجابتك دعاءنا و كل آية من كتاب الله علامة و دلالة على المضمون فيها و قال أبو عبيدة معنى الآية أنها علامة لانقطاع الكلام الذي قبلها و انقطاعه من الذي بعدها و قيل إن الآية القصة و الرسالة قال كعب بن زهير:

أ لا أبلغا هذا المعرض آية

أ يقظان قال القول إذ قال أم حلم‏

 

أي رسالة فعلى هذا يكون معنى الآيات القصص أي قصة تتلو قصة و قال ابن السكيت خرج القوم بآيتهم أي بجماعتهم لم يدعوا وراءهم شيئا و على هذا يكون معنى الآية من كتاب الله جماعة حروف دالة على معنى مخصوص و الأصحاب جمع الصاحب و هو القرين و أصل الصحبة المقارنة فالصاحب هو الحاصل مع آخر مدة لأنه إذا اجتمع معه وقتا واحدا لم يكن صاحبا له لكن يقال صحبه وقتا من الزمان ثم فارقه.

الإعراب‏

موضع أولئك يحتمل ثلاثة أوجه (أحدها) أن يكون بدلا من الذين أو عطف بيان و أصحاب النار بيان عن أولئك مجراه مجرى الوصف و الخبر هم فيها خالدون و الثاني أن يكون ابتداء و خبرا في موضع الخبر الأول و الثالث أن يكون على خبرين بمنزلة خبر واحد كقولك هذا حلو حامض فإن قيل فلم دخلت الفاء في موضع آخر مثل قوله‏


204
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 205

 

«فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ» و لم يدخل هاهنا قلنا لأن ما دخل فيه الفاء من خبر الذي و أخواته مشبه بالجزاء و ما لم يكن فيه فاء فهو على أصل الخبر و إذا قلت ما لي فهو لك أن أردت ما بمعنى الذي جاز و إن أردت به المال لم يجز.

المعنى‏

«الَّذِينَ كَفَرُوا» أي جحدوا «وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا» أي دلالاتنا و ما أنزلناه على الأنبياء ف «أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ» أي الملازمون للنار «هُمْ فِيها خالِدُونَ» أي دائمون و في هذه الآية دلالة على أن من مات مصرا على كفره غير تائب منه و كذب بآيات ربه فهو مخلد في نار جهنم و آيات الله دلائله و كتبه المنزلة على رسله و الآية مثل الحجة و الدلالة و إن كان بينهما فرق في الأصل يقال دلالة هذا الكلام كذا و لا يقال آيته و من استدل بهذه الآية على أن عمل الجوارح قد يكون من الكفر بقوله‏ «وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا» فقوله يفسد بأن التكذيب نفسه و إن لم يكن كفرا فهو دلالة على الكفر لأنه لا يقع إلا من كافر كالسجود للشمس و غيره.

[سورة البقرة (2): آية 40]

يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَ أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَ إِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40)

القراءة

القراءة المشهورة «إِسْرائِيلَ» مهموز ممدود مشبع و هو الفصيح و روي في الشواذ عن الحسن و الزهري إسرايل بلا همز و لا مد و عن الأعمش و عيسى بن عمر كذلك و حكي عن الأخفش إسرائل بكسر الهمزة من غير ياء و حكى قطرب إسرال من غير همز و لا ياء و إسرئين بالنون قال أبو علي العرب إذا نطقت بالأعجمي خلطت فيه و أنشد:

هل تعرف الدار لأم الخزرج‏

 

منها فظلت اليوم كالمزرج‏

     

 

يريد المزرجن و هو الخمر من الزرجون قال و النون في زرجون أصل كالسين في قربوس فإذا جاز للعرب أن تخلط فيما هو لغتها فكيف فيما ليس من لغتها و اختير تحريك الياء في قوله‏ «نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ» لأنه لقيها ألف الوصل و اللام فلم يكن بد من إسقاطها أو تحريكها فكان التحريك أولى لأنه أدل على الأصل و أشكل بما يلحق اللام في الاستئناف من فتح ألف الوصل و إسكان الياء من قوله‏ «يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا» أي الإسقاط هاهنا أجود لأن من حق ياء الإضافة ألا تثبت في النداء و إذا لم تثبت فلا طريق إلى تحريكها و الاختيار

 

 

 

205
مجمع البيان في تفسير القرآن1

اللغة ..... ص : 206

في قوله‏ «فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ» حذف الياء لأنه رأس آية و رءوس الآي لا تثبت فيها الياء لأنها فواصل ينوى فيها الوقف كما يفعل ذلك في القوافي و أجمعوا على إسقاط الياء من قوله‏ «فَارْهَبُونِ» إلا ابن كثير فإنه أثبتها في الوصل دون الوقف و الوجه حذفها لكراهية الوقف على الياء و في كسر النون دلالة على ذهاب الياء.

اللغة

الابن و الولد و النسل و الذرية متقاربة المعاني إلا أن الابن للذكر و الولد يقع على الذكر و الأنثى و النسل و الذرية يقع على جميع ذلك و أصله من البناء و هو وضع الشي‏ء على الشي‏ء فالابن مبني على الأب لأن الأب أصل و الابن فرع و البنوة مصدر الابن و إن كان من الياء كالفتوة مصدر الفتى و تثنيته فتيان و إسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم و قيل أصله مضاف لأن إسر معناه عبد و ئيل هو الله بالعبرانية فصار مثل عبد الله و كذلك جبرائيل و ميكائيل و الذكر الحفظ للشي‏ء بذكره و ضده النسيان و الذكر جري الشي‏ء على لسانك و الذكر الشرف في قوله‏ «وَ إِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَ لِقَوْمِكَ» و الذكر الكتاب الذي فيه تفصيل الدين و كل كتاب من كتب الأنبياء ذكر و الذكر الصلاة و الدعاء و

في الأثر كانت الأنبياء إذا أحزنهم أمر فزعوا إلى الذكر

أي إلى الصلاة و أصل الباب التنبيه على الشي‏ء قال صاحب العين تقول وفيت بعهدك وفاء و أوفيت لغة تهامة قال الشاعر في الجمع بين اللغتين:

أما ابن عوف فقد أوفى بذمته‏

كما وفى بقلاص النجر حاديها

 

يعني به الدبران و هو التالي و العهد الوصية و الرهبة الخوف و ضدها الرغبة و في المثل رهبوت خير من رحموت أي لأن ترهب خير من أن ترحم.

الإعراب‏

يا حرف النداء و هي في موضع نصب لأنه منادى مضاف و إسرائيل في موضع جر لأنه مضاف إليه و فتح لأنه غير منصرف و فيه سببان العجمة و التعريف و قوله‏ «وَ إِيَّايَ» ضمير منصوب و لا يجوز أن يكون منصوبا بقوله‏ «فَارْهَبُونِ» لأنه مشغول كما لا يجوز أن يقول إن زيدا في قولك زيدا فاضربه منصوب باضربه و لكنه يكون منصوبا بفعل يدل عليه ما هو مذكور في اللفظ و تقديره و إياي ارهبوا فارهبون و لا يظهر ذلك لأنه استغنى عنه بما يفسره و إن صح تقديره و لا يجوز في مثل ذلك الرفع على أن يكون الخبر فارهبون إلا


206
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 207

على تقدير محذوف كما أنشد سيبويه:

و قائلة خولان فانكح فتاتهم‏

و أكرومة الحيين خلو كما هيأ

 

تقديره هؤلاء خولان فانكح فتاتهم و على ذلك حمل قوله تعالى‏ «وَ السَّارِقُ وَ السَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما» و «الزَّانِيَةُ وَ الزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ» و تقديره و فيما يتلى عليكم السارق و السارقة فاقطعوا أيديهما و فيما فرض عليكم الزانية و الزاني فاجلدوا كل واحد منهما.

المعنى‏

لما عم الله تعالى جميع الخلق بالحجج الواضحة على توحيده و ذكرهم ما أنعم به عليهم في أبيهم آدم ع خص بني إسرائيل بالحجج و ذكرهم ما أسدى إليهم و إلى آبائهم من النعم فقال‏ «يا بَنِي إِسْرائِيلَ» يعني يا بني يعقوب نسبهم إلى الأب الأعلى كما قال‏ يا بَنِي آدَمَ‏ و الخطاب لليهود و النصارى و قيل هو خطاب لليهود الذين كانوا بالمدينة و ما حولها عن ابن عباس‏ «اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ» أراد بذلك النعم التي أنعم بها على أسلافهم من كثرة الأنبياء فيهم و الكتب و إنجائهم من فرعون و من الغرق على أعجب الوجوه و إنزال المن و السلوى عليهم و كون الملك فيهم في زمن سليمان ع و غير ذلك و عد النعمة على آبائهم نعمة عليهم لأن الأولاد يتشرفون بفضيلة الآباء و هذا كما يقال في المفاخرة قتلناكم يوم الفخار و هزمناكم يوم ذي قار و غلبناكم يوم النسار و ذكر النعمة بلفظ الواحد و المراد بها الجنس كقوله تعالى‏ «وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها» و الواحد لا يمكن عده و قيل المراد بها النعم الواصلة إليهم مما اختصوا به دون آبائهم و اشتركوا فيه مع آبائهم فكان نعمة على الجميع فمن ذلك تبقية آبائهم حتى تناسلوا فصاروا من أولادهم و من ذلك خلقه إياهم على وجه يمكنهم معه الاستدلال على توحيده و الوصول إلى معرفته فيشكروا نعمه و يستحقوا ثوابه و من ذلك ما يوصل إليهم حالا بعد حال من الرزق و يدفع عنهم من المكاره و الأسواء و ما يسبغ عليهم من نعم الدين و الدنيا فعلى القول الأول تكون الآية تذكيرا بالنعم عليهم في أسلافهم و على القول الثاني تكون تذكيرا بالمنعم عليهم، و من النعم على أسلافهم ما ذكره في قوله‏ «وَ إِذْ قالَ مُوسى‏ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَ جَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَ آتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ» و قال ابن الأنباري أراد اذكروا ما أنعمت به عليكم فيما استودعتكم من علم التوراة و بينت لكم من صفة محمد ص و ألزمتكم من تصديقه و اتباعه فلما بعث و لم يتبعوه كانوا كالناسين لهذه النعمة و قوله‏ «وَ أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ» قيل فيه‏


207
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 41] ..... ص : 208

 

وجوه (أحدها) أن هذا العهد هو أن الله تعالى عهد إليهم في التوراة أنه باعث نبيا يقال له محمد فمن تبعه كان له أجران اثنان أجر باتباعه موسى و إيمانه بالتوراة و أجر باتباعه محمدا و إيمانه بالقرآن من كفر به تكاملت أوزاره و كانت النار جزاءه فقال‏ «أَوْفُوا بِعَهْدِي» في محمد «أُوفِ بِعَهْدِكُمْ» أدخلكم الجنة عن ابن عباس فسمى ذلك عهدا لأنه تقدم به إليهم في الكتاب السابق و قيل إنما جعله عهدا لتأكيده بمنزلة العهد الذي هو اليمين كما قال سبحانه‏ «وَ إِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَ لا تَكْتُمُونَهُ» (و ثانيها) أنه العهد الذي عاهدهم عليه حيث قال‏ «خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ» أي بجد «وَ اذْكُرُوا ما فِيهِ» أي ما في الكتاب عن الحسن (و ثالثها) أنه ما عهد إليهم في سورة المائدة حيث قال‏ «وَ لَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَ بَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَ قالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَ آتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَ آمَنْتُمْ بِرُسُلِي» الآية عن قتادة (و رابعها) أنه أراد جميع الأوامر و النواهي (و خامسها) أنه جعل تعريفه إياهم نعمة عهدا عليهم و ميثاقا لأنه يلزمهم القيام بما يأمرهم به من شكر هذه النعم كما يلزمهم الوفاء بالعهد و الميثاق الذي يؤخذ عليهم و الأول أقوى لأن عليه أكثر المفسرين و به يشهد القرآن و قوله‏ «وَ إِيَّايَ فَارْهَبُونِ» أي خافوني في نقض العهد و في هذه الآية دلالة على وجوب شكر النعمة و

في الحديث‏ التحدث بالنعم شكر

و فيها دلالة على عظم المعصية في جحود النعم و كفرانها و لحوق الوعيد الشديد بكتمانها و يدل أيضا على ثبوت أفعال العباد إذ لو لم تكن لهم أفعال لما صح العهد و الأمر و النهي و الوعد و الوعيد و لأدى إلى بطلان الرسل و الكتب ..

[سورة البقرة (2): آية 41]

وَ آمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَ لا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَ لا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَ إِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41)

اللغة

قوله‏ «أَوَّلَ كافِرٍ» قال الزجاج يعني أول الكافرين و فيه قولان قال الأخفش معناه أول من كفر به و قال غيره من البصريين معناه أول فريق كافر به أي بالنبي ص و قال و كلا القولين صواب حسن و نظير قوله‏ «أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ» قال الشاعر:

و إذا هم طعموا فالأم طاعم‏

 

و إذا هم جاعوا فشر جياع‏

     

 

و الثمن و العوض و البدل نظائر و بينها فروق فالثمن هو البدل في البيع من العين أو الورق و إذا استعمل في غيرهما كان مشبها بهما و مجازا و العوض هو البدل الذي ينتفع به‏

 

 

 

208
مجمع البيان في تفسير القرآن1

الإعراب ..... ص : 209

كائنا ما كان و البدل هو الشي‏ء الذي يجعل مكان غيره و ثوب ثمين كثير الثمن و الثمين الثمن و الفرق بين الثمن و القيمة أن الثمن قد يكون وفقا و قد يكون بخسا و قد يكون زائدا و القيمة لا تكون إلا مساوية المقدار للثمن من غير نقصان و لا زيادة.

الإعراب‏

مصدقا نصب لأنه حال من الهاء المحذوفة من أنزلت كأنه قال أنزلته مصدقا و يصلح أن ينتصب بآمنوا كأنه قال آمنوا بالقرآن مصدقا و معكم صلة لما و العامل فيه الاستقرار أي الذي استقر معكم و الهاء في به عائد إلى ما في قوله‏ «بِما أَنْزَلْتُ» إلى ما في قوله‏ «لِما مَعَكُمْ» و نصب‏ «أَوَّلَ كافِرٍ» لأنه خبر كان.

المعنى‏

ثم قال مخاطبا لليهود «وَ آمِنُوا» أي صدقوا «بِما أَنْزَلْتُ» على محمد ص من القرآن لأنه منزل من السماء إلى الأرض‏ «مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ» من التوراة أمرهم بالتصديق بالقرآن و أخبرهم أن في تصديقهم بالقرآن تصديقا منهم للتوراة لأن الذي في القرآن من الأمر بالإقرار بالنبوة لمحمد ص و تصديقه نظير الذي في التوراة و الإنجيل فإن فيهما البشارة بمحمد و بيان صفته فالقرآن مصدق لهما و قيل معناه أنه يصدق بالتوراة و الإنجيل فإن فيهما البشارة بمحمد و بيان صفته فالقرآن مصدق لهما و قيل معناه أنه يصدق بالتوراة لأن فيه الدلالة على أنه حق و أنه من عند الله و الأول أوجه لأنه يكون حجة عليهم بأن جاء القرآن بالصفة التي تقدمت بها بشارة موسى و عيسى ع و قوله‏ «وَ لا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ» أي بالقرآن من أهل الكتاب لأن قريشا قد كانت قد كفرت به بمكة قبل اليهود و قيل المعنى و لا تكونوا السابقين إلى الكفر به فيتبعكم الناس أي لا تكونوا أئمة في الكفر به عن أبي العالية و قيل المعنى و لا تكونوا أول جاحدين صفة النبي في كتابكم فعلى هذا تعود الهاء في به إلى النبي ص عن ابن جريج و قيل المعنى و لا تكونوا أول كافر بما معكم من كتابكم لأنكم إذا جحدتم ما فيه من صفة النبي ص فقد كفرتم به قال الزجاج و قواه بأن الخطاب وقع على علماء أهل الكتاب فإذا كفروا كفر معهم الأتباع فلذلك قيل لهم‏ «وَ لا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ» قال و لو كان الهاء في به للقرآن فلا فائدة فيه لأنهم كانوا يظهرون أنهم كافرون بالقرآن و قال علي بن عيسى يحتمل أن يكون أول كافر بالقرآن أنه حق في كتابكم و إنما عظم أول الكفر لأنهم إذا كانوا أئمة لهم و قدوة في الضلالة كانت ضلالتهم أعظم نحو ما

روي عن النبي ص‏ من سن سنة حسنة فله أجرها و أجر من عمل بها إلى يوم القيامة و من سن سنة سيئة كان عليه وزرها و وزر من عمل بها إلى يوم القيامة

و ليس في نهيه عن أن يكونوا أول كافر به دلالة على أنه‏


209
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 42] ..... ص : 210

يجوز أن يكونوا آخر كافر لأن المقصود النهي عن الكفر على كل حال و خص أولا بالذكر لما ذكرناه من عظم موقعه كما قال الشاعر

من أناس ليس في أخلاقهم‏

عاجل الفحش و لا سوء الجزع‏

 

و ليس يريد أن فيهم فحشا آجلا و قوله‏ «وَ لا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا»

روي عن أبي جعفر ع في هذه الآية قال‏ كان حيي بن أخطب و كعب بن الأشرف و آخرون من اليهود لهم مأكلة على اليهود في كل سنة فكرهوا بطلانها بأمر النبي ص فحرفوا لذلك آيات من التوراة فيها صفته و ذكره فذلك الثمن الذي أريد في الآية

قال الفراء إنما أدخل الباء في الآيات دون الثمن في سورة يوسف أدخله في الثمن في قوله‏ «وَ شَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ» لأن العروض كلها أنت مخير فيها إن شئت قلت اشتريت الثوب بكساء و إن شئت قلت اشتريت بالثوب كساء أيهما جعلت ثمنا لصاحبه جاز فإذا جئت إلى الدراهم و الدنانير وضعت الباء في الثمن كقوله‏ «وَ شَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ» لأن الدراهم ثمن أبدا و المعنى لا تستبدلوا بآياتي أي بما في التوراة من بيان صفة محمد و نعته ثمنا قليلا أي عرضا يسيرا من الدنيا «وَ إِيَّايَ فَاتَّقُونِ» فاخشوني في أمر محمد ص لا ما يفوتكم من المأكل و الرئاسة و تقييده الثمن بالقلة لا يدل على أنه إذا كان كثيرا يجوز شراؤه به لأن المقصود أن أي شي‏ء باعوا به آيات الله كان قليلا و أنه لا يجوز أن يكون ثمن يساويه كقوله‏ «وَ مَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ» و إنما أراد بذلك نفي البرهان عنه على كل حال و أنه لا يجوز أن يكون عليه برهان و مثله قوله‏ «وَ يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ» و إنما أراد أن قتلهم لا يكون إلا بغير حق و نظائر ذلك كثيرة و منه قول امرئ القيس:

على لأحب لا يهتدى بمنارة

إذا سافه العود الديافي جرجرا

 

و إنما أراد أنه لا منار هناك فيهتدي به و في هذه الآية دلالة على تحريم أخذ الرشى في الدين لأنه لا يخلو إما أن يكون أمرا يجب إظهاره أو يحرم إظهاره فالأخذ على مخالفة كلا الوجهين حرام و هذا الخطاب يتوجه أيضا على علماء السوء من هذه الأمة إذا اختاروا الدنيا على الدين فتدخل فيه الشهادات و القضايا و الفتاوى و غير ذلك.

[سورة البقرة (2): آية 42]

وَ لا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَ تَكْتُمُوا الْحَقَّ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42)


210
مجمع البيان في تفسير القرآن1

اللغة ..... ص : 211

اللغة

اللبس و التغطية و التعمية نظائر و الفرق بين التغطية و التعمية أن التغطية تكون بالزيادة و التعمية قد تكون بالنقصان و الزيادة و ضد اللبس الإيضاح و اللباس ما واريت به جسدك و لباس التقوى الحياء و اللبس خلط الأمور بعضها ببعض و الفعل لبس الأمر يلبس لبسا و لبس الثوب يلبسه لبسا و الفرق بين اللبس و الإخفاء أن الإخفاء يمكن أن يدرك معه المعنى و لا يمكن مع اللبس إدراك المعنى و الإشكال قد يدرك معه المعنى إلا أنه بصعوبة لأجل التعقيد و

قال أمير المؤمنين ع‏ للحرث بن حوط يا حار إنه ملبوس عليك أن الحق لا يعرف بالرجال اعرف الحق تعرف أهله‏

و الباطل و البطل واحد و هو ضد الحق و البطلان و الفساد و الكذب و الزور و البهتان نظائر و أبطلت الشي‏ء جعلته باطلا و أبطل الرجل جاء بباطل.

الإعراب‏

 

مجمع البيان فى تفسير القرآن    ج‏1    211    

له‏ «وَ تَكْتُمُوا الْحَقَّ» يحتمل وجهين من الإعراب أحدهما الجزم على النهي كأنه قال لا تلبسوا الحق و لا تكتموا فيكون عطف جملة على جملة و الآخر النصب على الظرف بإضمار أن فيكون عطف الاسم على مصدر الفعل الذي قبله و تقديره لا يكن منكم لبس الحق و كتمانه و دل تلبسوا على لبس كما يقال من كذب كان شرا له فكذب يدل على الكذب فكأنه قال من كذب كان الكذب شرا قال الشاعر في مثله‏

لا تنه عن خلق و تأتي مثله‏

عار عليك إذا فعلت عظيم‏

 

أي لا تجمع بين النهي عن خلق و الإتيان بمثله.

المعنى‏

«لا تَلْبِسُوا» أي لا و تخلطوا «الْحَقَّ بِالْباطِلِ» و معنى لبسهم الحق بالباطل أنهم آمنوا ببعض الكتاب و كفروا ببعض لأنهم جحدوا صفة النبي ص فذلك الباطل و أقروا بغيره مما في الكتاب و قيل معناه لا تحرفوا الكلم عن مواضعه فالتحريف هو الباطل و تركهم ما في الكتاب على ما هو به هو الحق و قال ابن عباس لا تخلطوا الصدق بالكذب و قيل الحق التوراة التي أنزلها الله على موسى و الباطل ما كتبوه بأيديهم و قيل الحق إقرارهم أن محمدا مبعوث إلى غيرهم و الباطل إنكارهم أن يكون بعث إليهم و قوله‏ «وَ تَكْتُمُوا الْحَقَّ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ» أي لا تكتموا صفة النبي ص في التوراة و أنتم تعلمون أنه حق و الخطاب متوجه إلى رؤساء أهل الكتاب كما وصفهم بأنهم يحرفون الكلم عن مواضعه للتلبيس على أتباعهم و هذا تقبيح لما يفعلونه أي يجحدون ما يعلمون و جحد العالم أعظم من جحد الجاهل و قيل معناه و أنتم تعلمون البعث و الجزاء و قيل معناه و أنتم تعلمون ما أنزل ببني إسرائيل و ما سينزل بمن كذب على الله تعالى و قيل معناه و أنتم‏


211
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 43] ..... ص : 212

 

تعلمون ما نزل ببني إسرائيل من المسخ و غيره فإن قيل كيف يجوز أن يكون هؤلاء عارفين بنبوة محمد و ذلك مبني على معرفة الله و عندكم أن من عرف الله لا يجوز أن يكفر و هؤلاء صاروا كفارا و ماتوا على كفرهم قلنا لا يمتنع أن يكونوا عرفوا الله على وجه لا يستحقون به الثواب لأن الثواب إنما يستحق بأن ينظروا من الوجه الذي يستحق به الثواب فإذا نظروا على غير ذلك الوجه لا يستحقون الثواب فعلى هذا يجوز أن يكونوا عارفين بالله و التوراة و بصفات النبي ص و إن لم يستحقوا الثواب فلا يمتنع أن يكفروا و قال بعض أصحابنا استحقاقهم الثواب على إيمانهم مشروط بالموافاة فإذا لم يوافوا بالإيمان لم يستحقوا الثواب فعلى هذا يجوز أن يكونوا عارفين و إن لم يكونوا مستحقين لثواب يبطل بالكفر و المعتمد الأول.

[سورة البقرة (2): آية 43]

وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ وَ ارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)

اللغة

أصل الصلاة عند أكثر أهل اللغة الدعاء على ما ذكرناه قبل و منه قول الأعشى:

تقول بنتي و قد قربت مرتحلا

 

يا رب جنب أبي الأوصاب و الوجعا

     

 

عليك مثل الذي صليت فاغتمضي‏

 

نوما فإن لجنب المرء مضطجعا

     

 

أي دعوت و قيل أصلها اللزوم من قول الشاعر

لم أكن من جناتها علم الله‏

 

و إني لحرها اليوم صال‏

     

 

أي ملازم لحرها فكان معنى الصلاة ملازمة العبادة على الحد الذي أمر الله تعالى به و قيل أصلها من الصلا و هو عظم العجز لرفعه في الركوع و السجود و منه قول النابغة:

فآب مصلوه بعين جلية

 

و غودر بالجولان حزم و نائل‏

     

 

أي الذين جاءوا في صلا السابق و على القول الأول أكثر العلماء و قد بينا معنى إقامة الصلاة فيما مضى و الزكاة و النماء و الزيادة نظائر في اللغة و قال صاحب العين الزكاة زكاة المال و هو تطهيره و زكا الزرع و غيره يزكو زكاء ممدودا أي نما و ازداد و هذا لا يزكو بفلان أي لا يليق به و الزكا الشفع و الخسا الوتر و أصله تثمير المال بالبركة التي يجعلها الله فيه‏

 

 

 

212
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 213

و الركوع و الانحناء و الانخفاض نظائر في اللغة قال ابن دريد الراكع الذي يكبو على وجهه و منه الركوع في الصلاة قال الشاعر:

و أفلت حاجب فوق العوالي‏

على شقاء تركع في الظراب‏

 

و قال صاحب العين كل شي‏ء ينكب لوجهه فتمس ركبته الأرض أو لا تمس بعد أن يطأطئ رأسه فهو راكع قال الشاعر:

و لكني أنص العيس تدمى‏

أياطلها و تركع بالحزون‏

 

و قال لبيد:

أخبر أخبار القرون التي مضت‏

أدب كأني كلما قمت راكع‏

 

و قيل أنه مأخوذ من الخضوع قال الشاعر:

لا تهين الفقير علك أن‏

تركع يوما و الدهر قد رفعه‏

 

و الأول أقوى و إنما يستعمل في الخضوع مجازا و توسعا.

المعنى‏

«وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ» أي أدوها بأركانها و حدودها و شرائطها كما بينها النبي ص‏ «وَ آتُوا الزَّكاةَ» أي أعطوا ما فرض الله عليكم في أموالكم على ما بينه الرسول لكم و هذا حكم جميع ما ورد في القرآن مجملا فإن بيانه يكون موكولا إلى النبي ص كما قال سبحانه و تعالى: «وَ ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا» فلذلك أمرهم بالصلاة و الزكاة على طريق الإجمال و أحال في التفصيل على بيانه و قوله‏ «وَ ارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ» إنما خص الركوع بالذكر و هو من أفعال الصلاة بعد قوله‏ «وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ» لأحد وجوه. (أحدها) أن الخطاب لليهود و لم يكن في صلاتهم ركوع و كان الأحسن ذكر المختص دون المشترك لأنه أبعد من اللبس (و ثانيها) أنه عبر بالركوع عن الصلاة يقول القائل فرغت من ركوعي أي صلاتي و إنما قيل ذلك لأن الركوع أول ما يشاهد من الأفعال التي يستدل بها على أن الإنسان يصلي فكأنه كرر ذكر الصلاة تأكيدا عن أبي مسلم و يمكن أن يكون فيه فائدة تزيد على التأكيد و هو أن قوله‏ «أَقِيمُوا الصَّلاةَ» إنما يفيد وجوب إقامتها


213
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 44] ..... ص : 214

 

و يحتمل أن يكون إشارة إلى صلاتهم التي يعرفونها و أن يكون الصلاة إشارة إلى الصلاة الشرعية و قوله‏ «وَ ارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ» يكون معناه صلوا مع هؤلاء المسلمين الراكعين فيكون متخصصا بالصلاة المتقررة في الشرع فلا يكون تكرارا بل يكون بيانا (و ثالثها) أنه حث على صلاة الجماعة لتقدم ذكر الصلاة في أول الآية.

[سورة البقرة (2): آية 44]

أَ تَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَ تَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَ أَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (44)

اللغة

البر في اللغة و الإحسان و الصلة نظائر يقال فلان بار وصول محسن و ضد البر العقوق و رجل بر و بار و بر صدقت و بر حجه و بر لغتان و قولهم فلان لا يعرف الهر من البر قال الأخفش معناه لا يعرف من يهر عليه ممن يبره و قال المازني الهر السنور و البر الفأرة أو دويبة تشبهها و الفرق بين البر و الخير أن البر يدل على قصد و الخير قد يقع على وجه السهو و النسيان و السهو و الغفلة نظائر و ضد النسيان الذكر و حقيقته غروب الشي‏ء عن النفس بعد حضوره و هو عدم علم ضروري من فعل الله تعالى و السهو قد يقع عما كان الإنسان عالما به و عما لم يكن عالما به و قد يكون النسيان بمعنى الترك نحو قوله‏ «نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ» أي تركوا ذكر الله فخذلهم و التلاوة القراءة تلا يتلو تلاوة أي قرأ و تلا يتلو تلوا أي تبع و أصل التلاوة منه لاتباع بعض الحروف فيها بعضا و الفرق بين التلاوة و القراءة أن أصل القراءة جمع الحروف و أصل التلاوة اتباع الحروف و العقل و الفهم و المعرفة و اللب نظائر و رجل عاقل فهم لبيب ذو معرفة و ضد العقل الحمق يقال عقل الشي‏ء عقلا و أعقله غيره و قيل لابن عباس أنى لك هذا العلم قال قلب عقول و لسان سئول و قال صاحب كتاب العين العقل ضد الجهل يقال عقل الجاهل إذا علم و عقل المريض بعد أن أهجر و عقل المعتوه و نحوه و العقال الرباط يقال عقلت البعير أعقله عقلا إذا شددت يده بالعقال و العقل مجموع علوم لأجلها يمتنع الحي من كثير من المقبحات و يفعل كثيرا من الواجبات و إنما سميت تلك العلوم عقلا لأنها تعقل عن القبيح و قيل لأنها تعقل العلوم المكتسبة و لا يوصف القديم تعالى بأنه عاقل لأنه لا يعقله شي‏ء عن فعل القبيح و إنما لا يختاره لعلمه بقبحه و بأنه غني عنه و لأنه لا يكتسب علما بشي‏ء فيثبت بعض علومه ببعض و قال علي بن عيسى العقل هو العلم الذي يزجر عن قبيح الفعل و من كان زاجرة أقوى فهو أعقل و قيل العقل معرفة يفصل بها بين القبيح و الحسن في الجملة و قيل هو التمييز الذي له فارق الإنسان جميع الحيوان و هذه العبارات قريبة معاني بعضها من بعض و الفرق بين العقل‏

 

 

 

214
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 215

 

و العلم أن العقل قد يكمل لمن فقد بعض العلوم و لا يكمل العلم لمن فقد بعض عقله فإن قيل إذا كان العقل مختلفا فيه فكيف يجوز أن يستشهد به قلنا أن الاختلاف في ماهية العقل لا يوجب الاختلاف في قضاياه أ لا ترى أن الاختلاف في ماهية العقل حتى أن بعضهم قال معرفة و بعضهم قال قوة لا توجب الاختلاف في أن المائة أكثر من واحد و أن الكل أعظم من الجزء و غير ذلك من قضايا العقول.

المعنى‏

هذه الآية خطاب لعلماء اليهود و كانوا يقولون لأقربائهم من المسلمين أثبتوا على ما أنتم عليه و لا يؤمنون هم و الألف للاستفهام و معناه التوبيخ و المراد بالبر الإيمان بمحمد ص وبخهم الله تعالى على ما كانوا يفعلون من أمر الناس بالإيمان بمحمد ص و ترك أنفسهم عن ذلك قال أبو مسلم كانوا يأمرون العرب بالإيمان بمحمد ص إذا بعث فلما بعث كفروا به و روي عن ابن عباس أن المراد أنهم كانوا يأمرون أتباعهم بالتمسك بالتوراة و تركوا هم التمسك به لأن جحدهم النبي ص و صفته فيه ترك للتمسك به و عن قتادة كانوا يأمرون الناس بطاعة الله و هم يخالفونه و

روى أنس بن مالك قال قال رسول الله ص‏ مررت ليلة أسري بي على أناس تقرض شفاههم بمقاريض من نار فقلت من هؤلاء يا جبرائيل فقال هؤلاء خطباء من أهل الدنيا ممن كانوا يأمرون الناس بالبر و ينسون أنفسهم‏

و قال بعضهم أ تأمرون الناس بالصدقة و تتركونها أنتم و إذا أتتكم الضعفاء بالصدقة لتفرقوها على المساكين خنتم فيها و قوله‏ «وَ أَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ» معناه و أنتم تقرأون التوراة و فيها صفته و نعته عن ابن عباس و قوله‏ «أَ فَلا تَعْقِلُونَ» أ فلا تفقهون أن ما تفعلونه قبيح في العقول و عن أبي مسلم أن معناه هذا ليس بفعل من يعقل و قيل معناه أ فلا تعلمون أن الله يعذبكم و يعاقبكم على ذلك و قيل أ فلا تعلمون أن ما في التوراة حق فتصدقوا محمدا و تتبعوه فإن قيل إن كان فعل البر واجبا و الأمر به واجبا فلما ذا وبخهم الله تعالى على الأمر بالبر قلنا لم يوبخهم الله على الأمر بالبر و إنما وبخهم على ترك فعل البر المضموم إلى الأمر بالبر لأن ترك البر ممن يأمر به أقبح من تركه ممن لا يأمر به فهو كقول الشاعر:

لا تنه عن خلق و تأتي مثله‏

 

عار عليك إذا فعلت عظيم‏

     

 

و معلوم أنه لم يرد به النهي عن الخلق المذموم و إنما أراد النهي عن إتيان مثله.

[سورة البقرة (2): آية 45]

وَ اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلاةِ وَ إِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخاشِعِينَ (45)

 

 

 

215
مجمع البيان في تفسير القرآن1

اللغة ..... ص : 216

اللغة

الصبر منع النفس عن محابها و كفها عن هواها و منه الصبر على المصيبة لكف الصابر نفسه عن الجزع و منه‏

جاء في الحديث‏ و هو شهر الصبر

لشهر رمضان لأن الصائم يصبر نفسه و يكفها عما يفسد الصيام و قتل فلان صبرا و هو أن ينصب للقتل و يحبس عليه حتى يقتل و كل من حبسته لقتل أو يمين يقال فيه قتل صبر و يمين صبر و صبرته أي حلفته بالله جهد القسم و

في الحديث‏ اقتلوا القاتل و اصبروا الصابر

و ذلك فيمن أمسكه حتى قتله آخر فأمر بقتل القاتل و حبس الممسك و الخشوع و الخضوع و التذلل و الإخبات نظائر و ضد الخشوع الاستكبار و خشع الرجل إذا رمى ببصره إلى الأرض و اختشع إذا طأطأ رأسه كالمتواضع و الخشوع قريب المعنى من الخضوع إلا أن الخضوع في البدن و الإقرار بالاستخدام و الخشوع في الصوت و البصر قال سبحانه‏ خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ‏ و خَشَعَتِ الْأَصْواتُ‏ أي سكنت و أصل الباء من اللين و السهولة و الخاشع و المتواضع و المتذلل و المستكين بمعنى قال الشاعر:

لما أتى خبر الزبير تواضعت‏

سور المدينة و الجبال الخشع‏

 

. الإعراب‏

قوله‏ «وَ إِنَّها لَكَبِيرَةٌ» اللام تدخل في خبر إن و لا تدخل في خبر أخواتها لأنها لام التأكيد فهي شبيهة بأن في أنها تدخل على المبتدأ و خبره كما تدخل إن و تدخل بمعنى القسم كما تدخل إن تقول و الله لتخرجن كما تقول و الله إنك خارج فإذا كان بينهما هذه المجانسة فإذا دخلت على أن في نحو لأنها كبيرة كرهوا أن يجمعوا بين حرفين متشاكلين متفقين في المعنى فأخر اللام إلى الخبر ليفصل بين اللام و بين إن بالاسم نحو «إِنَّها لَكَبِيرَةٌ» فأما سائر أخوات إن فمتى تركب مع المبتدأ و خبره خرج المبتدأ من صورة المبتدأ و يصير قسما آخر فلا يدخل اللام عليه و إذا لم يدخل عليه كان بالحري أن لا يدخل على خبره.

النزول‏

قال الجبائي أنه خطاب للمسلمين دون أهل الكتاب و قال الرماني و غيره هو خطاب لأهل الكتاب و يتناول المؤمنين على وجه التأديب و الأولى أن يكون خطابا لجميع المكلفين لفقد الدلالة على التخصيص و يؤيد قول من قال أنه خطاب لأهل الكتاب إن ما قبل الآية و ما بعدها خطاب لهم.

المعنى‏

من قال أنه خطاب لليهود قال إن حب الرياسة كان يمنع علماء اليهود عن‏


216
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 216

اتباع النبي ص لأنهم خافوا زوال الرياسة إذا اتبعوه فأمرهم الله تعالى فقال:

«وَ اسْتَعِينُوا» على الوفاء بعهدي الذي عاهدتكم في كتابكم عليه من طاعتي و اتباع أمري و ترك ما نهيتكم عنه و التسليم لأمري و اتباع رسولي محمد ص بالصبر على ما أنتم فيه من ضيق المعاش الذي تأخذون الأموال من عوامكم بسببه و

روي عن أئمتنا ع‏ أن المراد بالصبر الصوم‏

فيكون فائدة الاستعانة به أنه يذهب بالشره و هوى النفس كما

قال ص: الصوم وجاء

و فائدة الاستعانة بالصلاة أنه يتلى فيها ما يرغب فيما عند الله تعالى و بزهد في الدنيا و حب الرياسة كما قال سبحانه‏ «إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى‏ عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ» و لأنها تتضمن التواضع لله تعالى فيدفع حب الرياسة و كان النبي ص إذا حزنه أمر استعان بالصلاة و الصوم و من قال أنه خطاب للمسلمين قال المراد به استعينوا على تنجز ما وعدته لمن اتبع النبي ص أو على مشقة التكليف بالصبر أي بحبس النفس على الطاعات و حبسها عن المعاصي و الشهوات و بالصلاة لما فيها من تلاوة القرآن و التدبر لمعانيه و الاتعاظ بمواعظه و الائتمار بأوامره و الانزجار عن نواهيه و وجه آخر أنه ليس في أفعال القلوب أعظم من الصبر و لا في أفعال الجوارح أعظم من الصلاة فأمر بالاستعانة بهما و

روي عن الصادق ع أنه قال‏ ما يمنع أحدكم إذا دخل عليه غم من غموم الدنيا أن يتوضأ ثم يدخل المسجد فيركع ركعتين يدعو الله فيها أ ما سمعت الله تعالى يقول: «وَ اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلاةِ»

و قوله تعالى: «وَ إِنَّها لَكَبِيرَةٌ» قيل في الضمير في و إنها وجوه (أحدهما) أنها عائد إلى الصلاة لأنها الأغلب و الأفضل و هو قول أكثر المفسرين و على هذا ففي عود الضمير إلى واحد و قد تقدم ذكر اثنين قولان. (أحدهما) أن المراد به الصلاة دون غيرها و خصها بالذكر لقربها منه و لأنها الأهم و الأفضل و لتأكيد حالها و تفخيم شأنها و عموم فرضها (و الآخر) أن المراد الاثنان و إن كان اللفظ واحدا و يشهد لذلك قوله تعالى: «وَ الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَ الْفِضَّةَ وَ لا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ» «وَ إِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها» «وَ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ» و قول الشاعر:

إن شرخ الشباب و الشعر الأسود

ما لم يعاص كان جنونا

 

و لم يقل يعاصيا و قول الآخر:


217
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 46] ..... ص : 218

 

 

فمن يك أمسى بالمدينة رحله‏

 

فإني و قيارا بها لغريب‏

     

 

و يروى و قيار و قول آخر:

نحن بما عندنا و أنت بما عندك‏

 

راض و الرأي مختلف‏

     

 

و قول الآخر:

أما الوسامة أو حسن النساء فقد

 

أتيت منه أو أن العقل محتنك‏

     

 

و نحو ذا كثير في الكلام (و ثانيها) أنه عائد إلى الاستعانة يعني أن الاستعانة بهما لكبيرة و قوله‏ «اسْتَعِينُوا» يدل على الاستعانة و مثله قول الشاعر:

إذا نهي السفيه جرى إليه‏

 

و خالف و السفيه إلى خلاف‏

     

 

أي جرى إلى السفه و دل السفيه على السفه (و ثالثها) أن الضمير عائد إلى محذوف و هو الإجابة للنبي ص عن الأصم أو مؤاخذة النفس بهما أو تأدية ما تقدم أو تأدية الصلاة و ضروب الصبر عن المعاصي أو هذه الخطيئة عن أبي مسلم و هذه الوجوه الأخيرة كلها ضعيفة لأنها لم يجر لها ذكر و قوله‏ «لَكَبِيرَةٌ» أي لثقيلة عن الحسن و غيره و الأصل فيه أن كل ما يكبر يثقل على الإنسان حمله فيقال لكل ما يصعب على النفس و إن لم يكن من جهة الحمل يكبر عليها تشبيها بذلك و قوله: «إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ» أي على المتواضعين لله تعالى فإنهم قد وطنوا أنفسهم على فعلها و عودوها إياها فلا يثقل عليهم و أيضا فإن المتواضع لا يبالي بزوال الرياسة إذا حصل له الإيمان و قال مجاهد أراد بالخاشعين المؤمنين فإنهم إذا علموا ما يحصل لهم من الثواب بفعلها لم يثقل عليهم ذلك كما أن الإنسان يتجرع مرارة الدواء لما يرجو به من نيل الشفاء و قال الحسن أراد بالخاشعين الخائفين.

[سورة البقرة (2): آية 46]

الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَ أَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (46)

اللغة

الظن المذكور في الآية بمعنى العلم و اليقين كما قال دريد بن الصمة:

فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج‏

 

سراتهم في الفارسي المسرد

     

 

 

 

 

218
مجمع البيان في تفسير القرآن1

الإعراب ..... ص : 219

و قال أبو داود:

رب هم فرجعته بعزيم‏

و غيوب كشفتها بظنون‏

 

و قال المبرد ليس من كلام العرب أظن عند زيد مالا بمعنى أعلم لأن العلم المشاهد لا يناسب باب الظن و قد أفصح عن ذلك أوس بن حجر في قوله:

الألمعي الذي يظن بك الظن‏

كان قد رأى و قد سمعا

 

و قال آخر:

فإلا يأتكم خبر يقين‏

فإن الظن ينقص أو يزيد

 

و قال بعض المحققين أصل الظن ما يجول في النفس من الخاطر الذي يغلب على القلب كأنه حديث النفس بالشي‏ء و يؤول جميع ما في القرآن من الظن بمعنى العلم على هذا و الظن و الشك و التجويز نظائر إلا أن الظن فيه قوة على أحد الأمرين دون الآخر و حده ما قوي عند الظان كون المظنون على ما ظنه مع تجويزه أن يكون على خلافه فبالتجويز ينفصل من العلم و بالقوة ينفصل من الشك و التقليد و غير ذلك و هو من جنس الاعتقاد عند أبي هاشم و جنس برأسه سوى الاعتقاد عند أبي علي و القاضي و إليه ذهب المرتضى قدس الله روحه و ضد الظن اليقين و الظنين المتهم و مصدره الظنة و الظنون الرجل السي‏ء الظن بكل أحد و الظنون البئر التي يظن أن بها ماء و لا يكون و مظنة الرجل حيث يألفه و يكون فيه و أصل الملاقاة الملاصقة من قولك التقى الخطان إذا تلاصقا ثم كثر حتى قيل التقى الفارسان إذا تحاذيا و لم يتلاصقا و يقال رجع الرجل و رجعته أنا لازم و متعد و أصل الرجوع العود إلى الحال الأولى.

الإعراب‏

«الَّذِينَ يَظُنُّونَ» في موضع الجر صفة للخاشعين و أنهم بفتح الألف لا يجوز غيره لأن الظن فعل واقع على معنى أنه متعد يتعلق بالغير فما يليه يكون مفعولا له و أن المفتوحة الهمزة يكون مع الاسم و الخبر في تأويل اسم مفرد و هاهنا قد سد مسد مفعولي يظن و يكون المفعول الثاني مستغنى عنه مختزلا من الكلام غير مضمر كما أن الفاعل في أ قائم الزيدان سد مسد الخبر لطول الكلام و الاستغناء به عنه و هذا القول هو المختار عند أبي علي و فيه قول آخر و هو أن مع الاسم و الخبر في موضع المفعول الأول‏


219
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 220

و المفعول الثاني مضمر محذوف لعلم المخاطب به فكأنه قال الذين يظنون ملاقاة ربهم واقعة و حذفت النون من ملاقوا ربهم تخفيفا عند البصريين و المعنى على إثباتها فإن المضاف إليه هنا و إن كان مجرورا في اللفظ فهو منصوب في المعنى فهي إضافة لفظية غير حقيقية و مثله قوله‏ «إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ» و «كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ» و قال الشاعر:

هل أنت باعث دينار لحاجتنا

أو عبد رب أخا عون بن مخراق‏

 

و لو أردت معنى الماضي لتعرف الاسم بالإضافة لم يجز فيه إظهار النون البتة و قوله‏ «وَ أَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ» في موضع النصب عطفا على الأول.

المعنى‏

لما تقدم ذكر الخاشعين بين صفتهم فقال‏ «الَّذِينَ يَظُنُّونَ» أي يوقنون‏ «أَنَّهُمْ مُلاقُوا» ما وعدهم‏ «رَبِّهِمْ» عن الحسن و مجاهد و غيرهما و نظيره قوله‏ «إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ» و قيل أنه بمعنى الظن غير اليقين و المعنى أنهم يظنون أنهم ملاقوا ربهم بذنوبهم لشدة إشفاقهم من الإقامة على معصية الله قال الرماني و فيه بعد لكثرة الحذف و قيل الذين يظنون انقضاء آجالهم و سرعة موتهم فيكونون أبدا على حذر و وجل و لا يركنون إلى الدنيا كما يقال لمن مات لقي الله و يدل على أن المراد بقوله‏ «مُلاقُوا رَبِّهِمْ» ملاقون جزاء ربهم قوله تعالى في صفة المنافقين‏ «فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى‏ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ» و لا خلاف في أن المنافق لا يجوز أن يرى ربه و كذلك قوله‏ «وَ لَوْ تَرى‏ إِذْ وُقِفُوا عَلى‏ رَبِّهِمْ قالَ أَ لَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى‏ وَ رَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ» و

جاء في الحديث‏ من حلف على مال امرئ مسلم كاذبا لقي الله و هو عليه غضبان‏

و ليس اللقاء من الرؤية في شي‏ء يقال لقاك الله محابك و لا يراد به أن يرى أشخاصا و إنما يراد به لقاء ما يسره و قوله‏ «وَ أَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ» يسأل هنا فيقال ما معنى الرجوع في الآية و هم ما كانوا قط في الآخرة فيعودوا إليها و جوابه من وجوه. (أحدها) أنهم راجعون بالإعادة في الآخرة عن أبي العالية (و ثانيها) أنهم يرجعون بالموت كما كانوا في الحال المتقدمة لأنهم كانوا أمواتا فأحيوا ثم يموتون فيرجعون أمواتا كما كانوا (و ثالثها) أنهم يرجعون إلى موضع لا يملك أحد لهم ضرا و لا نفعا غيره تعالى كما كانوا في بدء الخلق لأنهم في أيام حياتهم قد يملك غيرهم الحكم عليهم و التدبير لنفعهم و ضرهم يبين ذلك قوله‏ «مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ» و تحقيق معنى الآية أنه يقرون بالنشأة الثانية فجعل رجوعهم بعد الموت إلى المحشر رجوعا إليه.


220
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 47] ..... ص : 221

[سورة البقرة (2): آية 47]

يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَ أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (47)

المعنى‏

قد مضى تفسير أول الآية فيما تقدم و قوله: «وَ أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ» قال ابن عباس أراد به عالمي أهل زمانهم لأن أمتنا أفضل الأمم بالإجماع كما أن نبينا عليه أفضل الصلاة و السلام أفضل الأنبياء و بدليل قوله‏ «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ» و قيل المراد به تفضيلهم في أشياء مخصوصة و هي إنزال المن و السلوى و ما أرسل الله فيهم من الرسل و أنزل عليهم من الكتب إلى غير ذلك من النعم العظيمة من تغريق فرعون و الآيات الكثيرة التي يخف معها الاستدلال و يسهل بها الميثاق و تفضيل الله إياهم في أشياء مخصوصة لا يوجب أن يكونوا أفضل الناس على الإطلاق كما يقال حاتم أفضل الناس في السخاء و نظير هذه الآية قوله‏ «وَ إِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ» إلى قوله‏ «وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ» فإن قيل فما الفائدة في تكرار قوله‏ «يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ» قلنا لأنه لما كانت نعم الله هي الأصل فيما يجب شكره احتيج إلى تأكيدها كما يقول القائل اذهب اذهب عجل عجل و قيل أيضا أن التذكير الأول ورد مجملا و الثاني ورد مفصلا و قيل أنه في الأول ذكرهم نعمة على أنفسهم و في الثاني ذكرهم نعمة على آبائهم.

[سورة البقرة (2): آية 48]

وَ اتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَ لا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَ لا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ (48)

القراءة

قرأ أهل مكة و البصرة لا تقبل بالتاء و الباقون بالياء.

الحجة

فمن قرأ بالتاء ألحق علامة التأنيث لتؤذن بأن الاسم الذي أسند إليه الفعل و هو الشفاعة مؤنث و من قرأ بالياء فلأن التأنيث في الاسم ليس بحقيقي فحمل على المعنى فذكر لأن الشفاعة و التشفع بمنزلة كما أن الوعظ و الموعظة و الصيحة و الصوت كذلك و قد قال تعالى: «فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ» و «أَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ» و يقوي التذكير


221
مجمع البيان في تفسير القرآن1

اللغة ..... ص : 222

أيضا أنه فصل بين الفعل و الفاعل بقوله‏ «مِنْها» و التذكير يحسن مع الفصل كما يقال في التأنيث الحقيقي حضر القاضي اليوم امرأة.

اللغة

الجزاء و المكافاة و المقابلة نظائر يقال جزى يجزي جزاء و جازاه مجازاة و فلان ذو جزاء أي ذو غناء فكان قوله‏ «لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً» أي لا تقابل مكروهها بشي‏ء يدرؤه عنها و منه‏

الحديث أنه ص قال‏ لأبي بردة في الجذعة التي أمره أن يضحي بها و لا تجزي عن أحد بعدك و قال البقرة تجزي عن سبعة

أي تقضي و تكفي قال أبو عبيدة هو مأخوذ من قولك جزا عني هذا الأمر فأما قولهم أجزأني الشي‏ء أي كفاني فمهموز و قبول الشي‏ء هو تلقيه و الأخذ به خلاف الإعراض عنه و من ثم قيل لتجاه الشي‏ء قبالته و قالوا أقبلت المكواة الداء أي جعلتها قبالته قال:

(و أقبلت أفواه العروق المكاويا)

 

و القبول و الانقياد و الطاعة و الإجابة نظائر و نقيضه الامتناع و الشفاعة مأخوذة من الشفع فكأنه سؤال من الشفيع يشفع سؤال المشفوع له و الشفاعة و الوسيلة و القربة و الوصلة نظائر و الشفعة في الدار و غيرها معروفة و إنما سميت شفعة لأن صاحبها يشفع ماله بها و يضمها إلى ملكه و العدل و الحق و الإنصاف نظائر و نقيض العدل الجور و العدل المرضي من الناس الذكر و الأنثى و الجمع و الواحد فيه سواء و العدل الفدية في الآية و الفرق بين العدل و العدل إن العدل هو مثل الشي‏ء من جنسه و العدل هو بدل الشي‏ء و قد يكون من غير جنسه قال سبحانه‏ «أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً» و النصرة و المعونة و التقوية نظائر و

في الحديث‏ انصر أخاك ظالما أو مظلوما

أي امنعه من الظلم إن كان ظالما و امنع عنه الظلم إن كان مظلوما و أنصار الرجل أعوانه و نصرت السماء إذا أمطرت.

الإعراب‏

يوما انتصابه انتصاب المفعول لا انتصاب الظروف لأن معناه اتقوا هذا اليوم و احذروه و ليس معناه اتقوا في هذا اليوم لأن ذلك اليوم لا يؤمر فيه بالاتقاء و إنما يؤمر في غيره من أجله و موضع لا تجزي نصب لأنه صفة يوم و العائد إلى الموصوف فيه اختلاف ذهب سيبويه إلى أن فيه محذوف من الكلام أي لا يجزي فيه و قال آخرون لا يجوز إضمار فيه لأنك لا تقول هذا رجل قصدت أو رغبت و أنت تريد إليه أو فيه فهو محمول على المفعول على السعة كأنه قيل و اتقوا يوما لا تجزيه ثم حذف الهاء كما يقال رأيت رجلا أحب أي أحبه و هو قول السراج قال أبو علي حذف الهاء من الصفة كما يحذف من الصلة لما بينهما من المشابهة فإن الصفة تخصص الموصوف كما أن الصلة


222
مجمع البيان في تفسير القرآن1

المعنى ..... ص : 223

تخصص الموصول و لا يعمل في الموصوف و لا يتسلط عليه كما لا يعمل الصلة في الموصول و مرتبتها أن تكون بعد الموصوف كما أن مرتبة الصلة أن تكون بعد الموصول و قد يلزم الصفة في أماكن كما يلزم الصلة و ذلك إذا لم يعرف الموصوف إلا بها و لا تعمل الصلة فيما قبل الموصول كما لا تعمل الصفة فيما قبل الموصوف فإذا كان كذلك حسن الحذف من الصفة كما يحسن من الصلة في نحو قوله‏ «أَ هذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا» و قال الأخفش شيئا في موضع المصدر كأنه قال لا تجزي جزاء و لا تغني غناء و قال الرماني الأقرب أن يكون شيئا في موضع حقا كأنه قال لا يؤدي عنها حقا وجب عليها و قوله‏ «وَ لا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ» موضع هذه الجملة نصب بالعطف على الجملة التي هي وصف قبلها و من ذهب إلى أنه حذف الجار و أوصل الفعل إلى المفعول ثم حذف الراجع من الصفة كان مذهبه في لا يقبل أيضا مثله فمما حذف منه الراجع إلى الصفة قول الشاعر:

(و ما شي‏ء حميت بمستباح)

 

و الضمير في منها عائد إلى نفس على اللفظ و في قوله‏ «وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ» على المعنى لأنه ليس المراد به المفرد فلذلك جمع.

المعنى‏

لما بين سبحانه نعمه العظام عليهم أنذرهم في كفرانها بيوم القيامة فقال‏ «وَ اتَّقُوا» أي احذروا و اخشوا «يَوْماً لا تَجْزِي» أي لا تغني أو لا تقضي فيه‏ «نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً» و لا تدفع عنها مكروها و قيل لا يؤدي أحد عن أحد حقا وجب عليه لله أو لغيره و إنما نكر النفس ليبين أن كل نفس فهذا حكمها و هذا مثل قوله سبحانه‏ «وَ اخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَ لا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً» و قوله‏ «وَ لا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ» قال المفسرون حكم هذه الآية مختص باليهود لأنهم قالوا نحن أولاد الأنبياء و آباؤنا يشفعون لنا فأياسهم الله عن ذلك فخرج الكلام مخرج العموم و المراد به الخصوص و يدل على ذلك أن الأمة اجتمعت على أن للنبي ص شفاعة مقبولة و إن اختلفوا في كيفيتها فعندنا هي مختصة بدفع المضار و إسقاط العقاب عن مستحقيه من مذنبي المؤمنين و قالت المعتزلة هي في زيادة المنافع للمطيعين و التائبين دون العاصين و هي ثابتة عندنا للنبي ص و لأصحابه المنتجبين و الأئمة من أهل بيته الطاهرين و الصالحي المؤمنين و ينجي الله تعالى بشفاعتهم كثيرا من الخاطئين و يؤيده الخبر الذي تلقته الأمة بالقبول و هو

قوله‏ ادخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي‏

و ما جاء

في روايات أصحابنا رضي الله عنهم مرفوعا إلى النبي ص أنه قال‏ إني أشفع يوم القيامة فأشفع و يشفع علي فيشفع و يشفع أهل‏


223
مجمع البيان في تفسير القرآن1

[سورة البقرة(2): آية 49] ..... ص : 224

بيتي فيشفعون و إن أدنى المؤمنين شفاعة ليشفع في أربعين من إخوانه كل قد استوجب النار

و قوله تعالى مخبرا عن الكفار عند حسراتهم على الفائت لهم مما حصل لأهل الإيمان من الشفاعة فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَ لا صَدِيقٍ حَمِيمٍ‏ و قوله‏ «وَ لا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ» أي فدية و إنما سمي الفداء عدلا لأنه يعادل المفدي و يماثله و هو قول ابن عباس و معناه لا يؤخذ من أحد فداء يكفر عن ذنوبه و قيل لا يؤخذ منه بدل بذنوبه و أما ما

جاء في الحديث‏ لا يقبل الله منه صرفا و لا عدلا

فاختلف في معناه قال الحسن الصرف العمل و العدل الفدية و قال الأصمعي الصرف التطوع و العدل الفريضة و قال أبو عبيدة الصرف الحيلة و العدل الفدية و قال الكلبي الصرف الفدية و العدل رجل مكانه و قوله‏ «وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ» أي لا يعاونون حتى ينجوا من العذاب و قيل ليس لهم ناصر ينتصر لهم من الله إذا عاقبهم.

[سورة البقرة (2): آية 49]

وَ إِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَ يَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَ فِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49)

القراءة

في الشواذ قرأ ابن محيصن يذبحون أبناءكم.

الحجة

قال ابن جني وجه ذلك أن فعلت بالتخفيف قد يكون فيه معنى التكثير و ذلك لدلالة الفعل على مصدره و المصدر اسم الجنس و حسبك بالجنس سعة و عموما و أنشد أبو الحسن:

أنت الفداء لقبلة هدمتها

و نقرتها بيديك كل منقر

 

فكأنه قال و نقرتها لأن قوله كل منقر عليه جاء و لما في الفعل من معنى المصدر الدال على الجنس لم يجز تثنيته و لا جمعة لاستحالة كل واحد من التثنية و الجمع في الجنس.

اللغة

الإنجاء و التنجية و التخليص واحد و النجاة و الخلاص و السلامة و التخلص واحد و يقال للمكان المرتفع نجوة لأن الصائر إليه ينجو من كثير من المضار و فرق بعضهم‏


224
مجمع البيان في تفسير القرآن1

اللغة ..... ص : 224

بين الإنجاء و التنجية فقال الإنجاء يستعمل في الخلاص قبل وقوعه في الهلكة و التنجية يستعمل في الخلاص بعد وقوعه في الهلكة و الآل و الأهل واحد و قيل أصل آل أهل لأن تصغيره أهيل و حكى الكسائي أويل فزعموا أنها أبدلت كما قالوا هيهات و أيهات و قيل لا بل هو أصل بنفسه و الفرق بين الآل و الأهل أن الأهل أعم منه يقال أهل البصرة و لا يقال آل البصرة و يقال آل الرجل قومه و كل من يؤول إليه بنسب أو قرابة مأخوذ من الأول و هو الرجوع و أهله كل من يضمه بيته و قيل آل الرجل قرابته و أهل بيته و آل البعير الواحة و آل الخيمة عمده و آل الجبل أطرافه و نواحيه و قال ابن دريد آل كل شي‏ء شخصه و آل الرجل أهله و قرابته قال الشاعر:

و لا تبك ميتا بعد ميت أجنه‏

علي و عباس و آل أبي بكر

 

و قال أبو عبيدة سمعت أعرابيا فصيحا يقول أهل مكة آل الله فقلنا ما تعني بذلك قال أ ليسوا مسلمين المسلمون آل الله قال و إنما يقال آل فلان للرئيس المتبع و في شبه مكة لأنها أم القرى و مثل فرعون في الضلال و اتباع قومه له فإذا جاوزت هذا فإن آل الرجل أهل بيته خاصة فقلنا له أ فتقول لقبيلته آل فلان قال لا إلا أهل بيته خاصة و فرعون اسم لملك العمالقة كما يقال لملك الروم قيصر و لملك الفرس كسرى و لملك الترك خاقان و لملك اليمن تبع فهو على هذا بمعنى الصفة و قيل أن اسم فرعون مصعب بن الريان و قال محمد بن إسحاق هو الوليد بن مصعب يسومونكم يكلفونكم من قولهم سامه خطة خسف إذا كلفه إياه و قيل يولونكم سوء العذاب و سامه خسفا إذا أولاه ذلا قال الشاعر:

(إن سيم خسفا وجهه تربدا)

 

و قيل يحشمونكم و قيل يعذبونكم و أصل الباب السوم الذي هو إرسال الإبل في الرعي و سوء العذاب و أليم العذاب و شديد العذاب نظائر قال صاحب العين السوء اسم العذاب الجامع للآفات و الداء يقال سؤت فلانا أسوؤه مساءة و مسائية و استاء فلان من السوء مثل اهتم من الهم و السوأة الفعلة القبيحة و السوأة الفرج و السوأة أيضا كل عمل شين و تقول في النكرة رجل سوء كما يقال رجل صدق فإذا عرفت قلت الرجل السوء فلا تضيفه و لا تقول الرجل الصدق و قوله‏ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ أي من غير برص و الذبح و النحر و الشق نظائر و الذبح فري الأوداج و التذبيح التكثير منه و أصله الشق يقال ذبحت‏


225
مجمع البيان في تفسير القرآن1

الإعراب ..... ص : 226

المسك إذا فتقت عنه قال:

كان بين فكها و الفك‏

فأرة مسك ذبحت في سك‏

 

و الذبح الشي‏ء المذبوح و الذباح و الذبحة بفتح الباء و تسكينها داء يصيب الإنسان في حلقه و يستحيون أي يستبقون و منه‏

قول النبي ص‏ اقتلوا شيوخ المشركين و استحيوا شرخهم‏

أي استبقوا شبابهم و النساء و النسوة و النسوان لا واحد لها من لفظها و البلاء و النعمة و الإحسان نظائر في اللغة و البلاء يستعمل في الخير و الشر قال سبحانه‏ وَ نَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَ الْخَيْرِ و الإبلاء في الأنعام قال‏ وَ لِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً و قال زهير:

جزى الله بالإحسان ما فعلا بكم‏

و أبلاهما خير البلاء الذي يبلو