×
☰ فهرست و مشخصات
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

مقدمة المؤلف ؛ ج‌1، ص : 7

الجزء الأوّل

[مقدمة المؤلف]

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ

الحمد للّه ربّ العالمين، و الصلاة و السلام على خير خلقه محمّد و آله الطاهرين، و لعنة اللّه على أعدائهم أجمعين.

أمّا بعد، فبعد ما وقع الفراغ من البحث عن زكاة المال، مستطردا في أثنائه البحث عن ولاية الفقيه وفقه الدولة الإسلامية بالتفصيل- و قد طبعت الأبحاث بحمد اللّه تعالى و منّه- أبرز الأصدقاء أطروحات مختلفة بالنسبة إلى موضوع البحث الجديد، و منها البحث عن المكاسب المحرّمة و البيع، فاستخرت اللّه- تعالى- و تفألت بكتابه العزيز لذلك- على ما هو دأبي و عادتي في طول حياتي، و إن كان ثقيلا على بعض- فكان أوّل ما يرى منه قوله- تعالى- في سورة التوبة: التّٰائبُونَ الْعٰابدُونَ الْحٰامدُونَ السّٰائحُونَ الرّٰاكعُونَ السّٰاجدُونَ الْآمرُونَ بالْمَعْرُوف وَ النّٰاهُونَ عَن الْمُنْكَر وَ الْحٰافظُونَ لحُدُود اللّٰه وَ بَشِّر الْمُؤْمنينَ «1»، فعزمت و صمّمت على تنفيذ ما هداني اللّه- تعالى- إليه.

______________________________
(1) سورة التوبة (9)، الآية 112.

7
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

مقدمة المؤلف ؛ ج‌1، ص : 7

و حيث كان كتاب المكاسب، الذي ألّفه خرّيت فنّ الفقاهة في الأعصار الأخيرة و أستاذ الأعاظم الشيخ الأعظم الأنصاري- أعلى اللّه مقامه الشريف-، من أعظم ما صنّف في هذا الموضوع و أتقنها بيانا و استدلالا و كان مطرحا لأنظار العلماء و الأفاضل و مدارا لأبحاثهم، كان الأولى جعله محورا للبحث، فنراعي في بحثنا ترتيبه و نذكر ما نلقيه في أبحاثنا حول إفاداته الشريفة. فشكر اللّه- تعالى- سعيه، و وفّقنا لفهم مقاصده الرفيعة و الاهتداء إلى ما هو الحقّ في المسائل المطروحة، و عليه نتّكل و به نستعين.

و قد شرعنا في البحث في يوم الأربعاء، 11 ربيع الأول 1413 ه‍. ق، الموافق ل‍ 18/ 6/ 1371 ه‍. ش.

8
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

خطبة الماتن ؛ ج‌1، ص : 9

[خطبة الماتن]

______________________________
قال المصنّف:
بسْم اللهِ الرَّحْمٰن الرَّحيم الحمد للّه ربّ العالمين، و الصلاة و السلام على خير خلقه محمّد و آله الطاهرين، و لعنة اللّه على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

[الآيات الواردة في المكاسب]

في المكاسب (1) و ينبغي أوّلا التيمّن بذكر بعض الأخبار الواردة على سبيل الضابطة

(1) أقول: قد يقال: إنّ عنوان الكتاب بالمكاسب- كما في المتن- أولى من عنوانه بالمتاجر. إذ التجارة فسّرت بخصوص البيع و الشراء بقصد الربح و زيادة المال، فلا تعمّ ما إذا وقعا لرفع الحاجات فقط من دون أن يقصد الربح، فضلا عمّا إذا لم يقع بيع و شراء بل كان‌

9
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الآيات الواردة في المكاسب ؛ ج‌1، ص : 9

للمكاسب من حيث الحلّ و الحرمة (1).

______________________________
هنا استيجار و إيجاد للصنائع و الأعمال المحلّلة أو المحرّمة. و هذا بخلاف المكاسب، فإنّه جمع للمكسب بمعنى ما يطلب به المال، فيعمّ الإجارة أيضا. و المقصود هنا البحث في طرق تحصيل المال و تمييز المحلّل منها عن المحرّم و إن كان بنحو الإجارة، و لذا أفرد البحث عن المكاسب عن بحث البيع.

و لكن يمكن أن يناقش ما ذكر بأنّ عنوان المكاسب أيضا لا يكون جامعا لمحطّ البحث، إذ الكسب أيضا لا يصدق على مبادلة ضروريّات المعاش من الأرزاق و الألبسة مثلا و لا سيّما بالنسبة إلى المشتري، مع أنّ الغرض من البحث هنا بيان حكم جميع المعاملات الواقعة على الأعيان أو المنافع و تمييز المحلّل منها عن المحرّم بنحو العموم. فالعنوان الجامع أن يقال هكذا: «ما تحلّ المعاملة عليه عينا أو منفعة أو انتفاعا و ما تحرم.»‌

اللّهم إلّا أن يقال: إنّ الكسب بحسب اللغة يصدق على كلّ ما حصّله الإنسان و ناله من الأشياء أو الأعمال، فيصدق على تحصيل ضروريات المعاش أيضا.

(1) أقول: التيمّن بالكتاب العزيز أنسب، فكان الأولى قبل ذكر الروايات التعرّض لبعض الآيات التي يمكن أن يصطاد منها الضوابط الكلّية في باب المعاملات و بها يرفع اليد عن الأصل الأوّلي فيها أعني أصالة الفساد. فلنتعرض لها:

10
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الآية الأولى آية النداء ؛ ج‌1، ص : 11

[الآية الأولى آية النداء]

______________________________
الآية الأولى قال اللّه- تعالى- في سورة الجمعة: يٰا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا إذٰا نُوديَ للصَّلٰاة منْ يَوْم الْجُمُعَة فَاسْعَوْا إلىٰ ذكْر اللّٰه وَ ذَرُوا الْبَيْعَ ذٰلكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ+ فَإذٰا قُضيَت الصَّلٰاةُ فَانْتَشرُوا في الْأَرْض وَ ابْتَغُوا منْ فَضْل اللّٰه وَ اذْكُرُوا اللّٰهَ كَثيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلحُونَ+ وَ إذٰا رَأَوْا تجٰارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إلَيْهٰا وَ تَرَكُوكَ قٰائماً ... «1»

يظهر من سياق هذه الآيات و ممّا ورد في تفسيرها أنّ النبي «ص» حينما كان قائما يخطب الناس لمّا ارتفع صوت الطبل أو المزامير إعلانا بالتجارات الواردة تركه المستمعون و انفضّوا إليها بقصد التجارة أو اللهو. فالمنع عن البيع وقع لأجل إدراك الخطبة و الجمعة، و أمّا بعد ما قضيت الصلاة فجاز لهم الانتشار في الأرض و الابتغاء من فضل اللّه- تعالى- فيعلم من ذلك جواز الاستفادة ممّا يترقّب منه حصول الفائدة و الاستفادة من فضله- تعالى- و منها البيوع و التجارات الرائجة المفيدة و الصناعات و الإجارات.

ففي المجمع في ذيل قوله- تعالى-: وَ ابْتَغُوا منْ فَضْل اللّٰه قال: «أي اطلبوا الرزق‌

______________________________
(1) سورة الجمعة (62)، الآيات 9- 11.

11
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الآية الأولى آية النداء ؛ ج‌1، ص : 11

..........

______________________________
في البيع و الشراء. و هذا إباحة و ليس بأمر و إيجاب.»
«1»

و فيه أيضا: روى عمر بن يزيد عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «إنّي لأركب في الحاجة التي كفاها اللّه. ما أركب فيها إلّا التماس أن يراني اللّه أضحي في طلب الحلال. أما تسمع قول اللّه- عزّ اسمه-: فَإذٰا قُضيَت الصَّلٰاةُ فَانْتَشرُوا في الْأَرْض وَ ابْتَغُوا منْ فَضْل اللّٰه؟ ...» «2»

و في دعائم الإسلام: روّينا عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن آبائه، عن علي- عليهم السلام-: أنّ رسول اللّه «ص» قال: «إذا أعسر أحدكم فليخرج من بيته و ليضرب في الأرض يبتغي من فضل اللّه، و لا يغمّ نفسه و أهله.» «3» و راجع رواية السكوني في هذا المجال. «4»

و بالجملة فظاهر هذه الآيات جواز تحصيل المال بالتجارات و نحوها من مظاهر فضل اللّه- تعالى- إلّا أن يثبت منع من قبل الشارع.

اللّهم إلّا أن يقال: إنّ الآيات ليست في مقام تشريع جواز تحصيل المال و ابتغاء فضل اللّه حتّى يؤخذ بإطلاقها، بل في مقام بيان عقد النفي و هو عدم جواز البيع و غيره ممّا يزاحم الجمعة. و التصريح في الذيل بمفهوم الصّدر وقع تطفّلا، فيكون إشارة إلى التجارات التي ثبتت مشروعيتها بأدلّة أخر.

______________________________
(1) مجمع البيان 5/ 288 و 289 (الجزء العاشر من التفسير)؛ و روى الحديث في الوسائل 12/ 16، كتاب التجارة، الباب 5 من أبواب مقدماتها، الحديث 9.

(2) مجمع البيان 5/ 288 و 289 (الجزء العاشر من التفسير)؛ و روى الحديث في الوسائل 12/ 16، كتاب التجارة، الباب 5 من أبواب مقدماتها، الحديث 9.

(3) دعائم الإسلام 2/ 13، كتاب البيوع ...، الفصل 1 (ذكر الحضّ على طلب الرزق)، الحديث 1.

(4) راجع الوسائل 12/ 12، كتاب التجارة، الباب 4 من أبواب مقدماتها، الحديث 12.

12
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الآية الثانية آية التجارة ؛ ج‌1، ص : 13

[الآية الثانية آية التجارة]

______________________________
الآية الثانية قوله- تعالى- في سورة النساء: يٰا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالْبٰاطل إلّٰا أَنْ تَكُونَ تجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ منْكُمْ. «1»

أقول: 1- أصل الأكل: التغذّي بالشي‌ء بالتقامه و بلعه. و حيث إنّه مستلزم للتسلّط على الشي‌ء و إفنائه شاع استعماله في إفناء الشي‌ء مطلقا فيقال: أكلت النار الحطب، و يقال: أكل زيد مال عمرو إذا استولى عليه و تصرّف فيه تصرّف الملّاك في أموالهم المستلزم أحيانا لإعدامها و إفنائها، و ذلك بعناية أنّ الأكل أشدّ ما يحتاج إليه الإنسان و أعمّ تصرّفاته في الأشياء. و هذا الاستعمال شائع عند العرف و العقلاء حتّى الفصحاء منهم. و على أساسه شاع استعماله في الكتاب و السنة أيضا. فالمقصود في الآية، النهي عن الاستيلاء على مال الغير بالطرق الباطلة.

2- و لا يخفى أنّ حرمة أكل المال الحاصل بالأسباب الباطلة كناية عن فسادها عند الشرع و عدم تأثيرها في النقل. كما أنّ حلّيته بالتجارة عن تراض كناية عن صحّتها عنده و تأثيرها في النقل، فذكر اللازم و أريد الملزوم.

و بعبارة أخرى: ظاهر النهي في أمثال المقام الإرشاد إلى فساد الأسباب لا التكليف المحض.

______________________________
(1) سورة النساء (4)، الآية 29.

13
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الآية الثانية آية التجارة ؛ ج‌1، ص : 13

..........

______________________________
اللّهم إلّا إذا علم بمناسبة الحكم و الموضوع إرادة التكليف المحض كالنهي عن البيع وقت النداء إلى الجمعة مثلا. حيث إنّ الغرض منه إدراك الجمعة من دون أن يكون في البيع بما هو بيع و معاملة خاصّة مفسدة توجب فساده. إذ لا موضوعية للبيع، و إنما يحرم كلّ فعل زاحم الجمعة. فتعلّق النهي بالبيع بما أنّه فعل من الأفعال المزاحمة، لا بما أنّه معاملة خاصّة. و قد ذكر البيع من باب المثال و شأن النزول و من باب ذكر الفرد الشائع من المزاحمات.

و إن شئت قلت: إنّ النهي هنا تبعي، و الغرض منه تأكيد السعي إلى الجمعات و خطبها، فتدبّر.

و بالجملة قد تكون المعاملة محرّمة تكليفا فقط كالبيع وقت النداء، و قد تكون محرّمة وضعا فقط كبيع الميتة مثلا، حيث إنه لا دليل على حرمته تكليفا إلّا من جهة التشريع، و قد تكون محرّمة تكليفا و وضعا كالمعاملات الربويّة و كالقمار مثلا.

3- و إضافة الأموال إلى ضمير الجمع بلحاظ توزيع الأموال بينهم. و لعلّ فيها مضافا إلى ذلك إشعارا بأنّ الأموال لوحظ فيها مصالح المجتمع و ليس للشخص التصرّف فيها بنحو يضرّ بهم، نظير قوله- تعالى-: وَ لٰا تُؤْتُوا السُّفَهٰاءَ أَمْوٰالَكُمُ الَّتي جَعَلَ اللّٰهُ لَكُمْ قيٰاماً «1».

4- و في قوله: بَيْنَكُمْ الدّال على تجمّعهم على المال و وقوعه بينهم إشعار بكون المنهيّ عنه مداورة المال و تداوله بينهم بنقله من يد إلى يد.

5- و الباء في قوله: بالْبٰاطل ظاهرة في السببية، فأريد النهي عن الاستيلاء على‌

______________________________
(1) سورة النساء (5)، الآية 5.

14
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الآية الثانية آية التجارة ؛ ج‌1، ص : 13

..........

______________________________
مال الغير و تملكه بالأسباب و الطرق الباطلة. و يشهد لذلك استثناء التجارة، و هي من الأسباب المملّكة. و المستثنى و المستثنى منه مسانخان إجمالا.

و ربّما يستفاد من بعض الكلمات في التفاسير و كتب الفقه حمل الباء على المقابلة، نظير ما يدخل على الثمن في المعاوضات، فأريد النهي عن أكل مال الغير بإزاء الأمر الباطل، أعني ما لا يفيد مقصودا و لا قيمة له عرفا أو شرعا.

قال في مجمع البيان: «و في قوله: بالْبٰاطل قولان: أحدهما أنّه الربا و القمار و النجش (البخس- البرهان) و الظلم، عن السدّي و هو المرويّ عن الباقر «ع». و الآخر أنّ معناه بغير استحقاق من طريق الإعواض، عن الحسن.» «1»

أقول: الظاهر كما عرفت أنّ النظر في الآية إلى الأسباب المملّكة لا إلى جنس الثمن و أنه باطل أم لا.

6- ثمّ هل يراد بالأسباب الباطلة خصوص ما ثبت بطلانها شرعا كالقمار و الغصب و الغارات و بيع الملامسة و أمثال ذلك ممّا ورد المنع عنها من ناحية الشرع، كما يظهر من بعض الأخبار و من تفسير الميزان، بل لعلّه المترائى من مصباح الفقاهة أيضا «2» فتأمل.

قال في تفسير الميزان: «و هي المعاملات الباطلة في نظر الدين كالربا و القمار و البيوع الغررية كالبيع بالحصاة و النواة و ما أشبه ذلك.» «3»

______________________________
(1) مجمع البيان 2/ 37، (الجزء الثالث من التفسير)؛ و تفسير البرهان 1/ 363.

(2) مصباح الفقاهة 1/ 35.

(3) تفسير الميزان 4/ 317 (طبعة أخرى 4/ 337)، في تفسير سورة النساء.

15
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الآية الثانية آية التجارة ؛ ج‌1، ص : 13

..........

______________________________
و لعلّه أخذ ذلك من زبدة البيان للمقدّس الأردبيلي، قال بعد ذكر الآية الشريفة:

«أي لا يتصرّف بعضكم في أموال البعض بغير وجه شرعي مثل الربا و الغصب و القمار، و لكن تصرّفوا فيها بطريق شرعي و هو التجارة عن تراض من الطرفين و نحو ذلك.» «1»

و مقتضى هذا البيان كون هذه الآية ناظرة إلى تلك الأدلّة المتعرّضة للأسباب المحرّمة شرعا.

أو يراد بها مطلق ما يصدق عليه عنوان الباطل كما هو الظاهر من اللفظ. إذ الخطابات المتوجّهة إلى الناس تحمل بموضوعاتها و متعلّقاتها و قيودها على المفاهيم العرفيّة المتبادرة عندهم. و العقلاء أيضا يحكمون بفطرهم ببطلان بعض الأسباب و كونها ظالمة باطلة عند العقل الصريح. نعم من جملة مصاديقها أيضا ما حكم الشرع ببطلانه تخطئة للعقلاء و توسعة للموضوع من باب الحكومة؟

الظاهر هو الثاني. إذ كون الآية ناظرة إلى الأدلّة الأخر خلاف الظاهر جدّا. و ظاهر القضيّة كونها حقيقية ما لم يكن دليل على إرادة الخارجيّة. مضافا إلى أن جعل الآية ناظرة إلى تلك الأدلّة الشرعيّة يوجب حمل النهي فيها على التأكيد و الإرشاد المحض، نظير قوله- تعالى-: أَطيعُوا اللّٰهَ+، و هذا خلاف ظاهر النهي لظهوره في التأسيس و المولويّة.

فإن قلت: قد فسّر الباطل في أخبار مستفيضة بالقمار و أمثاله، فيعلم من ذلك نظر الآية الشريفة إلى الأسباب المحرّمة من قبل الشارع:

______________________________
(1) زبدة البيان/ 427، كتاب البيع.

16
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الآية الثانية آية التجارة ؛ ج‌1، ص : 13

..........

______________________________
1- ففي رواية زياد بن عيسى قال: سألت أبا عبد اللّه «ع» عن قول اللّه- عزّ و جلّ-:

وَ لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالْبٰاطل، فقال: «كانت قريش تقامر الرجل بأهله و ماله فنهاهم اللّه- عزّ و جلّ- عن ذلك.» «1»

2- و في رواية محمد بن علي عن أبي عبد اللّه «ع» في قول اللّه- عزّ و جلّ-: يٰا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالْبٰاطل، قال: «نهى عن القمار، و كانت قريش تقامر الرجل بأهله و ماله فنهاهم اللّه عن ذلك.» «2»

3- و في رواية أسباط بن سالم قال: كنت عند أبي عبد اللّه «ع» فجاء رجل فقال:

أخبرني عن قول اللّه- عزّ و جلّ-: يٰا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالْبٰاطل، قال: «يعني بذلك القمار.» «3»

4- و في رواية النوادر قال: قال أبو عبد اللّه «ع» في قول اللّه- عزّ و جلّ-: وَ لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالْبٰاطل قال: «ذلك القمار.» «4»

5- و في تفسير البرهان عن نهج البيان عن الباقر و الصادق «ع»: «إنّه القمار و السحت و الربا و الإيمان.» «5»

قلت: تطبيق الموضوعات القرآنية في أخبارنا على بعض المصاديق لا يدلّ على‌

______________________________
(1) الوسائل 12/ 119، الباب 35 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

(2) الوسائل 12/ 120، الباب 35 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 9.

(3) الوسائل 12/ 120، الباب 35 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 8.

(4) الوسائل 12/ 121، الباب 35 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 14.

(5) تفسير البرهان 1/ 364.

17
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الآية الثانية آية التجارة ؛ ج‌1، ص : 13

..........

______________________________
الحصر. و قد يذكر مورد نزول الآية بعنوان التفسير، و لكن أحكام القرآن عامّة لا تختصّ بمورد دون مورد. و قد نادى بذلك الأخبار الواردة عن أهل البيت «ع». هذا مضافا إلى أنّ القمار بنفسه ممّا يحكم العقلاء أيضا ببطلانه إذا خلّوا و فطرتهم السليمة، و لذا يذمّون من خسر ماله في طريقه.

7- و أمّا قوله: تجٰارَةً فقرأها أهل الكوفة بالنصب و الباقون بالرفع- كما في المجمع-. «1» فالرفع على أنّ «تكون» تامّة. و النصب على أنها ناقصة، و اسمها الضمير المستتر العائد إلى التجارة المفهومة من السياق أو إلى الأموال أو إلى الأكل و شبهه.

8- و أمّا معنى التجارة فقال الراغب في المفردات: «التجارة: التصرّف في رأس المال طلبا للربح. يقال: تَجر يتجُر و تاجر و تجر كصاحب و صحب. و ليس في كلامهم تاء بعدها جيم غير هذا اللفظ.» «2»

أقول: ليس في كلامه اسم من البيع و الشراء فيشمل إطلاق كلامه من اشترى عينا ليربح فوائدها الحاصلة من الصنع فيها أو الإجارة. و لا يشمل البيوع الحاصلة لا بقصد الاسترباح. و على هذا فبين البيع و التجارة عموم من وجه.

و في مجمع البحرين: «التجارة بالكسر هي انتقال شي‌ء مملوك من شخص آخر بعوض مقدّر على جهة التراضي.» «3»

______________________________
(1) راجع مجمع البيان 2/ 36 (الجزء الثالث من التفسير).

(2) مفردات الراغب/ 69.

(3) مجمع البحرين 3/ 233 (ط. أخرى/ 234).

18
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الآية الثانية آية التجارة ؛ ج‌1، ص : 13

..........

______________________________
و في أوّل تجارة الجواهر: «المراد بها مطلق المعاوضة.»
«1»

أقول: ظاهر قوله- تعالى-: رجٰالٌ لٰا تُلْهيهمْ تجٰارَةٌ وَ لٰا بَيْعٌ عَنْ ذكْر اللّٰه «2» أيضا كون التجارة أعمّ، إلّا أن يقال كما في تفسير الميزان: إنّ التجارة البيع المستمر و البيع أعمّ من ذلك. «3»

و لكن في لسان العرب: «تجر يتجر تجرا و تجارة: باع و شرى، و كذلك اتّجر و هو افتعل.

و قد غلب على الخمّار.» «4»

و في مجمع البيان في تفسير قوله: تجٰارَةً قال: «أي مبايعة» «5». و على هذا فيختصّ اللفظ بالبيع و الشراء و لا يتقيّد بالربح و قصده، و إن كان المقصود في الآية الشريفة بقرينة المستثنى منه صورة حصول الربح المستلزم لجرّ مال الغير إلى نفسه.

و يظهر من قانون التجارة الرائج في بلادنا- و لعلّه أخذ من البلاد الأخر- حمل لفظ التجارة على معنى أوسع من البيع و الشراء بمراتب ففسّر في المادة الثانية منه المعاملات التجارية بالاشتراء أو تحصيل أيّ نوع من المال المنقول بنيّة بيعه أو إجارته، و تصدّي الحمل و النقل من الطرق البحريّة و البريّة و الجويّة، و عمليّة السمسرة و الوساطة في‌

______________________________
(1) الجواهر 22/ 4.

(2) سورة النور (24)، الآية 37.

(3) تفسير الميزان 15/ 127 (طبعة أخرى 15/ 137).

(4) لسان العرب 4/ 89.

(5) مجمع البيان 2/ 37 (الجزء الثالث من التفسير).

19
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الآية الثانية آية التجارة ؛ ج‌1، ص : 13

..........

______________________________
المعاملات، و تأسيس المعامل و تهيئة الخدمات و التداركات، و تأسيس المصانع و إدارتها، و تأسيس المصارف لصرف النقود و الأوراق المعتبرة، و عمليّات التأمين بأنواعه، و صنع السفن و بيعها و شرائها و المعاملات المرتبطة بها و أمثال ذلك، فراجع.
«1»

و لكن هذا لا يفيدنا في تحصيل معنى الكلمة بحسب لغة العرب كما لا يخفى.

9- و ظاهر قوله: عَنْ تَرٰاضٍ اشتراط صحّة التجارة بوقوعها عن رضى الطرفين بحيث يوجد رضاهما حين العقد و يكون الإقدام على العقد ناشئا عن الرضا.

و مقتضى ذلك عدم صحّة الفضولي و إن تعقّبته الإجازة.

اللّهم إلّا أن يصحّ إسناد البيع إلى المالك بعد تحقّق رضاه بحيث يصدق أنّه باع ماله عن رضاه. و لكنّه مشكل. فالعمدة في تصحيح الفضولي بالإجازة اللاحقة استفادة ذلك من الأخبار و لا سيّما ما ورد في نكاح الفضولي. أو يقال باستقرار سيرة العقلاء على تصحيحه بعد تحقّق رضا المالك حيث إنّه الركن الأعظم في المعاملة.

10- و يظهر من الآية الشريفة أيضا كفاية وقوع العقد عن الرضا في انتقال المبيع إلى المشتري و جواز أكله له، و لا يتوقّف ذلك على القبض كما في الهبة، و لا على انقضاء زمان الخيار و إن حكي ذلك عن الشيخ. «2» و لا ينافي ذلك ثبوت خيار الفسخ لهما أو لأحدهما في موارد الخيار. اللّهم إلّا أن يمنع كون المستثنى في الآية في مقام البيان و سيأتي الإشارة إلى ذلك، و التفصيل يطلب من محلّه.

11- ثمّ هل الاستثناء في الآية متّصل أم منقطع؟ لا يخفى أن الأصل في الاستثناء‌

______________________________
(1) كتاب «قانون تجارت»/ 9.

(2) راجع المكاسب/ 298، مسألة أنّ المبيع يملك بالعقد و أثر الخيار تزلزل الملك.

20
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الآية الثانية آية التجارة ؛ ج‌1، ص : 13

..........

______________________________
أن يكون متّصلا. و توجيهه في المقام بأحد وجهين:

الأوّل: أن يجعل المستثنى منه بدون قوله: بالْبٰاطل و يجعل هو بمنزلة كلام مستقل جي‌ء به لبيان حال المستثنى منه بعد إخراج المستثنى و تعلّق النهي. فكأنّه قال:

«لا تأكلوا أموالكم بينكم إلا بطريق التجارة عن تراض، فإنكم إن أكلتموها بغير هذا الطريق كان أكلا بالباطل».

الثاني: أن يقال: إنّ أكل المال بالحقّ و عن استحقاق واقعي ينحصر فيما إذا بني الملكيّة على أساس الملكيّة التكوينيّة بأن ملك الأشياء بتوليدها أو بالصنع عليها و تغيير صورها بحيث يحدث فيها قيمة. و أمّا التّاجر فلا يكون مولّدا لا للموادّ و لا للآثار و الصّور، بل يبيع العين الذي اشتراها بلا تغيير فيها بقيمة زائدة على ما اشتراه. فأكل المقدار الزائد باطل حقيقة، و لكنّ الضرورة الاجتماعيّة أحوج المجتمع إلى تصحيح التجارة فصحّحها الشارع أيضا تسهيلا للأمّة. هذا.

و لا يخفى بعد كلا الوجهين: أمّا الأوّل فلأنّ جعل قوله: بالْبٰاطل بمنزلة جملة مستقلّة معترضة خلاف الظاهر، إذ الظاهر كونه من قيود المستثنى منه.

و أمّا الثاني: فلأنّ الباطل ما لا يترتّب عليه أغراض عقلائيّة. و بعد احتياج المجتمع إلى مبادلة التوليدات لتوقّف الحياة و التعيّش عليها لا يصح إطلاق الباطل عليها. و التاجر يصرف أوقاته و طاقاته و أمواله في تحصيل ما يحتاج إليه النّاس من الأمتعة و في نقلها و حفظها و توزيعها، فلا يكون أخذه للمقدار الزائد على ما اشتراه جزافا و أكلا بالباطل إلّا أن يجحف في التقويم فيحدّده حاكم الإسلام.

ثم كيف يحكم الشرع على أمر بكونه باطلا ثمّ يرخّص فيه بل ربّما يأمر به و يحث‌

21
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الآية الثانية آية التجارة ؛ ج‌1، ص : 13

..........

______________________________
عليه كما وقع منه بالنسبة إلى التجارة؟!:

1- ففي صحيحة حمّاد بن عثمان عن أبي عبد اللّه «ع» قال: «ترك التجارة ينقص العقل» «1».

2- و في خبر أسباط بن سالم قال: «دخلت على أبي عبد اللّه «ع» فسألنا عن عمر بن مسلم ما فعل؟ فقلت: صالح و لكنّه قد ترك التجارة. فقال أبو عبد اللّه «ع»: «عمل الشيطان- ثلاثا- أما علم أنّ رسول اللّه «ص» اشترى عيرا أتت من الشام فاستفضل فيها ما قضى دينه و قسّم في قرابته؟ يقول اللّه- عزّ و جلّ: رجٰالٌ لٰا تُلْهيهمْ تجٰارَةٌ وَ لٰا بَيْعٌ عَنْ ذكْر اللّٰه ...» «2»

3- و عن النبي «ص» قال: «تسعة أعشار الرزق في التجارة، و الجزء الباقي في السابيا، يعني الغنم.» «3»

4- و عنه «ص» قال: «تسعة أعشار الرزق في التجارة و العشر في المواشي.» «4»

5- و عنه «ص» أيضا قال: «التاجر الصدوق في ظلّ العرش يوم القيامة.» «5» إلى غير ذلك من الأخبار.

و على هذا فيتعيّن كون الاستثناء منقطعا و هو شائع في محاورات الناس. و يقع غالبا‌

______________________________
(1) الوسائل 12/ 5، كتاب التجارة، الباب 2 من أبواب مقدّماتها، الحديث 1.

(2) الوسائل 12/ 6، كتاب التجارة، الباب 2 من أبواب مقدّماتها، الحديث 5.

(3) الوسائل 12/ 3، كتاب التجارة، الباب 1 من أبواب مقدّماتها، الحديث 5.

(4) الدّر المنثور 2/ 144، تفسير سورة النساء.

(5) الدّر المنثور 2/ 144.

22
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الآية الثانية آية التجارة ؛ ج‌1، ص : 13

..........

______________________________
لدفع الوهم المحتمل. ففي المقام حيث إنّه- تعالى- نهى عن أكل المال بالباطل و كانت المعاملات الباطلة شائعة رائجة في المجتمع كان مظنّة أن يتوهم المخاطبون أنّه ينهدم بترك هذه المعاملات الرائجة البنية الاقتصادية للمجتمع، فنبّه الشارع بهذا الاستثناء على أن البنية الاقتصاديّة لا تقوم على أساس هذه المعاملات الباطلة بل على التجارات الناشئة عن تراضي الطرفين. و لعلّ التجارة أعمّ من البيع كما مرّ أو ذكرت من باب المثال و ذكر الفرد الأجلى من المعاملات و أهمّها و أنفعها. و إلّا فالهبات و الإجارات و الجعالات و أمثالها أيضا محلّلة مؤثرة في حفظ النظام الاقتصادي. فالمقصود بالمستثنى في الحقيقة جميع المعاملات الدارجة غير الباطلة التي أظهرها و أهمّها التجارة. و حيث إنّ النهي تعلق بالأسباب الباطلة و التعليق على الوصف يشعر بالعلّيّة فبقرينة المقابلة يفهم أنّ المستثنى هو كلّ ما ليس باطلا عند العرف و العقل الصريح. هذا.

12- و في زبدة البيان: «لو كان الاستثناء متّصلا لزم التأويل، لعدم حصر التصرّف المباح في التجارة عن تراض.» «1»

أقول: أراد بذلك أنّ الاستثناء المتّصل يفيد الحصر و أنّ غير المستثنى بأجمعها داخلة في المستثنى منه و هذا غير صحيح في المقام. و هذا بخلاف المنقطع لكونهما بمنزلة جملتين مستقلتين، فلا مفهوم للمستثنى حتّى ينفي غيره إذ إثبات الشي‌ء لا ينفي غيره.

و لكن في مصباح الفقاهة بعد التعرّض لهذا الفرق بين المتصل و المنقطع قال: «إلّا أنّه- تعالى- حيث كان بصدد بيان الأسباب المشروعة للمعاملات و تمييز صحيحها عن‌

______________________________
(1) زبدة البيان/ 427. كتاب البيع.

23
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الآية الثانية آية التجارة ؛ ج‌1، ص : 13

..........

______________________________
فاسدها و كان الإهمال ممّا يخلّ بالمقصود فلا محالة يستفاد الحصر من الآية بالقرينة المقاميّة و تكون النتيجة أن الآية مسوقة لبيان حصر الأسباب الصحيحة بالتجارة عن تراض سواء كان الاستثناء متّصلا أم منقطعا.»
«1»

أقول: يمكن أن يناقش ما في مصباح الفقاهة بأنّ كون الآية بصدد بيان الأسباب المشروعة للمعاملات و تمييز صحيحها عن فاسدها غير واضح، إذ الغالب في الاستثناءات كون المتكلّم بصدد بيان الحكم في ناحية المستثنى منه فقط. و إنّما يذكر الاستثناء تطفّلا دفعا لتوهّم إرادة العموم الذي في المستثنى منه له. فالمتفاهم من الآية الشريفة في المقام كونها بصدد نهي المؤمنين عن تملك أموال الغير و التصرّف فيها بالأسباب الباطلة عقيب نهيهم عن نكاح النساء المحرّمات، لا بيان الأسباب المشروعة للمعاملات.

نعم، لازم كونها بصدد بيان الحكم في المستثنى منه عموم حكمه لجميع أفراده الحقيقية إلّا ما خرج بالاستثناء و إلّا لزم الإهمال و هذا خلف. و هذا معنى دلالة الاستثناء على الحصر. و لكن هذا البيان يجري في المتّصل و كذا في المنقطع بالنسبة إلى أفراد المستثنى منه. و أمّا المستثنى المنقطع فيكون من هذه الجهة بمنزلة كلام مستقلّ، و دلالته على الحصر و نفي الغير يكون من قبيل مفهوم اللقب و هو غير حجّة عند العرف. فما ذكره المحقق الأردبيلي في المقام لعلّه الأظهر، إلّا أن يلتزم بما مرّ من كون التجارة أعمّ من البيع أو أنّها ذكرت من باب المثال.

و بما ذكرناه من أنّ الغالب في الاستثناءات كون المتكلّم بصدد بيان حكم المستثنى منه فقط يظهر أمر آخر أيضا. و هو أنّه لو شكّ في ناحية المستثنى في اعتبار جزء أو قيد‌

______________________________
(1) مصباح الفقاهة 1/ 35.

24
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الآية الثانية آية التجارة ؛ ج‌1، ص : 13

..........

______________________________
فيه فلا مجال لنفيه بالإطلاق، إذ الإطلاق لا يجري إلّا بعد كون المتكلّم في مقام البيان بالنسبة إلى ما يراد الأخذ بإطلاقه.

و بالجملة من شرائط التمسّك بالإطلاق- على المشهور- كون المتكلّم في مقام البيان.

و الغالب في موارد الاستثناء كون المتكلّم في مقام بيان حكم المستثنى منه فقط فلا مجال للتمسّك به في ناحية المستثنى. ففي المقام إذا شك في اعتبار قيد زائد بالنسبة إلى التجارة المحلّلة شرعا لا مجال للتمسّك لنفيه بإطلاق المستثنى.

فإن قلت: ما ذكرت صحيح في الاستثناء المتّصل حيث إنّه جملة واحدة و العمدة فيه حكم المستثنى منه. و أمّا في المنقطع فهما بمنزلة جملتين مستقلّتين متعرضتين لحكمين مستقلّين كما مرّ. و على هذا فكما أنّ إطلاق المستثنى منه يقتضي عدم جواز أكل المال بالأسباب الباطلة مطلقا، فكذلك إطلاق المستثنى أيضا يقتضي جواز التجارة عن تراض بإطلاقها إلّا ما ثبت بالدليل خلافه.

قلت: لا نسلّم هذا التفصيل في المقام، إذ المنقطع أيضا لا يخرج عن طبيعة الاستثناء و كون المستثنى منه فيه أصلا في الكلام و المستثنى فرعا ذكر تطفّلا.

و إن شئت قلت: الاستثناء المنقطع أيضا يرجع إلى المتّصل و لكن بتأويل في المستثنى منه بحيث يعمّ المستثنى حتّى يصحّ إخراجه منه.

و يتحصّل ممّا ذكرناه المناقشة في عدّ الآية الشريفة بلحاظ ذيلها من الضوابط الكليّة التي يتمسّك بها في موارد الشكّ.

نعم، على القول بعدم اشتراط الأخذ بالإطلاق على كون المتكلّم في مقام البيان بل يكفي فيه عدم ذكر القيد و عدم الانصراف إلى المقيّد- كما قرّب ذلك المحقّق الحائري‌

25
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الآية الثانية آية التجارة ؛ ج‌1، ص : 13

..........

______________________________
«قده» في الدرر
«1»- لا يرد ما أوردناه من الإشكال.

قال في مبحث المطلق و المقيّد ما محصّله: «يمكن أن يقال بعدم الحاجة إلى إحراز كون المتكلّم في مقام بيان تمام المراد عند عدم القرينة إذ المهملة مردّدة بين المطلق و المقيد. و لا إشكال أنّه لو كان المراد المقيّد تكون الإرادة متعلّقة به بالأصالة، و إنما نسبت إلى الطبيعة بالتبع لمكان الاتحاد. فلو قال القائل: جئني برجل يكون ظاهرا في أن الإرادة أولا و بالذات متعلّقة بالطبيعة لا أنّ المراد هو المقيّد و لكنّه أضاف إرادته إلى الطبيعة بالتبع. و بعد تسليم هذا الظهور تسري الإرادة إلى تمام الأفراد، و هذا معنى الإطلاق.

إن قلت: إنّ المهملة ليست قابلة لتعلّق الإرادة الجديّة بها لعدم تعقّل الإهمال ثبوتا فلا محالة تعلّقت إمّا بالمقيد أو المطلق فيكون تعيين الإطلاق بلا دليل.

قلت: عروض الإطلاق للمهملة لا يحتاج إلى لحاظ زائد. و هذا بخلاف التقييد فإذا فرضنا عدم دخل شي‌ء في تعلّق الحكم سوى المهملة حصل وصف الإطلاق قهرا.

إن قلت: سلّمنا لكنّه من الممكن تقدير القيد أو جعل الطبيعة مرآة للمقيّد فيحتاج في نفي هذين إلى إحراز كونه بصدد البيان.

قلت: يمكن نفي كل من هذين الأمرين بالظهور اللفظي و لو لم يحرز كونه بصدد البيان.»‌

أقول: ما ذكره من ظهور كون الطبيعة مرادة بالذات لا بالتبع عبارة أخرى عن كون المولى في مقام بيان تمام مراده. و المفروض عدم إحراز ذلك و احتمال كونه بصدد الإهمال‌

______________________________
(1) الدّرر/ 234 (طبعة أخرى 1/ 201).

26
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الآية الثانية آية التجارة ؛ ج‌1، ص : 13

..........

______________________________
و الإجمال. و المهملة متحقّقة في ضمن المقيّد أيضا بحيث لو أراد المقيّد واقعا و نسب الحكم إلى الطبيعة المهملة لم يعدّ كذبا و لا مجازا.

و بعبارة أخرى: معنى الإطلاق كون الطبيعة المذكورة بوحدتها تمام الموضوع للحكم.

و الحكم بذلك يتوقّف على إحراز كونه بصدد بيان تمام الموضوع لحكمه و لو بالقرينة أو ببناء العقلاء على ذلك. و ليس هذا من باب ظهور اللفظ المستند إلى الوضع بل من باب حكم العقلاء بكون المذكور تمام مراده.

و بالجملة فمقدّمات الحكمة المتوقّف عليها الحكم بالإطلاق ثلاث:

1- كون المولى في مقام بيان تمام الموضوع لحكمه لا في مقام الإهمال.

2- عدم ذكر القيد في كلامه.

3- عدم انصراف اللفظ إلى المقيّد بحيث يكون في حكم ذكر القيد.

نعم هنا أمر تعرّض له الأستاذ آية اللّه البروجردي- طاب ثراه- فقال ما محصّله «1»:

«أنّه لا يلزم العلم القطعي بكون المولى في مقام البيان بل التكلّم بما أنّه فعل من الأفعال الصادرة عن الفاعل المختار يدلّ على كون الغرض منه إفهام ظاهر اللفظ و كونه مرادا للمولى إلّا إذا كان هنا قرينة على كونه بصدد الإهمال و الإجمال. إذ الكلام الصادر عن المتكلّم العاقل المختار يحمل عند العقلاء على كونه صادرا لغرض إفادة ما هو قالب له، و لا يحمل على الإهمال إلّا مع القرينة عليه. كما أنّ سائر الأفعال التي تصدر عن العقلاء تحمل عندهم على وقوعها لأغراضها العادية المتعارفة الغالبة لا لأغراض نادرة غير عاديّة. و لعلّ هذا أيضا مراد المحقّق الحائري.»‌

______________________________
(1) نهاية الأصول/ 344، في المطلق و المقيّد.

27
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الآية الثانية آية التجارة ؛ ج‌1، ص : 13

..........

______________________________
و لكن لو صحّ ما بيّناه من كون الغالب في الاستثناءات ذكرها تطفّلا و تبعا صارت هذه الغلبة قرينة عامّة على عدم الإطلاق في المستثنيات، فتدبّر.

اللّهم إلا أن يقال في خصوص المقام كما قيل بأنّ ذكر قوله: عَنْ تَرٰاضٍ شاهد على كونه بصدد بيان شرعية التجارة أيضا و لذا ذكر القيد الدخيل في شرعيّتها.

28
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الآية الثالثة آية الوفاء ؛ ج‌1، ص : 29

 

[الآية الثالثة آية الوفاء]

______________________________
الآية الثالثة قوله- تعالى- في أوّل سورة المائدة: يٰا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا أَوْفُوا بالْعُقُود. أُحلَّتْ لَكُمْ بَهيمَةُ الْأَنْعٰام إلّٰا مٰا يُتْلىٰ عَلَيْكُمْ. «1»

[تفسير الآية]

1- في تفسير علي بن إبراهيم القمي: حدثني أبي، عن النضر بن سويد، عن عبد اللّه بن سنان، عن أبي عبد اللّه «ع» في قوله: أَوْفُوا بالْعُقُود قال: «بالعهود.» «2»

و الرواية بهذا السند صحيحة.

2- و لكن في تفسير العيّاشي: عن النضر بن سويد، عن بعض أصحابنا، عن عبد اللّه بن سنان، قال: سألت أبا عبد اللّه «ع» عن قول اللّه: يٰا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا أَوْفُوا بالْعُقُود قال: «العهود». عن ابن سنان مثله. «3» و رواه في تفسير البرهان «4». فالسند على ذلك مشتمل على الإرسال. و لكن التعبير ببعض أصحابنا يشعر بكون المرويّ عنه صحيح العقيدة معتمدا عليه. و لعلّ قوله بعد ذلك: «عن ابن سنان مثله» إشارة إلى رواية علي بن إبراهيم في تفسيره.

______________________________
(1) سورة المائدة (5)، الآية 1.

(2) تفسير القمى/ 148، (ط. أخرى 1/ 160).

(3) تفسير العيّاشى 1/ 289.

(4) تفسير البرهان 1/ 431.

 

29
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

تفسير الآية ؛ ج‌1، ص : 29

..........

______________________________
و كيف كان فمقتضى رواية عبد اللّه بن سنان عدم الفرق بين العقد و العهد خارجا هنا أو مطلقا و إن فرض تفاوتهما مفهوما كما قيل.

3- و في دعائم الإسلام: عن جعفر بن محمد «ع» قال: «أَوْفُوا بالْعُقُود في البيع و الشراء و النكاح و الحلف و العهد و الصدقة.» «1»

4- و في تفسير البرهان بسنده عن ابن أبي عمير عن أبي جعفر الثاني «ع» في قوله: يٰا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا أَوْفُوا بالْعُقُود قال: «إنّ رسول اللّه «ص» عقد عليهم لعليّ «ع» بالخلافة في عشرة مواطن ثم أنزل اللّه: «يٰا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا أَوْفُوا بالْعُقُود التي عقدت عليكم لأمير المؤمنين «ع».» «2»

5- و في الدّر المنثور بسنده عن ابن عباس قوله: أَوْفُوا بالْعُقُود يعني بالعهود ما أحلّ اللّه و ما حرّم، و ما فرض و ما حدّ في القرآن كلّه، لا تغدروا و لا تنكثوا «3».

6- و فيه أيضا بسنده عن قتادة في قوله: أَوْفُوا بالْعُقُود أي بعقد الجاهلية. ذكر لنا أنّ نبيّ اللّه «ص» كان يقول: «أوفوا بعقد الجاهلية: و لا تحدثوا عقدا في الإسلام.» «4»

7- و فيه أيضا بسنده عن قتادة في قوله: أَوْفُوا بالْعُقُود قال: «بالعهود و هي عقود الجاهلية: الحلف.» «5»

8- و فيه أيضا بسنده عن عبد اللّه بن عبيدة قال: «العقود خمس: عقدة الأيمان و عقدة النكاح و عقدة البيع و عقدة العهد و عقدة الحلف.» «6»

إلى غير ذلك ممّا رواه في الدّر المنثور و لكنّها لم ترفع إلى النبي «ص» فلعلّها اجتهادات‌

______________________________
(1) دعائم الإسلام 2/ 28، كتاب البيوع ...، الفصل 5 (ذكر ما نهى عنه من الغشّ ...)، الحديث 53.

(2) تفسير البرهان 1/ 431.

(3) الدّر المنثور 2/ 253، في تفسير سورة المائدة.

(2) الدّر المنثور 2/ 253، في تفسير سورة المائدة.

(3) الدّر المنثور 2/ 253، في تفسير سورة المائدة.

(4) الدّر المنثور 2/ 253، في تفسير سورة المائدة.

(5) الدّر المنثور 2/ 253، في تفسير سورة المائدة.

(6) الدّر المنثور 2/ 253، في تفسير سورة المائدة.

30
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

و أما كلمات أهل اللغة و التفسير: ؛ ج‌1، ص : 31

..........

______________________________
من المفسرين بذكر المصاديق للعقود. هذا كلّه فيما يرتبط بروايات المسألة.

و أمّا كلمات أهل اللغة و التفسير:

1- ففي مفردات الراغب: «العقد: الجمع بين أطراف الشي‌ء. و يستعمل ذلك في الأجسام الصلبة كعقد الحبل و عقد البناء ثم يستعار ذلك للمعاني نحو عقد البيع و العهد و غيرهما.» «1»

2- و في الصحاح: «عقدت الحبل و البيع و العهد فانعقد. و عقد الربّ و غيره أي غلظ.» «2»

3- و في لسان العرب: «و العقد: العهد، و الجمع: عقود، و هي أوكد العهود.» «3»

4- و فيه أيضا: «و عقد العسل و الربّ و نحوهما يعقدُ و انعقد و أعقَدتُه فهو مُعقَد و عقيد: غَلُظ.» «4»

أقول: الظاهر أنّ العقود المتعارفة الواقعة بين اثنين روعي فيها شدّ أحد الالتزامين، كما في عقد رأسي الحبل أو الحبلين. و يؤيّد ذلك التعبير عنها بالعقدة كما في قوله- تعالى-:

وَ لٰا تَعْزمُوا عُقْدَةَ النِّكٰاح حَتّٰى يَبْلُغَ الْكتٰابُ أَجَلَهُ. «5» بل لعلّ التعبير بالعقد في‌

______________________________
(1) مفردات الراغب/ 353.

(2) صحاح اللغة 2/ 510.

(3) لسان العرب 3/ 297.

(4) لسان العرب 3/ 298.

(5) سورة البقرة (2)، الآية 235.

31
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

و أما كلمات أهل اللغة و التفسير: ؛ ج‌1، ص : 31

..........

______________________________
العسل و الربّ أيضا يكون بلحاظ اجتماع أجزائهما و اشتداد بعضها إلى بعض كما في الحبلين.

5- و في مجمع البيان: «العقود جمع عقد بمعنى معقود و هو أوكد العهود. و الفرق بين العقد و العهد أنّ العقد فيه معنى الاستيثاق و الشدّ و لا يكون إلّا بين متعاقدين. و العهد قد ينفرد به الواحد. فكلّ عقد عهد و لا يكون كلّ عهد عقدا. و أصله عقد الشي‌ء بغيره و هو وصله به كما يعقد الحبل. و يقال: أعقد العسل فهو معقد و عقيد.» «1»

ثمّ قال في تفسير الآية ما ملخّصه: «أي بالعهود، عن ابن عباس و جماعة من المفسّرين.

ثمّ اختلف في هذه العهود على أقوال:

أحدها: أنّ المراد بها العهود التي كان أهل الجاهلية عاهد بعضهم بعضا على النصرة و المؤازرة و المظاهرة، و ذلك هو معنى الحلف، عن ابن عبّاس و مجاهد و الربيع و الضحّاك و قتادة و السدّي.

و ثانيها: أنّها العهود التي أخذ اللّه على عباده بالإيمان به و طاعته فيما أحلّ لهم أو حرّم، عن ابن عباس أيضا. و في رواية أخرى قال: هو ما أحلّ و حرّم و ما فرض و ما حدّ في القرآن كلّه.

و ثالثها: أنّ المراد بها العقود التي يتعاقدها الناس بينهم و يعقدها المرء على نفسه كعقد الأيمان و عقد النكاح و عقد العهد و عقد البيع، عن ابن زيد و زيد بن أسلم.

و رابعها: أنّ ذلك أمر من اللّه لأهل الكتاب بالوفاء بما أخذ به ميثاقهم من العمل بما‌

______________________________
(1) مجمع البيان 2/ 151 (الجزء الثالث من التفسير).

32
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

و أما كلمات أهل اللغة و التفسير: ؛ ج‌1، ص : 31

..........

______________________________
في التوراة و الإنجيل في تصديق نبيّنا و ما جاء به، عن ابن جريج و أبي صالح.

و أقوى الأقوال قول ابن عباس أنّ المراد بها عقود اللّه التي أوجبها اللّه على العباد في الحلال و الحرام و الفرائض و الحدود. و يدخل في ذلك جميع الأقوال الأخر.» «1»

6- و في الكشاف: «و العقد: العهد الموثق، شبّه بعقد الحبل و نحوه ... و الظاهر أنّها عقود اللّه عليهم في دينه من تحليل حلاله و تحريم حرامه، و أنه كلام قدّم مجملا ثمّ عقّب بالتفصيل و هو قوله: أُحلَّتْ لَكُمْ و ما بعده.» «2»

7- و في تفسير الميزان: «العقود جمع عقد و هو شدّ أحد شيئين بالآخر نوع شدّ يصعب معه انفصال أحدهما عن الآخر، كعقد الحبل و الخيط بآخر من مثله. و لازمه التزام أحدهما الآخر و عدم انفكاكه عنه. و قد كان معتبرا عندهم في الأمور المحسوسة أوّلا ثمّ استعير فعمّم للأمور المعنويّة كعقود المعاملات الدائرة بينهم من بيع أو إجارة أو غير ذلك. و كجميع العهود و المواثيق فأطلقت عليها الكلمة لثبوت أثر المعنى الذي عرفت أنّه اللزوم و الالتزام فيها. و لما كان العقد- و هو العهد- يقع على جميع المواثيق الدينية التي أخذها اللّه من عباده من أركان و أجزاء كالتوحيد و سائر المعارف الأصلية و الأعمال العباديّة و الأحكام المشروعة تأسيسا أو إمضاء و منها عقود المعاملات و غير ذلك، و كان لفظ العقود أيضا جمعا محلّى باللام، لا جرم كان الأوجه حمل العقود في الآية على ما يعمّ كلّ ما يصدق عليه أنّه عقد.» «3»

______________________________
(1) مجمع البيان 2/ 151 (الجزء الثالث من التفسير).

(2) الكشّاف 1/ 590 و 591 (ط. أخرى 1/ 600).

(3) تفسير الميزان 5/ 157 (ط. أخرى 5/ 167)، تفسير سورة المائدة.

33
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

هنا جهات من البحث: ؛ ج‌1، ص : 34

..........

______________________________
أقول:

هنا جهات من البحث:

الأولى: [المراد بالعقود في الآية]

يظهر ممّا مرّ من الروايات من طرقنا و من طرق السنّة و كذا من تفاسير الفريقين في المقام: أنّ العقود في الآية يراد بها العهود مطلقا. و لكنّ مرّ عن المجمع: أنّ العقد لا يكون إلّا بين متعاقدين و العهد قد ينفرد به الواحد.

أقول: مقتضى كلامه هذا كون العهد أعمّ من العقد. و لكن يرد عليه أنّ العقد في اصطلاح الفقهاء و إن كان مختصّا بما يقع بين اثنين لكن العقود في الآية لا تحمل على اصطلاح الفقهاء بعد تفسيرها في روايات الفريقين بالعهود لأنّه اجتهاد في قبال النصّ.

فيجب حملها على الأعمّ لتشمل العهود الواقعة بين الإنسان و خالقه بحسب إيمانه أو بحسب الفطرة أيضا.

إلّا أن يقال: إنّها أيضا بحسب الحقيقة واقعة بين اثنين: أحدهما الخالق، كما أنّ العهد العهود في الفقه في قبال اليمين و النذر أيضا و إن كان إيقاعا لا يحتاج إلى القبول لكنّه أيضا يقع بين الشخص و خالقه و يصحّ أن يعبّر عنه بالعقدة.

نعم القرار الذي قد يعقدها الإنسان في نفسه على نفسه عهد ينفرد به الواحد و يشكل إطلاق العقد عليه كما لا دليل على لزوم العمل به.

الجهة الثانية: [الأصل في العقود اللزوم]

المستفاد من تفسيري الميزان و المجمع و غيرهما: أنّ في العقد معنى الاستيثاق و الشدّ و اللزوم. و مقتضى ذلك كون الأصل في العقود اللزوم، فيكون إطلاقه على العقود الجائزة من أصلها، كالهبة و المضاربة و نحوهما، بنحو من العناية و المسامحة.

نعم لأحد أن ينكر اعتبار الشدّ في مفهوم العقد و العقدة، بل قيل بحكايتهما عن مطلق ربط أحد الشيئين بالآخر بنحو خاصّ يحصل منه العقدة سواء وقع بشدّة أو مع الخفّة.

34
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الجهة الثالثة: في معنى العقد ؛ ج‌1، ص : 35

..........

______________________________
نعم وجوب الإيفاء لعلّه دالّ على اللزوم و عدم جواز الحلّ إلّا فيما ثبت خلافه، إلّا أن يراد بالوفاء أيضا مطلق العمل على طبق ما أنشأ من العقدة مشدودة أو مخفّفة، فتدبّر.

و سيأتي تفصيل لذلك في الجهة السادسة.

الجهة الثالثة: [في معنى العقد]

قد ظهر من كلامهم أنّ العقد بحسب اللغة هو الجمع بين أطراف الشي‌ء أو شدّ أحد شيئين بالآخر، و لازمه تلازم الشيئين.

فنقول: الظاهر أنّ الأمرين المتلازمين في العقود المصطلحة في الفقه هو التزام الموجب بمفاد إيجابه و التزام القابل بمفاد قبوله. فشدّ أحد الالتزامين بالآخر.

و إن شئت قلت: إنّ العقد المصطلح هو شدّ أحد العهدين و القرارين بالآخر. فهذا الذي يتبادر إلى الذهن في المقام.

و لكن في تفسير الميزان في مقام بيان معنى العقد قال: «و العقد هو كلّ فعل أو قول يمثّل معنى العقد اللغوي، و هو نوع ربط شي‌ء بشى‌ء آخر بحيث يلزمه و لا ينفك عنه كعقد البيع الذي هو ربط المبيع بالمشتري ملكا بحيث كان له أن يتصرّف فيه ما شاء ...

و كعقد النكاح الذي يربط المرأة بالرجل ...» «1»

فجعل المتلازمين في البيع المبيع و المشتري و في النكاح نفس الرّجل و المرأة لا التزامهما. و الظاهر عدم صحة ما ذكره و صحّة ما ذكرناه. إلّا أن يقال: إنّ العقود في الآية فسّرت بالعهود و ليس ربط مجموع العهدين و الالتزامين مصداقا للعهد، فتدبّر.

الجهة الرابعة: [في شمول الآية للعقود المصطلحة]

الظاهر عدم صحّة حمل العقود في الآية الشريفة على خصوص العقود المتعارفة المصطلحة في الفقه. إذ لا تناسب على هذا بين قوله: «أَوْفُوا بالْعُقُود»

______________________________
(1) تفسير الميزان 5/ 158 (طبعة أخرى 5/ 168)، تفسير سورة المائدة.

35
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الجهة الرابعة: في شمول الآية للعقود المصطلحة ؛ ج‌1، ص : 35

..........

______________________________
و بين ما تعقّبه من إحلال بهيمة الأنعام و غيره من الأحكام. فالظاهر تفسير الآية بنحو تشمل تعهد الإنسان في فطرته أو بسبب إيمانه للعمل بأحكام اللّه- تعالى- و الالتزام بمحلّلاته و محرّماته و حدوده و فرائضه و إن شملت العقود المصطلحة أيضا.

و لذا فسّرها ابن عباس- على ما مرّ من المجمع- بأنّها العهود التي أخذ اللّه على عباده بالإيمان به و طاعته فيما أحلّ أو حرّم.

و مرّ عن الكشاف قوله: «إنّه كلام قدّم مجملا ثمّ عقّب بالتفصيل و هو قوله:

أُحلَّتْ لَكُمْ و ما بعده.» «1»

فالسورة كأنّها سورة العهود و المواثيق، ذكر فيها الأحكام النازلة على رسول اللّه «ص» في السنة الأخيرة من عمره الشريف و منها نصبه لوليّ أمر المسلمين من بعده في غدير خمّ بأمر اللّه- تعالى- و صرّح فيها بالمواثيق المأخوذة من اللّه- تعالى- على المسلمين و على اليهود و النصارى:

فصدّر السورة- مخاطبا للمؤمنين- بقوله: أَوْفُوا بالْعُقُود. ثمّ شرع في ذكر المحلّلات و المحرمات و الواجبات، إلى أن قال في الآية السّابعة منها: وَ اذْكُرُوا نعْمَةَ اللّٰه عَلَيْكُمْ وَ ميثٰاقَهُ الَّذي وٰاثَقَكُمْ به إذْ قُلْتُمْ سَمعْنٰا وَ أَطَعْنٰا ... إلى أن قال في الآية الثانية عشرة: وَ لَقَدْ أَخَذَ اللّٰهُ ميثٰاقَ بَني إسْرٰائيلَ ... و في الآية الثالثة عشرة: فَبمٰا نَقْضهمْ ميثٰاقَهُمْ لَعَنّٰاهُمْ ... و في الآية الرابعة عشرة: وَ منَ الَّذينَ قٰالُوا إنّٰا نَصٰارىٰ أَخَذْنٰا ميثٰاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا ممّٰا ذُكِّرُوا به .... و في الآية السبعين: لَقَدْ أَخَذْنٰا ميثٰاقَ بَني إسْرٰائيلَ وَ أَرْسَلْنٰا إلَيْهمْ رُسُلًا ....

______________________________
(1) الكشّاف 1/ 591 (ط. أخرى 1/ 601).

36
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الجهة الخامسة في شمول الآية للعقود الحديثة أيضا ؛ ج‌1، ص : 37

..........

______________________________
و العقد و العهد و الميثاق متقاربة المعنى و إن فرض اختلافها مفهوما. فإمّا أن يراد المواثيق المأخوذة منهم في فطرهم على أن يؤمنوا باللّه و يوحدوه و يطيعوه في أوامره و نواهيه. و إمّا أن يراد المواثيق المأخوذة منهم بعد الإيمان بالأنبياء على العمل بما جاؤوا به من أحكام اللّه- تعالى-.

و بالجملة فيشكل الحكم بقطع ارتباط الجزء الأوّل من الآية الأولى من السورة عمّا بعده و الحكم بكونه ناظرا إلى العقود المتعارفة المصطلحة فقط التي تتعاقدها الناس بينهم.

نعم، يمكن تفسيرها بنحو يشمل هذه العقود أيضا كما يأتي بيانه.

الجهة الخامسة [في شمول الآية للعقود الحديثة أيضا]

و هي العمدة في المقام: قد مرّ عن مجمع البيان قوله: «و أقوى الأقوال قول ابن عباس أنّ المراد بها عقود اللّه التي أوجبها اللّه على العباد في الحلال و الحرام و الفرائض و الحدود. و يدخل في ذلك جميع الأقوال الأخر.» «1»

و مقتضى هذا الكلام أنّ القول الثالث أعني العقود التي يتعاقدها الناس بينهم أيضا داخل في هذا القول بلحاظ صيرورتها بعد إمضاء الشرع لها من عقود اللّه التي أوجبها اللّه على العباد.

و على هذا فالعقود في الآية الشريفة ناظرة إلى ما شرّعها و أنفذها الشارع و لو إمضاء مع قطع النظر عن هذه الآية، فلا يجوز التمسّك بهذه الآية لصحّة العقود التي لم تكن في عهد الشارع و لم يثبت صحّتها بإمضائه كعقد التأمين مثلا.

و يرد هذا الإشكال على ما مرّ من تفسير الميزان أيضا، حيث أدخل عقود المعاملات أيضا في المواثيق الدينيّة التي أخذها اللّه على عباده، فما لم يثبت صحة المعاملة شرعا‌

______________________________
(1) مجمع البيان 2/ 152 (الجزء الثالث).

37
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الجهة الخامسة في شمول الآية للعقود الحديثة أيضا ؛ ج‌1، ص : 37

..........

______________________________
و لو بإمضاء سيرة العقلاء لم تكن من المواثيق الدينيّة فلا تشملها العقود في الآية الشريفة.

و بالجملة وجوب الوفاء في الآية- على ما ذكره هذان العلمان- موضوعه المواثيق الدينية و ما أوجبها اللّه- تعالى-. فما لم يثبت صحّة العقد شرعا بدليل خاصّ أو بإطلاق دليل أو ببناء العقلاء بضميمة عدم ردع الشارع لم يدخل تحت هذين العنوانين.

و لا يمكن إثباتهما بنفس الحكم في الآية، إذ الحكم لا يثبت موضوع نفسه للزوم الدّور.

و إذا فرض ثبوت صحّة العقد و شرعيّته بدليل آخر لا نحتاج في تصحيحه إلى التمسّك بهذه الآية بل تقع تأكيدا.

فالأولى أن يقال: إنّ لفظ العقود جمع محلّى باللام فمفاده العموم و قد فسّر بالعهود كما مرّ. و الألفاظ الواردة في الكتاب و السنّة تحمل على مفاهيمها و مصاديقها العرفيّة إلّا أن يرد دليل شرعي على خروج بعضها تعبّدا أو دخول غيرها فيها من باب الحكومة.

و على هذا فيشمل العقود في الآية الشريفة كلّ ما حكم العرف أو الشرع بكونه معاهدة و ميثاقا سواء كان ممّا تعاقدها الناس بينهم أو تعاقدوه مع اللّه- تعالى- بإجراء صيغة العهد و ما شابهه، أو بالالتزام بما جاء به أنبياؤه بعد الإيمان بهم أو بما قبلوه و تعهّدوه بحسب الفطرة.

و استعمال لفظ العهد أو الميثاق في الأخير أيضا شائع في الكتاب و السنّة: قال اللّه- تعالى-: أَ لَمْ أَعْهَدْ إلَيْكُمْ يٰا بَني آدَمَ أَنْ لٰا تَعْبُدُوا الشَّيْطٰانَ. «1» و في نهج البلاغة: «و واتر إليهم أنبياءه ليستأدوهم ميثاق فطرته و يذكّر و هم منسيّ نعمته.» «2»

______________________________
(1) سورة يس (36)، الآية 60.

(2) نهج البلاغة، عبده 1/ 17؛ فيض/ 33؛ صالح/ 43، الخطبة 1.

38
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الجهة الخامسة في شمول الآية للعقود الحديثة أيضا ؛ ج‌1، ص : 37

..........

______________________________
قال الجصّاص في أحكام القرآن بعد كلام طويل حول الآية: «و قد روي عن ابن عبّاس في قوله- تعالى-:
أَوْفُوا بالْعُقُود أي بعقود اللّه فيما حرّم و حلّل. و عن الحسن قال: يعني عقود الدين. و اقتضى أيضا الوفاء بعقود البياعات و الإجارات و النكاحات و جميع ما يتناوله اسم العقود. فمتى اختلفنا في جواز عقد أو فساده و في صحّة نذر و لزومه صحّ الاحتجاج بقوله- تعالى-: أَوْفُوا بالْعُقُود. لاقتضاء عمومه جواز جميعها من الكفالات و الإجارات و البيوع و غيرها. و يجوز الاحتجاج به في جواز الكفالة بالنفس و المال و جواز تعلّقها على الأخطار، لأنّ الآية لم تفرّق بين شي‌ء منها ...» «1».

أقول: قوله: «و جواز تعلّقها على الأخطار.» ينطبق على عقد التأمين الشائع في عصرنا. هذا.

نعم هنا إشكال ينبغي التأمّل لدفعه، و هو أنّ مفاد الآية الشريفة بالنسبة إلى أحكام اللّه المشروعة من قبل مفاد قوله- تعالى-: أَطيعُوا اللّٰهَ+ فيكون إرشادا محضا إلى حكم العقل بلزوم الإطاعة و لا يقبل المولوية للزوم التسلسل كما حرّر في محلّه. و الجمع بين إرادة الإرشاد المحض بالنسبة إلى هذه الأحكام و بين الحكم بالصحّة تأسيسا بالنسبة إلى العقود و الإيقاعات يرجع إلى الجمع بين اللحاظين و استعمال لفظ واحد في معنيين.

اللّهم إلّا أن يقال: إن للأمر معنى واحدا و هو البعث و التحريك نحو متعلّقه، غاية الأمر أن البعث الإنشائي قد يتحقّق بداعي الإرشاد إلى حكم العقل، و أخرى بداعي التأسيس و التشريع. و تعدّد الداعي في استعمال واحد لا يوجب استعمال اللفظ في‌

______________________________
(1) أحكام القرآن للجصّاص 2/ 362.

39
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الجهة السادسة: كلام النراقي حول الآية و النقض عليه ؛ ج‌1، ص : 40

..........

______________________________
معنيين، إذ اللفظ لم يستعمل في الداعي بل لإنشاء البعث نحو متعلّقه. و المفروض تحقّقه في كليهما.

أو يقال: إنّ لزوم العمل على طبق المواثيق و الوفاء بها و عدم نقضها أيضا ممّا يحكم به العقل نظير لزوم إطاعة المولى. و على هذا فالأمر في قوله: أَوْفُوا بالْعُقُود ممحّض في الإرشاد إلى حكم العقل مطلقا و ليس فيه تأسيس و تشريع أصلا، فتأمّل.

و كيف كان فالظاهر جواز عدّ الآية الشريفة من الضوابط الكليّة الدالّة على صحّة العقود مطلقا إلّا فيما ثبت خلافه.

الجهة السادسة: [كلام النراقي حول الآية و النقض عليه]

لا يخفى أنّ المحقّق النراقي «قده» خصّ العائدة الأولى من عوائده بالبحث حول الآية الشريفة و قال في أثناء بحثه: «و من جميع ما ذكرنا ظهر أنّه يلزم في العقد الاستيثاق و الشدّ، و أنّ للعهد معاني متكثرة، و أنّ المعاني التي ذكروها للعقود في الآية بين ستّة بل ثمانية: الأوّل: مطلق العهود. و الثاني: عهود أمير المؤمنين «ع».

و الثالث: عهود الجاهليّة على النحو المتقدم. و الرابع: العقود التي بين اللّه- سبحانه- و بين عباده؛ إمّا التكاليف و الواجبات خاصّة أو مطلق ما حدّه و شرّعه لهم. و الخامس:

العقود التي بين الناس. و المراد منها يحتمل أن يكون العقود المتداولة بينهم المقرّرة لهم من الشرع، أي العقود الفقهيّة، و أن يكون مطلقها و لو كان باختراعهم. و السّادس: جميع ذلك.»‌

ثم قال ما ملخّصه: «أنّ فقهاءنا الأخيار في كتبهم الفقهية بين تارك للاستدلال بتلك الآية لزعم إجمالها، و بين حامل لها على المعنى الأعمّ فيستدلّ بها على حلّية كلّ ما كان عقدا لغة أو عرفا، و بين حامل لها على العقود المتداولة في الشريعة و يتمسّك بها في‌

40
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الإشكال الأول منه ؛ ج‌1، ص : 41

..........

______________________________
تصحيح هذه إذا شكّ في اشتراط شي‌ء فيها أو وجود مانع عن تأثيرها و نحو ذلك، لا تصحيح عقد برأسه.

و منهم من ضمّ مع العقود المتداولة سائر ما عقده اللّه- سبحانه- على عباده أيضا.

و يظهر من بعضهم احتمال حملها على العقود التي يتعاقدها الناس بعضهم على بعض مطلقا سواء كان من العقود المتداولة في الكتب الفقهية أم لا.

ثمّ إنّ منهم من يفسّر الأمر بالإيفاء على لزوم نفس العقد و وجوب الالتزام به إلّا إذا تحقّق ما يرفع لزومه شرعا. و منهم من يفسّره بالعمل على مقتضى العقد ما دام باقيا فلا ينافي كون بعض العقود جائزا. و منهم من فسّره بوجوب اعتقاد لزوم اللازم و جواز الجائز. و منهم من حمله على الرخصة و نفي الحظر.»‌

ثم شرع في تفصيل الأقوال المذكورة و الاستدلال لها بالآية إلى أن قال ما ملخّصه:

«و مع ذلك ففي صحّة التمسك به كلام من وجوه:

[الإشكال الأول منه]

الأول: أنّه و إن كان مقتضى الجمع المحلّى كونه مفيدا للعموم لكن الثابت من أصالة الحقيقة إنما هو فيما إذا لم يقترن بالكلام حين التكلّم به ما يوجب الظنّ بعدم إرادة الحقيقة، بل لم يقترن بما يصلح لكونه قرينة.

و ممّا لا شكّ فيه أنّ تقدّم طلب بعض أفراد الماهية أو الجمع المحلّى ممّا يظنّ معه إرادة الأفراد المتقدّمة. و لا أقلّ من صلاحية كونه قرينة لإرادتها.

و سورة المائدة نزلت في أواخر عهد النبيّ «ص». و لا شكّ أنّ قبل نزولها قد علم من الشارع وجوب الوفاء بطائفة جمّة من العقود، كالعقود التي بين اللّه- سبحانه- و بين عباده، بل بعض العقود التي بين الناس بعضهم مع بعض. و تقدّم طلب الوفاء بتلك‌

41
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الإشكال الثاني منه ؛ ج‌1، ص : 42

..........

______________________________
العقود يورث الظنّ لإرادتها من قوله:
أَوْفُوا بالْعُقُود خاصّة أو يصلح قرينة لإرادتها، فلا يمكن التمسّك لإرادة جميع الأفراد من الجمع المحلّى. مضافا إلى أنّ قوله- تعالى-:

أُحلَّتْ لَكُمْ بَهيمَةُ الْأَنْعٰام إلى آخره تفصيل لبعض العقود أيضا كما مرّ في كلام بعض المفسّرين. و هذا أيضا ممّا يضعّف الحمل على العموم.

[الإشكال الثاني منه]

الثاني: أنّ حمل الآية على العموم يوجب كونها تأكيدا بالنسبة إلى العقود التي تقدّم طلبها على نزول الآية و تأسيسا بالنسبة إلى ما لم يسبق طلبه، فيكون أمر واحد تأكيدا و تأسيسا معا كما في استعمال المشترك في معنييه. و هذا غير جائز إلّا أن يحمل على باب التناسي.

[الإشكال الثالث منه]

الثالث: أنّه قد عرفت اتفاقهم على اشتراط الاستيثاق و الشدّة في معنى العقد و أنّه العهد الموثّق، فلو أبقينا العقود على العموم أيضا لما دلّ إلّا على وجوب الوفاء بالعهود الموثقة لا كلّ عهد. ففي كلّ عهد يراد إثبات لزومه شرعا لا بد أوّلا من إثبات استحكامه و شدّته، و لا يثبت ذلك إلّا بعد ثبوت اللزوم الشرعي لمنع كون غير ما ثبت لزومه شرعا موثقا.

[الإشكال الرابع منه]

الرابع: أنّه بعد ما علمت من اتفاقهم على كون العقد هو العهد الموثق أقول: قد عرفت أنّ للعهد معاني متكثرة كالوصيّة و الأمر و الضمان و اليمين و غير ذلك، و شي، منها لا يصدق على ما هم بصدد إثبات لزومه أو صحّته في المباحث الفقهيّة. و لو سلمنا أنّ للعهد معنى يلائم ذلك أيضا فإرادة ذلك المعنى في الآية غير معلوم. فيمكن أن يراد من العقود الوصايا الإلهية الموثقة أي المشدّدة، و يمكن أن يراد مطلق الوصايا، و يمكن أن يراد منها الأوامر أو الأيمان أو الضمانات.

42
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الإشكال الخامس منه ؛ ج‌1، ص : 43

[الإشكال الخامس منه]

______________________________
الخامس: أنه قد عرفت أنّ معنى العقد لغة الجمع بين الشيئين بحيث يعسر الانفصال بينهما. و إذا كان هذا معناه اللغوي حقيقة فيكون المراد منه في الآية معناه المجازي. و إذا كان كذلك فيتّسع دائرة الكلام و مجال الجدال في التمسّك بالآية. و حيث انحصر الدليل على أصالة لزوم كلّ عقد بتلك الآية فيكون تلك الأصالة غير ثابتة بل الأصل عدم اللزوم إلّا أن يثبت لزوم عقد بدليل خاصّ كالبيع و أمثاله.»
«1» انتهى ما أردنا نقله من العوائد ملخّصا.

[الرّد على الوجه الأوّل]

و يرد على الوجه الأوّل: أنّ تقدّم طلب بعض الأفراد تدريجا في خلال عشرين سنة لا يوجب رفع اليد عن العامّ المتأخر الظاهر في الاستغراق إلّا إذا كان كالقرينة المتّصلة بحيث ينصرف اللفظ إليها و لا ينعقد معها ظهور في العموم، و كون المقام كذلك ممنوع.

قال الأستاذ الإمام «ره» في بيعه ما ملخّصه: «ألا ترى أنّه إذا قال المولى: أكرم زيدا كلّما جاءك، ثم بعد سنين قال: أكرم عمروا كلّما جاءك، و هكذا أمر بإكرام عدّة أشخاص كلّهم من العلماء ثمّ بعد سنين عديدة قال: أكرم العلماء كلّما جاؤوك، لا يمكن ترك إكرام غير العلماء المذكورين قبله باعتذار احتمال كون المراد بالعموم المعهودين.

مع أنّ في ثبوت نزول المائدة بجميع آياتها في آخر عمره الشريف كلاما و إن وردت به رواية.

مضافا إلى أنّ ذلك مؤيّد للعموم و مؤكّد له. لأن الوحي لمّا كان ينقطع بعدها فلا بدّ من تقنين قوانين كليّة يرجع إليها في سائر الأدوار إلى آخر الأبد. مع أنّ ما ذكره مبنيّ‌

______________________________
(1) العوائد 1- 8.

43
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الرد على الوجه الثاني ؛ ج‌1، ص : 44

..........

______________________________
على أنّ جميع المحرّمات و الواجبات التكليفيّة داخلة في مفهوم العقد، و هو ضعيف.»
«1»

أقول: لقد أجاد فيما أفاد، و لكن تضعيفه الأخير لا يمكن المساعدة عليه لما مرّ في الجهة الرابعة من الارتباط الوثيق بين قوله: أَوْفُوا بالْعُقُود و ما بعده و كون مضمونه بمنزلة الضابطة لما بعدها، فراجع.

[الرّد على الوجه الثاني]

و يرد على الوجه الثاني: ما في بيع الأستاذ أيضا من منع لزوم استعمال الأمر في الأكثر، لأنّ لفظ الأمر لا يستعمل في التأسيس أو التأكيد، بل هو مستعمل في معناه أي البعث لكنّه ينتزع منه التأكيد إن كان مسبوقا بأمر متعلّق بعين ما تعلّق ثانيا و ثالثا و إلّا يكون تأسيسا. «2»

[الرّد على الوجه الثالث]

و أمّا الجواب عن الوجه الثالث فيظهر ممّا فصّله الأستاذ الإمام في المقام إنكار أخذ الاستيثاق و الشدّة في مفهوم العقد. قال ما محصّله: «أنّ الكلمة وضعت أوّلا للربط الخاصّ الواقع في الحبل و نحوه بنحو يحصل منه مجموعة تسمّى بالعقدة المعبّر عنها بالفارسية: «گره» و ليس في العقدة معنى الشدّة بل هي أعمّ من المشدودة و غيرها. و في الصحاح: «العاقد: الناقة التي قد أقرّت باللقاح لأنّها تعقد بذنبها.» و من الواضح أنّها لا تعقده مستوثقا. و في القاموس فسّر العاقد كما في الصحاح. و على هذا يمكن أن يكون مراد القاموس من قوله: «عقد الحبل و البيع و العهد يعقده: شدّه» مطلق الربط الخاصّ لا تشديده و توثيقه. و يشهد لعدم اعتبار الاستيثاق و التوكيد في معناه قول من فسّره بمطلق العهود كابن عباس و جماعة من المفسّرين.

______________________________
(1) كتاب البيع للإمام الخمينى- قدّس سرّه- 1/ 72.

(2) كتاب البيع للإمام الخمينى 1/ 73.

44
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الرد على الوجه الثالث ؛ ج‌1، ص : 44

..........

______________________________
و بالجملة الظاهر أنّه ليس في المعنى الحقيقي من العقد اعتبار التوكيد و التوثيق كما أنّ الظاهر استعارة اللفظ الموضوع للطبيعة للعقد في المقام، و مصحّحها دعوى أنّ الربط الاعتباري هو الحبل و تبادل الاعتبارين كتبادل طرفي الحبل بنحو يرتبط و تحصل فيه العقدة، و لا سبيل إلى القول باستعارة اللفظ بمناسبة أحد مصاديق معناه و هو العقد الموثّق. فتحصّل ممّا مرّ أنّ العقد بالمعنى الاستعاري هو مطلق المعاملة بلحاظ الربط الاعتباري المتبادل.»
«1»

أقول: ما ذكره «ره» قابل للمنع إذ المترائى من كلمات أهل اللغة و التفسير و موارد استعمال الكلمة اعتبار الشدّ و التوثيق في مفهوم العقد و العقدة:

ففي المقاييس: «العين و القاف و الدّال أصل واحد يدلّ على شدّ و شدّة وثوق، و إليه ترجع فروع الباب ... و عقدة النكاح و كلّ شي‌ء: وجوبه و إبرامه. و العقدة في البيع:

إيجابه.» «2»

و قال الخليل بن أحمد في العين: «عقدة كلّ شي‌ء: إبرامه. و عقدة النكاح: وجوبه.

و عقدة البيع: وجوبه ... و اعتقد الشي‌ء: صلب. و اعتقد الإخاء و الموادّة بينهما: أي ثبت.» «3»

و في الصحاح: «عقدت الحبل و البيع و العهد فانعقد. و عقد الربّ و غيره: أي غلظ ...

و اعتقد الشي‌ء أي اشتدّ و صلب.» «4»

______________________________
(1) كتاب البيع للإمام الخمينى- قدس سرّه- 1/ 68 و 69.

(2) المقاييس 4/ 86.

(3) العين 1/ 140.

(4) صحاح اللغة 2/ 510.

45
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الرد على الوجه الثالث ؛ ج‌1، ص : 44

..........

______________________________
و في القاموس: «عقد الحبل و البيع و العهد: شدّه ... و العقد: الضمان و العهد و الجمل الموثّق الظهر ... و العقدة من النكاح و من كلّ شي‌ء: وجوبه.»
«1»

و في المصباح المنير: «عقدت الحبل عقدا من باب ضرب فانعقد. و العقدة: ما يمسكه و يوثقه. و منه قيل: عقدت البيع و نحوه. و عقدة النكاح و غيره: إحكامه و إبرامه.» «2»

و في لسان العرب: «عقدة اللسان: ما غلظ منه، و في لسانه عُقدَة و عَقَد أي التواء ...

عقدة النكاح و البيع: وجوبهما. قال الفارسي: هو من الشدّ و الربط ... و عقدة كلّ شي‌ء:

إبرامه.» «3»

و في مجمع البحرين: «و الفرق بين العهد و العقد: أنّ العقد فيه معنى الاستيثاق و الشدّ.» «4»

و في أقرب الموارد: «عقد الحبل و البيع و العهد و اليمين و نحوها عقدا: أحكمه و شدّه و هو نقيض حلّه ... عقد العسل و الربّ و نحوهما: أغلاه حتّى غلظ.» «5» إلى غير ذلك من كلمات أهل الفنّ.

و بالجملة فالظاهر أنّ لفظ العقد و مشتقاته أخذ في مفهومها اللغوي الاستيثاق و الشدّ.

______________________________
(1) القاموس المحيط 1/ 327.

(2) المصباح المنير/ 575.

(3) لسان العرب 3/ 298.

(4) مجمع البحرين 3/ 103 (ط. أخرى/ 208).

(5) أقرب الموارد 2/ 807.

46
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الرد على الوجه الثالث ؛ ج‌1، ص : 44

..........

______________________________
فلنتعرّض للجواب عن الإشكال الثالث للمحقّق النراقي، و نجيب عنه بما لوّح إليه نفسه عقيب إشكاله:

بيان ذلك: أنّ العقود في الآية فسّرت بالعهود كما مرّ. و التشكيك في ذلك اجتهاد في قبال النصوص. و التوثيق في العهود لا يدور مدار حكم الشرع فيها باللزوم، بل يكفي فيه حكم العرف و العقلاء بذلك. إذ بناؤهم في المعاهدات و المواثيق في جميع الأعصار كان على الإبرام و لزوم الحفظ و كانوا يذمّون ناقضها و المستخفّ بها. فكأنّ الإبرام أخذ في طبيعتها و إن اختلفت مراتبه حسب اختلاف مراتبها كسائر الطبائع المشكّكة. و قال الراغب في تفسير العهد:

«العهد حفظ الشي‌ء و مراعاته حالا بعد حال، و سمّي الموثق الذي يلزم مراعاته عهدا.» «1» فلزوم المراعاة أخذ في مفهوم العهد.

و بالجملة فالعهود بلحاظ إبرامها و شدّها بالطبع و في اعتبار العقلاء وجب الإيفاء بها عرفا و شرعا، لا أنّ وجوب الإيفاء بها شرعا صار موجبا لشدّها كما في كلام النراقي.

فلا ينقسم العهد إلى لازم و غير لازم، و مبرم و غير مبرم، بل إلى اللازم و الألزم، و المبرم و الأشدّ إبراما. و هذا هو الملحوظ في مفهوم العقدة أيضا، إذ من يقدم على إيجادها بين الحبلين أو الخيطين أو البنائين لا يوجدها إلّا بداعي الاستحكام و عدم الانحلال و إن اختلفت مراتبها حسب اختلاف القوى و الدواعي.

و على هذا فيكون الحكم بوجوب الإيفاء من ناحية الشارع إرشادا في الحقيقة إلى ما يحكم به العقلاء بفطرتهم بلحاظ كون الموضوع بطبيعته المعتبرة مما يستدعي اللزوم‌

______________________________
(1) مفردات الراغب/ 363.

47
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الرد على الوجه الثالث ؛ ج‌1، ص : 44

..........

______________________________
و الثبات. قال اللّه- تعالى-:
وَ أَوْفُوا بالْعَهْد إنَّ الْعَهْدَ كٰانَ مَسْؤُلًا «1» فرتّب وجوب الإيفاء على طبيعة العهد بإطلاقها.

و يتفق في هذا الحكم جميع الأقوام و الأمم على اختلاف الأهواء و المذاهب، ففي كتاب أمير المؤمنين «ع» لمالك حين ولّاه مصر: «و إن عقدت بينك و بين عدوّك عقدة أو ألبسته منك ذمّة فحط عهدك بالوفاء و ارع ذمّتك بالأمانة، و اجعل نفسك جنّة دون ما أعطيت، فإنّه ليس من فرائض اللّه شي‌ء الناس أشدّ عليه اجتماعا مع تفرّق أهوائهم و تشتّت آرائهم من تعظيم الوفاء بالعهود. و قد لزم ذلك المشركون فيما بينهم دون المسلمين لما استوبلوا من عواقب العذر فلا تغدرنّ بذمّتك و لا تخيسنّ بعهدك ...» «2»

و يظهر من كلامه هذا ترادف العقد و العهد أو تقاربهما حيث إنّه قد يستعمل هذا و قد يستعمل ذاك.

و تمام الموضوع لوجوب الإيفاء عند العقلاء هو العهد بما هو عهد و عقد من غير فرق بين موارده إلّا إذا وقع عن إكراه و إجبار أو تغرير و خداع. و على هذا الأساس أيضا حكم الشرع.

ثمّ لو سلّم إهمال العقود بالنسبة إلى اللزوم و عدمه و كونها بالذات أعمّ كان الأمر بالإيفاء بها دالا على الحكم باللزوم و عدم جواز النقض في كلّ عقد إلّا فيما ثبت خلافه. فيجوز الاستدلال بعموم الآية في موارد الشكّ في اللزوم. و يكون وزان قوله-

______________________________
(1) سورة الإسراء (17)، الآية 34.

(2) نهج البلاغة، عبده 3/ 117؛ فيض/ 1027؛ صالح/ 442، الكتاب 53.

48
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الرد على الوجه الثالث ؛ ج‌1، ص : 44

..........

______________________________
تعالى-:
أَوْفُوا بالْعُقُود وزان قوله: وَ أَوْفُوا بالْعَهْد إنَّ الْعَهْدَ كٰانَ مَسْؤُلًا، و لا سيّما بعد تفسير العقود في أخبار الفريقين بالعهود. و لم يشكّك أحد في عموم آية العهد و دلالتها على لزوم العهود.

فإن قلت: معنى الوفاء بالعهد و النذر و العقد و نحوها هو العمل على طبق مقتضياتها، فوفاء النذر مثلا هو الإتيان بالمنذور لا عدم فكّ النذر، و وفاء البيع بتسليم العين لا بعدم فسخه. فمن لم يفسخ عقد البيع مثلا و لكن لم يعمل بمقتضاه من تسليم العين لا يقال عرفا إنّه و في بعقده.

و إن شئت قلت: إنّ الوفاء و عدمه من لواحق العقد بعد فرض وجوده، و الحكم لا يحفظ موضوع نفسه، فإعدام العقد خارج عن عدم الوفاء به كما أنّ إيجاده غير الوفاء به.

إلّا أن يقال: إنّ الوفاء إبقاء العقد الحادث و عدم الوفاء إعدامه، و لكن هذا غير صحيح.

قلت: هذا ما ذكره الأستاذ الإمام في المقام «1»، و لكن الظاهر خلاف ذلك، إذ الإيفاء بالشي‌ء الأخذ به تامّا وافيا و عدم نقصه أو تركه. و ضدّه الغدر و هو ترك الشي‌ء أو نقصه، فانظر إلى قوله- تعالى-: وَ حَشَرْنٰاهُمْ فَلَمْ نُغٰادرْ منْهُمْ أَحَداً. «2» أي لم نترك منهم أحدا. و قوله: وَ يَقُولُونَ يٰا وَيْلَتَنٰا مٰا لهٰذَا الْكتٰاب لٰا يُغٰادرُ صَغيرَةً وَ لٰا كَبيرَةً إلّٰا أَحْصٰاهٰا «3» أي لم يترك منهما شيئا. و يقال: «غدير» للماء المتروك المنقطع من السيل.

قال الراغب في المفردات: «الوافي: الذي بلغ التمام. يقال: درهم واف و كيل واف،

______________________________
(1) كتاب البيع للإمام الخمينى «ره» 1/ 70.

(2) سورة الكهف (18)، الآية 47.

(3) سورة الكهف (18)، الآية 49.

49
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الرد على الوجه الثالث ؛ ج‌1، ص : 44

..........

______________________________
و أوفيت الكيل و الوزن. قال- تعالى-:
وَ أَوْفُوا الْكَيْلَ إذٰا كلْتُمْ. و في بعهده يفي وفاء و أوفى: إذا تمّم العهد و لم ينقض حفظه. و اشتقاق ضدّه و هو الغدر يدلّ على ذلك و هو الترك ...» «1»

و كما يتحقّق ترك العقد بعدم ترتيب آثاره عليه يتحقّق بفسخه و نقضه من رأس أيضا، بل هذا أولى بصدق الترك و التجاوز.

ثمّ لو فرض وجوب ترتيب الأثر على العقد بمقتضى الآية بنحو الإطلاق كان مقتضاه بقاءه و عدم انتقاضه.

قال الشيخ الأعظم في أوّل الخيارات من مكاسبه: «فإذا حرم بإطلاق الآية جميع ما يكون نقضا لمضمون العقد و منها التصرّفات الواقعة بعد فسخ المتصرّف من دون رضا صاحبه كان هذا لازما مساويا للزوم العقد و عدم انفساخه بمجرد فسخ أحدهما، فيستدلّ بالحكم التكليفي على الحكم الوضعي أعني فساد الفسخ من أحدهما بغير رضا الآخر و هو معنى اللزوم.» «2» هذا. و قد فسّرنا العقد بالعهد و مرّ عن الراغب تفسير العهد بحفظ الشي‌ء و مراعاته حالا بعد حال.

و بالجملة فالأصل في العقود و العهود هو اللزوم من غير فرق بين مواردها عند كافة العقلاء في جميع الأعصار و من جميع الأمم. و الشرع أيضا نفّذ ذلك. و في هذا القبيل من الأحكام لا يصلح المورد لتخصيص العامّ. فكون آية العقود ملحوقا بذكر المحلّلات و المحرّمات لا يوجب الترديد في عمومها، فتدبّر.

______________________________
(1) مفردات الراغب/ 565. و الآية من سورة الإسراء (17)، رقمها 35.

(2) المكاسب للشيخ الأنصاري «ره»/ 215.

50
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الرد على الوجه الثالث ؛ ج‌1، ص : 44

..........

______________________________
بقي الإشكال في العقود الجائزة ذاتا كالهبة و الوكالة و العارية و المضاربة و الشركة و أمثالها. فقد يقال: إنّ مقتضى ما ذكرنا لزومها أيضا بعد صدق العقد عليها، غاية الأمر خروجها تعبّدا بالإجماع في كلّ مورد حصل.

و قد يقال- كما في مباني العروة-: إنّ أدلّة اللزوم قاصرة عن شمولها إذ اللزوم من آثار كون مفاد العقد التزاما و تعهّدا. و هذه العقود لا تتضمّن لذلك، بل للإباحة و الإذن فقط و تسمّى عقودا إذنية «1».

أقول: يرجع كلامه هذا إلى منع كون هذه العقود بحسب الحقيقة داخلة تحت عنوان العقد. إذ العقد فسّر بالعهد، و العهد متضمن للالتزام قهرا. فنقول: يمكن القول بأنّ أمثال الوكالة و العارية لا تتضمّن إلّا الإذن. و أمّا الهبة و المضاربة و أنواع الشركة فلم يظهر لي وجه عدم تضمّنها للالتزام. و أيّ فرق بين المضاربة مثلا و بين المزارعة و المساقاة المعدودتين من العقود اللازمة مع كون الجميع على مساق واحد متضمّنة لنحو من الشركة في المال و العمل؟

و المركوز في أذهان العقلاء في مثل المضاربة التزام المالك بجعل رأس المال تحت اختيار العامل و التزام العامل بالعمل فيه و التزامهما معا بتسهيم الربح على ما توافقا عليه، نظير ما في المزارعة و المساقاة. فلو لم يثبت إجماع في البين كان مقتضى العمومات لزوم المضاربة و الشركة أيضا، و كذا الهبة.

و على فرض كون عقد جائزا بالذات فإدراجه تحت عموم قوله: أَوْفُوا بالْعُقُود و التمسّك به لبعض الخصوصيّات مشكل بعد ما مرّ من اعتبار الشدّ و اللزوم في مفهوم‌

______________________________
(1) مبانى العروة 3/ 39.

51
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الرد على الوجه الرابع ؛ ج‌1، ص : 52

..........

______________________________
العقد. و لعلّ إطلاق العقد عليه مجاز لشباهته بالعقود صورة.

و أمّا ما مرّ نقله في كلام النراقي من بعض من يفسّر الإيفاء باعتقاد لزوم اللازم و جواز الجائز، أو حمله على الرخصة و نفي الحظر فمخالفان للظاهر جدّا. و قال الشيخ في ردّ الاحتمال الأوّل: «إنّ اللزوم و الجواز من الأحكام الشرعيّة للعقد و ليسا من مقتضيات العقد في نفسه مع قطع النظر عن حكم الشارع.» «1» هذا.

و لكن يمكن أن يقال من رأس في العقود و الإيقاعات و جميع المعاملات و المبادلات و الأمور العادية المتعارفة بين الأقوام و الأمم حسب احتياجاتهم في ظروف معيشتهم المتفاوتة حسب تفاوت الشروط و الإمكانات المتطوّرة حسب تكامل العقل و الإدراكات و الصنائع و التكنيكات: إنا لا نحتاج في تصحيحها و خصوصيّاتها إلى إحراز إمضاء الشارع لها، بل يكفي فيها عدم ثبوت ردعه عنها. إذ ليس غرض الشريعة السمحة السهلة و هدفها الأصلي هدم أساس التعيّش و الحياة و التدخّل في الأمور العاديّة التي ينتظم بها شئون الحياة، بل الغرض الأصلي لها هداية الإنسان إلى سعادته الأبدية و سوقه إلى الكمال. و أمّا أمور الحياة الدنيويّة فهي محوّلة غالبا إلى شعور المجتمع و عقولهم الكافية في إدراك صلاحها غالبا إلّا فيما إذا كان أمر مضرّا بحال الناس و لم يلتفت إليه عقول عقلائهم كالمعاملات الربويّة مثلا فيردع عنها، فتدبّر.

[الرّد على الوجه الرابع]

و أمّا الإشكال الرابع الّذي أورده المحقّق النراقي «ره» في المقام- و محصّله أنّ العقد فسّر بالعهد و للعهد معاني متكثرة كالوصيّة و الأمر و الضمان و اليمين و غير ذلك، و شي‌ء منها لا يصدق على ما هم بصدد إثبات لزومه، و لو سلّم فإرادة هذا‌

______________________________
(1) المكاسب للشيخ الأعظم الأنصاري «ره»/ 215.

52
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الرد على الوجه الرابع ؛ ج‌1، ص : 52

..........

______________________________
المعنى في الآية غير معلوم-

فلنا أن نجيب عنه بأنّ الظاهر أنّ لفظ العهد لم يوضع لهذه الأمور المتكثّرة بالاشتراك اللفظي. بل وضع لمفهوم عامّ ينطبق على هذه الأمور بالاشتراك المعنوي، و لم يستعمل اللفظ في الموارد المختلفة إلّا في المفهوم العامّ، و الخصوصيّات تفهم بالقرائن. و إذا ذكر اللفظ في مورد بنحو الإطلاق بلا قرينة معيّنة كقوله: أَوْفُوا بالْعَهْد مثلا حمل على العموم.

و المترائى من مجموع كلمات أهل اللغة و موارد استعمال الكلمة باشتقاقاتها أنّها وضعت لمراقبة الشي‌ء بداعي حفظه أو للقرار المؤكّد الذي يُهتمّ بمراقبته و حفظه بحيث يحكم العقلاء بلزوم حفظه و حرمة نقضه و نقصه.

فالقرار المؤكّد بأنواعه ملزوم، و المراقبة و الحفظ من لوازمه، و اللفظ قد يستعمل في هذا و قد يستعمل في ذاك و الأوّل أكثر. و استعارة اللفظ الموضوع بإزاء الملزوم للازم و بالعكس كثيرة في الاستعمالات. و القرار يعتبر غالبا بين اثنين أو أكثر بأن يجعل الشي‌ء أو العمل في عهدة أحدهما للآخر أو في عهدة كلّ منهما للآخر. و إن أمكن أحيانا أن يعتبره الشخص بانفراده في سويداء قلبه أيضا فكأنّه وقع بينه و بين نفسه.

و بمقتضى تأكّد القرار اعتبارا و تشبّهه بالعقدة التي توجد خارجا بين الحبلين مثلا بداعي الشدّ و الإبرام يطلق عليه لفظ العقد أيضا بنحو الاستعارة بلحاظ لازم المعنى الحقيقي أعني اللزوم و عدم الانفكاك. و قد مرّ في عبارة نهج البلاغة استعمال كلا اللفظين بإزاء معنى واحد. فلنذكر هنا بعض كلمات أهل اللغة في معنى العهد:

1- قال الراغب في المفردات: «العهد: حفظ الشي‌ء و مراعاته حالا بعد حال. و سمّي‌

53
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الرد على الوجه الرابع ؛ ج‌1، ص : 52

..........

______________________________
الموثق الذي يلزم مراعاته عهدا ... و عهد فلان إلى فلان يعهد أي ألقى إليه العهد و أوصاه بحفظه ... و عهد اللّه تارة يكون بما ركزه في عقولنا، و تارة يكون بما أمرنا به بالكتاب و بألسنة رسله، و تارة بما نلتزمه و ليس بلازم في أصل الشرع كالنذور ما يجري مجراها.»
«1»

2- و في كتاب العين للخليل بن أحمد: «العهد: الوصيّة و التقدّم إلى صاحبك بشي‌ء و منه اشتق العهد الذي يكتب للولاة و يجمع على عهود. و قد عهد اللّه يعهد عهدا.

و العهد: الموثق و جمعه عهود ... و التعاهد: الاحتفاظ بالشي‌ء و إحداث العهد به و كذلك التعهّد و الاعتهاد ...» «2»

3- و في معجم مقاييس اللغة: «العين و الهاء و الدالّ، أصل هذا الباب عندنا دالّ على معنى واحد قد أومأ إليه الخليل. قال: أصله الاحتفاظ بالشي‌ء و إحداث العهد به. و الذي ذكره من الاحتفاظ هو المعنى الّذي يرجع إليه فروع الباب. فمن ذلك قولهم: عهد الرجل يَعهَدُ عهدا، و هو من الوصية. و إنّما سميّت بذلك لأنّ العهد ممّا ينبغي الاحتفاظ به.

و منه اشتقاق العهد الذي يكتب للولاء من الوصيّة، و جمعه عهود. و العهد: الموثق، و جمعه عهود ...» «3»

4- و في الصحاح: «العهد: الأمان و اليمين و الموثق و الذمّة و الحفاظ و الوصيّة. و قد عهدت إليه أي أوصيته، و منه اشتقّ العهد الذي يكتب للولاة. و تقول: عليّ عهد اللّه ...

______________________________
(1) المفردات/ 363.

(2) العين 1/ 102.

(3) مقاييس اللغة 4/ 167.

54
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الرد على الوجه الرابع ؛ ج‌1، ص : 52

..........

______________________________
و التعهّد: التحفّظ بالشي‌ء و تجديد العهد به.»
«1»

5- و في نهاية ابن الأثير: «و قد تكرّر ذكر العهد في الحديث و يكون بمعنى اليمين و الأمان و الذمّة و الحفاظ و رعاية الحرمة و الوصيّة، و لا تخرج الأحاديث الواردة فيه عن أحد هذه المعاني.» «2» و راجع القاموس و أقرب الموارد أيضا. «3»

أقول: الظاهر من عبارة النهاية تعدّد المعنى بنحو الاشتراك اللفظي، و لكن المترائى من أكثر الكتب رجوع الجميع إلى معنى واحد. و هل هذا المعنى الواحد هو الاحتفاظ المستمرّ ثم استعمل فيما من شأنه و حقّه أن يحتفظ فاستعير اللفظ الموضوع بإزاء اللازم للملزومات، أو بالعكس و أنّ اللفظ وضع للقرار المجعول مؤكّدا بداعي الاحتفاظ و الاستمرار ثمّ استعير لنفس الاحتفاظ؟ و جهان.

و كيف كان فالمستعمل فيه غالبا القرار الاعتباري المؤكّد الذي يكون عند العقلاء موضوعا للّزوم و وجوب الاحتفاظ. و يشمل هذا المفهوم الوصيّة و الأمان و الذمّة و الأمر و العهد المصطلح فقها و النذر و اليمين، و لكن أظهر مصاديقه عند الإطلاق القرار الواقع بين اثنين، و يعبّر عنه بالفارسية: «پيمان»، و يدخل في ذلك جميع العقود المصطلحة، فليس اللفظ مجملا مردّدا بين المعاني المختلفة بحيث لا يظهر المقصود منه.

فهل الآيات الكثيرة النازلة في شأن العهد كقوله- تعالى-: وَ أَوْفُوا بالْعَهْد إنَّ

______________________________
(1) صحاح اللغة 2/ 515.

(2) نهاية ابن الأثير 3/ 325.

(3) القاموس المحيط 1/ 331؛ و أقرب الموارد 2/ 842.

55
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الرد على الوجه الرابع ؛ ج‌1، ص : 52

..........

______________________________
الْعَهْدَ كٰانَ مَسْؤُلًا «1» و قوله: وَ الْمُوفُونَ بعَهْدهمْ إذٰا عٰاهَدُوا «2» و قوله: وَ الَّذينَ هُمْ لأَمٰانٰاتهمْ وَ عَهْدهمْ رٰاعُونَ+ «3» و قوله: بَلىٰ مَنْ أَوْفىٰ بعَهْده وَ اتَّقىٰ فَإنَّ اللّٰهَ يُحبُّ الْمُتَّقينَ «4» و قوله: فَأَتمُّوا إلَيْهمْ عَهْدَهُمْ إلىٰ مُدَّتهمْ «5» و قوله: الَّذينَ يُوفُونَ بعَهْد اللّٰه وَ لٰا يَنْقُضُونَ الْميثٰاقَ «6» و قوله: وَ أَوْفُوا بعَهْد اللّٰه إذٰا عٰاهَدْتُمْ «7» إلى غير ذلك من الآيات الشريفة، نزلت للقلقة الألسنة بها إلى يوم القيام من دون أن يفهم المقصود منها، أو أنّها نزلت لتخرج الناس من الظلمات إلى النور و تهديهم للتي هي أقوم؟ و هكذا قوله- تعالى-: يٰا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا أَوْفُوا بالْعُقُود «8» المفسّر في أخبار الفريقين بالعهود.

و الخطاب في الآيات القرآنية متوجّهة إلى الناس، و ألفاظها تحمل على المفاهيم العرفيّة: فكلّ ما يراه العرف تعهّدا و التزاما يشمله المطلقات. و من أوضح مصاديق العهود: العقود المصطلحة المنعقدة بين اثنين.

و بما ذكرنا يظهر إمكان التمسّك بآيات العهد و رواياته أيضا على صحة العقود‌

______________________________
(1) سورة الإسراء (17)، الآية 34.

(2) سورة البقرة (2)، الآية 177.

(3) سورة المؤمنون (23)، الآية 8؛ و سورة المعارج (70)، الآية 32.

(4) سورة آل عمران (3)، الآية 76.

(5) سورة التوبة (9)، الآية 4.

(6) سورة الرعد (13)، الآية 20.

(7) سورة النحل (16)، الآية 91.

(8) سورة المائدة (5)، الآية 1/

56
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الرد على الوجه الرابع ؛ ج‌1، ص : 52

..........

______________________________
و لزومها. و عدم معهودية تمسّك الفقهاء بها لا يدلّ على عدم الدلالة، فكم ترك الأوّلون للآخرين. و القرآن بحر واسع موّاج عميق يسبح فيها أفكار العلماء على اختلافهم إلى يوم القيام.

فإن قلت: إنّا نعلم من مذاق الشرع و ممّا ارتكز في أذهان المتشرعة عدم وجود إطلاق في أدلّة العناوين الثانويّة الطارئة من قبيل النذور و العهود و الأيمان و الشروط و الوعود بحيث تشمل بإطلاقها الأمور المحرّمة أيضا حتّى نحتاج في إخراجها إلى أدلّة خاصّة، بل أدلّتها بالذات قاصرة عن شمول المحرّمات و تكون ناظرة إلى الأمور المشروعة بالذات.

فهل ترى مثلا: أنّ قوله «ص»: «من كان يؤمن باللّه و اليوم الآخر فليف إذا وعد» «1» له إطلاق يشمل الوعود المحرّمة أيضا؟! أو أنّه من أوّل الأمر ينصرف إلى خصوص العدات المشروعة بالذات؟

لا مجال للاحتمال الأوّل. و لأجل ذلك لم يتمسّك أحد من الفقهاء بصحة العقود المشكوكة لزومها بآيات العهد و الوعد و رواياتها. إذ بعد انصرافها إلى الأمور المشروعة بالذات يكون التمسّك بها لصحّة الأمر المشكوك فيه من قبيل التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقية لنفسه.

قلت: إن كان الشكّ في مشروعيّة نفس العقد أو العهد مثلا بعد إحراز شرعيّة المتعلّق ذاتا فنقول: إنّ الموضوع في قوله: أَوْفُوا بالْعُقُود مثلا يحمل على المفهوم العرفي و اللام للاستغراق، و على هذا فبنفس هذا الدليل يثبت شرعية كلّ ما سمّي عقدا إلّا ما خرج بالدليل.

______________________________
(1) الكافى 2/ 364، كتاب الإيمان و الكفر، باب خلف الوعد، الحديث 2.

57
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الرد على الوجه الرابع ؛ ج‌1، ص : 52

..........

______________________________
و إن كان الشكّ في شرعيّة المتعلّق ذاتا مع قطع النظر عن تعلّق العقد به فنقول: نحن نسلّم انصراف الدليل عمّا إذا كان المتعلّق محرّما شرعا للعلم بأنّ المولى لا يريد هدم أساس تشريعاته بتنفيذ هذه العناوين الطارئة.

و لكن أوّلا: نفرض الكلام في المتعلقات المشروعة ذاتا و لا نريد تحليل المحرّمات الشرعيّة بهذه العناوين.

و ثانيا: أنّ كلّ فرد من المتعلّقات شكّ في حرمته ذاتا يتمسّك لنفي حرمته بأدلّة الحلّ فيرتفع المانع عن إجراء حكم العنوان العامّ عليه.

و ثالثا: أنّ المخصّص في المقام لبّي يقتصر فيه على صورة العلم بحرمة المتعلّق.

و رابعا: أنّه يمكن أن يقال: إنّ تعيين مصاديق المخصّص في المقام لمّا كان من وظائف الشارع لأنّه الحاكم بحرمة الشي‌ء و عدمها فيجوز في الفرد المشتبه التمسّك بالعامّ و يحرز بذلك عدم حرمته، إذ الحجة في ناحية العامّ تامّ من قبل الشارع و لم تتمّ من قبله في ناحية المخصّص إلّا بالنسبة إلى الأفراد المعلومة. و بالجملة يفترق هذا المقام عن سائر موارد الشبهة المصداقيّة للمخصّص حيث إنّ رفع الشبهة في المقام من وظائف الشارع.

و في الحقيقة كلّ محرّم مخصّص مستقلّ، فيدور الأمر بين قلّة التخصيص و كثرته، فتأمّل هذا.

و يظهر من الأستاذ الإمام في الخيارات ما محصّله: «أنّ بملاحظة تفسير العقود في الآية بالعهود تخرج العقود المصطلحة عنها غالبا، ضرورة أنّ البيع و الإجارة و نحوهما ليس فيها معنى العهدة و العهد و التعهّد لا مطابقة و هو واضح، و لا التزاما لما تقدّم من أنّ الفعل الاختياري لا يعقل أن يكون من المداليل الالتزاميّة. مضافا إلى وضوح أنّ البيع ليس إلّا‌

58
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

يرد على الوجه الخامس ؛ ج‌1، ص : 59

..........

______________________________
تبادل مال بمال. نعم في عقد الضمان و الكفالة التعهّد و الالتزام ثابت فيدخلان في عنوان العهود.

إلّا أنّ الأصحاب تمسّكوا بالآية لنفوذ العقود الاصطلاحيّة و لزومها. و التعبير بعقدة النكاح في الآيتين من القرآن أيضا شاهد لدخول مثل عقد النكاح في العقود، و الاعتبار فيه و في غيره سواء ...» «1»

أقول: البيع و الإجارة و أمثالهما و إن لم تتضمّن لمفهوم التعهّد و الالتزام مطابقة و بالحمل الأوّلي، لكن اعتبارها عند العقلاء و اعتمادهم عليها يكون بلحاظ الالتزام و التعهّد أعني تعهّد البائع مثلا بمفاد إيجابه و تعهّد المشتري بمفاد قبوله. فالتعهّد متحقّق في نفسهما مع الإنشاء الجدّي الصادر عنهما و ملازم معه، فيدلّ عليه دلالة أحد المتلازمين على الآخر، نظير دلالة المعلول على وجود علّته. و ليست الدلالة منحصرة في الدلالة اللفظية الوضعيّة المنقسمة إلى المطابقة و التضمن و الالتزام. و تسمية العقود المصطلحة بالعقد و العقدة لعلّها من جهة ربط أحد الالتزامين بالآخر اعتبارا فيوجد فيها عهدتان و عقدة بينهما، و بالجملة فيوجد فيها العهدة و العقدة معا. بل يمكن إطلاق العقد و العقدة على كلّ من التعهّدين أيضا بلحاظ شدّه و لزومه، و إن كان المصطلح إطلاقهما على ربط التعهّدين، فتأمّل.

[يرد على الوجه الخامس]

بقي الكلام على الإشكال الخامس الذي أورده في العوائد على الاستدلال بآية العقود. و محصّله أنّ لفظ العقد في الآية استعمل مجازا، و المجازات ممّا تتّسع دائرتها.

و أجاب عنه الأستاذ الإمام في بيعه «بمنع اتّساع دائرة الكلام مع المجازية لأن للمجازات‌

______________________________
(1) كتاب البيع للإمام الخمينى «ره» 4/ 14 و 15.

59
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

يرد على الوجه الخامس ؛ ج‌1، ص : 59

..........

______________________________
بواسطة القرائن ظهورات عرفيّة عقلائية و هي حجّة رافعة للاحتمالات المخالفة.»
«1»

و بعبارة أخرى: المكالمات و المخاطبات تقع للإفهام، فلا محالة من يستعمل المجازات و الاستعارات ينصب قرينة لفظية أو يعتمد على قرائن حاليّة ينسبق بسببها اللفظ إلى المعنى المقصود و يرتفع بها الإجمال، فتدبّر.

و قد طال البحث عن الآية الثالثة في المقام و مع ذلك لم نؤدّ حقّه فنحيل ذلك إلى وقت و مجال آخر.

______________________________
(1) نفس المصدر 1/ 73.

60
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الآية الرابعة آية إحلال البيع و تحريم الربا ؛ ج‌1، ص : 61

 

الآية الرابعة [آية إحلال البيع و تحريم الربا]

______________________________
قوله- تعالى- في سورة البقرة:
ذٰلكَ بأَنَّهُمْ قٰالُوا إنَّمَا الْبَيْعُ مثْلُ الرِّبٰا وَ أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبٰا. «1»

فربّما يستدلّ بها لصحّة كلّ ما يصدق عليه البيع بل للزومه أيضا إلّا فيما دلّ الدليل على خلاف ذلك.

[في ماهية البيع]

أقول: بيان ماهية البيع و شرح الآية بالتفصيل يأتي في أوّل البيع و في أوّل الخيارات إن بقيت الحياة و ساعد التوفيق. و نقول هنا إجمالا: إنّ البيع مبادلة عين بمال، أو السبب المنشأ به ذلك من القول أو الفعل، على الخلاف في إرادة السبب أو المسبّب.

و لا يخفى: أنّ ما يتحقّق عند إنشاء البيع أمور:

الأوّل: العقد المركّب من الإيجاب و القبول، أو التعاطي خارجا بقصد تحقّق المبادلة، و يقال له البيع السببي.

الثاني: مضمون ذلك أعني تبادل الإضافتين المتحقّق باعتبار الطرفين و إنشائهما، و يقال له البيع المسبّبي. و يعتبر أمرا باقيا في عالم الاعتبار ما لم يتعقّبه الفسخ من ذي الخيار أو الإقالة.

______________________________
(1) سورة البقرة (2)، الآية 275.

 

61
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

في المحكوم بالحلية في الآية ؛ ج‌1، ص : 62

..........

______________________________
الثالث: نتيجة المبادلة المذكورة أعني إضافة الملكيّة الحادثة بين المشتري و المبيع و بين البائع و الثمن.

الرابع: حصول الربح أحيانا للبائع مثلا بسبب هذه المعاملة.

الخامس: تصرّف كلّ من المتعاملين فيما انتقل إليه أو في الربح الحاصل بلحاظ الانتقال إليه و صيرورته مالكا لا مطلق التصرّف.

[في المحكوم بالحليّة في الآية]

إذا عرفت هذا فنقول: هل المحكوم بالحليّة في الآية الشريفة نفس العقد السببي أو المسببي، أو الملكيّة الحادثة التي هي نتيجة المبادلة، أو الربح الحاصل أحيانا، أو التصرّفات المترتّبة على الملكيّة الحادثة؟ فيه احتمالات. و كذا الكلام في قوله: وَ حَرَّمَ الرِّبٰا.

قال الأستاذ في بيعه ما محصّله: «الظاهر من صدر الآية و ذيلها أي قوله: فَلَهُ مٰا سَلَفَ و قوله: يَمْحَقُ اللّٰهُ الرِّبٰا هو التعرّض للربا الحاصل بالمعاملة لا نفس المعاملة الربويّة. فحينئذ يحتمل في قوله- تعالى-: ذٰلكَ بأَنَّهُمْ قٰالُوا إنَّمَا الْبَيْعُ مثْلُ الرِّبٰا أن يكون مرادهم بالمثليّة مماثلة الربح الحاصل بالبيع للزيادة الحاصلة بالمعاملة الربويّة، أو يكون مرادهم مماثلة البيع الذي فيه الربح للمعاملة الربويّة بنفسها.

فعلى الاحتمال الأوّل معنى قوله: وَ أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبٰا: أحلّ اللّه الربح الحاصل بالبيع و حرّم الزيادة الحاصلة بالمعاملة الربويّة. و مقتضى ذلك صحّة البيع قهرا، ضرورة أن تحليل نتيجة المعاملة ليس تحليلا مالكيا لأنّ عمل المتعاملين ليس إلّا تمليك الأعيان. و أمّا حلّية التصرّف في جميع المال أو في الربح فهي من أحكام الملكيّة المنشأة و تترتّب عليها قهرا، و ليست بإنشاء المالك لها. فتحليل اللّه- تعالى- للربح في البيع يدلّ على تنفيذه لمالكيّة المشتري للمبيع مثلا و ليس تحليلا تعبديّا مستقلا. و تنفيذ مالكيّة‌

62
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

في المحكوم بالحلية في الآية ؛ ج‌1، ص : 62

..........

______________________________
المشتري تنفيذ للسبب المحصّل لها. و بهذا البيان يمكن أن يستدل بالآية على بطلان المعاملة الربويّة أيضا.

و على الاحتمال الثاني يكون قوله: وَ أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبٰا بصدد دفع المماثلة بين نفس المعاملتين. و لا شبهة أيضا في دلالته على صحّة البيع سواء أريد به السبب أو المسبّب، بتقريب أنّ قوله هذا لردع توهّم المماثلة، و كانت دعواهم المماثلة لتصحيح أكل الربا فردعهم بأنّهما في ترتّب هذه النتيجة ليسا مثلين، حيث إنّ اللّه- تعالى- أحلّ البيع فتكون نتيجته الحاصلة حلالا، و حرّم الربا فنتيجته حرام. و لازم ذلك صحّة هذا و فساد ذاك.

ثمّ إنّ المراد بالحليّة و الحرمة التكليفيّتان على الاحتمال الأول، و تحتمل التكليفيّة على الاحتمال الثاني و إن كان الأظهر هو الوضعية لأنّ الحلّ و الحرمة إذا نسبا إلى الأسباب التي يتوصّل بها إلى شي‌ء آخر، بل إلى مسببات يتوصّل بها إلى النتائج يكونان ظاهرين في الحكم الوضعي لا بمعنى استعمالهما في الحكم الوضعي أو التكليفي كما يتخيّل، بل بمعنى استعمالهما في معناهما اللغوي أي المنع و عدمه و إنّما يفهم التكليف و الوضع بمناسبات الحكم و الموضوع ...» «1»

أقول: إرجاع الإحلال و التحريم في الآية الشريفة إلى التصرّفات في العين أو في الربح الحاصل كما صنعه أوّلا يوهم حملهما على التكليفيّتين بداعي الكناية عن الصحّة و الفساد. و لكن هذا الطريق تبعيد للمسافة بلا وجه و مخالف لظاهر الآية أيضا، إذ ليس المتعلّق لقوله: أحلّ و حرّم التصرّفات أو نتيجة المعاملتين، بل نفس البيع و الربا،

______________________________
(1) كتاب البيع للإمام الخمينى «ره» 1/ 55- 58.

63
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

في المحكوم بالحلية في الآية ؛ ج‌1، ص : 62

..........

______________________________
و الظاهر منهما نفس المعاملتين. و التقدير خلاف الأصل. فالظاهر- كما التفت إليه هو أخيرا- أنّ المقصود من الحلّ و الحرمة هنا الوضعيّتان منهما أعني الصحّة و الفساد.

و استعمال اللفظين في خصوص التكليف و تبادره منهما إنما حدث في ألسنة الفقهاء و المتشرعة. و أمّا في الكتاب و السنة فكانا يستعملان في المعنى الجامع للتكليف و الوضع و يتعين كلّ منهما بحسب الموضوع و القرائن. فكان يراد بحلّية الشي‌ء: إطلاقه و عدم المنع بالنسبة إليه من ناحية الشرع، و بحرمة الشي‌ء: المنع و المحدوديّة من ناحيته. و إطلاق كلّ شي‌ء و محدوديّته يلاحظان بحسب ما يراد و يترقب من الشي‌ء. فالمقصود من إحلال البيع: صحّته و نفوذه شرعا، و من تحريم الربا: فساده و عدم نفوذه.

و من هذا القبيل أيضا قوله- تعالى-: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهٰاتُكُمْ وَ بَنٰاتُكُمْ إلى قوله:

وَ أُحلَّ لَكُمْ مٰا وَرٰاءَ ذٰلكُمْ. «1» إذ الظاهر منهما إرادة فساد النكاح و صحّته لا حرمة الوطي و حلّيته كما قيل.

و قد ترى استعمال اللفظين في الوضع في روايات أجزاء الصلاة و شرائطها كقوله «ع» في صحيحة محمّد بن عبد الجبّار: «لا تحلّ الصلاة في حرير محض.» «2»

و قوله «ع» في معتبرة أبي بصير قال: سألت أبا عبد اللّه «ع» عن المريض هل تمسك المرأة شيئا فيسجد عليه؟ فقال: «لا إلّا أن يكون مضطرّا ليس عنده غيرها. و ليس شي‌ء ممّا حرّم اللّه إلّا و قد أحلّه لمن اضطرّ إليه.» «3»

______________________________
(1) سورة النساء (4)، الآيتان 23 و 24.

(2) الوسائل 3/ 267، كتاب الصلاة، الباب 11 من أبواب لباس المصلّى، الحديث 2.

(3) الوسائل 4/ 690، كتاب الصلاة، الباب 1 من أبواب القيام، الحديث 7.

64
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

المناقشة في كلام الشيخ الأعظم ؛ ج‌1، ص : 65

..........

______________________________
و في رواية سماعة قال: سألته عن الرجل يكون في عينيه الماء فينتزع الماء منها فيستلقي على ظهره الأيّام الكثيرة: أربعين يوما أو أقل أو أكثر، فيمتنع من الصلاة الأيّام إلّا إيماء و هو على حاله؟ فقال: «لا بأس بذلك، و ليس شي‌ء ممّا حرّم اللّه إلّا و قد أحلّه لمن اضطرّ إليه.»
«1»

و نظير عنواني الحلّ و الحرمة فيما ذكرنا عناوين الجواز و الوجوب و الفرض و المنع و الرخصة و نحوها، بل مطلق الأمر و النهي، فتعمّ التكليف و الوضع و يتعيّن كلّ منهما بمناسبة الحكم و الموضوع و القرائن الحاليّة و المقاليّة. و يأتي تفصيل لذلك في شرح رواية تحف العقول الآتية و بعض المباحث الأخر.

[المناقشة في كلام الشيخ الأعظم]

و بما ذكرنا يظهر المناقشة في كلام الشيخ الأعظم «ره» في أوّل الخيارات، فإنّه بعد ما حكم باستفادة اللزوم من قوله- تعالى-: أَوْفُوا بالْعُقُود و أنّ المستفاد منه ليس إلّا حكما تكليفيّا يستلزم حكما وضعيّا قال: «و من ذلك يظهر الوجه في دلالة قوله- تعالى-: أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ على اللزوم فإنّ حليّة البيع التي لا يراد منها إلّا حلّية جميع التصرّفات المترتبة عليه التي منها ما يقع بعد فسخ أحد المتبايعين بغير رضاء الآخر مستلزمة لعدم تأثير ذلك الفسخ و كونه لغوا غير مؤثّر.» «2»

أقول: قد مرّ أنّ الإحلال في الآية لم يتعلّق بالتصرّفات بل بنفس عنوان البيع فأريد منه الوضع أعني صحّته و ترتيب الآثار عليه. و يشكل دلالته على اللزوم، و تقريب الشيخ لذلك قابل للمناقشة. و الشيخ قد تكلّف فيما ذكره جريا على مبناه من عدم صلاحيّة‌

______________________________
(1) الوسائل 4/ 690، كتاب الصلاة، الباب 1 من أبواب القيام، الحديث 6.

(2) المكاسب للشيخ/ 215، القول في الخيار و أقسامه و أحكامه.

65
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

في ثبوت الإطلاق للآية و عدمه ؛ ج‌1، ص : 66

..........

______________________________
الأحكام الوضعيّة للجعل و التشريع و أنّها تنتزع دائما من الأحكام التكليفيّة. و نحن نمنع هذا المبنى، و الجعل و التشريع خفيف المؤونة.

و كيف كان فالآية تدلّ على صحّة البيع إجمالا إمّا بالمباشرة كما اخترناه أو بنحو الكناية كما في كلام الشيخ و غيره.

[في ثبوت الإطلاق للآية و عدمه]

و لكن لا يخفى أنّ ثبوت الإطلاق لها بنحو يتمسّك بها في موارد الشكّ يتوقّف على كونها في مقام بيان شرعيّة البيع بنحو الإطلاق إمّا بنحو الإنشاء مطلقا أو بنحو الإخبار عن التشريع المطلق، و كلاهما قابلان للمنع.

قال الأستاذ الإمام «ره» في المقام ما محصّله: «ثمّ إن في إطلاق الآية إشكالا:

أمّا أوّلا: فلأنّ الظاهر أنّها ليست في مقام تشريع حلّية البيع و حرمة الربا، بل بصدد نفي التسوية بينهما في قبال من قال: إنَّمَا الْبَيْعُ مثْلُ الرِّبٰا فتكون في مقام بيان حكم آخر.

و أمّا ثانيا: فلأنّ الظاهر منها كونها إخبارا عن حكم شرعي سابق لا إنشاء فعليا للحلّ و الحرمة بقرينة قوله: الَّذينَ يَأْكُلُونَ الرِّبٰا لٰا يَقُومُونَ إلّٰا كَمٰا يَقُومُ الَّذي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطٰانُ منَ الْمَسِّ ذٰلكَ بأَنَّهُمْ قٰالُوا: إنَّمَا الْبَيْعُ مثْلُ الرِّبٰا. «1» فلا بدّ و أن يكون حكم البيع و الربا مجعولا سابقا حتى يتوجّه التعيير و التوعيد على القائل بالتسوية.

فظاهر الآية: أنّ الذين يأكلون الربا لا يقومون إلّا كذا لأجل قولهم خلاف قوله- تعالى- حيث قالوا: إنَّمَا الْبَيْعُ مثْلُ الرِّبٰا مع أنّ اللّه أحلّ البيع و حرّم الربا. فقولهم‌

______________________________
(1) سورة البقرة (2)، الآية 275.

66
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

في ثبوت الإطلاق للآية و عدمه ؛ ج‌1، ص : 66

..........

______________________________
هذا صار موجبا للعذاب و العقاب الأخروي فلا تكون الآية بصدد بيان الحلّ و الحرمة، بل بصدد الإخبار عن حلّية و حرمة سابقتين فلا إطلاق لها لاحتمال أن يكون الحكم المجعول سابقا بنحو خاصّ فلا يظهر حال المجعول هل كان مطلقا أو مقيّدا.

و يمكن الذبّ عنهما بأنّ قوله- تعالى-: ذٰلكَ بأَنَّهُمْ قٰالُوا إخبار عن قولهم فلا بدّ و أن يكون قولهم: الْبَيْعُ مثْلُ الرِّبٰا من غير تقييد صونا لكلامه- تعالى- عن الكذب. فحينئذ يكون إخبار اللّه- تعالى- بأنّ اللّه أحلّ البيع و حرّم الربا موافقا لقولهم موضوعا، فيكون إخبارا بتحليله مطلق البيع و تحريمه مطلق الربا، تأمّل.» «1»

ثم ذكر في الحاشية وجها للتأمّل الأخير فقال: «وجهه أنّ قولهم: «إن البيع مثل الربا» أيضا في مقام بيان التسوية فلا إطلاق له، مع إمكان أن يقال: إنّ الظاهر من الآية صدرا و ذيلا أنّها بصدد بيان تحريم الربا لا تحليل البيع لأنّ تحليله لم يكن محطّ كلامهم فلا إطلاق فيه من هذه الجهة.» «2»

أقول: دلالة الآية على صحّة البيع إجمالا ممّا لا إشكال فيها، و لكن الإنصاف ورود الإشكالات المذكورة، فلا إطلاق لها حتى يتمسّك به لصحّة البيوع المشكوكة و شروطها و خصوصيّاتها شرعا. إلّا أن يقال بما أشرنا إليه سابقا من عدم الاحتياج في صحّة المعاملات و خصوصيّاتها إلى جعل الشارع و بيانه و لو إمضاء و أنّه يكفي فيها بناء العقلاء و سيرتهم في جميع الأقوام و الأمم ما لم يصل ردع من الشارع نظير ما وصل منه في الربا و القمار و بيع الغرر، فتدبّر.

______________________________
(1) كتاب البيع للإمام الخمينى «ره» 1/ 59 و 61.

(2) نفس المصدر 1/ 61.

67
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

المراد بالعقوبة في الآية ؛ ج‌1، ص : 68

[المراد بالعقوبة في الآية]

______________________________
ثمّ لا يخفى أنّ حمل الأستاذ «ره» القيام المذكور في الآية على العقوبة الأخرويّة و أنّ أكلة الربا يقومون في القيامة قيام من صرعه الشيطان و مسّه أمر ذكره أكثر المفسرين أخذا من بعض الأخبار الواردة.

و لكن من المحتمل أن يكون المقصود من القيام في الآية قيامهم في مسير الحياة و التفكّر في النظام الاقتصادي و كونه على سبيل الانحراف و التعدّي عن الطريق المعتدل، حيث لم يتوجّهوا إلى أنّ الأثمان و النقود وسائل و آلات للمبادلات الاقتصاديّة النافعة و ليست بنفسها أهدافا. و الأصل في المبادلات جلب الأمتعة التي يحتاج إليها المجتمعات من البلاد النائية و حفظها و توزيعها على الوجه الصحيح، و إنّما جاز الاسترباح فيها عوضا عمّا يتحمّله التجار من المشقّات و تشويقا لهم في الإقدام على ذلك، و هو المراد بقوله: أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ. فترك هؤلاء التوليدات و التجارات النافعة و صرفوا همهم في تكثير النقود و الأثمان و جعلوها مقصودة بالذات و قاسوا عملهم الانحرافي بالبيوع و التجارات النافعة، فهذا فكر انحرافي خارج عن الاعتدال يقوم به أكلة الربا في مسير الحياة و قد ولهوا في عملهم هذا و أولعوا به بحيث يشبه حركاتهم و أعمالهم في هذه النشأة حركات المصروعين و السكارى. نعم يمكن أن يكون قيامهم في الآخرة أيضا كذلك، إذ الحشر في القيامة يقع على وفق الملكات التي حصّلها الأفراد في هذه النشأة:

و لتحقيق هذا المعنى مقام آخر. هذا.

و إلى هنا تعرضنا لأربع آيات شريفة من الكتاب العزيز بعنوان الضابطة للمكاسب.

فلنشرع في شرح الروايات التي تعرّض لها الشيخ الأعظم في المقام و هي أيضا أربع روايات:

68
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الروايات المربوطة بالمكاسب ؛ ج‌1، ص : 69

 

[الروايات المربوطة بالمكاسب]

فنقول- مستعينا باللّه تعالى- (1): روى في الوسائل و الحدائق عن الحسن بن علي بن شعبة في كتاب تحف العقول عن مولانا الصادق- صلوات اللّه و سلامه عليه- حيث سئل عن معايش العباد فقال:

الرواية الأولى [رواية تحف العقول]

______________________________
(1) ذكر المصنّف بعنوان الضابطة أربع روايات: رواية تحف العقول، و عبارة فقه الرضا، و رواية عن دعائم الإسلام، و رواية نبويّة عامّية:

فالرواية الأولى: ما في تحف العقول عن الصادق «ع»، و هي رواية طويلة جامعة رواها المصنّف عن الوسائل و الحدائق. و لكن المتن الموجود فيهما و كذا في المكاسب يختلف جدّا عمّا في تحف العقول بحيث يتغيّر به المعنى في بعض الموارد. و كأنّهما كانا بصدد تلخيص الرواية و تهذيبها، و لعلّه أخذ أحدهما من الآخر.

نعم في البحار و كذا في جامع أحاديث الشيعة روياها بتمامها، فراجع. «1» و الأولى نقلها من نفس المصدر. و من أراد ما في الكتابين فليراجع إليهما.

______________________________
(1) الوسائل 12/ 54، كتاب التجارة، الباب 2 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1؛ و 13/ 242، الباب 1 من كتاب الإجارة، الحديث 1؛ و الحدائق 18/ 67، كتاب التجارة، المقدمة الثالثة؛ و بحار الأنوار 100/ 44

 

69
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الرواية الأولى رواية تحف العقول ؛ ج‌1، ص : 69

جميع المعايش كلها من وجوه المعاملات فيما بينهم ممّا يكون لهم فيه المكاسب أربع جهات، و يكون فيها حلال من جهة و حرام من جهة.

فأوّل هذه الجهات الأربع الولاية ثمّ التّجارة ثمّ الصّناعات ثمّ الإجارات و الفرض من اللّه تعالى على العباد في هذه المعاملات الدّخول في جهات الحلال و العمل بذلك و اجتناب جهات الحرام منها.

______________________________
ففي تحف العقول المطبوع أخيرا بتصدّي جماعة المدرّسين
«1» في عداد ما روى عن الصادق «ع» قال: «سأله سائل فقال: كم جهات معايش العباد [1] التي فيها الاكتساب [أ] و التعامل بينهم و وجوه النفقات؟ فقال- عليه السلام-: جميع المعايش كلّها من وجوه المعاملات [2] فيما بينهم ممّا يكون لهم فيه المكاسب [3] أربع جهات من المعاملات.

______________________________
[1] الظاهر أنّ المراد بمعايش العباد ما يقوم به حياتهم و تعيّشهم، و يطلق على الأسباب القريبة له كالمأكول و المشروب و الملبوس و نحوها، و على البعيدة منها أعني أسباب تحصيل القريبة منها من الصناعات و العقود و نحوها. و هي المقصودة في الحديث.

[2] الظاهر أنّ المقصود بالمعاملة في الرواية معناها الأعمّ، و لذا عدّ من مصاديقها الصناعات و الحرف. فأريد بها مطلق الأعمال المتعارفة في قبال الأعمال العبادية، فتأمّل.

[3] جمع المكسب مصدر ميمى بمعنى الكسب. و يحتمل بدوا أن يكون اسم مكان فيراد به ما يقع عليه الكسب من العوض و المعوّض، و لكن الظاهر عدم جريان هذا الاحتمال في عبارة الحديث.

______________________________
- (ط. إيران 103/ 44)، كتاب العقود و الإيقاعات، الباب 4 من أبواب المكاسب؛ و جامع أحاديث الشيعة 17/ 145، الباب 1 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 15.

(1) تحف العقول/ 331.

70
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

تفسير معنى الولايات ؛ ج‌1، ص : 71

[تفسير معنى الولايات]

فاحدى الجهتين من الولاية ولاية ولاة العدل الّذين أمر اللّه بولايتهم على النّاس. و الجهة الأخرى ولاية ولاة الجور.

______________________________
فقال: أ كل هؤلاء الأربعة الأجناس حلال، أو كلّها حرام، أو بعضها حلال و بعضها حرام؟ فقال «ع»: قد يكون في هؤلاء الأجناس الأربعة حلال من جهة و حرام من جهة.

و هذه الأجناس مسمّيات معروفات الجهات.

فأوّل هذه الجهات الأربعة: الولاية و تولية بعضهم على بعض. فالأوّل ولاية الولاة و ولاة الولاة إلى أدناهم بابا من أبواب الولاية على من هو وال عليه. ثم التجارة في جميع البيع و الشراء بعضهم من بعض. ثم الصناعات في جميع صنوفها، ثم الإجارات في كلّ ما يحتاج إليه من الإجارات.

و كلّ هذه الصنوف تكون حلالا من جهة و حراما من جهة. و الفرض من اللّه- تعالى- على العباد في هذه المعاملات الدخول في جهات الحلال منها و العمل بذلك الحلال و اجتناب جهات الحرام منها.

تفسير معنى الولايات

و هي جهتان: فإحدى الجهتين من الولاية ولاية ولاة العدل الذين أمر اللّه بولايتهم و توليتهم على الناس، و ولاية ولاته و إلى أدناهم بابا من أبواب الولاية على من هو وال عليه.

و الجهة الأخرى من الولاية ولاية ولاة الجور و ولاة ولاته إلى أدناهم بابا من الأبواب التي هو وال عليه.

71
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

تفسير معنى الولايات ؛ ج‌1، ص : 71

فوجه الحلال من الولاية ولاية الوالي العادل و ولاية ولاته بجهة ما أمر به الوالي العادل بلا زيادة و نقيصة. فالولاية له و العمل معه و معونته و تقويته حلال محلّل.

______________________________
فوجه الحلال من الولاية ولاية الوالي العادل الذي أمر اللّه بمعرفته و ولايته و العمل له في ولايته، و ولاية ولاته و ولاة ولاته بجهة ما أمر اللّه به الوالي العادل بلا زيادة فيما أنزل اللّه به و لا نقصان منه [1]. و لا تحريف لقوله و لا تعدّ لأمره إلى غيره.

فإذا صار الوالي والي عدل بهذه الجهة فالولاية له و العمل معه و معونته في ولايته و تقويته حلال محلّل و حلال الكسب معهم. و ذلك أنّ في ولاية والي العدل و ولاته إحياء حقّ و كلّ عدل، و إماتة كلّ ظلم و جور و فساد، فلذلك كان السّاعي في تقوية سلطانه و المعين له على ولايته ساعيا إلى طاعة اللّه مقوّيا لدينه.

______________________________
[1] الظاهر من الحديث أنّ الوالي يجب أن يكون أساس ولايته و حكمه ما أمره اللّه به من الأحكام، و أنّ الولاة من قبله يكون ولايتهم في إطار ما أنزل اللّه و في جهته، فليس لهم الزيادة فيما أنزل اللّه و لا النقص منه و لا التحريف لقول اللّه أو لقول الوالي المبتني على ما أمره اللّه به.

و قد قال اللّه- تعالى- مخاطبا لنبيه الأكرم «ص»: وَ أَن احْكُمْ بَيْنَهُمْ بمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ «1».

و أمّا على ما في المكاسب من تلخيص العبارة تبعا للوسائل و الحدائق فيفهم منه أنّ الولاة من قبل الوالي الأعظم ليس لهم الزيادة و النقصان فيما أمر به الوالي الأعظم من دون إشارة إلى كونه على أساس ما أمر اللّه به. و لا يخفى أنّ بين الأمرين بونا بعيدا.

______________________________
(1) سورة المائدة (5)، الآية 49.

72
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

تفسير معنى الولايات ؛ ج‌1، ص : 71

و أمّا وجه الحرام من الولاية فولاية الوالي الجائر و ولاية ولاته فالعمل لهم و الكسب لهم بجهة الولاية معهم حرام محرّم معذّب فاعل ذلك على قليل من فعله أو كثير لأنّ كلّ شي‌ء من جهة المعونة له معصية كبيرة من الكبائر و ذلك أنّ في ولاية والي الجائر دروس [دوس] (1) الحقّ كلّه و إحياء الباطل كلّه و إظهار الظّلم و الجور و الفساد و إبطال الكتب و قتل الأنبياء و هدم المساجد و تبديل سنّة اللّه و شرائعه فلذلك حرم العمل مَعَهم و معُونتهم و الكسب معهم إلّا بجهة الضّرورة نظير الضّرورة إلى الدّم و الميتة. (2)

______________________________
و أمّا وجه الحرام من الولاية فولاية الوالي الجائر و ولاية ولاته: الرئيس منهم و اتباع الوالي فمن دونه من ولاة الولاة إلى أدناهم بابا من أبواب الولاية على من هو وال عليه.

و العمل لهم و الكسب معهم بجهة الولاية لهم حرام و محرّم، معذّب من فعل ذلك على قليل من فعله أو كثير. لأنّ كلّ شي‌ء من جهة المعونة معصية كبيرة من الكبائر.

و ذلك أنّ في ولاية الوالي الجائر دوس الحقّ كلّه، و إحياء الباطل كلّه و إظهار الظلم و الجور و الفساد، و إبطال الكتب و قتل الأنبياء و المؤمنين و هدم المساجد و تبديل سنّة اللّه و شرائعه. فلذلك حرم العمل معهم و معونتهم و الكسب معهم إلّا بجهة الضرورة نظير الضرورة إلى الدم و الميتة.

(1) من داس الشي‌ء أي وطئه برجله، فيكون كناية عن إذلال الحقّ. و في البحار و الوسائل: «دروس الحقّ».

(2) الظاهر أنّه يراد بالاستثناء الجواز و الحلّية حتى بالنسبة إلى الوضع أيضا، فيتملّك الأجرة المأخوذة في قبالها.

73
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

تفسير التجارات ؛ ج‌1، ص : 74

[تفسير التّجارات]

و أمّا تفسير التّجارات في جميع البيوع و وجوه الحلال من وجه التّجارات الّتي يجوز للبائع أن يبيع ممّا لا يجوز له و كذلك المشتري الّذي يجوز له شراؤه ممّا لا يجوز فكلّ مأمور به ممّا هو غذاء للعباد و قوامهم به في أمورهم في وجوه الصلاح الذي لا يقيمهم غيره ممّا يأكلون و يشربون و يلبسون و ينكحون و يملكون و يستعملون من جميع المنافع الّتي لا يقيمهم غيرها و كلّ شي‌ء يكون لهم فيه الصّلاح من جهة من الجهات فهذا كلّه حلال بيعه و شراؤه و امساكه و استعماله و هبته و عاريته.

______________________________
و أمّا تفسير التجارات

في جميع البيوع و وجوه الحلال من وجه التجارات التي يجوز للبائع أن يبيع ممّا لا يجوز له [1] و كذلك المشتري الذي يجوز له شراؤه ممّا لا يجوز له، فكلّ مأمور به ممّا هو غذاء للعباد و قوامهم به في أمورهم في وجوه الصلاح [2] الذي لا يقيمهم غيره ممّا يأكلون و يشربون و يلبسون و ينكحون و يملكون و يستعملون من جهة ملكهم، و يجوز لهم الاستعمال له من جميع جهات المنافع التي لا يقيمهم غيرها من كلّ شي‌ء يكون لهم فيه الصلاح من جهة من الجهات. فهذا كلّه حلال بيعه و شراؤه و إمساكه و استعماله و هبته و عاريته.

______________________________
[1] الظاهر أنّه متعلّق بالتفسير لتضمّنه معنى التمييز.

[2] الظاهر أنّ المراد بوجه الصلاح في الحديث ما لا فساد فيه سواء كان واجبا مأمورا به أو كان مباحا مرخّصا فيه و إن لم يصل إلى حدّ الضرورة و الوجوب. و التعبير بالمأمور به من جهة وجوبه الكفائي عند الضرورة.

74
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

تفسير التجارات ؛ ج‌1، ص : 74

و أمّا وجوه الحرام من البيع و الشّراء فكلّ أمر يكون فيه الفساد ممّا هو منهيّ عنه من جهة أكله و شربه أو كسبه أو نكاحه أو ملكه أو إمساكه أو هبته أو عاريته أو شي‌ء يكون فيه وجه من وجوه الفساد نظير البيع بالرّبا أو بيع الميتة

______________________________
و أمّا وجوه الحرام من البيع و الشراء فكلّ أمر يكون فيه الفساد ممّا هو منهيّ عنه من جهة أكله و شربه أو كسبه أو نكاحه أو ملكه أو إمساكه أو هبته أو عاريته، أو شي‌ء يكون فيه وجه من وجوه الفساد نظير البيع بالربا لما في ذلك من الفساد. أو البيع‌

______________________________
و في حاشية الوسائل من المصنف قال: «قد تضمّن الحديث حصر المباح في المأمور به و المنافع التي لا بدّ منها، و حصر الحرام في المنهي عنه و ما فيه الفساد. فلا دلالة له على أصالة الإباحة و لا أصالة التحريم، فتبقى بقية المنافع و الأفراد التي لا يعلم دخولها في أحد الطرفين و يحتاج إلى نصّ آخر، فإن لم يكن فالاحتياط.» «1»

[1] يظهر منه أنّ الشي‌ء إن كان مشتملا على وجه من وجوه الفساد لم يجز المعاملة عليه و إن كان واجدا لوجوه الصلاح أيضا. و هذا ممّا لا يمكن الالتزام به، إذ الواجد للمنافع المحلّلة المقصودة عند العقلاء يكون مالا عرفا و شرعا فتصحّ المعاملة عليه بلحاظ المنافع المحلّلة.

اللّهم إلّا أن يكون المقصود في الحديث صورة المعاملة عليه بقصد منافعه المحرّمة فيمكن القول ببطلانها حينئذ، و يأتي التفصيل لذلك في مسألة بيع العنب بقصد صنعه خمرا.

و يحتمل أن يكون «أو شي‌ء» مجرورا عطفا على قوله «عاريته»، فيراد به معاملة يوجد فيها الفساد، فيكون قوله: «نظير البيع بالربا» مثالا له.

[2] يظهر منه أنّ المقصود ممّا فيه الفساد هو الأعمّ ممّا كان الفساد في المعاملة كالبيع بالربا أو في نفس المبيع كبيع الميتة و الدّم و نحوهما.

______________________________
(1) الوسائل 12/ 54، الباب 2 من أبواب ما يكتسب به.

75
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

تفسير التجارات ؛ ج‌1، ص : 74

أو الدّم أو لحم الخنزير أو لحوم السّباع من صنوف سباع الوحش أو الطّير أو جلودها أو الخمر أو شي‌ء من وجوه النّجس فهذا كلّه حرام محرّم لأنّ ذلك كلّه منهيّ عن أكله و شربه و لبسه و ملكه و إمساكه و التّقلب فيه فجميع تقلّبه في ذلك حرام كذلك كلّ مبيع ملهوّ به

______________________________
للميتة أو الدّم أو لحم الخنزير أو لحوم السباع من صنوف سباع الوحش أو الطير أو جلودها أو الخمر أو شي‌ء من وجوه النجس. فهذا كلّه حرام و محرّم.

لأنّ ذلك كلّه منهيّ عن أكله و شربه و لبسه و ملكه و إمساكه و التقلّب فيه بوجه من الوجوه لما فيه من الفساد. فجميع تقلّبه في ذلك حرام. و كذلك كلّ بيع ملهوّ به.

______________________________
[1] عطف جلود السباع على لحومها و عدّها ممّا يحرم بيعها مع أنّ الظاهر جواز لبسها مع التذكية في غير حال الصلاة فيجوز بيعها لذلك، إمّا أن يحمل على صورة عدم التذكية، أو على بيعها بقصد الصلاة فيها بناء على حرمة ذلك حينئذ، أو على ما إذا لم يتعارف لبسها بحيث صارت بلا منفعة معتدّ بها، أو على منع طهارتها بالصيد بمنع إطلاق لأدلّته و المفروض كونها من سباع الوحش فلا يمكن ذبحها.

هذا و لكن الظاهر جواز صيدها بالآلة الجماديّة لموثّقة سماعة، قال: سألته عن جلود السباع أ ينتفع بها؟ فقال: «إذا رميت و سمّيت فانتفع بجلده و أمّا الميتة فلا.» «1» نعم يمكن منع جواز صيدها بالكلاب، فراجع الجواهر. «2»

[2] استعمل المصدر بمعنى المفعول، أو وقع في العبارة تصحيف كما لا يخفى.

______________________________
(1) الوسائل 16/ 368، الباب 34 من كتاب الأطعمة و الأشربة، الحديث 4.

(2) الجواهر 36/ 54، كتاب الصيد و الذباحة.

76
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

تفسير الإجارات ؛ ج‌1، ص : 77

و كلّ منهيّ عنه ممّا يتقرّب به لغير اللّه- عزّ و جلّ- أو يقوى به الكفر و الشّرك في جميع وجوه المعاصي أو باب يوهن به الحقّ فهو حرام محرّم بيعه و شراؤه و إمساكه و ملكه و هبته و عاريته و جميع التّقلّب فيه إلّا في حال تدعو الضرورة فيه إلى ذلك.

[تفسير الإجارات]

و أمّا تفسير الإجارات فإجارة الإنسان نفسه أو ما يملك أو يلي أمره من قرابته أو دابّته أو ثوبه بوجه الحلال من جهات الإجارات أن يوجر

______________________________
و كلّ منهي عنه ممّا يتقرّب به لغير اللّه، أو يقوّى به الكفر و الشرك من جميع وجوه المعاصي، أو باب من الأبواب يقوّى به باب من أبواب الضلالة، أو باب من أبواب الباطل، أو باب يوهن به الحقّ فهو حرام محرّم. حرام بيعه و شراؤه و إمساكه [1] و ملكه و هبته و عاريته و جميع التقلّب فيه إلّا في حال تدعو الضرورة فيه إلى ذلك.

و أمّا تفسير الإجارات

فإجارة الإنسان نفسه أو ما يملك أو يلي أمره من قرابته أو دابّته أو ثوبه بوجه‌

______________________________
[1] يظهر من الرواية حرمة إمساك الأصنام و الصلبان في المتاحف و إن كان لها قيمة عند أهل الدنيا، بل يجب كسرها و إفناؤها كما صنع رسول اللّه «ص» بأصنام الكعبة، و موسى «ع» بالعجل الذي صنعه السّامريّ. فأمثال هذه الأمور لما كانت من جذور الفساد و الانحراف وجب إفناؤها، فتأمّل.

77
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

تفسير الإجارات ؛ ج‌1، ص : 77

نفسه أو داره أو أرضه أو شيئا يملكه فيما ينتفع به من وجوه المنافع أو العمل بنفسه و ولده و مملوكه و أجيره من غير أن يكون وكيلا للوالي أو واليا للوالي فلا بأس أن يكون أجيرا يوجر نفسه أو ولده أو قرابته أو ملكه أو وكيله في إجارته لأنّهم وكلاء الأجير من عنده ليس هم بولاة الوالي نظير الحمّال الّذي يحمل شيئا معلوما بشي‌ء معلوم فيجعل ذلك الشي‌ء الّذي يجوز له حمله بنفسه أو بملكه أو دابّته أو يوجر نفسه في عمل يعمل ذلك بنفسه أو بمملوكه أو قرابته أو بأجير من قبله فهذه

______________________________
الحلال من جهات الإجارات: أن يوجر نفسه أو داره أو أرضه او شيئا يملكه فيما ينتفع به من وجوه المنافع، أو العمل بنفسه [1] و ولده و مملوكه أو أجيره من غير أن يكون وكيلا للوالي أو واليا للوالي فلا بأس أن يكون أجيرا يوجر نفسه أو ولده أو قرابته [2] أو ملكه أو وكيله في إجارته [3] لأنّهم وكلاء الأجير من عنده، ليس هم بولاة الوالي،

______________________________
[1] يحتمل أن يراد به الجعالة أو العمل بالإذن بدون عقد الإجارة أو الجعالة فيستحقّ به أجرة المثل.

[2] لعلّ المراد بالقرابة المذكورة بعد الولد أقرباؤه الصغار إذا كانوا تحت قيمومته الشرعيّة.

[3] يحتمل أن يكون معطوفا على قوله: «أجيرا» أي لا بأس أن يكون أجيرا يوجر نفسه ... أو وكيلا للأجير في أن يؤجره. و يمكن أن يراد به أجير الأجير الذي يعدّ وكيلا له في أعماله كائنا في إجارته بنحو الإطلاق فيوجره لذلك. و يشهد لذلك قوله بعد ذلك:

«لأنّهم وكلاء الأجير من عنده».

78
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

تفسير الإجارات ؛ ج‌1، ص : 77

وجوه من وجوه الإجارات حلال لمن كان من النّاس ملكا أو سوقة أو كافرا أو مؤمنا فحلال إجارته و حلال كسبه من هذه الوجوه.

فأمّا وجوه الحرام من وجوه الإجارة نظيران يؤاجر نفسه على حمل ما يحرم أكله أو شربه أو يؤاجر نفسه في صنعة ذلك الشي‌ء أو حفظه أو يؤاجر نفسه في هدم المساجد ضرارا أو قتل النّفس بغير حقّ أو عمل التّصاوير و الأصنام و المزامير و البرابط و الخمر و الخنازير و الميتة و الدّم أو شي‌ء من وجوه الفساد الّذي كان محرّما عليه من غير جهة الإجارة فيه

______________________________
نظير الحمّال الذي يحمل شيئا بشي‌ء معلوم إلى موضع معلوم، فيحمل ذلك الشي‌ء الذي يجوز له حمله بنفسه أو بملكه أو دابّته. أو يؤاجر نفسه في عمل يعمل ذلك العمل بنفسه أو بمملوكه أو قرابته أو بأجير من قبله.

فهذه وجوه من وجوه الإجارات حلال لمن كان من الناس ملكا أو سوقة [1] أو كافرا أو مؤمنا، فحلال إجارته و حلال كسبه من هذه الوجوه.

فأمّا وجوه الحرام من وجوه الإجارات نظير أن يؤاجر نفسه على حمل ما يحرم عليه أكله أو شربه أو لبسه، أو يؤاجر نفسه في صنعة ذلك الشي‌ء أو حفظه أو لبسه، أو يؤاجر نفسه في هدم المساجد ضرارا أو قتل النفس بغير حلّ، أو حمل التصاوير و الأصنام و المزامير و البرابط و الخمر و الخنازير و الميتة و الدّم أو شي‌ء من وجوه الفساد الذي كان محرّما عليه من غير جهة الإجارة فيه، و كلّ أمر منهيّ عنه من جهة من الجهات.

______________________________
[1] المراد بالسوقة: الرعيّة و من دون الملك، لأنّ الملك يسوقهم إلى ما شاء من أمره.

و يطلق على الواحد و الجمع و المذكّر و المؤنّث.

79
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

تفسير الإجارات ؛ ج‌1، ص : 77

و كلّ أمر منهيّ عنه من جهة من الجهات فمحرّم على الإنسان إجارة نفسه فيه أو له أو شي‌ء منه أو له إلا لمنفعة من استأجرته كالّذي يستأجر له الأجير ليحمل الميتة ينحيها عن أذاه أو أذى غيره و ما أشبه ذلك- إلى أن قال:

______________________________
فمحرّم على الإنسان إجارة نفسه فيه أو له [1] أو شي‌ء منه أو له إلّا لمنفعة من استأجرته [2] كالذي يستأجر الأجير يحمل له الميتة ينحيها عن أذاه أو أذى غيره، و ما أشبه ذلك.

و الفرق بين معنى الولاية و الإجارة و إن كان كلاهما يعملان بأجر: أنّ معنى الولاية أن يلي الإنسان لوالي الولاة أو الولاة فيلي أمر غيره في التولية عليه و تسليطه و جواز أمره و نهيه و قيامه مقام الوليّ إلى الرئيس، أو مقام وكلائه في أمره و توكيده في معونته و تسديد ولايته و إن كان أدناهم ولاية فهو وال على من هو وال عليه يجري مجرى الولاة الكبار الذين يلون ولاية الناس في قتلهم من قتلوا و إظهار الجور و الفساد.

______________________________
[1] يمكن أن يراد بالأوّل إجارة نفسه في صنع الشي‌ء كصنع الخمر مثلا، و بالثاني إجارة نفسه لمقدّماته، أو بالعكس بأن يراد بالأوّل: الإيجار لمقدّمات العمل الواقعة في طريقه، و بالثاني الإيجار لنفس العمل. و يمكن أن يراد بالأوّل: الإتيان بالعمل مباشرة، و بالثاني الإتيان به و لو بالتسبيب.

و قوله: «أو شي‌ء منه أوله» يعني به في شي‌ء منه أو شي‌ء له، فيراد بذلك الاستيجار لإتيان الجزء من العمل أو مقدّماته في قبال كلّ العمل أو كلّ مقدّماته.

[2] الظاهر كونه غلطا، و الصحيح: «إلّا لمنفعة من استأجره» كما في الحدائق و البحار.

و قيل: إنّ المراد به: من طلبت منه كونك أجيرا له، و هذا معنى غريب لباب الاستفعال.

80
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

تفسير الصناعات ؛ ج‌1، ص : 81

و كلّ من آجر نفسه أو ما يملك أو يلي أمره من كافر أو مؤمن أو ملك أو سوقة على ما فسّرنا ممّا يجوز الإجارة فيه فحلال محلّل فعله و كسبه.

[تفسير الصّناعات]

و أمّا تفسير الصّناعات فكلّ ما يتعلّم العباد أو يعلّمون غيرهم من أصناف الصّناعات مثل الكتابة و الحساب و التّجارة و الصّياغة و البناء و الحياكة و السّراجة و القصارة و الخياطة و صنعة صنوف التّصاوير ما لم

______________________________
و أمّا معنى الإجارة فعلى ما فسّرنا من إجارة الإنسان نفسه أو ما يملكه من قبل أن يؤاجر الشي‌ء من غيره فهو يملك يمينه لأنّه لا
«1» يلي أمر نفسه و أمر ما يملك قبل أن يؤاجره ممن هو آجره.

و الوالي لا يملك من أمور الناس شيئا إلّا بعد ما يلي أمورهم و يملك توليتهم. و كلّ من آجر نفسه أو آجر ما يملك نفسه أو يلي أمره من كافر أو مؤمن أو ملك أو سوقة على ما فسّرنا ممّا تجوز الإجارة فيه فحلال محلّل فعله و كسبه.

و أمّا تفسير الصناعات

فكلّ ما يتعلّم العباد أو يعلّمون غيرهم من صنوف الصناعات مثل الكتابة و الحساب و التجارة (النجارة- ظ.) و الصياغة و السراجة و البناء و الحياكة و القصارة و الخياطة، و صنعة صنوف التصاوير ما لم يكن مثل الروحاني، و أنواع صنوف الآلات التي يحتاج إليها‌

______________________________
(1)- الظاهر زيادة كلمة: «لا» كما لا يخفى و يظهر ممّا بعده.

81
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

تفسير الصناعات ؛ ج‌1، ص : 81

يكن مثل الرّوحاني و أنواع صنوف الآلات الّتي يحتاج إليها العباد منها منافعهم و بها قوامهم و فيها بلغة جميع حوائجهم فحلال تعلّمه و تعليمه و العمل به و فيه لنفسه أو لغيره.

و إن كانت تلك الصّناعة و تلك الآلة قد يستعان بها على وجوه الفساد و وجوه المعاصي و تكون معونة على الحقّ و الباطل فلا بأس بصناعته و تقلّبه نظير الكتابة الّتي هي على وجه من وجوه الفساد تقوية و معونة لولاة الجور و كذلك السّكّين و السّيف و الرّمح و القوس و غير ذلك من وجوه الآلات الّتي تصرف إلى وجوه الصّلاح و جهات الفساد، و تكون آلة و معونة عليهما، فلا بأس بتعليمه و تعلّمه و أخذ الأجر عليه و العمل به و فيه لمن كان له فيه جهات الصّلاح من جميع الخلائق و محرّم عليهم

______________________________
العباد التي منها منافعهم و بها قوامهم و فيها بلغة جميع حوائجهم، فحلال فعله و تعليمه و العمل به و فيه لنفسه أو لغيره، و إن كانت تلك الصناعة و تلك الآلة قد يستعان بها على وجوه الفساد و وجوه المعاصي و يكون معونة على الحقّ و الباطل. فلا بأس بصناعته و تعليمه، نظير الكتابة التي هي على وجه من وجوه الفساد من تقوية معونة ولاة ولاة الجور، و كذلك السّكّين و السيف و الرمح و القوس و غير ذلك من وجوه الآلة التي قد تصرف إلى جهات الصلاح و جهات الفساد، و تكون آلة و معونة عليهما، فلا بأس بتعليمه و تعلّمه و أخذ الأجر عليه و فيه و العمل به و فيه لمن كان له فيه جهات الصلاح من جميع الخلائق، و محرّم عليهم فيه تصريفه إلى جهات الفساد و المضارّ، فليس على العالم و المتعلّم إثم و لا وزر لما فيه من الرجحان في منافع جهات صلاحهم و قوامهم به و بقائهم. و إنّما الإثم و الوزر على المتصرّف بها في وجوه الفساد و الحرام.

82
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

تفسير الصناعات ؛ ج‌1، ص : 81

تصريفه إلى جهات الفساد و المضارّ فليس على العالم (المعلّم خ. ل) و لا المتعلّم إثم و لا وزر لما فيه من الرّجحان في منافع جهات صلاحهم و قوامهم و بقائهم و إنّما الإثم و الوزر على المتصرّف فيه (بها خ. ل) في جهات الفساد و الحرام. و ذلك إنّما حرّم اللّه الصّناعة الّتي هي حرام كلّها الّتي يجي‌ء منها الفساد محضا نظير البرابط و المزامير و الشّطرنج و كلّ ملهوّ به و الصّلبان و الأصنام و ما أشبه ذلك من صناعات الأشربة الحرام (المحرّمة. ظ) و ما يكون منه و فيه الفساد محضا و لا يكون منه و لا فيه شي‌ء من وجوه الصّلاح فحرام تعليمه و تعلّمه و العمل به و أخذ الأجرة عليه و جميع التّقلّب فيه من جميع وجوه الحركات كلّها إلّا أن يكون صناعة قد تصرف إلى جهة المنافع (المباح خ. ل) و إن كان قد يتصرّف فيها

______________________________
و ذلك إنّما حرّم اللّه الصناعة التي حرام هي كلّها التي يجي‌ء منها الفساد محضا نظير البرابط و المزامير و الشطرنج و كلّ ملهوّ به و الصلبان و الأصنام و ما أشبه ذلك من صناعات الأشربة الحرام و ما يكون منه و فيه الفساد محضا [1] و لا يكون فيه و لا منه شي‌ء من وجوه الصلاح، فحرام تعليمه و تعلّمه و العمل به و أخذ الأجر عليه، و جميع التقلّب فيه من جميع وجوه الحركات كلّها إلّا أن تكون صناعة قد تنصرف إلى جهات الصنائع (الصلاح- ظ.) و إن كان قد يتصرّف بها و يتناول بها وجه من وجوه المعاصي، فلعلّه‌

______________________________
[1] يحتمل أن يراد بالأوّل كونه مقدمة للفساد و بالثاني ما يكون الفساد في نفسه، أو يراد بالأوّل جزء العلّة و بالثاني العلّة التامّة.

83
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

جهات من البحث حول الرواية ؛ ج‌1، ص : 84

 

و يتناول بها وجه من وجوه المعاصي فلعلّة ما فيه من الصّلاح حلّ تعلّمه و تعليمه و العمل به و يحرم على من صرفه إلى غير وجه الحقّ و الصّلاح فهذا تفسير بيان وجوه اكتساب معايش العباد و تعليمهم في وجوه اكتسابهم. الحديث (1).

______________________________
لما فيه (فلعلّة ما فيه- الوسائل) من الصلاح حلّ تعلّمه و تعليمه و العمل به و يحرم على من صرفه إلى غير وجه الحقّ و الصلاح. فهذا تفسير بيان وجه اكتساب معايش العباد و تعليمهم في جميع وجوه اكتسابهم. الحديث.»‌

[جهات من البحث حول الرواية]

(1) إذا وقفت على متن الحديث فلنبحث حوله في جهات:

[الجهة الأولى: وجوه معايش الخلق أزيد ممّا ذكر في الحديث]

الجهة الأولى: الظاهر- كما في حاشية العلامة الطباطبائي- «1»: أنّ وجوه معايش الخلق أزيد ممّا ذكر في الحديث، إذ منها الزراعات و العمارات و النتاجات و إجراء القنوات و إحياء الموات و كري الأنهار و غرس الأشجار و حيازة المباحات و مطلق الإباحات و الأخماس و الصدقات و حقوق الوكالة و الوصاية و النظارة و مال الجعالة و أمثال ذلك.

و لو فرض إدراج بعضها في الإجارات أو الصناعات بتكلّف فيبقى الإشكال في البقيّة.

فإن قلت: الغرض في الحديث ذكر خصوص المعاملات لا جميع طرق المعاش، و إنّما ذكرت الولايات بحيالها مع كونها من قبيل الإجارات اهتماما بشأنها و لذا ذكرت في أوّل الرواية.

______________________________
(1) حاشية المكاسب للعلامة السيّد محمّد كاظم الطباطبائى/ 2.

 

84
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الجهة الثانية: الرواية متعارضة فقراتها في ضابطي الحل و الحرمة ؛ ج‌1، ص : 85

..........

______________________________
قلت: ذكر الصناعات في الحديث دليل على كون المراد بالمعاملات هنا المعنى الأعمّ لا خصوص العقود و الإيقاعات، فيراد بها مطلق الأعمال غير العباديّة، مضافا إلى أن قوله في آخر ما حكيناه من الحديث: «فهذا تفسير بيان وجه اكتساب معايش العباد ...»‌

أيضا يدلّ على كون المقصود ذكر جميع المعايش. اللّهم إلّا أن يقال بالنسبة إلى الصناعات إنّها بنفسها لا يستفاد منها غالبا إلّا بالمبادلة على المصنوعات فذكرها في الحديث من جهة وقوعها موضوعا للتجارات أو الإجارات، فتأمّل.

[الجهة الثانية: الرواية متعارضة فقراتها في ضابطي الحلّ و الحرمة]

الجهة الثانية: في حاشية المحقّق الإيرواني «ره» ما ملخّصه: «أنّ الرواية متعارضة فقراتها في ضابطي الحلّ و الحرمة: فضابط الحلّ فيها أن يكون الشي‌ء فيه جهة من جهات الصلاح. و ضابط الحرمة أن يكون في الشي‌ء وجه من وجوه الفساد. ففي ذي الجهتين يقع التزاحم. فإمّا أن يرجّح ضابط الحلّ و يحكم فيه بالحلّ بما يستفاد من قسم الصناعات من تقديم جهة الصلاح في ذات الجهتين منها، أو يحصل الإجمال بالتعارض فيرجع إلى عمومات أدلّة التجارة و أصالة الحلّ.» «1»

أقول: الظاهر من الرواية الحكم على الشي‌ء بلحاظ الأثر الغالب المترقّب منه عند العقلاء و المصرف المتعارف فيه. فإن كان الأثر المتعارف المترقّب منه من وجوه الصلاح و ممّا يتقوّم به المعاش حلّ بيعه و إجارته و سائر التقلّبات فيه لذلك. و إن كان الأثر المتعارف المترقب منه عند العقلاء من وجوه الفساد حرم بيعه و شراؤه لذلك.

و بالجملة فالمعيار الآثار و الفوائد المتعارفة المترقّبة من الأشياء. و المقصود في الحديث بيان حكم المعاملات على الأشياء بلحاظ هذه الآثار. نعم لو فرض للشي‌ء مضافا إلى‌

______________________________
(1) حاشية المكاسب للمحقّق الإيروانى/ 2.

85
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الجهة الثالثة: المراد بالحلية و الحرمة هو الأعم من التكليفية و الوضعية ؛ ج‌1، ص : 86

..........

______________________________
منفعة المحرّمة الشائعة منفعة محلّلة عقلائية أيضا و وقعت المعاملة عليه بلحاظها فالظاهر صحّتها بلا إشكال، كما يستفاد ذلك ممّا ذكر في الصناعات ذات الجهتين.

و بذلك يظهر أن ذكر وجوه النجس أيضا في عداد ما يحرم المعاملة عليها ينصرف إلى المعاملة عليها بلحاظ ما كان يترقّب منها غالبا في تلك الأعصار، حيث كانوا يستفيدون منها بالأكل أو الشرب أو اللبس و يعاملون عليها لذلك و قد علّل التحريم فيها بقوله «ع»: «لما فيه من الفساد.» فلو فرض ترتّب فائدة عقلائية محلّلة عليها في طريق صلاح المجتمع كالدّم للتزريق بالمرضى مثلا و وقعت المعاملة عليها لذلك فلا وجه للإشكال فيها.

و بالجملة فليست النجاسة بنفسها مانعة عن صحة المعاملة و إنّما المانع حرمة الفوائد العقلائيّة المترقّبة منها.

[الجهة الثالثة: المراد بالحلّية و الحرمة هو الأعمّ من التكليفيّة و الوضعيّة]

الجهة الثالثة: الظاهر أنّ المراد بالحلّية و الحرمة في هذه الرواية هو الأعمّ من التكليفيّة و الوضعيّة أعني صحة المعاملة و فسادها. فأريد بالحلال ما أطلقه الشرع بحسب ما يترقّب منه تكليفا أو وضعا أو كليهما، و بالحرام ما منعه كذلك. و إطلاق اللفظين في الوضع كان شائعا في لسان الشرع المبين. و منه قوله- تعالى-: أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبٰا.

بل قوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهٰاتُكُمْ وَ بَنٰاتُكُمْ إلى قوله: وَ أُحلَّ لَكُمْ مٰا وَرٰاءَ ذٰلكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بأَمْوٰالكُمْ «1». فيراد بهما فساد النكاح و صحّته وضعا لا حرمة الوطي و حلّيته تكليفا.

و قد كثر هذا النحو من الاستعمال في الروايات، و من ذلك روايتا سماعة و أبي بصير‌

______________________________
(1) سورة النساء (4)، الآيتان 23 و 24.

86
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الجهة الثالثة: المراد بالحلية و الحرمة هو الأعم من التكليفية و الوضعية ؛ ج‌1، ص : 86

..........

______________________________
في أبواب القيام من الوسائل
«1». و قد مرّ ذكرهما في بيان الآية الرابعة.

و لأجل ذلك أردف في الحديث في المقام موضوعات التكليف و الوضع و ذكرها في سياق واحد فقال في وجوه الحلال من التجارات: «فهذا كلّه حلال بيعه و شراؤه و إمساكه و استعماله و هبته و عاريته.» و في وجوه الحرام منها قال: «حرام بيعه و شراؤه و إمساكه و ملكه و هبته و عاريته.»‌

و من الواضح أنّ المترتّب على مثل الإمساك و الاستعمال الحلّ أو الحرمة تكليفا، و على مثل البيع و الهبة الحلّ أو الحرمة تكليفا و وضعا أعني صحتهما أو فسادهما، و هو المتفاهم من التعبيرين في أمثالهما. هذا.

و لا يبعد إرادة الإطلاق في أخبار الحلّية في موارد الشك أيضا كقوله «ع» في صحيحة عبد اللّه بن سنان: «كلّ شي‌ء يكون فيه حلال و حرام فهو حلال لك أبدا حتّى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه.» «2» و في موثقة مسعدة بن صدقة: «كلّ شي‌ء هو لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام بعينه فتدعه.» «3» بعد كون المستعمل فيه و المتبادر من اللفظين في تلك الأعصار الجواز و المنع تكليفا و وضعا سواء جعلا وصفين للأفعال أو للذوات بلحاظ الأفعال المتعلقة بها، و إن شاع في ألسنة الفقهاء المتأخّرين استعمالهما في التكليف فقط.

و ليس الاستعمال من قبيل استعمال اللفظ في المعنيين بل في الجامع بينهما أعني كون الذات أو الفعل مطلقا من قبل الشارع أو ممنوعا عنه بما يناسبه من الإطلاق أو المنع.

و على هذا فيجوز الاستدلال بهذه الأخبار على صحّة الصلاة في اللباس المشكوك فيه‌

______________________________
(1) الوسائل 4/ 690، كتاب الصلاة، الباب 1 من أبواب القيام، الحديان 6 و 7.

(2) الكافى 5/ 313، كتاب المعيشة، باب النوادر، الحديث 39.

(3) الكافى 5/ 313، كتاب المعيشة، باب النوادر، الحديثان 40.

87
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الجهة الرابعة: سند الحديث ؛ ج‌1، ص : 88

 

..........

______________________________
بالشبهة الموضوعيّة مثلا. و هذا باب واسع. و قد حكى الأستاذ آية اللّه البروجردي- طاب ثراه- فيما قرّرناه من بحثه الشريف في اللباس المشكوك فيه هذا المعنى من المحقّق القمي و استحسنه.

[الجهة الرابعة: سند الحديث]

الجهة الرابعة: البحث في سند الحديث. و هو العمدة في المقام:

لا يخفى أنّ الحديث و إن كان حاويا لضوابط كليّة مهمّة في باب المكاسب المحرّمة و غير المحرّمة و استدل بها المتأخّرون في أبواب كثيرة، إلّا أنّ الاعتماد عليه بانفراده في قبال العمومات الدالّة على صحة العقود و الإيقاعات مشكل و إن كان صالحا للتأييد و الاستيناس.

[مؤلّف كتاب تحف العقول]

و السرّ في ذلك أنّ مؤلّف الكتاب: الحسن بن عليّ بن الحسين بن شعبة الحرّاني أو الحلبي و إن كان من قدماء أصحابنا الإمامية و وجائهم و كان كتابه معتمدا عليه إجمالا:

ففي رجال المامقاني حاكيا عن الروضات: «إنّه فاضل ففيه و متبحّر نبيه و مترفّع وجيه له كتاب تحف العقول عن آل الرسول «ص» مبسوط كثير الفوائد معتمد عليه عند الأصحاب.» «1»

و في الذريعة عدّه معاصرا للصدوق «ره» و حكى عن الشيخ عليّ بن الحسين بن صادق البحراني قال: «إنّه من قدماء أصحابنا حتّى إنّ شيخنا المفيد ينقل عنه و كتابه ممّا لم يسمح الدهر بمثله.» «2»

و في كتاب تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام قال في حقّه: «شيخنا الأقدم و إمامنا‌

______________________________
(1) راجع روضات الجنّات 2/ 289، الرقم 200؛ و تنقيح المقال 1/ 293.

(2) الذريعة إلى تصانيف الشيعة 3/ 400.

 

88
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

إرسال الرواية و الإعراض عنها ؛ ج‌1، ص : 89

..........

______________________________
الأعظم له كتاب تحف العقول فيما جاء في الحكم و المواعظ عن آل الرسول، كتاب جليل لم يصنّف مثله ...»
«1»

و قال مؤلّف تحف العقول في مقدّمة كتابه: «و أسقطت الأسانيد تخفيفا و إيجازا و إن كان أكثره لي سماعا.» «2» ممّا يشعر باعتماده على أكثر ما فيه.

[إرسال الرواية و الإعراض عنها]

لكن مع ذلك كلّه فرواياته كلّها مراسيل محذوفة الأسناد. مضافا إلى أنّ هذه الرواية بخصوصها كما ترى معقّدة مضطرب المتن مشتملة على التكرار و التطويل بنحو يطمئن الناقد البصير بعدم كون الألفاظ بعينها للإمام «ع» و أنّ الراوي لم يكن يحسن الضّبط.

قال المحقّق الإيرواني في حاشيته في المقام: «هذه الرواية مخدوشة بالإرسال و عدم اعتناء أصحاب الجوامع بنقلها مع بُعد عدم اطلاعهم عليها، مع ما هي عليه في متنها من القلق و الاضطراب. و قد اشتبهت في التشقيق و التقسيم كتب المصنّفين. فالاعتماد عليها ما لم تعتضد بمعاضد خارجي مشكل. و الخروج بها عن عموم مثل أَوْفُوا بالْعُقُود و أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ و تجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ أشكل.» «3» هذا.

و لو فرض اعتماد المؤلّف على روايات كتابه و قوّة أسانيدها عنده فلا يكفي هذا في اعتمادنا عليها، لاختلاف المباني في باب حجيّة الأخبار و شرائط الرواة. و من الإغراق في هذا المجال قولهم في حقّ تحف العقول: إنّه ممّا لم يسمح الدهر بمثله «4»، مع وجود مثل‌

______________________________
(1) تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام/ 413.

(2) تحف العقول/ 3.

(3) حاشية المكاسب للمحقق الإيروانى/ 2.

(4) راجع الكنى و الألقاب 1/ 318؛ و الذريعة 3/ 400.

89
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

عمل المشهور و قيمة الشهرة ؛ ج‌1، ص : 90

..........

______________________________
الكافي بسعته و جامعيّته. هذا.

[عمل المشهور و قيمة الشهرة]

و بما ذكرنا يظهر المناقشة فيما ذكره العلامة الطباطبائي في حاشيته في المقام، قال:

«ثمّ إنّ هذه الرواية الشريفة و إن كانت مرسلة لا جابر لها ... لكن مضامينها مطابقة للقواعد و مع ذلك فيها أمارات الصدق فلا بأس بالعمل بها.» «1»

أقول: قال في مصباح الفقاهة: «و أمّا قوله: إنّ آثار الصدق منها ظاهرة فلا ندري ما ذا يريد هذا القائل من هذه الآثار، أ هي غموض الرواية و اضطرابها أم تكرار جملها و ألفاظها أم كثرة ضمائرها و تعقيدها أم اشتمالها على أحكام لم يفت بها أحد من الأصحاب و من أهل السنة؟ ...» «2» هذا.

و في مصباح الفقاهة أيضا بعد ما منع حجيّة هذه الرواية لإرسالها و اختصاص الحجيّة بالخبر الموثوق بصدوره قال ما ملخّصه: «و هم و دفع: ربّما يتوهّم انجبار ضعفها بعمل المشهور، لكنّه فاسد كبرى و صغرى: أمّا الكبرى فلعدم كون الشهرة في نفسها حجّة فكيف تكون موجبة لحجّية الخبر و جابرة لضعفه لأنّه كوضع الحجر في جنب الإنسان.

لا يقال: عمل المشهور بالخبر كاشف عن احتفافه بقرائن قد اطلعوا عليها توجب الوثوق، كما أنّ إعراضهم عن الخبر الصحيح يوجب وهنه و سقوطه، و من هنا اشتهر أنّ الخبر كلّما ازداد صحّة ازداد بإعراض المشهور و هنا.

فإنّه يقال- مضافا إلى أنّه دعوى بلا برهان-: إنّ المناط في حجيّة خبر الواحد هي وثاقة الراوي. و يدلّ على ذلك الموثقة التي أرجع السائل فيها إلى العمري و ابنه، حديث‌

______________________________
(1) حاشية المكاسب للعلامة الطباطبائى/ 2.

(2) مصباح الفقاهة 1/ 7.

90
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

عمل المشهور و قيمة الشهرة ؛ ج‌1، ص : 90

..........

______________________________
علّل هذا الحكم فيها بأنّهما ثقتان
«1»، و الروايات المتواترة التي أرجع فيها إلى أشخاص موثّقين. و على هذا فإن كان عمل المشهور راجعا إلى توثيق رواة الخبر و شهادتهم بذلك فبها، و إلّا فلا يوجب انجبار ضعفه.

و من هنا يعلم أنّه بعد ثبوت صحّة الخبر لا يضرّه إعراض المشهور عنه إلّا أن يرجع إلى تضعيف رواته.

و أمّا الوجه في منع الصغرى فهو عدم ثبوت عمل المتقدّمين بها. و أمّا عمل المتأخرين فهو على تقدير ثبوته غير جابر لضعفها مضافا إلى أنّ استنادهم إليها في فتياهم ممنوع جدّا.» «2»

أقول: ما ذكره- قدّس سرّه- أخيرا من منع الصغرى صحيح، إذ جبران الضعف أو كسر صحّة الخبر من جهة أن شهرة الفتوى بين من لا يفتي بالأقيسة و الاستحسانات الظنيّة، بل يكون بناؤهم على التعبّد بالنصوص و أقوال العترة الطاهرة، ربّما تكشف كشفا قطعيّا عن تلقّيهم الفتوى عنهم «ع» يدا بيد أو اطلاعهم على قرائن حاليّة أو مقاليّة اختفت علينا. و هذا البيان لا يجري في شهرة المتأخرين، لانقطاعهم عن الأئمة- عليهم السلام-، فلا محالة استندوا في فتاواهم على اجتهادات عقليّة حول الأخبار الموجودة.

و من الواضح أنّ مضامين رواية تحف العقول لا توجد في كتب القدماء من أصحابنا لا بنحو الفتوى و لا بعنوان الحديث و الرواية، فليس في المقام شهرة يجبر بها ضعف الرواية.

______________________________
(1) الكافى 1/ 330، كتاب الحجّة، باب في تسمية من رآه «ع»، الحديث 1.

(2) مصباح الفقاهة 1/ 6 و 7.

91
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

عمل المشهور و قيمة الشهرة ؛ ج‌1، ص : 90

..........

______________________________
و أمّا ما ذكره- قدّس سرّه- في منع الكبرى فهو أمر كان يصرّ عليه في الأبواب المختلفة من الفقه كما يظهر لمن تتبع تقارير أبحاثه.

و قد اتفق لي في سفري الأول إلى النجف الأشرف: أن قلت له في لقائي: إنّ إجزاء جميع الأغسال عن الوضوء أمر يدلّ عليه روايات صحيحة دلالة واضحة و كانت هذه الروايات بمرأى الأعاظم من فقهائنا المتقدّمين و مع ذلك نراهم لا يفتون بمضامينها و يفتون بمضمون مرسلة ابن عمير و خبره عن حماد أو غيره الدالّتين على عدم إجزاء غير غسل الجنابة عنه «1»، فهل يبقى مع ذلك وثوق بصحّة تلك الروايات و عدم احتفافها بقرائن مانعة عن ظهورها؟

و بعكس ذلك كان الأستاذ آية اللّه البروجردي- أعلى اللّه مقامه- مصرّا على الاعتناء بشهرة القدماء من أصحابنا في المسائل الأصلية المتلقّاة عن الأئمة «ع» يدا بيد- في قبال المسائل الفرعيّة المستنبطة عنها بالاجتهاد- و كان يقول: إنّ بناء الأصحاب كان على أخذ الفقه من الفحول و الأساتذة يدا بيد و إنّ سلسلة فقهنا لم تنقطع في عصر من الأعصار، بل كان أصحاب الأئمة «ع» معتنين بفتاوى الأئمة «ع» مهتمين بها ناقلين إيّاها لتلاميذهم، و كان الخلف يأخذها عن السّلف إلى عصر الصدوقين و المفيد و المرتضى و الشيخ و أقرانه، و كانوا يذكرونها في كتبهم بألفاظها حتّى اتّهمهم العامّة بأنهم يقلّدون الأوائل و ليسوا من أهل الاجتهاد و الاستنباط كما ذكر ذلك الشيخ في أوّل المبسوط، و كانت الشيعة في عصر الأئمة «ع» يعتنون عملا بفتاوى بطانة الأئمة «ع» و بما اشتهر بينهم و يأخذون بها في مقام العمل، حتّى إنّهم ربّما تركوا ما سمعوه من شخص الإمام‌

______________________________
(1) الوسائل 1/ 516، كتاب الطهارة، الباب 35 من أبواب الجنابة.

92
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

عمل المشهور و قيمة الشهرة ؛ ج‌1، ص : 90

..........

______________________________
بعد إشارة البطانة إلى خلافه، و هذا يكشف عن شدّة اعتمادهم على فتاوى البطانة، فراجع خبر عبد اللّه بن محرز في باب الميراث
«1».

و مخالفة ابن الجنيد و العماني في أغلب المسائل ناشئة من عدم كونهما في المعاهد العلميّة و لم يتلقّيا الفقه من الأساتذة بل من الكتب التي كانت عندهما.

و كان يقول أيضا: إنّ من تتبع كتب الأخبار و وقف على اختلاف راويين مثلا في نقل مضمون واحد عن إمام واحد، أو اختلاف مصنّفين في ألفاظ رواية واحدة بل مصنّف واحد في موضعين من كتابه و اختلاف النسخ الكثيرة، يظهر له أنّ الاعتماد على رواية واحدة مثلا في مقام الإفتاء مشكل، و إن فرض كون جميع رواته ثقات، إلّا إذا أفتى بمضمونها الأعلام. بل لو فرض وجود روايات مستفيضة في مسألة يظهر لنا بذلك صدور المضمون المشترك بينها عن الأئمة «ع» إجمالا و لكن الحكم بخصوصيّات كلّ واحدة منها مشكل.

و بالجملة فهو- قدّس سرّه- كان يقسم المسائل الفقهية إلى قسمين: مسائل أصليّة مأثورة متلقّاة عن الأئمة المعصومين «ع» و مسائل تفريعية استنبطها الفقهاء من المسائل الأصلية.

و كان يقول: إنّ كتب القدماء من أصحابنا كالمقنع و الهداية للصدوق، و المقنعة للمفيد، و النهاية للشيخ، و المراسم لسلار، و الكافي لأبي الصلاح الحلبي، و المهذّب لابن البرّاج و أمثالها كانت حاوية للمسائل الأصلية فقط. و الشيخ ألّف المبسوط لذكر التفريعات.

و كان المرز الفاصل بين الصنفين من المسائل محفوظا إلى عصر المحقّق، فهو في الشرائع‌

______________________________
(1) راجع الوسائل 17/ 445، كتاب الفرائض و المواريث، الباب 5 من أبواب ميراث الأبوين و الأولاد، الحديثان 4 و 7.

93
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

عمل المشهور و قيمة الشهرة ؛ ج‌1، ص : 90

..........

______________________________
يذكر في كلّ باب أوّلا المسائل الأصلية المأثورة ثمّ يعقّبها بالتفريعات بعنوان: «مسائل» أو «فروع»، و إنّما وقع التخليط بين الصنفين في عصر الشهيدين و من بعدهما.

ففي الصنف الأوّل من المسائل تكون الشهرة حجّة فضلا عن الإجماع، و في الصنف الثاني لا يفيد الإجماع أيضا فضلا عن الشهرة، لأنّ وزانها وزان المسائل العقليّة التي لا مجال فيها للتمسّك بالإجماع و الشهرة «1».

أقول: إطلاق ما ذكره هذان العلمان في هذا المجال قابل للمناقشة:

أمّا ما ذكره الأستاذ- قدّس سرّه- فلأنّ الشهرة بين القدماء إن أوجبت الوثوق و الاطمينان بتلقّيهم المسألة من الأئمة «ع» يدا بيد، أو اطلاعهم على ما لو وصل إلينا كان حجّة قطعا كما هو المدّعى، صحّ الاعتماد عليها.

و لكن من المحتمل كونها في أكثر المسائل على أساس الروايات الموجودة بأيدينا، بل هو المظنون غالبا. و مجرّد الاحتمال كاف في منع الاعتماد عليها، نظير الإجماعات المبتنية و لو احتمالا على الأخبار و المدارك الموجودة عندنا، فليسا دليلين مستقلّين.

ألا ترى أنّ اشتهار تنجّس البئر في كتب القدماء من أصحابنا شهرة قاطعة كيف انهدم أساسها بسبب صحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع الحاكمة بأنّ ماء البئر واسع لا يفسده شي‌ء إلّا أن يتغير ريحه أو طعمه. الحديث «2».

و الأستاذ أيضا أفتى بعدم تنجّسها بعذر أنّ القول بالتنجّس كان مستندا إلى الأخبار التي بأيدينا فنحملها على التنزيه.

______________________________
(1) راجع البدر الزاهر في صلاة الجمعة و المسافر/ 8- 10.

(2) الوسائل 1/ 105، كتاب الطهارة، الباب 3 من أبواب الماء المطلق، الحديث 12، و أيضا الحديث 10.

94
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

في إعراض المشهور ؛ ج‌1، ص : 95

..........

______________________________
نعم لو فرض اشتهار الفتوى بين القدماء من أصحابنا في مسألة، من دون أن يكون له دليل ظاهر فيما بأيدينا من الأخبار و لم يساعده أيضا إطلاق دليل أو اعتبار عقلي، كشفت الشهرة لا محالة عن تلقّي المسألة عن الأئمة «ع» يدا بيد، أو وصول دليل معتبر إليهم غير واصل إلينا، نظير الإفتاء بإتمام الصلاة و إفطار الصيام في سفر الصيد للتجارة و ازدياد المال، مع عدم وجود رواية بذلك فيما بأيدينا و أنّ مقتضى القواعد و الإطلاقات هو التلازم بين الصلاة و الصيام في القصر و الإتمام. و لكن أمثال هذه المسألة قليلة جدّا.

[في إعراض المشهور]

كما أنّ الإنصاف أنّ إعراض المشهور من القدماء عن الروايات الصحيحة مع ظهورها و عدم تطرّق التأويل إليها يوجب و هنها و عدم الوثوق بإرادة ظواهرها، فيشكل الإفتاء بها فتطرح أو يحتاط في المسألة و هو طريق النجاة.

و أمّا ما ذكره آية اللّه الخوئي- طاب ثراه- فيرد عليه أنّ ما دلّ على الإرجاع إلى ثقات الروات لا يدلّ على نفي غير ذلك و عدم حجّية غير خبر الثقة.

بل الظاهر منها أنّ الملاك تحصيل الوثوق بالحكم من أيّ طريق حصل، إذ التعليق على الوصف يدل على العلية، و على ذلك بناء العقلاء أيضا حيث يرون الوثوق و سكون النفس علما عاديّا يعتمدون عليه في أمورهم.

و ليس هذه الأخبار في مقام إعمال التعبّد و جعل خبر الثقة حجّة تعبّدا. بل في مقام ذكر المصداق لما عليه العقلاء.

فقوله «ع» في حقّ العمري: «فاسمع له و أطع فإنّه الثقة المأمون» و في حقّه و حقّ ابنه:

«فاسمع لهما و أطعمها فإنّهما الثقتان المأمونان» «1» علّل الإرجاع بأمر ارتكازي يحكم به‌

______________________________
(1) الكافى 1/ 330، كتاب الحجّة، باب في تسمية من رآه «ع»، الحديث 1.

95
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

في إعراض المشهور ؛ ج‌1، ص : 95

..........

______________________________
العقلاء، كما هو الغالب في التعليلات الواردة في الكتاب و السنّة حيث تقع لاستيناس ذهن السّامع و دفع استيحاشه المحتمل.

و يشهد لذلك قول الراويين للرضا «ع»: «أ فيونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ منه ما أحتاج إليه من معالم ديني؟» قال: «نعم.» «1»

إذ يظهر منه أنّ جواز الاعتماد على الثقة كان واضحا مفروغا عنه بلا تعبّد، و إنّما السؤال وقع عن تعيين المصداق.

و على هذا فإن حصل بسبب عمل المشهور المتعبّدين بالنصّ وثوق بمضمون الرواية وجب الأخذ به، و إذا حصل بإعراضهم عن الصحيح الترديد فيه و ارتفع الوثوق بمضمونه لم يجز الأخذ به، و هذا معنى كون عمل المشهور جابرا لضعف الرواية، و إعراضهم كاسرا لصحّتها.

و بطانة الأئمة «ع» و أصحابهم و تلاميذ أصحابهم الملازمون لهم كانوا واقفين على فتاواهم. و قد مرّ في خبر عبد اللّه بن محرز أنّ الراوي ترك ما سمعه من شخص الإمام و أخذ بقول أصحابه اعتمادا عليه، و استحسنه الإمام لذلك «2». و يظهر من أخبار كثيرة في أبواب مختلفة اعتماد الشيعة على أصحاب الأئمة و بطانتهم و أخذ الأحكام منهم و إمضاء الأئمة «ع» ذلك، فتأمل. هذا.

و في ذيل مقبولة عمر بن حنظلة الوارد في علاج الخبرين المتعارضين قال «ع»: «ينظر إلى ما كان من روايتهم عنّا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه من أصحابك فيؤخذ به‌

______________________________
(1) الوسائل 18/ 107، كتاب القضاء، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 33، و نحوه الحديث 34.

(2) الوسائل 17/ 445، كتاب الفرائض و المواريث، الباب 5 من أبواب ميراث الأبوين و الأولاد، الحديثان 4 و 7.

96
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

أنواع الشهرة ؛ ج‌1، ص : 97

..........

______________________________
من حكمنا و يترك الشاذّ الذي ليس بمشهور عند أصحابك فإن المجمع عليه لا ريب فيه، و إنّما الأمور ثلاثة: أمر بيّن رشده فيتّبع، و أمر بيّن غيّه فيجتنب، و أمر مشكل يردّ علمه إلى اللّه و إلى رسوله ... قلت: فإن كان الخبران عنكما مشهورين قد رواهما الثقات عنكم؟ ...»
«1»

و الظاهر أن المقصود بالمجمع عليه في الحديث ما اشتهر العمل به و الإفتاء بمضمونه استنادا إليه كما يظهر من مقابلته بالشاذّ. و إذا وصل العمل بالرواية و الاعتماد عليها إلى حدّ عدّ خلافه شاذّا نادرا صارت عند العقلاء ممّا لا ريب فيها، إذ يحصل بمضمونها الوثوق غالبا. و حمل الشهرة في الحديث على الشهرة الروائية فقط بعيد في الغاية.

[أنواع الشهرة]

توضيح ذلك: أنّ الشهرة على ثلاثة أقسام:

الأوّل: الشهرة في الرواية بمعنى كثرة الناقلين لها، سواء عملوا بها أم لا.

الثاني: الشهرة العمليّة بمعنى عمل المشهور برواية و استنادهم إليها في مقام الإفتاء.

الثالث: الشهرة الفتوائيّة بمعنى إفتاء المشهور بحكم من الأحكام من دون أن يعلم مستند فتواهم كما مرّ من مسألة سفر الصيد للتجارة من التفصيل بين الصلاة و الصيام.

و يظهر من الشيخ الأعظم في الرسائل و كثير من الأعاظم حمل الشهرة في الحديث و كذا في مرفوعة زرارة الآتية على القسم الأوّل أعني الشهرة الروائيّة «2»، مع وضوح أنّ مجرّد نقل الرواية فقط من دون اعتماد عليها لا يجعلها ممّا لا ريب فيه، بل يكون من قبيل الإعراض الذي يزيد في ريبه. فالمقصود اعتماد الأصحاب على أحد الخبرين‌

______________________________
(1) الكافى 1/ 68، كتاب فضل العلم، باب اختلاف الحديث، الحديث 10.

(2) راجع فرائد الأصول/ 66 و 447.

97
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

أنواع الشهرة ؛ ج‌1، ص : 97

..........

______________________________
المتعارضين في مقام العمل و الإفتاء بمضمونه. و على ذلك كان يصرّ الأستاذ آية اللّه البروجردي- طاب ثراه-.

نعم كان بناء القدماء من أصحابنا على ذكر متن الخبر في مقام الإفتاء، و لكن الذي يجعل الرواية ممّا لا ريب فيه ليس مجرد نقلها، بل العمل بها و الاعتماد عليها من ناحية المتعبدين بالنصوص أعني بطانة الأئمة «ع» و أصحابهم الواقفين على فتاواهم، و قد عرفت أنّ التعليل في الكتاب و السنة بل في التعليلات العرفيّة أيضا يقع غالبا بما هو المركوز في أذهان السّامعين.

و بالجملة فما هو المرجّح للرواية عند التعارض و يجعلها ممّا لا ريب فيه هو الشهرة العملية.

و مورد المقبولة و إن كان هو الخبران المتعارضان في باب الحكم، لكن عموم التعليل يقتضي الترجيح بها و لو في غير باب الحكم أيضا، كما يقتضي جبرها للخبر الضعيف أيضا.

بل يمكن الاستدلال به لحجيّة الشهرة الفتوائية مطلقا و لا سيّما إذا لم يكن لها مدرك فيما بأيدينا من الأخبار، و كذا كونها موهنة للخبر الصحيح الوارد على خلافها. كلّ ذلك بعموم التعليل المنصوص، إذ ظاهره كون المجمع عليه عند الأصحاب بمعنى المشهور لديهم في مقام العمل ممّا لا ريب فيه بنحو الإطلاق. و السّر في ذلك أنّ الشهرة العمليّة عند أهل النصّ المتعبّدين به يوجب الوثوق بتلقّيهم المسألة من الأئمة «ع».

اللّهم إلّا أن يقال: بعد اللتيّا و الّتي: سلّمنا أنّ المقصود بالشهرة في الحديث الشهرة العمليّة و لكن ترجيح الرواية بها في مقام التعارض أخفّ مئونة من جبر الخبر الضعيف‌

98
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

أنواع الشهرة ؛ ج‌1، ص : 97

..........

______________________________
بها أو كونها حجة مستقلّة، إذ بعد فرض كون كلّ واحد من المتعارضين حجّة في نفسه يكفي في ترجيح أحدهما على الآخر وجود مزيّة ما فلا يقاس به غيره.

قال الشيخ الأعظم في الرسائل: «ألا ترى أنّك لو سئلت عن أنّ أيّ المسجدين أحبّ إليك؟ فقلت: ما كان الاجتماع فيه أكثر، لم يحسن للمخاطب أن ينسب إليك محبوبيّة كلّ مكان يكون الاجتماع فيه أكثر ... و كذا لو أجبت عن سؤال المرجح لأحد الرّمانين، فقلت ما كان أكبر.» «1» هذا.

و لكن يرد عليه: أنّا لا نريد إثبات العموم بالأمر بأخذ المجمع عليه من المتعارضين، بل بعموم التعليل. و ظهور التعليل في العموم و الإطلاق في المقام قويّ، و احتمال الخصوصيّة فيه و حمل اللام على العهد مخالف للظاهر جدّا.

و أمّا ما في كلام المحقّق النائيني- قدّس سرّه- من أنّ المراد ممّا لا ريب فيه في المقام عدم الريب بالإضافة إلى ما يقابله من الشاذّ، و هذا يوجب خروج التعليل عن كونه كبرى كلّية، لأنّه لا يصحّ أن يقال: يجب الأخذ بكلّ ما لا ريب فيه بالإضافة إلى ما يقابله و إلّا لزم الأخذ بكلّ راجح بالنسبة إلى غيره، و بأقوى الشهرتين و بالظنّ المطلق و غير ذلك. «2»

ففيه: أنّ حمل التعليل على عدم الريب الإضافي ممّا لا وجه له بعد ظهوره في عدم الريب بنحو الإطلاق. بل لا نتصوّر لعدم الريب الإضافي معنى صحيحا، إذ الظاهر ممّا لا ريب فيه ما حصل اليقين أو الاطمينان به، و هذا مفهوم مطلق.

______________________________
(1) فرائد الأصول/ 66.

(2) راجع فوائد الأصول 3/ 54، في أقسام الشهرة و حجّيتها.

99
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

أنواع الشهرة ؛ ج‌1، ص : 97

..........

______________________________
و حمل المجمع عليه في المقبولة على الخبر الذي أجمع على صدوره من المعصوم فيكون المراد به الخبر المعلوم صدوره- كما في مصباح الأصول
«1»- مخالف للظاهر أيضا، لما مرّ من ظهور الرواية في الشهرة العمليّة أعني الظهور عند الأصحاب عملا و تلقّيهم بالقبول، و هي كما مرّ موجبة للوثوق و سكون النفس غالبا فتكون ممّا لا ريب فيه عند العقلاء و من البيّن رشده عندهم.

و لو فرض العلم بصدوره و لكن وقع الإعراض عنه من قبل بطانة الأئمة «ع» الواقفين على فتاواهم لم يكن ممّا لا ريب فيه، بل كلّه ريب فيترك و يؤخذ بقول البطانة كما ظهر ذلك من خبر عبد اللّه بن محرز الذي مرّت الإشارة إليه «2».

فإن قلت: قول السائل بعد ذلك: «فإن كان الخبران عنكما مشهورين قد رواهما الثقات عنكم» «3» ظاهر في الشهرة الروائيّة، و إلّا فكيف يتصوّر الشهرة العمليّة في كلا المتعارضين؟

قلت: الشهرة بمعنى الظهور لا الأكثرية المطلقة و لذا يصحّ استعمال الأشهر. فيمكن ظهور كلتا الروايتين عند الأصحاب في مقام العمل في قبال ما فرض أوّلا من كون أحدهما مجمعا عليه و الآخر شاذّا. و رواية الثقات لهما كناية عن عملهم بهما يفتي جمع منهم بهذا و جمع آخر بذاك. إذ الإفتاء في تلك الأعصار كان بنقل الرواية المعتبرة عندهم. و لو شك في أنّ المقصود بالشهرة في المقبولة الشهرة الروائيّة أو العمليّة أخذ‌

______________________________
(1) مصباح الأصول 2/ 141، المبحث الرابع في حجّية الشهرة.

(2) الوسائل 17/ 445، الباب 5 من أبواب ميراث الأبوين و الأولاد، الحديثان 4 و 7.

(3) الكافى 1/ 68، كتاب فضل العلم، باب اختلاف الحديث، الحديث 10.

100
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

أنواع الشهرة ؛ ج‌1، ص : 97

..........

______________________________
بالقدر المتيقّن أعني كون إحدى الروايتين مشهورة رواية و عملا كما لا يخفى. هذا.

و المقبولة رواها المشايخ الثلاثة و تلقّاها الأصحاب بالقبول حتّى اشتهرت بالمقبولة.

و صفوان بن يحيى في سندها من أصحاب الإجماع. و عن الشيخ في العدّة: أنّه لا يروي إلّا عن ثقة «1». و محمّد بن عيسى بن عبيد و إن ضعّفه الشيخ لكن قال النجاشي في حقّه: «إنّه جليل في أصحابنا ثقة عين.» «2» و قال في حقّ داود بن حصين الأسدي أيضا: «إنّه كوفي ثقة.» «3»

فيبقى الكلام في عمر بن حنظلة نفسه و قد رويت روايتان يستفاد منهما مدحه و صدقه و لكن في سند أحدهما يزيد بن خليفة و هو واقفي لم يثبت وثاقته و إن مال إليها بعض، و الخبر الآخر رواية نفس عمر بن حنظلة. و لكن كبار الأصحاب رووا عن عمر بن حنظلة و اعتنوا برواياته، و روايته هنا متلقّاة بالقبول و لعلّه يظهر آثار الصدق من متنها و فقراتها فيحصل الوثوق بصحّتها، فتدبّر. و راجع ما حرّرناه في سند الرواية و مفادها في كتاب ولاية الفقيه. «4»

و بالجملة يستفاد من المقبولة الاعتماد على الشهرة إجمالا. و على ذلك استقرّت الفتاوى في علاج الخبرين المتعارضين.

و يؤيّد ذلك مرفوعة زرارة المرويّة في عوالي اللآلي عن العلامة، قال: سألت الباقر «ع» فقلت: جعلت فداك يأتي عنكم الخبران أو الحديثان المتعارضان فبأيّهما آخذ؟ فقال: «يا‌

______________________________
(1) عدّة الأصول 1/ 386- 387؛ و تنقيح المقال 2/ 100- 101.

(2) رجال النجاشى/ 333 (ط. أخرى/ 235)؛ و تنقيح المقال 3/ 167.

(3) رجال النجاشى/ 159 (ط. أخرى/ 115)؛ و تنقيح المقال 1/ 408.

(4) راجع دراسات في ولاية الفقيه 1/ 428.

101
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الجهة الخامسة: الأمور على ثلاثة أقسام ؛ ج‌1، ص : 102

..........

______________________________
زرارة، خذ بما اشتهر بين أصحابك ودع الشاذّ النادر ...» و رواه عنه في قضاء المستدرك.
«1»

و لكن المرفوعة ضعيفة جدّا حتى إنّه طعن فيها و في أصل الكتاب من لم يكن من دأبه المناقشة في الأخبار كصاحب الحدائق «2». و لم يوجد منها أثر في ما بأيدينا من كتب العلامة، و إن أمكن أن يقال: إنّه في العوالي بعد ذكر المرفوعة قال: «و قد ورد هذا الحديث بلفظ آخر و هو ما روى محمد بن عليّ بن محبوب، عن محمد بن عيسى، عن داود بن الحصين، عن عمر بن حنظلة.» و ذكر المقبولة بطولها، و لعلّ هذا يوجب الاطمينان بأنّ ابن أبي جمهور رأى المرفوعة في كتاب من كتب العلامة و لكنّه لم يصل إلينا هذا.

و قد طال الكلام في الجهة الرابعة حول حديث تحف العقول. فأعتذر من القرّاء الكرام.

[الجهة الخامسة: الأمور على ثلاثة أقسام]

الجهة الخامسة: لا يخفى أنّ الأمور على ثلاثة أقسام:

[الأوّل: الحقائق المتأصّلة و الموجودات الخارجيّة]

الأوّل: الحقائق المتأصّلة و الموجودات الخارجيّة التي شغلت وعاء الخارج بمراتبه، مجرّدة كانت أو مادّية، جوهرية أو عرضية محمولة بالضميمة كالأبيض المحمول على الجسم و العالم المحمول على النفس.

[الثاني: المفاهيم الانتزاعية المنتزعة عن الخارجيّات]

الثاني: المفاهيم الانتزاعية المنتزعة عن الخارجيّات من دون أن يكون لها وجودات على حدة وراء وجودات مناشئ الانتزاع فتحمل عليها بنحو الخارج المحمول لا المحمول بالضميمة.

______________________________
(1) عوالي اللآلي 4/ 133، الرقم 229؛ و مستدرك الوسائل 3/ 185، كتاب القضاء، الباب 9 من أبواب صفات القاضى، الحديث 2.

(2) الحدائق 1/ 99، المقدمة السادسة.

102
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الثاني: المفاهيم الانتزاعية المنتزعة عن الخارجيات ؛ ج‌1، ص : 102

..........

______________________________
قال في المنظومة:

«و الخارج المحمول من صميمه

يغاير المحمول بالضميمة

«1» قوله: «من صميمه» متعلّق بالخارج لا بالمحمول، فيراد أنّه خارج من حاقّ الذات و لكنّه يحمل عليها.

و قد يمثل لذلك في كلماتهم بالفوقيّة و التحتيّة و القبليّة و البعديّة و الأبوّة و البنوّة و أمثال ذلك من الإضافات المتكرّرة، و يقال: إنّ الخارج ظرف لأنفسها لا لوجوداتها إذ لا وجود لواحد منها وراء وجود منشأ انتزاعه.

أقول: لنا فيما مثّلوا به كلام، إذ الخارجيّة مساوقة لنحو من الوجود و إن كان ضعيفا كما في جميع الأعراض النسبيّة. و المقسم للجوهر و المقولات العرضيّة بأجمعها هو الموجود الممكن فيجب أن يتحقّق المقسم في جميع الأقسام و مرتبة وجود العرض غير مرتبة وجود المعروض لتأخّره عنه رتبة. فلا يبقى فرق من هذه الجهة بين البياض و العلم و غيرهما من الكيفيّات و بين مثل الفوقيّة و التحتيّة و الأبوّة و البنوّة و غيرها من الإضافات المتكرّرة و إن تفاوتت في شدّة الوجود و ضعفه، فيكون الجميع من أقسام المحمول بالضميمة.

نعم في المفاهيم العامّة المنتزعة عن الماهيّات الخارجيّة كمفهوم الذات أو الماهيّة أو الشيئيّة أو الإمكان و نحوها من المعقولات الثانية باصطلاح الفلسفي و كذلك المفاهيم العامّة المنتزعة عن الوجودات الخارجيّة كمفهوم الوحدة أو التشخّص يشكل القول بتحقّق الوجود لها خارجا وراء وجودات مناشئ الانتزاع للزوم التسلسل و غيره من المحاذير‌

______________________________
(1) شرح المنظومة للحكيم المتألّه السبزواري- قسم المنطق-/ 30، غوص في الفرق بين الذاتى و العرضى.

103
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الثالث: الأمور الاعتبارية المحضة ؛ ج‌1، ص : 104

..........

______________________________
المذكورة في محلّه
«1». و يعبّرون عن مثلها بأنّ الاتصاف بها في الخارج و لكن عروضها لمعروضاتها في الذهن بعد تحليله و انتزاعها منها. و ملاك انتزاعها مع أنّ الانتزاع لا يكون جزافا يحتاج إلى تأمّل و بيان أوفى.

[الثالث: الأمور الاعتبارية المحضة]

الثالث: الأمور الاعتبارية المحضة التي لا واقعيّة لها في عالم الخارج أصلا، و إنما توجد في وعاء الفرض و الاعتبار باعتبار من له الاعتبار عرفا أو شرعا بلحاظ الآثار المترقّبة منها المترتبة عليها عند العقلاء، فيكون تكوينها بعين وجودها الإنشائي الاعتباري، و ذلك كالمناصب الاعتبارية بمراتبها و الأحكام الشرعيّة التكليفيّة و الوضعيّة. و من هذا القبيل الزوجيّة المعتبرة بين الزوجين و الملكيّة الاعتبارية التي هي موضوع بحثنا في باب المعاملات، لا الملكيّة الحقيقيّة التكوينيّة:

توضيح ذلك: أنّ الملكيّة أعني إضافة الواجديّة المتحقّقة بين المالك و الملك تكون على نوعين: ملكيّة حقيقيّة تكوينيّة، و ملكيّة اعتباريّة محضة:

فالأولى كمالكيّة اللّه- تعالى- لنظام الوجود من الأعلى إلى الأدون بمعنى واجديّته لها و إحاطته القيّوميّة بها تكوينا لتقوّمها به ذاتا. و كذا مالكيّة الإنسان لفكره و قواه و حركاته الصادرة عنه. و من هذا القبيل أيضا مقولة الجدة كواجدية الإنسان خارجا لألبسته المحيطة ببدنه، و يقال لها مقولة الملك أيضا.

و الثانية كمالكية زيد مثلا لداره و بستانه و سائر أمواله، حيث إنّها إضافة اعتباريّة محضة يعتبرها العرف و الشرع بينهما و إن فرض كون أحدهما بالمغرب و الآخر بالمشرق مثلا. هذا.

______________________________
(1) راجع شرح المنظومة للحكيم السبزواري/ 39، في تعريف المعقول الثانى و بيان الاصطلاحين فيه.

104
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الثالث: الأمور الاعتبارية المحضة ؛ ج‌1، ص : 104

..........

______________________________
و في مصباح الفقاهة مثل للملكيّة التكوينيّة بالإضافات الموجودة بين الأشخاص و أعمالهم و أنفسهم و ذممهم، ثمّ قال: «فإنّ أعمال كلّ شخص و نفسه و ذمّته مملوكة له ملكيّة ذاتيّة و له واجديّة لها فوق مرتبة الواجديّة الاعتبارية و دون مرتبة الواجديّة الحقيقيّة التي لمكوّن الموجودات.»
«1»

أقول: واجديّة الشخص لنفسه ليس من قبيل الإضافات، إذ الإضافة تحتاج إلى طرفين. اللّهم إلّا أن يفرض الاثنينية بين الشي‌ء و نفسه ثمّ يعتبر الإضافة بينهما، فمآله إلى الاعتبار قهرا، و بهذا اللحاظ أيضا يحمل الشي‌ء على نفسه، فتدبّر.

و واجديّة الشخص لذمّته ليست تكوينيّة ذاتية بل هي اعتباريّة محضة، إذ الذمّة أمر اعتباريّ يعتبره العقلاء للأشخاص على حسب ما يرون لهم من الإمكانات كما هو واضح.

ثمّ لا يخفى أنّ اعتبار الملكيّة و فرضها ليس جزافيّا، بل الظاهر أنّ منشأه و أساسه وجود نحو من الملكيّة الحقيقيّة التكوينيّة، و الحاصل أنّ نظام التشريع الصحيح ينطبق على نحو من نظام التكوين.

بيان ذلك أنّ الشخص يملك تكوينا لفكره و قواه و أعضائه و جوارحه في الرتبة الأولى كما مرّ، و يتبع ذلك يملك لحركاته و أفعاله من الصنع و الزرع و الحيازة و نحو ذلك كذلك في الرتبة الثانية. و يتبع ذلك قهرا وجود مصنوعاته و محصولاته و ما أحياه و حازه تحت سلطته فيعتبر إضافة الملكيّة بينها و بينه لكونها من ثمرات حركاته و أفعاله، و يعدّ المستولي عليها بدون إذنه عند العرف و العقلاء غاصبا لحقّ الغير. فالمرتبة الأولى من الملكيّة الاعتبارية ترتّبت على مرتبتين من التكوينيّة و نتاجات هذه و منافعها تعدّ ملكا له‌

______________________________
(1) مصباح الفقاهة 1/ 9.

105
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الثالث: الأمور الاعتبارية المحضة ؛ ج‌1، ص : 104

..........

______________________________
في الرتبة المتأخّرة و هكذا. هذا كلّه مع قطع النظر عن المبادلات.

ثم إنّ الصنائع و الحركات توجد لرفع الحاجات، و لما كانت مصنوعات الشخص و توليداته قد لا تفي بجميع حاجاته و قد يزيد بعضها عن مقدار حاجته، فهو بسلطنته عليها ربّما يهبها لمن يحتاج إليها مجانا و ربّما يبادل بعضها عينا أو منفعة في قبال مصنوعات الغير و توليداته لاحتياجه إلى مصنوع الغير و احتياج الغير إلى مصنوعه، فمن هنا انعقدت نطفة المبادلات و المعاملات الدائرة من البيع و الإجارة و نحوهما. فتصير مالكيته لمصنوع الغير في قبال ما كان يملكه من مصنوع نفسه، فيضاف إليه إضافة ثانويّة لكونها متفرّعة على الإضافة الأوّليّة الحاصلة بصنعه، و هكذا ثالثة و رابعة حسب تعاقب المبادلات على الأعيان أو المنافع.

و حيث إنّ جميع الحاجات لا ترتفع بمبادلة نفس الأمتعة بعضها ببعض، إذ ربّما يحتاج الشخص إلى مصنوع الغير و الغير لا يحتاج إلى مصنوع هذا بل إلى متاع آخر يوجد عند ثالث، صار هذا سببا لاعتبار الأثمان بعنوان الواسطة رفعا للحاجات و تسهيلا لأمر المبادلات فيباع المصنوع الزائد بثمن معتبر ثمّ يشتري به عند الحاجة المتاع المحتاج إليه من ثالث أو يستأجر منه. فتشريع المعاملات كان أوّلا على أساس مبادلة الأمتعة على حسب الحاجات، و إنّما جعلت الأثمان في الرتبة الثانية بعنوان الواسطة و الآلة.

و الأثمان قد تغيّرت و تكاملت بحسب الأعصار و الأمم المختلفة و تكاملهم في المدنيّة.

و للبحث في ذلك محلّ آخر.

و كيف كان فمن المعاملات الدائرة في جميع المجتمعات البيع، و هو مبادلة العين بمال معيّن سواء في ذلك مبادلة متاع بمتاع أو متاع بثمن. و بعبارة أخرى لما كانت الملكيّة‌

106
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الجهة السادسة: اشتمال الحديث على جملة من القواعد الكلية ؛ ج‌1، ص : 107

..........

______________________________
الاعتبارية عبارة عن إضافة خاصّة معتبرة بين المالك و ملكه كان الملك أحد طرفي الإضافة، فالبيع عبارة عن تبديل هذا الطرف من الإضافة بإزاء طرف إضافة أخرى للغير.

فبالبيع يقع التبادل بين الملكين، لا بأن تبقى الإضافة نفسها إذ هي معنى حرفي متقوّم فتدبّر.

و أمّا في باب المواريث فالظاهر اعتبار التبدّل بين المالكين، فالملك كأنّه يبقى في محلّه، و المالك بموته يخلفه وارثه الذي يعتبر وجودا بقائيا له على حسب طبقات الإرث. ففي كتاب أمير المؤمنين «ع» لابنه الحسن «ع»: «و وجدتك بعضي بل وجدتك كلّي حتى كأنّ شيئا لو أصابك أصابني، و كأنّ الموت لو أتاك أتاني ...» «1»

[الجهة السادسة: اشتمال الحديث على جملة من القواعد الكلّية]

الجهة السادسة: في نقل كلام من حاشية السيّد الطباطبائي «ره» حول حديث تحف العقول. قال: «لا يخفى اشتمال هذا الحديث الشريف على جملة من القواعد الكلّية:

منها: حرمة الدخول في أعمال السلطان الجائر و حرمة التكسّب بهذه الجهة.

و منها: حرمة الإعانة على الإثم.

و منها: جواز التجارة بكلّ ما فيه منفعة محلّلة.

و منها: حرمة التجارة بما فيه مفسدة من هذه الجهة.

و منها: حرمة بيع الأعيان النجسة بل المتنجّسة إذا جعل المراد من الوجوه الأعمّ.

و منها: حرمة عمل يقوى به الكفر.

و منها: حرمة كلّ عمل يوهن به الحقّ.

______________________________
(1) نهج البلاغة، عبده 3/ 43؛ فيض/ 907؛ صالح/ 391، الكتاب 31.

107
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الجهة السادسة: اشتمال الحديث على جملة من القواعد الكلية ؛ ج‌1، ص : 107

..........

______________________________
و منها: جواز الإجارة بالنسبة إلى كلّ منفعة محلّلة.

و منها: حرمة الإجارة في كلّ ما يكون محرّما.

و منها: حلّية الصناعات التي لا يترتّب عليها الفساد.

و منها: حرمة ما يكون متمحضا للفساد.

و منها: جواز الصناعة المشتملة على الجهتين بقصد الجهة المحلّلة. بل يظهر من الفقرة الأخيرة جوازها مع عدم قصد الجهة المحرّمة و إن لم يكن قاصدا للمحلّلة حيث قال:

«فلعلّه لما فيه من الصّلاح حلّ ...» بل التأمّل في فقراته يعطي جواز التجارة أو الإجارة أو الصناعة بقصد الجهة المحلّلة النادرة، حيث إنّ المستفاد منها أنّ الملاك ترتّب المفسدة و قصد الصّرف في الجهات المحرّمة ...» «1» انتهى كلام السيّد في الحاشية.

أقول: ما احتمله من شمول وجوه النجس للمتنجّسات ليس ببعيد، إذ لفظ المتنجّس ليس في الروايات و كلمات القدماء من أصحابنا بل كان يطلق على الجميع لفظ النجس أو القذر كما لا يخفى على من تتّبع. و بهذا البيان كان يريد الأستاذ: آية اللّه البروجردي- طاب ثراه- المناقشة فيما قيل من عدم الدليل على تنجيس المتنجّس لغيره بتقريب أن سراية النجس و القذر إلى غيره معلوم، و اللفظان يشملان للمتنجّس أيضا. و إن كان لنا فيما ذكره كلام ليس هنا محلّ ذكره. هذا.

و لكن يرد على العلّامة الطباطبائي في المقام: أنّ رواية تحف العقول على ما مرّ ضعيفة عليلة سندا و متنا، فلا تصلح إلّا للاستيناس و التأييد.

هذا كلّه حول رواية تحف العقول.

______________________________
(1) حاشية المكاسب للعلامة المحقّق الطباطبائى/ 4.

108
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الجهة السادسة: اشتمال الحديث على جملة من القواعد الكلية ؛ ج‌1، ص : 107

و حكاه غير واحد عن رسالة المحكم و المتشابه للسّيد- قدّس سرّه- (1)

______________________________
(1) أقول: الظاهر أن نظره في ذلك إلى نقل الوسائل و الحدائق:

قال في الوسائل: «و رواه المرتضى في رسالة المحكم و المتشابه كما مرّ في الخمس و نحوه.» «1»

و في الحدائق: «و رواه المرتضى في رسالة المحكم و المتشابه.» «2»

و ما ذكروه عجيب، إذ ليس في المحكم و المتشابه من هذه الرواية عين و لا أثر. نعم فيه نقلا عن تفسير النعماني عن عليّ «ع» قال: «و أمّا ما جاء في القرآن من ذكر معايش الخلق و أسبابها فقد أعلمنا سبحانه ذلك من خمسة أوجه: وجه الإمارة و وجه العمارة و وجه الإجارة و وجه التجارة و وجه الصدقات.» ثمّ شرح الوجوه الخمسة بما لا يرتبط بما في رواية تحف العقول، فراجع كتاب الخمس من الوسائل «3» و تفسير النعماني المطبوع بتمامه في البحار «4»، و ذكر فيه بدلا عن لفظ الإمارة لفظ: «الإشارة» و الظاهر أنّه غلط.

______________________________
(1) الوسائل 12/ 57، كتاب التجارة، الباب 2 من أبواب ما يكتسب به.

(2) الحدائق 18/ 70، كتاب التجارة، المقدمة الثالثة فيما يكتسب به.

(3) الوسائل 6/ 341، كتاب الخمس، الباب 2 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 12.

(4) بحار الأنوار 90/ 46 (ط. إيران 93/ 46)، كتاب القرآن، الباب 128.

109
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الرواية الثانية: رواية فقه الرضوي ؛ ج‌1، ص : 110

[الرواية الثانية: رواية فقه الرضوي]

و في الفقه المنسوب إلى مولانا الرضا- صلوات اللّه و سلامه عليه-:

«اعلم- يرحمك اللّه- أنّ كلّ مأمور به ممّا هو صلاح للعباد و قوام لهم في أمورهم من وجوه الصلاح الذي لا يقيمهم غيره- ممّا يأكلون و يشربون و يلبسون و ينكحون و يملكون و يستعملون- فهذا كلّه حلال بيعه و شراؤه و هبته و عاريته. و كلّ أمر يكون فيه الفساد- ممّا قد نهي عنه من جهة أكله و شربه و لبسه و نكاحه و إمساكه، لوجه الفساد، ممّا قد نهي عنه، مثل الميتة و الدّم و لحم الخنزير و الربا و جميع الفواحش و لحوم السباع و الخمر و ما أشبه ذلك- فحرام ضارّ للجسم و فاسد (فساد- خ.)

للنفس.» (1) انتهى.

______________________________
الرواية الثانية

(1) هذه هي الرواية الثانية من الروايات الأربع التي ذكرها المصنّف بعنوان الضابطة في المقام. و قد كتبناها في المتن على طبق فقه الرضا المطبوع أخيرا من قبل المؤتمر‌

110
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الرواية من جهة الدلالة ؛ ج‌1، ص : 111

..........

______________________________
العالمي للإمام «ع»، فراجع
«1».

و الدقة في عبارتها و مقايسة سياقها مع سياق رواية تحف العقول الماضية تعطي الوثوق بأخذ العبارة من تلك الرواية بنحو الخلاصة.

و الكلام يقع تارة في دلالتها و أخرى في سندها:

[الرواية من جهة الدلالة]

أمّا من جهة الدلالة فنقول:

أوّلا: الظاهر أنّ المأمور به في العبارة لا يراد به ما بلغ حدّ الضرورة و الوجوب فعلا، بل يراد به ما يوجد فيه شأنيّة الوجوب و ملاكه كثيرا لتوقّف حفظ الإنسان عليه إجمالا. فمثل هذه الأمور حلال و إن لم تصل إلى حدّ الوجوب و الضرورة.

و ثانيا: المراد بالحلال و كذا الحرام هنا أعمّ من التكليف و الوضع، فيستفاد من حلّية البيع و نحوه مثلا صحّتها و ترتّب الأثر عليها أيضا.

و استعمال اللفظين في الوضع في لسان الكتاب و السنة شائع كثير كقوله- تعالى-:

وَ أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبٰا. «2» و قد مرّ بيان ذلك في الجهة الثالثة حول رواية تحف العقول، فراجع.

و بذلك يظهر الإشكال على ما في مصباح الفقاهة، حيث قال: «إنّ ظاهر الرواية هو حرمة بيع الأمور المذكورة تحريما تكليفيّا كما تقدّم نظير ذلك في رواية تحف العقول، و كلامنا في الحرمة الوضعيّة.» «3»

______________________________
(1) فقه الرضا/ 250، باب التجارات و البيوع و المكاسب.

(2) سورة البقرة (2)، الآية 275.

(3) مصباح الفقاهة 1/ 18.

111
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

البحث في سند كتاب فقه الرضا ؛ ج‌1، ص : 112

 

..........

______________________________
و ثالثا: ظاهر العبارة أنّ كلّ ما فيه الفساد يحرم إمساكه لوجه الفساد. و المقصود من ذلك إمساكه بقصد أن يستعمل في المآل في الفساد، فلا دلالة في العبارة على حرمة إمساك كلّ ما فيه الفساد بنحو الإطلاق. و بذلك يظهر أيضا المناقشة فيما في مصباح الفقاهة، حيث قال: «كيف يتفوّه فقيه أو متفقّه بحرمة إمساك الدم و الميتة و لحوم السباع كما أنّ ذلك مقتضى الرواية.»
«1»

و رابعا: يظهر من العبارة أنّ الملاك في حرمة الأشياء بنحو الإطلاق ليس إلّا إضرارها بالجسم أو إفسادها للنفس. و لكن يشكل الالتزام بذلك و أنّ ما يحرم لبسه أو نكاحه مثلا أيضا لا ملاك لحرمته إلّا ذلك. نعم على مذهب العدليّة لا يكون تكليف أو وضع بلا ملاك، و لكنّه لا ينحصر في المنافع و المضارّ الشخصيّة فقط كما لا يخفى.

و خامسا: ليس في عبارة فقه الرضا بالنسبة إلى ما فيه الفساد من المنهيّات اسم من حرمة المعاملات عليه و فسادها، إذ ظاهر قوله أخيرا: «فحرام ضارّ للجسم و فساد للنفس» حرمة استعماله بالأكل و الشرب و أمثال ذلك. اللّهم إلّا أن يحكم بمقتضى المقابلة لقوله:

«حلال بيعه و شراؤه» أنّ المقصود هنا حرمة المعاملات أيضا، فتدبّر.

البحث في سند كتاب فقه الرضا

[الكتاب وزين جامع جيّد الأسلوب]

و اعلم أنّ كتاب فقه الرضا من جهة المتن كتاب وزين جامع جيّد الأسلوب يظهر من سياقه و المسائل المعنونة فيه أنّ مؤلّفه كان محيطا إجمالا بفقه الشيعة الإمامية و رواياتهم المأثورة عن الأئمة «ع»، عارفا بمذهب أهل البيت مطّلعا على موازين الجمع بين الأخبار‌

______________________________
(1) مصباح الفقاهة 1/ 17.

 

112
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

القول الأول أنه من الإمام«ع» ؛ ج‌1، ص : 113

 

..........

______________________________
المتعارضة، بحيث لو صحّ سند الكتاب و ثبت اعتباره كان وافيا بحلّ كثير من المعضلات و دليلا لكثير من المسائل و الفتاوى التي وقع الإشكال في مداركها، و إن اشتمل أيضا على بعض الفتاوى التي لا يلتزم بها الشيعة و لكنّها قليلة جدّا.

و آخر الكتاب هو باب القضاء و المشيّة و الإرادة. و أمّا باب فضل صوم شعبان و ما بعده «1» فالظاهر أنّه كتاب آخر ألحق به في الطبع السابق، و هو نوادر أحمد بن محمّد بن عيسى، و قد طبع أخيرا كلّ من الكتابين مستقلا.

[القول الأول أنّه من الإمام «ع»]

[المجلسيّان و جمع من الفحول اعتمدوا عليه بعنوان أنّه لشخص الإمام «ع»]

فالعمدة هنا البحث في ماهيّة الكتاب و أنّه معتبر أم لا؟ و قد ظهر الكتاب في عصر المجلسيّين- قدّس سرّهما- ثمّ وقع الاختلاف في أنّه من الإمام «ع» أو من مؤلّفات بعض الأصحاب. فالمجلسيّان و جمع من الفحول اعتمدوا عليه بعنوان أنّه لشخص الإمام «ع»:

1- قال المجلسي في مقدمة البحار: «و كتاب فقه الرضا «ع» أخبرني به السيّد الفاضل المحدّث القاضي أمير حسين- طاب ثراه- بعد ما ورد أصفهان. قال: قد اتفق في بعض سني مجاورتي بيت اللّه الحرام أن أتاني جماعة من أهل قم حاجّين، و كان معهم كتاب قديم يوافق تاريخه عصر الرضا «ع»، و سمعت الوالد- رحمه اللّه- أنّه قال سمعت السيّد يقول: كان عليه خطّه- صلوات اللّه عليه- و كان عليه إجازات جماعة كثيرة من الفضلاء.

و قال السيّد: حصل لي العلم بتلك القرائن أنّه تأليف الإمام «ع» فأخذت الكتاب و كتبته و صحّحته. فأخذ والدي- قدّس اللّه روحه- هذا الكتاب من السيّد و استنسخه و صحّحه. و أكثر عباراته موافق لما يذكره الصدوق أبو جعفر بن بابويه في‌

______________________________
(1) راجع فقه الرضا/ 56 و ما بعدها من الطبع السابق.

 

113
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

المجلسيان و جمع من الفحول اعتمدوا عليه بعنوان أنه لشخص الإمام«ع» ؛ ج‌1، ص : 113

..........

______________________________
كتاب من لا يحضره الفقيه من غير سند، و ما يذكره والده في رسالته إليه. و كثير من الأحكام التي ذكرها أصحابنا و لا يعلم مستندها مذكورة فيه كما ستعرف في أبواب العبادات.»
«1»

2- و قال المجلسي الأوّل في حاشيته على روضة المتّقين تأليف نفسه ما مختصره:

«اعلم أنّ السيّد الثقة الفاضل المعظّم القاضي مير حسين- طاب ثراه- كان مجاورا في مكّة المعظمة سنين، و بعد ذلك جاء إلى أصفهان و ذكر أني جئت بهديّة نفيسة إليك و هو الكتاب الذي كان عند القمّيين و جاؤوا به إليّ عند ما كنت مجاورا، و كان على ظهره أنّه يسمّى بالفقه الرضوي. و كان فيه بعد الحمد و الصلاة: «أمّا بعد فيقول عبد اللّه عليّ بن موسى الرضا.» و كان في مواضع منه خطّه «ع».

و من كان عنده الكتاب ذكر أنّه وصل إلينا عن آبائنا أنّه تصنيف الإمام «ع»، و كان نسخة قديمة مصحّحة فانتسخت منها. و لما أعطاني القاضي نسخته انتسخت منها ثم أخذه منّي بعض التلامذة و نسيت الأخذ فجاءني به بعد تأليفي لهذا الشرح، فلمّا تدبّرته ظهر أنّ جميع ما يذكره علي بن بابويه في الرسالة فهو عبارة هذا الكتاب ممّا ليس في كتب الحديث.

و الظاهر أنّه كان هذا الكتاب عند الصدوقين و حصل لهما العلم بأنّه تأليفه «ع».

و الظاهر أنّ الإمام «ع» ألّفه لأهل خراسان و كان مشهورا عندهم. و لما ذهب الصدوق إليها اطّلع عليه بعد ما وصل إلى أبيه قبل ذلك فلمّا كتب أبوه إليه الرسالة و كان ما كتبه موافقا لهذا الكتاب تيقّن عنده مضامينه فاعتمد عليها الصدوق.

______________________________
(1) بحار الأنوار 1/ 11، مصادر الكتاب.

114
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

المجلسيان و جمع من الفحول اعتمدوا عليه بعنوان أنه لشخص الإمام«ع» ؛ ج‌1، ص : 113

..........

______________________________
و الذي ظهر لي بعد التتبع أنّ علّة عدم إظهار هذا الكتاب أنّه لمّا كان التأليف في خراسان و كان أهلها من العامّة- و الخاصّة منهم قليلة- اتّقى- صلوات اللّه عليه- فيه في بعض المسائل تأليفا لقلوبهم مع أنّه «ع» ذكر الحقّ أيضا، لم يظهر الصدوق ذلك الكتاب و كان محذوفا عندهما و كانا يفتيان بما فيه و يقولان إنّه قول المعصوم.»
«1»

أقول: و راجع في هذا المجال أيضا ما حكاه في المستدرك عن فوائد العلامة الطباطبائي و مفاتيح الأصول نقلا عن المجلسي الأوّل- قدّس اللّه تعالى أسرارهم. «2»

و ما ذكره لتوجيه اشتمال الكتاب على الفتاوى المختصّة بالعامّة ضعيف، إذ الإمام «ع» في خراسان لم يكن مبتلى بالتقيّة في قبال العامّة، فعلى فرض كون الكتاب تأليفا له كيف يخرّب و يوهن كتابه المتقن الجامع بذكر عدد قليل من الفتاوى الباطلة فيه مع عدم الإجبار؟! و أئمتنا «ع» كانوا بصدد بيان الحقّ و قلع أساس الباطل مهما أمكن، كما يظهر من مخالفاتهم في المسائل المختلف فيها بين الشيعة و السنة في الأبواب المختلفة كالعول و التعصيب و نحوهما. هذا.

3- و استند المجلسي الأوّل في كتاب الحجّ من الشرح الفارسي للفقيه في باب ما يجب على من بدأ بالسعي قبل الطواف بالفقه الرضوي و قال في أثناء كلامه: «قال شيخان فاضلان صالحان ثقتان: إنّهما أتيا بهذه النسخة من قم إلى مكّة، و كانت النسخة قديمة و عليها خطوط إجازات العلماء، و في مواضع منها خطّه «ع».

______________________________
(1) روضة المتّقين 1/ 16، شرح خطبة الفقيه.

(2) مستدرك الوسائل 3/ 337، الفائدة الثانية من الخاتمة، في شرح حال الكتب و مؤلفيها.

115
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

قول المحقق النراقي ؛ ج‌1، ص : 116

..........

______________________________
و القاضي مير حسين- طاب ثراه- كان استنسخ منها نسخة أتى بها إلى هذا البلد فاستنسخت أنا من نسخته ...»
«1»

أقول: ظاهر هذه العبارة أنّ الشيخين المذكورين أخبرا المجلسي بذلك، و لكن الظاهر أنّهما أخبرا القاضي مير حسين بمكّة و القاضي أخبر المجلسي بأصفهان. و ليس في إخبار الثقتين كون الكتاب للإمام «ع» و إنّما أخبرا بإتيانهما الكتاب الخاصّ من قم، فتدبّر.

[قول المحقق النراقي]

4- و المحقق النراقي- قدّس سرّه- خصّ عائدة من كتاب العوائد بتحقيق حال هذا الكتاب و قال ما ملخّصه: «إنّ هذا الكتاب لم يكن متداولا بين الطبقة المتوسّطة من الأصحاب إلى زمان الفاضل محمد تقي المجلسي و هو أوّل من روّج هذا الكتاب، و بعده ولده العلامة محمد باقر المجلسي، فإنّه أورده في كتاب بحار الأنوار.» إلى أن قال ما ملخّصه: «فقد عرفت أنّ الفاضلين المجلسيين و الفاضل الهندي و جمعا من مشايخنا العظام و منهم السيّد السند الأستاذ، و منهم صاحب الحدائق و هو من المصرّين على ذلك و يجعله حجّة بنفسه، و منهم صاحب رياض المسائل، و منهم الوالد الماجد صاحب اللوامع، و بعض من تقدّم عليهم كالفاضل الكاشاني شارح المفاتيح قد سلكوه في مسلك الأخبار و أدرجوه في كتب أحاديث الأئمة الأطهار «ع».»‌

5- و قال أيضا: «قال السيّد الأستاذ: و ممّا يشهد باعتباره و صحّة انتسابه إلى الإمام عليّ بن موسى الرضا «ع» مطابقة فتاوى الشيخين الجليلين الصدوقين لذلك حتّى إنّهما قدّماه في كثير من المسائل على الروايات الصحيحة، و خالفا لأجله من تقدّمهما من‌

______________________________
(1) شرح كتاب من لا يحضره الفقيه، كتاب الحج/ 198 (المجلد الخامس حسب تجزئة الشارح).

116
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

قول المحقق النراقي ؛ ج‌1، ص : 116

..........

______________________________
الأصحاب، و عبّرا في الغالب بنفس عباراته، و يلوح من الشيخ المفيد الأخذ به و العمل بما فيه من مواضع من المقنعة. و معلوم أنّ هؤلاء الأعاظم الذين هم أركان الشريعة لا يستندون إلى غير مستند و لا يعتمدون على غير معتمد. و قد رجع إلى فتاويهم أصحابنا المتأخّرون عنهم لاعتمادهم عليهم بأنّهم أرباب النصوص و أنّ فتواهم عين النصّ الثابت عن الحجج. و قد ذكر الشهيد [في الذكرى] أن الأصحاب كانوا يعملون بشرائع عليّ بن بابويه. و مرجع كتاب الشرائع و مأخذه هذا الكتاب كما هو معلوم على من تتبّعها و تفحّص ما فيها و عرض أحدهما على الآخر. و من هنا يظهر عذر الصدوق في عدّ رسالة أبيه من الكتب التي إليها المرجع و عليها المعوّل لأنّ الرّسالة مأخوذة من الفقه الرضوي و هو حجّة عنده و لم يكن الصدوق ليقلّد أباه فيما أفتاه حاشاه، و كذلك اعتماد الأصحاب على كتاب عليّ بن بابويه.»
«1»

أقول: أراد بالسيّد الأستاذ: العلامة الطباطبائي المشتهر ببحر العلوم، حيث إنّه عقد في فوائده فائدة للبحث في هذا الكتاب «2».

6- و في العوائد أيضا عن سيّده الأستاذ أنّه قال: «قد اتفق لي في سني مجاورتي في المشهد المقدّس الرضوي أنّي وجدت في نسخة من هذا الكتاب من الكتب الموقوفة على الخزانة الرضوية: أنّ الإمام عليّ بن موسى الرضا- عليهما السلام- صنّف هذا الكتاب لمحمّد بن السكين، و أنّ أصل النسخة وجدت في مكة المشرّفة بخطّ الإمام «ع» و كان بالخطّ الكوفي فنقله المولى المقدّس الآميرزا محمد- و كان صاحب الرجال- إلى الخطّ‌

______________________________
(1) العوائد/ 247- 251.

(2) راجع الفوائد/ 144، الفائدة 45 و هى في آخر الكتاب.

117
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

قول صاحب رياض العلماء ؛ ج‌1، ص : 118

..........

______________________________
المعروف.» و راجع المستدرك أيضا.
«1»

[قول صاحب رياض العلماء]

7- و في كتاب رياض العلماء في شرح حال السيّد عليّ خان شارح الصحيفة قال:

«ثمّ اعلم أنّ أحمد السكين- و قد يقال: أحمد بن السكين- هذا الذي قد كان في عهد مولانا الرضا- صلوات اللّه عليه- و كان مقرّبا عنده في الغاية. و قد كتب لأجله الرضا «ع» كتاب فقه الرضا. و هذا الكتاب بخطّ الرضا «ع» موجود في الطائف بمكّة المعظّمة في جملة من كتب السيّد عليّ خان المذكور التي قد بقيت في بلاد مكّة. و هذه النسخة بالخطّ الكوفي و تاريخها سنة مأتين من الهجرة، و عليها إجازات العلماء و خطوطهم. و قد ذكر الأمير غياث الدين المذكور نفسه أيضا في بعض إجازاته بخطّه هذه النسخة، ثمّ أجاز هذا الكتاب لبعض الأفاضل، و تلك الإجارة بخطّه أيضا موجود في جملة كتب السيّد علي خان عند أولاده بشيراز.» «2»

أقول: في رياض العلماء ذكر غياث الدين منصور من أجداد السيّد علي خان، و أنهى نسبه إلى أحمد السكين بن جعفر بن محمّد بن زيد الشهيد. و يشبه أن يكون أحمد بن السكين في العبارة الأخيرة و محمد بن السكين فيما قبلها أحدهما مصحّف الآخر.

و لكن المذكور في الرجال: محمد بن سكين بن عمّار النخعي. قال النجاشي إنّه ثقة روى أبوه عن أبي عبد اللّه «ع» «3». و لا يهمّنا فعلا تحقيق ذلك.

______________________________
(1) العوائد/ 249، عائدة في حال الفقه الرضوي. و مستدرك الوسائل 3/ 340، الفائدة الثانية من الخاتمة في شرح حال الكتب و مؤلّفيها.

(2) رياض العلماء 3/ 364.

(3) رجال النجاشى/ 361 (ط. أخرى/ 256)؛ و عنه في تنقيح المقال 3/ 121.

118
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

قول صاحب رياض العلماء ؛ ج‌1، ص : 118

..........

______________________________
و يظهر من العبارتين أنّ نسخة الخزانة الرضوية كانت مأخوذة من نسخة السيّد عليّ خان في مكّة، و أنّ هذه النسخة غير ما أتى بها القاضي مير حسين من مكّة، لأنّها كانت لحجّاج قم أتوا بها من قم.

و الظاهر أنّ نسخة القاضي و نسخة القميين كانتا بالخط المعروف لا بالخطّ الكوفي و إلّا لأشار إلى ذلك السيّد و المجلسيّان فيما مرّ من كلامهما، فاحتمال وحدة النسختين بعيد.

و أبعد من ذلك احتمال أن تكون النسخة بالخطّ الكوفي كتابا آخر للرضا «ع» كتبه لابن السكين غير فقه الرضا الموجود عندنا كما يظهر من مصباح الفقاهة «1»، إذ بحر العلوم شهد أنّ النسخة كانت عين فقه الرضا الموجود عندنا.

8- و في الحدائق نقلا عن السيّد المحدّث السيّد نعمة اللّه الجزائري في مقدّمات شرحه على التهذيب قال: «و كم قد رأينا جماعة من العلماء ردّوا على الفاضلين بعض فتاويهم لعدم الدليل فرأينا دلائل تلك الفتاوى في غير الأصول الأربعة، خصوصا كتاب الفقه الرضويّ الذي أتي به من بلاد الهند في هذه الأعصار إلى أصفهان، و هو الآن في خزانة شيخنا المجلسي، فإنّه قد اشتمل على مدارك كثيرة للأحكام و قد خلت عنها هذه الأصول الأربعة و غيرها.» «2»

أقول: يظهر من هذه العبارة أنّ نسخة من فقه الرضا أيضا أتي بها للمجلسي من الهند، فلا محالة تكون غير نسخة القاضي التي أتى بها من مكّة، و لعلّها كانت في خلال الكتب التي كان يؤتى بها للمجلسي من البلاد النائية حين تأليفه للبحار. و من‌

______________________________
(1) مصاح الفقاهة 1/ 15.

(2) الحدائق 1/ 25، المقدّمة الثانية.

119
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

دليل القائلين بحجية هذا الكتاب ؛ ج‌1، ص : 120

 

..........

______________________________
المحتمل و لو ضعيفا أنّها كانت مأخوذة من نسخة السيّد علي خان و لو بالواسطة، إذ السيّد كما في رياض العلماء
«1» كان مجاورا بمكّة ثمّ رحل في أوائل حاله إلى حيدرآباد من بلاد الهند و أقام بها مدة طويلة.

و كيف كان فهل الكتاب كان من إنشاء الإمام «ع» و لو إملاء على غيره كما عليه المجلسيان و جمع من فحول المتأخرين، و يؤيّد ذلك موافقة فتاوى الصدوقين لعباراته إذ دأب القدماء كان على الإفتاء بمتون الأخبار، أو أنّه كتاب مكذوب على الإمام «ع» بداعي دسّ بعض الفتاوى الباطلة فيه، أو أنّه رسالة عليّ بن بابويه إلى ابنه الذي اعتمد عليها الصدوق في فتاويه في الفقيه و غيره و كان الأصحاب يرجعون إليها عند إعواز النصوص كما ربّما يستشهد لذلك بموافقة ما حكاه عنها ابنه في الفقيه و المقنع لما في هذا الكتاب، و كذا ما حكاه عنها العلامة في المختلف، و ما أفتى به في الفقيه بلا ذكر مأخذ، أو أنّه كتاب التكليف الّذي ألّفه محمّد بن عليّ الشلمغاني فعرضوه على وكيل الناحية المقدّسة أبي القاسم حسين بن روح فقال: ما فيه شي‌ء إلّا و قد روي عن الأئمة «ع» إلّا موضعين أو ثلاثة فإنّه كذب عليهم كما في غيبة الشيخ الطوسي «2»؟ في المسألة احتمالات بل أقوال:

[دليل القائلين بحجّية هذا الكتاب]

و استدلّ القائلون بحجّية هذا الكتاب و اعتباره بوجوه عمدتها- كما في مصباح الفقاهة- و جهان:

الوجه الأوّل: أنّ القاضي أمير حسين أخبر بأنّه للإمام «ع»

و وثّقه المجلسيّان و اعتمدا‌

______________________________
(1) رياض العلماء 3/ 365.

(2) الغيبة لشيخ الطائفة/ 252.

 

120
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الوجه الأول: أن القاضي أمير حسين أخبر بأنه للإمام«ع» ؛ ج‌1، ص : 120

..........

______________________________
عليه، و خبر الثقة حجّة بمقتضى صحيحة أحمد بن إسحاق الماضية
«1» و غيرها.

قال في المستدرك: «إنّ السيّد الثقة الفاضل القاضي أمير حسين أخبر بأنّ هذا الكتاب له «ع» و أخبره بذلك ثقتان عدلان من أهل قم. و هذا خبر صحيح داخل في عموم ما دلّ على حجّية خبر العدل.» «2»

و أورد على ذلك: بأن إخبار السيّد المذكور إمّا أن يكون مستندا إلى القرائن التي أوجبت له العلم: من خطوط العلماء عليه، و خطّ الإمام نفسه في مواضع منه، أو إلى إخبار الشيخين الثقتين له كما يظهر من عبارة المستدرك.

أمّا الأوّل فلا يفيدنا، إذ أدلّة حجيّة خبر الثّقة لا تشمل الأخبار الحدسية، إذ الظاهر من الخبر ما كان يحكي عن الواقع مباشرة، و في الحدسيّات يكون المخبر به في الحقيقة حدس المخبر و اجتهاده لا الواقع.

فإن قلت: الحدس هنا مبني على مقدّمات حسيّة فيكون من قبيل الإخبار بالملكات النفسانيّة كشجاعة زيد مثلا أو سخاوته أو عدالته- بناء على كونها من قبيل الملكات- بسبب مشاهدة آثارها الدالّة عليها. و في هذه الصورة يكون الخبر حجّة عند العقلاء و يكون عندهم بحكم الخبر الحسّي. و عمدة الدليل على حجيّة الأخبار بناء العقلاء و سيرتهم.

قلت: نعم و لكن بشرط وجود الملازمة العادية بين الآثار المشهودة و بين مباديها من الملكات بحيث يحصل العلم بها لكلّ من شاهد الآثار. و ليس المقام من هذا القبيل‌

______________________________
(1) الكافى 1/ 330، كتاب الحجّة، باب في تسمية من رآه «ع»، الحديث 1.

(2) مستدرك الوسائل 3/ 339، الفائدة الثانية من الخاتمة في شرح حال الكتب و مؤلّفيها.

121
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الوجه الأول: أن القاضي أمير حسين أخبر بأنه للإمام«ع» ؛ ج‌1، ص : 120

..........

______________________________
لاختلاف الأشخاص جدّا في قوّة الإدراك و التشخيص و التخصّصات اللازمة. و لعلّ الخطوط التي رآها السيّد المذكور لو كانت بمرآنا لم تحصّل العلم لنا. و احتمال الجعل و التزوير أو الاشتباه في أمثال المقام مع طول الزمان ممّا لا دافع له.

اللّهم إلّا أن يقال: إنّ حجيّة الخبر عندنا ليست من جهة التعبد بل من جهة بناء العقلاء و سيرتهم، و هم كما يعملون بخبر الثقة يعملون في الأمور التخصصية بقول أهل الخبرة الموثوق به أيضا، و تشخيص الخطوط من أهمّ الأمور التخصصية، فتأمّل.

فإن قلت: كيف يمكن التشكيك في إسناد الكتاب إلى الإمام «ع» مع أنّه يوجد فيه عبارات كثيرة تدلّ على كونه له «ع» و لا تنطبق على غير الإمام كقوله في أوّل الكتاب:

«يقول عبد اللّه علي بن موسى الرضا» و قوله: «هي الليلة التي ضرب فيها جدّنا أمير المؤمنين «ع» و قوله: «أروي عن أبي العالم» و قوله: «نحن معاشر أهل البيت» إلى غير ذلك من العبارات التي لا ينبغي صدورها عن غير الإمام «ع».

قلت أوّلا: إنّ احتمال الكذب و الافتراء ممّا لا دافع له. و ربّما يؤلّف كتاب مشحون من المطالب الحقّة الصحيحة بداعي دسّ جملة باطلة فيه. و قد كثر الكذب على النبيّ «ص»، و الدسّ في أخبار الأئمة «ع» بدواع مختلفة، كما هو الشائع الذائع في جميع الأعصار بالنسبة إلى الشخصيّات البارزة الاجتماعية. و من المؤسف عليه أنّ فقه الرضا أيضا يوجد فيه بعض ما لا يمكن الالتزام به.

و ثانيا: إنّ أكثر العبارات المذكورة قابلة للانطباق على أولاد الأئمة «ع» أيضا، فلعلّ المؤلّف للكتاب كان من السادة العلويّين الخبير بفقه الشيعة الإماميّة.

122
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الوجه الثاني ؛ ج‌1، ص : 123

..........

______________________________
و أمّا أن جعل إخبار السيّد القاضي مستندا إلى إخبار الثقتين من أهل قم كما مرّ عن المستدرك‌

فيرد عليه: أنّ الثقتين المذكورين لم يخبرا بكون الكتاب للإمام «ع» و إن أوهم ذلك عبارة المستدرك، و إنّما أخبرا بأنّهما أتيا بالكتاب من قم، فراجع ما مرّ من عبارة المجلسي الأوّل في كتاب الحجّ من الشرح الفارسي للفقيه. و لو سلّم فليس خبرهما مسندا معنعنا إلى الرضا «ع» حتى يخرج عن الإرسال. و لا دليل على تلقّيهما إيّاه عن آبائهما يدا بيد إلى الإمام «ع» و إن احتمل ذلك في المستدرك. و بالجملة فخبر السّيد أو الثقتين بكون الكتاب للإمام من قبيل الأخبار المرسلة.

نعم مرّ في عبارة المجلسي الأوّل في حاشيته على روضة المتقين نقلا عن السيد القاضي قوله: «و من كان عنده الكتاب ذكر أنّه وصل إلينا عن آبائنا أنّ هذا الكتاب من تصنيف الإمام.» «1»

و لكن يرد على ذلك أنّه على فرض الوثوق بمن كان عنده الكتاب أنا لا نطلع على حال آبائهم أجمعين فلا يثبت صحة الخبر في جميع الوسائط، فتدبّر.

الوجه الثاني

ممّا تمسّك به المثبتون لحجّية فقه الرضا: موافقة عباراته و مضامينه لما رواه الصدوق من رسالة أبيه إليه و لفتاوى الصدوق في الفقيه و المقنع. و قد كان بناؤهما كسائر القدماء من أصحابنا على الإفتاء بمتون الأخبار، فيظهر بذلك أنّ الكتاب كان عندهما معتمدين عليه.

و قد ذكر المجلسي الأوّل في كتاب الحجّ من الشرح الفارسي عقيب ما مرّ منه:

______________________________
(1) روضة المتّقين 1/ 16، شرح خطبة الفقيه.

123
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الوجه الثاني ؛ ج‌1، ص : 123

..........

______________________________
«و العمدة في الاعتماد على هذا الكتاب مطابقة فتاوى عليّ بن بابويه في رسالته و فتاوى ولده الصدوق لما فيه من دون تغيير أو تغيير يسير في بعض المواقع.»
«1»

و مرّ عن العوائد عن بحر العلوم قوله: «و مما يشهد باعتباره و صحّة انتسابه إلى الإمام علي بن موسى الرضا «ع» مطابقة فتاوي الشيخين الجليلين الصدوقين لذلك حتى إنّهما قدّماه في كثير من المسائل على الروايات الصحيحة و خالفا لأجله من تقدّمهما من الأصحاب و عبّرا في الغالب بنفس عباراته.» «2»

و يرد على ذلك- كما في مصباح الفقاهة- «3»: أنّ هذا لا يوجب اعتبار الكتاب، لاحتمال العكس و أنّ الكتاب أخذ من رسالة ابن بابويه، بل هو الظاهر، إذ من المستبعد جدّا بل من المستحيل عادة أن يسند عليّ بن بابويه كتاب الإمام- عليه السلام- إلى نفسه من دون أن يشير هو أو ابنه إلى أنّ هذا الكتاب من تأليف الإمام. و هل يرضى أحد أن ينسب مثل هذه السرقة إلى الصدوقين؟! و يحتمل أيضا أخذ كلا الكتابين من كتاب ثالث.

هذا مضافا إلى أنّ سياق الكتاب لا يشبه سياق الروايات الصادرة عن الأئمة «ع» بل يشبه سياق كتب الفتوى المتضمنة لنقل بعض الروايات بعنوان الدليل.

و مضافا إلى اشتمال الكتاب على بعض الفتاوى المخالفة لمذهبنا كقوله مثلا في باب التخلّي و الوضوء: «و إن غسلت قدميك و نسيت المسح عليهما فإنّ ذلك يجزيك، لأنّك‌

______________________________
(1) الشرح الفارسى للفقيه، كتاب الحج 1/ 198 (المجلد الخامس حسب تجزئة الشارح).

(2) العوائد/ 250.

(3) مصباح الفقاهة 1/ 15.

124
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الوجه الثاني ؛ ج‌1، ص : 123

..........

______________________________
قد أتيت بأكثر ما عليك و قد ذكر اللّه الجميع في القرآن: المسح و الغسل، قوله- تعالى-:

وَ أَرْجُلَكُمْ إلَى الْكَعْبَيْن أراد به الغسل بنصب اللام، و قوله: وَ أَرْجُلَكُمْ بكسر اللام أراد به المسح، و كلاهما جائزان: الغسل و المسح.» «1»

و قوله في باب اللباس و ما يكره فيه الصلاة في حكم جلد الميتة: «إنّ دباغته طهارته.» «2»

و قوله: «قد يجوز الصلاة فيما لم تنبته الأرض و لم يحلّ أكله مثل السنجاب و الفنك و السّمور و الحواصل.» «3»

و قوله في تحديد الكر: «و العلامة في ذلك أن تأخذ الحجر فترمي به في وسطه فإن بلغت أمواجه من الحجر جنبي الغدير فهو دون الكرّ و إن لم يبلغ فهو كرّ.» «4»

و نهيه عن قراءة المعوّذتين في الفريضة لأنه روي أنهما من الرقية ليستا من القرآن دخلوها في القرآن «5».

و قوله في بيان افتتاح الصلاة: «و انو عند افتتاح الصلاة ذكر اللّه و ذكر رسول اللّه «ص» و اجعل واحدا من الأئمة نصب عينيك.» «6» إلى غير ذلك من الموارد. هذا.

و في الفصول في باب حجّية الأخبار في فصل عقده لحجّية أخبار غير الكتب الأربعة قال في شأن فقه الرضا: «و ممّا يبعّد كونه تأليفه «ع» عدم إشارة أحد من علمائنا‌

______________________________
(1) فقه الرضا/ 79.

(2) فقه الرضا/ 302.

(3) فقه الرضا/ 302.

(4) نفس المصدر/ 91.

(5) نفس المصدر/ 113.

(6) نفس المصدر/ 105.

125
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الوجه الثاني ؛ ج‌1، ص : 123

..........

______________________________
السلف إليه في شي‌ء من المصنّفات التي بلغت إلينا، مع ما يرى من خوضهم في جمع الأخبار و توغّلهم في ضبط الآثار المرويّة عن الأئمة الأطهار «ع». بل العادة قاضية بأنّه لو ثبت عندهم مثل هذا الكتاب لاشتهر بينهم غاية الاشتهار و لرجّحوا العمل به على العمل بسائر الأصول و الأخبار لما يتطرّق إليها من احتمال سهو الراوي أو نسيانه أو قصوره في فهم المراد أو في تأدية المفهوم أو تقصيره أو تعمّد الكذب، لا سيّما مع تعدّد الوسائط، و سلامة الكتاب المذكور عن ذلك. و لبعد ما فيه عن التقيّة بخلاف غيره. مع أنّ الصدوق قد جمع في كتاب العيون جميع ما وقف عليه من الأخبار و الآثار المرويّة عن الرضا- عليه السلام-. فلو كان قد عثر على الكتاب المذكور لنقله. و لو منعه عنه طول الكتاب لنبّه على وجوده و اكتفى بذكر بعض صفاته. مضافا إلى شواهد أخر في نفس الكتاب يؤكّد الظن بما ذكرناه ...»
«1»

و في المستدرك عن بعض معاصريه ما ملخّصه: «لو كان هذا الكتاب للإمام «ع» لما كان يخفى على ولده: الأئمة الأربعة بعده. و من الظاهر أنّهم ما كانوا يخفون أمثال ذلك عن شيعتهم و مواليهم و لا سيّما خواصهم و معتمديهم، كما أخبر الأئمة «ع» بكتاب علىّ و صحيفة فاطمة- عليهما السلام-، و لكانوا يصرّحون به في كثير من أخبارهم و يأمرون الشيعة بالرجوع إليه و الأخذ منه، و لو وقع هذا لاشتهر بين القدماء و لكان يصل إليهم أثر منه. و لما كان يخفى على مشايخنا المحمّدين الثلاثة المصنّفين للكتب الأربعة و لا سيّما الصدوق «ره» المؤلف نحوا من ثلاثمائة مصنّف في الأخبار و من جملتها عيون أخبار الرضا. و لكان يطلع عليه جملة من فقهاء الشيعة و ما كان يبقى في زاوية الخمول‌

______________________________
(1) الفصول/ 312، باب حجيّة الأخبار، فصل حجيّة أخبار غير الكتب الأربعة.

126
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

القول الثاني: أنه رسالة علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي ؛ ج‌1، ص : 127

..........

______________________________
فيما يقرب من ألف سنة.»
«1»

هذا كله حول القول بكون الكتاب من إنشاء شخص الإمام الثامن علي بن موسى الرضا «ع». و قد ظهر لك عدم ثبوت ذلك.

[القول الثاني: أنّه رسالة عليّ بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي]

القول الثاني: أنّه بعينه رسالة عليّ بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي إلى ولده الصدوق، و هو المعروف بشرائع عليّ بن بابويه. و ممّن مال إلى هذا القول العالم المتتبّع الخبير. الميرزا عبد اللّه الأفندي الأصفهاني مؤلّف رياض العلماء. قال في شرح حال ابن بابويه: «و أمّا الرسالة إلى ولده فظنّي أنّه بعينه ما هو الآن يعرف بالفقه الرضوي، لأنّه ينادي على ذلك سياق ذلك الكتاب، و لعلّ ذلك الاشتباه لأنّهم لمّا وجدوا أنّ مؤلّفها هو أبو الحسن عليّ بن موسى كما هو الشائع في حذف بعض الأسامي من النسب حسبوا ذلك، فتأمّل. و تلك الرسالة هي بعينها التي ينقل عنها ولده في الفقيه و في سائر كتبه و يقول:

«قال أبي في رسالته إليّ ...»، لكن قال الأستاد الاستناد أيّده اللّه في أوّل البحار ...» «2»

و قال في شرح حال السيّد القاضي الأمير حسين بعد نقل ما مرّ من البحار في شأن فقه الرضا: «ثمّ إنّه قد يقال: إنّ هذا الكتاب بعينه رسالة عليّ بن بابويه إلى ولده الشيخ الصدوق. و انتسابه إلى الرضا «ع» غلط نشأ من اشتراك اسمه و اسم والده، فظنّ أنّه لعليّ بن موسى الرضا- عليه السلام- حتى لقّب تلك الرسالة بفقه الرضا. و كان الأستاد العلامة أيضا يميل إلى ذلك ...» «3»

أقول: و قد كان هذا القول في الأيّام السابقة راجحا لديّ لما أحصيت موارد نقل‌

______________________________
(1) مستدرك الوسائل 3/ 346، الفائدة الثانية من الخاتمة في شرح حال الكتب و مؤلّفيها.

(2) رياض العلماء 4/ 9.

(3) رياض العلماء 2/ 31.

127
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

القول الثالث: أنه بعينه كتاب التكليف ؛ ج‌1، ص : 128

..........

______________________________
الصدوق في الفقيه من رسالة أبيه و كانت قريبا من ثلاثين موردا ثمّ قايستها على فقه الرضا فرأيت موافقتهما إلّا في بعض الموارد المشتملة على تغيير يسير، و كذلك قايست بعض ما يحكيه العلامة في المختلف عن الرسالة مع فقه الرضا فوجدتهما موافقين.

و لكن مع ذلك يشكل الالتزام بذلك، إذ لو فرض توجيه عبارة صدر الكتاب بالاشتراك في الاسم و زيادة كلمة: «الرضا» من قبل النسّاخ فكيف نوجّه العبارات الدالة على كون المؤلّف من أهل بيت النبوّة نظير قوله في باب الأغسال: «و ليلة تسع عشرة من شهر رمضان هي الليلة التي ضرب فيها جدّنا أمير المؤمنين «ع»» «1» و في باب الزكاة: «و إنّي أروي عن أبي العالم- عليه السلام- في تقديم الزكاة و تأخيرها أربعة أشهر أو ستّة أشهر.» «2» و في باب الخمس بعد ذكر آية الخمس: «فتطوّل علينا بذلك امتنانا منه و رحمة» «3». و في باب الدعاء في الوتر: «و هذا ممّا نداوم به نحن معاشر أهل البيت- عليهم السلام-.» «4» إلى غير ذلك من الموارد. و راجع في هذا المجال المستدرك «5»، و الفصول باب حجّية خبر الواحد الفصل الذي مرّ ذكره.

[القول الثالث: أنّه بعينه كتاب التكليف]

القول الثالث: أنّه بعينه كتاب التكليف الذي ألّفه محمد بن عليّ الشلمغاني المعروف بابن أبي العزاقر فعرضوه على وكيل الناحية المقدّسة أبي القاسم الحسين بن روح فقال: «ما فيه شي‌ء إلّا و قد روي عن الأئمة- عليهم السلام- إلّا موضعين أو ثلاثة‌

______________________________
(1) فقه الرضا/ 83.

(2) فقه الرضا/ 197.

(3) فقه الرضا/ 293.

(4) فقه الرضا/ 402.

(5) راجع مستدرك الوسائل 3/ 343، الفائدة الثانية من الخاتمة في شرح حال الكتب و مؤلّفيها.

128
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

القول الثالث: أنه بعينه كتاب التكليف ؛ ج‌1، ص : 128

..........

______________________________
فإنّه كذب عليهم في روايتها لعنه اللّه.»
«1»

و قد حكي في مقدّمة فقه الرضا المطبوع أخيرا بتحقيق مؤسّسة آل البيت «ع» هذا القول عن السيّد حسن الصدر في كتابه فصل القضاء «2». و قد جاء السّيد لإثبات ذلك بشواهد:

منها: ما نقله عن كثير من علماء الشيعة كابن إدريس و الشهيدين و غيرهم من تفرّده بنقل رواية الشهادة للشاهد الواحد، و هذا موجود في فقه الرضا باللفظ المرويّ عن كتاب التكليف:

قال العلامة في الخلاصة في شرح حال الشلمغاني: «و له من الكتب التي عملها في حال الاستقامة كتاب التكليف، رواه المفيد- رحمه اللّه- إلّا حديثا منه في باب الشهادات: أنّه يجوز للرجل أن يشهد لأخيه إذا كان له شاهد واحد من غير علم.» «3»

و في غيبة الشيخ الطوسي: «و أخبرني جماعة عن أبي الحسن محمّد بن أحمد بن داود و أبي عبد اللّه الحسين بن عليّ بن الحسين بن موسى بن بابويه أنّهما قالا: ممّا أخطأ محمّد بن عليّ في المذهب في باب الشهادة: أنّه روى عن العالم «ع» أنّه قال: إذا كان لأخيك المؤمن على رجل حقّ فدفعه و لم يكن له من البيّنة عليه إلّا شاهد واحد و كان الشاهد ثقة رجعت إلى الشاهد فسألته عن شهادته فإذا أقامها عندك شهدت معه عند الحاكم على مثل ما يشهده عنده لئلا يتوى حقّ امرئ مسلم.» «4» و روى الخبر في عوالي‌

______________________________
(1) الغيبة لشيخ الطائفة/ 252.

(2) راجع فقه الرضا/ 46. المقدمة.

(3) خلاصة العلامة/ 254.

(4) الغيبة لشيخ الطائفة/ 252.

129
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

القول الثالث: أنه بعينه كتاب التكليف ؛ ج‌1، ص : 128

..........

______________________________
اللآلي أيضا
«1» عن كتاب التكليف.

و الخبر موجود في فقه الرضا بقوله: «و بلغني عن العالم «ع» أنّه قال: إذا كان لأخيك المؤمن» «2» و ذكر نحو ما في الغيبة.

و منها: أنّ جماعة من متقدّمي الأصحاب حكوا عن الشلمغاني في تحديد الكرّ: أنّه ما لا يتحرّك جنباه بطرح حجر في وسطه، و أنّه خلاف الإجماع. و هذا التحديد مذكور في فقه الرضا كما مرّ «3».

ثمّ أدام البحث في مقدّمة فقه الرضا فقال: «علما بأنّ راوي كتاب التكليف عن الشلمغاني هو أبو الحسن عليّ بن موسى بن بابويه والد الشيخ الصدوق كما نصّ عليه أرباب الفهارس كالشيخ و العلامة و غيرهم فالاحتمال الوارد هنا أن أبا الحسن علي بن موسى- المصدّر به الكتاب- ليس الإمام الرضا «ع» بل هو ابن بابويه. و عادة القدماء جارية في ذكر اسم الجامع الراوي أو المؤلّف في ديباجة الكتاب و ينسب إليه الكتاب ...

و أمّا عمل الطائفة برواياته و كتبه فقد نقله الشيخ في العدّة، قال: عملت الطائفة بما رواه أبو الخطّاب في حال استقامته و تركوا ما رواه في حال تخليطه. و كذلك القول في أحمد بن هلال العبرتائي و ابن أبي العزاقر و غير هؤلاء.» «4»

أقول: و على هذا فمن المحتمل استفادة الصدوقين و المفيد في الرسالة و الفقيه و المقنعة من هذا الكتاب لعلمهم بصحّة ما فيه إلّا في المواضع الخاصّة، و لم يشيروا إلى المدرك‌

______________________________
(1) عوالى اللآلى 1/ 315.

(2) فقه الرضا/ 308، باب الشهادة.

(3) فقه الرضا/ 91 باب المياه و شربها ...

(4) فقه الرضا/ 46- 49، المقدمة؛ و راجع أيضا عدّة الأصول 1/ 381.

130
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

لم يثبت لنا ماهية الكتاب و لا حجيته و اعتباره ؛ ج‌1، ص : 131

..........

______________________________
حذرا من ترويج الشخص الفاسد.

نعم يرد على هذا القول أيضا ما ورد على القول السابق من وجود عبارات في الكتاب تدلّ على كون المؤلّف من أهل بيت النبوّة كقوله: «هي الليلة التي ضرب فيها جدّنا أمير المؤمنين «ع» و قوله: «نحن معاشر أهل البيت» و غير ذلك ممّا لا ينطبق على مثل الشلمغاني. هذا.

[لم يثبت لنا ماهيّة الكتاب و لا حجّيته و اعتباره]

و إلى هنا تعرّضنا لثلاثة أقوال في شأن فقه الرضا. و بعد اللتيّا و التي لم يثبت لنا ماهيّته و لا حجّيته و اعتباره بنحو يعتمد عليه مستقلا. نعم، الروايات المنقولة فيه عن الأئمة «ع» تكون بحكم سائر المراسيل، فيمكن جبرها بعمل المشهور مع حصول الوثوق بها. كما أنّ ما وجد من مسائله مفتى به للصدوقين و المفيد لا تقلّ قطعا عن الأخبار المرسلة بعد ما نعلم إجمالا بأنهم لم يكونوا ممّن يفتي بالأقيسة و الاستحسانات الظنيّة بل كانوا متعبّدين بالنصوص الواردة و كان بناؤهم على الإفتاء بمتون الأخبار.

و لنذكر في الختام كلام صاحب الفصول في المقام: قال في باب حجّية الخبر في الفصل الذي مرّ ذكره: «و بالجملة فالتحقيق أنّه لا تعويل على الفتاوى المذكورة فيه. نعم ما فيه من الروايات فهي حينئذ بحكم الروايات المرسلة لا يجوز التعويل على شي‌ء ممّا اشتملت عليه إلّا بعد الانجبار بما يصلح جابرا لها. و لو استظهرنا اعتماد مثل المفيد و الصدوقين عليه في جملة من مواضعه فذلك لا يفيد حجّيته في حقّنا، لأنّه مبنيّ على نظرهم و اجتهادهم. و ليس وظيفتنا في مثل ذلك اتّباعهم، و إلّا لكانت الأخبار الضعيفة التي عوّلوا عليها حجّة في حقّنا ...» «1»

______________________________
(1) الفصول/ 313، باب حجّية الأخبار، فصل حجيّة أخبار غير الكتب الأربعة.

131
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الرواية الثالثة: رواية الدعائم ؛ ج‌1، ص : 132

 

[الرواية الثالثة: رواية الدعائم]

و عن دعائم الإسلام للقاضي نعمان المصري عن مولانا الصادق «ع»:

«أنّ الحلال من البيوع كلّ ما كان حلالا من المأكول و المشروب و غير ذلك ممّا هو قوام للنّاس و يباح لهم الانتفاع. و ما كان محرما أصله منهيّا عنه لم يجز بيعه و لا شراؤه.» (1) انتهى.

______________________________
الرواية الثالثة

[في متن الحديث]

(1) هذه هي الرواية الثالثة. ففي الدعائم المطبوع: و عن جعفر بن محمد «ع» أنّه قال: «الحلال من البيوع كلّ ما هو حلال من المأكول و المشروب و غير ذلك ممّا هو قوام للناس و صلاح و مباح لهم الانتفاع به. و ما كان محرّما أصله منهيّا عنه لم يجز بيعه و لا شراؤه.» و هذا من قول جعفر بن محمد «ع» قول جامع لهذا المعنى «1».

أقول: من المحتمل أخذ هذه الرواية أيضا ممّا مرّ من رواية تحف العقول بنحو التلخيص و النقل بالمعنى، نظير ما قلناه في عبارة فقه الرضا السّابقة. و النقل بالمعنى و المضمون كان أمرا شائعا و لا سيّما بالنسبة إلى الروايات المفصّلة.

______________________________
(1) دعائم الإسلام 2/ 18، كتاب البيوع ...، الفصل 2 (ذكر ما نهى عن بيعه)، الحديث 23.

 

132
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

في متن الحديث ؛ ج‌1، ص : 132

..........

______________________________
و في مصباح الفقاهة اعترض على الاستناد بالرواية بأنّ قوله: «و ما كان محرّما أصله منهيّا عنه لم يجز بيعه» يقتضي حرمة بيع الأشياء التي تعلّق بها التحريم من جهة ما، مع أنّه ليس بحرام قطعا. على أنّ الظاهر منه هي الحرمة التكليفية، مع أنّها منتفية جزما في كثير من الموارد التي نهي عن بيعها و شرائها. و إنّما المراد من الحرمة في تلك الموارد هي الحرمة الوضعيّة ليس إلّا، فلا تكون الرواية معمولة بها
«1». انتهى.

أقول: يرد على ما ذكره أوّلا: أنّ الظاهر من قوله: «و ما كان محرّما أصله» خصوص المتمحّض في الفساد، لانصراف اللفظ إلى ما كان محرّما بنحو الإطلاق لا من جهة خاصّة. هذا مضافا إلى أن المتبادر من عدم جواز بيع المحرّم عدم جواز بيعه بما أنّه محرّم يعني بقصد الجهة المحرّمة و صرفه في المنفعة المحرّمة لا مطلقا. إذ تعليق الحكم على الوصف مشعر بالعلّية و دوران الحكم مداره: فإن كان الشي‌ء متمحّضا في الحرمة و الفساد لم يجز بيعه مطلقا، و إن كان ذا جهتين حرم بيعه لجهته المحرّمة فقط.

و يرد على ما ذكره ثانيا: ما مرّ في الجهة الثالثة حول رواية تحف العقول. و محصّله:

أنّ المراد بالحلّية و الحرمة في لسان الكتاب و السنة أعمّ من التكليف و الوضع، فيراد بحلّية الشي‌ء إطلاقه من ناحية الشرع، و بحرمته محدوديّته من قبله. و إطلاق كلّ شي‌ء و محدوديّته بحسب ما يراد و يترقّب من هذا الشي‌ء. و حيث إنّ المترقّب من الصلاة المأتي بها مثلا صحّتها و سقوط أمرها و من إنشاء العقود و الإيقاعات صحّتها و ترتّب الآثار عليها فلا محالة يتبادر من الحلّية فيها الصّحة و من الحرمة الفساد كما في قوله- تعالى-:

أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبٰا و في حديث سماعة قال: سأل رجل أبا عبد اللّه «ع»‌

______________________________
(1) مصباح الفقاهة 1/ 22.

133
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

في متن الحديث ؛ ج‌1، ص : 132

..........

______________________________
و أنا حاضر فقال: إنّي رجل أبيع العذرة فما تقول؟ قال: «حرام بيعها و ثمنها.»
«1»

فنقول: نظير الحلّية و الحرمة و الجواز و عدم الجواز أيضا، فيراد بجواز الشي‌ء مضيّه و إمضاؤه من ناحية الشرع، و بعدم الجواز عدم مضيّه و إمضائه، فانظر إلى قوله «ع» في موثقة ابن بكير: «فإن كان ممّا يؤكل لحمه فالصلاة في و بره و بوله و روثه و ألبانه و كلّ شي‌ء منه جائز إذا علمت أنّه ذكيّ.» «2»

و في رواية إبراهيم بن محمّد الهمداني قال: كتبت إليه: يسقط على ثوبي الوبر و الشعر ممّا لا يؤكل لحمه من غير تقيّة و لا ضرورة؟ فكتب: «لا تجوز الصلاة فيه.» «3»

و في مرفوعة محمّد بن إسماعيل إلى أبي عبد اللّه «ع» قال: «لا تجوز الصلاة في شعر و وبر ما لا يؤكل لحمه.» «4»

و في صحيحة ابن مهزيار قال: كتب إليه إبراهيم بن عقبة: عندنا جوارب و تلك تعمل من وبر الأرانب فهل تجوز الصلاة في وبر الأرانب من غير ضرورة و لا تقيّة؟

فكتب: «لا تجوز الصلاة فيها.» «5»

و في صحيحة عليّ بن الريّان قال: كتبت إلى أبي الحسن «ع»: هل تجوز الصلاة في ثوب يكون فيه شعر من شعر الإنسان و أظفاره من قبل أن ينفضه و يلقيه عنه؟ فوقّع: «يجوز.» «6»

______________________________
(1) الوسائل 12/ 126، الباب 40 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2.

(2) الوسائل 3/ 250، كتاب الصلاة، الباب 2 من أبواب لباس المصلّى، الحديث 1.

(3) نفس المصدر و الباب 3/ 251، الحديث 4.

(4) نفس المصدر و الباب، الحديث 7.

(5) الوسائل 3/ 258، كتاب الصلاة، الباب 7 من أبواب لباس المصلّى، الحديث 3.

(6) الوسائل 3/ 277، كتاب الصلاة، الباب 18 من أبواب لباس المصلّى، الحديث 2.

134
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

البحث في سند كتاب دعائم الإسلام ؛ ج‌1، ص : 135

..........

______________________________
إلى غير ذلك من الأخبار. و المتبادر من جميع هذه الاستعمالات صحّة الصلاة و فسادها. و هذا النحو من الاستعمال كان شائعا في لسان الكتاب و السنّة. نعم، في أعصارنا غلب الاستعمال في التكليف فقط، و لكن الواجب حمل ألفاظ الكتاب و السنّة على ما كان مصطلحا فيهما.

و العجب من آية اللّه الخوئي- قدّس سرّه- مع كونه خبيرا بلسان الكتاب و السنّة كيف خفيت عليه هذه النكتة في المقام و في الروايتين السابقتين.

البحث في سند كتاب دعائم الإسلام

و بالجملة فدلالة رواية الدعائم على فساد المعاملة على المحرمات بقصد جهاتها المحرمة ممّا لا إشكال فيها، و إنّما الإشكال في السند.

فنقول: كتاب دعائم الإسلام تأليف أبي حنيفة الشيعي نعمان بن محمّد بن منصور، طبع في مجلّدين. و هو كتاب وزين جامع يظهر لمن تطلّع عليه أنّ مؤلّفه كان عالما متضلّعا بصيرا بالكتاب و السنّة مطّلعا على أخبار أهل البيت «ع» محبّا لهم. و كان قاضي القضاة بمصر في عهد الدولة الفاطميّة، و توفّي بالقاهرة سنة 363، و صلّى عليه الخليفة الفاطمي المعزّ لدين اللّه، و كان كتابه هذا القانون الرسمي منذ عهد المعزّ حتّى نهاية الدولة الفاطميّة. و اختلف في مذهبه و أنّه مات إماميا اثني عشريا أو إسماعيليّا بعد ما كان في بادي الأمر مالكيا:

1- قال ابن خلّكان في الوفيات: «أبو حنيفة النعمان بن أبي عبد اللّه محمّد بن منصور بن أحمد بن حيون (حيوان- خ.) أحد الأئمة الفضلاء المشار إليهم، ذكره الأمير المختار المسبّحي في تاريخه فقال: كان من أهل العلم و الفقه و الدين و النبل على ما لا مزيد‌

135
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

البحث في سند كتاب دعائم الإسلام ؛ ج‌1، ص : 135

..........

______________________________
عليه، و له عدّة تصانيف: منها كتاب «اختلاف أصول المذاهب» و غيره، انتهى كلام المسبّحي في هذا الموضع. و كان مالكيّ المذهب ثمّ انتقل إلى مذهب الإماميّة و صنّف كتاب «ابتداء الدعوة للعبيديين»، و كتاب «الأخبار» في الفقه، و كتاب «الاقتصار» في الفقه أيضا. و قال ابن زولاق في كتاب «أخبار قضاة مصر» في ترجمة أبي الحسن عليّ بن النعمان المذكور ما مثاله: و كان أبوه النعمان بن محمّد القاضي في غاية الفضل، من أهل القرآن و العلم بمعانيه. و عالما بوجوه الفقه و علم اختلاف الفقهاء، و اللغة و الشعر الفحل و المعرفة بأيّام الناس مع عقل و إنصاف. و ألّف لأهل البيت من الكتب آلاف أوراق بأحسن تأليف و أملح سجع، و عمل في المناقب و المثالب كتابا حسنا. و له ردود على المخالفين: له ردّ على أبي حنيفة و على مالك و الشافعي و على ابن سريج. و كتاب «اختلاف الفقهاء» ينتصر فيه لأهل البيت- رضي اللّه عنهم- و له القصيدة الفقهية لقّبها بالمنتخبة ...»
«1» انتهى ما أردنا نقله عن ابن خلّكان.

أقول: لم يذكر هو فيما عدّ من كتبه كتاب دعائم الإسلام إلّا أن يريد بكتاب «الأخبار» كتاب الدعائم. و انتقاله إلى مذهب الإمامية لا يدلّ على كونه اثني عشريّا، إذ لفظ الإماميّة بحسب مفهومه يعمّ الإسماعيلية أيضا كلفظ الشيعة. و إن تبادر منهما في أعصارنا خصوص الاثني عشريّة.

2- و في مقدمة البحار قال: «و كتاب دعائم الإسلام قد كان أكثر أهل عصرنا يتوهّمون أنّه تأليف الصدوق «ره». و قد ظهر لنا أنّه تأليف أبي حنيفة: النعمان بن محمد بن منصور قاضي مصر في أيّام الدولة الإسماعيلية. و كان مالكيّا أوّلا ثم اهتدى و صار‌

______________________________
(1) وفيات الأعيان 5/ 415، الرقم 766.

136
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

البحث في سند كتاب دعائم الإسلام ؛ ج‌1، ص : 135

..........

______________________________
إماميّا. و أخبار هذا الكتاب أكثرها موافقة لما في كتبنا المشهورة. لكن لم يرو عن الأئمة بعد الصادق «ع» خوفا من الخلفاء الإسماعيليّة. و تحت ستر التقيّة أظهر الحقّ لمن نظر فيه متعمّقا. و أخباره تصلح للتأييد و التأكيد. قال ابن خلّكان»- و ذكر ما حكيناه عنه، ثمّ قال-: «و نحوه ذكر اليافعي و غيره. و قال ابن اشوب‌آشوب في كتاب معالم العلماء: القاضي:

النعمان بن محمّد ليس بإماميّ. و كتبه حسان: منها شرح الأخبار في فضائل الأئمة الأطهار.» «1» انتهى ما أردنا نقله عن البحار.

3- و في كتاب لسان الميزان لابن حجر العسقلاني: «النعمان بن محمّد بن منصور أبو حنيفة كان مالكيّا ثمّ تحوّل إماميّا، و وليّ القضاء للمعزّ العبيدي صاحب مصر فصنّف لهم التصانيف على مذهبهم، و في تصانيفه ما يدلّ على انحلاله. مات بمصر في رجب سنة ثلاث و ستين و ثلاثمائة. و من تصانيفه كتاب «تأويل القرآن.» «2»

أقول: هو أيضا لم يتعرّض لكتاب دعائم الإسلام.

4- و المحقّق التستري الكاظمي في المقابس في مسألة نجاسة الماء القليل بعد ما حكى عن الدعائم عدم النجاسة قال: «و هذا الرجل كما يلوح من كتابه من أفاضل الشيعة بل الإماميّة و إن لم يرو في كتابه إلّا عن الصادق و من قبله من الأئمة «ع» ... فما في معالم السّروي من نفي كونه إماميّا منظور فيه. و قد ذكر السّروي أنّ له كتبا حسانا في الإمامة و فضائل الأئمة و غيرها ... و أكثر الأخبار التي أوردها في كتاب الدعائم موافقة لما في كتب أصحابنا المشهورة ... إلّا أنّه مع ذلك خالف فيه الأصحاب في جملة من الأحكام‌

______________________________
(1) بحار الأنوار 1/ 38، الفصل الثانى توثيق المصادر.

(2) لسان الميزان 6/ 167.

137
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

البحث في سند كتاب دعائم الإسلام ؛ ج‌1، ص : 135

..........

______________________________
المعلومة عندهم بل بعض ضروريّات مذهبهم كحلّية المتعة. فربّما كان مخالفته لهم هنا و بقاؤه على مذهب مالك من هذا الباب. و لعلّه لبعض ما ذكر، و لعدم اشتهاره بين الأصحاب و عدم توثيقهم له و عدم تصحيحهم لحديثه أو كتابه لم يورد صاحب الوسائل شيئا من أخباره و لم يعدّ الدعائم من الكتب التي يعتمد عليها. و قال صاحب البحار: إنّ أخباره تصلح للتأييد و التأكيد. مع أنّ أخبار كثير من الأصول و المصنّفات يعتمد عليها و إن كان مؤلّفوها فاسدي المذهب كابن فضّال و غيرهم.»
«1»

أقول: ظاهر الدعائم عدم انفعال الماء مطلقا ما لم يتغيّر بأوصاف النجاسة كالعماني منّا و مالك من فقهاء السنّة. و مقصوده بالسّروي: ابن اشوب‌آشوب المازندراني السّروي مؤلّف معالم العلماء و المناقب. و قد حكى عنه في البحار كما مرّ نفي كون القاضي إماميّا. و هو المختار لصاحب الروضات أيضا:

5- فقال بعد نقل كلمات الأعلام في المقام: «و لكن الظاهر عندي أنّه لم يكن من الإمامية الحقّة، و إن كان في كتبه يظهر الميل إلى طريقة أهل البيت- عليهم السلام- و الرواية من أحاديثهم من جهة مصلحة وقته و التقرّب إلى السّلاطين من أولادهم ...» «2»

أقول: ظاهر كلام الروضات عدم اعتقاد القاضي بمذهب الإسماعيليّة أيضا و كونه باقيا على مذهبه الأوّل. و لكن يشكل جدّا لمن لا يعتقد بفقه أهل البيت- عليهم السلام- أن يكتب عن فقههم و يدافع عنهم و يعترض على المذاهب الأخر بنحو صنع هذا الرجل جامعا للدقّة و المتانة كما يظهر لمن مارس كتاب الدعائم في الأبواب المختلفة. هذا.

______________________________
(1) مقابس الأنوار 1/ 85 و 86 (ط. أخرى/ 66).

(2) روضات الجنات 8/ 149، الرقم 725.

138
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

البحث في سند كتاب دعائم الإسلام ؛ ج‌1، ص : 135

..........

______________________________
و من أراد تفصيل البحث في هذا الكتاب و مؤلّفه و مذهبه فليراجع المستدرك
«1»، فقد أطال البحث في إثبات كون الرجل من الإمامية الحقّة و أنكر كونه من الإسماعيليّة و لا سيّما الباطنيّة منهم. و ذكر مواضع من كتاب الدعائم روى فيه عن أبي الحسن و أبي جعفر الثاني «ع» و قال: إنّ الإسماعيليّة يعتقدون بإمامة إسماعيل بن جعفر و ابنه محمد بن إسماعيل، و ليس في الكتاب ذكر منهما حتّى في مقام إثبات الإمامة و ردّ مقالات العامّة، بل صرّح في كتابه بكفر الغلاة و الباطنيّة و ضلالتهم و خروجهم من الدين، مع أنّ خلفاء عصره كانوا منهم في الباطن، فكيف يرضى المصنف أن ينسب إليه هذا المذهب؟

أقول: و ملخّص الكلام في المقام أنّ تأليفات الرجل و منها كتاب الدعائم تشهد بنفسها على سعة باعه و نبوغه في العلم و الفقه و الحديث و معرفته بأحاديث أهل البيت- عليهم السلام-، بل و حبّه و ولائه لهم إجمالا. مضافا إلى شهادة علماء التاريخ و الرجال بكونه إماميّا. و هذا اللفظ كان يطلق على من يعتقد بكون الإمامة حقا لعليّ و أولاده المعصومين في قبال المذاهب الأخر، فلا يصغى إلى ما مرّ من ابن اشوب‌آشوب و صاحب الروضات من التشكيك في ذلك. نعم يشكل إثبات كونه من الإمامية الاثني عشرية.

و لم يثبت كون اصطلاح الإماميّة في تلك الأعصار ممحّضا لهم بل اللفظ بإطلاقه يشمل الإسماعيليّة أيضا.

و ردّ القاضي للغلاة و الباطنيّة و تبريه من أقاويلهم لا يدلّ على عدم كونه من الإسماعيلية المعتدلة. و ليس كلّ إسماعيلي باطنيّا معتقدا بخرافات الباطنيّة و لم يثبت كون الخلفاء الفاطميّين في عصره أيضا منهم.

______________________________
(1) مستدرك الوسائل 3/ 313، الفائدة الثانية من الخاتمة في شرح حال الكتب و مؤلّفيها.

139
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

اعتبار الحديث بكون الراوي ثقة يحصل الوثوق و سكون النفس بأخباره ؛ ج‌1، ص : 140

[اعتبار الحديث بكون الراوي ثقة يحصل الوثوق و سكون النفس بأخباره]

______________________________
و الذي يهوّن الخطب عدم تأثير هذا البحث فيما هو محطّ النظر في المقام، إذ الملاك في اعتبار الحديث كون الراوي ثقة يحصل الوثوق و سكون النفس بأخباره سواء كان صحيح المذهب أم لا. و الثابت من كتب التاريخ و الرجال علم الرجل و نبوغه و مذهبه إجمالا و لم يتعرّضوا لوثاقته بنحو يعتمد على حديثه. و لو سلّم فهو لم يكن في عصر الأئمة «ع».

و على هذا يكون رواياته في الكتاب مراسيل، فلا تفيد غالبا إلّا للتأييد و التأكيد كما مرّ عن البحار. اللّهم إلّا إذا فرض في مورد خاصّ جبر الإرسال بشهرة عمليّة. هذا.

و قد عثرت أنا في بعض الأبواب من كتاب الدعائم على أخبار تفسّر بعض المشكلات الموجودة في أخبارنا الصحاح بحيث يرتفع بها الشبهة الموجودة، و هذه بنفسها فائدة مهمّة، نظير روايات العياشي في تفسيره مع كونها مراسيل أيضا.

فإن قلت: قال في أوّل الدعائم: «نقتصر فيه على الثابت الصحيح ممّا رويناه عن الأئمة من أهل بيت رسول اللّه «ص».» «1»

قلت: ثبوت الصحّة عنده لا يوجب الثبوت عندنا، لاحتمال اكتفائه في تصحيح الحديث بما لا نكتفي به.

[اشتمال الكتاب على فروع كثيرة مخالفة لمذهبنا]

هذا مضافا إلى اشتمال الكتاب على فروع كثيرة مخالفة لمذهبنا، فلا يمكن الاعتماد عليه:

1- منها: ما مرّ من المقابس من إنكاره مشروعية المتعة و قال: «هذا زنا، و ما يفعل هذا إلّا فاجر.» «2»

2- و منها: جعله كلّ واحد من المذي و الدود و الحيات و حب القرع و الدم و القيح‌

______________________________
(1) دعائم الإسلام 1/ 2.

(2) دعائم الإسلام 2/ 229، كتاب النكاح، الفصل 7 (ذكر الشروط في النكاح).

140
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

اشتمال الكتاب على فروع كثيرة مخالفة لمذهبنا ؛ ج‌1، ص : 140

..........

______________________________
الخارج من أحد المخرجين ناقضا للوضوء
«1».

3- و منها: قوله في الوضوء: «و لا ينبغي أن يتعمد البدء بالمياسر. و إن جهل ذلك أو نسيه حتّى صلّى لم تفسد صلاته.» «2»

4- و منها: قوله في مسح الرأس: «ثمّ أمروا بمسح الرأس مقبلا و مدبرا، يبدأ من وسط رأسه فيمرّ يديه جميعا على ما أقبل من الشعر إلى منقطعه من الجبهة، ثم يردّ يديه من وسط الرأس إلى آخر الشعر من القفا، و يمسح مع ذلك الأذنين ظاهرهما و باطنهما، و يمسح عنقه.» «3»

5- و منها: قوله في الرجلين: «و من غسل رجليه تنظّفا و مبالغة في الوضوء و لابتغاء الفضل و خلّل أصابعه فقد أحسن.» «4»

6- و منها: قوله في الوضوء التجديدي: «و ما غسل من أعضاء الوضوء أو ترك فلا شي‌ء عليه فيه. و قد روينا عن الحسين بن عليّ «ع» أنّه سئل عن المسح على الخفيّن فسكت حتّى مرّ بموضع فيه ماء و السائل معه فنزل فتوضّأ و مسح على خفّيه و على عمامته و قال: هذا وضوء من لم يحدث.» «5»

______________________________
(1) دعائم الإسلام 1/ 101 و 102، كتاب الطهارة، ذكر الأحداث التى توجب الوضوء.

(2) دعائم الإسلام 1/ 107، كتاب الطهارة، ذكر صفات الوضوء. و راجع أيضا نفس الكتاب و الفصل ص 109.

(3) نفس المصدر 1/ 108.

(4) نفس المصدر 1/ 108.

(5) نفس المصدر 1/ 110.

141
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

اشتمال الكتاب على فروع كثيرة مخالفة لمذهبنا ؛ ج‌1، ص : 140

..........

______________________________
7- و منها: قوله في مسجد الجبهة: «و كلّ ما يجوز لباسه و الصلاة فيه يجوز السجود عليه، و الكفّان و القدمان و الركبتان من المساجد، فإذا جاز لباس ثوب الصوف و الصلاة فيه فذلك ممّا يسجد عليه. و كذلك يجزي السجود بالوجه عليه.»
«1»

إلى غير ذلك من الفتاوى المخالفة التي يعثر عليها المتتبع.

و اعتذر له في المستدرك فقال: «إنّه معذور في ذلك من وجوه:

الأوّل: أنّه لم يخالف في موضع منها إلّا لما ساقه الدليل من ظاهر كتاب أو سنّة، و لم يتمسّك في موضع بالقياس و الاستحسان و الاعتبارات العقليّة و المناطات الظنيّة ...

الثاني: أنّه لم تكن الأحكام في تلك الأعصار بين فقهاء أصحابنا منقّحة متميّزة يتبين لكلّ أحد المجمع عليه منها من غيره، و المشهور منها عمّا سواه ...

الثالث: أنّه ما خالف في فرع غالبا إلّا و معه موافق معروف، و لو لا خوف الإطالة لذكرنا نبذة من ذلك، نعم في مسألة المتعة لا موافق له ...

الرابع: بعد محلّ إقامته عن مجمع العلماء و المحدّثين و الفقهاء الناقدين و تعسّر اطلاعه على زبرهم و تصانيفهم ...» «2»

أقول: على فرض كونه في هذه الآراء قاصرا معذورا فالكتاب المشتمل على هذا السنخ من الآراء و الفتاوى يخرج عن مرحلة الصحّة و الاعتماد، فتأمّل. و لعلّه لأمثال ذلك لم يعتدّ أعاظم الفقهاء و المحدّثين من قبيل شيخ الطائفة و معاصريه و من تابعه بهذا الكتاب و صار متروكا من قبل أصحابنا، فتدبّر.

______________________________
(1) نفس المصدر 1/ 178، كتاب الصلاة، ذكر اللباس في الصلاة.

(2) مستدرك الوسائل 3/ 317، الفائدة الثانية من الخاتمة في شرح حال الكتب و مؤلّفيها.

142
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الرواية الرابعة: النبوي المشهور ؛ ج‌1، ص : 143

[الرواية الرابعة: النبوي المشهور]

و في النبوي المشهور: «إنّ اللّه إذا حرّم شيئا حرّم ثمنه.» (1).

______________________________
الرواية الرابعة

(1) هذه هي الرواية الرابعة ممّا ذكرها المصنّف بعنوان الضابطة. و قد ذكرها شيخ الطائفة بهذا المتن في بيوع الخلاف و استدلّ بها لعدم جواز بيع المسوخ و سرجين مالا يؤكل لحمه، فراجع «1».

و الرواية عامّية نقلها أرباب السنن و المسانيد عن ابن عباس عن النبي «ص»، و لكن ذكر في أكثر النقول كلمة الأكل:

ففي سنن أبي داود السجستاني في باب ثمن الخمر و الميتة بسنده عن ابن عباس قال: رأيت رسول اللّه «ص» جالسا عند الركن. قال: فرفع بصره إلى السماء فضحك فقال: «لعن اللّه اليهود»- ثلاثا- «إنّ اللّه- تعالى- حرّم عليهم الشحوم فباعوها و أكلوا أثمانها. و إنّ اللّه- تعالى- إذا حرّم على قوم أكل شي‌ء حرّم عليهم ثمنه.» «2»

و رواها البيهقي في السنن بسنده عن ابن عباس «3». و رواها أيضا أحمد في المسند‌

______________________________
(1) كتاب الخلاف 3/ 184 و 185 (ط. أخرى 2/ 81 و 82)، المسألتان 308 و 310.

(2) سنن أبى داود 2/ 251، كتاب الإجارة.

(3) سنن البيهقى 6/ 13، كتاب البيوع، باب تحريم بيع ما يكون نجسا لا يحلّ أكله.

143
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الرواية الرابعة: النبوي المشهور ؛ ج‌1، ص : 143

..........

______________________________
بسنده عن ابن عباس
«1». و رواها أيضا المحدّث النوري في المستدرك عن عوالي اللآلي «2».

و المذكور في الجميع كلمة الأكل.

نعم، رواها أحمد في موضع ثالث من المسند عن ابن عباس بدونها، فقال: إنّ النبي «ص» قال: «لعن اللّه اليهود حرّم عليهم الشحوم فباعوها فأكلوا أثمانها، و إن اللّه إذا حرّم على قوم شيئا حرّم عليهم ثمنه.» «3»

أقول: بعد اختلافهم في نقل كلمة الأكل و عدمه و العلم برجوع الروايات إلى رواية واحدة لوحدة الراوي و المرويّ عنه و المضمون، يكون المظنون وجود كلمة الأكل في الحديث و سقطه في النقل الأخير.

و إن شئت قلت: إنّ أصالة عدم الزيادة و أصالة عدم النقيصة و إن كان كلتاهما أصلين معتبرين عند العقلاء لأصالة عدم غفلة الراوي، إلّا أنّه مع تعارضهما تقدّم الأولى عندهم، إذ يبعد جدّا أن يزيد الراوي من عند نفسه كلمة، و هذا بخلاف السقط فإنّ احتماله ليس بهذه المثابة من البعد.

و بالجملة فما في الخلاف و متن المكاسب من نقلها بدون هذه الكلمة غير ثابت.

و على هذا فتخرج الرواية عن كونها ضابطة كليّة في المقام.

و استدل البيهقي بهذه الرواية على تحريم بيع ما يكون نجسا لا يحلّ أكله.

و أورد عليه في حاشية الكتاب المسمّاة بالجوهر النقيّ بقوله: «عموم هذا الحديث‌

______________________________
(1) مسند أحمد 1/ 247 و 293.

(2) مستدرك الوسائل 2/ 427، الباب 6 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 8؛ و عوالي اللآلي 2/ 110، الرقم 301.

(3) مسند أحمد 1/ 322.

144
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الرواية الرابعة: النبوي المشهور ؛ ج‌1، ص : 143

..........

______________________________
متروك اتّفاقا بجواز بيع الآدمي و الحمار و السنّور و نحوها ...»
«1»

أقول: يمكن أن يدافع عن البيهقي بأنّ الظاهر من الحديث حرمة بيع ما يحرم أكله إذا كان معدّا للأكل و بيع لذلك لا مطلقا. و الحاصل: أنّ حرمة الثمن في الرواية كناية عن فساد البيع، فيظهر منها وجود الملازمة بين حرمة أكل الشي‌ء و فساد بيعه، فلا محالة يجب حملها على صورة كون المبيع ممّا يصرف عادة في الأكل و كان بيعه لذلك و إلّا لم يمكن الالتزام بمضمونه.

و أمّا على فرض عدم وجود كلمة الأكل في الرواية فيصير ظاهر قوله: «إنّ اللّه إذا حرّم شيئا» حرمته المطلقة بمعنى عدم وجود منفعة محلّلة له و كونه ممحّضا في الفساد أو ندرة منفعته المحلّلة بحيث تلحق بالعدم. و هذا يقتضي فساد البيع قطعا و به أفتى الأصحاب أيضا. و لكن لم يثبت كون هذه الفتوى منهم مستندة إلى هذه الرواية العاميّة حتى يجبر بسببها ضعفها. بل الفساد في هذه الصورة واضح، إذ بعد حرمة جميع منافع الشي‌ء يصير الشي‌ء بمنزلة ما لا منفعة له أصلا فيسقط عن الماليّة شرعا.

و لو قيل بشمول قوله: «إذا حرّم شيئا» لحرمة بعض الانتفاعات منه فلا محالة يراد من الجزاء أيضا بمناسبة الحكم و الموضوع فساد بيعه بقصد هذه المنفعة المحرّمة لا مطلقا، فتأمّل.

و بالجملة فالرواية مضافا إلى الاختلاف في نقلها لم تنقل بطرقنا و لم يثبت استناد أصحابنا إليها في فتاويهم. و استناد الشيخ و أمثاله إلى هذا النسخ من الروايات العاميّة في الكتب الاستدلاليّة لعلّه كان بقصد المماشاة مع أهل الخلاف. هذا.

و قصّة بيع اليهود للشحوم رواها جابر أيضا و لكن بدون الضابطة المذكورة في‌

______________________________
(1) راجع ذيل «سنن البيهقى» 6/ 13، باب تحريم بيع ما يكون نجسا ... من «الجوهر النقى».

145
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الرواية الرابعة: النبوي المشهور ؛ ج‌1، ص : 143

..........

______________________________
الذيل برواية ابن عبّاس:

ففي سنن أبي داود بسنده عن جابر بن عبد اللّه أنّه سمع رسول اللّه «ص» يقول عام الفتح و هو بمكّة: «إنّ اللّه حرّم بيع الخمر و الميتة و الخنزير و الأصنام.» فقيل: يا رسول اللّه، أ رأيت شحوم الميتة فإنّه يطلى بها السفن و يدهن بها الجلود و يستصبح بها الناس؟ فقال:

«لا، هو حرام.» ثم قال رسول اللّه «ص» عند ذلك: «قاتل اللّه اليهود، إنّ اللّه لما حرّم عليهم شحومها أجملوه ثمّ باعوه فأكلوا ثمنه.» «1»

و راجع في هذا المجال أيضا روايات عمر و أنس و عكرمة بن خالد عن أبيه «2».

أقول: جمله و أجمله و جمّله: أذابه. و الظاهر أنّ الشحوم كانت محرّمة على اليهود مطلقا و إن كان المتبادر بدوا من هذه الرواية أنّها كانت من قبيل الميتة. و سيأتي البحث في جواز الانتفاع بالميتة و عدمه.

و ممّا يقرب من الرواية مضمونا ما رواه أبو داود أيضا بسنده عن أبي هريرة أنّ رسول اللّه «ص» قال: «إنّ اللّه حرّم الخمر و ثمنها، و حرّم الميتة و ثمنها، و حرّم الخنزير و ثمنه.» «3»

إذ بإلغاء الخصوصيّة من الموارد الثلاثة المذكورة يستفاد من الرواية وجود التلازم بين حرمة الشي‌ء و حرمة ثمنه.

و قد ظهر بما ذكرناه بطوله أنّه ليس بين الروايات الأربع التي ذكرها المصنّف بعنوان الضابطة الكليّة ما يعتمد عليه بانفراده بحيث يقاوم عمومات صحّة العقود و التجارات.

نعم، يصلح كلّها للتأييد و التأكيد في الأبواب المختلفة.

______________________________
(1) سنن أبى داود 2/ 250، كتاب الإجارة، باب في ثمن الخمر و الميتة.

(2) كنز العمّال 4/ 160- 163، بيع الخمر، الروايات 9980- 9987.

(3) سنن أبى داود 2/ 250، كتاب الإجارة، باب في ثمن الخمر و الميتة.

146
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

في تقسيم المكاسب ؛ ج‌1، ص : 147

[في تقسيم المكاسب]

إذا عرفت ما تلوناه و جعلته في بالك متدبّرا لمدلولاته فنقول: قد جرت عادة غير واحد على تقسيم المكاسب إلى محرّم و مكروه و مباح مهملين للمستحبّ و الواجب بناء على عدم وجودهما في المكاسب. مع إمكان التمثيل للمستحب بمثل الزراعة و الرعي ممّا ندب إليه الشرع. و للواجب بالصناعة الواجبة كفاية خصوصا إذا تعذّر قيام الغير به، فتأمّل. (1)

______________________________
في تقسيم المكاسب

(1) المكاسب جمع المكسب إمّا مصدر ميميّ بمعنى الكسب أو اسم مكان و يراد به هنا ما يقع عليه أو به الكسب أعني ما يكتسب به من الأشياء أو الأعمال، و بعبارة أخرى موضوع الكسب.

قال الراغب في المفردات: «الكسب: ما يتحرّاه الإنسان ممّا فيه اجتلاب نفع و تحصيل حظّ ككسب المال.» «1».

______________________________
(1) مفردات الراغب/ 447.

147
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الأخبار في الندب إلى الزرع و الرعي ؛ ج‌1، ص : 148

..........

______________________________
و قد مثّلوا للمحرّم بصنع آلات اللهو و القمار و الأصنام و نحوها و كذا المعاملة عليها بالبيع و الشراء و الإجارة و نحوها. و للمكروهة بالذباحة و الصرف و بيع الأكفان و الرقيق و نحو ذلك. و للمباح بالصنائع و المعاملات المتعارفة التي لا حزازة فيها.

[الأخبار في الندب إلى الزرع و الرعي]

و الأخبار الواردة في الندب إلى الزرع و الرعي كثيرة جدّا رواها الفريقان:

1- ففي خبر محمّد بن عطيّة قال: سمعت أبا عبد اللّه «ع» يقول: «إنّ اللّه- عزّ و جلّ- اختار لأنبيائه الحرث و الزرع كيلا يكرهوا شيئا من قطر السماء.» «1»

2- و في خبر سهل بن زياد رفعه قال: قال أبو عبد اللّه «ع»: «إنّ اللّه جعل أرزاق أنبيائه في الزرع و الضّرع لئلا يكرهوا شيئا من قطر السماء.» «2»

3- و في خبر سيّابة عن أبي عبد اللّه «ع» قال: سأله رجل فقال له: جعلت فداك، أسمع قوما يقولون: إنّ الزراعة مكروهة. فقال له: «ازرعوا و اغرسوا، فلا و اللّه ما عمل الناس عملا أحلّ و لا أطيب منه. و اللّه ليزر عنّ الزرع و ليغرسنّ النخل بعد خروج الدجّال.» «3»

4- و في خبر أحمد بن أبي عبد اللّه عن بعض أصحابنا قال: قال أبو جعفر «ع»: كان أبي يقول: «خير الأعمال الحرث تزرعه فيأكل منه البرّ و الفاجر: أمّا البرّ فما أكل من شي‌ء استغفر لك. و أمّا الفاجر فما أكل منه من شي‌ء لعنه. و يأكل منه البهائم و الطير.» «4»

5- و في خبر السكوني عن أبي عبد اللّه «ع» قال: سئل النبي «ص»: أيّ المال خير؟

قال: «الزرع زرعه صاحبه و أصلحه و أدّى حقّه يوم حصاده.» قال: فأيّ المال بعد الزرع‌

______________________________
(1) الكافى 5/ 260، كتاب المعيشة، باب فضل الزراعة، الحديث 1.

(2) نفس المصدر و الباب، الحديث 2.

(3) نفس المصدر و الباب، الحديث 3.

(4) نفس المصدر و الباب، الحديث 5.

148
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الأخبار في الندب إلى الزرع و الرعي ؛ ج‌1، ص : 148

..........

______________________________
خير؟ قال: «رجل في غنم له قد تبع بها مواضع القطر ...»
«1»

6- و في رواية يزيد بن هارون قال: سمعت أبا عبد اللّه «ع» يقول: «الزارعون كنوز الأنام يزرعون طيّبا أخرجه اللّه- عزّ و جلّ-، و هم يوم القيامة أحسن الناس مقاما و أقربهم منزلة يدعون المباركين.» «2»

7- و في روايته الأخرى قال: سألت جعفر بن محمّد «ع» عن الفلاحين فقال: «هم الزارعون كنوز اللّه في أرضه. و ما في الأعمال شي‌ء أحبّ إلى اللّه من الزراعة. و ما بعث اللّه نبيّا إلّا زرّاعا إلّا إدريس فإنّه كان خيّاطا.» «3»

8- و عن محاسن البرقي بسنده عن عليّ «ع» قال: قال رسول اللّه «ص»: «عليكم بالغنم و الحرث، فإنّهما يغدوان بخير و يروحان بخير.» «4»

9- و في باب فضل الزرع و الغرس من البخاري بسنده عن أنس قال: قال رسول اللّه «ص»: «ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلّا كان له به صدقة.» «5»

إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة. و راجع في هذا المجال تجارة الوسائل، و البحار «6».

______________________________
(1) الكافى 5/ 260، كتاب المعيشة، باب فضل الزراعة، الحديث 6.

(2) الكافى 5/ 261، كتاب المعيشة، باب فضل الزراعة، الحديث 7.

(3) الوسائل 12/ 25، كتاب التجارة، الباب 10 من أبواب مقدّماتها، الحديث 3.

(4) الوسائل 8/ 393، كتاب الحجّ، الباب 48 من أبواب أحكام الدّوابّ، الحديث 3.

(5) صحيح البخاري 2/ 45، ما جاء في الحرث و المزارعة، باب فضل الزرع و الغرس ...

(6) راجع الوسائل 12/ 24، الباب 10 من أبواب مقدّمات التجارة؛ و البحار 100/ 63 (ط. إيران 103/ 63) كتاب العقود و الإيقاعات، باب استحباب الزرع و الغرس ...

149
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الأخبار في الندب إلى الزرع و الرعي ؛ ج‌1، ص : 148

..........

______________________________
و أما أمر المصنّف أخيرا بالتأمّل فلعلّه إشارة إلى ما ذكره الأعلام في المقام:

قال المحقّق الإيرواني في حاشيته: «المستحبّ هو عنوان الزراعة و الرعي دون التكسّب بهما و أخذ الأجرة عليهما و دون التعيّش بهما بصرف الحاصل منهما في المعاش.» «1»

و قال أيضا: «الواجب في الصناعات الواجبة كفاية هو نفس القيام بالصنعة و تصدّيها و عدم التأبي عنها دون عنوان التكسّب بها و أخذ الأجرة عليها. إلّا أن يقال: إنّ القيام المجاني ربّما يزيد في اختلال النظام. و لكن مع ذلك لا يكون التكسّب بعنوان نفسه واجبا، بل يجب بعنوان إقامة النظام. و لو بني على التمثيل للواجب بما وجب بمثل هذه العناوين دخل في الواجب ما وجب بالنذر و اليمين و بعنوان الإنفاق على العيال الواجب النفقة و لأجل أداء الدين.» «2»

أقول: لقد أجاد فيما أفاد.

و يمكن أن يقال في الزرع أنّ الندب إليه لعلّه من جهة توفير أرزاق الناس و ما يقوم به حياتهم و تعيّش البهائم و الطيور و إن وقع العمل عليه مجّانا، و يشعر بذلك بعض ما مرّ من الأخبار.

و في الرعي أيضا لذلك، أو لتحصيل ملكة الانقياد و التواضع للنفس و تمرينها على الأخلاق الحسنة و حسن المعاشرة و العطف على الضعفاء. فإنّ المعتاد بتربية الحيوانات و الأنس بها يصير لا محالة واسع النفس مقتدرا على المعاشرة مع الروحيات النازلة السافلة و الطبقات المختلفة الأهواء و الآراء و يصير بذلك نافعا لنفسه و للمجتمع. و ذلك أمر مرغوب فيه شرعا.

و يدلّ على ذلك ما ورد من مباشرة الأنبياء العظام لرعي الأغنام كخبر عقبة عن أبي‌

______________________________
(1) حاشية المكاسب للمحقّق الإيروانى/ 3.

(2) حاشية المكاسب للمحقّق الإيروانى/ 3.

150
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الأخبار في الندب إلى الزرع و الرعي ؛ ج‌1، ص : 148

..........

______________________________
عبد اللّه «ع» قال: «ما بعث اللّه نبيّا قطّ حتّى يسترعيه الغنم يعلّمه بذلك رعيه الناس.»
«1»

و في النبوي: «ما من نبيّ إلّا و قد رعى الغنم.» قيل: و أنت يا رسول اللّه؟ قال: «و أنا.» «2»

و أمّا الصناعات الواجبة- و يقال لها الواجبات النظاميّة- فيجاب عنها أوّلا بما مرّ عن الإيرواني من أنّ الواجب فيها نفس القيام بها و لو مجّانا لا التكسب بها.

لا يقال: القيام بها مجانا من قبل الجميع يوجب بنفسه اختلال النظام فلا بدّ و أن يكون الواجب هو التكسّب بها.

فإنّه يقال: ما يوجب الاختلال هو تعيّن المجانيّة و لا نقول بذلك، و إنّما نقول بوجوب الطبيعة الجامعة بين المجانيّة و بين الاكتساب. و قد أوضح ذلك في مصباح الفقاهة، فراجع «3».

و ثانيا: أنّ الصنائع ليست بواجبة أصلا بل هي مباحة بالذات إلّا الصنائع المحرّمة.

و الواجب هو حفظ النظام. و توقفه عليها لا يقتضي وجوبها لمنع وجوب المقدّمة شرعا.

و ثالثا: أنّ كلامنا في الوجوب النفسي الثابت للشي‌ء بعنوانه- نظير الكراهة النفسيّة الثابتة للصرف و بيع الأكفان و أمثالهما- لا الوجوب المقدّمي التبعيّ.

و رابعا: لو صحّ التمثيل للواجب بما وجب و لو تبعا و بعنوان آخر لدخل فيه أيضا ما وجب بعقد الإجارة أو النذر و أخويه أو لأجل أداء الدين أو النفقة الواجبة عليه، فما وجه الاقتصار على التمثيل بالصنائع الواجبة كفاية؟

و في مصباح الفقاهة بعد التعرّض لبعض ما مرّ قال: «و التحقيق: أنّ التقسيم إن كان باعتبار نفس التكسّب فلا محيص عن تثليث الأقسام كما تقدّم. و إن كان بلحاظ فعل‌

______________________________
(1) بحار الأنوار 11/ 64، كتاب النبوّة، الباب 2 (باب نقش خواتيمهم ...)، الحديث 7.

(2) بحار الأنوار 61/ 117، كتاب السماء و العالم، الباب 2 (باب أحوال الأنعام ...).

(3) مصباح الفقاهة 1/ 27.

151
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

كلمات الأصحاب حول تقسيم المكاسب ؛ ج‌1، ص : 152

..........

______________________________
المكلّف و العناوين الثانويّة الطارئة عليه فلا مانع من التخميس.»
«1»

[كلمات الأصحاب حول تقسيم المكاسب]

أقول: هذا بعض الكلام حول عبارة الشيخ الأعظم «ره» في المقام. و لكن ينبغي التعرّض لبعض كلمات الأصحاب أيضا لزيادة البصيرة، يظهر من بعضها تثليث الأقسام و من بعضها تخميسها:

1- فيظهر من عبارة الشيخ الطوسي «ره» في النهاية تثليث الأقسام، حيث سرد فيها المكاسب المحرّمة ثمّ المباحة ثمّ المكروهة. و المراجعة إليها لازمة لمن أراد أن يطّلع على نظر قدماء الأصحاب في المقام «2». و كذا إلى مقنعة المفيد و إن لم يتعرّض للمكروهة منها «3».

2- و المحقّق في الشرائع ثلّث الأقسام و لكن جعل المقسم ما يكتسب به فقال: «الأوّل:

فيما يكتسب به و هو ينقسم إلى محرّم و مكروه و مباح.» ثمّ قسّم المحرّم إلى خمسة أنواع:

«الأوّل: الأعيان النجسة كالخمر ... الثاني: ما يحرم لتحريم ما قصد به كآلات اللهو ...

الثالث: ما لا ينتفع به كالمسوخ ... الرابع: ما هو محرّم في نفسه كعمل الصور المجسّمة و الغناء ... الخامس: ما يجب على الإنسان فعله ...» «4»

و ناقشه الأستاذ الإمام «ره» في مكاسبه فقال ما محصّله: «أنّ ما لا ينتفع به و ما يجب فعله ليسا من أقسام ما جعله مقسما أعني ما يكتسب به، و كذا ما ذكرها في المكروهات كبيع الصرف و الأكفان و غيرهما ممّا هي من المكاسب المكروهة لا ما يكتسب به المكروه.

و الظاهر أن مراده ما يكون الاكتساب به محرّما أو مكروها أو مباحا.» «5»

______________________________
(1) مصباح الفقاهة 1/ 27.

(2) النهاية لشيخ الطائفة/ 363، كتاب المكاسب، باب المكاسب المحظورة و المكروهة و المباحة.

(3) المقنعة/ 586 (ط. أخرى/ 90)، أبواب المكاسب.

(4) الشرائع/ 263 (ط. أخرى 2/ 9- 11)، في أوّل كتاب التجارة.

(5) المكاسب المحرمة للإمام الخمينى «ره» 1/ 3.

152
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

كلمات الأصحاب حول تقسيم المكاسب ؛ ج‌1، ص : 152

..........

______________________________
أقول: لأحد أن يدافع عن المحقّق أوّلا: بأنّ حمل ما يكتسب به على الاكتساب خلاف الظاهر جدّا. و ظاهر تقسيم ما يكتسب به إلى المحرّم و المكروه و المباح، انقسامه إليها مع قطع النظر عن الاكتساب العارض له لا تقسيم الاكتساب إلى المحرّم و المكروه و المباح.

و على هذا فيمكن أن يقال بأنّ المحرّم فيما لا ينتفع به أخذ الثمن بإزائه، و في الفعل الواجب أخذ الأجرة بإزائه. فيراد بما يكتسب به الأعمّ من الأعيان الخارجيّة و الأعمال، إذ معنى الكسب تحرّي المال و طلبه بنحو الإطلاق. و من يبيع المسوخ مثلا و يأخذ الثمن بإزائها يصدق عليه أنّه يكتسب بعمله هذا. و كذا من يأخذ الأجرة بإزاء العمل الواجب، فتأمّل. كما أنّ في الصرف و نحوه يكون العمل مكروها و يصدق عليه أنّه ممّا يكتسب به.

و ثانيا: أنّ الثمن المأخوذ بإزاء ما لا ينتفع به و كذا الأجرة المأخوذة بإزاء العمل الواجب تكونان بأنفسهما من الأعيان الخارجيّة المحرّمة وضعا لعدم انتقالهما إليه شرعا و قد وقع الاكتساب بهما، فيراد بالمحرّم الأعمّ من التكليف و الوضع نظير ما إذا كان المبيع أو الثمن غصبا. فالخمر محرّمة بلحاظ شربها و الغصب محرّم بلحاظ غصبها، هذا وضعا و ذاك تكليفا.

و يشهد لذلك ما في متن اللّمعة حيث قسم موضوع التجارة إلى ثلاثة أقسام و عدّ من أقسام المحرّم الأجرة على تغسيل الموتى و الأجرة على الأفعال الخالية من غرض حكمي كالعبث. و لا يراد بموضوع التجارة إلّا ما يكتسب به، فتأمّل.

و بما ذكرناه أوّلا من احتمال كون ما يكتسب به أعمّ من الأعيان الخارجية و الأعمال يظهر أنّ المقسم في كلمات الأصحاب لو كان ما يكتسب به لا نفس الاكتساب أمكن فرض المندوب فيه أيضا و التمثيل له بمثل الزرع و الرعي بناء على استحبابهما شرعا كما قيل.

و لا يرد على ذلك ما مرّ من أنّ المندوب نفس الزرع و الرعي و لو مجانا لا الاكتساب‌

153
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

كلمات الأصحاب حول تقسيم المكاسب ؛ ج‌1، ص : 152

..........

______________________________
بهما، إذ المفروض أنّ التقسيم لما يكتسب به لا للاكتساب. و كذلك يمكن فرض الواجب فيه أيضا و التمثيل له بالواجبات النظاميّة بناء على كفاية الوجوب المقدّمي في ذلك.

و لا يرد على ذلك بأنّ الواجب نفس الصناعات و لو مجانا لا الاكتساب بها، فتدبّر.

3- و في المراسم عدّ الأقسام خمسة فقال: «المكاسب على خمسة أضرب: واجب و ندب و مكروه و مباح و محظور. فأمّا الواجب فهو كلّ حلال بيعه أو الاحتراف به إذا كان لا معيشة للإنسان سواه. و أمّا الندب فهو ما يكتسب به على عياله ما يوسّع به عليهم. و أمّا المكروه فأن يكتسب محتكرا أو له عنه غنى و يحتمل به مشقّة. و أمّا المباح فأن يكتسب ما لا يضرّه تركه و لا يقيم بأوده بل له عنه غنى. و أمّا المحظور فأن يكتسب مالا لينفق في الفساد أو يحترف بالحرام.» ثم قال: «المعايش على ثلاثة أضرب: مباح و محظور و مكروه.» «1» و مثل للثلاثة بنحو ما في الشرائع لأقسام ما يكتسب به.

أقول: يظهر من كلامه «ره» أنّه أراد بالمكسب: المعنى المصدري أعني نفس الاكتساب، و بالوجوب و الحرمة و الندب: الأعمّ من النفسيّ و المقدّمي. و بناء كلامه على كون مقدّمة الواجب واجبة و مقدّمة المندوب مندوبة و مقدّمة الحرام محرّمة شرعا. و قد مرّ منّا منع ذلك.

4- و في متن اللمعة قسّم موضوع التجارة إلى محرّم و مكروه و مباح و بعد ذكر أمثلتها نحو ما في الشرائع قال: «ثمّ التجارة تنقسم بانقسام الأحكام الخمسة.» «2» فأراد بموضوع التجارة ما يكتسب به و بالتجارة المعاملات الواقعة.

5- و العلامة في القواعد جعل المقسم المتاجر و قال: «و هي تنقسم بانقسام الأحكام الخمسة» «3»

______________________________
(1) الجوامع الفقهية/ 585 (ط. أخرى/ 647)، كتاب المكاسب من المراسم.

(2) اللمعة الدمشقية/ 62؛ و الروضة البهيّة في شرح اللمعة الدمشقية 1/ 312، الفصل الأوّل من كتاب المتاجر.

(3) القواعد 1/ 119، كتاب المتاجر، المقصد الأوّل، الفصل الأوّل.

154
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

كلمات الأصحاب حول تقسيم المكاسب ؛ ج‌1، ص : 152

..........

______________________________
ثمّ مثّل للواجب بما يحتاج إليه الإنسان لقوته و قوت عياله. و للمندوب بما يقصد به التوسعة على العيال أو نفع المحاويج. و للمباح بما يقصد به الزيادة في المال. و للمكروه بالصرف و بيع الأكفان و نحو ذلك. و للمحظور بما اشتمل على وجه قبيح و قسّمه بخمسة أقسام كما مرّ من الشرائع.

أقول: يرد عليهما نحو ما أوردناه على المراسم بالنسبة إلى الواجب و المندوب.

6- و في المسالك بعد التعرّض لتثليث الأقسام و تخميسها قال ما ملخّصه: «أنّ كلا من التقسيمين حسن، إذ لا خلل في الثلاثة كما لا خلل في الخمسة، فإنّ مورد القسمة في الثلاثة ما يكتسب به و هو العين و المنفعة، و مورد الخمسة الاكتساب الذي هو فعل المكلّف و من شأنه أن يقبل الأقسام الخمسة.» «1»

أقول: يرد عليه أنّهم ذكروا في أمثلة المحرّم بيع السلاح لأعداء الدين مثلا و بيع ما لا ينتفع به كالحشرات و المسوخ. و لم يتعلّق الحرمة فيهما بالعين أو المنفعة، بل بنفس العمل أعني المعاملة و أخذ الثمن، كما أنّ المكروه أيضا نفس الصرف و بيع الأكفان و هما من قبيل الأعمال. نعم يمكن أن يقال: إنّ المقصود بما يكتسب به ليس خصوص الأعيان أو المنافع بل يعمّ الأعمال أيضا كما مرّ بيانه، فتأمّل.

7- و الأستاذ الإمام «ره» بعد الإشارة إلى ما في القواعد اعترض عليه بما محصّله: «و الظاهر منه أنّ الأقسام للتجارة و أن الأحكام الخمسة هي التكليفيّة لا مع الوضعيّة، فيرد عليه:

أوّلا: أنّ التجارة لا تصير واجبة شرعا و لو كان الطريق لتحصيل قوت العيال منحصرا فيها لمنع وجوب المقدّمة شرعا. و لو سلّم يتعلّق الوجوب بعنوان آخر (: عنوان المقدّميّة) غير ذات الموقوف عليها.

______________________________
(1) المسالك 1/ 164، كتاب التجارة.

155
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

كلمات الأصحاب حول تقسيم المكاسب ؛ ج‌1، ص : 152

..........

______________________________
و ثانيا: أنّ الحرمة في كثير ممّا ذكره غير ثابتة، أو ثبت عدمها كالتجارة بما لا ينتفع به، فإنّها من حيث هي تجارة و نقل و انتقال ليست محرّمة. و التصرّف في مال الغير- بعد بطلان المعاملة- و إن كان محرّما لكنّه غير عنوان التجارة. و كذلك التجارة بالأعيان النجسة غير ثابتة الحرمة.

و ثالثا: أنّ المقسم في التجارة الواجبة و المستحبّة هو الكسب المنتهي إلى النقل و الانتقال العقلائي الممضى شرعا أعني ما يوصل المكلّف إلى حفظ النظام، بناء على ما هو التحقيق من أنّ الواجب من المقدّمة- على القول به- خصوص الموصلة منها. و في المحرّمة لو كان كذلك لزم صحّة المعاملة فيها و هي خلاف الواقع المسلّم عندهم، فلا بدّ و أن يكون المراد فيها المعاملة العقلائية و إن لم تصحّ شرعا فلا يكون المقسم واحدا، إلّا أن يقال:

المقسم نفس الطبيعة الجامعة بين الصحيحة و الفاسدة.» «1»

أقول: ما ذكره أوّلا وارد كما مرّ منّا. و أمّا الثاني فمبنيّ على حمل حرمة التجارة على الحرمة التكليفيّة و هو غير واضح. و إرادة التكليف من الوجوب و الندب لا تستلزم إرادته من الحرمة أيضا بعد كون اللفظ بحسب المفهوم قابلا لكليهما بالاشتراك المعنويّ كما مرّ بيانه و كون محطّ نظرهم في أبواب المعاملات بيان صحتها و فسادها. و من قسّم المعاملات و المكاسب إلى المحرّم و المكروه و المباح أيضا كان قصده من المحرّم و المحظور الفاسد منها لا المحرّم تكليفا فقط، فراجع المقنعة و النهاية و الشرائع و غيرها.

و التعبير عن الفساد بلفظ الحرمة و عدم الجواز وقع على لسان الكتاب و السنّة. و قد مرّ في شرح رواية تحف العقول و الروايات الأخر أنّ المقصود بالحرمة المضافة فيها إلى‌

______________________________
(1) المكاسب المحرّمة للإمام الخمينى «ره» 1/ 4.

156
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

تتمة الملحوظ في المقسم نفس الاكتساب أو ما يكتسب به ؛ ج‌1، ص : 157

..........

______________________________
المعاملات فسادها و عدم ترتّب الآثار عليها لا الحرمة التكليفيّة.

و أمّا ما أورده ثالثا فيمكن أن يقال فيه- كما أشار إليه- أنّ المقسم العقود العقلائية الرائجة فهي موضوع الأحكام الخمسة. و لازم الحكم بوجوبها أو استحبابها صحّتها، و يعني بحرمتها فسادها و عدم ترتّب الأثر عليها.

تتمة [الملحوظ في المقسم نفس الاكتساب أو ما يكتسب به]

لا يخفى أنّ الملحوظ في المقسم إمّا نفس الاكتساب بما أنّه فعل المكلّف، أو ما يكتسب به أعني موضوع كسبه.

و على الأوّل فإمّا أن يلحظ الاكتساب بذاته مع قطع النظر عن انطباق عنوان آخر عليه، و إمّا أن يلحظ مطلقا و لو بلحاظ انطباق عنوان آخر عليه.

فإن لوحظ الاكتساب بذاته فقد يقال: إنّه ليس إلّا مباحا. و ما دلّ على الترغيب في التجارة و في طلب الحلال و كونه من أفضل العبادة و أنّ اللّه- تعالى- يحبّ المحترف الأمين و نحو ذلك فلا تدلّ على كون الاكتساب بذاته عبادة و محبوبا للّه- تعالى- و إلّا لكان الأثرياء المتكاثرون من أعبد الناس و أحبّهم إلى اللّه- تعالى-، بل الرجحان للآثار المترتّبة على الاكتساب: من الاعتماد على النفس، و زيادة العقل، و التوكّل على اللّه- تعالى-، و الاستعفاف، و الاستغناء عن الناس و عدم الكلّ عليهم، و عدم الابتلاء بصرف الحرام، و التوسعة على العيال، و صلة الرحم، و التعطّف على الجيران، و الإنفاق في سبل الخير و أمور الآخرة و نحو ذلك من العناوين المترتّبة على الاكتساب. و قد أشعر بما ذكرناه الأخبار الواردة في الباب.

كيف؟ و ليس الاكتساب من العبادات بالمعنى الأخصّ المتقوّمة بقصد القربة نظير‌

157
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

تتمة الملحوظ في المقسم نفس الاكتساب أو ما يكتسب به ؛ ج‌1، ص : 157

..........

______________________________
الصلاة و الصوم و نحوهما. و كونه من العبادات بالمعنى الأعمّ أعني ما يمكن أن يتقرّب بها- إن أتي بها بقصد القربة- لا يتوقّف على حسنه الذاتي بل يكفي فيها حسنه و لو بلحاظ ما يترتّب عليه من الآثار.

اللّهم إلّا أن يقال: يكفي في الحكم باستحباب الشي‌ء ترغيب الشرع فيه بعنوانه و أمره به و التوبيخ على تركه و إن كان بلحاظ فوائده و الآثار المترتّبة عليه. فالمستحبّ شرعا نفس هذا العنوان المرغّب فيه. ألا ترى أنّ الصلاة مثلا شرّعت لذكر اللّه- تعالى- و التوجّه إليه. و مع ذلك نحكم بكون نفس الصلاة مستحبّة و عبادة لوقوع الأمر بها دون الآثار. و مقتضى ذلك كون نفس التجارة أو طلب الحلال من الأمور المستحبّة المحبوبة للّه- تعالى- لكثرة بركاتهما للمسلمين و ترتّب آثار جمّة عليهما غالبا، و إن كان الثواب و الأجر الأخروي متفرّعا على قصد التقرّب بهما. فهما من العبادات الشأنيّة، أي ما يصلح لأنّ يتقرّب بها إليه- تعالى-. و ليس المستحبّ منحصرا في العبادات المحضة.

و نظير التجارة و طلب الحلال الزراعة و الرعي المرغّب فيهما في أخبار الفريقين، فيمكن الحكم باستحبابهما شرعا. هذا كلّه إذا لوحظ الاكتساب بذاته.

و أمّا إذا لوحظ بنحو الإطلاق حتّى بلحاظ العناوين المنطبقة عليه فالظاهر انقسامه بانقسام الأحكام الخمسة كما مرّ من المراسم. «1» و كذا ما يكتسب به إن أريد به الأعمّ من الأعيان الخارجيّة و الأعمال، كما مرّ بيانه في دفع ما استشكل به الأستاذ على عبارة الشرائع، فراجع. «2»

______________________________
(1) الجوامع الفقهية/ 585 (ط. أخرى/ 647)، كتاب المكاسب من المراسم.

(2) راجع ص 152.

158
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

معنى حرمة الاكتساب تكليفا ؛ ج‌1، ص : 159

 

[معنى حرمة الاكتساب تكليفا]

و معنى حرمة الاكتساب حرمة النقل و الانتقال بقصد ترتّب الأثر المحرّم. و أمّا حرمة أكل المال في مقابلها فهو متفرّع على فساد البيع لأنّه مال الغير وقع في يده بلا سبب شرعي و إن قلنا بعدم التحريم. لأنّ ظاهر أدلّة تحريم بيع مثل الخمر منصرف إلى ما لو أراد ترتيب الأثار المحرّمة. أمّا لو قصد الأثر المحلّل فلا دليل على تحريم المعاملة إلّا من حيث التشريع. (1)

______________________________
معنى حرمة الاكتساب تكليفا

(1) لا يخفى أنّ حرمة الاكتساب قد تكون تكليفيّة محضة، و قد تكون وضعيّة فقط، و قد تكون تكليفيّة و وضعيّة معا. فالبيع وقت النداء يحرم تكليفا فقط. و إن شئت قلت: ليس البيع بما أنّه معاملة خاصّة حراما بل بما أنّه شاغل عن الجمعة، فيعمّ الحرمة كلّ فعل شاغل بما أنّه فعل. و بيع ما لا ينتفع به حرام وضعا فقط. و بيع الخمر حرام تكليفا و وضعا و كذلك المعاملة الربويّة.

[ما يفرض حين إنشاء المعاملة]

ثمّ اعلم: أنّه حين إنشاء المعاملة يفرض هنا أمور:

الأوّل: السبب أعني القول أو الفعل الصادر بقصد الإنشاء.

 

159
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الأقوال حول موضوع الحرمة التكليفية ؛ ج‌1، ص : 160

..........

______________________________
الثاني: المسبّب المنشأ في عالم الاعتبار بنحو الجدّ.

الثالث: اعتبار العقلاء و الشرع لما اعتبره المتعاملان و أنشئاه.

الرابع: الآثار المترتبة خارجا من تسليم العوضين و التصرّف فيهما على أساس ما اعتبراه.

الخامس: قصد تحقّق المسبّب و قصد ترتّب الآثار المتحقّق في قلب المتعاقدين.

[الأقوال حول موضوع الحرمة التكليفيّة]

فما هو موضوع الحرمة التكليفيّة من بين هذه الأمور الخمسة؟ في المسألة أقوال:

القول الأوّل: أن يكون الموضوع لها حقيقة المعاملة،

أعني النقل و الانتقال الجدّي بقصد ترتّب الآثار المحرّمة عليها. و بعبارة أخرى: المحرّم هو المسبّب و لكن مقيّدا بقصد ترتّب الآثار المحرّمة عليه، و هو الظاهر من كلام المصنّف.

أقول: النقل و الانتقال في كلام المصنّف يحتمل بدوا أن يراد بهما إنشاء النقل و الانتقال، و أن يراد بهما حقيقة النقل و الانتقال الاعتبارية المتحقّقة بالإنشاء و القصد الجدّي، و أن يراد بهما النقل و الانتقال الخارجيان أعني الإقباض و القبض.

و لكن الظاهر منه إرادة الثاني، فيكون الحرام عنده تكليفا هو العقد المسبّبي أعني حقيقة النقل و الانتقال الجديّة الاعتباريّة مقيّدة بقصد ترتيب الآثار المحرّمة عليها، و علّل ذلك أخيرا بقوله: «لأنّ ظاهر أدلّة تحريم بيع مثل الخمر منصرف ...» يعني أنّه لو قصد الآثار المحلّلة لم تحرم المعاملة تكليفا بالحرمة الذاتيّة و إن كانت فاسدة بحسب الوضع فتحرم حينئذ إن أتي بها تشريعا. فلو باع الخمر لا بقصد الشرب بل بقصد التخليل أو التطيين بها مثلا أو بنحو الإطلاق لم يشمله دليل حرمة بيعها و إن حرم من باب التشريع.

و يرد على ما ذكره أوّلا: ما أورده في مصباح الفقاهة و محصّله: «أن تقييد دليل حرمة البيع بالقصد المذكور لا موجب له بعد إطلاق الدليل. نعم لو كان الدليل لها الملازمة بين حرمة الشي‌ء و حرمة مقدّمته أو عموم دليل الإعانة على الإثم لتمّ ما ذكره في الجملة،

160
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

القول الأول: أن يكون الموضوع لها حقيقة المعاملة، ؛ ج‌1، ص : 160

..........

______________________________
لكن كلام الشيخ أعمّ من ذلك. و دعوى الانصراف المذكور جزافيّة. و نظير ذلك أن يدّعى انصراف أدلّة تحريم الزنا إلى ذات البعل مثلا. و الالتزام بمثل هذه الانصرافات يستدعي تأسيس فقه جديد.»
«1»

و ثانيا: لو سلّم انصراف دليل التكليف إلى صورة القصد المذكور فلم لا يقال بانصراف دليل الوضع أيضا إلى هذه الصورة؟! و على هذا فلا تفسد المعاملة مع قصد المنافع المحلّلة العقلائيّة و إن كانت نادرة إذا كانت يرغب فيها. بل مرّت دلالة رواية تحف العقول على دوران حرمة المعاملة مدار الآثار المحرّمة، حيث علّل فيها حرمة بيع النجس و غيره بقوله: «لما فيه من الفساد» و صرّح فيها بحلّية الصنائع المشتملة على جهة الفساد و الصلاح معا. و في ذلك إشعار بحلّية المعاملة عليها أيضا إذا وقعت بقصد المنافع المحلّلة.

و عمدة الدليل على حرمة بيع المحرّمات و فساده هو الإجماع. و المتيقّن من موارده صورة القصد المذكور. و مقتضى ذلك جواز بيع الخمر للتخليل و الدّم للتزريق بالمرضى مثلا.

و الشيخ و أمثاله و إن حملوا لفظ الحرمة في الرواية على الحرمة التكليفيّة لكن نحن منعنا ذلك و قلنا باستعمال اللفظ في الأعمّ من التكليف و الوضع و أقمنا لذلك شواهد.

هذا مضافا إلى أنّ الشيخ «ره» لا يقول بجعل الأحكام الوضعيّة مستقلّا بل بانتزاعها من الأحكام التكليفيّة «2». فإذا قال بانصراف التكليف في المقام إلى صورة القصد المذكور كان اللازم أن يقول بانصراف الوضع أيضا لأنّه فرعه.

و ثالثا: أنّ مقتضى كون الموضوع للحرمة التكليفية المسبّب أعني حقيقة النقل‌

______________________________
(1) مصباح الفقاهة 1/ 29.

(2) راجع فرائد الأصول/ 350.

161
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

القول الأول: أن يكون الموضوع لها حقيقة المعاملة، ؛ ج‌1، ص : 160

..........

______________________________
و الانتقال هو صحّة المسبّب و تحقّقه بإيجاد سببه، إذ الحرمة التكليفيّة تتعلّق بما هو تحت اختيار المكلّف. فإن كان المسبّب يتحقّق بسبب إيجاد سببه كان مقدورا للمكلّف بالقدرة على سببه. و إن كان لا يتحقّق بذلك فلا يكون تحت اختياره حتّى يحرم عليه.

و بعبارة أخرى: النهي عن حقيقة المعاملة يكشف عن صحّتها لو أوقعت و إلّا لم يكن معنى للنهي التحريمي عنها. و لكنّ المشهور القائلين بحرمة بيع الخمر و أمثالها قائلون بفساد المعاملة أيضا، فلا يمكن كون متعلّق النهي حقيقة المسبّب.

فإن قلت: صحّة المعاملة تتقوّم باعتبار المتعاملين لها جدّا مضافا إلى اعتبار العرف و الشرع لذلك. و ليس اعتبار العرف و الشرع تحت اختيار المكلّف حتّى يتعلّق به التحريم، فالتحريم يتعلّق بالقسمة التي تكون تحت اختياره أعني النقل بقصد الجدّ مع قطع النظر عن إمضاء الشرع له.

قلت: هذا رجوع عن كون المتعلّق للحرمة حقيقة النقل و الانتقال، و مآله إلى كون المحرّم إنشاء المتعاملين أو المنشأ في اعتبارهما فقط.

و رابعا: أنّ ما ذكره الشيخ أخيرا من أنّه لو قصد الأثر المحلّل تكون المعاملة محرّمة من حيث التشريع.

يرد عليه أوّلا: أنّ التشريع إنّما يصدق إذا أتى بالمعاملة بقصد أن يكون صحيحا في الشرع، و ليس كلّ من يقدم على معاملة فاسدة يريد إدخالها في الشرع، بل ربّما يريد التسلّط على العوض المأخوذ، صحيحة كانت المعاملة أو فاسدة.

و ثانيا: أنّ المحرّم في باب التشريع هو القصد الذي يتحقق في قلب المشرّع، و سراية الحرمة إلى العمل المشرّع فيه محلّ كلام. نظير ما قيل في التجرّي من عدم سراية‌

162
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

القول الثاني: أن يكون الموضوع للحرمة التكليفية: حقيقة النقل و الانتقال ؛ ج‌1، ص : 163

..........

______________________________
المبغوضيّة و الحرمة إلى الفعل المتجرّأ به، فتأمّل.

القول الثاني: أن يكون الموضوع للحرمة التكليفيّة: حقيقة النقل و الانتقال

من دون تقييدها بقصد الأثر المحرّم.

قال في منية الطالب ما ملخّصه: «ثمّ إنّ الحرمة المتعلّقة بالمعاملة عبارة عن حرمة تبديل المال أو المنفعة لا حرمة إنشاء المعاملة و لا حرمة آثارها كالتصرّف في الثمن أو المثمن، و لا قصد ترتّب الأثر عليها. و ذلك لأنّ نفس الإنشاء من حيث إنّه فعل من الأفعال و تلفّظ بألفاظ لا وجه لأن يكون حراما. و هكذا قصد تحقّق المنشأ من حيث إنّه أمر قلبيّ. و أمّا حرمة الآثار فهي مترتّبة على فساد المعاملة و حرمتها لا أنّها هي المحرّمة ابتداء. فما يكون محرّما حقيقة هو نفس التبديل الذي اعتباره بيد مالكه لو لا نهي الشارع الّذي هو مالك الملوك. و بعبارة أخرى: نفس المنشأ بالعقد هو المحرّم لا آلة الإيجاد و لا القصد و لا الآثار.» «1»

أقول: بيانه في الحقيقة تنقيح لكلام الشيخ بنحو لا يرد عليه ما مرّ من الإشكالات.

و يظهر من قوله: «لو لا نهي الشّارع» أنّ مقصوده بالتبديل ليس حقيقة التبديل و التبدّل بل القسمة التي تكون بيد المتعاملين، و بعبارة أخرى: النقل و الانتقال اللولائي، فلا يرد عليه الإشكال الثالث أيضا. نعم يمكن أن يقال: إنّ المنشأ مع قطع النظر عن إمضاء الشرع لا واقعيّة له إلّا بواقعيّة الإنشاء. فمآل هذا القول و القول الرابع الذي يأتي عن الأستاذ الإمام إلى أمر واحد، فتأمّل.

القول الثالث: [الحرام هو الإنشاء عن جدّ في قبال الإنشاء الصوري]

ما في حاشية المحقّق الإيرواني، قال: «بل معنى حرمة الاكتساب هو حرمة إنشاء النقل و الانتقال بقصد ترتيب أثر المعاملة أعني التسليم و التسلّم للمبيع‌

______________________________
(1) منية الطالب 1/ 3.

163
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

القول الثالث: الحرام هو الإنشاء عن جد في قبال الإنشاء الصوري ؛ ج‌1، ص : 163

..........

______________________________
و الثمن، فلو خلّي عن هذا القصد لم يتّصف الإنشاء الساذج بالحرمة. و أمّا قصد ترتيب المشتري للأثر المحرّم و صرف المبيع في الحرام فلا دليل على اعتباره. و دعوى انصراف مثل لا تبع الخمر إلى ما لو أراد بالبيع شرب المشتري لها مجازفة.»
«1»

أقول: لو اقتصر على هذا الكلام أمكن توجيهه بأنّه لا يريد تقييد الإنشاء المحرّم شرعا بقصد التسليم و التسلّم حتّى يورد عليه بعدم الدليل على هذا التقييد، بل يريد بيان أنّ الحرام هو الإنشاء عن جدّ في قبال الإنشاء الصوري. و علامة الجدّ أنّه يرضى بالتسليم عقيبه فذكر القصد المزبور لبيان كون الموضوع للحرمة الإنشاء الجدّي كما في القول الرابع.

و لكنّه- قدّس سرّه- ذكر قبل ذلك ما يستفاد منه أنّ المحرّم في الحقيقة هو الإقباض و التسليم لا البيع. قال: ما ملخّصه: «أنّ ظاهر الرواية التحريم بعنوان الإعانة، و عنوان الإعانة لا ينطبق على الإنشاء الساذج، بل الإعانة حاصلة بالتسليط و الإقباض للمبيع سواء أنشأ بيعها أم لم ينشأ، و كأنّ توصيف البيع بالإعانة لأجل ملازمتها العرفيّة للإقباض فيكون التحريم ملحقا أوّلا و بالذات بالتسليط و ثانيا و بالعرض بالبيع.» «2»

و ناقشه في مصباح الفقاهة و محصّلها: «أنّ تقييد موضوع الحرمة بالتسليم و التسلّم إنّما يتمّ في الجملة لا في جميع البيوع المحرّمة. و تحقيقه: أنّ النواهي المتعلّقة بالمعاملات على ثلاثة أقسام:

الأوّل: أن يكون النهي عنها بلحاظ انطباق عنوان محرّم عليها كالنهي عن بيع‌

______________________________
(1) حاشية المكاسب للمحقّق الإيروانى/ 3.

(2) نفس المصدر/ 3.

164
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

القول الثالث: الحرام هو الإنشاء عن جد في قبال الإنشاء الصوري ؛ ج‌1، ص : 163

..........

______________________________
السلاح لأعداء الدين عند حربهم مع المسلمين. فإنّه لانطباق عنوان تقوية الكفر عليه، و لذا يجوز بيع السلاح لهم إذا لم يفض إلى تقويتهم عليهم، و حرم نقل السلاح إليهم بغير البيع أيضا كالهبة و الإجارة و العارية إذا أفضى إلى ذلك.

و من هنا يتّضح أن بين عنوان بيع السّلاح منهم و بين تقوية الكفر و الإعانة عليه عموما من وجه.

الثاني: أن يتوجه النهي إلى المعاملة من جهة تعلّقها بشي‌ء مبغوض ذاتا كالنهي عن بيع الخمر و الخنزير و الصليب و الصنم.

الثالث: أن يكون النهي عنها باعتبار ذات المعاملة لا المتعلّق كالنهي عن البيع وقت النداء إلى الجمعة و النهي عن بيع المصحف و المسلم من الكافر بناء على حرمة بيعهما منه.

إذا عرفت ذلك ظهر أنّ تقييد موضوع حرمة البيع بالتسليم و التسلّم إنّما يتمّ في القسم الأوّل فقط، إذ المحرّم فيه في الحقيقة هو تسليم المبيع لا أصل البيع. و أمّا في الثاني و الثالث فلا بدّ من الأخذ بإطلاق أدلّة التحريم. نعم لو كان دليلنا على التحريم عموم دليل الإعانة على الإثم أو الملازمة بين حرمة الشي‌ء و حرمة مقدّمته لجاز تقييد موضوع حرمة البيع بالتسليم و التسلّم، فإنّ الإعانة و المقدّمية لا تتحقّقان إلّا بهما.» «1»

أقول: قد مرّ منّا: أنّ المحرّم في البيع وقت النداء ليس البيع بما أنّه معاملة بل بما أنّه عمل شاغل عن الجمعة، و لذا يحرم كلّ عمل شاغل عنها و لا يحرم البيع غير الشاغل كما يقع في طريق السعي إليها. و أمّا في بيع المصحف و المسلم من الكافر و كذا في بيع الخمر و الميتة و نحوهما فلا يبعد صحّة ما ذكره المحقّق الإيرواني «ره»، إذ المقصود من‌

______________________________
(1) مصباح الفقاهة 1/ 28 و 29.

165
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

القول الرابع: المحرم هو المعاملة العقلائية ؛ ج‌1، ص : 166

..........

______________________________
النهي عنها عدم تسليط الكافر على المصحف و المسلم و عدم إشاعة الخمر و الميتة في المجتمع. فالمحرّم فيها في الحقيقة هو التسليم و الإقباض، فتدبّر.

القول الرابع: [المحرّم هو المعاملة العقلائيّة]

ما اختاره الأستاذ الإمام «ره» في مكاسبه، و لعلّه الأظهر و ملخّصه: «أنّ المحرّم على فرض ثبوته هو المعاملة العقلائيّة أي إنشاء السبب جدّا لغرض التسبيب إلى النقل و الانتقال، لا النقل و الانتقال، و لا هو بقصد ترتّب الأثر، و لا تبديل المال أو المنفعة.

و لا يعقل أن يكون المحرّم النقل و ما يتلوه، لأنهما غير ممكن التحقّق بعد وضوح بطلان تلك المعاملة نصّا و فتوى. و إرادة النقل العقلائي مع قطع النظر عن حكم الشرع و لو لا عدم الإنفاذ، لا ترجع إلى محصّل لعدم الوجود للنقل اللولائي. و ما يمكن أن يتّصف بالحرمة هو المعاملة السببيّة أي الإنشاء الجديّ بقصد حصول المسبّبات لا بمعنى كون القصد جزء الموضوع، بل بمعنى أنّ موضوع الحرمة الإنشاء الجدّي الملازم له.» «1»

القول الخامس: [الحرام هو المركّب من الإنشاء و القصد]

ما اختاره آية اللّه الخوئي «ره» على ما في مصباح الفقاهة، و محصّله:

«أنّ ما يكون موضوعا لحلّية البيع بعينه يكون موضوعا لحرمته. بيان ذلك: أنّ البيع ليس عبارة عن الإنشاء الساذج سواء كان الإنشاء بمعنى إيجاد المعنى باللفظ كما هو المعروف عند الأصوليين، أم كان بمعنى إظهار ما في النفس من الاعتبار كما هو المختار عندنا، و إلّا لزم تحقق البيع بلفظ بعت خاليا عن القصد.

و لا أنّ البيع عبارة عن مجرّد الاعتبار النفساني من دون أن يكون له مظهر، و إلّا لزم صدق البائع على من اعتبر ملكيّة ماله لشخص آخر في مقابل الثمن و إن لم يظهرها بمظهر.

بل حقيقة البيع عبارة عن المجموع المركّب من ذلك الاعتبار النفساني مع إظهاره بمبرز‌

______________________________
(1) المكاسب المحرمة للإمام الخمينى «ره» 1/ 4 و 5.

166
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

القول السادس: المراد من حرمة البيع حرمة إيجاده بقصد ترتب إمضاء العرف و الشرع عليه ؛ ج‌1، ص : 167

..........

______________________________
خارجي سواء تعلّق به الإمضاء من الشرع و العرف أم لم يتعلّق. و إذن فذلك المعنى هو الذي يكون موضوعا لحرمة البيع و كذا لحلّيته، و هكذا الكلام في سائر المعاملات.»
«1»

أقول: مآل هذا القول أيضا إلى القول الرابع و إن افترقا من جهة، حيث إنّ الحرام على هذا القول هو المركّب من الإنشاء و القصد، و على القول الرابع الإنشاء الجدّي الملازم للقصد من دون أن يكون القصد جزء للموضوع. و هذا هو الأظهر، إذ موضوع الأحكام التكليفيّة أفعال المكلفين بشرط صدورها عن قصد لا القصود و لا المركب من الأفعال و القصود كما لا يخفى.

القول السّادس: [المراد من حرمة البيع حرمة إيجاده بقصد ترتّب إمضاء العرف و الشرع عليه]

ما حكاه في مصباح الفقاهة، قال: «الوجه الثاني: أن يراد من حرمة البيع حرمة إيجاده بقصد ترتّب إمضاء العرف و الشرع عليه بحيث لا يكفي مجرّد صدوره من البائع خاليا عن ذلك القصد.» «2»

و أورد عليه بما محصّله: «أنّه لا وجه لتقييد موضوع حرمة البيع بذلك، لإطلاق دليل الحرمة. فلو باع أحد شيئا من الأعيان المحرّمة كالخمر مع علمه بكونه منهيّا عنه فقد ارتكب فعلا محرّما و إن كان غافلا عن قصد ترتّب إمضاء الشرع و العرف عليه.» «3»

أقول: لعلّ القائل بالقول السّادس أراد إرجاع الحرمة في المقام إلى الحرمة التشريعيّة و بيان أنّ المحرّم قصد التشريع. فتقييده موضوع الحرمة بقصد ترتّب إمضاء الشرع و العرف لبيان تحقّق التشريع الذي هو بنفسه من العناوين المحرّمة عندهم.

______________________________
(1) مصباح الفقاهة 1/ 30.

(2) مصباح الفقاهة 1/ 29.

(3) مصباح الفقاهة 1/ 29.

167
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

القول السادس: المراد من حرمة البيع حرمة إيجاده بقصد ترتب إمضاء العرف و الشرع عليه ؛ ج‌1، ص : 167

..........

______________________________
كما يحتمل بعيدا أنّ الشيخ أيضا أراد من قوله: «بقصد ترتّب الأثر المحرّم» ذلك أي قصد البائع حلّية الآثار المحرّمة تشريعا.

و لكن يرد على ذلك ما مرّ أوّلا من أنّه ليس كلّ من يقدم على معاملة محرّمة يريد التشريع و إدخالها في الشريعة.

و ثانيا: أن سراية الحرمة في التشريع إلى نفس العمل محلّ كلام بينهم.

و في الختام نقول تتميما للبحث: حيث إنّ المعاملة في المعاملات المحرّمة فاسدة من رأس لا يترتّب عليها أثر شرعا و يكون وجودها من جهة الأثر كالعدم لا محالة، و من ناحية أخرى لا بدّ في بعضها من القول بالحرمة التكليفيّة المؤكّدة أيضا كالربا الذي درهم منه أشدّ عند اللّه من ثلاثين زنية بذات محرم «1» و الآكل له في معرض الحرب من اللّه و رسوله، و كبيع الخمر التي لعن رسول اللّه «ص» فيها عشرة، و منها بائعها و مشتريها و آكل ثمنها، «2» لوضوح أنّ هذه التأكيدات ليست بجهة فساد المعاملة و التصرّف في مال الغير فقط، فلأجل ذلك وقع الإشكال في تعيين موضوع الحرمة التكليفيّة، و وقع الأعلام لأجل ذلك في حيص و بيص.

و لا يخفى أنّ الموضوع لها لا بدّ أن يكون من أفعال المكلّفين و تحت اختيارهم، و الذي يصدر عن المكلّف في المعاملات و يكون فعلا له حلالا كانت المعاملة أو حراما هو الإنشاء لها بالقول أو الفعل، و لا يصدق عليه المعاملة عرفا إلّا إذا كان ناشئا عن قصد جدّي، و المنشأ أيضا من حيث انتسابه إلى الفاعل عبارة أخرى عن الإنشاء إذ نسبة المنشأ‌

______________________________
(1) الوسائل 12/ 423، كتاب التجارة، الباب 1 من أبواب الرّبا، الحديث 4.

(2) راجع الوسائل 17/ 300، كتاب الأطعمة و الأشربة، الباب 34 من أبواب الأشربة المحرمة.

168
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

معنى حرمة المعاملة وضعا ؛ ج‌1، ص : 169

..........

______________________________
إلى الإنشاء نسبة الوجود إلى الإيجاد، و قد حقّق في محلّة اتحادهما ذاتا و اختلافهما بحسب الاعتبار فقط: فبالإضافة إلى الفاعل يقال له الإيجاد و بالإضافة إلى القابل يقال له الوجود. و على هذا فالحرام هو الإنشاء الناشئ عن قصد جدّي، و هو الحلال أيضا في المعاملات المحلّلة، فتدبّر.

معنى حرمة المعاملة وضعا

ما ذكرناه كان في بيان معنى حرمة المعاملة تكليفا. و أمّا حرمتها وضعا فيراد بها بطلانها و عدم ترتّب الأثر عليها.

و لا فرق عندنا و كذا عند العامّة غير الحنفيّة بين البطلان و الفساد؛ فكلّ باطل فاسد و بالعكس. و أمّا الحنفية ففرّقوا بينهما:

قال في متن الفقه على المذاهب الأربعة: «الفاسد و الباطل بمعنى واحد في عقود البيع، فكلّ فاسد باطل و بالعكس و هو ما اختلّ فيه شي‌ء من الشروط و الأركان التي سبق ذكرها. و البيوع الفاسدة كلّها محرّمة فيجب على الناس اجتنابها و هي كثيرة.»‌

و علّق على ذلك ما ملخّصه: «الحنفية قالوا: إنّ الباطل و الفاسد في البيع مختلفان، فالباطل هو ما اختلّ ركنه أو محلّه. و ركن العقد: الإيجاب و القبول، فإذا اختلّ الركن كأن صدر من مجنون أو صبيّ لا يعقل كان البيع باطلا غير منعقد. و كذلك إذا اختلّ المحلّ و هو المبيع كأن كان ميتة أو دما أو خنزيرا.

و أمّا الفاسد فهو ما اختلّ فيه غير الركن و المحلّ كما إذا وقع خلل في الثمن بأن كان خمرا، فإذا اشترى سلعة يصحّ بيعها و جعل ثمنها خمرا انعقد البيع فاسدا ينفذ بقبض‌

169
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

أنواع الاكتساب المحرم ؛ ج‌1، ص : 170

..........

______________________________
المبيع و لكن على المشتري أن يدفع قيمته غير الخمر لأنّ الخمر لا يصلح ثمنا. و كذلك إذا وقع الخلل فيه من جهة كونه غير مقدور التسليم أو من جهة اشتراط شرط لا يقتضيه العقد، فإن البيع في كلّ هذه الأحوال يكون فاسدا لا باطلا ...»
«1»

أقول: ظاهر عبارة الماتن أنّ جميع المعاملات الباطلة تكون محرّمة عندهم بحسب التكليف. و لكن لا دليل على هذا التعميم. و الظاهر أنّ محطّ نظر القدماء من أصحابنا في باب المعاملات المحرّمة بيان بطلانها و فسادها لا الحرمة التكليفيّة و إن عبّروا عن ذلك بلفظ الحرمة تبعا لما ورد في بعض الأخبار.

[أنواع الاكتساب المحرّم]

______________________________
(1) الفقه على المذاهب الأربعة 2/ 224، كتاب البيع، مبحث البيع الفاسد.

170
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

أنواع الاكتساب المحرم ؛ ج‌1، ص : 170

و كيف كان فالاكتساب المحرّم أنواع نذكر كلا منها في طيّ مسائل. (1)

______________________________
الاكتساب المحرّم خمسة

(1) قد مرّ عن الشرائع و القواعد تقسيم المعاملات المحرّمة إلى خمسة أنواع: الأوّل:

الأعيان النجسة الثاني: ما يحرم لتحريم ما قصد به كآلات اللهو مثلا. الثالث:

ما لا ينتفع به. الرابع: ما هو محرّم في نفسه كعمل الصور المجسّمة مثلا. الخامس:

ما يجب على الإنسان فعله. و يأتي تفصيل هذه الأنواع.

و قبل الورود في البحث ينبغي ذكر عبارة النهاية للشيخ الطوسي «ره» في سرد المكاسب المحرّمة، إذ هو من كتب القدماء من فقهائنا المعدّة لذكر خصوص المسائل المأثورة عن الأئمة عليهم السلام- على ما كان يصرّ عليه خرّيت فن الفقه في الأعصار الأخيرة:

الأستاذ الأعظم آية اللّه البروجردي «طاب ثراه»- و هي و إن كانت طويلة لكن التوجّه إليها لازم لأنّها بمنزلة الفهرست للمكاسب المحرّمة التي نحن بصدد تنقيحها و إقامة الدليل عليها. و الالتفات إليها يوجب زيادة البصيرة لمن رام التحقيق في المعاملات المحرّمة.

قال الشيخ في النهاية: «باب المكاسب المحظورة و المكروهة و المباحة:

كلّ شي‌ء أباحه اللّه- تعالى- أو ندب إليه و رغّب فيه، فالاكتساب به و التصرّف فيه‌

171
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

أنواع الاكتساب المحرم ؛ ج‌1، ص : 170

..........

______________________________
حلال جائز سائغ من صناعة و تجارة و غيرهما. و كلّ شي‌ء حرّمه اللّه- تعالى- و زهّد فيه فلا يجوز التكسّب به و لا التصرّف فيه على حال.

فمن المحرّمات: الخمر. فالتصرّف فيها حرام على جميع الوجوه: من البيع و الشراء و الهبة و المعاوضة و الحمل لها و الصنعة لها و غير ذلك من أنواع التصرّف.

و من ذلك: لحم الخنزير فبيعه و هبته و أكله حرام و كذلك كلّ ما كان من الخنزير من شعر و جلد و شحم و غير ذلك.

و منها: عمل جميع أنواع الملاهي و التجارة فيها و التكسّب بها: مثل العيدان و الطنابير و غيرهما من أنواع الأباطيل محرّم محظور.

و عمل الأصنام و الصلبان و التماثيل المجسّمة و الصور و الشطرنج و النرد و سائر أنواع القمار حتّى لعب الصبيان بالجوز، فالتجارة فيها و التصرّف و التكسب بها حرام محظور.

و كلّ شراب مسكر حكمه حكم الخمر على السواء، قليلا كان أو كثيرا. و كذلك حكم الفقّاع حكمه. فإنّ شربه و عمله و التجارة فيه و التكسّب به حرام محظور. و كلّ طعام أو شراب حصل فيه شي‌ء من الأشربة المحظورة أو شي‌ء من المحظورات و النجاسات، فإنّ شربه و عمله و التجارة فيه و التكسّب به و التصرّف فيه حرام محظور.

و جميع النجاسات محرّم التصرّف فيها و التكسّب بها على اختلاف أجناسها من سائر أنواع العذرة و الأبوال و غيرهما إلّا أبوال الإبل خاصّة فإنّه لا بأس بشربه و الاستشفاء به عند الضرورة.

و بيع الميتة و الدم و لحم الخنزير و ما أهلّ لغير اللّه به و التصرّف فيه و التكسّب به حرام محظور.

و بيع سائر المسوخ و شراؤها و التجارة فيها و التكسّب بها محظور، مثل القردة و الفيلة‌

172
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

أنواع الاكتساب المحرم ؛ ج‌1، ص : 170

..........

______________________________
و الدّببة و غيرها من أنواع المسوخ.

و الرشا في الأحكام سحت. و كذلك ثمن الكلب إلّا ما كان سلوقيا للصيد، فإنّه لا بأس ببيعه و شرائه و أكل ثمنه و التكسّب به.

و بيع جميع السباع و التصرّف فيها و التكسّب بها محظور إلّا الفهود خاصّة، فإنّه لا بأس بالتكسّب بها و التجارة فيها لأنّها تصلح للصيد. و لا بأس بشري الهرّ و بيعه و أكل ثمنه.

و بيع الجرّي و المارماهي و الطّافي و كلّ سمك لا يحلّ أكله، و كذلك الضفادع و السلاحف و جميع ما لا يحلّ أكله، حرام بيعه و التكسّب به و التصرّف فيه.

و معونة الظالمين و أخذ الأجرة على ذلك محرّم محظور.

و كلّ شي‌ء غشّ فيه فالتجارة فيه و التكسّب به بالبيع و الشراء و غير ذلك حرام محظور.

و تعليم ما حرّمه اللّه- تعالى- و تعلّمه و أخذ الأجرة على ذلك محظور في شريعة الإسلام. و معالجة الزينة للرجال بما حرّمه اللّه عليهم حرام.

و بيع السلاح لسائر الكفّار و أعداء الدين حرام. و كذلك عمله لهم و التكسّب بذلك و معونتهم على قتال المسلمين و أخذ الأجرة على ذلك حرام. و كسب المغنّيات و تعلّم الغناء حرام. و كسب النوائح بالأباطيل حرام. و لا بأس بذلك على أهل الدين بالحقّ من الكلام.

و أخذ الأجرة على غسل الأموات و حملهم و مواراتهم حرام، لأنّ ذلك فرض على الكفاية على أهل الإسلام. و أخذ الأجر على الأذان و الصلاة بالناس حرام.

و التكسّب بحفظ كتب الضلال و نسخه حرام محظور. و التكسّب بهجاء أهل الإيمان حرام. و لا بأس بهجاء أهل الضلال و أخذ الأجر على ذلك. و كسب الزانية و مهور البغايا محرّم محظور.

و تعلّم السحر و تعليمه و التكسّب به و أخذ الأجرة عليه حرام محظور. و كذلك‌

173
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

أنواع الاكتساب المحرم ؛ ج‌1، ص : 170

..........

______________________________
التكسّب بالكهانة و القيافة و الشعبذة و غير ذلك محرّم محظور. و لا يجوز التصرّف في شي‌ء من جلود الميتة و لا التكسّب بها على حال ...»
«1»

أقول: الظاهر أنّ المقصود بالحرام و المحرّم في كلامه هو الوضع، أعني فساد المعاملة، و لا أقل التكليف و الوضع معا كما لا يخفى. إذ لم يهمل في كلامه هذا حكم الوضع قطعا.

حكم المعاملة على الأعمال المحرّمة قال في مصباح الفقاهة ما ملخّصه: «أنّ محلّ الكلام في المسائل الآتية إنّما هو في الأعيان المحرّمة كالخمر و الخنزير و نحوهما. و أمّا الأعمال المحرمة كالزنا و النميمة و الكذب و الغيبة و نحوها فيكفي في فساد المعاملة عليها الأدلّة الدالّة على تحريمها. إذ مقتضى وجوب الوفاء بالعقود وجوب الوفاء بالعقد الواقع عليها، و مقتضى أدلّة تحريمها وجوب صرف النفس عنها و إيقاف الحركة نحوها، فاجتماعهما في مرحلة الامتثال من المستحيلات العقليّة. و على أقل التقادير فإنّ أدلّة صحّة العقود و وجوب الوفاء بها مختصّة بحكم العرف بما إذا كان العمل سائغا في نفسه.

و ربّما يظهر من كلام شيخنا الأستاذ في حكم الأجرة على الواجبات أنّ الوجه في ذلك هو عدم كون الأعمال المحرّمة من الأموال أو عدم إمكان تسليمها شرعا. و بملاحظة ما تقدّم يظهر لك ما فيه، فإنّك قد عرفت أنّ صحة المعاملة عليها و وجوب الوفاء بها لا يجتمعان مع الحرمة النفسية سواء اعتبرنا الماليّة أو القدرة على التسليم في صحة العقد أم لم نعتبر شيئا من ذلك.» «2»

______________________________
(1) النهاية لشيخ الطائفة/ 363- 366.

(2) مصباح الفقاهة 1/ 24.

174
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

أنواع الاكتساب المحرم ؛ ج‌1، ص : 170

..........

______________________________
أقول: إن أراد أنّ مورد بحث فقهائنا «ره» الأعيان المحرّمة لا الأعمال فهذا ممنوع، إذ النوع الرابع من المكاسب المحرّمة التي تعرّضوا لها هي الأعمال المحرّمة كالغناء و النوح بالباطل و نحوهما، فراجع. و إن أراد عدم احتياج حرمة الاكتساب بها إلى البحث و الاستدلال لوضوح حرمة المعاملة بها فله وجه. و لكن مع ذلك لا غنى فيها عن البحث.

إذ يمكن أن يتوهّم أحد أن مفاد أدلّة تحريمها هو التكليف، و مفاد دليل وجوب الوفاء هو الوضع أعني صحّة المعاملة. و لكون العقد عنوان طارئا فلعلّ اللازم تقديم حكمه على الأحكام الأوّليّة كما في سائر موارد تحكيم العناوين الثانويّة على العناوين الأوّليّة.

و مناقشته على ما استدلّ به أستاذه أيضا مدفوعة، إذ مضافا إلى حسن تكثير الدليل على الحكم إنّ ما استدلّ به أستاذه مقدّم بحسب الرتبة على ما استدلّ به، إذ البيع مبادلة مال بمال و مع فرض عدم الماليّة لشي‌ء و لو شرعا لا يبقى موضوع للمبادلة حتّى يبحث عن صحّتها أو فسادها.

175
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

النوع الأول: الاكتساب بالأعيان النجسة و فيه مسائل ثمان: ؛ ج‌1، ص : 176

 

[النوع الأوّل: الاكتساب بالأعيان النجسة و فيه مسائل ثمان:]

الأولى: الاكتساب بالأعيان النجسة عدا ما استثني. و فيه مسائل ثمان: (1)

______________________________
الاكتساب بالأعيان النجسة

[بحث كليّ حول حرمة بيع النجس]

(1) تعرّض فيها لحكم البول، و العذرة، و الدم، و المني، و الميتة، و الكلب، و الخمر، و الأعيان المتنجّسة غير القابلة للتطهير.

و ظاهره كظاهر كثير من فقهاء الفريقين أنّ لخصوصية كون الشي‌ء نجسا لا يقبل التطهير دخالة في منع الاكتساب به و إن فرض أنّ له منفعة محلّلة مقصودة عند العقلاء، و لذا عدّوا هذا النوع قسيما للنوع الثالث أعني ما لا منفعة له. فلعلّ الشرع المبين أراد بتشريعه هذا تطهير محيط التعيّش عن النجاسات لئلا يتلوّث بها مظاهر حياة الناس و تعيشهم.

و المصنّف و إن عقد لكلّ واحدة من النجاسات مسألة على حدة، لكنّ الأولى أن نبحث أوّلا بحثا جامعا عن حكم الاكتساب بالنجاسات تكليفا و وضعا ثم نخصّ كلّ واحدة منها ببحث يخصّها.

[التعرّض لبعض الكلمات من الفريقين]

و قبل الورود في البحث نتعرّض لبعض الكلمات من الفريقين:

1- قال المفيد في المقنعة: «و بيع الميتة و الدم و لحم الخنزير و ما أهلّ به لغير اللّه و كلّ‌

 

176
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

التعرض لبعض الكلمات من الفريقين ؛ ج‌1، ص : 176

..........

______________________________
محرّم من الأشياء و نجس من الأعيان حرام، و أكل ثمنه حرام.»
«1»

2- و قال الشيخ في النهاية بعد ذكر حرمة بيع الخمر و الخنزير و كلّ شراب مسكر:

«و جميع النجاسات محرّم التصرّف فيها و التكسب بها على اختلاف أجناسها من سائر أنواع العذرة و الأبوال و غيرهما، إلّا أبوال الإبل خاصّة، فإنّه لا بأس بشربه و الاستشفاء به عند الضرورة. و بيع الميتة و الدّم و لحم الخنزير و ما أهّل لغير اللّه به و التصرّف فيه و التكسب به حرام محظور.» «2»

أقول: لا يخفى أنّ في كلامه نحو اغتشاش، إذ موضوع بحثه النجاسات و لكن استثناء بول الإبل يشهد بأنّ المستثنى منه مطلق العذرات و الأبوال.

و الظاهر من أهل اللغة اختصاص العذرة بمدفوع الإنسان و هو الظاهر مما يأتي من المبسوط أيضا، و لكن ذكر لفظ الأنواع قرينة على إرادة الأعمّ و لو مجازا.

و هل المراد بالتصرف خصوص التصرفات الناقلة، أو يشمل الانتفاعات أيضا و لازمه عدم جواز الانتفاع بها و لو بصرفها في التسميد و هذا خلاف ما يأتي من المبسوط؟!

3- و في المبسوط: «و إن كان نجس العين مثل الكلب و الخنزير و الفأرة و الخمر و الدّم و ما توالد منهم و جميع المسوخ و ما توالد من ذلك أو من أحدهما فلا يجوز بيعه و لا إجارته و لا الانتفاع به و لا اقتناؤه بحال إجماعا إلّا الكلب فإنّ فيه خلافا ... فأمّا نجس العين فلا يجوز بيعه كجلود الميتة قبل الدباغ و بعده و الخمر و الدّم و البول و العذرة و السّرقين مما لا يؤكل لحمه و لبن ما لا يؤكل لحمه من البهائم ...

______________________________
(1) المقنعة/ 589، باب المكاسب.

(2) النهاية/ 364، كتاب المكاسب، باب المكاسب المحظورة ...

177
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

التعرض لبعض الكلمات من الفريقين ؛ ج‌1، ص : 176

..........

______________________________
و أمّا سرجين ما لا يؤكل لحمه و عذرة الإنسان و خرء الكلاب و الدم فإنّه لا يجوز بيعه و يجوز الانتفاع به في الزروع و الكروم و أصول الشجر بلا خلاف. يجوز بيع الزّيت النجس لمن يستصبح به تحت السّماء و لا يجوز إلّا لذلك.»
«1»

أقول: ظاهره اختصاص العذرة بالإنسان، و يظهر منه أيضا نجاسة الفأرة و المسوخ و لبن ما لا يؤكل لحمه، و المشهور خلاف ذلك.

4- و في المراسم لم يذكر عنوان النجس و لكنّه سرد الأعيان النجسة فيما لا يجوز بيعه فقال: «و بيع المسكرات من الأشربة و الفقاع ... و الأدوية الممزوجة بالخمر و التصرف في الميتة و لحم الخنزير و شحمه و الدّم و العذرة و الأبوال ببيع و غيره حرام إلّا بول الإبل خاصّة.» «2»

5- و في بيع الغنية بعد ما قيّد المعقود عليه بكونه منتفعا به منفعة مباحة قال:

«و اشترطنا أن يكون منتفعا به تحرّزا مما لا منفعة فيه كالحشرات و غيرها. و قيّدنا بكونها مباحة تحفّظا من المنافع المحرّمة، و يدخل في ذلك كلّ نجس لا يمكن تطهيره إلّا ما أخرجه الدليل من بيع الكلب المعلّم للصيد و الزيت النجس للاستصباح به تحت السّماء، و هو إجماع الطائفة.» «3»

أقول: يظهر منه أنّ النجاسة ليست مانعة بنفسها و إنّما يمنع من بيع النجس لعدم كونه ذا منفعة مباحة فلا يشمل ما إذا اشتمل عليها كالتسميد و نحوه.

______________________________
(1) المبسوط 2/ 165، كتاب البيوع، فصل في حكم ما يصحّ بيعه و ما لا يصح.

(2) الجوامع الفقهية/ 585 (طبعة أخرى/ 647)، كتاب المكاسب من المراسم.

(3) الجوامع الفقهية/ 524 (طبعة أخرى/ 586)، كتاب البيع من الغنية.

178
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

التعرض لبعض الكلمات من الفريقين ؛ ج‌1، ص : 176

..........

______________________________
6- و في الشرائع قسّم المحرّم مما يكتسب به إلى خمسة أنواع فقال: «الأوّل: الأعيان النجسة كالخمر و الأنبذة و الفقاع و كل مائع نجس عدا الأدهان لفائدة الاستصباح بها تحت السّماء، و الميتة و الدّم و أرواث و أبوال ما لا يؤكل لحمه ... و الخنزير و جميع أجزائه و جلد الكلب و ما يكون منه.»
«1» و راجع المختصر النافع أيضا «2».

7- و ذيّله في المسالك بقوله: «و لا فرق في عدم جواز بيعها على القول بعدم قبولها الطهارة بين صلاحيتها للانتفاع على بعض الوجوه و عدمه. و لا بين الإعلام بحالها و عدمه على ما نصّ عليه الأصحاب و غيرهم.» «3»

8- و في الجواهر: «و كيف كان فلا خلاف يعتدّ به في حرمة التكسب في الأعيان النجسة التي لا تقبل الطهارة بغير الاستحالة.» «4»

9- و قال العلامة في القواعد في بيان أنواع المتاجر المحظورة: «الأوّل: كلّ نجس لا يقبل التطهير سواء كانت نجاسته ذاتيّة كالخمر و النبيذ و الفقاع و الميتة و الدّم و أبوال ما لا يؤكل لحمه و أرواثها و الكلب و الخنزير و أجزائهما، أو عرضية كالمائعات النجسة التي لا تقبل التطهير إلّا الدهن النجس لفائدة الاستصباح تحت السّماء خاصّة. و لو كانت نجاسة الدهن ذاتية كالألية المقطوعة من الميتة أو الحيّة لم يجز الاستصباح به و لا تحت السّماء.» «5»

______________________________
(1) الشرائع/ 263 (ط. أخرى 2/ 9)، كتاب التجارة، الفصل الأوّل.

(2) المختصر النافع/ 116 (الجزء 1)، كتاب التجارة، الفصل الأوّل.

(3) المسالك 1/ 164، كتاب التجارة، الفصل الأوّل.

(4) الجواهر 22/ 8، كتاب التجارة، الفصل الأوّل.

(5) القواعد 1/ 120، كتاب المتاجر، المقصد الأوّل، الفصل الأوّل.

179
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

التعرض لبعض الكلمات من الفريقين ؛ ج‌1، ص : 176

..........

______________________________
10- و في التذكرة: «مسألة: يشترط في المعقود عليه الطهارة الأصلية، فلا تضرّ النجاسة العارضة مع قبول التطهير. و لو باع نجس العين كالخمر و الميتة و الخنزير لم يصحّ إجماعا لقوله- تعالى-:
فَاجْتَنبُوهُ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ. و الأعيان لا يصحّ تحريمها. و أقرب مجاز إليها جميع وجوه الانتفاع، و أعظمها البيع فكان حراما. و لقول جابر: سمعت رسول اللّه «ص» و هو بمكة يقول: إن اللّه و رسوله حرّم بيع الخمر و الميتة و الخنزير و الأصنام.» «1»

11- و راجع في هذا المجال المنتهى أيضا و فيه: «و قد احتجّ العلماء كافّة على تحريم بيع الميتة و الخمر و الخنزير بالنصّ و الإجماع.» «2»

12- و في متن الفقه على المذاهب الأربعة: «و من البيوع الباطلة بيع النجس أو المتنجّس على تفصيل في المذاهب.»‌

و ذيّل ذلك بقوله: «المالكية قالوا: لا يصحّ بيع النجس كعظم الميتة و جلدها و لو دبغ لأنّه لا يطهر بالدبغ، و كالخمر و كالخنزير و زبل ما لا يؤكل لحمه، سواء كان أكله محرّما كالخيل و البغال و الحمير، أو مكروها كالسّبع و الضبع و الثعلب و الذئب و الهرّ، فإنّ فضلات هذه الحيوانات و نحوها لا يصحّ بيعها. و كذلك لا يصحّ بيع المتنجس الذي لا يمكن تطهيره كزيت و عسل و سمن وقعت فيه نجاسة على المشهور، فإنّ الزيت لا يطهر بالغسل ...

الحنابلة قالوا: لا يصحّ بيع النجس كالخمر و الخنزير و الدم و الزبل النجس، أمّا الطاهر‌

______________________________
(1) التذكرة 1/ 464، كتاب البيع، المقصد الأوّل، الفصل الرابع. و الآيتان من سورة المائدة (5)، رقمهما 90 و 3.

(2) المنتهى 2/ 1008، كتاب التجارة، المقصد الثانى، البحث الأوّل.

180
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

التعرض لبعض الكلمات من الفريقين ؛ ج‌1، ص : 176

..........

______________________________
فإنّه يصحّ كروث الحمام و بهيمة الأنعام، و لا يصحّ بيع الميتة و لا بيع شي‌ء منها و لو لمضطرّ إلّا السمك و الجراد و نحوهما، و لا يصحّ بيع دهن نجس العين كدهن الميتة، كما لا يصحّ الانتفاع به في أيّ شي‌ء من الأشياء. أمّا الدهن الذي سقطت فيه نجاسة فإنّه لا يحلّ بيعه و لكن يحلّ الانتفاع به في الاستضاءة في غير المسجد ...

الشافعية قالوا: لا يصحّ بيع كلّ نجس كالخنزير و الخمر و الزبل و الكلب و لو كان كلب صيد ...

الحنفية قالوا: لا يصحّ بيع الخمر و الخنزير و الدّم، فإذا باع خمرا أو خنزيرا كان البيع باطلا ... و كذلك لا ينعقد بيع الميتة كالمنخنقة و الموقوذة و المتردّية و نحوها كما لا يحلّ بيع جلدها قبل الدبغ أمّا بعد الدبغ فإنّه يصحّ لأنّه يطهر بالدبغ ما عدا جلد الخنزير فإنّه لا يطهر بالدبغ ...» «1»

أقول: يظهر من كلامهم أنّ محطّ النظر الوضع، أعني صحّة المعاملة أو فسادها لا الحرمة التكليفية، و أنّ الملاك لعدم الصحة عنوان النجاسة.

13- و في المهذّب لأبي إسحاق الشيرازي في فقه الشافعية: «الأعيان ضربان: نجس و طاهر. فأمّا النجس فعلى ضربين: نجس في نفسه و نجس بملاقاة النجاسة. فأمّا النجس في نفسه فلا يجوز بيعه، و ذلك مثل الكلب و الخنزير و الخمر و السرجين و ما أشبه ذلك من النجاسات. و الأصل فيه ما روى جابر- رضي اللّه عنه- أنّ رسول اللّه «ص» قال: «إنّ اللّه- تعالى- حرّم بيع الخمر و الميتة و الخنزير و الأصنام.» و روى أبو مسعود البدري و أبو هريرة أنّ رسول اللّه «ص» نهى عن ثمن الكلب. فنصّ على الكلب و الخنزير و الخمر‌

______________________________
(1) الفقه على المذاهب الأربعة 2/ 231، كتاب البيع، مبحث بيع النجس و المتنجس.

181
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

ما يظهر من كلمات فقهاء الفريقين ؛ ج‌1، ص : 182

..........

______________________________
و الميتة و قسنا عليها سائر الأعيان النجسة.»
«1»

أقول: حديث جابر مرّ منّا عن أبي داود «2» في ذيل الرواية الرابعة من الروايات الأربع التي رواها الشيخ و يأتي أيضا.

[ما يظهر من كلمات فقهاء الفريقين]

و بالجملة يظهر من كلمات هؤلاء الأعلام من فقهاء الفريقين- سوى عبارة الغنية- أنّ النجاسة عندهم مانعة بنفسها عن صحّة المعاملة و أنّها موضوع مستقل للمنع و إن فرض في البين منفعة محلّلة عقلائية، و لذا ذكروها عنوانا مستقلا في قبال ما لا ينتفع به.

نعم ظاهر عبارة الغنية كما مرّ أنّ المنع مستند إلى عدم كون النجس ذا منفعة مباحة.

و يظهر هذا من التنقيح و الإيضاح «3» أيضا كما يأتي.

و الظاهر من أبي إسحاق أنّه لم يكن عند فقهاء السنّة نصّ بهذا العنوان، و إنّما المذكور في النصّ عندهم بيع الخمر و الخنزير و ثمن الكلب، فقاسوا عليها سائر النجاسات، و ظاهرهم حمل الحرمة و النهي الواردين في الحديثين على الحرمة الوضعية أعني بطلان المعاملة.

و من المحتمل أنّ فقهاءنا أيضا وقفوا على النواهي الواردة في الموارد الخاصّة كالكلب و الخمر و الميتة و العذرة فالتقطوا منها عنوانا جامعا بإلغاء الخصوصية و تنقيح المناط القطعي. و من المظنون أنّ نظرهم أيضا كان إلى الحكم الوضعي لا التكليف المحض. هذا.

و لكن مع ذلك كلّه يشكل رفع اليد عن دعاوي الإجماع في المبسوط و التذكرة‌

______________________________
(1) المهذّب 9/ 225، المطبوع مع شرحه «المجموع» للنووي.

(2) راجع سنن أبى داود 2/ 250، كتاب الإجارة، باب في ثمن الخمر و الميتة.

(3) راجع ص 212 من الكتاب.

182
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

ما يظهر من كلمات فقهاء الفريقين ؛ ج‌1، ص : 182

..........

______________________________
و المنتهى و غيرها، و عن ظاهر عباراتهم في الكتب المعدّة لنقل خصوص المسائل المأثورة عن الأئمة «ع» كالمقنعة و النهاية و الغنية بسهولة بمجرد الاحتمال المذكور.

و كان الأستاذ آية اللّه البروجردي- طاب ثراه- يقسم مسائل الفقه إلى قسمين:

مسائل أصلية تلقّاها الأصحاب يدا بيد عن الأئمة «ع» و كانوا يهتمّون فيها بحفظ التعبيرات الواصلة أيضا. و مسائل تفريعية استنبطها فقهاؤنا- رضوان اللّه عليهم- من كلّيات تلك المسائل بإعمال النظر و الاجتهاد.

فالقسم الأوّل بمنزلة متون الروايات المأثورة، و لعلّها كانت مذكورة في كتب الحديث أيضا و لكن لم يصل إلينا بعضها، فتكون الشهرة في هذه المسائل أيضا حجة فضلا عن الإجماع، إذ على فرض ضعف أسانيدها تكون الشهرة جابرة لها.

و القسم الثانى منها لا يفيد فيها الإجماع فضلا عن الشهرة لحصولها بإعمال نظر الأشخاص و اجتهادهم، فوزانها وزان المسائل العقلية التي لا مجال لادّعاء الإجماع فيها.

و الشيخ الطوسي «ره» على ما نصّ عليه في أوّل المبسوط عمل كتاب النهاية لذكر خصوص المسائل الأصلية المأثورة و كتاب المبسوط لذكر جميع المسائل: أصلية كانت أو فرعية، فراجع أوّل المبسوط تقف على تفصيل ذلك.

و مثل النهاية في ذلك مقنعة المفيد و مراسم سلار و المقنع و الهداية للصدوق و الكافي لأبي الصلاح الحلبي و المهذّب لابن البراج.

و على هذا فتعرّض النهاية و المقنعة لعنوان النجاسة في المقام و جعلها مانعا مستقلا أمر يجب الاهتمام به و التوجيه له. و تبعهما في ذلك المحقق و العلامة و غيرهما كما مرّ بعض كلماتهم.

183
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

ما يظهر من كلمات فقهاء الفريقين ؛ ج‌1، ص : 182

..........

______________________________
نعم لم يتعرّض الصدوق في المقنع و الهداية لعنوان النجاسة في المقام، بل ذكر في المقنع خصوص الكلب و بيع الخمر في بابين منه
«1». و لم أجد العنوان في المهذّب أيضا.

فهذا ربما يوهن دعوى الإجماع المذكور. هذا.

و قد عرفت أنّ الظاهر كون محطّ نظر الفقهاء في هذا الباب هو بيان الحكم الوضعي أعني بطلان المعاملة.

و التعبير بلفظ الحرمة لا ينافي ذلك لكونها أعم في لسان الكتاب و السنّة و القدماء من أصحابنا كما مرّ «2».

و لكنّ الأستاذ الإمام «ره» جعل المهمّ في المقام البحث عن الحرمة التكليفية، بمعنى أنّ إيقاع المعاملة عليها محرّم و إن لم يترتب عليها المسبّب و أطال البحث في الاستدلال لها و المناقشة فيها.

ثم تعرّض لجهة أخرى و قال: هي أيضا مهمّة أصيلة في المقام، و هي أنّ الأثمان المأخوذة في مقابل الأعيان النجسة هل هي محرّمة بعنوان ثمن النجس أو الحرام أو ثمن الخمر و الخنزير و غيرهما أم لا؟ و قال: إنّ هذا غير حرمة التصرّف في مال الغير. و استدلّ لذلك ببعض الروايات المتعرضة لحكم أثمان الأعيان المحرّمة ثم قال: «الظاهر استفادة جهة أخرى من تلك الروايات غير أصيلة في البحث عنها في المقام، و هي بطلان المعاملة، لأن تحريم الثمن لا يجتمع عرفا مع الصحة و إيجاب الوفاء بالعقود، فلازمه العرفي بطلانها و إن كان الثمن بعنوانه محرّما، مضافا إلى الإجماع على البطلان ...» «3»

______________________________
(1) راجع الجوامع الفقهية ص 30 و 37، بابى المكاسب و شرب الخمر من المقنع.

(2) راجع ص 64، 86. و راجع أيضا ص 196.

(3) المكاسب المحرمة للإمام الخمينى «ره» 1/ 15.

184
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

ما يمكن أن يستدل بها للمنع عن بيع النجس تكليفا أو وضعا ؛ ج‌1، ص : 185

 

..........

______________________________
أقول: جعله «ره» البحث عن حرمة المعاملة و كذا حرمة الثمن تكليفا أصيلا و مهمّا، و البحث عن فساد المعاملة غير أصيل خلاف ما مرّ منّا من أنّ محطّ نظر الفقهاء في المقام بيان الحكم الوضعي و إن عبّروا عن ذلك بلفظ الحرمة.

نعم في بعض المعاملات الفاسدة نلتزم بالحرمة التكليفية أيضا كما في بيع الخمر و المعاملات الربوية، لوضوح أنّ اللعن و التأكيدات الواردة في أخبارها تدلّ على مبغوضية أشدّ من مبغوضيّة أكل مال الغير.

و أمّا حرمة الثمن المذكورة في الروايات فالظاهر كونها كناية عن فساد المعاملة و كون المال مال الغير، و إلّا فلا وجه لحرمته بذاته بعد فساد المعاملة و عدم كونه ثمنا حقيقة، إلّا أن يقال: إنّ أخذه مع التوجّه إلى فساد المعاملة يكون مظهرا للتشريع فيكون حرمته بلحاظ مبرزيّته للتشريع المبغوض شرعا، فتأمّل.

[ما يمكن أن يستدلّ بها للمنع عن بيع النجس تكليفا أو وضعا]

إذا عرفت هذا فلنتعرّض لما يمكن أن يستدلّ بها للمنع عن بيع النجس تكليفا أو وضعا مشيرا إلى كلمات الأعلام و ما هو الحق في المقام:

[الأوّل: أصالة الفساد في موارد الشك في صحّة المعاملة]

الأوّل: أصل الفساد الجاري في جميع موارد الشك في صحّة المعاملة. و إن شئت قلت:

استصحاب عدم ترتّب الأثر.

و فيه: أنّ الأصل محكوم بما دلّ على صحّة العقود و الشروط و التجارة عن تراض و عناوين المعاملات الخاصّة من البيع و الإجارة و الصلح و نحو ذلك، سواء كان عموما أو إطلاقا شرعيّا أو استقرار سيرة العقلاء في جميع الأعصار، فكلّ ما تمسّكت به في سائر موارد المعاملة نتمسّك به في المقام أيضا. اللّهم إلّا أن يقال: إنّ التمسّك بعموم العقود و إطلاقها إنّما يصحّ فيما إذا شكّ في اشتراط شي‌ء في صحّة العقد لا في قابلية المحلّ‌

 

185
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الثاني: الإجماع ؛ ج‌1، ص : 186

..........

______________________________
كما في المقام، و لكنّ الظاهر بطلان هذا القول بعد تحقق المالية العرفية.

الثاني: الإجماع

المدّعى في كلام الشيخ و العلامة و غيرهما كما مرّ و الشهرة المحققة في كلمات الأصحاب. و الظاهر أنّ النظر فيهما إلى الوضع أو التكليف و الوضع معا.

و هذا الدليل هو العمدة في المقام إن ثبت.

و فيه: أنّ كون الإجماع أو الشهرة في المقام بنحو يكشف كشفا قطعيا عن قول المعصوم «ع» قابل للمناقشة كما عرفت. لعدم تعرّض بعض القدماء كالصدوق في كتابيه إلّا لبعض المصاديق كالكلب و الخمر في بابين من المقنع «1». و لاحتمال أن المتعرضين للعنوان الكلي التقطوه من الموارد الخاصّة المذكورة في الروايات بإلغاء الخصوصيّة أو استندوا فيه إلى رواية تحف العقول التي يأتي المناقشة فيها.

و يظهر من عبارة الغنية كما مرّ أنّ علّة المنع هي التحفّظ من المنافع المحرّمة.

و المقنعة و النهاية و نحوهما من كتب القدماء ملاء من تعبيرات و تقسيمات و ذكر أقوال و احتمالات في كثير من المسائل نقطع بعدم صدورها بهذا النحو عن الأئمة «ع».

و بالجملة يوجد فيها كثيرا إعمال اجتهادات و صناعات فقهية. فالعلم بصدور عنوان النجس بإطلاقه موضوعا مستقلا لعدم جواز المعاملة من طريق عبارات هذه الكتب مشكل جدّا، و إذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال.

و في مصباح الفقاهة ما ملخّصه: «أن إثبات الإجماع التعبّدي هنا مشكل للاطمينان بل العلم بأنّ مستند المجمعين إنما هو الروايات العامّة أو الخاصّة المذكورة في بيع الأعيان النجسة و الحكم بحرمة الانتفاع بها.» «2»

______________________________
(1) راجع الجوامع الفقهية ص 30 و 37، بابى المكاسب و شرب الخمر من المقنع.

(2) مصباح الفقاهة 1/ 33.

186
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الثالث: قوله - تعالى - في سورة المائدة: ؛ ج‌1، ص : 187

..........

______________________________
أقول: حصول العلم أو الاطمينان ممنوع، و لكن يكفي الاحتمال في إبطال الاستدلال كما عرفت.

الثالث: قوله- تعالى- في سورة المائدة:

يٰا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا إنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسرُ وَ الْأَنْصٰابُ وَ الْأَزْلٰامُ رجْسٌ منْ عَمَل الشَّيْطٰان فَاجْتَنبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلحُونَ. «1»

و قد مرّ في عبارة التذكرة الاستدلال به. و تقريبه أنّ وجوب الاجتناب في الآية متفرع على الرجس فيدل على علّية الرجس لذلك و مقتضاها وجوب الاجتناب عن كل رجس، و إطلاقه يقتضي وجوب الاجتناب عن جميع التقلّبات فيه و منها البيع و الشراء.

و أجاب عنه الأستاذ الإمام «ره» في المكاسب بما محصّله: «أوّلا: أنّ وجوب الاجتناب ليس متفرعا على الرجس بإطلاقه بل على الرجس الذي يكون من عمل الشيطان، فمع الشك في كون البيع و الشراء من عمله لا يمكن التمسك بالآية لوجوب الاجتناب عنهما.

و ثانيا: أنّ نفس الخمر من الأعيان الخارجية فليست من عمله فلا بدّ من تقدير و لعلّه خصوص الشرب لا مطلق التقلّبات. إلّا أن يقال: إنّ التقدير أمر مستهجن و إنّما جعل الخمر من عمله ادّعاء، و المصحّح له كون جميع تقلّباتها من عمله.

و ثالثا: أنّ الرجس مطلقا أو في الآية لا يراد به النجس المصطلح إذ حمله على المسير و الأنصاب و الأزلام يقتضي حمله على معنى آخر غير النجاسة المصطلحة.» «2»

أقول: يمكن أن يناقش الجواب الأوّل بأنّ الظاهر من قوله: منْ عَمَل الشَّيْطٰان

______________________________
(1) سورة المائدة (5)، الآية 90.

(2) المكاسب المحرمة 1/ 12.

187
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الرابع: قوله - تعالى - في سورة المدثر: ؛ ج‌1، ص : 188

..........

______________________________
كونه خبرا ثانيا لا قيدا للرجس، فيكون كل منهما مقتضيا لوجوب الاجتناب. و لا نحتاج إلى إثبات كون البيع و الشراء من عمل الشيطان و ليس بناء الاستدلال على ذلك، بل على دخولهما في وجوب الاجتناب عن جميع التقلّبات المستفاد من الإطلاق.

اللّهم إلّا أن يقال: إنّ كون: منْ عَمَل الشَّيْطٰان خبرا مستقلا لا ينافي كون وجوب الاجتناب حكما لمجموع الخبرين لا لخصوص الرجسية، و كون جميع النجاسات من عمل الشيطان غير معلوم.

و يناقش الجواب الثالث بأنّ الظاهر كون الرجس في الآية أعمّ من النجس المصطلح و إذا اقتضى الأعمّ وجوب الاجتناب فالأخصّ يقتضي ذلك في ضمنه، اللّهم إلّا أن ينكر الأعمّية لاحتمال كون النسبة بنحو العموم من وجه، فتدبّر.

و الأولى في جواب الاستدلال بالآية أن يقال: إنّ المتبادر من اجتناب الشي‌ء عدم ترتيب الآثار التي كانوا يترقبونها منه و يرتّبونها عليه في تلك الأعصار كالشرب مثلا في الخمر لا جميع التقلبات. هذا.

و لو سلّمنا دلالة الآية على وجوب الاجتناب عن جميع التقلبات فمقتضى ذلك فساد المعاملة عليه قهرا، إذ الأمر بالاجتناب عنها نظير النهي عنها و ظاهره الإرشاد إلى فسادها.

الرابع: قوله- تعالى- في سورة المدّثر:

وَ الرُّجْزَ فَاهْجُرْ «1» بتقريب أنّ الرجز بمعنى الرجس، و الهجر المطلق يحصل بهجر جميع التقلبات.

و فيه: أنّ كون الرجز بمعنى النجس المصطلح عليه غير واضح و لم يفسّروه بذلك. و لو‌

______________________________
(1) سورة المدّثر (74)، الآية 5.

188
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الرابع: قوله - تعالى - في سورة المدثر: ؛ ج‌1، ص : 188

..........

______________________________
سلّم فلعلّ المراد بهجره هجره في الصلاة أو في الأكل و الشرب و نحوهما، كما هو المحتمل أيضا في قوله:
وَ ثيٰابَكَ فَطَهِّرْ. «1» فيكون من قبيل ذكر العامّ بعد الخاصّ، فلا دلالة له على منع المعاملة عليه. و يحتمل اختصاص الحكم بالنبي «ص» بقرينة السياق، فتأمّل.

و في التبيان: «قال الحسن: كل معصية رجز. و قال ابن عباس و مجاهد و قتادة و الزهري: معناه فاهجر الأصنام. و قال إبراهيم و الضحاك: الرجز: الإثم. و قال الكسائي:

الرجز بكسر الراء: العذاب، و بفتحها: الصنم و الوثن. و قالوا: المعنى اهجر ما يؤدّي إلى العذاب. و لم يفرّق أحد بينهما.» «2»

و روى في المجمع «3» عن المفسّرين تفسير الرجز بالأصنام و الأوثان و العذاب و المعاصي و الفعل القبيح و الخلق الذميم و حبّ الدنيا، و لم يرو عنهم تفسيره بالنجس.

و في تفسير علي بن إبراهيم القمي تفسيره بالخسي‌ء الخبيث «4». و معنى الخسي‌ء:

الردي‌ء.

و في الدّر المنثور روى روايات كثيرة عن الصحابة و التابعين في معناه قريبا مما ذكر.

و روى عن جابر «رض» قال: سمعت رسول اللّه «ص» يقول: و الرجز فاهجر- برفع الراء- و قال: هي الأوثان «5».

______________________________
(1) سورة المدّثّر (74)، الآية 4.

(2) التبيان 2/ 724.

(3) مجمع البيان 5/ 385 (الجزء 10 من التفسير).

(4) تفسير القمّى/ 702 (ط. الحجرية، سنة 1313 ه‍. ق). و ليست في طبعته الحديثة 2/ 393 لفظة «الخسى‌ء».

(5) راجع الدرّ المنثور 6/ 281.

189
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الخامس: قوله - تعالى - في سورة الأعراف: ؛ ج‌1، ص : 190

..........

______________________________
و في مفردات الراغب- بعد ذكر آيات الرجز بالكسر الظاهرة في إرادة العذاب- ذكر هذه الآية و قال: «قيل: هو صنم. و قيل: هو كناية عن الذنب فسمّاه بالمآل كتسمية الندى شحما.»
«1» فيظهر منه تفسير اللفظين بالعذاب.

و كيف كان فلم يثبت كون الرجز بمعنى النجس المصطلح عليه.

الخامس: قوله- تعالى- في سورة الأعراف:

وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهمُ الْخَبٰائثَ. «2»

بتقريب أنّ النجس من أظهر مصاديق الخبائث و أنّ تحريمها يشمل تحريم بيعها أيضا.

أقول: الخبائث في الآية بأيّ معنى كانت لا يدلّ تحريمها على تحريم المعاملات الواقعة عليها، إذ على فرض كون المراد بالخبائث الأعيان الخبيثة و كون النجاسات منها فالظاهر من تحريم الأعيان تحريم الانتفاعات و الآثار الأوليّة المناسبة لها لا تحريم النقل و الانتقال الحقيقيين فضلا عن الاعتباريين. و سيأتي البحث في الآية في مسألة بيع الأبوال الطاهرة فانتظر.

السادس: قوله- تعالى- في سورة النساء:

يٰا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالْبٰاطل إلّٰا أَنْ تَكُونَ تجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ منْكُمْ. «3»

بتقريب أنّ المراد بالباطل ما حكم العرف أو الشرع بكونه باطلا. و النهي إرشاد إلى الفساد، فكما لا تصحّ المعاملة على مالا ماليّة له عرفا و يكون باطلا عندهم لا تصحّ أيضا على ما ألقى الشارع ماليّته كالخمر مثلا.

______________________________
(1) المفردات/ 193.

(2) سورة الأعراف (7)، الآية 157.

(3) سورة النساء (4)، الآية 29.

190
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

السابع: حرمة الأعيان النجسة و نجاستها و عدم الانتفاع بها ؛ ج‌1، ص : 191

..........

______________________________
و فيه:- مضافا إلى عدم جريان هذا التقريب فيما إذا كان للنجس منفعة محلّلة مقصودة توجب ماليّته كالتسميد مثلا- أنّ الباء في قوله:
بالْبٰاطل يحتمل فيها أمران:

الأوّل: أن تكون للسببية فيراد النهي عن تملك الأموال بالأسباب الباطلة كالقمار و السرقة و نحوهما.

الثاني: أن تكون للمقابلة نظير ما تدخل في المعاوضات على ما يجعل ثمنا.

و الظاهر في الآية هو الأوّل بقرينة استثناء التجارة عن تراض حيث إنّها من الأسباب المملّكة. فالنظر في الآية الشريفة إلى الأسباب و الطرق المملّكة لا إلى جنس الثمن أو المثمن و أنّهما باطلان أم لا. و إن شئت التفصيل فراجع ما حرّرناه سابقا في تفسير الآية «1».

السابع: حرمة الأعيان النجسة و نجاستها و عدم الانتفاع بها

منفعة محلّلة مقصودة للعقلاء. و قد استدل بذلك المصنّف لحرمة المعاوضة على بول غير مأكول اللحم كما يأتي.

و ناقشه في مصباح الفقاهة بأنّه خلط بين الحرمة التكليفية و الوضعية، إذ الأوّلان دليلان على الحرمة التكليفية و الثالث دليل على الحرمة الوضعية أعني فساد المعاملة «2».

أقول: لم يظهر لي وجه هذه المناقشة. و كيف يكون نجاسة الشي‌ء أو حرمته دليلا على حرمة بيعه تكليفا دون فساده؟! و لعلّ الاستدلال بالحرمة و النجاسة لبيان تحقق‌

______________________________
(1) راجع ص 14 من الكتاب.

(2) راجع مصباح الفقاهة 1/ 32.

191
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

السابع: حرمة الأعيان النجسة و نجاستها و عدم الانتفاع بها ؛ ج‌1، ص : 191

..........

______________________________
موضوع الروايات العامّة، كرواية تحف العقول حيث ذكر فيها حرمة المعاملة على المنهي عنه و وجوه النجس و نحن حملناها على الوضع. أو أنّهما ذكرتا مقدّمة لبيان عدم الانتفاع بها منفعة محلّلة، فالأمور الثلاثة في هذا الدليل ترجع إلى أمر واحد و هو خروج الشي‌ء عن كونه مالا، إذ الممنوع شرعا كالممتنع عادة و عقلا فلا يتحقق فيه البيع المعرّف بمبادلة مال بمال.

و كيف كان فيرد على الاستدلال بالحرمة ما أورده في مصباح الفقاهة و محصّله: «أنّه إن أراد منها حرمة الأكل و الشرب فالكبرى ممنوعة لعدم الدليل على أنّ كلّ ما يحرم أكله و شربه يحرم بيعه. و لو فرض ما يدلّ على ذلك وجب تخصيص أكثر أفراده و هذا مستهجن يوجب سقوط الدليل عن الحجية.

و إن أراد منها حرمة جميع منافعه فالصغرى ممنوعة لعدم الدليل على حرمة جميع منافع الأعيان النجسة.» «1»

و يرد على الاستدلال بالنجاسة: أنّه استدلال بنفس المدّعى، و ليس لنا ما يدلّ على حرمة بيع النجس بإطلاقه إلّا رواية تحف العقول، و يأتي البحث فيها.

و أمّا الروايات الواردة في الموارد الخاصّة كالخمر و الميتة و الخنزير و نحوها فيقرب إلى الذهن أنّ النهي عنها كان بلحاظ أنّ المعاملة عليها في تلك الأعصار كان بداعي الأكل و الشرب و سائر الانتفاعات المحرّمة. فينصرف جدّا عن مثل شراء الخمر للتخليل أو التطيين مثلا أو الدم للتزريق بالمريض و العذرة و نحوها للتسميد.

و أمّا عدم الانتفاع بها منفعة محلّلة الموجب لخروجها عن المالية فأورد عليه في‌

______________________________
(1) مصباح الفقاهة 1/ 33.

192
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

السابع: حرمة الأعيان النجسة و نجاستها و عدم الانتفاع بها ؛ ج‌1، ص : 191

..........

______________________________
مصباح الفقاهة بما محصّله:

«أوّلا: أنّه لا دليل على اعتبار المالية في البيع و إنّما المناط صدق عنوان المعاوضة عليه.

و ما عن المصباح من أنّه مبادلة مال بمال لا دليل عليه لعدم حجيّة قوله.

و ثانيا: أنّ المالية تختلف بحسب الأزمنة و الأمكنة، فلعلّها كانت في زمان صدور الروايات بلا منفعة محلّلة عقلائية و لكنها في أعصارنا و في البلاد الواجدة للمصانع الحديثة تستخرج منها الأدوية و الغازات و الموادّ النافعة الموجبة للرغبة فيها و أداء المال بإزائها. و القول بأن الشارع ألغى ماليتها مطلقا بتحريم جميع منافعها أوّل الكلام.

و ثالثا: يكفي في صحّة البيع كون المبيع مالا بنظر المتبايعين و لا يلزم كونه مالا بنظر جميع العقلاء.

و رابعا: أنّه على فرض عدم المالية فغاية ما يلزم كون المعاملة سفهية و لا دليل على بطلانها بعد إطلاق أدلّة البيع. و ما هو الفاسد معاملة السفيه لكونه محجورا عليه شرعا لا المعاملة السفهية. هذا مضافا إلى صحّة المعاملة عليها بمقتضى آية التجارة و إن لم يصدق عليه البيع.» «1»

أقول: بعض ما ذكره «ره» لا يخلو من مناقشة، إذ لا يكفي صدق مفهوم المعاوضة لغة بل يجب أن تكون بحيث يعتبرها العقلاء، و هم لا يصحّحون إلّا مالها دخل في رفع الحاجات و إدارة الحياة، و لا محالة يصير لكلّ من العوضين حينئذ قيمة و مالية و لو في شرائط خاصّة و تخرج المعاوضة عن كونها سفهية، و أمّا مع كونها سفهيّة بنحو الإطلاق فلا يقبلها العقل و لا الشرع و ينصرف عنها إطلاق الأدلّة قطعا.

______________________________
(1) مصباح الفقاهة 1/ 34.

193
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الثامن من الأدلة: رواية تحف العقول الماضية ؛ ج‌1، ص : 194

الثامن من الأدلّة: رواية تحف العقول الماضية

______________________________
عن الصادق «ع»، حيث قال: «و أمّا وجوه الحرام من البيع و الشراء فكلّ أمر يكون فيه الفساد مما هو منهي عنه من جهة أكله و شربه أو كسبه أو نكاحه أو ملكه أو إمساكه أو هبته أو عاريته أو شي‌ء يكون فيه وجه من وجوه الفساد نظير البيع بالربا لما في ذلك من الفساد. أو البيع للميتة أو الدم أو لحم الخنزير أو لحوم السباع من صنوف سباع الوحش أو الطير أو جلودها أو الخمر أو شي‌ء من وجوه النجس فهذا كلّه حرام و محرّم، لأنّ ذلك كلّه منهي عن أكله و شربه و لبسه و ملكه و إمساكه و التقلّب فيه بوجه من الوجوه لما فيه من الفساد، فجميع تقلّبه في ذلك حرام.»
«1»

أقول: لا يخفى أنّ الرواية مع إرسالها و تفرّد تحف العقول بنقلها و خلوّ جوامع الحديث عنها بالكلّية، مضطربة المتن مشتملة على التطويل و التكرار و التهافت في بعض الفقرات بحيث يطمئن الناقد البصير بعدم كون الألفاظ و التعبيرات بعينها للإمام «ع» و أنّ الراوي لم يكن يحسن الضبط، و مثل هذه لا تصلح لأن تكون دليلا للحكم الشرعي، و لم يثبت أيضا اعتماد المشهور عليها حتى يجبر بذلك ضعفها بل الظاهر عدم ذلك لعدم وجود إيماء إلى ذلك في مؤلّفاتهم. و قد مرّ شرح الرواية بالتفصيل عند نقلها بتمامها، فراجع «2».

هذا مضافا إلى التعليل في المقام بقوله: «لما فيه من الفساد». و الظاهر منه الفساد الظاهر للعقلاء و المتشرّعة، إذ التعليل لا يحسن إلّا بأمر ظاهر واضح. و على هذا فينصرف النهي فيها إلى النجاسات التي كانت تعامل عليها لأجل الانتفاعات المحرّمة الفاسدة على ما كان متعارفا في تلك الأعصار. و لا يشمل بيعها للانتفاعات المحلّلة العقلائية النافعة‌

______________________________
(1) تحف العقول/ 333.

(2) راجع ص 69 و ما بعدها من الكتاب.

194
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الثامن من الأدلة: رواية تحف العقول الماضية ؛ ج‌1، ص : 194

..........

______________________________
لصلاح المجتمع. و قد صرّح في آخر الرواية بالنسبة إلى الصناعات المشتملة على الصلاح و الفساد معا بحلّية تصريفها إلى جهات الصلاح و جواز تعليمها و تعلّمها لذلك و حرمة تصريفها إلى جهات الفساد و المضارّ، فيمكن أن يستشعر من ذلك حكم المعاملة أيضا و أنّ المعاملة على ذي الجهتين تحرم بلحاظ منافعه المحرّمة و تصحّ بلحاظ منافعه المحلّلة، إذ الظاهر أنّ هذا السنخ من الأحكام ليست بداعي التعبّد المحض بل بلحاظ المصالح و المفاسد المترتبة على موضوعاتها، فتدبّر.

و يظهر من الأستاذ الإمام «ره» أنّ مفاد رواية تحف العقول الحرمة التكليفية لا الوضعية.

قال في المكاسب بعد ذكر الرواية: «و حمل الحرام على الوضعي بدعوى عدم ظهوره في التكليفي سيّما في زمان الصدور، غير صحيح كما يتّضح بالنظر إلى فقرات الرواية، سيما مع ذكر اللبس و الإمساك و سائر التقلّبات فيها. فقوله: جميع التقلب في ذلك حرام نتيجة لما تقدّم. فكأنّه قال: كما أنّ الأكل و الشرب و اللبس و غيرها حرام، كذلك سائر التقلّبات كالبيع و الشراء و الصلح و العارية و غيرها أيضا حرام، فهي كالنصّ في الحرمة التكليفية.» «1»

و هكذا صنع في مصباح الفقاهة أيضا فقال: «إنّ ظاهر الرواية هو حرمة بيع الأمور المذكورة تحريما تكليفيا. و يدلّ على ذلك من الرواية قوله «ع»: «فهو حرام بيعه و شراؤه و إمساكه و ملكه و هبته و عاريته و التقلب فيه.» فإنّ الإمساك و التقلّب يشمل جميع أنواع التصرّف حتّى الخارجي منه و لا معنى لحرمته وضعا. و الفقهاء «رض» لم يلتزموا في أكثر المذكورات بذلك و إنّما ذهبوا إلى الحرمة الوضعية.» «2»

______________________________
(1) المكاسب المحرّمة 1/ 6.

(2) مصباح الفقاهة 1/ 8.

195
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الثامن من الأدلة: رواية تحف العقول الماضية ؛ ج‌1، ص : 194

..........

______________________________
أقول: قد مرّ منّا في الجهة الثالثة حول الرواية و في بعض المباحث الأخر: أنّ استعمال الحلّ و الحرمة في خصوص التكليف و تبادره منهما إنما حدث في ألسنة المتشرّعة و المتأخرين من الفقهاء.

و أمّا في الكتاب و السنّة و ألسنة القدماء من فقهائنا فكانا يستعملان في كلّ من التكليف و الوضع و في الجامع بينهما و يتعيّن كل منهما بحسب القرائن و الموضوعات.

فكان يراد بحلّية الشي‌ء إطلاقه و عدم المنع و المحدوديّة بالنسبة إليه من قبل الشارع، و بحرمته المنع و المحدوديّة. و إطلاق كل شي‌ء و محدوديّته يلاحظان بحسب ما يترقّب منه و يناسبه، فالمناسب للأفعال التكليف، و للعقود و الإيقاعات مثلا التي تنشأ بداعي ترتّب الآثار هو الوضع أعني صحّتها أو فسادها:

قال اللّه- تعالى-: أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبٰا. «1»

و في صحيحة محمد بن عبد الجبّار: «لا تحلّ الصلاة في حرير محض.» «2»

و ليس استعمال اللفظين في التكليف و الوضع معا من قبيل استعمال اللفظ في معنيين حتى يتحاشى منه بل في الجامع بينهما. و لأجل ذلك أردف في الرواية موضوعات التكليف و الوضع معا و سردها بسياق واحد. فالمناسب لمثل الأكل و الشرب و الإمساك هو التكليف، و للبيع و الهبة و نحوهما هو الوضع، و الظاهر من جميع التقلب بقرينة عطفه على هبته و عاريته التقلّبات المعامليّة لا الخارجية. و على هذا فظهور الرواية في فساد المعاملة على النجس و نحوه واضح. و أمّا الحكم بحرمتها تكليفا فيحتاج إلى عناية زائدة‌

______________________________
(1) سورة البقرة (2)، الآية 275.

(2) الوسائل 3/ 267، الباب 11 من أبواب لباس المصلّى، الحديث 2.

196
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

التاسع: ما مر عن دعائم الإسلام عن جعفر بن محمد«ع» أنه قال: ؛ ج‌1، ص : 197

..........

______________________________
و دليل آخر، كما التزمنا بذلك في مثل بيع الخمر بلحاظ التأكيدات الواردة بالنسبة إليه نظير التأكيدات الواردة بالنسبة إلى الربا. و نظير عنواني الحلّ و الحرمة فيما ذكرنا عناوين الجواز و الرخصة و المنع، بل مطلق الأمر و النهي مادّة و صيغة. و بذلك يظهر وجه الاستدلال للحكم الوضعي أعني البطلان بالروايات التالية، فتدبّر.

التاسع: ما مرّ عن دعائم الإسلام عن جعفر بن محمد «ع» أنّه قال:

«الحلال من البيوع كلّ ما هو حلال من المأكول و المشروب و غير ذلك مما هو قوام للناس و صلاح و مباح لهم الانتفاع به. و ما كان محرما أصله منهيا عنه لم يجز بيعه و لا شراؤه.» «1»

بتقريب أنّ الأعيان النجسة تكون محرّمة منهيا عنها فلم يجز بيعها و لا شراؤها.

و المراد بعدم الجواز هو الفساد كما مرّ.

و فيه- مضافا إلى إرسال الرواية و عدم ثبوت حجية دعائم الإسلام و رواياته كما مرّ- أنّ الظاهر من قوله: «و ما كان محرما أصله منهيا عنه» كونه متمحضا في الحرمة و الفساد بحيث لا يوجد له منفعة محلّلة أصلا و إلّا لزم منه حرمة بيع الأشياء التي تعلّق بها التحريم من جهة ما مع وضوح بطلان ذلك.

هذا مضافا إلى أنّ المتبادر من عدم جواز بيع المحرّم عدم جواز بيعه بما أنّه محرّم أي بقصد جهته المحرّمة لا مطلقا، إذ تعليق الحكم على الوصف مشعر بالعلّية.

و إن شئت قلت: مناسبة الحكم و الموضوع تقتضي ذلك. و على هذا فذات الجهتين لا يجوز بيعها لمنافعها المحرّمة و يجوز لمنافعها المحلّلة.

و ظاهر الرواية حلّية المعاملة على كلّ ما هو قوام للناس و صلاح لهم.

______________________________
(1) دعائم الإسلام 2/ 18، كتاب البيوع، الفصل 2 (ذكر ما نهى عن بيعه)، الحديث 23.

197
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

العاشر: ما مر من عبارة فقه الرضا، ؛ ج‌1، ص : 198

..........

______________________________
و عليك بمراجعة ما بينّاه عند ذكر الرواية بعنوان الضابطة الكلّية
«1».

العاشر: ما مرّ من عبارة فقه الرضا،

قال: «اعلم- يرحمك اللّه- أنّ كلّ مأمور به مما هو صلاح للعباد و قوام لهم في أمورهم من وجوه الصلاح الذي لا يقيمهم غيره- مما يأكلون و يشربون و يلبسون و ينكحون و يملكون و يستعملون- فهذا كلّه حلال بيعه و شراؤه و هبته و عاريته. و كلّ أمر يكون فيه الفساد- ممّا قد نهي عنه من جهة أكله و شربه و لبسه و نكاحه و إمساكه لوجه الفساد مما قد نهي عنه مثل الميتة و الدم و لحم الخنزير و الربا و جميع الفواحش و لحوم السباع و الخمر و ما أشبه ذلك- فحرام ضارّ للجسم و فساد (فاسد- خ.) للنفس.» «2»

أقول: مقايسة هذه العبارة مع رواية تحف العقول تعطي الوثوق بأخذها منها بنحو التلخيص و النقل بالمعنى.

و يرد على الاستدلال بها- مضافا إلى عدم ثبوت حجية فقه الرضا كما مرّ تفصيله- أنّه ليس فيها بالنسبة إلى المنهيات المذكورة اسم من المعاملة عليها، بل التعليق بالإضرار بالجسم و الإفساد للنفس لعلّه يشهد بأنّ المقصود من حرمتها حرمة استعمالها.

إلّا أن يقال بمقتضى المقابلة للصدر: إنّ المقصود بالذيل أيضا حرمة البيع و الشراء و نحوهما.

و لكن يرد على ذلك: أنّ المتبادر من النهي عن بيع مثل هذه الأشياء المحرّمة بيعها بقصد ما كان يترقّب منها و يترتّب عليها في تلك الأعصار عند شرائها من المنافع المحرّمة التي تضرّ بالجسم و تفسد النفس فينصرف عن بيعها و اشترائها لغير ذلك كالخمر‌

______________________________
(1) راجع ص 132 و ما بعدها من الكتاب.

(2) فقه الرضا/ 250، باب التجارات و البيوع و المكاسب.

198
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الحادي عشر: ما مر من النبوي المشهور: ؛ ج‌1، ص : 199

..........

______________________________
للتخليل و الدم للتزريق بالمرضى مثلا. و عليك بمراجعة ما فصّلناه في بيان العبارة و سند الكتاب و ماهيته
«1».

الحادي عشر: ما مرّ من النبوي المشهور:

«إنّ اللّه إذا حرّم شيئا حرّم ثمنه.» و استدلّ به الشيخ «ره» في مسائل الخلاف «2».

و الرواية عامية نقلها أرباب المسانيد و السنن عن ابن عباس عن النبي «ص»، و لكن ذكر في أكثر النقول كلمة الأكل:

ففي سنن أبي داود السجستاني في باب ثمن الخمر و الميتة بسنده عن ابن عباس قال: رأيت رسول اللّه «ص» جالسا عند الركن. قال: فرفع بصره إلى السّماء فضحك فقال:

«لعن اللّه اليهود»- ثلاثا- «إنّ اللّه- تعالى- حرّم عليهم الشحوم فباعوها و أكلوا أثمانها، و إنّ اللّه- تعالى- إذا حرّم على قوم أكل شي‌ء حرّم عليهم ثمنه.» «3»

و راجع البيهقي «4» و مسند أحمد «5» و مستدرك الوسائل «6» عن عوالي اللآلي. و المذكور في الجميع كلمة الأكل.

نعم، رواها أحمد في موضع ثالث من المسند «7» بدون كلمة الأكل، فراجع.

______________________________
(1) راجع ص 110 و ما بعدها من الكتاب.

(2) راجع الخلاف 3/ 184 و 185 (ط. أخرى 2/ 81 و 82)، كتاب البيوع، المسألتان 308 و 310.

(3) سنن أبي داود 2/ 251، كتاب الإجارة، باب في ثمن الخمر و الميتة.

(4) سنن البيهقى 6/ 13، كتاب البيوع، باب تحريم بيع ما يكون نجسا لا يحلّ أكله.

(5) مسند أحمد 1/ 247 و 293، مسند عبد اللّه بن عباس.

(6) مستدرك الوسائل 2/ 427، الباب 6 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 8؛ عن العوالى 1/ 181.

(7) مسند أحمد 1/ 322، مسند عبد اللّه بن عباس.

199
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الحادي عشر: ما مر من النبوي المشهور: ؛ ج‌1، ص : 199

..........

______________________________
و قد مرّ منّا أنّ الرواية واحدة، لوحدة الراوي و المرويّ عنه و المضمون إلّا في ذكر كلمة الأكل و عدمه.

و في تعارض أصالة عدم الزيادة و أصالة عدم النقيصة تقدّم الأولى على الثانية، إذ احتمال زيادة الراوي من عند نفسه بعيد جدّا، و ليس احتمال النقيصة بهذه المثابة. فما في الخلاف «1» و المكاسب من نقل الرواية بدون كلمة الأكل غير ثابت.

و استدلّ البيهقي بهذه الرواية على تحريم بيع ما يكون نجسا لا يحلّ أكله. و أورد عليه المحشيّ بقوله: «عموم هذا الحديث متروك اتفاقا بجواز بيع الآدمي و الحمار و السنّور و نحوها.»‌

أقول: إشكال المحشيّ وارد إلّا أن يريد البيهقي حرمة بيع ما يعتاد أكله لأجل أكله مع كونه محرما.

و الحاصل أنّ حرمة الثمن في الرواية كناية عن فساد البيع، فيظهر من الرواية وجود الملازمة بين حرمة أكل الشي‌ء و فساد بيعه، و هذا مما لا يلتزم به أحد، فلتحمل الرواية على صورة كون المبيع مما يعتاد أكله و بيع لأجل ذلك، فلا مانع من بيعها للمنافع الأخر.

و أمّا على فرض عدم وجود كلمة الأكل في الرواية فيصير ظاهر قوله: «إنّ اللّه إذا حرّم شيئا» حرمته المطلقة بمعنى عدم وجود منفعة محلّلة له و كونه ممحّضا في الفساد، و هذا يقتضي فساد بيعه قطعا لسقوطه عن المالية شرعا و به أفتى الأصحاب أيضا. و لكن لم يثبت كون فتواهم مستندة إلى هذه الرواية العامية حتّى يجبر ضعفها بذلك. و استناد الشيخ و أمثاله إلى أمثال هذه الروايات العامية لعلّه كان للمماشاة مع أهل الخلاف.

______________________________
(1) راجع الخلاف 3/ 184 و 185 (ط. أخرى 2/ 81 و 82)، كتاب البيوع، المسألتان 308 و 310.

200
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الثاني عشر: ما عن الجعفريات بإسناده عن جعفر بن محمد، ؛ ج‌1، ص : 201

..........

______________________________
و قصّة بيع اليهود للشحوم و أكل أثمانها رواها جابر أيضا عن النبي «ص» و لكن بدون هذه الضابطة و قد مرّت و تأتي أيضا.

و نظير رواية ابن عباس في المقام عن النبي «ص» ما في صحيحة محمد بن مسلم عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «إنّ رجلا من ثقيف أهدى إلى رسول اللّه «ص» راويتين من خمر فأمر بهما رسول اللّه «ص» فأهريقتا و قال: إنّ الذي حرّم شربها حرّم ثمنها.» «1»

و في رواية أبي بصير عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: سألته عن ثمن الخمر، قال: أهدي إلى رسول اللّه «ص» راوية خمر بعد ما حرّمت الخمر فأمر بها أن تباع، فلمّا أن مرّ بها الذي يبيعها ناداه رسول اللّه «ص» من خلفه: يا صاحب الرواية، إنّ الذي حرّم شربها فقد حرّم ثمنها، فأمر بها فصبّت في الصعيد ...» «2»

يستشعر من الروايتين وجود الملازمة بين حرمة شرب الشي‌ء و فساد بيعه و لا يمكن الالتزام بذلك.

و الجواب أنّ الخمر كانت مما يعتاد شربها و كان بيعها في تلك الأعصار لذلك لا محالة فتصحّ الملازمة، و لا دلالة في الحديثين على منع بيعها للتخليل أو التطيين بها مثلا فمقتضى العمومات جوازه.

الثاني عشر: ما عن الجعفريّات بإسناده عن جعفر بن محمد،

عن أبيه، عن جدّه عليّ بن الحسين، عن عليّ بن أبي طالب «ع»، قال: «بائع الخبيثات و مشتريها في الإثم سواء.» «3»

______________________________
(1) الوسائل 12/ 164، الباب 55 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

(2) نفس المصدر و الباب، ص 165، الحديث 6.

(3) مستدرك الوسائل 2/ 425، الباب 1 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 4.

201
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الثالث عشر: الأخبار المتعرضة للنهي عن النجاسات الخاصة و ثمنها ؛ ج‌1، ص : 202

..........

______________________________
بتقريب أنّ الأعيان النجسة من أظهر مصاديق الخبيثات، و مقتضى ثبوت الإثم في بيعها حرمته، بل يمكن القول بفساده أيضا، إذ الشرع لا ينفّذ عقدا حرّمه.

و في البيع وقت النداء ليس المحرّم البيع بما أنّه بيع و معاملة، بل بما أنّه عمل شاغل عن الجمعة.

و تأمّل الأستاذ الإمام في دلالة الرواية، قال: «لعدم ظهورها في أنّ الإثم لنفس البيع و الشراء، فإنّها في مقام بيان حكم آخر بعد فرض إثم لهما، فلا يظهر منها أنّ الإثم المفروض لأجل نفس عنوان البيع و الشراء أو لأخذ الثمن و التصرّف فيه و أخذ الخمر و شربه، و إن لا تخل من إشعار على أنّ المحرّم البيع و الشراء.» «1»

أقول: و الذي يسهّل الخطب ضعف الرواية. و يأتي معنى الخبيث في مسألة بيع الأبوال.

الثالث عشر: الأخبار المتعرضة للنهي عن النجاسات الخاصّة و ثمنها

بناء على إلغاء الخصوصية منها و استنباط أنّ علّة الحكم فيها هي النجاسة.

فلنتعرّض لبعضها الحاوي لجمع من أفراد النجس، إذ احتمال إلغاء الخصوصيّة فيها قريب و نؤخّر ما تفرّد بذكر واحدة منها إلى فصل البحث عنها:

1- رواية أبي بصير عن أبي عبد اللّه «ع» في ذيل قصّة إهداء راوية من خمر لرسول اللّه «ص» أنه قال: «ثمن الخمر و مهر البغيّ و ثمن الكلب الذي لا يصطاد من السّحت.» «2»

2- معتبرة السّكوني عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «السّحت: ثمن الميتة و ثمن الكلب‌

______________________________
(1) المكاسب المحرمة للإمام الخمينى «ره» 1/ 7.

(2) الوسائل 12/ 165، الباب 55 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 6؛ و ص 63، الباب 5 منها، الحديث 7.

202
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الثالث عشر: الأخبار المتعرضة للنهي عن النجاسات الخاصة و ثمنها ؛ ج‌1، ص : 202

..........

______________________________
و ثمن الخمر و مهر البغيّ و الرشوة في الحكم و أجر الكاهن.»
«1»

3- ما عن الفقيه، قال: قال- عليه السلام-: «أجر الزانية سحت، و ثمن الكلب الذي ليس بكلب الصيد سحت، و ثمن الخمر سحت، و أجر الكاهن سحت، و ثمن الميتة سحت، فأمّا الرشا في الحكم فهو الكفر باللّه العظيم.» «2»

4- ما في حديث وصايا النبي «ص» لعليّ «ع»، قال: «يا عليّ، من السحت ثمن الميتة و ثمن الكلب و ثمن الخمر و مهر الزانية و الرشوة في الحكم و أجر الكاهن.» «3»

5- و في كتاب التفسير من الجعفريات بإسناده عن عليّ «ع» قال: «من السحت ثمن الميتة و ثمن اللقاح و مهر البغيّ و كسب الحجّام و أجر الكاهن و أجر القفيز و أجر الفرطون و الميزان إلّا قفيزا يكيله صاحبه أو ميزانا يزن به صاحبه، و ثمن الشطرنج و ثمن النرد و ثمن القرد و جلود السّباع و جلود الميتة قبل أن تدبغ و ثمن الكلب و أجر الشرطيّ الذي لا يعديك إلّا بأجر، و أجر صاحب السجن و أجر القافي (القائف- المستدرك) و ثمن الخنزير و أجر القاضي و أجر الصاحب (السّاحر- المستدرك) و أجر الحاسب بين القوم لا يحسب لهم إلّا بأجر، و أجر القارئ الذي لا يقرأ القرآن إلّا بأجر و لا بأس أن يجرى له من بيت المال. و الهدية يلتمس أفضل منها ...» «4»

و رواه عنه في المستدرك. «5»

______________________________
(1) الوسائل 12/ 62، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 5.

(2) الوسائل 12/ 63، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 8.

(3) نفس المصدر و الباب و الصفحة، الحديث 9.

(4) الجعفريات (المطبوع مع قرب الإسناد)/ 180.

(5) مستدرك الوسائل 2/ 426، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

203
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الثالث عشر: الأخبار المتعرضة للنهي عن النجاسات الخاصة و ثمنها ؛ ج‌1، ص : 202

..........

______________________________
1- قال الخليل بن أحمد في العين: «السحت: كلّ حرام قبيح الذكر يلزم منه العار نحو ثمن الكلب و الخمر و الخنزير.»
«1»

2- و في معجم مقاييس اللغة: «المال السحت: كلّ حرام يلزم آكله العار، و سمّي سحتا لأنّه لا بقاء له. و يقال: أسحت في تجارته: إذا كسب السحت. و أسحت ماله:

أفسده.» «2»

3- و في المفردات: «السحت: القشر الذي يستأصل، قال- تعالى-: فَيُسْحتَكُمْ بعَذٰابٍ و قرئ: فَيُسْحتَكُمْ يقال: سحته و أسحته. و منه السحت للمحظور الذي يلزم صاحبه العار كأنّه يسحت دينه و مروءته. قال- تعالى-: أَكّٰالُونَ للسُّحْت أي لما يسحت دينهم.» «3»

4- و في النهاية: «يقال: مال فلان سحت أي لا شي‌ء على من استهلكه، و دمه سحت أي لا شي‌ء على من سفكه. و اشتقاقه من السّحت و هو الإهلاك و الاستيصال.

و السحت: الحرام الذي لا يحلّ كسبه.» «4»

5- و في المنجد: «السحت، جمعه أسحات: الحرام. ما خبث و قبح من المكاسب فلزم منه العار كالرشوة. مال سحت و سحت: متلف هالك.» «5»

______________________________
(1) العين 3/ 132.

(2) مقاييس اللغة 3/ 143.

(3) المفردات للراغب/ 231. و الآية الأولى من سورة طه (20)، رقمها 61؛ و الثانية من سورة المائدة (5)، رقمها 42.

(4) النهاية لابن الأثير 2/ 345.

(5) المنجد/ 323.

204
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الثالث عشر: الأخبار المتعرضة للنهي عن النجاسات الخاصة و ثمنها ؛ ج‌1، ص : 202

..........

______________________________
أقول: يظهر منهم أنّ السحت حرام خاصّ يتنفّر عنه طباع الكرام و يذهب بالدين أو المروّة و لا بركة له و لا بقاء.

و الظاهر من حرمة ثمن المعاملة بنحو الإطلاق بطلانها، إذ مقتضى صحتها انتقال العوضين و جواز التصرّف فيهما. فحرمة الثمن كناية عن عدم انتقاله إلى البائع.

و بعبارة أخرى: حرمة الثمن شرعا و عدم جواز التصرّف فيه لا يجتمع عرفا مع صحّة المعاملة و إيجاب الوفاء بها.

و هل يستفاد من هذه الروايات و غيرها مما حكم فيها بكون الثمن سحتا أو حراما حرمة الثمن شرعا بعنوان أنّه ثمن لشي‌ء من المذكورات وراء حرمته بما أنّه مال الغير بحيث يستلزم أخذه و التصرّف فيه استحقاق عقوبة زائدة وراء استحقاقها على التصرف في مال الغير و استحقاقها على معوّض هذا الثمن إن كان عملا محرما كالزنا مثلا و على نفس المعاملة أيضا في مثل بيع الخمر و الربا كما التزمنا بذلك؟

ظاهر كلام الأستاذ الإمام «ره» في مكاسبه «1» ذلك كما مرّ.

و قال أيضا: «و الظاهر منها أنّ الثمن محرّم بعنوان ثمن الحرام أو ثمن النجس، لأنّ الظاهر من تعلّق حكم على عنوان موضوعيته، فالحمل على حرمته باعتبار التصرف في مال الغير بلا إذنه خلاف ظواهر الأدلّة.» «2»

أقول: الظاهر أنّ تحريم الثمن كناية عن بطلان المعاملة و فسادها، و مقتضى ذلك عدم انتقال الثمن و حرمة التصرف فيه لذلك.

و لو أريد استفادة ذلك من لفظ السحت بظنّ دلالته على شدّة الحرمة و المبغوضية‌

ففيه أنّ التعبير بالسحت ليس لبيان شدّة الحرمة بل لبيان خسّة الاكتساب و مهانته‌

______________________________
(1) المكاسب المحرمة 1/ 13 و 14.

(2) المكاسب المحرمة 1/ 13 و 14.

205
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الثالث عشر: الأخبار المتعرضة للنهي عن النجاسات الخاصة و ثمنها ؛ ج‌1، ص : 202

..........

______________________________
بحيث يتنفر عنه طباع أهل المروّة و المكرمة و إن فرض كون نفس العمل شريفا كالقضاء و قراءة القرآن مثلا كما في رواية الجعفريات، فأراد النبي «ص» أو الإمام «ع» بهذا التعبير تأنّفهم من هذه الاكتسابات و أثمانها.

و يشهد لما ذكرنا أنّ كثيرا مما أطلق عليها السحت في رواية الجعفريات و غيرها مما يشكل الالتزام بشدّة حرمتها و عقوبتها بل بأصل حرمتها أيضا، و إنّما أطلق عليها السحت بلحاظ حزازة الاكتساب بها و تأبّي النفوس الكريمة منها كأجر الحجّام و القاضي و القارئ و الحاسب و ثمن اللقاح و القرد و عوض الهدية أزيد منها.

و في موثقة سماعة قال: قال «ع»: «السّحت أنواع كثيرة، منها: كسب الحجّام و أجر الزانية و ثمن الخمر.» «1» و نحوها رواية أخرى لسماعة إلّا أنّ فيها: «كسب الحجّام إذا شارط.» «2»

و الظاهر أنّ سحتيّة أجر الحجّام ليست بلحاظ الحرمة و العقوبة، بل الملاك المشترك بينه و بين ما رادفه هو الحزازة و تأبّي النفوس الكريمة منها. و في بعض الروايات أنّ رسول اللّه «ص» احتجم و أعطى أجر الحجّام، و في بعضها أنّه قال: «اعلفه ناضحك.» «3»

و ملخّص الكلام أنّه من أقدم على بيع الخمر مثلا فمعاملته باطلة قطعا، و مقتضاه عدم انتقال الثمن إليه و حرمة تصرّفه فيه بما أنّه مال الغير، و التزمنا بثبوت الحرمة التكليفية أيضا لهذه المعاملة لما ورد من التأكيدات في رواياته و لعلّها لإيجابها إشاعة‌

______________________________
(1) الوسائل 12/ 63، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 6.

(2) الوسائل 12/ 62، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2.

(3) راجع الوسائل 12/ 71، الباب 9 من أبواب ما يكتسب به؛ و سنن ابن ماجة 2/ 731، الباب 10 من كتاب التجارات.

206
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الثالث عشر: الأخبار المتعرضة للنهي عن النجاسات الخاصة و ثمنها ؛ ج‌1، ص : 202

..........

______________________________
الخمر في المجتمع قهرا.

و أمّا الالتزام بحرمة الثمن بما أنّه ثمن الخمر زائدا على كونه مال الغير فيشكل الالتزام به، و إن اختاره الأستاذ الإمام.

و لو شكّ في ذلك فالأصل يقتضي العدم بناء على جريانه فيما إذا شكّ في و جهة الحرمة زائدا على ما يعلم في موضوع واحد.

هذا كلّه فيما يرتبط بروايات السحت.

6- ما في دعائم الإسلام: «روّينا عن جعفر بن محمّد، عن أبيه، عن آبائه، عن عليّ «ع»: أنّ رسول اللّه «ص» نهى عن بيع الأحرار، و عن بيع الميتة و الدم و الخنزير و الأصنام، و عن عسب الفحل، و عن ثمن الخمر، و عن بيع العذرة، و قال: هي ميتة.» «1»

و رواه عنه في المستدرك «2».

قال في النهاية: «فيه: أنّه نهى عن عسب الفحل. عسب الفحل: ماؤه فرسا كان أو بعيرا أو غيرهما. و عسبه أيضا: ضرابه ... و لم ينه عن واحد منهما، و إنما أراد النهي عن الكراء الذي يؤخذ عليه، فإنّ إعارة الفحل مندوب إليها.» «3»

7- و في باب ثمن الخمر و الميتة من سنن أبي داود بسنده عن أبي هريرة أنّ رسول اللّه «ص» قال: «إنّ اللّه حرّم الخمر و ثمنها، و حرّم الميتة و ثمنها، و حرّم الخنزير و ثمنه.» «4»

______________________________
(1) دعائم الإسلام 2/ 18، كتاب البيوع، الفصل 2 (ذكر ما نهى عن بيعه)، الحديث 22.

(2) مستدرك الوسائل 2/ 427، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 5.

(3) النهاية لابن الأثير 3/ 234.

(4) سنن أبى داود 2/ 250، كتاب الإجارة، باب في ثمن الخمر و الميتة.

207
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الثالث عشر: الأخبار المتعرضة للنهي عن النجاسات الخاصة و ثمنها ؛ ج‌1، ص : 202

..........

______________________________
8- و فيه أيضا بسنده عن جابر بن عبد اللّه أنّه سمع رسول اللّه «ص» يقول عام الفتح و هو بمكّة: «إنّ اللّه حرّم بيع الخمر و الميتة و الخنزير و الأصنام.» فقيل: يا رسول اللّه، أ رأيت شحوم الميتة؛ فإنّه يطلى بها السفن و يدهن بها الجلود و يستصبح بها الناس؟ فقال: «لا، هو حرام.» ثم قال رسول اللّه «ص» عند ذلك: «قاتل اللّه اليهود، إنّ اللّه لمّا حرّم عليهم شحومها أجملوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه.» و في رواية أخرى عن جابر نحو ذلك و لم يقل:

«هو حرام». «1» و رواية جابر رواها مسلم أيضا و ابن ماجة «2».

أقول: جمله و جمّله و أجمله: أذابه. و المترائى من هذه الرواية أنّ الشحوم المحرّمة على اليهود كانت من قبيل الميتة.

و رواية جابر هي التي ذكرها أبو إسحاق في المهذّب دليلا لبطلان بيع النجس مطلقا بقياس سائر النجاسات على ما ذكر فيها كما مرّ.

و محصّل الدليل الثالث عشر إلغاء الخصوصيّة من هذه الروايات المستفيضة المتعرّضة لجمع من أفراد النجس باستظهار أنّ العلّة في منعها هي النجاسة.

هذا، و لكنّ المتبادر من الجميع منع بيعها بلحاظ المنافع التي كانوا يشترونها غالبا لأجلها و يرتّبونها عليها في تلك الأعصار من الأكل و الشرب و نحوهما، فالاستدلال بها على كون عنوان النجاسة بنفسها موضوعا مستقلا للمنع عن المعاملة قابل للمناقشة.

و قد عرفت أنّ المهمّ من هذه الأدلّة هو الإجماع المدّعى و الشهرة المحققة بين الفريقين.

و قد مرّت المناقشة فيهما أيضا.

______________________________
(1) سنن أبى داود 2/ 250 و 251، كتاب الإجارة، باب في ثمن الخمر و الميتة.

(2) راجع صحيح مسلم 3/ 1207، كتاب المساقاة، باب تحريم بيع الخمر ...، الحديث 71؛ و سنن ابن ماجة 2/ 732، كتاب التجارات، باب ما لا يحلّ بيعه، الحديث 2167.

208
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الثالث عشر: الأخبار المتعرضة للنهي عن النجاسات الخاصة و ثمنها ؛ ج‌1، ص : 202

..........

______________________________
و إذا منعنا دلالة هذه الأدلّة على منع المعاملة فمقتضى عمومات العقود و التجارة و البيع صحّتها بلحاظ المنافع المحلّلة العقلائية. و لكنّ الأحوط مع ذلك كلّه- كما في كلام الأعلام- ترك المعاملة عليها بأنحائها.

قالوا: نعم، إذا كانت أعيان النجاسة تحت سلطة أحد فالعقلاء يعتبرون له بالنسبة إليها حقّ الاختصاص و التقدّم، بحيث يعدّون إجباره على رفع اليد ظلما و تعدّيا، نظير حق السبق بالنسبة إلى الأمكنة المشتركة، فله أن يأخذ شيئا لا بإزاء هذه الأعيان النجسة بل في قبال رفع اليد عنها، فإذا رفع يده عنها استولى عليها من يريدها.

و ممن تعرّض لذلك صاحب الجواهر، فراجع «1».

أقول: لا يخفى أنّ مسائل المعاملات ليست مسائل تعبّدية محضة نظير خصوصيات العبادات الشرعية، بل الملحوظ فيها مصالح المجتمع. فإن فرض أنّ الشارع منع من المعاملة على النجس بأنحائها فلا محالة يكون هذا ناشئا من إرادته تطهير محيط التعيّش منها بالكلية و عدم تلوّث مظاهر الحياة بها أصلا.

و على هذا فلا يرضى الشارع بالاستيلاء عليها بنحو المجّان أيضا بقصد الانتفاع بها كما دلّت على ذلك رواية تحف العقول، حيث نهى فيها عن ملكه و إمساكه و التقلّب فيه بوجه من الوجوه لما فيه من الفساد. و حينئذ فيحرم جميع الانتفاعات بها كما التزم بذلك المشهور بالنسبة إلى الميتة و أجزائها. و لذا قالوا بعدم جواز الاستصباح بها حتى تحت السّماء أيضا كما مرّ عن القواعد و فرّقوا بينها و بين الزيت المتنجس في ذلك و هو المستفاد من خبر جابر أيضا.

______________________________
(1) راجع الجواهر 22/ 9، كتاب التجارة، الفصل الأوّل.

209
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

تكميل للبحث ؛ ج‌1، ص : 210

..........

______________________________
و أمّا إذا فرض أنّ الشارع يرضى بالانتفاع بها بغير مثل الأكل و الشرب الاختياريين فبأيّ وجه نحرّم المعاملة عليها؟ مع أنّ المعاملات شرّعت لرفع الحاجات و تحصيل ما يحلّ الانتفاع به و لو في موارد خاصّة و لا منع فيها إلّا بالنسبة إلى ما يضرّ بحال المجتمع كالغرر و الربا و نحوهما، و ليست أحكام الشارع جزافية، فتدبّر.

تكميل للبحث

قد مرّ أنّ الظاهر من كلمات أكثر الأعلام من فقهاء الفريقين: أنّ النجاسة بنفسها مانعة عن صحّة المعاملة و أنها موضوع مستقل للمنع و إن فرض أنّ للشي‌ء منفعة محلّلة مقصودة، و لذا ذكروها عنوانا مستقلا في قبال ما لا ينتفع به منفعة محلّلة مقصودة.

و مرّ عن العلامة في التذكرة قوله: «يشترط في المعقود عليه الطهارة الأصلية ...» «1»

و عن الشهيد في المسالك قوله: «و لا فرق في عدم جواز بيعها على القول بعدم قبولها الطهارة بين صلاحيتها للانتفاع على بعض الوجوه و عدمه، و لا بين الإعلام بحالها و عدمه على ما نصّ عليه الأصحاب و غيرهم.» «2» هذا.

و لكن يظهر من كثير من كلماتهم أنّ عدم جواز بيعها معلول لعدم جواز الانتفاع بها.

و مقتضى ذلك أنّه لو قلنا بجواز بعض الانتفاعات المقصودة من الأعيان النجسة كالتسميد من العذرات مثلا لم يمنع عن بيعها لذلك، فليست النجاسة بما هي نجاسة مانعة بل المنع فيها ناش من عدم المنفعة المحلّلة المقصودة الموجبة لماليّتها عرفا و شرعا.

______________________________
(1) التذكرة 1/ 464، كتاب البيع، المقصد الأوّل، الفصل الرابع.

(2) المسالك 1/ 164، كتاب التجارة، الفصل الأوّل.

210
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

تكميل للبحث ؛ ج‌1، ص : 210

..........

______________________________
و على هذا تكون الأعيان النجسة لكونها ممنوعة الانتفاع شرعا و لو إجمالا في الحقيقة قسما من النوع الثالث الآتي أعني ما لا منفعة له محلّلة:

1- ففي الخلاف في مسألة بيع الزيت النجس (المسألة 312) قال: «و روى أبو علي أبي هريرة في الإفصاح أنّ النبي «ص» أذن في الاستصباح بالزيت النجس، و هذا يدل على جواز بيعه.» «1» و نحو ذلك في الغنية إلّا أنّه قال: «في الأوضاح.» «2»

يظهر من هذه العبارة أنّ جواز البيع دائر مدار وجود المنفعة المحلّلة.

2- و في الغنية بعد ما قيّد المعقود عليه بكونه منتفعا به منفعة مباحة قال: «و اشترطنا أن يكون منتفعا به تحرزا مما لا منفعة فيه كالحشرات و غيرها. و قيّدنا بكونها مباحة تحفظا من المنافع المحرمة. و يدخل في ذلك كل نجس لا يمكن تطهيره إلّا ما أخرجه الدليل ...» «3»

3- و في المنتهى في مسألة جواز بيع كلب الماشية و نحوها قال: «و لأنّه يصحّ الانتفاع به و نقل اليد فيه و الوصية به فيصحّ بيعه كالحمار.» «4»

4- و فيه أيضا في مسألة جواز إجازة الكلب قال: «لنا أنّه منفعة مباحة فجازت المعاوضة عليها كبيع الحمار.» «5» و نحو ذلك أيضا في التذكرة «6».

5- و في التذكرة: «إن سوّغنا بيع كلب الصيد صحّ بيع كلب الماشية و الزرع و الحائط‌

______________________________
(1) الخلاف 3/ 187 (ط. أخرى 2/ 83)، كتاب البيوع.

(2) الجوامع الفقهية/ 524 (ط. أخرى/ 586)، كتاب البيع من الغنية.

(3) الجوامع الفقهية/ 524 (ط. أخرى/ 586)، كتاب البيع من الغنية.

(4) المنتهى 2/ 1009، كتاب التجارة، المقصد الثاني، البحث الأوّل.

(5) نفس المصدر و الصفحة.

(6) التذكرة 1/ 464، كتاب البيع، المقصد الأوّل، الفصل الرابع.

211
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

تكميل للبحث ؛ ج‌1، ص : 210

..........

______________________________
لأنّ المقتضي و هو النفع حاصل هنا.»
«1»

6- و فيه أيضا بعد استدلاله لجواز بيع كلب الصيد بأنّه يحلّ الانتفاع به و نقله استدلال المانع بأنّه نجس العين فأشبه الخنزير قال في جوابه: «و النجاسة غير مانعة كالدهن النجس. و الخنزير لا ينتفع به بخلافه.» «2»

7- و فيه أيضا: «يجوز بيع كل ما فيه منفعة لأنّ الملك سبب إطلاق التصرّف، و المنفعة المباحة كما يجوز استيفاؤها يجوز أخذ العوض عنها فيباح لغيره بذل ماله فيها توصّلا إليها و دفعا للحاجة بها كسائر ما أبيح بيعه.» «3»

أقول: يظهر من هذه العبارة ما كنّا نصرّ عليه من الملازمة بين جواز الانتفاع بالشي‌ء و لو في حالة خاصّة و بين صحة المعاملة عليه.

8- و نظير ذلك ما في السرائر فإنّه بعد ما حكى عن نهاية الشيخ المنع عن التكسب بالفيلة و الدببة و غيرها قال: «قال محمد بن إدريس: قوله- رحمه اللّه-: الفيلة و الدببة، فيه كلام و ذلك أنّ كلّ ما جعل الشارع و سوّغ الانتفاع به فلا بأس ببيعه و ابتياعه لتلك المنفعة و إلّا يكون قد حلّل و أباح و سوّغ شيئا غير مقدور عليه. و عظام الفيل لا خلاف في جواز استعمالها مداهن و أمشاطا و غير ذلك ...» «4»

9- و في التنقيح في ذيل قول المصنّف: «الأوّل: الأعيان النجسة» قال: «إنّما حرم بيعها لأنّها محرّمة الانتفاع و كلّ محرّمة الانتفاع لا يصحّ بيعه. أمّا الصغرى فإجماعية. و أمّا الكبرى فلقول النبي «ص»: «لعن اللّه اليهود حرمت عليهم الشحوم فباعوها.» علّل استحقاق اللعنة ببيع المحرّم فيتعدّى إلى كلّ محرّم الانتفاع به، و لما رواه ابن عبّاس عن‌

______________________________
(1) التذكرة 1/ 464، كتاب البيع، المقصد الأوّل، الفصل الرابع.

(2) التذكرة 1/ 464، كتاب البيع، المقصد الأوّل، الفصل الرابع.

(3) التذكرة 1/ 464، كتاب البيع، المقصد الأوّل، الفصل الرابع.

(4) السرائر 2/ 220، كتاب المكاسب، باب ضروب المكاسب.

212
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

تكميل للبحث ؛ ج‌1، ص : 210

..........

______________________________
النبيّ «ص»: إنّ اللّه إذا حرّم شيئا حرّم ثمنه.»
«1»

أقول: و العجب منه أنّه استدل للكبرى بالروايات العامية و لم يتعرض لرواية تحف العقول و غيرها، فيظهر منه عدم اعتمادهم عليها. و كون الأعيان النجسة محرّمة الانتفاع بنحو الإطلاق محلّ كلام و سيأتي البحث فيه عند تعرض المصنّف للمسألة.

10- و فخر المحققين في الإيضاح أطال الكلام في هذا المجال نذكره ملخّصا: قال: «و أنا أذكر قاعدة يعرف منها مسائل الخلاف و الوفاق و منشأ الاختلاف في كلّ مسائل البيع، فأقول: ما لا منفعة فيه أصلا لا يجوز العقد عليه لأنّ ذلك من أكل المال بالباطل. و هذا الذي لا منفعة فيه لا يصحّ تملكه كالخمر و الميتة.

و أمّا ما فيه منفعة مقصودة فلا يخلو من ثلاثة أقسام: أحدها: أن يكون سائر منافعه محرّمة. و الثاني: أن يكون سائر منافعه محلّلة. و الثالث: أن يكون بعضها محلّلا و بعضها محرّما.

فإن كانت سائر منافعه محرّمة صار كالقسم الأوّل الذي لا منفعة فيه كالخمر و الميتة.

و إن كانت سائر منافعه محلّلة جاز بيعه إجماعا كالثوب و العبد و العقار و غير ذلك.

و إن كانت منافعه مختلفة فهذه المواضع من المشكلات. فنقول: إن كان جلّ المنافع و المقصود منها محرّما حتّى صار المحلّل من المنافع كالمطرح فإنّ البيع ممنوع لأنّ المطرح من المنافع كالعدم. و إليه أشار «ع» بقوله: «لعن اللّه اليهود حرمت عليهم الشحوم فباعوها.» و إن كان الأمر بعكس ذلك كان الحكم بعكسه، و هو أن يكون المقصود من المنافع و جلّها مباحا و المحرّم مطرح.

______________________________
(1) التنقيح الرائع 2/ 5، كتاب التجارة، الفصل الأوّل.

213
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

تكميل للبحث ؛ ج‌1، ص : 210

..........

______________________________
و أشكل من هذا القسم ما يكون فيه منفعة محرّمة مقصودة و سائر منافعه محلّلة مقصودة، فإنّ هذا ينبغي إلحاقه بالقسم الممنوع، لأنّ كون هذه المنفعة المحرمة مقصودة يؤذن بأنّ لها حصّة من الثمن و لأنّ العقد اشتمل عليها كما اشتمل على سائر المنافع و هو عقد واحد على شي‌ء واحد لا سبيل إلى تبعيضه. و المعاوضة على المحرّم منه ممنوع فيمنع الكلّ.»
«1»

أقول: لا وجه لبطلان المعاملة على ما اشتمل على المنفعة المحلّلة المقصودة للعقلاء و إن اشتمل على المنفعة المحرّمة أيضا، و إلّا لفسدت المعاملة على كثير من الأشياء كالعنب و الزبيب مثلا، اللّهم إلّا أن تكون المنفعة المحرّمة مقصودة للمتعاملين و وقعت المعاملة بلحاظها و سيأتي البحث في ذلك في مسألة بيع العنب بقصد التخمير.

ثم إنّه قلّما يوجد شي‌ء ممحّض في المنافع المحرّمة أو المحلّلة فقط، إذ كلّ محرّم يمكن أن يباح في بعض الأمكنة و الشرائط. و كلّ مباح يمكن أن يوجد له مصرف حرام.

فالملاك في صحة المعاملة مالية الشي‌ء و كونه مرغوبا فيه مع قطع النظر عن منافعه المحرمة هذا.

بقي البحث عن جواز الانتفاع بالأعيان النجسة و عدمه و سيأتي من المصنّف البحث في ذلك، فانتظر.

إذا عرفت ما ذكروه من الأدلّة للمنع عن بيع النجس بعنوانه الكلّي الجامع لجميع النجاسات و المناقشة فيها فلنتعرّض لكلّ واحدة منها على ترتيب المتن، و قد عقد هو للاكتساب بالأعيان النجسة ثماني مسائل.

______________________________
(1) إيضاح الفوائد 1/ 401، كتاب المتاجر، المقصد الأوّل، الفصل الأوّل.

214
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

النجاسات التي يحرم المعاوضة عليها ثمانية ؛ ج‌1، ص : 215

 

[النجاسات التي يحرم المعاوضة عليها ثمانية]

[المسألة الأولى: المعاوضة على أبوال ما لا يؤكل لحمه]

الأولى: يحرم المعاوضة على بول غير مأكول اللحم بلا خلاف ظاهر، لحرمته و نجاسته و عدم الانتفاع به منفعة محلّلة مقصودة، فيما عدا بعض أفراده كبول الإبل الجلالة أو الموطوءة. (1)

______________________________
1- المعاوضة على أبوال ما لا يؤكل لحمه

[مرجع الاستثناء الأخير احتمالات:]

(1) في مرجع الاستثناء الأخير احتمالات:

الأوّل: ما في حاشية المحقق الإيرواني، قال: «لعلّ هذا استثناء من صدر الكلام أعني قوله: «يحرم المعاوضة على بول غير مأكول اللحم.» بتوهم شمول الإجماع المنقول على جواز بيع بول الإبل له و إن حرم شربه.» «1»

الثاني: أن يكون استثناء من صدر الكلام أيضا و لكن بلحاظ عدم كون بول الجلّالة و الموطوءة نجسا، إذ المتيقن من نجاسة بول ما حرم أكله نجاسة بول ما حرم أكله ذاتا لا ما حرم بالعرض.

الثالث: ما في مصباح الفقاهة «2»، و هو كونه استثناء من قوله: «و عدم الانتفاع به.»‌

______________________________
(1) حاشية المكاسب للمحقق الإيروانى/ 3.

(2) مصباح الفقاهة 1/ 32.

 

215
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

مرجع الاستثناء الأخير احتمالات: ؛ ج‌1، ص : 215

..........

______________________________
أي ليس لأبوال ما لا يؤكل لحمه نفع ظاهر إلّا بول الإبل الجلّالة أو الموطوءة، فإنّ له منفعة ظاهرة و إن حرم شربه لنجاسته.

و كيف كان 1- ففي مكاسب المقنعة في عداد المكاسب المحرّمة قال: «و بيع العذرة و الأبوال كلّها حرام إلّا أبوال الإبل خاصّة، فإنّه لا بأس ببيعها و الانتفاع بها و استعمالها لضرب من الأمراض.» «1»

أقول: المفيد «ره» و إن ذكر في عداد ما يحرم بيعه كلّ نجس من الأعيان كما مرّت عبارته، و ظاهره كون النجاسة بنفسها مانعا مستقلا في قبال عدم المنفعة، لكن ظاهر كلامه هنا بقرينة الاستثناء هو الحكم بالمنع على العذرة و الأبوال النجسة و الطاهرة معا بملاك واحد و هو عدم الانتفاع بها، و أنّ الانتفاع و البيع متلازمان جوازا و منعا. و هذا يؤيّد ما مرّ منّا من جواز البيع و المعاملة على فرض جواز الانتفاع و كون المنفعة مقصودة. و الظاهر أنّه أراد بالحرمة الأعمّ من التكليف و الوضع كما لا يخفى.

2- و في مكاسب المراسم أيضا في عداد المكاسب المحرّمة قال: «و العذرة و الأبوال ببيع و غيره حرام إلّا بول الإبل خاصّة.» «2» فهو أيضا لم يفرّق بين النجسة و الطاهرة منهما، فيظهر منه حرمة بيعهما بملاك واحد.

3- و مرّ عن نهاية الشيخ قوله: «و جميع النجاسات محرّم التصرف فيها و التكسب بها على اختلاف أجناسها من سائر أنواع العذرة و الأبوال و غيرهما، إلّا أبوال الإبل خاصّة،

______________________________
(1) المقنعة/ 587، باب المكاسب.

(2) الجوامع الفقهية/ 585 (طبعة أخرى/ 647)، كتاب المكاسب من المراسم.

216
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

مرجع الاستثناء الأخير احتمالات: ؛ ج‌1، ص : 215

..........

______________________________
فإنّه لا بأس بشربه و الاستشفاء به عند الضرورة.»
«1»

أقول: في هذا الكلام أيضا نوع خلط بين الأبوال النجسة و الطاهرة، إلّا أن يحمل المستثنى على خصوص أبوال الإبل النجسة كالجلّالة أو الموطوءة.

4- و قد مرّ عن المبسوط و الشرائع و القواعد «2» أيضا المنع عن بيع أبوال ما لا يؤكل لحمه و أرواثها. و كلّ من منع من الفريقين عن بيع الأعيان النجسة بإطلاقها فكلامه لا محالة شامل للأبوال و الأرواث النجسة.

5- و قد مرّ عن المسالك قوله: «و لا فرق في عدم جواز بيعها على القول بعدم قبولها الطهارة بين صلاحيتها للانتفاع على بعض الوجوه و عدمه، و لا بين الإعلام بحالها و عدمه على ما نصّ عليه الأصحاب و غيرهم.» «3»

6- و في المستند في عداد المكاسب المحرّمة قال: «و منها الأرواث و الأبوال. و تحريم بيعها مما لا يؤكل لحمه شرعا موضع وفاق كما في المسالك.» «4»

أقول: و لأجل ذلك كلّه ترى المصنّف قال: «بلا خلاف ظاهر».

و لكن قد مرّ منّا أنّ كون الإجماع المنقول و الشهرة المحققة في المقام بنحو يكشف بهما قول المعصوم كشفا قطعيا مشكل، و لا سيما و أنّ المترائى من بعضهم كون الملاك في المنع عدم المنفعة أو عدم المنفعة المحلّلة، و لذا أجرى الحكم بالمنع على الأبوال بإطلاقها من غير فرق بين النجسة و الطاهرة منها و استثنى بول الإبل خاصّة لترتب منفعة الاستشفاء عليه.

______________________________
(1) النهاية/ 364، كتاب المكاسب، باب المكاسب المحظورة ...

(2) راجع ص 177- 179 من الكتاب.

(3) المسالك 1/ 164، كتاب التجارة، الفصل الأوّل.

(4) مستند الشيعة 2/ 334، كتاب مطلق الكسب، المقصد الثالث، الفصل الثانى.

217
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

مرجع الاستثناء الأخير احتمالات: ؛ ج‌1، ص : 215

..........

______________________________
و قد مرّ عن ابن زهرة في الغنية
«1» اشتراط المنفعة المباحة في المعقود عليه و فرّع على ذلك عدم جواز بيع النجس.

و في التنقيح في منع بيع الأعيان النجسة قال: «إنّما حرم بيعها لأنّها محرّمة الانتفاع، و كلّ محرمة الانتفاع لا يصحّ بيعه. أمّا الصغرى فإجماعية، و أمّا الكبرى فلقول النبي «ص»: لعن اللّه اليهود حرّمت عليهم الشحوم فباعوها ...» «2»

فرتّب حرمة البيع على حرمة الانتفاع، و على هذا فلو فرض لها منفعة محلّلة عقلائية فلا وجه لعدم جواز بيعها.

و أمّا قول المصنّف: «لحرمته و نجاسته و عدم الانتفاع به» فيحتمل أن يكون إشارة إلى ثلاثة أدلّة مستقلة. و يحتمل أيضا أن يكون ذكر الحرمة و النجاسة توطئة لبيان عدم الانتفاع منفعة محلّلة، فيكون هو الدليل في الحقيقة.

و كيف كان فقد ناقشنا سابقا في هذا الدليل بالتفصيل، فراجع الدليل السابع مما مرّ.

و محصّله: أنّ حرمة جميع المنافع لا دليل عليها، و حرمة بعضها كالأكل و الشرب و نحوهما غير مانعة عن صحّة المعاملة بلحاظ المنافع الأخر. و المنافع تختلف بحسب اختلاف الأزمنة و الأمكنة و الشرائط، و لم يثبت كون النجاسة بنفسها مانعا مستقلا. و إذا فرض لها منافع محلّلة عقلائية و صارت لها مالية بلحاظها، فلا وجه للحكم ببطلان المعاملة عليها بإطلاقها.

______________________________
(1) راجع ص 178- 211 من الكتاب.

(2) التنقيح الرائع 2/ 5، كتاب التجارة، الفصل الأوّل.

218
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

فرعان ؛ ج‌1، ص : 219

 

[فرعان]

فرعان

[الأوّل: بحث استطراديّ حول أبوال ما يؤكل لحمه]

الأوّل: ما عدا بول الإبل من أبوال ما يؤكل لحمه المحكوم بطهارتها عند المشهور إن قلنا بجواز شربها اختيارا، كما عليه جماعة من القدماء و المتأخرين بل عن المرتضى دعوى الإجماع عليه، فالظاهر جواز بيعها (1).

و إن قلنا بحرمة شربها كما هو مذهب جماعة أخرى لاستخباثها ففي جواز بيعها قولان:

من عدم المنفعة المحلّلة المقصودة فيها، و المنفعة النادرة لو جوّزت المعاوضة لزم منه جواز معاوضة كلّ شي‌ء. و التداوي بها لبعض الأوجاع لا يوجب قياسها على الأدوية و العقاقير، لأنّه يوجب قياس كلّ شي‌ء عليها للانتفاع به في بعض الأوقات.

و من أنّ المنفعة الظاهرة و لو عند الضرورة المسوّغة للشّرب كافية في جواز البيع. و الفرق بينها و بين ذي المنفعة الغير المقصودة حكم العرف بأنّه لا منفعة فيه. و سيجي‌ء الكلام في ضابطة المنفعة المسوّغة للبيع.

______________________________
بحث استطراديّ حول أبوال ما يؤكل لحمه

(1) لا يخفى أنّ صحّة المعاملة عليها لا تدور مدار جواز شربها، إذ لا تنحصر‌

 

219
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الأقوال في المسألة ؛ ج‌1، ص : 220

..........

______________________________
منافعها في الشّرب، بل لا يعدّ الشّرب من منافعها بحسب العادة و إن امكن التداوي بها في بعض الأحيان. و لكن يمكن أن يستخرج منها في المصانع الحديثة موادّ كيمياوية نافعة فتصير بذلك ذات قيمة و ماليّة. و حديث: «إنّ اللّه إذا حرّم على قوم أكل شي‌ء حرّم عليهم ثمنه» على فرض صحّته منصرف- كما مرّ- إلى صورة كون الشي‌ء معدّا للأكل و بيع لأجل ذلك و إلّا لزم تخصيص الأكثر المستهجن.

و بالجملة فصحّة المعاملة على الأبوال الطاهرة لا تتوقف على جواز شربها، بل على ماليّتها عند العقلاء بحيث يرغبون في شرائها لأغراض عقلائية. فيكون بين جواز شربها و صحّة المعاملة عليها بحسب المورد عموم من وجه؛ إذ على فرض جواز الشرب يمكن أن لا يكون لها في مورد ماليّة و قيمة لعدم الرغبة فيها أصلا كما هو الغالب فلا يصحّ بيعها لذلك. و على فرض عدم جواز الشرب يمكن أن يتصوّر لها منافع عقلائية توجب لها قيمة و رغبة فيصحّ بيعها لذلك.

[الأقوال في المسألة]

و كيف كان فهل يجوز شرب الأبوال الطاهرة مطلقا، أو لا يجوز مطلقا، أو يفصّل بين بول الإبل و غيره، أو بين حالة الاضطرار و غيرها؟:

1- قد مرّ عن المقنعة و المراسم حرمة بيع الأبوال كلّها إلّا بول الإبل، فيمكن أن يستشعر من كلامهما حرمة شربها أيضا إلّا بول الإبل.

2- و في الأطعمة و الأشربة من النهاية قال: «و لا بأس بأن يستشفى بأبوال الإبل.» «1»

و ظاهر كلامه الاختصاص بها للاستشفاء فقط.

3- و في الأشربة من الوسيلة: «و لا يجوز شرب دماء الحيوانات و لا أبوالها مختارا إلّا‌

______________________________
(1) النهاية/ 590، باب الأطعمة المحظورة و المباحة.

220
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الأقوال في المسألة ؛ ج‌1، ص : 220

..........

______________________________
بول الإبل، فإنّه يجوز شربه للاستشفاء.»
«1»

4- و في الأطعمة و الأشربة من الشرائع بعد التعرّض لحرمة البول ممّا لا يؤكل لحمه قال: «و هل يحرم مما يؤكل؟ قيل: نعم إلّا أبوال الإبل، فإنّه يجوز الاستشفاء بها. و قيل:

يحلّ الجميع لمكان طهارته. و الأشبه التحريم لمكان استخباثها.» «2»

أقول: دليله الأخير ناظر الى آية الخبائث و سيأتي البحث فيها.

5- و لكن في أشربة الانتصار: «مسألة: و ممّا يظن قبل التأمّل انفراد الإمامية به القول بتحليل شرب أبوال الإبل و كلّ ما أكل لحمه من البهائم إمّا للتداوي أو غيره. و قد وافق الإمامية في ذلك مالك و الثوري و زفر. و قال محمّد بن الحسن في البول خاصّة مثل قولنا و خالف في الروث. و قال أبو حنيفة و أبو يوسف و الشافعي: بول ما أكل لحمه نجس و روثه أيضا، كنجاسة ذلك ممّا لا يؤكل لحمه.

و الذي يدلّ على صحة مذهبنا بعد الإجماع المتردّد: أنّ الأصل فيما يؤكل لحمه أو يشرب لبنه في العقل الإباحة ... و أيضا فإنّ بول ما يؤكل لحمه طاهر غير نجس. و كلّ من قال بطهارته جوّز شربه، و لا أحد يذهب إلى طهارته و المنع من شربه ...» «3»

أقول: فهو «ره» حكم بحلّية بول ما أكل لحمه و جواز شربه مطلقا من الإبل و غيره و للتداوي و غيره و ادّعى على ذلك الإجماع، و أطال الكلام في الاستدلال عليه. و ظاهره ابتناء المسألة على طهارة الأبوال و أنّ القول بطهارتها يستلزم القول بحلّيتها مع وضوح بطلان ذلك.

______________________________
(1) الوسيلة/ 364، كتاب المباحات، فصل في بيان أحكام الأشربة.

(2) الشرائع/ 755 (ط. أخرى 3/ 227)، كتاب الأطعمة و الأشربة، القسم الخامس.

(3) الانتصار/ 201، مسائل الصيد و الذبائح و الأطعمة و الأشربة و اللباس.

221
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الدليل على جواز البيع ؛ ج‌1، ص : 222

[الدليل على جواز البيع]

______________________________
و كيف كان فحيث إنّ المسألة مما يقلّ الابتلاء بها- إذ في حال الاختيار يتأبّى كلّ إنسان و يشمئزّ من شرب الأبوال بالطبع، و لذا قد يتعجّب من عنوانها في الروايات و كلمات الأصحاب، و في حالة الاضطرار من وجود عطش مهلك في القفار أو للتداوي المنحصر يحلّ كلّ شي‌ء محرّم قطعي فضلا عن الأبوال الطاهرة المختلف فيها- كان تطويل البحث فيها تضييعا للوقت، و لكن التعرض لها إجمالا يشتمل على فوائد. و قد تعرّض للمسألة في الجواهر
«1». و عمدة الدليل على الجواز أصالة الحلّ و الإباحة، فيحتاج المنع إلى الدليل الرادع.

و قد يستدلّ للجواز أيضا بما عن قرب الإسناد عن السندي بن محمد، عن أبي البختري، عن جعفر، عن أبيه «ع» أنّ النبيّ «ص» قال: «لا بأس ببول ما اكل لحمه.» «2»

أقول: أبو البختري هو وهب بن وهب. قيل في حقّه: إنّه كان كذّابا. و دلالة الخبر أيضا غير واضحة، إذ المتبادر منه عدم البأس ببوله من جهة النجاسة لا الشرب، لعدم تعارف شربه و قلّة الابتلاء به.

و الخبر مرويّ من طرق السنّة أيضا عنه «ص»، فراجع البيهقي «3». و رواه في الانتصار أيضا في مسألتنا هذه عن البراء بن عازب عنه «ص»، و لكن نظره ظاهرا الاستدلال به للطهارة لا لجواز الشرب كما يظهر من سائر ما رواه، غاية الأمر أنّه بنى جواز الشرب على الطهارة كما مرّ.

و يستدلّ للجواز في أبوال الإبل بنحو الإطلاق بخبر الجعفري، قال: سمعت أبا‌

______________________________
(1) راجع الجواهر 36/ 391 و ما بعدها، كتاب الأطعمة و الأشربة، القسم الخامس.

(2) الوسائل 17/ 87، الباب 59 من أبواب الأطعمة المباحة، الحديث 2.

(3) راجع سنن البيهقى 1/ 252، كتاب الطهارة، باب الخبر الذي ورد في سؤر ما يؤكل لحمه.

222
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الدليل على جواز البيع ؛ ج‌1، ص : 222

..........

______________________________
الحسن موسى «ع» يقول: «أبوال الإبل خير من ألبانها، و يجعل اللّه- عزّ و جلّ- الشفاء في ألبانها.»
«1» و في السند بكر بن صالح، و فيه كلام. و حيث إن ألبان الإبل محلّلة مطلقا فخيريّة أبوالها منها تقتضي حلّيتها بطريق أولى.

إلّا أن يقال- كما في مصباح الفقاهة «2»-: إنّ رواية الجعفري ليست بصدد بيان الجواز التكليفي، بل هي مسوقة لبيان الوجهة الطبّية كما يشهد بذلك ذيل الرواية، فتأمّل، فإنّ شأن الإمام «ع» هو بيان الأحكام لا الطبّ المحض.

و أكثر الأخبار الواردة في المسألة موردها سؤالا أو جوابا صورة الاستشفاء و التداوي.

و عمدتها في أبوال الإبل فقط، و إن كان بعضها يدلّ على بول غير الإبل أيضا.

و بالجملة فاستفادة العموم منها غير واضحة، بل ربما يستفاد من مفهوم بعضها اختصاص الحلّية و الجواز بصورة الاستشفاء. و بها يرفع اليد عن أصالة الحلّ و عن ظهور روايتي أبي البختري و الجعفري في عموم الحلّ لو سلّم ظهورهما في ذلك.

فلنتعرّض لبعض الروايات:

1- موثّقة عمار بن موسى عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: سئل عن بول البقر يشربه الرجل. قال: «إن كان محتاجا إليه يتداوى به يشربه. و كذلك أبوال الإبل و الغنم.» «3»

أقول: ظاهر الجواب كون بول الإبل و غيرها مما يؤكل لحمه على وزان واحد و اختصاص حلّ الجميع بصورة الاحتياج للتداوي، و إلّا كان ذكر الشرط لغوا. فبمفهوم الشرط يرفع اليد عن أصالة الحلّ.

______________________________
(1) الكافى 6/ 338، كتاب الأطعمة، باب ألبان الإبل، الحديث 2؛ عنه الوسائل 17/ 87.

(2) راجع مصباح الفقاهة 1/ 38.

(3) الوسائل 17/ 87، الباب 59 من أبواب الأطعمة المباحة، الحديث 1.

223
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الدليل على جواز البيع ؛ ج‌1، ص : 222

..........

______________________________
2- رواية سماعة، قال: سألت أبا عبد اللّه «ع» عن شرب الرجل أبوال الإبل و البقر و الغنم ينعت له من الوجع هل يجوز له أن يشرب؟ قال: «نعم، لا بأس به.»
«1»

أقول: مورد الرواية بحسب السؤال و إن كان خصوص صورة الوجع، و الجواب وارد عليها، لكن لا دلالة له على نفي الغير بحيث يرفع به اليد عن أصالة الحلّ. و بالجملة فليس خبرا سماعة و عمّار على وزان واحد، و إن كان يظهر من عبارة الشيخ في المكاسب ذلك.

3- خبر موسى بن عبد اللّه بن الحسن، قال: سمعت أشياخنا يقولون: «ألبان اللقاح شفاء من كل داء و عاهة. و لصاحب البطن أبوالها.» «2»

أقول: هكذا في الكافي. و في الوسائل عن الكافي: «و لصاحب الربو أبوالها.» «3»

و الخبر لم يرفع إلى المعصوم «ع». و موسى بن عبد اللّه هو موسى بن عبد اللّه بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب «ع».

4- خبر المفضّل بن عمر عن أبي عبد اللّه «ع» أنّه شكا إليه الربو الشديد فقال: «اشرب له أبوال اللقاح، فشربت ذلك فمسح اللّه دائي.» «4»

أقول: اللقاح جمع لقوح بالفتح: النوق ذوات الألبان. و الربو بالفتح قد يفسّر بالنهيج و تواتر النفس و قد يفسّر بانتفاخ البطن.

5- خبر أبي صالح عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «قدم على رسول اللّه «ص» قوم من بني ضبّة مرضى، فقال لهم رسول اللّه «ص»: «أقيموا عندي فإذا برئتم بعثتكم في سريّة.»‌

______________________________
(1) الوسائل 17/ 88، الباب 59 من أبواب الأطعمة المباحة، الحديث

(2) الكافى 6/ 338، كتاب الأطعمة، باب ألبان الإبل، الرقم 2.

(3) راجع الوسائل 17/ 88، الباب 59 من أبواب الأطعمة المباحة، الرقم 4.

(4) نفس المصدر و الباب و الصفحة، الحديث 8.

224
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الاستدلال للحرمة بآية تحريم الخبائث ؛ ج‌1، ص : 225

..........

______________________________
فقالوا: أخرجنا من المدينة، فبعث بهم إلى إبل الصدقة يشربون من أبوالها و يأكلون من ألبانها. فلمّا برءوا و اشتدّوا قتلوا ثلاثة ممّن كان في الإبل فبلغ رسول اللّه «ص» الخبر ...»
«1»

6- خبر دعائم الإسلام عن أمير المؤمنين «ع»، قال: «قدم على رسول اللّه «ص» قوم من بني ضبّة مرضى، فقال لهم رسول اللّه «ص»: «أقيموا عندي فإذا برئتم بعثتكم في سريّة. فاستوخموا المدينة فأخرجهم إلى إبل الصدقة و أمرهم أن يشربوا من ألبانها و أبوالها يتداوون بذلك ...» «2»

7- خبر ابن عباس، قال: قال رسول اللّه «ص»: «إن في أبوال الإبل و ألبانها شفاء للذربة بطونهم.» «3» و راجع في هذا المجال سنن البيهقي أيضا «4».

و قد تحصّل ممّا ذكرنا أن مقتضى أصالة الحلّ و إن كان هو الحلّ مطلقا لكن مقتضى مفهوم الشرط في موثقة عمار هو الحلّية للتداوي فقط، فبه يرفع اليد عن الأصل. هذا.

الاستدلال للحرمة بآية تحريم الخبائث

قد مرّ عن المحقق في الشرائع الاستدلال لحرمة الأبوال باستخباثها. و الظاهر كونه إشارة إلى قوله- تعالى- في سورة الأعراف: وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهمُ الْخَبٰائثَ «5»

و قد شاع في المحافل العلمية الاستدلال بالآية لحرمة كلّ ما يتنفر عنه الطباع،

______________________________
(1) الوسائل 18/ 535، الباب 1 من أبواب حدّ المحارب، الحديث 7.

(2) مستدرك الوسائل، الباب 23 من أبواب الأشربة المباحة، الحديث 2.

(3) مسند أحمد 1/ 293، مسند عبد اللّه بن عباس.

(4) راجع سنن البيهقى 10/ 4، كتاب الضحايا، باب ما يحلّ من الأدوية النجسة بالضرورة.

(5) سورة الأعراف (7)، الآية 157.

225
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الاستدلال للحرمة بآية تحريم الخبائث ؛ ج‌1، ص : 225

..........

______________________________
و استدلّوا بها أيضا لحرمة الانتفاع بالأعيان النجسة و المتنجسات غير القابلة للتطهير.

و في مصباح الفقاهة حكى عن بعض الأعاظم الاستدلال بالآية في المقام ثم ردّه بما لفظه: «إنّ المقصود من الخبائث كلّ ما فيه مفسدة و رداءة و لو كان من الأفعال المذمومة المعبّر عنه في الفارسية بلفظ «پليد». و يدلّ على ذلك إطلاق الخبيث على العمل القبيح في قوله- تعالى-: وَ نَجَّيْنٰاهُ منَ الْقَرْيَة الَّتي كٰانَتْ تَعْمَلُ الْخَبٰائثَ. و يساعده العرف و اللغة. و إذن فالآية ناظرة إلى تحريم كلّ ما فيه مفسدة و لو من الأعمال القبيحة، فلا تعمّ شرب الأبوال الطاهرة و نحوها مما تتنفّر عنها الطبائع.» «1»

أقول: الظاهر أنه أراد بذلك أنّ المتبادر من لفظ الخبيث هو ما يكون بذاته رديّا و قبيحا بأن يترتّب عليه المفاسد و المضارّ، و لا دخل لابتهاج الإنسان بالشي‌ء أو تنفره عنه في حسنه أو قبحه و رداءته. فما لم يحرز كون شي‌ء أو فعل قبيحا مشتملا على المفسدة لم يثبت حرمته، و ليس الشك في خباثة شي‌ء من قبيل الشك في المحصّل حتى يجب الاحتياط فيه. هذا.

و لكن يمكن أن يقال: إنّ الألفاظ الملقاة من ناحية الشرع المبين لا تحمل على خصوص المصاديق المعهودة من قبل الشرع. بل على المطلق الشامل للمصاديق العرفية و الشرعية.

و المتبادر من لفظ الخبيث عند العرف كلّ ما يكون رديّا قبيحا في طباعهم و فطرتهم من الأعيان القذرة المكروهة و الأفعال القبيحة المستبشعة المعبّر عن جميع ذلك بالفارسية ب‍ «پليد». و هذا معنى عام يشمل استعمال ما يتنفّر عنه الطباع السّليمة في الأكل و الشرب اختيارا، و لا دليل على اعتبار المفسدة في صدق الخبيث. و لو سلّم اعتبار كون رداءة الشي‌ء‌

______________________________
(1) مصباح الفقاهة 1/ 38، و الآية المذكورة من سورة الأنبياء (21)، رقمها 74.

226
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الاستدلال للحرمة بآية تحريم الخبائث ؛ ج‌1، ص : 225

..........

______________________________
بحسب مضارّه و مفاسده فاستعمال الإنسان العاقل لما يتنفّر منه طبعه و روحه أيضا مشتمل على المفسدة: إذ أيّ مضرّة و مفسدة أقوى من مسّ كرامة الإنسان و تحميل المنفّرات الروحية عليه بلا جهة مبرّرة لذلك. و ليس للإنسان هتك نفسه و الإضرار بها روحا كان أو جسما إلّا لمصلحة أقوى. نعم للخبيث مراتب، و أقواها ما حكم العقل و الشرع معا بقبحه و رداءته مثل الزنا و السرقة و نحو ذلك.

قال الراغب في المفردات: «المخبث و الخبيث: ما يُكرَه رداءة و خساسة، محسوسا كان أو معقولا. و أصله الردي‌ء ... و ذلك يتناول الباطل في الاعتقاد، و الكذب في المقال، و القبيح في الفعال.

قال- عزّ و جلّ-: وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهمُ الْخَبٰائثَ. أي ما لا يوافق النفس من المحظورات.

و قوله- تعالى-: وَ نَجَّيْنٰاهُ منَ الْقَرْيَة الَّتي كٰانَتْ تَعْمَلُ الْخَبٰائثَ فكناية عن إتيان الرجال.

و قال- تعالى-: مٰا كٰانَ اللّٰهُ ليَذَرَ الْمُؤْمنينَ عَلىٰ مٰا أَنْتُمْ عَلَيْه حَتّٰى يَميزَ الْخَبيثَ منَ الطَّيِّب. أي الأعمال الخبيثة من الأعمال الصالحة، و النفوس الخبيثة من النفوس الزكيّة.

و قال- تعالى-: وَ لٰا تَتَبَدَّلُوا الْخَبيثَ بالطَّيِّب أي الحرام بالحلال ...» «1»

و راجع في هذا المجال نهاية ابن الأثير و مجمع البحرين «2» أيضا.

و ناقش الأستاذ الإمام «ره» على الاستدلال بآية الخبائث بما محصّله: «أنّها ليست‌

______________________________
(1) المفردات/ 141. و الآية الأولى من سورة الأعراف (7)، رقمها 157؛ و الثانية من سورة الأنبياء (21)، رقمها 74؛ و الثالثة من سورة آل عمران (3)، رقمها 179؛ و الرابعة من سورة النساء (4)، رقمها 2.

(2) راجع النهاية 2/ 4؛ و مجمع البحرين 2/ 251 (ط. أخرى/ 148).

227
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الاستدلال للحرمة بآية تحريم الخبائث ؛ ج‌1، ص : 225

..........

______________________________
بصدد بيان تحريم الخبائث، بل بصدد بيان أوصاف النبي «ص» و ما يصنعه في زمان نبوّته بنحو الحكاية و الإخبار، و ليس المقصود أنّه «ص» يحرّم عليهم عنوان الخبائث بأن يجعل حكم الحرمة على هذا العنوان.

بل المقصود أنّه يحرّم عليهم كلّ ما كان خبيثا بالحمل الشائع كالميتة و الخمر و الخنزير مثلا، فإذا نهى عن أكل الميتة و لحم الخنزير و الدم مثلا صدق أنّه نهى عن الخبائث.

فعنوان الخبائث عنوان مشير إلى العناوين الخاصّة التي يحرّمها بالتدريج و يكون من قبيل الجمع في التعبير. و كذلك سائر فقرات الآية من قوله: يَأْمُرُهُمْ بالْمَعْرُوف وَ يَنْهٰاهُمْ عَن الْمُنْكَر وَ يُحلُّ لَهُمُ الطَّيِّبٰات.

و بالجملة فليس هنا حكم تحريمي موضوع على عنوان الخبائث حتّى يبحث عن شموله للأبوال أو الأعيان النجسة مثلا.» «1»

أقول: يمكن أن يناقش عليه بأنّ الخبائث جمع محلّى باللام، و مفاده العموم.

فالجملة و إن لم يكن في مقام إنشاء الحرمة و لم تشرّع الحرمة قطّ على هذا العنوان العام بجعل واحد، لكنها بعمومها تحكي عن تشريع الحرمة على كلّ ما هو من مصاديق الخبيث عرفا أو شرعا. فإذا ثبت خباثة شي‌ء أو فعل بحكم العرف فلا محالة تدلّ الآية على تشريع الحرمة عليه في ظرفه، فتدبّر. هذا.

و كيف كان فالبحث عن جواز شرب الأبوال في أعصارنا قليل الجدوى. و ليس الشرب الاختياري من المنافع الظاهرة لها، و كذا الأكل بالنسبة إلى الأرواث. فوزانهما في أعصارنا وزان الطين الذي صرّح الشيخ بأنّ المنافع الأخر للطين أهمّ و أعمّ من منفعة الأكل‌

______________________________
(1) المكاسب المحرّمة 1/ 34. و الآية المذكورة من سورة الأعراف (7)، رقمها 157.

228
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الاستدلال للحرمة بآية تحريم الخبائث ؛ ج‌1، ص : 225

..........

______________________________
المحرّم بل لا يعدّ الأكل من منافعه و إن فرض الاستشفاء به في بعض الموارد.

و على هذا فلا يدور جواز بيع الأبوال و الأرواث مدار جواز الشرب و الأكل، بل مدار رغبة العقلاء فيها و ماليّتها عندهم للتسميد أو لاستخراج الموادّ الكيمياوية مثلا. و لا فرق في ذلك بين الأبوال و الأرواث الطاهرة و النجسة إن فرض لها منافع محلّلة مقصودة للعقلاء و احتاجوا لتحصيلها إلى بذل الأموال. و تختلف هذه بحسب الأزمنة و الأمكنة و الشرائط و الرغبات.

نظير الماء الذي لا قيمة له في ساحل الشطّ و لكن يبذل بإزائه المال في الأمكنة الأخر، اللّهم إلّا أن يثبت الإجماع على المنع في خصوص النجاسات، و قد مرّ الكلام في ذلك.

نعم يمكن أن يفرض التداوي بها أيضا في بعض البلاد لبعض الأمراض نادرا و إذا فرض ذلك فلا مانع من بيعها حينئذ لذلك، نظير سائر الأدوية المنفرة للطبع. فالملاك تحقق الرغبة و المالية و لو في ظرف خاص.

و ما في المتن من قوله: «و المنفعة النادرة لو جوّزت المعاوضة لزم منه جواز معاوضة كل شي‌ء. و التداوي بها لبعض الأوجاع لا يوجب قياسها على الأدوية و العقاقير، لأنّه يوجب قياس كل شي‌ء عليها للانتفاع بها في بعض الأوقات»‌

فيرد عليه ما في مصباح الفقاهة. و ملخّصه: «أنّ التداوي بها لبعض الأوجاع يجعلها مصداقا لعنوان الأدوية، فكما يجوز بيعها و لو كانت نجسة فكذلك الأبوال مطلقا لكونها من الأدوية. و انطباق الكلّي على أفراده غير مربوط بالقياس.

و ماليّة الأشياء تدور مدار رغبات الناس بلحاظ حاجاتهم إليها على حسب الحالات‌

229
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الاستدلال للحرمة بآية تحريم الخبائث ؛ ج‌1، ص : 225

..........

______________________________
و الأزمنة و الأمكنة. و لا شبهة أنّ المرض من الحالات التي لأجلها يحتاج الإنسان إلى الأدوية و العقاقير طاهرة كانت أو نجسة. و لأجل ذلك يجلبها الناس من أقاصي البلاد.

اللّهم إلّا أن يكون مراد المصنّف سقوط ماليّة الأبوال لكثرتها. و فيه- مضافا إلى كونه خلاف الظاهر من كلامه، و إلى منع كثرتها في البلاد-: أنّ الكثرة لا توجب سقوط ما ليتها بعد إمكان الانتفاع بها في بعض الأمكنة، و إلّا لزم سلب المالية عن أكثر المباحات.

نعم لا يبعد الالتزام بسقوط ماليتها إذا لم ينتفع بها في محلّها و لم يمكن نقلها إلى محلّ ينتفع بها.» «1»

______________________________
(1) مصباح الفقاهة 1/ 39.

230
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

ضابطة المنع تحريم الشي‌ء اختيارا ؛ ج‌1، ص : 231

[ضابطة المنع تحريم الشي‌ء اختيارا]

نعم يمكن أن يقال: إنّ قوله «ص»: «إنّ اللّه إذا حرّم شيئا حرّم ثمنه» و كذلك الخبر المتقدّم عن دعائم الإسلام يدلّ على أنّ ضابطة المنع تحريم الشي‌ء اختيارا و إلّا فلا حرام إلّا و هو محلّل عند الضرورة. و المفروض حرمة شرب الأبوال اختيارا، و المنافع الأخر غير الشرب لا يعبأ بها جدّا، فلا ينتقض بالطين المحرّم أكله، فإنّ المنافع الأخر للطين أهمّ و أعمّ من منفعة الأكل المحرّم، بل لا يعدّ الأكل من منافع الطين.

فالنبوي دالّ على أنّه إذا حرّم اللّه شيئا بقول مطلق بأن قال: يحرم الشي‌ء الفلاني، حرم بيعه. لأنّ تحريم عينه إمّا راجع إلى تحريم جميع منافعه أو إلى تحريم أهمّ منافعه الذي يتبادر عند الإطلاق بحيث يكون غيره غير مقصود منه. و على التقديرين يدخل الشي‌ء لأجل ذلك فيما لا ينتفع به منفعة محلّلة مقصودة.

و الطين لم يحرم كذلك بل لم يحرم إلّا بعض منافعه الغير المقصودة منه و هو الأكل، بخلاف الأبوال، فإنّها حرمت كذلك فيكون التحريم

231
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

ضابطة المنع تحريم الشي‌ء اختيارا ؛ ج‌1، ص : 231

راجعا إلى شربها، و غيره من المنافع في حكم العدم. و بالجملة فالانتفاع بالشي‌ء حال الضرورة منفعة محرّمة في حال الاختيار لا يوجب جواز بيعه. (1)

______________________________
(1). أقول: قد حكم المصنّف أوّلا بأنّ الأبوال الطاهرة على القول بحرمة شربها لا يجوز بيعها لعدم المنفعة المقصودة فيها. و المنفعة النادرة لو جوّزت المعاوضة لزم منه جواز معاوضة كل شي‌ء. ثم أعاد الإشكال هنا ثانيا من طريق آخر فوجّهه إلى حيثية الاضطرار بتقريب أنّ حلّية الشي‌ء عند الاضطرار لا تجوّز بيعه.

و ملخّص كلامه بعد جمع كلماته: «أنّ قوله «ص»: «إنّ اللّه إذا حرّم شيئا حرّم ثمنه» و كذلك خبر دعائم الإسلام يدلان على أنّ ضابطة المنع تحريم الشي‌ء اختيارا و إلّا فلا حرام إلّا و هو محلّل عند الضرورة.

و بالجملة فالانتفاع بالشي‌ء حال الضرورة منفعة محرّمة في حال الاختيار لا يوجب جواز بيعه. و ممّا ذكرنا يظهر أنّ قوله «ع» في رواية تحف العقول: «كل شي‌ء يكون لهم فيه الصلاح من جهة من الجهات» يراد به جهة الصلاح الثابتة حال الاختيار دون الضرورة.

و في بول الإبل أيضا لو قلنا بحرمة شربه اختيارا أشكل الحكم بجواز البيع إن لم يكن إجماعيّا. لا لأنّه منفعة جزئية نادرة كما يظهر من العلامة في النهاية و ابن سعيد في النزهة. بل لأن المنفعة المحلّلة للاضطرار و إن كانت كلّية لا تسوّغ البيع كما عرفت.»‌

أقول: لو فرضنا أنّ أحدا مرض مرضا شديدا فاضطرّ إلى شرب أحد من المحرّمات أو أكله لحفظ نفسه من التلف أو الأمراض المزمنة و لم يكن هذا الشي‌ء عنده و لم يتمكن من تحصيله بنفسه لا لعدم المال بل لعدم القدرة على صنعه و لكن تمكن غيره من صنعه‌

232
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

ضابطة المنع تحريم الشي‌ء اختيارا ؛ ج‌1، ص : 231

..........

______________________________
فهل يتعين بنظر الشيخ الأعظم «ره» على هذا الشخص المريض أن يموت صبرا.

أو أنّه يتعين على هذا الغير صرف ماله و وقته و إمكاناته في تحصيل هذا الشي‌ء و صنعه لهذا المريض مجّانا و بلا عوض.

أو أنّه يتعين أن يعطي له المال و لكن لا بإزاء هذا الشي‌ء بل في قبال رفع يده عمّ صنعه و حصّله مخافة أن تقع المعاملة الباطلة؟!

لا أظنّ أن يلتزم الشيخ بأحد هذه الوجوه الثلاثة، إذ كلها مخالف للحكمة و العقل الصريح و الشريعة السمحة السهلة التي شرّعها اللّه- تعالى- لمصالح عباده إلى يوم القيام.

و في الأدوية الّتي تصنع في أعصارنا لبعض الأمراض الصعب العلاج ما يشتمل على موادّ محرّمة لا بدّ منها، فلا محالة يجب أن يحصّل الدواء اللازم بالشراء ممن حصّله و لو بثمن غال حفظا لحقوق الطرفين. و أيّ صلاح أقوى من حفظ الحياة و السلامة؟!

و قد تبدّل في هذه الموارد عنوان الحرام بعنوان الجواز بل الوجوب لوجوب حفظ النفس.

و كيف يحلّ بقوله «ع» في موثّقة سماعة: «ليس شي‌ء ممّا حرّم اللّه إلّا و قد أحلّه لمن اضطرّ إليه» «1» استعمال هذا الشي‌ء الحرام و لا يجوز بيعه لأجل ذلك؟! و قد مرّ منّا أن الحلّ و الحرمة أعمّ من التكليف و الوضع. و المورد في هذه الرواية أيضا هو الوضع أعني صحّة الصلاة. و معاملة المضطرّ صحيحة كما حقّق في محلّه.

و المعاملات- كما مرّ- أمور عقلائية اعتبرها العقلاء فيما بينهم لرفع حاجات المجتمع‌

______________________________
(1) الوسائل 4/ 690، الباب 1 من أبواب القيام، الحديث 6.

233
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

ضابطة المنع تحريم الشي‌ء اختيارا ؛ ج‌1، ص : 231

..........

______________________________
و لم يردع الشارع إلّا عمّا يضرّ منها من أساسه كالرّبا و الغرر مثلا.

و ليست المعاملات أمورا تعبّدية محضة نظير العبادات المحضة التابعة للمصالح الغيبية الخفيّة التي لا يعلمها إلّا اللّه- تعالى-.

فليحمل قوله «ص»: «إنّ اللّه إذا حرّم على قوم شيئا حرّم عليهم ثمنه»- على فرض صدوره عنه «ص»- على صورة وقوع المعاملة على الشي‌ء المحرّم بقصد ترتيب آثاره المحرّمة كالشرب الاختياري في الخمر مثلا. إذ تعليق الجزاء على الشرط ظاهر في التقييد و دورانه مداره فينصرف عن البيع بقصد المنافع غير المحرّمة و منها العلاج عند الضرورة.

و هكذا الكلام في خبري الدعائم و تحف العقول. و قد مرّ أنّ المصنّف أيضا خصّ حرمة الاكتساب بما إذا وقع النقل و الانتقال بقصد ترتيب الأثر المحرّم.

بل يمكن القول بجواز البيع و الشراء فعلا بلحاظ الضرورات المحتملة في المستقبل أيضا و إن لم تتحقق فعلا. و قد تعرّض لهذا المعنى المحقق الإيرواني في حاشيته في المقام. قال: «و يمكن أن يلتزم بجواز بيع المحرّمات أيضا لأجل التداوي كبيع لحم الأفعى و بيع السمك السقنقور و لو قبل فعلية الاضطرار مقدّمة لزمان الاضطرار كما في الأدوية أيضا كذلك تباع قبل زمان الحاجة. و لعلّ المراد من قوله «ع» في رواية التحف: «إلّا في حال تدعو الضرورة إلى ذلك» أريد به هذا، فإنّ الضرورة تدعو إلى الاشتراء قبل حلول المرض لأجل التداوي عند حلوله أو لأجل البيع على المريض.» «1»

أقول: ما ذكره أمر متين يشهد به حكم العقلاء و سيرتهم و ينصرف عن مثله روايات المنع.

______________________________
(1) حاشية المكاسب للمحقق الإيروانى/ 3.

234
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

النقض بالأدوية المحرمة في غير حال المرض لأجل الإضرار ؛ ج‌1، ص : 235

[النقض بالأدوية المحرّمة في غير حال المرض لأجل الإضرار]

و لا ينتقض أيضا بالأدوية المحرّمة في غير حال المرض لأجل الإضرار، لأن حلّية هذه في حال المرض ليست لأجل الضرورة بل لأجل تبدّل عنوان الإضرار بعنوان النفع. (1)

و ممّا ذكرنا يظهر أنّ قوله «ع» في رواية تحف العقول المتقدّمة: «و كلّ شي‌ء يكون لهم فيه الصلاح من جهة من الجهات» يراد به جهة الصلاح الثابتة حال الاختيار دون الضرورة.

______________________________
(1) في حاشية الإيرواني «ره» في مقام إبداء الفرق بين المقام و بين الأدوية المحرّمة لأجل الإضرار قال: «الفارق هو أنّ الحرمة بمناط الإضرار لا يلحق الشي‌ء بذاته و إنّما يلحقه بكمّه. و بهذا المناط الخبز و الماء أيضا مضرّان إن أكل الإنسان زائدا عن الحدّ، و ما هذا شأنه لا يحرم بيعه، بخلاف ما كان محرّما في ذاته زاد أو نقص.»
«1»

أقول: يمكن أن يوجد دواء يضرّ بذاته لا بكمّه فقط فيحرم استعماله في الشرائط العادية، و لكن المرض مرض مهلك ينحصر الخلاص منه في هذا الدواء المضرّ فيستعمل من باب دفع الأفسد بالفاسد. و على هذا فوزانه وزان ما نحن فيه كما لا يخفى.

و الظاهر أنّ ما ذكره المصنّف من الفرق غير فارق بحسب الحكم لتبدّل موضوع الحرمة في الجميع، فالشي‌ء المحرّم إذا صار حلالا لشخص و لو لأجل الاضطرار إليه و احتاج في تحصيله إلى الشراء من الغير فلا وجه لمنع المعاملة عليه بعد ما توقف صنعه و تحصيله على صرف المال أو الوقت و صار له ماليّة و قيمة و لو بلحاظ الاضطرار إليه و بالنسبة إلى هذا الشخص الخاصّ.

إذ دليل الاضطرار كما يرفع حرمته تكليفا يرفع حرمته بحسب الوضع أيضا. و المنع في رواية تحف العقول و غيرها منصرف إلى البيع بلحاظ المنافع المحرّمة كما مرّ بيان ذلك، فتدبّر.

______________________________
(1) حاشية المكاسب للمحقق الإيروانى/ 3.

235
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

حرمة بيع لحوم السباع ؛ ج‌1، ص : 236

[حرمة بيع لحوم السباع]

و مما ذكرنا يظهر حرمة بيع لحوم السباع دون شحومها. فإنّ الأوّل من قبيل الأبوال، و الثاني من قبيل الطين في عدم حرمة جميع منافعها المقصودة منها.

و لا ينافيه النبويّ: «لعن اللّه اليهود حرّمت عليهم الشحوم فباعوها و أكلوا ثمنها.» لأنّ الظاهر أنّ الشحوم كانت محرّمة الانتفاع على اليهود بجميع الانتفاعات لا كتحريم شحوم غير مأكول اللحم علينا (1). هذا.

______________________________
(1) محصّل كلامه «ره» وجود الفرق بين لحوم السباع و شحومها، بتقريب عدم وجود المنفعة المحلّلة المقصودة للحومها فلا مالية لها فلا يجوز بيعها بخلاف الشحوم لإمكان صرفها في الإسراج و طلي السفن و نحوهما. و لا ينافي ذلك النبويّ، إذ الشحوم كانت محرّمة على اليهود بجميع انتفاعها بخلاف شحوم ما لا يؤكل لحمه علينا إذ المحرم علينا هو الأكل فقط.

أقول: لحوم السباع و إن حرم أكلها لكن يمكن إطعام الكلب و الهرّة بها و صرفها في التسميد، بل و استخراج الموادّ النافعة منها في أعصارنا. و المنفعة و الماليّة تختلفان بحسب الأزمنة و الأمكنة و الشرائط، فلا وجه لمنع بيعها بنحو الإطلاق.

ثم إنّ الأصل في حرمة الشحوم على اليهود هو قوله- تعالى- في سورة الأنعام:

وَ منَ الْبَقَر وَ الْغَنَم حَرَّمْنٰا عَلَيْهمْ شُحُومَهُمٰا إلّٰا مٰا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمٰا «1» الآية. و الظاهر منه و لا سيّما بقرينة السياق تحريم أكلها لا مطلق الانتفاع بها، فإنّ الأكل هو الأثر المتعارف المترقب منها و لا سيّما في تلك الأعصار.

______________________________
(1) سورة الأنعام (6)، الآية 146.

236
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

حرمة بيع لحوم السباع ؛ ج‌1، ص : 236

و لكن الموجود من النبوي في باب الأطعمة على الخلاف: «إنّ اللّه إذا حرّم أكل شي‌ء حرّم ثمنه.»

______________________________
كما أنّ الظاهر كون اللعن في الحديث متوجّها إليهم بلحاظ بيعها لأجل ذلك من جهة كونه إعانة منهم على الأمر المحرّم.

و الحديث مع الضابطة المذكورة في الذيل المرويّ عن ابن عباس كما مرّ، رواه عنه أبو داود، «1» و البيهقي «2»، و أحمد في ثلاثة مواضع «3». و المذكور في الجميع كلمة الأكل إلّا في الموضع الأخير من مسند أحمد. و في تعارض أصالة عدم الزيادة و أصالة عدم النقيصة تقدم الأولى كما مرّ.

و على هذا فيجب حمله على صورة كون الشي‌ء معدّا للأكل و بيع لذلك و إلّا لزم تخصيص الأكثر المستهجن، و أمّا مع قطع النظر عن ذلك فلا قصور في دلالته و إن ظهر من كلام المصنّف. هذا كلّه على رواية ابن عباس.

و لكن في رواية جابر أنّه سمع رسول اللّه «ص» يقول عام الفتح و هو بمكة: «إنّ اللّه حرّم بيع الخمر و الميتة و الخنزير و الأصنام.» فقيل: يا رسول اللّه، أ رأيت شحوم الميتة فإنّه يطلى بها السفن و يدهن بها الجلود و يستصبح بها الناس؟! فقال: «لا، هو حرام.» ثم قال رسول اللّه «ص» عند ذلك: «قاتل اللّه اليهود إنّ اللّه لمّا حرّم عليهم شحومها أجملوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه.» «4»

______________________________
(1) راجع سنن أبى داود 2/ 251، كتاب الإجارة، باب في ثمن الخمر و الميتة.

(2) سنن البيهقى 6/ 13، كتاب البيوع، باب تحريم بيع ما يكون نجسا لا يحلّ أكله.

(3) مسند أحمد 1/ 247 و 293 و 322، مسند عبد اللّه بن عباس.

(4) سنن أبى داود 2/ 250، كتاب الإجارة، باب في ثمن الخمر و الميتة.

237
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الثاني: بول الإبل يجوز بيعه إجماعا ؛ ج‌1، ص : 238

و الجواب عنه مع ضعفه و عدم الجابر له سندا و دلالة لقصورها لزوم تخصيص الأكثر.

[الثاني: بول الإبل يجوز بيعه إجماعا]

الثاني: بول الإبل يجوز بيعه إجماعا- على ما في جامع المقاصد و عن إيضاح النافع- إمّا لجواز شربه اختيارا كما يدل عليه قوله «ع» في رواية الجعفري: «أبوال الإبل خير من ألبانها»، و إمّا لأجل الإجماع المنقول لو قلنا بعدم جواز شربها إلّا لضرورة الاستشفاء كما يدلّ عليه رواية سماعة، قال: سألت أبا عبد اللّه «ع» عن بول الإبل و البقر و الغنم ينتفع به من الوجع هل يجوز أن يشرب؟ قال: «نعم، لا بأس.» و موثقة عمار عن بول البقر يشربه الرجل؟ قال: «إن كان محتاجا إليه يتداوى بشربه فلا بأس. و كذلك بول الإبل و الغنم.» (1)

______________________________
و يمكن أن يستشعر من هذه الرواية أنّ المحرّم على اليهود كان جميع الانتفاعات من الشحوم. و لكن يمكن منع ظهورها في ذلك، إذ المتيقن منها حرمة جميع الانتفاعات في خصوص الميتة و سيأتي البحث في ذلك.

(1) راجع الوسائل، أبواب الأطعمة المباحة «1».

و قد مرّ البحث عن حكم شرب الأبوال الطاهرة و أنّ الأصل و إن كان يقتضي الحلّية لكن ظاهر الشرط في موثّقة عمار اختصاص الحلّية بصورة الاحتياج للتداوي. و أمّا موثّقة سماعة فلا تدلّ على الاختصاص، إذ القيد في كلام الراوي.

______________________________
(1) راجع الوسائل 17/ 87 و 88، الباب 59 من أبواب الأطعمة المباحة، الحديثان 3 و 7.

238
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الثاني: بول الإبل يجوز بيعه إجماعا ؛ ج‌1، ص : 238

لكن الإنصاف أنّه لو قلنا بحرمة شربه اختيارا أشكل الحكم بالجواز إن لم يكن إجماعيا، كما يظهر من مخالفة العلامة في النهاية و ابن سعيد في النزهة.

قال في النهاية: «و كذلك البول يعني يحرم بيعه و إن كان طاهرا، للاستخباث كأبوال البقر و الإبل و إن انتفع به في شربه للدواء لأنّه منفعة جزئية نادرة فلا يعتدّ به.» انتهى.

أقول: بل لأنّ المنفعة المحلّلة للاضطرار و إن كانت كلّية لا تسوّغ البيع كما عرفت. (1)

______________________________
و أمّا رواية الجعفري ففي سندها بكر بن صالح، و فيه كلام بل ربما يناقش في دلالتها أيضا، فراجع ما مرّ في أول المسألة
«1».

(1) قد مرّ بالتفصيل أنّ الملاك في جواز البيع الرغبة في الشي‌ء و ماليّته عند العقلاء بل عند الشخص الذي يشتريه بشرط عدم كون استعماله له محرّما شرعا و لو في حالة خاصّة، و هو المستفاد من رواية التحف و غيرها أيضا.

______________________________
(1) راجع ص 222 من الكتاب.

239
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

المسألة الثانية: في بيع العذرة ؛ ج‌1، ص : 240

 

[المسألة الثانية: في بيع العذرة]

الثانية: يحرم بيع العذرة من كلّ حيوان على المشهور (1)، بل في التذكرة كما عن الخلاف الإجماع على تحريم بيع السرجين النجس. (2)

______________________________
2- بيع العذرة

(1) ظاهر العبارة أنّ المشهور لم يفرّقوا في تحريم البيع بين العذرة النجسة و الطاهرة، و لعلّه المترائى من عبارات المقنعة و المراسم و النهاية كما يأتي. و لا محالة تكون حرمته في الطاهرة منها بلحاظ عدم الانتفاع بها و عدم ماليّتها فلا يتحقق البيع المعرّف بمبادلة مال بمال، و إلّا فلا وجه لحرمة بيعها إذا فرض كونها ذات منفعة محلّلة عقلائية.

و في بعض النسخ- على ما قيل- تقييد العذرة بالنجسة، فيكون الإسناد إلى المشهور مؤذنا بوجود الخلاف في مسألة بيع العذرة النجسة أيضا.

[كلمات الفقهاء في المقام]

(2) الأولى ذكر بعض الكلمات ثم نتبعها بذكر أخبار المسألة:

1- في بيع الخلاف (المسألة 310): «سرجين ما يؤكل لحمه يجوز بيعه. و قال أبو حنيفة: يجوز بيع السراجين. و قال الشافعي: لا يجوز بيعها و لم يفصّلا.

دليلنا على جواز ذلك أنّه طاهر عندنا. و من منع منه فإنّما منع لنجاسته.

و يدلّ على ذلك بيع أهل الأمصار في جميع الأعصار لزروعهم و ثمارهم، و لم نجد أحدا كره ذلك، و لا خلاف فيه، فوجب أن يكون جائزا.

 

240
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

كلمات الفقهاء في المقام ؛ ج‌1، ص : 240

..........

______________________________
و أمّا النجس منه فلدلالة إجماع الفرقة. و روي عن النبي «ص» أنّه قال: «إنّ اللّه إذا حرّم شيئا حرّم ثمنه.» و هذا محرّم بالإجماع فوجب أن يكون بيعه محرّما.»
«1»

أقول: ظاهره أنّه أراد بالسرجين ما يعمّ عذرة الإنسان أيضا، إذ لم يبحث عنها مستقلا، إلّا أن يقال باتفاق الفريقين على عدم جواز بيعها، فلم يكن وجه للبحث عنها في كتاب الخلاف.

و الظاهر من الشيخ و قدماء أصحابنا أنّهم أرادوا بجواز البيع و حلّيته و عدم جوازه و حرمته الصحة و عدم الصحة، لا الجواز و الحرمة التكليفين. و لو سلّم إرادتهم التكليف فلا إشكال في إرادة الوضع أيضا.

و بيع أهل الأمصار لزروعهم لو دلّ على الصّحة فيما يؤكل لدلّ عليها فيما لا يؤكل أيضا و لا سيّما في عذرة الإنسان، لشيوع الانتفاع بها في التسميد.

و استدلال الشيخ و أصحابنا بالرواية و أمثالها لعلّه من باب المماشاة مع أهل الخلاف، فلا يثبت بذلك اعتمادهم عليها.

مضافا إلى ما مرّ من أنّ الغالب في نقل هذه الرواية ذكر كلمة الأكل في الشرط فيقيّد الجزاء أيضا بما إذا كان الشي‌ء معدّا للأكل و وقع البيع و الشراء بهذا الداعي لا مطلقا و إلّا لزم تخصيص الأكثر المستهجن.

و قوله: «هذا محرّم بالإجماع» إن أراد به حرمة جميع الانتفاعات فهي أوّل الكلام بل ممنوعة. و إن أراد به حرمة بعضها فلازمها حرمة البيع لذلك لا مطلقا إلّا أن لا يكون لها مالية.

______________________________
(1) الخلاف 3/ 185 (ط. أخرى 2/ 82)، كتاب البيوع.

241
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

كلمات الفقهاء في المقام ؛ ج‌1، ص : 240

..........

______________________________
فالعمدة في كلام الشيخ ما ادّعاه من إجماع الفرقة. و قد مرّ منّا عدم ثبوته بنحو يكشف به قول المعصوم «ع» كشفا قطعيا و لا سيّما في المقام، إذ من المحتمل كون مدركهم الأخبار الواردة، فتدبّر.

2- و في النهاية: «و جميع النجاسات محرّم التصرّف فيها و التكسّب بها على اختلاف أجناسها من سائر أنواع العذرة و الأبوال و غيرهما، إلّا أبوال الإبل خاصّة.» «1»

أقول: استثناء أبوال الإبل يقتضي كون المستثنى منه هو الأعمّ من النجسة و الطاهرة، و هذا ينافي صدر العبارة، ففيها نحو تهافت.

3- و في المبسوط: «و أمّا سرجين ما لا يؤكل لحمه و عذرة الإنسان و خرء الكلاب و الدّم فإنّه لا يجوز بيعه. و يجوز الانتفاع به في الزروع و الكروم و أصول الشجر بلا خلاف.» «2»

أقول: ظاهر النهاية حرمة الانتفاع بها مطلقا. و ظاهر المبسوط جواز الانتفاع بها في التسميد بلا خلاف. إلّا أن يريد بتصرف المحرّم في النهاية معنى لا يشمل الانتفاع بالتسميد، كأن يريد التصرفات الناقلة مثلا.

ثمّ القول بعدم جواز البيع مع جواز الانتفاع بها في التسميد لا يخلو من مجازفة. إذ التسميد منفعة مهمّة عقلائية و وجود المنفعة المحلّلة العقلائية يقتضي جواز البيع لأجلها.

و لو قيل في مثل الخمر و الميتة مما يصرف في الشرب و الأكل عادة أنّ بيعها و لو بقصد المنفعة المحلّلة يوجب الإعانة على الإثم لعدم الاطمينان بعدم الانتفاع بها في المنافع‌

______________________________
(1) النهاية/ 364، كتاب المكاسب، باب المكاسب المحظورة ...

(2) المبسوط 2/ 167، كتاب البيوع، فصل في حكم ما يصحّ بيعه و ما لا يصح.

242
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

كلمات الفقهاء في المقام ؛ ج‌1، ص : 240

..........

______________________________
المحرّمة فيحرم بيعها لذلك، فلا يجري هذا الإشكال في مثل العذرة و السّرجين، لوضوح أنّ شراءها ليس إلّا لأجل التسميد و نحوه من المنافع المحلّلة، و على هذا فلا وجه لحرمة بيعها.

4- و قد مرّ عن المقنعة قوله: «و بيع العذرة و الأبوال كلّها حرام إلّا أبوال الإبل خاصة ...» «1»

5- و مرّ عن المراسم: «و التصرّف في الميتة ... و العذرة و الأبوال ببيع و غيره حرام إلّا بول الإبل خاصّة.» «2»

أقول: هما لم يفرّقا في العذرة و الأبوال بين النجسة و الطاهرة في حرمة البيع.

و ظاهرهما كونها بملاك واحد، و لعلّه فقد المنفعة المحللة لهما.

6- و ذكر في الغنية أيضا فيما لا يصحّ بيعه: «سرقين ما لا يؤكل لحم.» «3»

7- و مرّ عن الشرائع ذكر الأعيان النجسة فيما يحرم الاكتساب بها و عدّ منها: «أرواث و أبوال ما لا يؤكل لحمه.» «4»

أقول: الظاهر من اللغة اختصاص الروث بمدفوع غير الإنسان اللّهم إلّا أن يراد عموم المجاز.

8- و ذيّل عبارة الشرائع في المسالك بقوله: «و لا فرق في عدم جواز بيعها على القول بعدم قبولها الطهارة بين صلاحيتها للانتفاع على بعض الوجوه و عدمه، و لا بين الإعلام بحالها و عدمه على ما نصّ عليه الأصحاب و غيرهم.» «5»

______________________________
(1) المقنعة/ 587، باب المكاسب.

(2) الجوامع الفقهية/ 585 (ط. أخرى/ 647)، كتاب المكاسب من المراسم.

(3) الجوامع الفقهية/ 524 (ط. أخرى/ 586)، كتاب البيع من الغنية.

(4) الشرائع/ 263 (ط. أخرى 2/ 9)، كتاب التجارة، الفصل الأوّل.

(5) المسالك 1/ 164، كتاب التجارة، الفصل الأوّل.

243
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

كلمات الفقهاء في المقام ؛ ج‌1، ص : 240

..........

______________________________
9- و ذيلها في الجواهر بقوله: «بلا خلاف معتدّ به أجده فيه بل الإجماع بقسميه عليه بل المنقول منهما مستفيض.»
«1»

10- و مرّ عن القواعد في بيان المتاجر المحظورة قوله: «و أبوال ما لا يؤكل لحمه و أرواثها.» «2»

11- و في التذكرة: «لا يجوز بيع السرجين النجس إجماعا منّا، و به قال مالك و الشافعي و أحمد للإجماع على نجاسته فيحرم بيعه كالميتة. و قال أبو حنيفة: يجوز، لأنّ أهل الأمصار يبايعونه لزروعهم من غير نكير، فكان إجماعا. و نمنع إجماع العلماء و لا عبرة بغيرهم. و لأنّه رجيع نجس فلم يصحّ بيعه كرجيع الآدميّ. و أمّا غير النجس فيحتمل عندي جواز بيعه.» «3»

أقول: ظاهره أنّ المراد بالسّرجين غير رجيع الآدميّ و أنّ المختلف فيه هو السرجين، و أمّا رجيع الآدمي فلا اختلاف في حرمة بيعه.

12- و في المنتهى: «لا يجوز بيع السرجين النجس، و به قال الشافعي و أحمد. و قال أبو حنيفة: يجوز. لنا: أنّه مجمع على نجاسته فلم يجز بيعه كالميتة. و ما رواه الشيخ عن يعقوب بن شعيب ...» «4»

أقول: ظاهر عبارة المنتهى كون معقد الإجماع نجاسة السرجين لا عدم جواز بيعه،

______________________________
(1) الجواهر 22/ 17، كتاب التجارة، الفصل الأوّل.

(2) القواعد 1/ 120، كتاب المتاجر، المقصد الأوّل، الفصل الأوّل.

(3) التذكرة 1/ 464، كتاب البيع، المقصد الأوّل، الفصل الرابع.

(4) المنتهى 2/ 1008، كتاب التجارة، المقصد الثانى، البحث الأوّل.

244
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

كلمات الفقهاء في المقام ؛ ج‌1، ص : 240

..........

______________________________
غاية الأمر أنّه رتّبه عليها و استنتجه منها. و يستشعر هذا من عبارة التذكرة أيضا و أنّ الإجماع على عدم جواز البيع مستنتج من الإجماع على النجاسة. و استدلاله برواية يعقوب بن شعيب الواردة في العذرة دليل على مساواة السرجين و العذرة عنده في الحكم و إن فرض اختلافهما موضوعا.

13- و في نهاية العلامة: «بيع العذرة و شراؤها حرام إجماعا لوجود المقتضي و كذا البول ...» «1»

14- و في المقنع لابن قدامة الكبير: «و لا يجوز بيع السرجين النجس.»‌

و ذيّله في الشرح الكبير بقوله: «و بهذا قال مالك و الشافعي. و قال أبو حنيفة: يجوز، لأنّ أهل الأمصار يبتاعونه لزروعهم من غير نكير فكان إجماعا. و لنا: أنّه مجمع على نجاسته فلم يجز بيعه كالميتة. و ما ذكروه ليس بإجماع لأنّ الإجماع اتفاق أهل العلم و لم يوجد. و لأنّه رجيع نجس فلم يجز بيعه كرجيع الآدمي.» «2»

أقول: إنّ العلامة أخذ في المنتهى و التذكرة من عبارة الشرح الكبير.

15- و في بدائع الصنائع في فقه الحنفية: «و يجوز بيع السرقين و البعر، لأنّه مباح الانتفاع به شرعا على الإطلاق فكان مالا. و لا ينعقد بيع العذرة الخالصة، لأنه لا يباح الانتفاع بها بحال فلا تكون مالا، إلّا إذا كان مخلوطا بالتراب، و التراب غالب فيجوز بيعه لأنه يجوز الانتفاع به.» «3»

أقول: لم يعلّق في هذه العبارة جواز البيع و عدم جوازه على الطهارة و النجاسة بل على‌

______________________________
(1) نهاية الإحكام 2/ 463، كتاب البيع، الفصل الثالث، المطلب الأوّل، البحث الثانى.

(2) ذيل «المغنى» 4/ 16، كتاب البيع، في الشرط الثالث من شروط صحة البيع.

(3) بدائع الصنائع 5/ 144، كتاب البيوع.

245
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

كلمات الفقهاء في المقام ؛ ج‌1، ص : 240

..........

______________________________
جواز الانتفاع و عدمه، فيظهر منه الملازمة بين جواز الانتفاع و جواز البيع كما مرّ منّا، و لكنه لم يبيّن في كلامه وجه عدم جواز الانتفاع بالعذرة الخالصة. و خلطها بالتراب لا يخرجها من النجاسة إلّا إذا استحالت فصارت ترابا. نعم، يمكن كون ماليتها في تلك الأعصار متوقفة على خلطها بالتراب. و لعلّ السرقين كان يصرف في تلك الأعصار في الوقود فكان له مالية بنفسه بخلاف العذرة، إذ كان مصرفها التسميد فقط مع التراب.

16- و في الفقه على المذاهب الأربعة عن المالكية: «لا يصحّ بيع النجس كعظم الميتة و جلدها ... و زبل ما لا يؤكل لحمه ... فإنّ فضلات هذه الحيوانات و نحوها لا يصحّ بيعها.»‌

و عن الحنابلة: «لا يصحّ بيع النجس كالخمر و الخنزير و الدم و الزبل و النجس. أمّا الطاهر فإنّه يصحّ.»‌

و عن الشافعية: «لا يصحّ بيع كلّ نجس كالخنزير و الخمر و الزبل و الكلب و لو كان كلب صيد.»‌

و عن الحنفية: «و لا ينعقد بيع العذرة فإذا باعها كان البيع باطلا إلّا إذا خلطها بالتراب فإنّه يجوز بيعها إذا كانت لها قيمة ماليّة كأن صارت سباخا. و يصحّ بيع الزبل و يسمّى سرجين أو سرقين و كذا بيع البعر. و يصحّ الانتفاع و جعله وقودا.» «1»

17- و قد مرّ عن أبي إسحاق الشيرازي في المهذّب «2» أنّ دليل فقهاء السنّة في عدم جواز بيع النجس خبر جابر المتضمن لتحريم بيع الخمر و الميتة و الخنزير، و ما ورد من النهى عن بيع الكلب، فقاسوا عليها غيرها، فليس لهم في العذرة و السرقين نصّ خاصّ. هذا.

______________________________
(1) الفقه على المذاهب الأربعة 2/ 231، كتاب البيع، مبحث بيع النجس و المتنجس.

(2) راجع ص 181 من الكتاب.

246
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

كلمات الفقهاء في المقام ؛ ج‌1، ص : 240

..........

______________________________
و قد طال الكلام في نقل الكلمات. و يظهر منها اتفاق فقهاء الفريقين على بطلان بيع العذرة بالمعنى الأعمّ إجمالا. و ظاهرهم كونه من جهة النجاسة المحضة و أنّ النجاسة عندهم موضوع مستقلّ لمنع المعاملة في قبال عدم المنفعة، و قد صرّح بهذا التعميم الشهيد فيما مرّ من عبارة المسالك.

مع أنّ الانتفاع بها في التسميد كان شائعا في جميع الأعصار، و التسميد بنفسه منفعة مهمّة عقلائية. و عن قرب الإسناد عن السندي بن محمد، عن أبي البختري، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن عليّ «ع»: «أنّه كان لا يرى بأسا أن يطرح في المزارع العذرة.» «1»

و في أعصارنا ينتفع بها انتفاعات واسعة و يستخرج منها موادّ كيمياوية نافعة. فهل يمكن مع ذلك القول بحرمة جميع هذه الانتفاعات مع استقرار السيرة عليها، أو القول بجواز الانتفاع و حرمة المعاملة عليها، مع وضوح أنّ المعاملات شرّعت لرفع الحاجات و تبادل الأعيان النافعة، و الشريعة السمحة الجامعة الباقية إلى يوم القيامة لا تريد إلّا مصالح العباد؟ فما ذا نقول في هذا المجال؟

و قد ورد في الرواية التي رواها المفضل عن الصادق «ع» في التوحيد ما يدلّ على موقع العذرات في الزراعات؛ فلنذكرها، إذ لها قيمة تاريخية و إن لم تثبت من جهة السند. قال:

«فاعتبر بما ترى من ضروب المآرب في صغير الخلق و كبيره، و بما له قيمة و ما لا قيمة له. و أخسّ من هذا و أحقره الزبل و العذرة التي اجتمعت فيها الخساسة و النجاسة معا، و موقعها من الزروع و البقول و الخضر أجمع الموقع الذي لا يعد له شي‌ء حتّى إنّ كلّ شي‌ء من الخضر لا يصلح و لا يزكو إلا بالزبل و السماد الذي يستقذره الناس و يكرهون الدنوّ منه.

______________________________
(1) الوسائل 16/ 358 (طبعة أخرى 16/ 435)، الباب 29 من أبواب الأطعمة المحرمة، الحديث 1.

247
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

كلمات الفقهاء في المقام ؛ ج‌1، ص : 240

و يدلّ عليه مضافا إلى ما تقدّم من الأخبار رواية يعقوب بن شعيب:

«ثمن العذرة من السّحت.» (1)

______________________________
و اعلم أنّه ليس منزلة الشي‌ء على حسب قيمته، بل هما قيمتان مختلفتان بسوقين. و ربما كان الخسيس في سوق المكتسب نفيسا في سوق العلم، فلا تستصغر العبرة في الشي‌ء لصغر قيمته. فلو فطنوا طالبوا الكيميا لما في العذرة لاشتروها بأنفس الأثمان و غالوا بها.»
«1»

أقول: في الرواية دلالة على الانتفاع بها في التسميد في عصر الأئمة «ع» و على جواز ذلك شرعا و كون قيمتها نازلة في تلك الأعصار و اشتمالها على مواد كيمياوية لو التفتوا إليها لاشتروها بالأثمان الغالية. و ليس فيها إشارة إلى منع المعاملة عليها بل فيها إشعار بجواز المعاملة عليها مع اشتمالها على القيمة السّوقية. و الاعتبار أيضا يساعد على جواز المعاملة عليها مع فرض جواز الانتفاع بها و كونها ذات قيمة و مالية، إلّا أن يثبت المنع بالدليل.

(1) أقول: القائل بالمنع إمّا أن يستدلّ له بالأدلّة العامّة التي استدلّوا بها لبطلان المعاملة على النجس بإطلاقه. و قد مرّت بالتفصيل و أجبنا عنها بمنع حجيتها أو دلالتها أو إطلاقها، فراجع. «2»

و إمّا أن يستدلّ بما ورد في خصوص العذرة من الإجماع المدّعى و الروايات.

أمّا الإجماع فبعد احتمال كونه مدركيّا يسقط عن الاعتبار. مضافا إلى أن معقد إجماع الخلاف و محلّ البحث في التذكرة و المنتهى و كثير من العبارات هو السرجين،

______________________________
(1) بحار الأنوار 3/ 136، كتاب التوحيد، الباب 4 في الخبر المشتهر بتوحيد المفضل بن عمر، المجلس الثالث؛ مستدرك الوسائل 2/ 436، الباب 33 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

(2) راجع ص 185 و ما بعدها من الكتاب.

248
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الروايات الواردة في المقام ؛ ج‌1، ص : 249

 

..........

______________________________
و شموله لعذرة الإنسان غير واضح. كما أنّ مورد الروايات هو العذرة و يشكل شمولها لما يخرج من غير الإنسان كما يأتي. اللّهم إلّا أن يدّعى العلم بمساواتهما في الحكم و إن اختلفا موضوعا، و لكنه كما ترى.

[الروايات الواردة في المقام]

و أمّا الروايات الواردة في المقام فهي أربع روايات يظهر من اثنتين منها المنع، و من الثالثة الجواز، و جمع في الرابعة منها بين المنع و الجواز. فلنذكرها ثمّ نتبعها بما قيل في الجمع بينها:

فالأولى: رواية يعقوب بن شعيب عن أبي عبد اللّه «ع»

، قال: «ثمن العذرة من السّحت.» «1»

و في السند علي بن مسكين أو سكن، و كلاهما مهملان لم يذكرا بمدح و لا قدح، فلا يعتمد على الرواية بانفرادها.

أقول: 1- في معجم مقاييس اللغة: «العذرة: فناء الدار. و في الحديث: «اليهود أنتن خلق اللّه عذرة.» أي فناء ثمّ سمّي الحدث عذرة لأنّه كان يلقى بأفنية الدور.» «2»

2- و في الصحاح: «و العذرة: فناء الدار، سمّيت بذلك لأنّ العذرة كانت تلقى في الأفنية.» «3»

3- و في القاموس: «و العاذر: عرق الاستحاضة و أثر الجرح و الغائط كالعاذرة و العذرة.

و العذرة: فناء الدار و مجلس القوم و أرد أما يخرج من الطعام.» «4»

______________________________
(1) الوسائل 12/ 126، الباب 40 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

(2) مقاييس اللغة 4/ 257.

(3) الصحاح 2/ 738.

(4) القاموس المحيط 2/ 86.

 

249
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

فالأولى: رواية يعقوب بن شعيب عن أبي عبد الله«ع» ؛ ج‌1، ص : 249

..........

______________________________
4- و في النهاية: «و فيه: «اليهود أنتن خلق اللّه عذرة.» العذرة: فناء الدار و ناحيتها ...

و في حديث ابن عمر أنّه كره السّلت الذي يزرع بالعذرة. يريد الغائط الذي يلقيه الإنسان. و سمّيت بالعذرة لأنهم كانوا يلقونها في أفنية الدور.» «1»

5- و في لسان العرب: «و العاذر و العذرة: الغائط الذي هو السلح. و في حديث ابن عمر أنّه كره السلت الذي يزرع بالعذرة، يريد الغائط الذي يلقيه الإنسان. و العذرة: فناء الدار.

و في حديث عليّ «ع» أنّه عاتب قوما فقال: «مالكم لا تنظّفون عذراتكم.» أي أفنيتكم ...

قال أبو عبيد: و إنّما سمّيت عذرات الناس بهذا لأنها كانت تلقى بالأفنية فكنّي عنها باسم الفناء كما كنّي باسم الغائط، و هي الأرض المطمئنّة، عنها.» «2»

و الظاهر من جميع هذه العبارات أنّ لفظ العذرة يطلق على خصوص ما يخرج من الإنسان كما لا يخفى.

نعم في صحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع- على ما عن الكافي- ما يشعر بصحة إطلاقها على ما يخرج من غير الإنسان أيضا. قال: «أو يسقط فيها شي‌ء من عذرة كالبعرة و نحوها.» و لكن في النقل عن الشيخ هكذا: «أو يسقط فيها شي‌ء من غيره كالبعرة.» فراجع الوسائل «3».

و في رواية كردويه عن أبي الحسن «ع» في بئر يدخلها ماء المطر فيه البول و العذرة و أبوال الدوابّ و أرواثها و خرء الكلاب «4».

______________________________
(1) النهاية لابن الأثير 3/ 199.

(2) لسان العرب 4/ 554.

(3) الوسائل 1/ 130، الباب 14 من أبواب الماء المطلق، الحديث 21 و ذيله.

(4) الوسائل 1/ 140، الباب 20 من أبواب الماء المطلق، الحديث 3.

250
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

فالأولى: رواية يعقوب بن شعيب عن أبي عبد الله«ع» ؛ ج‌1، ص : 249

..........

______________________________
و في رواية علي بن جعفر عن أخيه «ع» قال: سألته عن بئر ماء وقع فيها زنبيل من عذرة رطبة أو يابسة أو زبيل من سرقين
«1».

جعل العذرة قسيما للروث و الخرء و السرقين. فيظهر منهما كونها غيرها.

و قد مرّ عن المبسوط قوله: «و أمّا سرجين ما لا يؤكل لحمه و عذرة الإنسان و خرء الكلاب.» «2» و ظاهره تفاوت الألفاظ الثلاثة. و لكنه قال في النهاية: «أنواع العذرة و الأبوال.» «3» و ظاهره تعميم لفظ العذرة.

و أمّا الزبل ففي الصحاح: «الزبل بالكسر: السرجين. و موضعه مزبلة.» «4»

و في النهاية: «الزبل بالكسر: السرجين. و بالفتح مصدر زبلت الأرض إذا أصلحتها بالزبل.» «5»

و أمّا السرجين ففي الصحاح: «السرجين بالكسر معرّب ... و يقال: سرقين.» «6»

و في القاموس: «السرجين و السرقين بكسرهما: الزبل، معرّبا سرگين بالفتح.» «7»

فيظهر منهم مرادفة الزبل و السرجين. و إطلاقهما على ما يخرج من غير الإنسان واضح. و هل يطلقان فيما يخرج منه أيضا؟ يحتاج إلى تتبّع أكثر.

و أمّا الروث ففي النهاية: «في حديث الاستنجاء: «نهى عن الروث و الرمّة.» الروث:

______________________________
(1) نفس المصدر و الباب و الصفحة، الحديث 6.

(2) المبسوط 2/ 167، كتاب البيوع، فصل في حكم ما يصحّ بيعه و ما لا يصحّ.

(3) النهاية/ 364، كتاب المكاسب، باب المكاسب المحظورة ...

(4) الصحاح 4/ 1715.

(5) النهاية لابن الأثير 2/ 294.

(6) الصحاح 5/ 2135.

(7) القاموس المحيط 4/ 234.

251
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

فالأولى: رواية يعقوب بن شعيب عن أبي عبد الله«ع» ؛ ج‌1، ص : 249

..........

______________________________
رجيع ذوات الحافر.»
«1»

و في الصحاح: «الروثة واحدة الروث و الأرواث. و قد راثت الفرس. و في المثل: أحشّك و تروثني.» «2»

و في لسان العرب عن ابن سيدة: «الروث: رجيع ذي الحافر و الجمع: أرواث ...

التهذيب: يقال لكلّ ذي حافر: قد راث يروث روثا.» «3»

و لكن مرّ في بعض عبارات الأصحاب في المقام كالشرائع و القواعد لفظ الأرواث، فهل أرادا بذلك خصوص ما يخرج من غير الإنسان أو الأعمّ مجازا و مسامحة كما ربما يطلق لفظ العذرة على ما يخرج من غير الإنسان كذلك؟

و كيف كان فالمتيقن من لفظ العذرة الوارد في رواية يعقوب بن شعيب و غيرها خصوص ما يخرج من الإنسان و يشكل شموله لغيره. فما يظهر من الأستاذ «ره» «4» من التعميم ناسبا له إلى ظاهر اللغويين قابل للمنع.

و أمّا السّحت فقد مرّ عن الخليل في العين «5» تفسيره بكلّ حرام قبيح الذكر يلزم منه العار.

و عن مفردات الراغب تفسيره بالقشر الذي يستأصل قال: «و منه السحت للمحظور الذي يلزم صاحبه العار كأنّه يسحت دينه و مروّته.» «6»

و في لسان العرب: «السحت و السحت: كلّ حرام قبيح الذكر، و قيل: هو ما خبث من‌

______________________________
(1) النهاية لابن الأثير 2/ 271.

(2) الصحاح 1/ 284.

(3) لسان العرب 2/ 156.

(4) راجع المكاسب المحرمة للإمام الخمينى «ره» 1/ 40.

(5) راجع العين 3/ 132.

(6) المفردات/ 231.

252
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

فالأولى: رواية يعقوب بن شعيب عن أبي عبد الله«ع» ؛ ج‌1، ص : 249

..........

______________________________
المكاسب و حرم فلزم منه العار ... و يرد في الكلام على المكروه مرّة و على الحرام أخرى، و يستدلّ عليه بالقرائن و قد تكرر في الحديث.»
«1»

و قد مرّ استعماله كثيرا فيما لا حرمة له و لا عقوبة و لكنه ملازم لنحو من العار و الخسّة و عدم المناسبة لكرامة الإنسان:

ففي خبر الجعفريات «2» استعمل في أمور كثيرة منها: ثمن اللقاح و كسب الحجّام و أجر القفيز و الميزان و ثمن القرد و جلود السباع و أجر صاحب السجن و أجر القارئ و الهدية يلتمس أفضل منها.

و في موثّقة سماعة: «السحت أنواع كثيرة، منها: كسب الحجّام و أجر الزانية و ثمن الخمر.» «3» و نحوها رواية أخرى له إلّا أنّ فيها: «كسب الحجام إذا شارط.» «4»

مع وضوح عدم حرمة كسب الحجّام، كما يدلّ عليه أخبار مستفيضة، فراجع «5».

و عن عيون أخبار الرضا عنه، عن آبائه، عن عليّ «ع» في قوله- تعالى-: أَكّٰالُونَ للسُّحْت قال: «هو الرجل يقضي لأخيه الحاجة ثم يقبل هديّته.» «6»

______________________________
(1) لسان العرب 2/ 41 و 42.

(2) راجع مستدرك الوسائل 2/ 426، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

(3) الوسائل 12/ 63، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 6.

(4) الوسائل 12/ 62، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2.

(5) راجع الوسائل 12/ 71، الباب 9 من أبواب ما يكتسب به؛ و سنن ابن ماجة 2/ 731، الباب 10 من كتاب التجارات.

(6) الوسائل 12/ 64، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 11. و الآية المذكورة من سورة المائدة (5)، رقمها 42.

253
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

فالأولى: رواية يعقوب بن شعيب عن أبي عبد الله«ع» ؛ ج‌1، ص : 249

..........

______________________________
و في المستدرك عن ابن عباس في قوله- تعالى-:
أَكّٰالُونَ للسُّحْت قال: «أجرة المعلّمين الذين يشارطون في تعليم القرآن.» «1»

و بالجملة فقد أطلق لفظ السحت كثيرا على ما لا حرمة له و لكنه مكروه لا يناسب مقام الإنسان و كرامته، فراجع ما حرّرناه في الدليل الثالث عشر من أدلّة حرمة المعاملة على النجس بنحو الإطلاق «2».

و كما تسند الحرمة إلى الأعيان و الأثمان بلحاظ حرمة الانتفاع بها يجوز أن تسند الكراهة إليها أيضا بلحاظ كراهة أخذها و الانتفاع بها، فليس لفظ الثمن في هذه الأخبار قرينة على إرادة الحرمة.

و المناقشة بضعف هذه الأخبار مدفوعة بوجود الموثقة فيها كما مرّ، و بأنها دالّة على شيوع هذا الاستعمال في المحاورات العربية، و هذا كاف في الاحتجاج، فتأمّل.

نعم، لو لم يكن في البين قرينة على الجواز كان الظاهر من لفظ السحت الحرمة، بل يستفاد من حمله على الثمن بطلان المعاملة أيضا، لوضوح المنافاة بين حرمة الثمن و وجوب الوفاء بالعقد.

و الحاصل: أنّ المراد بالسّحت- على ما يظهر من أهل اللغة و موارد استعماله- القبيح الذي لا يناسب شئون الإنسانية و كرامتها و يلزم منه العار و يسحت دينه أو مروّته. و المتبادر منه مع الإطلاق و عدم القرينة ما بلغ حدّ الحرمة و المبغوضيّة. نظير النهي المتبادر منه ذلك.

و لكن بعد وجود القرينة أو وجود دليل معتبر على الجواز كان حمل اللفظ على‌

______________________________
(1) مستدرك الوسائل 2/ 435، الباب 26 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2.

(2) راجع ص 202 من الكتاب.

254
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الرواية الثانية مما يدل على المنع: ما مر من خبر دعائم الإسلام ؛ ج‌1، ص : 255

..........

______________________________
مطلق الخسّة و الرداءة قريبا جدّا من باب إطلاق لفظ الملزوم و إرادة اللازم كما في الكنايات، أو من باب كون القبيح ذا مراتب.

و خسّة التكسب بالعذرة و عدم مسانخته لكرامة الإنسان واضحة و إن ثبت عدم حرمته شرعا.

و قد عدّ في موثقة سماعة من السحت كسب الحجّام، مع وضوح جوازه كما مرّ.

و التكسب بالعذرة أخسّ منه بمراتب.

و بالجملة، رواية يعقوب بن شعيب ظاهرة في المنع و لكن يمكن رفع اليد عن ظاهرها إن فرض وجود دليل معتبر على الجواز. نظير ما نلتزم به في كسب الحجّام و في كلّ منهيّ عنه ورد الترخيص في خلافه. هذا مضافا إلى ضعف سند الرواية كما مرّ.

الرواية الثانية ممّا يدل على المنع: ما مرّ من خبر دعائم الإسلام

عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن آبائه، عن عليّ «ع» أنّ رسول اللّه «ص»: «نهى عن بيع الأحرار ... و عن بيع العذرة.» و قال: «هي ميتة.» «1»

و الرواية مرسلة، مضافا إلى عدم ثبوت اعتبار الكتاب كما مرّ بالتفصيل. و لم يظهر المقصود من قوله: «هي ميتة.» فهل أريد به انعدام الموادّ الحياتية الكامنة في الغذاء النافعة للبدن فخرجت عن المالية، أو أريد تشبيهها بالميتة في حرمة الانتفاع بها؟ كلّ منهما محتمل.

أقول: في كنز العمّال عن عليّ «ع» قال: «نهى رسول اللّه «ص» عن بيع العذرة.»‌

و في هامشه هكذا: «بيع العذرة هي طلوع خمسة كواكب ... و تطلع في وسط الحرّ. النهاية.

فيكون المعنى نهى عن البيع المؤجّل إلى طلوع العذرة لعدم ضبطها في أيّ يوم مثلا.» «2»

______________________________
(1) مستدرك الوسائل 2/ 427، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 5؛ عن الدعائم 2/ 18.

(2) كنز العمّال 4/ 170، باب أحكام البيع و ... من كتاب البيوع من قسم الأفعال، الحديث 10013 و هامشه.

255
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الرواية الثالثة: رواية محمد بن المضارب ؛ ج‌1، ص : 256

نعم، في رواية محمد بن المضارب: «لا بأس ببيع العذرة.» (1)

و جمع الشيخ بينهما بحمل الأوّل على عذرة الإنسان و الثاني على عذرة البهائم. و لعلّه لأنّ الأوّل نصّ في عذرة الإنسان ظاهر في غيرها، بعكس الخبر الثاني، فيطرح ظاهر كلّ منهما بنصّ الآخر.

______________________________
أقول: لم يذكر في النهاية حديث بيع العذرة بل يذكر في تفسير حديث آخر طلوع العذرة و فسرها بما ذكر، فراجع
«1».

[الرواية الثالثة: رواية محمد بن المضارب]

(1) هذه هي الرواية الثالثة في المسألة، رواها محمد بن مضارب عن أبي عبد اللّه «ع». رواها عنه في الوسائل عن الكليني و الشيخ. «2»

و في رجال المامقاني: إنّ ظاهر ما عن البرقي كون محمد بن مضارب إماميا و استشعر المولى التوحيد من رواية صفوان و ابن مسكان عنه وثاقته. ثم روى رواية تدلّ على أنّ الإمام الصادق «ع» حلّل له جارية يصيب منها و تخدمه و قال: إنّ فيه دلالة على كونه مورد لطف الإمام «ع». «3»

و باقي رجال السند ثقات لا بأس بهم.

و دلالتها على الجواز تكليفا و وضعا واضحة. بل الملحوظ في المعاملات غالبا جهة الوضع، أعني الصحة أو الفساد، و هو المتبادر من الجواز و عدم البأس فيها.

فاحتمال الجمع بينها و بين الرواية السابقة بحمل هذه على الجواز التكليفي المحض و حمل السابقة على الحرمة الوضعية أعني فساد المعاملة احتمال بعيد مخالف للذوق و الفهم العرفي.

______________________________
(1) راجع النهاية لابن الأثير 3/ 198.

(2) الوسائل 12/ 127، الباب 40 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 3. نقله عن الكافي 5/ 226، و التهذيب 6/ 372.

(3) راجع تنقيح المقال 3/ 188.

256
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الرواية الرابعة: رواية سماعة ؛ ج‌1، ص : 257

[الرواية الرابعة: رواية سماعة]

و يقرّب هذا الجمع رواية سماعة، قال: سأل رجل أبا عبد اللّه «ع» و أنا حاضر (عن بيع العذرة- ليس في الوسائل) فقال: إنّي رجل أبيع العذرة فما تقول؟ قال: «حرام بيعها و ثمنها.» و قال: «لا بأس ببيع العذرة» (1).

فإنّ الجمع بين الحكمين في كلام واحد لمخاطب واحد يدلّ على أنّ تعارض الأوّلين ليس إلّا من حيث الدلالة فلا يرجع فيه إلى المرجحات السّندية أو الخارجية.

و به يدفع ما يقال من أنّ العلاج في الخبرين المتنافيين على وجه التباين الكلّي هو الرجوع إلى المرجحات الخارجية ثمّ التخيير أو التوقف لا إلغاء ظهور كلّ منهما. و لهذا طعن على من جمع بين الأمر و النهي بحمل الأمر على الإباحة و النهي على الكراهة.

______________________________
(1) هذه هي الرواية الرابعة في المسألة جمع فيها بين المنع و الجواز. رواها في الوسائل
«1» عن الشيخ بسنده عن سماعة. و الظاهر كونها موثقة.

و يستفاد من قوله: «أبيع العذرة» شيوع الانتفاع بها و بيعها و شرائها في تلك الأعصار.

و المتبادر من لفظ العذرة- كما مر- عذرة الإنسان.

أقول: قد يحتمل أن يرجع الضمير في «قال» الأوّل إلى السائل، و لعلّه كان مع الواو فحذفه النسّاخ، فيكون قوله: «حرام بيعها و ثمنها» من تتمة السؤال بنحو الاستفهام، فأجاب الإمام «ع» بقوله: «لا بأس ببيع العذرة.» و الواو في «و قال» زائدة أو مصحّفة من‌

______________________________
(1) الوسائل 12/ 126، الباب 40 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2.

257
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

أقوال الجمع بين الأخبار ؛ ج‌1، ص : 258

 

..........

______________________________
الفاء. و هذا النحو من الاشتباهات أو التصحيفات كثيرة في أخبارنا. و عدم البأس ببيعها يدلّ على عدم البأس بثمنها أيضا.

[أقوال الجمع بين الأخبار]

و كيف كان فهذه هي أخبار المسألة. و لهم في الجمع بينها أقوال، فلنتعرّض لها:

[الأوّل: المانع محمول على عذرة الإنسان و المجوز على عذرة البهائم]

الأوّل: ما في التهذيب. قال بعد ذكر رواية محمد بن مضارب أوّلا و رواية يعقوب بن شعيب ثانيا و حكمه بعدم منافاتها لها: «لأنّ هذا الخبر محمول على عذرة الإنسان و الأوّل محمول على عذرة البهائم من الإبل و البقر و الغنم، و لا تنافي بين الخبرين.» ثم ذكر رواية سماعة شاهدة على ذلك و قال: «فلولا أنّ المراد بقوله: «حرام بيعها و ثمنها» ما ذكرناه لكان قوله بعد: «لا بأس ببيع العذرة» مناقضا له، و ذلك منفيّ عن أقوالهم عليهم السلام.» «1» و هكذا صنع في الاستبصار أيضا، إلّا أنّه ذكر بدل عذرة البهائم: «ما عدا عذرة الآدميين.» «2» و لعلّه أراد به ما كثر الابتلاء به و الانتفاع به في التسميد من الأرواث الطاهرة، فيوافق ما في التهذيب.

و يشكل إرادته الأعمّ، إذ هو في الخلاف ادّعى إجماع الفرقة على عدم جواز بيع السرجين النجس. هذا.

و المصنّف هنا أراد تقريب كلام الشيخ و توجيهه بنحو لا يرد عليه الإشكال و محصّله:

«أنّ رواية المنع نصّ على عذرة الإنسان و ظاهرة في غيرها، بعكس رواية الجواز، فيطرح ظاهر كل منهما بنصّ الآخر. و يقرّب هذا رواية سماعة، فإنّ الجمع فيها بين الحكمين في كلام واحد لمخاطب واحد يدلّ على أن موضوع المنع غير موضوع الجواز، فيكون قرينة‌

______________________________
(1) التهذيب 6/ 372 و 373، ذيل الحديثين 201 و 202 من باب المكاسب.

(2) الاستبصار 3/ 56، ذيل الحديثين 2 و 3 من باب النهى عن بيع العذرة من كتاب المكاسب.

 

258
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الأول: المانع محمول على عذرة الإنسان و المجوز على عذرة البهائم ؛ ج‌1، ص : 258

..........

______________________________
على اختلاف موضوع الحكمين في روايتي المنع و الجواز أيضا، و يكون رفع التنافي بينهما بالتصرف في الدلالة لا بأخذ إحداهما ترجيحا أو تخييرا و طرح الأخرى من رأس كما في سائر موارد التعارض بنحو التباين الكليّ.»‌

و ناقشه الأستاذ الإمام بما ملخّصه:

«أوّلا: أنّ رفع اليد عن قواعد باب التعارض لا يجوز إلّا بعد كون رواية سماعة صادرة في مجلس واحد لمخاطب واحد. و هو غير مسلّم لبعد صدور مثلها في كلام واحد، و احتمال كونهما روايتين جمعتا في نقل واحد، كما يشعر بذلك توسّط كلمة «قال» و ذكر كلمة «العذرة» ثانيا بالاسم الظاهر. و الراوي سماعة الذي قيل في مضمراته إنّها جمع روايات مستقلات في نقل واحد. و قد سمّى المرويّ عنه في صدرها و أضمر في البقية.

و ثانيا: أنّ كون تعارض روايتي المنع و الجواز من حيث الدلالة لا يوجب رفع اليد عن أدلّة العلاج بل هو محقق لموضوعها. نعم، لو كشف ذلك عن وجه الجمع بينهما كان لما ذكر وجه، و لكنه كما ترى. إذ الميزان في الجمع هو الجمع العقلائي المقبول عرفا و ليس أمرا تعبديا. و مع عدم تحقق الجمع العرفي يحرز موضوع أدلّة التعارض.

و عدم العمل بها في الرواية الواحدة المشتملة على حكمين متنافيين لا يوجب عدم العمل بها في الحديثين المختلفين كما في المقام.

مع إمكان أن يقال بصدق الخبرين المختلفين على الخبر الواحد المشتمل على حكمين أيضا. و دعوى الانصراف ممنوعة. بل مناسبات الحكم و الموضوع تقتضي عموم الحكم للمتّصلين أيضا.» «1»

______________________________
(1) المكاسب المحرمة 1/ 9.

259
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الأول: المانع محمول على عذرة الإنسان و المجوز على عذرة البهائم ؛ ج‌1، ص : 258

..........

______________________________
أقول: ما ذكره أخيرا من جريان أخبار العلاج في الجزءين لخبر واحد مشكل، إذ موضوعها الحديثان المختلفان واحد يأمرنا و الآخر ينهانا مثلا فيؤخذ بأحدهما ترجيحا أو تخييرا و يطرح الآخر. و لا يجري هذا في الجزءين لخبر واحد، لتلازمهما عادة في الصدق و الكذب و الإرادة الجدّية و عدمها.

بل يشكل أصل حجية الخبر الواحد المشتمل على حكمين متنافيين في مجلس واحد مع عدم إمكان الجمع الدلالي بينهما. إذ العمدة في حجية الخبر سيرة العقلاء و هم لا يعتنون بالخبر الكذائي بل يعرضون عنه في مقام العمل و إن وجّهوه بتوجيهات تبرعية حفظا لحريم المرويّ عنه.

و لكن ما ذكره من أنّ الجمع الدلالي إنّما يصحّ فيما إذا كان الجمع عقلائيا مقبولا عند العرف كلام صحيح. و مجرّد أخذ المتيقن من كل من الدليلين المتنافيين بنحو التباين الكلّي كقوله: أكرم العلماء و لا تكرم العلماء مثلا لا يعدّ جمعا عرفيا و لا يوجب صيرورتهما نصّين أو ظاهرين فيهما. و كيف يعدّ كلمة واحدة مستعملة في معنى واحد نصّا على بعض مصاديقه و ظاهرا في بعضها؟! بل الجمع العرفي إنّما يتحقق فيما إذا ارتفع التهافت بين الدليلين عرفا بعد ضمّ أحدهما إلى الآخر و لحاظه معه، نظير ما في العامّ مع الخاصّ و المطلق مع المقيد و الأمر أو النهي مع الترخيص في الخلاف. و إذا لم يتحقق الجمع العرفي بين الدليلين فلا محالة يحكم فيهما بمقتضى أخبار العلاج.

و في مصباح الفقاهة: «بل لو جاز أخذ المتيقن من الدليل لانسدّ باب حجية الظواهر و لم يجز التمسّك بها، إذ ما من دليل إلّا و له متيقّن في إرادة المتكلم، إلّا أن يقال بتخصيص ذلك بصورة التعارض، و هو كما ترى.» «1»

______________________________
(1) مصباح الفقاهة 1/ 46.

260
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

القول الثاني: الجمع بحمل المانع على الكراهية و المجوز على الجواز ؛ ج‌1، ص : 261

[القول الثاني: الجمع بحمل المانع على الكراهية و المجوز على الجواز]

و احتمل السبزواري حمل خبر المنع على الكراهة. (1) و فيه ما لا

______________________________
ثم إنّ ما ذكره الشيخ من الجمع لو سلّم جريانه بين أخبار المنع و الجواز الصادرة في مجالس مختلفة باحتمال وجود قرائن مقامية فإجراؤه في جزئي موثقة سماعة بناء على كونها رواية واحدة صادرة في مجلس واحد يوجب القول بأن الإمام «ع» كان في مقام ذكر اللغز و المعمّى لا بيان الحكم الشرعي للسائل، و هذا بعيد من شأنه «ع». هذا ما يرد على الشيخ أوّلا.

و يرد عليه ثانيا: أنّ المتبادر من لفظ العذرة خصوص مدفوع الإنسان، و هو المتفاهم من كلمات أهل اللغة و من موارد استعمال اللفظ كما مرّ بيانه. و يشكل إطلاقها على مدفوع البهائم إلّا مجازا، و المتعارف فيها إطلاق الروث أو السّرجين أو الزبل أو الرجيع كما مرّ.

و ثالثا: أنّ ما ذكره من الجمع على فرض صحّته جمع تبرّعي لا شاهد له و لا يتعيّن بنحو يصحّ الإفتاء على وفقه، إذ يحتمل المحامل الأخر كما يأتي. و يحتمل أخذ المتيقن بأنحاء أخر، كالمخلوط بالتراب و غيره كما فصّل أبو حنيفة. و لو فرض شهادة موثقة سماعة على وجود جمع دلالي بين الطائفتين فلا دلالة لها على خصوص جمع الشيخ، فتدبّر.

(1) هذا هو القول الثاني في الجمع. قال في الكفاية: «و يمكن الجمع بحمل الأوّل على الكراهية و الثاني على الجواز، لكن لا أعلم قائلا به.» «1»

أقول: احتملها المجلسيّان أيضا، فاحتمل الأوّل منهما الكراهة الشديدة كما يأتي كلامه في الحاشية اللاحقة.

و قال الثاني منهما في مرآة العقول بعد ذكر جمع الشيخ: «و لا يبعد حملها على الكراهة و إن كان خلاف المشهور.» «2»

______________________________
(1) كفاية الأحكام/ 84، كتاب التجارة، المقصد الثانى، المبحث الأوّل.

(2) مرآة العقول 19/ 266، ذيل الحديث 3 من باب جامع فيما يحلّ الشراء و البيع منه و ... من كتاب المعيشة.

261
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

القول الثاني: الجمع بحمل المانع على الكراهية و المجوز على الجواز ؛ ج‌1، ص : 261

يخفى من البعد. (1)

______________________________
(1) قال في مصباح الفقاهة: «لعلّ الوجه فيه هو أنّ استعمال لفظ السحت في الكراهة غير جار على المنهج الصحيح، فإنّ السحت في اللغة عبارة عن الحرام. إذن فرواية المنع آبية عن الحمل عليها.»‌

ثمّ ناقش في ذلك بما محصّله: «أوّلا: أنّ لفظ السحت قد استعمل في الكراهة في عدّة روايات، فإنّه أطلق فيها على ثمن جلود السباع و كسب الحجّام و أجرة المعلّمين الذين يشارطون في تعليم القرآن و قبول الهدية مع قضاء الحاجة، مع وضوح أنّه ليس شي‌ء منها بحرام، و قد نصّ بصحة ذلك الاستعمال غير واحد من أهل اللغة.

و ثانيا: لو سلّمنا حجية قول اللغوي فغاية ما يترتب عليه أنّ حمل لفظ السحت على المكروه خلاف الظاهر، و لا بأس به إذا اقتضاه الجمع بين الدليلين.

لا يقال: و إن صحّ إطلاق السّحت على الكراهة إلّا أنّ نسبته إلى الثمن صريحة في الحرمة.

فإنّه يقال: إنّ عناية تعلّق الكراهة بالثمن لا تزيد على عناية تعلّق الحرمة به، غاية الأمر أنّه إذا تعلّقت الحرمة به أفادت فساد المعاملة أيضا بخلاف الكراهة.» «1»

أقول: قد مرّ منّا معنى السّحت و بعض موارد استعماله في الكراهة و قلنا إنّ الملحوظ في مفهومه هو قبح الشي‌ء و رداءته. و إطلاقه و إن كان يحمل على الحرمة لكن مع الترخيص في الخلاف يحمل على الكراهة و مطلق الرداءة و الخسّة، نظير صيغة النهي و مادّته، فهذا أمر التزمنا به.

و لكن لا يخفى أنّ الدالّ على الحرمة في المقام لا ينحصر في رواية يعقوب بن شعيب المشتملة على لفظ السحت، بل يدلّ عليها موثقة سماعة المشتملة على لفظ الحرام، و كذا خبر‌

______________________________
(1) مصباح الفقاهة 1/ 46.

262
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

القول الثالث: حمل عدم الجواز على بلاد لا ينتفع بها فيها و الجواز على غيرها ؛ ج‌1، ص : 263

[القول الثالث: حمل عدم الجواز على بلاد لا ينتفع بها فيها و الجواز على غيرها]

و أبعد منه ما عن المجلسي من احتمال حمل خبر المنع على بلاد لا ينتفع به و الجواز على غيرها. (1)

______________________________
الدعائم المشتمل على مادة النهي أيضا. و حمل لفظه الحرمة على الكراهة غير مأنوس. إلّا أن يقال: إنّ خبر سماعة مشتمل على المنع و الجواز معا فتسقط بذلك عن الاعتبار، و خبر الدعائم لا اعتبار به من أساسه، و لكن لا يخفى أنّ خبر ابن شعيب أيضا ضعيف كما مرّ.

(1) هذا هو القول الثالث في مقام الجمع. قال المجلسي في ملاذ الأخيار في فهم تهذيب الأخبار في ذيل موثقة سماعة: «قال الوالد العلامة- قدّس سرّه-: يمكن حمل عدم الجواز على بلاد لا ينتفع بها فيها و الجواز على غيرها، و الكراهة الشديدة و الجواز، أو التقية في الحرمة فإنّ أكثرهم على الحرمة، بأن يكون أجاب السائل علانية ثم لما رأى غفلة منهم أفتى بعدم البأس، لكنه خلاف المشهور بل المجمع عليه.» «1»

أقول: قوله: «لكنه خلاف المشهور» لعلّه أراد بذلك أنّ أوّل المرجحات الشهرة الفتوائية، فالترجيح بها مقدّم على الترجيح بمخالفة العامّة و حمل الموافق على التقيّة.

و ناقش في مصباح الفقاهة الاحتمال الأوّل بما ملخصه: «أنّه مضافا إلى كونه تبرعيا أنّ إمكان الانتفاع بها في مكان يكفي في صحّة بيعها على الإطلاق. على أنّك عرفت أنّ غاية ما يلزم هو كون المعاملة على أمثال تلك الخبائث سفهية و لم يقم دليل على بطلانها. مع أنّ الظاهر من قول السائل في موثقة سماعة كونه بيّاع العذرة و أخذه ذلك شغلا له. و هذا كالصريح في كون بيعها متعارفا في ذلك الزمان.» «2»

______________________________
(1) ملاذ الأخيار 10/ 379، ذيل الحديث 202 من باب المكاسب.

(2) مصباح الفقاهة 1/ 46.

263
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

القول الرابع: حمل المنع على التقية و الجواز على غيرها ؛ ج‌1، ص : 264

[القول الرابع: حمل المنع على التقيّة و الجواز على غيرها]

و نحوه حمل المنع على التقيّة، لكونه مذهب أكثر العامّة. (1)

______________________________
أقول: إمكان الانتفاع بها في مكان يكفي في صحّة بيعها في الأمكنة الأخرى إذا فرض لها قيمة في تلك الأمكنة بأن أمكن نقلها مع حساب مصارف النقل إلى مكان الانتفاع و إلّا لم يكن مالا حينئذ فلم يصحّ بيعها لذلك، إلّا أن يقال- كما أشار إليه أخيرا-: إنّ قول السائل: «إنّي رجل أبيع العذرة» يدلّ على أنّ تجارتها كانت مربحة لا محالة و إلّا لم يتخذ ذلك شغلا لنفسه.

ثم إنّه قد مرّ أنّ المعاملات شرّعت لرفع الحاجات. و المعاملة السفهية مما لا يقبله العقل و لا الشرع فينصرف عنها إطلاقات الأدلّة. و نكتة منع السفيه عن التصرف في الأموال ليست إلّا كون معاملاته بحسب الأغلب سفهية، فتأمّل.

(1) هذا هو القول الرابع في المقام، و قد مرّ عن المجلسي الأوّل احتماله، و مرّ عن الفقه على المذاهب الأربعة «1» منع المالكية و الشافعية و الحنابلة لبيع النجس مطلقا، و ذكر المالكية من أمثلته زبل ما لا يؤكل لحمه، و الشافعية و الحنابلة الزبل النجس. و ظاهرهم شموله لعذرة الإنسان أيضا لاتفاق الجميع في نجاسته. و مرّ عن الحنفية التصريح بعدم انعقاد بيع العذرة إلّا مع خلطها بالتراب.

فالمنع عن البيع في العذرة الخالصة كأنّه إجماعي عندهم. مضافا إلى أنّ الشهرة عندهم تكفي في جريان التقية.

و بالجملة فأرضيّة التقية موجودة بلا إشكال، و لا وجه لاستبعاد المصنّف لها بهذا اللحاظ.

و لكن يرد على ذلك: أنّ المنع مشهور عندنا أيضا إن لم يكن إجماعيا. و الترجيح بالشهرة الفتوائية أوّل المرجحات في مقبولة عمر بن حنظلة، فيكون الترجيح بها بل و كذا‌

______________________________
(1) راجع الفقه على المذاهب الأربعة 2/ 231، مبحث بيع النجس و المتنجس من كتاب البيوع.

264
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الخامس من الأقوال: الوضع بلحاظ البيع و التكليف بلحاظ الثمن ؛ ج‌1، ص : 265

..........

______________________________
بموافقة الكتاب مقدما على الترجيح بمخالفة العامّة. و الجواز موافق لعمومات البيع و العقد و التجارة على القول بعمومها، فمن يقبل المقبولة لا مجال له لأن يقبل التقية في المقام.

نعم، آية اللّه الخوئي «ره» كان يمنع حجية الشهرة و كونها جابرة أو مرجّحة «1» و قال: إنّ الشهرة بالنسبة إلى الخبر كوضع الحجر في جنب الإنسان. فعلى مذاقه «ره» يجري احتمال حمل أخبار المنع على التقية، و لا بعد فيه بعد كون أخبار الجواز موافقا لعمومات الكتاب أيضا.

قال في مصباح الفقاهة ما ملخّصه: «أنّه لما كان القول بحرمة البيع مذهب العامّة بأجمعهم فنأخذ بالطائفة المجوّزة لبيعها. و من هنا ظهر ما في كلام المصنّف من استبعاد الحمل على التقيّة.

و العجب من الفاضل المامقاني، فإنّه وجّه استبعاد المصنّف و قال: إنّ مجرّد كونه مذهب أكثر العامّة لا يفيد مع كون الرواية من الإمام الصادق «ع» و كون فتوى أبي حنيفة المعاصر له هو الجواز، فخبر الجواز أولى بالحمل على التقيّة. و وجه العجب أنّ أبا حنيفة قد أفتى بحرمة بيع العذرة كما عرفت.» «2»

الخامس من الأقوال: [الوضع بلحاظ البيع و التكليف بلحاظ الثمن]

ما ذكره الأستاذ «ره» في مقام توجيه موثقة سماعة على فرض كونها رواية واحدة. و ملخّصه: «أنّ المراد بقوله: «حرام بيعها و ثمنها» هو الجامع بين الحرمة الوضعية و التكليفية أعني الوضع بلحاظ البيع و التكليف بلحاظ الثمن. و يؤيّده أنّ الحرمة إذا تعلّقت بالعناوين التوصّلية الآلية تكون ظاهرة في الوضع. و المراد بقوله: «لا‌

______________________________
(1) راجع مصباح الأصول 2/ 201 و ما بعدها؛ و مصباح الفقاهة 1/ 6 و 7.

(2) مصباح الفقاهة 1/ 50.

265
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

السادس من الأقوال: أن يكون اللفظتان مختلفتين في هيئة التلفظ و المعنى ؛ ج‌1، ص : 266

..........

______________________________
بأس ببيع العذرة» نفي الحرمة التكليفية بلحاظ البيع، فكأنّه قال: يحرم بيعها وضعا و لا بأس به تكليفا.»
«1»

أقول: يمكن أن يناقش- مضافا إلى عدم قرينة على تعيّن ما ذكر و أنّه جمع تبرّعي محض لا يصلح للإفتاء على وفقه-: أنّ حمل قوله: «لا بأس ببيع العذرة» على نفي الحرمة التكليفية فقط خلاف الظاهر جدّا بل الظاهر منه صحّة بيعها و نفوذه. كما أنّ الظاهر من قوله: «حرام بيعها و ثمنها» بسبب ظهور لفظ الحرمة و بقرينة ضمّ الثمن إلى البيع هي التكليف فقط. و مقتضاه كون نفس البيع حراما بحسب التكليف صحيحا بحسب الوضع نظير البيع وقت النداء أو مع نهي الوالدين. إلّا أن يقال مع فرض صحّة البيع لا وجه لحرمته تكليفا في المقام و لا يجتمع معها أيضا حرمة الثمن فيرجع الأمر إلى أن يحمل الحرمة على الكراهة الشديدة، فتدبّر.

السادس من الأقوال: [أن يكون اللفظتان مختلفتين في هيئة التلفظ و المعنى]

ما حكاه في مصباح الفقاهة عن العلامة المامقاني «ره»، قال:

«الأقرب عندي حمل قوله «ع»: «لا بأس ببيع العذرة» على الاستفهام الإنكاري.» قال:

«و لعلّ هذا مراد المحدّث الكاشاني حيث قال: و لا يبعد أن يكون اللفظتان مختلفتين في هيئة التلفظ و المعنى و إن كانتا واحدة في الصورة.» «2»

أقول: الحمل على الاستفهام بأنحائه غير بعيد، إذ هو رائج في المحاورات. و لكن يحتمل أن يكون بعكس ما حكاه عن المامقاني، فإنّ الرجل السائل لما كان بنفسه بائعا للعذرة كان سؤاله- على الظاهر- ناشئا عن توهّم حرمة شغله و كسبه لحرمة موضوعه و نجاسته، فأراد الإمام «ع» رفع توهمه و تزلزله بإبطال ما زعمه سببا لحرمة شغله ببيان أنّ حرمة ذات الشي‌ء‌

______________________________
(1) المكاسب المحرمة 1/ 8.

(2) مصباح الفقاهة 1/ 49. و انظر كلام المحدّث الكاشانى في الوافي 3/ 42 (م 10).

266
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

السابع: أن يقال بأنه يعامل مع رواية سماعة معاملة روايتين و الحمل على التعارض ؛ ج‌1، ص : 267

 

و الأظهر ما ذكره الشيخ «ره» لو أريد التبرّع بالحمل، لكونه أولى من الطرح و إلّا فرواية الجواز لا يجوز الأخذ بها من وجوه لا تخفى. (1)

______________________________
لا تقتضي حرمة بيعه و ثمنه على الإطلاق و لا ملازمة بين الحرمتين، فذكر ذلك بنحو الاستفهام الإنكاري لرفع التزلزل عنه ثم ذكر حكم المسألة بالصراحة و أنّه لا بأس ببيعها.

فيرتفع التهافت من الرواية و يكون المجموع رواية واحدة لقصة واحدة وقعت في حضور سماعة فنقلها. كيف؟! و لو كانت الجملة الثانية رواية أخرى مستقلة فلم لم يتعرض سماعة لخصوصيات السؤال فيها و موردها على نحو ما حكى خصوصيات الرواية الأولى؟

و قد مرّ أيضا في ذيل نقل الرواية احتمال أن يكون قوله: «حرام بيعها و ثمنها» كلاما للسائل و تتمّة لسؤاله، فراجع.

[السابع: أن يقال بأنّه يعامل مع رواية سماعة معاملة روايتين و الحمل على التعارض]

السابع: أن يقال بأنّه يعامل مع رواية سماعة معاملة روايتين مستقلتين على ما مرّ تقريبه، فيكون في الباب طائفتان من الأخبار و بينهما تهافت بنحو التباين فيرجع فيها إلى أخبار العلاج. و مقتضاها الأخذ بأخبار المنع لموافقتها للشهرة و هي أوّل المرجحات في المقبولة كما مرّ. فهذه سبعة احتمالات أو أقوال في الجمع بين أخبار الباب.

[الصحيح من الأقوال]

(1) قال في مصباح الفقاهة ما ملخّصه: «الوجوه المشار إليها هي الإجماعات المنقولة و الشهرة الفتوائية و الأدلّة العامّة المتقدّمة على المنع، و ضعف ما يدلّ على الجواز.

و جميع هذه الوجوه مخدوشة لا تصلح لترجيح ما يدلّ على المنع: أمّا الإجماعات فليست تعبّدية بل مدركها الوجوه المتقدمة و لو احتمالا.

و أمّا الشهرة الفتوائية فهي و إن كانت مسلّمة إلّا أنّ ابتناءها على رواية المنع ممنوع. و لو سلّم فلا توجب انجبار ضعف سند الرواية. على أنّ الذي يوجب الترجيح عند المعارضة هي الشهرة في الرواية دون الشهرة الفتوائية.

 

267
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الصحيح من الأقوال ؛ ج‌1، ص : 267

..........

______________________________
و أمّا الأدلّة العامّة فقد تقدّم الكلام فيها.

و أمّا تخيّل ضعف رواية الجواز سندا ففيه: أوّلا: أنّه محض اشتباه نشأ من خلط ابن مضارب بابن مصادف. و الأوّل منصوص على حسنه.

و ثانيا: أنّ اقتصار الكليني بنقل رواية الجواز فقط دون غيرها يشير إلى اعتبارها، كما هي كذلك لكون رواتها بين ثقات و حسان.» «1»

أقول: قد مرّ منّا أنّ أوّل المرجّحات المذكورة في المقبولة هي الشهرة و المراد بها الشهرة الفتوائية لا الروائيّة، فراجع.

و لكن هذا فيما إذا وقع التعارض بين الخبرين الواجدين لشرائط الحجيّة. و ليس المقام كذلك لوجود التهافت بين الجزءين في موثقة سماعة و هذا يوجب إجمالها. و احتمال كونها روايتين مستقلتين لا يرفع الإجمال.

و رواية يعقوب بن شعيب ضعيفة جدّا كما مرّ و كذا رواية الدعائم. مضافا إلى اشتمال الأولى على لفظ السّحت و الثانية على مادّة النهي، و كلاهما قابلان للحمل على الكراهة مع وجود الترخيص في الخلاف. و المفروض أنّ رواية محمّد بن مضارب تدلّ على الجواز، و سندها أيضا لا يخلو من حسن كما في المصباح و اقتصر عليها الكليني أيضا.

فإن قلت: الشهرة كما عدّت من المرجّحات تكون جابرة لضعف الروايات أيضا فيجبر بها ضعف رواية ابن شعيب.

قلت: جبرها لها يتوقّف على كون فتواهم مستندة إليها و هو غير واضح. مضافا إلى أنّ الجمع الدّلالي مقدّم على الشهرة المحتمل المدركيّة. و قد عرفت أنّ ظهور لفظ السّحت‌

______________________________
(1) مصباح الفقاهة 1/ 51.

268
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الصحيح من الأقوال ؛ ج‌1، ص : 267

..........

______________________________
في الحرمة ليس بحدّ يتعارض الترخيص بل يكون وزانه وزان النهي الذي يحمل على الكراهة بقرينة الترخيص في الخلاف.

و كثيرا ما كان أصحابنا يراعون في مقام الإفتاء جانب الاحتياط نظير إفتائهم بنجاسة أهل الكتاب مع دلالة كثير من الأخبار على طهارتهم الذاتية.

و بالجملة، فرواية الجواز لا بأس بها سندا و دلالة و تكون موافقة لعمومات الكتاب و مخالفة لجمهور أهل الخلاف و لم يقم دليل معتبر على خلافها فيجوز الأخذ بها.

قال المحقق الإيرواني في حاشيته في المقام: «فالمتعيّن في مقام العمل طرح روايات المنع: أمّا رواية سماعة فبالإجمال. و أمّا رواية يعقوب بن شعيب فبضعف السند مضافا إلى الابتلاء بالمعارض. و المرجع عموم أَوْفُوا و أَحَلَّ و تجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ و قوله «ع» في رواية التّحف: و كلّ شي‌ء يكون لهم فيه الصلاح من جهة من الجهات.»‌

و قال أيضا: «لا حاجة إلى رواية الجواز، فإنّ الجواز هو مقتضى العمومات حتى يقوم دليل على المنع. و رواية المنع غير ناهضة لتخصيص العمومات.» «1» هذا.

مضافا إلى ما مرّ منا من أنّ العذرة كانت في جميع الأعصار و الأمصار ممّا ينتفع بها في السماد و إصلاح الأراضي. و هذا بنفسه منفعة عقلائية مهمّة عندهم.

و يدلّ على ذلك مضافا إلى وضوحه قول السائل في موثقة سماعة: «إنّي رجل أبيع العذرة»، حيث يدلّ على أنّه كان شغلا له.

و قول الصادق «ع» في رواية المفضل: «و إنّ موقعها من الزروع و البقول و الخضر أجمع الموقع الذي لا يعدله شي‌ء.» «2» و قد استقرّ على الانتفاع بها السيرة القطعية المتّصلة إلى‌

______________________________
(1) حاشية المكاسب للمحقق الإيروانى/ 4.

(2) بحار الأنوار 3/ 136، كتاب التوحيد، الباب 4 في الخبر المشتهر بتوحيد المفضّل بن عمر.

269
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

المراد من العذرة ؛ ج‌1، ص : 270

ثم إنّ لفظ العذرة في الروايات إن قلنا إنّه ظاهر في عذرة الإنسان كما حكي التصريح به عن بعض أهل اللغة فثبوت الحكم في غيرها بالأخبار العامّة المتقدّمة، و بالإجماع المتقدّم على السرجين النجس. (1)

______________________________
عصر المعصومين «ع». فاحتمال عدم المنفعة العقلائية لها في تلك الأعصار أو عدم جواز الانتفاع بها في التسميد و تحريم الشارع لذلك مما لا ينقدح في ذهن فقيه.

و إذا جاز الانتفاع بها كذلك و توقّف جمعها و جعلها سمادا إلى صرف الأوقات و الإمكانات فلا محالة تصير ذات قيمة و ماليّة.

و المعاملات شرّعت لرفع الحاجات و تبادل الأعيان النافعة. و ليست أهداف تشريعها أو إمضائها مصالح سرّية خفيّة لا يعلمها إلّا اللّه- تعالى- نظير التعبّديات المحضة.

و لا تريد الشريعة السمحة السهلة إلّا مصالح العباد و تسهيل الأمر عليهم. نعم، في مثل البيع الربوي و بيع الغرر وقع النهي من ناحية الشارع لوضوح تحقق المفسدة و الضرر الاجتماعي عليهما.

و على هذا فبمقتضى جواز الانتفاع بها و صيرورتها مالا نحكم بجواز المعاملة عليها مضافا إلى عموم أدلّة العقود، فتدبّر.

و هكذا الحكم في السّرجين النجس بعد وضوح جواز الانتفاع بها في التسميد.

[المراد من العذرة]

(1) قد مرّ بالتفصيل «1» معنى العذرة و أنّ الظاهر اختصاصها بمدفوع الإنسان، و أنّ الإجماعات على المنع في السرجين النجس محتمل المدركية، و لعلّها على أساس ما ذكروه لعدم جواز بيع النجس و منها رواية تحف العقول، فلا تكشف كشفا قطعيّا عن قول المعصومين «ع».

______________________________
(1) راجع ص 249 و ما بعدها و ص 186 من الكتاب.

270
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

المراد من العذرة ؛ ج‌1، ص : 270

و استشكل في الكفاية في الحكم تبعا للمقدّس الأردبيلي «ره» إن لم يثبت إجماع، و هو حسن. إلّا أنّ الإجماع المنقول هو الجابر لضعف سند الأخبار العامّة السّابقة.

و ربما يستظهر من عبارة الاستبصار القول بجواز بيع عذرة ما عدا الإنسان لحمله أخبار المنع على عذرة الإنسان. (1) و فيه نظر. (2)

______________________________
(1) قد مرّ احتمال إرادة الشيخ من قوله في الاستبصار: «ما عدا عذرة الآدميين» خصوص عذرة البهائم كما في التهذيب. إذ هو في الخلاف ادّعى إجماع الفرقة على عدم جواز بيع السرجين النجس، فراجع
«1».

(2) في حاشية المحقق الشيرازي «ره»: «لعلّ الوجه في ذلك: أنّ الجمع التبرعي بحمل أخبار الجواز على عذرة غير الإنسان لا يقتضي ثبوت قول بالجواز فيها بل يكفي فيه عدم العلم بالمنع فيها واقعا.» «2»

______________________________
(1) راجع ص 258 و 240 من الكتاب.

(2) حاشية المكاسب للمحقق الشيرازي/ 10.

271
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

فرع: في بيع الأوراث الطاهرة ؛ ج‌1، ص : 272

[فرع: في بيع الأوراث الطاهرة]

فرع الأقوى جواز بيع الأرواث الطاهرة التي ينتفع بها منفعة محلّلة مقصودة. و عن الخلاف نفي الخلاف فيه. و حكي أيضا عن المرتضى «ره» الإجماع عليه. و عن المفيد حرمة بيع العذرة و الأبوال كلّها إلّا بول الإبل. و حكي عن سلار أيضا. (1)

______________________________
(1) لا إشكال في جواز الانتفاع بالأرواث الطاهرة في التسميد و غيره. و لو فرض الشك في ذلك فأصالة الحل محكّمة. و بذلك تصير مالا يرغب فيها و يبذل بإزائها المال فيجوز المعاملة عليها أيضا.

و يشهد لذلك مضافا إلى استقرار السّيرة أدلّة المعاملات العامّة.

و حرمة أكلها للاستخباث و غيره- كما قيل- لا تخرجها عن الماليّة، نظير الطين الذي ليست منفعته المقصودة هي الأكل.

و الظاهر أنّ الإشكال فيها من بعض أهل الخلاف نشأ من القول بنجاستها. و نحن فرغنا من ذلك حيث قلنا بطهارتها. و بذلك تفترق عن السرجين النجس الذي مرّ البحث فيه.

1- قال الشيخ في بيع الخلاف (المسألة 310): «سرجين ما يؤكل لحمه يجوز بيعه.

و قال أبو حنيفة: يجوز بيع السّراجين. و قال الشافعي: لا يجوز بيعها و لم يفصّلا. دليلنا‌

272
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

فرع: في بيع الأوراث الطاهرة ؛ ج‌1، ص : 272

..........

______________________________
على جواز ذلك أنّه طاهر عندنا. و من منع منه فإنّما منع لنجاسته. و يدلّ على ذلك بيع أهل الأمصار في جميع الأعصار لزروعهم و ثمارهم، و لم نجد أحدا كره ذلك و لا خلاف فيه، فوجب أن يكون جائزا. و أمّا النجس منه فلدلالة إجماع الفرقة ...»
«1»

2- و في الانتصار حكم بجواز شرب أبوال ما يؤكل لحمه و بنى ذلك على طهارتها.

و حكى عن أبي حنيفة و أبي يوسف و الشافعي نجاسة أبوالها و أرواثها، ثم استدلّ على مذهبنا بعد الإجماع المتردّد بأصالة الإباحة و قد مرّت عبارته في مسألة الأبوال، فراجع «2».

و ظاهره اتحاد حكم الأبوال و الأرواث. و لكن ليس في كلامه اسم من البيع إلّا أن يقال باستلزام جواز الانتفاع لجواز البيع كما هو الظاهر الذي كنّا نصرّ عليه.

3- و لكن مرّ عن المقنعة قوله: «و بيع العذرة و الأبوال كلّها حرام إلا أبوال الإبل خاصّة.» «3»

4- و عن المراسم قوله: «و التصرّف في الميتة ... و العذرة و الأبوال ببيع و غيره حرام إلّا بول الإبل خاصّة.» «4»

أقول: ظاهرهما بقرينة الاستثناء عدم الفرق بين النجسة و الطاهرة منهما، و إرادة جميع الأرواث من لفظ العذرة. و لا يرى في الطاهرة منهما وجه للمنع إلّا إذا فرض عدم وجود منفعة محلّلة مقصودة.

و روايات المنع عن بيع العذرة لا تشمل الأرواث الطاهرة لما عرفت من كون لفظ العذرة مخصوصا بمدفوع الإنسان.

______________________________
(1) الخلاف 3/ 185 (ط. أخرى 2/ 82)، كتاب البيوع.

(2) راجع ص 221 من الكتاب.

(3) المقنعة/ 587، باب المكاسب.

(4) الجوامع الفقهية/ 585 (طبعة أخرى/ 647)، كتاب المكاسب من المراسم.

273
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

فرع: في بيع الأوراث الطاهرة ؛ ج‌1، ص : 272

و لا أعرف مستندا لذلك إلّا دعوى أنّ تحريم الخبائث في قوله- تعالى-: وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهمُ الْخَبٰائثَ يشمل تحريم بيعها.

و قوله «ع»: «إنّ اللّه إذا حرّم شيئا حرّم ثمنه» و ما تقدّم من رواية دعائم الإسلام و غيرها.

و يرد على الأوّل: أنّ المراد بقرينة مقابلته لقوله- تعالى-: يُحلُّ لَهُمُ الطَّيِّبٰات الأكل لا مطلق الانتفاع. (1)

______________________________
(1) ظاهر المصنف اختصاص الطيّبات و الخبائث بالمأكولات و المشروبات، و قد مرّ في مسألة الأبوال البحث في الآية
«1»، و أنّ الخبيث على ما في مفردات الراغب و غيره كلّ ما يكره رداءة و خساسة، محسوسا كان أو معقولا، فيتناول الباطل في الاعتقاد، و الكذب في المقال، و القبيح في الفعال.

قال اللّه- تعالى-: وَ نَجَّيْنٰاهُ منَ الْقَرْيَة الَّتي كٰانَتْ تَعْمَلُ الْخَبٰائثَ «2» يعني إتيان الرجال. و قال: مٰا كٰانَ اللّٰهُ ليَذَرَ الْمُؤْمنينَ عَلىٰ مٰا أَنْتُمْ عَلَيْه حَتّٰى يَميزَ الْخَبيثَ منَ الطَّيِّب «3» يعني الأعمال الخبيثة من الأعمال الصالحة و النفوس الخبيثة من النفوس الزكيّة. و غير ذلك من الآيات الشريفة.

فالمقصود بالخبائث في الآية كلّ ما يحكم العقل و الفطرة السليمة ببطلانه و رداءته من أنواع الاعتقادات و الأخلاق و الأفعال و الأعيان الخارجية بلحاظ الأفعال المتعلقة بها. و يرادفه‌

______________________________
(1) راجع ص 225 و ما بعدها من الكتاب.

(2) سورة الأنبياء (21)، الآية 74.

(3) سورة آل عمران (3)، الآية 179.

274
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

فرع: في بيع الأوراث الطاهرة ؛ ج‌1، ص : 272

و في النبوي و غيره ما عرفت من أنّ الموجب لحرمة الثمن حرمة عين الشي‌ء بحيث يدلّ على تحريم جميع منافعه أو المنافع المقصودة الغالبة (1) و منفعة الروث ليست هي الأكل المحرّم، فهو كالطين المحرّم كما عرفت سابقا.

______________________________
لفظ «پليد» في الفارسية. و يقابله الطيبات في جميع ذلك.

و المراد بتحريم الأعيان تحريم ما يناسبها من الأكل أو الشرب أو اللبس أو النكاح أو غيرها من الانتفاعات المناسبة.

و يمكن أن يتحقق في شي‌ء واحد جهة طيب و جهة خباثة، فيحلّ من جهة و يحرم من جهة أخرى. و في الحقيقة تكون الخباثة و الطيب و صفين لنفس الانتفاعات و الأفعال المناسبة.

و على هذا فالأرواث مثلا يحرم أكلها و يحلّ سائر الانتفاعات بها.

و كيف كان فالظاهر أنّ الحلّية و الحرمة المتعلقين بهما تنصرفان إلى الأفعال و الانتفاعات الطبيعية الأوّلية لا مثل البيع و التصرّفات الناقلة الاعتبارية و الآليّة التوصلية، فتدبّر.

(1) إذ حرمة منفعة خاصّة من الشي‌ء لا يوجب حرمة بيعه بنحو الإطلاق قطعا، إذ ما من شي‌ء إلّا يحرم بعض الانتفاعات منه، فالمقصود بحرمة الشي‌ء حرمة جميع منافعه أو منافعه الغالبة بحيث يسقط عن المالية شرعا أو يراد صورة وقوع البيع بلحاظ خصوص المنفعة المحرّمة.

و الحاصل أنّ ظاهر تعليق الجزء على الشرط كون عنوان الشرط علّة لحكم الجزاء فيدور مدارها، فتدبّر.

275
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

المسألة الثالثة: المعاوضة على الدم ؛ ج‌1، ص : 276

 

[المسألة الثالثة: المعاوضة على الدّم]

الثالثة: يحرم المعاوضة على الدّم بلا خلاف، بل عن النهاية و شرح الإرشاد لفخر الدين و التنقيح الإجماع عليه. (1)

______________________________
3- المعاوضة على الدم

[كلمات الفقهاء]

(1) أقول: 1- قد مرّ فيما حكيناه عن المقنعة، و نهاية الشيخ، و المبسوط، و المراسم، و الشرائع و القواعد «1» ذكر الدّم في عداد النجاسات التي لا يصحّ بيعها.

2- و في نهاية العلامة: «بيع الدّم و شراؤه حرام إجماعا لنجاسته و عدم الانتفاع به.» «2»

أقول: ظاهر كلامه: أنّ الإجماع المدّعى ليس بنفسه بنحو يكشف به قول المعصوم «ع» فيعتمد عليه بل هو مستند إلى وصفي النجاسة و عدم الانتفاع.

و هل هما دليلان مستقلان، أو أنّ النجاسة أوجبت عدم الانتفاع به و هو الدليل لعدم جواز البيع؟ الظاهر هو الثاني. و لا محالة يراد به عدم جواز الانتفاع الذي كان متعارفا في تلك الأعصار من شربه أو أكله مشويا. و إلى ذلك ينصرف التحريم في الآيات الشريفة و الروايات أيضا كما يأتي بيانه.

______________________________
(1) راجع ص 166 و ما بعدها من الكتاب.

(2) نهاية الإحكام 2/ 463، كتاب البيع، الفصل الثالث، المطلب الأوّل، البحث الثانى.

 

276
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

كلمات الفقهاء ؛ ج‌1، ص : 276

..........

______________________________
3- و مرّ عن التذكرة: «يشترط في المعقود عليه: الطهارة الأصلية ... و لو باع نجس العين كالخمر و الميتة و الخنزير لم يصحّ إجماعا (إلى أن قال:) و الدّم كلّه نجس فلا يصحّ بيعه، و كذا ما ليس بنجس منه كدم غير ذي النفس السائلة لاستخباثه.»
«1»

أقول في عبارته الأخيرة تهافت كما لا يخفى.

4- و قد مرّ عن التنقيح في ذيل قول المحقق: «الأوّل: الأعيان النجسة» قوله: «إنّما حرم بيعها لأنّها محرّمة الانتفاع، و كلّ محرّمة الانتفاع لا يصح بيعه. أمّا الصغرى فإجماعية.

و أما الكبرى فلقول النبي «ص»: «لعن اللّه اليهود حرّمت عليهم الشحوم فباعوها.» علّل استحقاق اللعنة ببيع المحرّم فيتعدى إلى كلّ محرّم الانتفاع به، و لما رواه ابن عباس عن النبي «ص»: إنّ اللّه إذا حرّم شيئا حرّم ثمنه.» «2»

و حكي نحو ذلك عن فخر الدين في شرح الإرشاد «3».

أقول: لا يخفى أنّ ادّعاء الإجماع في كلاهما ليس على الكبرى أعني عدم جواز بيع النجس بل على الصغرى أعني عدم جواز الانتفاع به. و لا يظنّ الالتزام بذلك من ففيه، و يخالفه السيرة و الأخبار الواردة أيضا كما يأتي، فلا محالة يراد بذلك الانتفاعات المحرّمة التي كانت رائجة بين غير المتعبّدين بالشرع من الأكل و الشرب و نحوهما.

و كيف كان فظاهرهما دوران حرمة البيع مدار حرمة الانتفاع، و عدم كون النجاسة بنفسها مانعة عن صحة المعاملة كما مرّ.

______________________________
(1) التذكرة 1/ 464، كتاب البيع، المقصد الأوّل، الفصل الرابع.

(2) التنقيح الرائع 2/ 5، كتاب التجارة، الفصل الأوّل.

(3) راجع مفتاح الكرامة 4/ 13، كتاب المتاجر، المقصد الأوّل، الفصل الأوّل.

277
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

استدل على المسألة بأمور ؛ ج‌1، ص : 278

و يدلّ عليه الأخبار السابقة. (1)

______________________________
5- و في الشرح الكبير لابن قدامة الصغير: «لا يجوز بيع الميتة و لا الخنزير و لا الدّم.

قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على القول به ...» ثم استدلّ لذلك بما مرّ من رواية جابر عن النبي «ص» «1».

6- و مرّ عن الفقه على المذاهب الأربعة عن الحنفية و الحنابلة ذكر الدّم في عداد ما لا يصح بيعها. «2»

7- و كلّ من منع بيع النجس بإطلاقه أو ادّعى الإجماع على ذلك فكلامه لا محالة يشمل الدم النجس أيضا، فراجع ما مرّ في تلك المسألة «3».

[استدلّ على المسألة بأمور]

(1) أقول: استدلّ على المسألة بأمور:

[الأوّل: الأدلّة العامة على المنع عن بيع النجس بإطلاقه]

الأوّل: ما مرّ من الأدلّة العامة على المنع عن بيع النجس بإطلاقه و قد أنهيناها إلى ثلاثة عشر دليلا.

و يرد على ذلك ما مرّ تفصيلا من الجواب عنها، فراجع «4».

[الثاني: الإجماع المدّعى و الشهرة المحققة]

الثاني: الإجماع المدّعى و الشهرة المحققة في خصوص المسألة و قد مرّ بعض كلمات الفريقين.

و يرد على ذلك- مضافا إلى احتمال المدركية فلا اعتماد عليهما- أن المترائى من كثير من كلماتهم حتّى ممن ادّعى الإجماع في المسألة كالعلامة أنّ المنع عندهم كان‌

______________________________
(1) ذيل «المغنى» 4/ 13، كتاب البيع، الشرط الثالث من شروط صحّة البيع.

(2) راجع الفقه على المذاهب الأربعة 2/ 231، مبحث بيع النجس و المتنجس من كتاب البيع.

(3) راجع ص 176 و ما بعدها من الكتاب.

(4) راجع ص 185 و ما بعدها من الكتاب.

278
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الثالث: خصوص رواية تحف العقول ؛ ج‌1، ص : 279

..........

______________________________
مستندا إلى عدم الانتفاع المحلّل، و لا محالة ينصرف إلى صورة عدم وجود المنفعة المحلّلة أصلا أو ندرتها بحيث لا توجب القيمة و المالية، أو وقوع البيع بقصد خصوص المنفعة المحرّمة. فلو فرضت منفعة عقلائية محلّلة كالدم للتزريق بالمرضى الرائج في أعصارنا أو لتهيئة السماد و إصلاح الأراضي مثلا فلا وجه لمنع بيعه لذلك. بل قد مرّ منّا وجود الملازمة بين جواز الانتفاع بالشي‌ء و بين صحة المعاملة عليه لذلك.

فراجع ما حكيناه في آخر بحث بيع النجس بإطلاقه عن الخلاف و الغنية و السرائر و الإيضاح و التنقيح و مواضع من المنتهى و التذكرة، «1» حيث يظهر منهم دوران صحة البيع مدار وجود الانتفاع المحلّل.

الثالث: خصوص رواية تحف العقول

حيث ذكر فيها الدّم.

و يرد عليها- مضافا إلى ما فيها من الضعف و التشويش في المتن و عدم ثبوت اعتماد الأصحاب عليها- تعليل المنع فيها بقوله: «لما فيه من الفساد.» و التصريح بجواز الاستعمال و البيع لجهات المنافع من كل شي‌ء يكون لهم فيه الصلاح من جهة من الجهات. و على هذا فيصح بيع الدم للتزريق الذي هو من أهمّ المصالح في أعصارنا.

الرابع: مرفوعة أبي يحيى الواسطي،

قال: مرّ أمير المؤمنين «ع» بالقصّابين فنهاهم عن بيع سبعة أشياء من الشاة. نهاهم عن بيع الدّم و الغدد و آذان الفؤاد و الطحال و النخاع و الخصى و القضيب. فقال له بعض القصّابين: يا أمير المؤمنين، ما الكبد و الطحال إلّا سواء. فقال له: «كذبت يا لكع، ايتوني بتورين من ماء أنبئك بخلاف ما بينهما.» فأتي‌

______________________________
(1) راجع ص 211 و ما بعدها من الكتاب.

279
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الرابع: مرفوعة أبي يحيى الواسطي، ؛ ج‌1، ص : 279

..........

______________________________
بكبد و طحال و تورين من ماء فقال «ع»: «شقوا الطحال من وسطه و شقوا الكبد من وسطه.» ثم أمر «ع» فمرسا في الماء جميعا فابيضت الكبد و لم ينقص شي‌ء منه و لم يبيضّ الطحال و خرج ما فيه كلّه و صار دما كلّه حتى بقي جلد الطحال و عرقه فقال له:

«هذا خلاف ما بينهما، هذا لحم و هذا دم.» «1»

أقول: الخصى بضم الخاء جمع الخصية. و اللكع بضم اللام: اللئيم و الأحمق.

و التور بفتح التاء: الإناء الصغير. و مرس الشي‌ء: نقعه في الماء و مرثه بيده حتى تحلّلت أجزاؤه.

و تقريب الاستدلال بالرواية أن المراد بالدم المذكور فيه الدم النجس الذي تقذفه الذبيحة عند الذبح، و هو الذي تعارف في الجاهلية شربه أو أكله مشويّا و كان له عندهم قيمة، و لذا عبّر عنه في القرآن بقوله: أَوْ دَماً مَسْفُوحاً «2».

و أمّا الدم الطاهر المختلف في الذبيحة فإنّه من القلّة بمكان لا يلاحظ بنفسه، و يكون كالمستهلك في اللحوم، فلا يباع مستقلا.

و نهي القصّابين عن بيعه لا يدلّ على إرادة الدم المختلف، إذ لعلّ القصّابين في تلك الأعصار كانوا بأنفسهم متصدّين لذبح ما كانوا يبيعونه، كما هو المتعارف في أعصارنا أيضا في كثير من البلاد.

و بيان الإمام «ع» لماهية الطحال من تحلّله بالدم مع كونه طاهرا لا يدلّ على كون المراد‌

______________________________
(1) الكافي 6/ 253، كتاب الأطعمة، باب ما لا يؤكل من الشاة و غيرها؛ الخصال/ 341 (الجزء 2)؛ عنهما الوسائل 16/ 359 (ط. أخرى 16/ 438).

280
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الخامس: ما في سنن البيهقي بسنده عن عون بن أبي جحيفة، ؛ ج‌1، ص : 281

..........

______________________________
بالدم أيضا الدم الطاهر، لأنه ذكر قسيما له. ثم لو سلّم إرادة الدم الطاهر فالمنع عن بيعه يدلّ على المنع عن بيع النجس منه بطريق أولى.

و يرد على الاستدلال بالرواية أوّلا بضعف السند، و لم يثبت اعتماد الأصحاب عليها بنحو يجبر به ضعفها.

و ثانيا: بأنّ الظاهر منها النهي عن البيع بقصد الأكل المحرّم، كما يشهد بذلك سنخ شغل القصّابين و وقوعه في سياق سائر الأجزاء المحرّمة، حيث إنّ المنظور النهي عن بيعها للأكل لوضوح جواز اشترائها لطعمة الحيوانات أو لصرف النخاع في الصابون مثلا و على ذلك جرت السيرة في جميع الأعصار.

و مقايسة القصّاب للطحال و الكبد أيضا يدلّ على كون المتبادر النهي عن البيع للأكل، حيث إنّ الكبد مما يؤكل و الطحال مما لا يؤكل.

و كيف كان فلا يشمل النهي في الرواية لبيع الدم و الفضولات للتسميد و نحوه، كما هو المتعارف في أعصارنا. فضلا عن بيع الدم من الإنسان للتزريق بالمرضى، حيث إنّه لا ربط له بشغل القصّابين.

الخامس: ما في سنن البيهقي بسنده عن عون بن أبي جحيفة،

قال: سمعت أبي- و اشترى غلاما حجّاما- فعمد إلى المحاجم فكسرها و قال: إنّ رسول اللّه «ص» نهى عن ثمن الدم و عن ثمن الكلب و مهر البغيّ، و لعن آكل الربا و موكله و الواشمة و المستوشمة، و لعن المصوّر. أخرجه البخاري في الصحيح من أوجه عن شعبة «1».

______________________________
(1) سنن البيهقى 6/ 6، كتاب البيوع، باب النهى عن ثمن الكلب.

281
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

السادس: ما دل من الكتاب و السنة على تحريم الدم، ؛ ج‌1، ص : 282

..........

______________________________
بتقريب أنّ النهى عن ثمن الدّم و حرمته يدلّ على فساد المعاملة عليه.

و يرد عليه- مضافا إلى عدم ثبوت حجيّة الرواية عندنا- أنّ الراوي أعني أبا جحيفة فهم من كلامه «ص» النهي عن الحجامة لا عن بيع الدّم. إلّا أن يقال: إنّ الملاك ظاهر اللفظ المنقول لا فهم الراوي، فتدبّر.

و اعلم أنّ أبا جحيفة اسمه وهب بن عبد اللّه السوائي بضم السين المهملة، كان من صغار صحابة رسول اللّه «ص»، توفّي «ص» و هو لم يبلغ الحلم و لكنه سمع منه «ص» و روى عنه، و جعله أمير المؤمنين «ع» على بيت المال بالكوفة و شهد معه مشاهده كلّها و كان يحبّه و يثق إليه و يسمّيه وهب الخير و وهب اللّه.

و روى عنه ابنه عون أنّه أكل ثريدة بلحم و أتى رسول اللّه «ص» و هو يتجشّى، فقال «ص»: «اكفف عليك جشاءك أبا جحيفة، فإنّ أكثرهم شبعا في الدنيا أكثرهم جوعا يوم القيامة» قال: فما أكل أبو جحيفة ملأ بطنه حتّى فارق الدنيا، كان إذا تعشّى لا يتغدّى و إذا تغدّى لا يتعشى. راجع في ترجمته تنقيح المقال «1».

السادس: ما دلّ من الكتاب و السنّة على تحريم الدم،

مثل قوله- تعالى- في سورة المائدة: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ وَ لَحْمُ الْخنْزير وَ مٰا أُهلَّ لغَيْر اللّٰه به. «2» الآية.

بضميمة قوله «ص»: «إنّ اللّه إذا حرّم شيئا حرّم ثمنه.»‌

و في حاشية المامقاني بعد ذكر هذا الدليل قال ما محصله: «و إن شئت قرّرت هذا الدليل بوجه آخر بأن تقول: إنّه غير منتفع به، حيث نهى الشارع عن المنفعة التي من‌

______________________________
(1) راجع تنقيح المقال 3/ 281.

(2) سورة المائدة (5)، الآية 3.

282
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

السادس: ما دل من الكتاب و السنة على تحريم الدم، ؛ ج‌1، ص : 282

..........

______________________________
شأنها أن تترتّب عليه و هو الأكل، فلا عبرة بالانتفاع به في مثل الصبغ أو التسميد، فتكون المعاملة سفهية.

و إن شئت قرّرت بوجه ثالث بأن تقول: إنّ الدم غير مملوك باتفاق علمائنا بل هو من قبيل ما ليس بمتموّل عرفا و لذا لا يضمنه من أتلفه، و قد اشترط في صحّة البيع كون المبيع مملوكا.» «1»

و يرد على هذا الاستدلال: أن محطّ النظر في الآيات و الروايات المشار إليها ليس تحريم جميع الانتفاعات من الأشياء المذكورة بل تحريم أكلها الذي كان رائجا في الجاهلية، كما يشهد بذلك سياقها و القرائن الموجودة فيها:

ففي سورة البقرة و رد قوله- تعالى-: يٰا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا كُلُوا منْ طَيِّبٰات مٰا رَزَقْنٰاكُمْ وَ اشْكُرُوا للّٰه إنْ كُنْتُمْ إيّٰاهُ تَعْبُدُونَ «2».

ثم عقّبه بقوله: إنَّمٰا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَ الدَّمَ وَ لَحْمَ الْخنْزير وَ مٰا أُهلَّ به لغَيْر اللّٰه «3» الآية.

و الحصر وقع بلحاظ ما تعارف أكله من المحرمات، فلا ينتقض بمثل الكلب و السباع و نحوها لعدم تعارف أكلها في تلك الأعصار.

و وقع نظير ذلك في سورة النحل، فراجع «4».

______________________________
(1) غاية الآمال 1/ 18.

(2) سورة البقرة (2)، الآية 172.

(3) سورة البقرة (2)، الآية 173.

(4) سورة النحل (16)، الآيتان 114 و 115.

283
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

السادس: ما دل من الكتاب و السنة على تحريم الدم، ؛ ج‌1، ص : 282

..........

______________________________
و ورد في الأنعام قوله:
قُلْ لٰا أَجدُ في مٰا أُوحيَ إلَيَّ مُحَرَّماً عَلىٰ طٰاعمٍ يَطْعَمُهُ إلّٰا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خنزيرٍ «1» الآية.

و في آية المائدة أيضا يظهر من الآيات بعدها كون النظر إلى الأكل، حيث ذكر فيها إحلال الطيبات و طعام أهل الكتاب و جواز أكل ما يمسكه الكلاب.

و في الروايات الواردة في بيان ما يحرم من الذبيحة و منها الدم وقع التصريح في كثير منها بلفظ الأكل، و هو الظاهر من غيرها أيضا، فراجع الوسائل «2».

و أما قوله «ص»: «إنّ اللّه إذا حرّم شيئا حرّم ثمنه» فقد مرّ حمله على صورة كون جميع المنافع محرّمة، أو ندرة المحلّلة منها بحيث لا توجب قيمة و ماليّة، أو صورة وقوع البيع بقصد المحرّمة، كما يشهد بذلك مناسبة الحكم و الموضوع و ظهور الشرط في كونه علّة للجزاء.

و أمّا ما ذكره المامقاني من كون التسميد من المنافع النادرة و كون المعاملة بلحاظه سفهية فالمناقشة فيه واضحة. و كذا قوله بعدم كون الدّم مملوكا متمولا عرفا، إذ الملكية و التموّل دائران مدار المنافع، و هي تختلف بحسب الدماء و الأزمنة و الأمكنة و الشرائط. و تزريق الدّم بالمرضى من أهمّ المصالح و المنافع في أعصارنا و له ماليّة ممتازة في المحافل الطبّية فلا وجه لمنع المعاملة عليه.

______________________________
(1) سورة الأنعام (6)، الآية 145.

(2) راجع الوسائل 16/ 359 و ما بعدها (طبعة أخرى 16/ 438 و ما بعدها)، الباب 31 من أبواب الأطعمة المحرمة.

284
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

فرع: الدم الطاهر إذا فرضت له منفعة محللة ؛ ج‌1، ص : 285

[فرع: الدم الطاهر إذا فرضت له منفعة محلّلة]

فرع و أمّا الدم الطاهر إذا فرضت له منفعة محلّلة كالصبغ و قلنا بجوازه (1) ففي جواز بيعه و جهان. أقواهما الجواز. لأنّها عين طاهرة ينفع بها منفعة محلّلة. (2)

و أمّا مرفوعة الواسطي المتضمنة لمرور أمير المؤمنين «ع» بالقصّابين و نهيهم عن بيع سبعة: بيع الدم و الغدد و آذان الفؤاد و الطحال، إلى آخرها (3) فالظاهر إرادة حرمة البيع للأكل. و لا شكّ في تحريمه لما سيجي‌ء من أنّ قصد المنفعة المحرّمة في المبيع موجب لحرمة البيع بل بطلانه. (4)

و صرّح في التذكرة بعدم جواز بيع الدم الطاهر لاستخباثه. (5)

و لعلّه لعدم المنفعة الظاهرة فيه غير الأكل المحرّم.

______________________________
(1) أقول: لا وجه للترديد في جوازه، إلّا أن يقال: إنّ الأصل في الأشياء و الأفعال هو الحظر لا الإباحة.

(2) قد ظهر مما مرّ منا عدم الفرق بين النجس و الطاهر بعد وجود المنفعة المحلّلة الموجبة للمالية عرفا.

(3) قد مرّ منّا حمل الدم في المرفوعة على الدم النجس المسفوح الذي تقذفه الذبيحة عند الذبح، فراجع.

(4) سيجي‌ء البحث في ذلك في مسألة بيع العنب بقصد أن يجعل خمرا.

(5) قال في التذكرة: «و الدم كلّه نجس فلا يصحّ بيعه. و كذا ما ليس بنجس منه‌

285
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

تتمة ؛ ج‌1، ص : 286

..........

______________________________
كدم غير ذي النفس السائلة الاستخباثه.»
«1»

تتمة

قال في مصباح الفقاهه: «ربما يتوهم أن بيع الدم لما كان إعانة على الإثم فيكون محرّما لذلك.

و فيه- مضافا إلى ما سيأتي من عدم الدليل على حرمتها- أنّ النسبة بينها و بين بيع الدّم هو العموم من وجه، فإنّه قد يشتريه الإنسان لغير الأكل كالصبغ و التسميد و نحوهما، فلا يلزم منه إعانة على الإثم بوجه.

و على تقدير كونه إعانة على الإثم فالنهي إنّما تعلق بعنوان خارج عن البيع فلا يدل على الفساد.» «2»

أقول: أراد بذلك أنّ النهي إن تعلق بنفس عنوان المعاملة كان الظاهر منه الإرشاد إلى فساده. و أمّا إذا تعلق بعنوان آخر فغايته وقوع الفعل محرما، و لا يدلّ على فساد المعاملة.

و سيجي‌ء من المصنف البحث في آية التعاون، فانتظر.

______________________________
(1) التذكرة 1/ 464، كتاب البيع، المقصد الأوّل، الفصل الرابع.

(2) مصباح الفقاهة 1/ 56.

286
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

المسألة الرابعة: في بيع المني ؛ ج‌1، ص : 287

 

[المسألة الرابعة: في بيع المني]

الرابعة: لا إشكال في حرمة بيع المنيّ لنجاسته و عدم الانتفاع به إذا وقع في خارج الرحم. (1)

______________________________
4- بيع المنيّ

[مفاهيم الكلمات المذكورة فيها]

(1) قبل الورود في بيان حكم المسألة نتعرض إجمالا لمفاهيم الكلمات المذكورة فيها أعني المني، و العسب، و الملاقيح، و المضامين.

[أما المنيّ]

فنقول: أما المنيّ بتشديد الياء ففي أصله و جهان:

الأوّل: التقدير. قال الراغب في المفردات: «المني: التقدير. يقال: منى لك الماني، أي قدّر لك المقدّر ... و المنيّ للذي قدّر به الحيوانات. قال: أَ لَمْ يَكُ نُطْفَةً منْ مَنيٍّ يُمْنىٰ منْ نُطْفَةٍ إذٰا تُمْنىٰ. أي تقدّر بالعزّة الإلهية ما لم يكن منه.» «1»

و في المصباح: «منى اللّه الشي‌ء من باب رمى: قدّره.» «2»

الثاني: الإراقة. قال في المجمع: «أَ فَرَأَيْتُمْ مٰا تُمْنُونَ، أي تدفقون في الأرحام من‌

______________________________
(1) المفردات/ 496. و الآية الأولى من سورة القيامة (75)، رقمها 37؛ و الثانية من سورة النجم (53)، رقمها 46.

(2) المصباح المنير/ 582 (الجزء 2).

 

287
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

و أما العسب ؛ ج‌1، ص : 288

..........

______________________________
المنيّ، و هو الماء الغليظ الذي يكون منه الولد. قوله:
منْ نُطْفَةٍ إذٰا تُمْنىٰ قيل: أي تدفق في الرحم. و قيل من المني. يقال: أمنى الرجل يمني: إذا أنزل المنيّ.» «1»

أقول: قالوا: و من هذا أخذ منى مكّة. قال في المصباح: «و سمّي منى لما يمنى به من الدماء، أي يراق.» «2»

و كيف كان فالظاهر أنّ المنيّ يطلق على الماء المذكور بعد خروجه من الفحل.

[و أمّا العسب]

و أمّا العسب و كذا العسيب فيطلقان على الماء المذكور حال كونه في صلب الفحل.

و كذا على عمل الطروقة و على أجرتها:

ففي نهاية ابن الأثير: «فيه: أنه نهى عن عسب الفحل. عسب الفحل: ماؤه فرسا كان أو بعيرا أو غيرهما. و عسبه أيضا: ضرابه. يقال: عسب الفحل الناقة يعسبها عسبا. و لم ينه عن واحد منها، و إنّما أراد النهي عن الكراء الذي يؤخذ عليه ... و قيل: يقال لكراء الفحل: عسب. و عسب فحله يعسبه، أي أكراه.» «3»

و في المجمع: «عسيب الفحل: أجرة ضرابه، و منه نهي عن عسيب الفحل. و عسيب الفحل: ماؤه فرسا كان أو بعيرا أو غيرهما. يقال: عسب الفحل الناقة يعسبها عسبا. و لم ينه عنه، و إنّما أراد النهي عن الكراء الذي يؤخذ عليه للجهالة التي فيه من تعيين العمل و لأنه قد تلقح و قد لا تلقح.» «4»

______________________________
(1) مجمع البحرين 1/ 399 (ط. أخرى/ 80). و الآية الأولى من سورة الواقعة (56)، رقمها 58.

(2) المصباح المنير/ 582 (الجزء 2).

(3) النهاية 3/ 234.

(4) مجمع البحرين 2/ 121 (ط. أخرى/ 123).

288
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

أما الملاقيح و المضامين ؛ ج‌1، ص : 289

..........

______________________________
و في مبسوط الشيخ: «عسب الفحل: هو ضراب الفحل، و ثمنه: أجرته. و قد يسمّى الأجرة عسب الفحل مجازا لتسمية الشي‌ء باسم ما يجاوره، مثل المزادة؛ سمّوها راوية و هي اسم الجمل الذي يستقى عليه.

و إجارة الفحل للضراب مكروه و ليس بمحظور، و عقد الإجارة عليه غير فاسد.» «1»

[أمّا الملاقيح و المضامين]

و أمّا الملاقيح و المضامين ففي لغة لقح من النهاية: «و فيه: أنّه «نهى عن الملاقيح و المضامين.» الملاقيح: جمع ملقوح، و هو جنين الناقة. يقال: لقحت الناقة و ولدها ملقوح به إلّا أنّهم استعملوه بحذف الجارّ. و الناقة ملقوحة.» «2»

و في لغة ضمن منه: «و فيه: أنّه «نهى عن بيع المضامين و الملاقيح.» المضامين: ما في أصلاب الفحول و هي جمع مضمون. يقال: ضمن الشي‌ء بمعنى تضمّنه ... و الملاقيح:

جمع ملقوح و هو ما في بطن الناقة. و فسّرهما مالك في الموطّأ بالعكس ...» «3»

و في الوسائل نقلا عن الصدوق في معاني الأخبار بسنده عن القاسم بن سلام بإسناد متصل إلى النبي «ص» أنه نهى عن المجر. و هو أن يباع البعير أو غيره مما في بطن الناقة.

و نهى عن الملاقيح و المضامين. فالملاقيح: ما في البطون و هي الأجنّة، و المضامين: ما في أصلاب الفحول. و كانوا يبيعون الجنين في بطن الناقة و ما يضرب الفحل في عامه و في أعوام.» «4»

______________________________
(1) المبسوط 2/ 155، كتاب البيوع، فصل في بيع الغرر.

(2) النهاية لابن الأثير 4/ 263.

(3) النهاية لابن الأثير 3/ 102. و انظر الموطّأ 2/ 654 (ط. أخرى 2/ 70)، في باب ما لا يجوز من بيع الحيوان من كتاب البيوع.

(4) الوسائل 12/ 262، الباب 10 من أبواب عقد البيع و شروطه، الحديث 2.

289
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

أما الملاقيح و المضامين ؛ ج‌1، ص : 289

..........

______________________________
و راجع في هذا المجال دعائم الإسلام أيضا
«1».

و في التذكرة: «لا يجوز بيع الملاقيح، و هي ما في بطون الأمّهات، و لا المضامين و هي ما في أصلاب الفحول ... و منهم من عكس التفسيرين. و لا نعرف خلافا بين العلماء في فساد هذين البيعين للجهالة و عدم القدرة على التسليم. لأنّ النبي «ص» نهى عن بيع الملاقيح و المضامين. و لا خلاف فيه.» «2»

و في الشرح الكبير لابن قدامة الصغير في مسألة عدم جواز بيع الحمل في البطن قال: «و قد روى سعيد بن المسيّب عن أبي هريرة: أنّ النبي «ص» نهى عن بيع الملاقيح و المضامين. قال أبو عبيد: الملاقيح: ما في البطون، و هي الأجنّة. و المضامين: ما في أصلاب الفحول. فكانوا يبيعون الجنين في بطن الناقة و ما يضربه الفحل في عامه أو في أعوام و أنشد:

«إنّ المضامين التي في الصلب

ماء الفحول في الظهور الحدب

«3» أقول: الظاهر أنّ المقصود بيع الملاقيح و المضامين بيع ما تكوّن أو يتكون أو يولد حيوانا من هذا الفحل أو من هذه الناقة لا بيع النطفة و الماء.

و هذا بخلاف العسب و العسيب؛ فإنّ المقصود به بيع الماء قبل خروجه من الفحل. كما أن المقصود ببيع المني بيعه بعد خروجه منه سواء أريق في خارج الرحم أو فيه.

و على هذا فلا يرتبط بيع الملاقيح و المضامين بمسألتنا هذه أعني بيع الماء بشقوقه. و لذا‌

______________________________
(1) راجع دعائم الإسلام 2/ 21، كتاب البيوع، الفصل 3 (ذكر ما نهى عنه من بيع الغرر)، الحديث 36.

(2) التذكرة 1/ 468، كتاب البيع، المقصد الأوّل، الفصل الرابع.

(3) ذيل «المغنى» 4/ 27، كتاب البيع، الشرط السادس من شروط صحة البيع.

290
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

شقوق بيع النطفة ثلاثة ؛ ج‌1، ص : 291

 

..........

______________________________
ذكروا مسألة بيع الملاقيح و المضامين في باب بيع الغرر و ما لا يقدر على تسليمه.

و نظيرهما بيع حبل الحبلة، أعني بيع نتاج النتاج. و أفردوا بيع العسيب و بيع المني و ذكروا بيع المني في باب بيع النجس.

و بما ذكرنا يظهر المناقشة فيما ذكره في جامع المقاصد و تبعه المصنّف فيما يأتي من عبارته و تبعهما في مصباح الفقاهة «1».

قال في جامع المقاصد في مسألة بيع العسيب: «و الفرق بينه و بين الملاقح: أنّ المراد بها النطفة بعد استقرارها في الرحم. و العسب هي قبل استقرارها. و المجر أعمّ من كلّ منهما.» «2»

أقول: في النهاية: «فيه: أنّه «نهى عن المجر.» أي بيع المجر، و هو ما في البطون كنهيه عن الملاقيح.» «3»

[شقوق بيع النطفة ثلاثة]

و كيف كان فشقوق بيع النطفة ثلاثة عنونها المصنّف هنا:

الأوّل: بيع المني بعد ما أريق في خارج الرحم. الثاني: بيعه بعد ما أريق في الرحم.

الثالث: بيع ما في صلب الفحل من الماء، و هو المسمّى بعسيب الفحل. و يلحق بذلك إجارة الفحل للضراب.

ففي المسألة ثلاثة فروع:

الأوّل: في بيع المني بعد ما خرج و وقع في خارج الرحم.

و المصنف حكم بحرمة بيعه حينئذ، لنجاسته و عدم الانتفاع به. و الظاهر منه إرادة الحرمة‌

______________________________
(1) راجع مصباح الفقاهة 1/ 58.

(2) جامع المقاصد 4/ 53، كتاب المتاجر، المقصد الأوّل، الفصل الثانى.

(3) النهاية لابن الأثير 4/ 298.

 

291
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الأول: في بيع المني بعد ما خرج و وقع في خارج الرحم ؛ ج‌1، ص : 291

..........

______________________________
التكليفية. و لكن الظاهر من الأخبار و كلمات القدماء من أصحابنا و كذا فقهاء السنة في باب المعاملات إرادة الحرمة الوضعية أعني فساد المعاملة، و كذا في النهي و عدم الجواز كما مرّ تفصيله.

و قد تحصل مما حررناه سابقا منع كون النجاسة بنفسها مانعة عن الصحة و حكينا كلمات الفقهاء في هذا المجال. منها كلام ابن زهرة في الغنية و كلام ابن إدريس في السرائر و كلمات العلامة في التذكرة و فخر الدين في الإيضاح، فراجع «1».

و أمّا عدم الانتفاع فإن أريد به حرمة الانتفاع بالنجس مطلقا كما مرّ عن التنقيح و شرح الإرشاد الإجماع عليها «2» فهي ممنوعة.

و إن أريد بذلك عدم تحقق الانتفاع المحلّل خارجا فلا يعدّ مالا‌

فيرد عليه: أنّ هذا يختلف بحسب الأمكنة و الأزمنة و الشرائط.

و في أعصارنا يمكن أن ينتفع بالنطفة الملقاة في خارج الرحم في ظروف خاصة في المصانع الحديثة بالتجزية أو تهذيب النسل في الحيوانات أو بالتركيب مع نطفة الأنثى فتصير بذلك مالا يرغب فيه و يبذل بإزائه المال. هذا.

و يظهر من خلاف الشيخ أنّ النجاسة بنفسها مانعة في المقام كما في غيره. قال فيه (المسألة 270): «بيض ما لا يؤكل لحمه لا يجوز أكله و لا بيعه. و كذلك منيّ ما لا يؤكل لحمه. و للشافعي فيه و جهان. دليلنا: إجماع الفرقة و أخبارهم، فإنّها تتضمن ذكر البيض. فأمّا المني فإنّه نجس عندنا و ما كان نجسا لا يجوز بيعه و لا‌

______________________________
(1) راجع ص 211 و ما بعدها من الكتاب.

(2) راجع ص 277 من الكتاب.

292
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الأول: في بيع المني بعد ما خرج و وقع في خارج الرحم ؛ ج‌1، ص : 291

..........

______________________________
أكله بلا خلاف.»
«1»

أقول: ذكره للبيض لعلّه يشهد على إرادته بيع المني بعد خروجه، بل قد مرّ أنّه قبل الخروج لا يسمّى منيّا، فراجع.

و الأخبار الواردة في بيض ما لا يؤكل لحمه تدلّ على حرمة أكلها و لا تعرّض فيها لعدم جواز بيعها، فراجع الوسائل «2».

نعم لو انحصرت منفعتها في الأكل فيحرم بيعها أيضا.

و أمّا إذا فرض الانتفاع بها في تكثير نسل الحيوان أو في المصانع الحديثة فلا نرى وجها لحرمة بيعها و فساده.

و مخالفة الشافعي في بيع المني يحتمل كونها مستندة إلى قوله بالطهارة في بعض أقسامه:

ففي أمّ الشافعي: «قال الشافعي: و المني ليس بنجس ... كلّ ما خرج من ذكر من رطوبة بول أو مذي أو ودي أو ما لا يعرف أو يعرف فهو نجس كلّه ما خلا المني. و المني:

الثخين الذي يكون منه الوالد، الذي يكون له رائحة كرائحة الطلع، ليس لشي‌ء يخرج من ذكر رائحة طيّبة غيره.» «3»

و راجع في هذا المجال الفقه على المذاهب الأربعة «4».

______________________________
(1) الخلاف 3/ 166 (ط. أخرى 2/ 73)، كتاب البيوع.

(2) راجع الوسائل 16/ 347 (طبعة أخرى 16/ 422)، الباب 20 من أبواب الأطعمة و الأشربة.

(3) الأمّ 1/ 47، كتاب الطهارة، باب المنى.

(4) راجع الفقه على المذاهب الأربعة 1/ 13، كتاب الطهارة، مبحث الأعيان النجسة.

293
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الثاني: بيع المني بعد ما وقع في الرحم ؛ ج‌1، ص : 294

[الثاني: بيع المني بعد ما وقع في الرحم]

و لو وقع فيه فكذلك لا ينتفع به المشتري، لأنّ الولد نماء الأمّ في الحيوانات عرفا و للأب في الإنسان شرعا. (1)

لكنّ الظاهر أنّ حكمهم بتبعيته الأمّ متفرّع على عدم تملك المني و إلّا لكان بمنزلة البذر المملوك يتبعه الزرع. فالمتعيّن التعليل بالنجاسة. لكن قد منع بعض من نجاسته إذا دخل من الباطن إلى الباطن.

______________________________
(1) هذا هو الفرع الثاني في المسألة، أعني بيع المني بعد ما وقع في الرحم. و اختار المصنّف في هذه الصورة أيضا حرمة البيع. و علّلها بأنّه لا ينتفع به المشتري، لأنّ الولد في الحيوانات تابع للأمّ و نماء لها عرفا، فإذا دخل المني في رحمها صار بمنزلة الجزء منها و صار ملكا لصاحب الأمّ قهرا، و ليس كالبذر المغروس في أرض الغير حيث قالوا بكون نمائه لصاحب البذر.

هذا محصّل ما أفاده المصنّف في مقام التعليل ثمّ ذكر أنّ هذا متفرّع على عدم تملّك المني و إلّا لكان بمنزلة البذر المملوك فالمتعين التعليل بالنجاسة.

أقول: كان الأولى التعليل بأنّه لا ينتفع المشتري بشرائه و معاملته لوضوح أنّه ينتفع بنفسه بتكوّن الولد منه. و قد أشار إلى ذلك المحقق الإيرواني في حاشيته فقال: «بل ينتفع به لكنه ملكه و نماء ملكه، فلا معنى لأن يشتريه.» «1»

و أمّا التعليل بالنجاسة فيرد عليه منع النجاسة كما أشار إليه و يأتي بيانه.

و إن شئت توضيح حكم هذا الفرع بنحو أو في فنقول: يمكن أن يستدل لمنع المعاملة فيه بأمور:

______________________________
(1) حاشية المكاسب للمحقق الإيروانى/ 5.

294
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الثاني: بيع المني بعد ما وقع في الرحم ؛ ج‌1، ص : 294

..........

______________________________
الأوّل: النجاسة.

و يرد عليه- مضافا إلى ما مرّ من منع كونها بنفسها مانعة عن الصحة ما لم توجب عدم الانتفاع المحلّل- منع أصل النجاسة في المقام، لانصراف أدلّة نجاسة المني و نحوه إلى صورة وقوعه في خارج البدن. و أمّا حال كونه في الباطن و إن تحرّك من موضع إلى موضع أو من باطن إلى باطن آخر فلا دليل على نجاسته. و نظير المني في ذلك الدم و البول و الغائط.

الثاني: جهالة المبيع بحسب المقدار فتكون المعاملة غررية.

و يرد على ذلك أنّ الجهالة توجب البطلان إذا كان المطلوب كمية الشي‌ء بحيث تختلف القيمة باختلافها، و المني ليس كذلك إذ الولد يتكون من جزء صغير منه و الباقي يقع هدرا. هذا مضافا إلى أنّ جهالة المقدار تضرّ في مثل البيع و الإجارة دون مثل الصلح المبني على المسامحة. و قد تعرّض لذلك المحقق الإيرواني في حاشيته «1».

الثالث: الجهالة من جهة احتمال عدم تحقق اللقاح و صيرورته هدرا.

و يرد عليه أنّ هذا لا يوجب عدم القيمة و المالية عرفا. و نظيره البذر المحتمل لأن يفسد و لا ينبت و مع ذلك لا تسقط عن المالية و مثله الفسيلة تشترى و تغرس و ربما تفسد.

الرابع: عدم قدرة البائع على تسليم المبيع.

و فيه: أنّ المعتبر فيها القدرة العرفية، و هي حاصلة بكون الحيوان تحت يد المشتري.

الخامس: ما ذكره المصنّف، و هو أنّ المشتري لا ينتفع بهذا الشراء، إذ مرجعه إلى اشتراء مال نفسه كما مرّ بيانه.

______________________________
(1) راجع حاشية المكاسب للمحقق الإيروانى/ 5.

295
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الثاني: بيع المني بعد ما وقع في الرحم ؛ ج‌1، ص : 294

..........

______________________________
قال في مصباح الفقاهة: «و الذي يسهّل الخطب أن السيرة القطعية من العقلاء و المتشرّعة قائمة على تبعية النتاج للأمّهات في الحيوانات. و قد أمضاها الشارع فلا يمكن التخطّي عنها، كما أنّ الولد للفراش في الإنسان بالنصّ و الإجماع القطعيين.

و من هنا يعاملون مع نتاج الحيوانات معاملة الملك حتّى مع العلم بأن اللقاح حصل من فحل شخص آخر. و إلّا فكان اللازم عليهم إمّا ردّ النتاج إلى صاحب الفحل إن كان معلوما، أو المعاملة معه معاملة مجهول المالك إن كان المالك مجهولا. و هذا شي‌ء لا يتفوّه به ذو مسكة.» «1»

أقول: قيام السيرة على ما ذكر صحيح إجمالا.

و لكن يمكن أن يقال باستنادها إلى مهانة نطف الحيوانات عند العقلاء و عدم تقويمهم لها نظير سائر فضولات أبدانها. و لكن لو فرض قلّة الحيوان الفحل في مكان و شدّة الحاجة إلى نطفته بحيث صارت ذات قيمة و ماليّة معتنى بها فأجبر أحد فحل الغير على الطروقة فهل يحلّ نتاجه حينئذ لمالك الأنثى مع كون النطفة ذات قيمة و ماليّة معتنى بها؟ الالتزام بذلك مشكل و لا يبعد القول بجواز شراء النطفة حينئذ.

ثم لا يخفى أنّ قوله «ص»: «الولد للفراش» يكون في قبال العاهر المدّعي، و لا ربط له بمسألة كون الولد تابعا للأب أو الأمّ.

______________________________
(1) مصباح الفقاهة 1/ 59.

296
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الثالث: بيع ماء الفحل قبل الاستقرار في الرحم ؛ ج‌1، ص : 297

 

[الثالث: بيع ماء الفحل قبل الاستقرار في الرحم]

و قد ذكر العلامة من المحرّمات بيع عسيب الفحل، و هو ماؤه قبل الاستقرار في الرحم. (1)

______________________________
(1) هذا هو الفرع الثالث في المسألة. و حيث إنه محلّ للابتلاء و كان معنونا في الأخبار و فقه الفريقين فالأولى نقل بعض الكلمات فيه و إن كان محطّ النظر في كثير منها كراء الفحل لا بيع نطفته:

[نقل بعض كلمات علماء الفريقين]

1- قال الشيخ في بيع الخلاف (المسألة 269): «إجارة الفحل للضراب مكروه و ليس بمحظور. و عقد الإجارة عليه غير فاسد. و قال مالك: يجوز و لم يكرهه. و قال أبو حنيفة و الشافعي: إن الإجارة فاسدة و الأجرة محظورة. دليلنا: أنّ الأصل الإباحة، فمن ادعى الحظر و المنع فعليه الدلالة. فأمّا كراهية ما قلناه فعليه إجماع الفرقة و أخبارهم.» «1»

أقول: لو شكّ في إباحة الضراب فالمرجع فيه أصل الإباحة. و أمّا لو شك في صحة الإجارة عليه فالأصل يقتضي فسادها و عدم ترتب الأثر عليها إلّا أن يراد بأصل الإباحة في كلامه عموم أدلّة الإجارات و العقود.

2- و في النهاية: «و كسب صاحب الفحل من الإبل و البقر و الغنم إذا أقامه للنتاج ليس به بأس، و تركه أفضل.» «2»

3- و في المبسوط: «عسب الفحل هو ضراب الفحل. و ثمنه أجرته. و قد يسمّى الأجرة عسب الفحل مجازا لتسمية الشي‌ء باسم ما يجاوره، مثل المزادة سمّوها رواية و هي اسم الجمل الذي يستقى عليه. و إجارة الفحل للضراب مكروه و ليس بمحظور. و عقد الإجارة‌

______________________________
(1) الخلاف 3/ 166 (ط. أخرى 2/ 73)، كتاب البيوع.

(2) النهاية/ 366، كتاب المكاسب، باب المكاسب المحظورة ...

 

297
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

نقل بعض كلمات علماء الفريقين ؛ ج‌1، ص : 297

..........

______________________________
عليه غير فاسد.»
«1»

أقول: قد مرّ في أوّل المسألة أنّ لفظ العسب و العسيب يطلقان على ماء الفحل قبل الطروقة و على الطروقة و على أجرتها.

4- و قال العلّامة في التذكرة: «يحرم بيع عسيب الفحل، و هو نطفته، لأنه غير متقوّم و لا معلوم و لا مقدور عليه. و لا نعلم فيه خلافا لأنّ النبي «ص» نهى عنه. أمّا إجارة الفحل للضراب فعندنا مكروهة و ليست محرّمة، و هو أضعف وجهي الشافعي. و به قال مالك، لأنها منفعة مقصودة يحتاج إليها في كلّ وقت، فلو لم يجز الإجارة فيها تعذّر تحصيلها لعدم وجوب البذل على المالك. و قال أبو حنيفة و الشافعي في أصحّ وجهيه و أحمد: إنّها محرّمة، لأنه «ص» نهى عن عسيب الفحل. و لأنه لا يقدر على تسليمه فأشبه إجارة الآبق. و لأنه متعلق باختيار الفحل و شهوته. و لأن القصد هو الماء و هو مما لا يجوز إفراده بالبيع.

و نحن نقول بموجب النهي، لتناوله البيع أو التنزيه، و نمنع انتفاء القدرة، و العقد وقع على الإنزاء. و الماء تابع كالظئر.» «2»

أقول: و راجع في هذا المجال المنتهى أيضا «3».

و العلامة في التذكرة تعرّض لبيع الملاقيح و المضامين في مسألة ثمّ عقّبها بمسألة بيع عسيب الفحل، فيظهر بذلك أنّ بيع عسيب الفحل غير بيع المضامين. و قد مرّ منّا أنّ‌

______________________________
(1) المبسوط 2/ 155، كتاب البيوع، فصل في بيع الغرر.

(2) التذكرة 1/ 468، كتاب البيع، المقصد الأوّل، الفصل الرابع.

(3) راجع المنتهى 1/ 1019، كتاب التجارة، المقصد الثانى، البحث الثانى.

298
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

نقل بعض كلمات علماء الفريقين ؛ ج‌1، ص : 297

..........

______________________________
المقصود من بيع الملاقيح و المضامين بيع الحيوان المقدّر الذي يتكوّن من هذه الأنثى أو من هذا الفحل. و من بيع العسيب بيع النطفة في صلب الفحل قبل الضراب، فتدبّر و لا تخلّط.

و بذلك يظهر الإشكال على من توهم اتحاد بيع العسب مع بيع المضامين و اتحاد بيع النطفة في الرحم مع بيع الملاقيح.

و هاهنا إشكال معروف في كتاب الإجارة أشار إليه العلامة هنا في آخر كلامه، و هو أنّ البيع تمليك للعين و الإجارة تمليك للمنفعة لا للعين، و على هذا فيشكل إجارة الفحل للضراب و المرأة للرضاع و الشاة للانتفاع بلبنها و الشجرة للانتفاع بثمرها و نحو ذلك، لاستلزامها في هذه الموارد تملك المستأجر للأعيان و استهلاكها عنده، و هذا خلاف مقتضى الإجارة.

و أجاب عن هذا الإشكال في إجارة العروة بأنّ المناط في المنفعة هو العرف، و عندهم يعدّ اللبن منفعة للشاة و الثمرة منفعة للشجر «1».

و يرد عليه عدم الاعتبار بالإطلاق المسامحي العرفي هنا، إذ المنفعة في كتاب الإجارة يراد بها ما يكون قسيما للعين.

و أجاب عنه في إجارة مستند العروة بما محصّله: «أنّ النظر في العقد في هذه الموارد ليس إلى تمليك الأعيان المذكورة بل إلى تمليك منفعة العين المستأجرة، و هي وصف قائم بها حين الإجارة أعني أهليّتها و استعدادها لأن يتولّد منها الأعيان المذكورة. و هذه الأعيان‌

______________________________
(1) راجع العروة الوثقى 2/ 620 (ط. المكتبة العلمية الإسلامية، سنة 1399 ه‍. ق) كتاب الإجارة، الفصل 6، المسألة 12.

299
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

نقل بعض كلمات علماء الفريقين ؛ ج‌1، ص : 297

..........

______________________________
تتكوّن قهرا في ملك من ملك الوصف المذكور. فالمستأجر لم يتملك بالمباشرة بسبب عقد الإجارة إلّا الاستعداد الخاصّ و هو من قبيل الأوصاف و المنافع. و تملك الأعيان المذكورة تابع عرفا لمن تملك الاستعداد المذكور. و هذا نظير من يستأجر شبكة للصيد، فإنّ استعداد الشبكة إذا انتقل إلى المستأجر فلا محالة تتبعه مالكيته للصيد الملقى فيها.»
«1»

و لكن الأستاذ آية اللّه البروجردي- طاب ثراه- كان ينكر تعريف الإجارة بتمليك المنفعة و كان يقول: إنّ البيع و الإجارة كليهما إضافتان متعلقتان بالأعيان، فكما تقول:

بعتك هذه الدار تقول: آجرتك هذه الدار. غاية الأمر أنّ مفهوم الإجارة عند العقلاء تقتضي استحقاق المستأجر للانتفاع بالعين مع بقائها مدّة الانتفاع بها، و الانتفاع من كل شي‌ء بحسب ما يترقب منه.

و أمّا اقتضاؤها لبقاء العين المستأجرة بعد مدّة الانتفاع بها فضلا عن بقاء ما يتولد منها فلا دليل عليه. إلّا أن يثبت هذا بالإجماع.

فإن قلت: نعم الإجارة أيضا متعلقة بالعين و لكن مفاد الإجارة هو تمليك المنفعة و بذلك تفترق عن العارية و لذا يعدّ المستأجر نفسه مالكا للمنفعة و له نقلها إلى غيره.

قلت: لو صحّ هذا لزم صحة إنشاء إجارة الدار بقولنا: ملكتك سكنى هذه الدار.

و الالتزام بذلك مشكل. هذا. و تحقيق المسألة موكول إلى محلّه.

5- و في بيع الشرائع عدّ من المكاسب المكروهة: «ضراب الفحل.» «2»

6- و في مختصر أبي القاسم الخرقي في فقه الحنابلة قال: «و بيع عسب الفحل غير جائز.»‌

______________________________
(1) مستند العروة/ 357 و ما بعدها، ذيل المسألة 7 من الفصل 6 من كتاب الإجارة.

(2) الشرائع/ 265 (- ط. أخرى 2/ 11)، كتاب التجارة، الفصل الأوّل.

300
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

نقل بعض كلمات علماء الفريقين ؛ ج‌1، ص : 297

..........

______________________________
7- و ذيّله في المغني بقوله: «عسب الفحل: ضرابه. و بيعه أخذ عوضه، و تسمّى الأجرة عسب الفحل مجازا. و إجارة الفحل للضراب حرام و العقد فاسد. و به قال أبو حنيفة و الشافعي. و حكي عن مالك جوازه. قال ابن عقيل: و يحتمل عندي الجواز لأنّه عقد على منافع الفحل و نزوه، و هذه منفعة مقصودة، و الماء تابع. و الغالب حصوله عقيب نزوه فيكون كالعقد على الظئر ليحصل اللبن في بطن الصبيّ.

و لنا: ما روى ابن عمر: أنّ النبي «ص»: «نهى عن بيع عسب الفحل.» رواه البخاري.

و عن جابر قال: «نهى رسول اللّه «ص» عن بيع ضراب الجمل.» رواه مسلم. و لأنّه ممّا لا يقدر على تسليمه فأشبه إجارة الآبق. و لأن ذلك متعلق باختيار الفحل و شهوته. و لأنّ المقصود هو الماء و هو مما لا يجوز إفراده بالعقد و هو مجهول. و إجارة الظئر خولف فيه الأصل لمصلحة بقاء الآدمي فلا يقاس عليه ما ليس مثله ...» «1»

أقول: العسب- كما مرّ- يطلق على نفس الماء في الصلب و على الضراب و على الثمن و الأجرة لهما. و المذكور في كلام الخرقي البيع، و في كلام الشارح الإجارة، و ليس في خبر ابن عمر لفظ البيع بل النهي عن عسب الفحل، فراجع البخاري «2».

و لا مجال للنهي عن نفس الماء و لا عن نفس الضراب، فلا محالة يراد به النهي عن الثمن أو الأجرة أو كليهما.

و خبر جابر رواه مسلم بسنده عنه، يقول: «نهى رسول اللّه «ص» عن بيع ضراب الجمل و عن بيع الماء و الأرض لتحرث.» «3»

______________________________
(1) المغنى 4/ 277، كتاب البيوع، باب المصراة و غير ذلك.

(2) راجع صحيح البخاري 2/ 37، كتاب الإجارة، باب عسب الفحل.

(3) صحيح مسلم 3/ 1197، كتاب المساقاة، باب تحريم فضل بيع الماء ... و تحريم بيع ضراب الفحل.

301
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

ما تمسكوا به للمنع في المقام أمور ؛ ج‌1، ص : 302

..........

______________________________
و بيع ضراب الجمل فيه ظاهر في إجارته له، كما أنّ المقصود ببيع الماء و الأرض أيضا إجارتهما للحرث.

و إطلاق لفظ البيع على نقل المنفعة كان شائعا كما يظهر لمن تتبع أخبار الفريقين.

8- و في الفقه على المذاهب الأربعة عن الحنابلة: «و من الأشياء التي لا تصحّ إجارتها ذكور الحيوانات التي تستأجر لإحبال أنثاها، فلا يحلّ استيجار ثور ليحبل بقرة و لا جملا ليحبل ناقة و هكذا لأنّ المقصود من ذلك إنما هو منيه، و هو محرّم لا قيمة له فلا يصحّ الاستيجار عليه، فإذا احتاج شخص إلى ذلك و لم يجد من يعطيه فإنّه يصحّ له أن يدفع الأجرة و يكون الإثم على من أخذها ...» «1»

أقول: بعد حلّية العمل و الاحتياج إليه لا نرى وجها لحرمة أخذ الأجرة عليه. نعم يمكن كون خسّته موجبة لكراهة التكسب به.

هذه بعض كلماتهم في المقام.

[ما تمسّكوا به للمنع في المقام أمور]

إذا عرفت هذا فنقول: الأصل الأوّلي في المعاملات و إن كان هو الفساد، إذ الأصل عدم ترتّب الأثر، لكن عمومات العقود و البيع و الإجارة تقتضي صحّتها إلّا فيما ثبت خلافها. و ما تمسّكوا به للمنع في المقام أمور:

الأوّل: النجاسة.

و يرد عليه- مضافا إلى منع نجاسة ما في الباطن كما مرّ- منع مانعية النجاسة بنفسها، و الملاك في الصحة تحقق المنفعة المحلّلة.

الثاني: عدم القيمة و المالية.

و يرد عليه اختلاف الأزمنة و الأمكنة و الشرائط في ذلك. و الملاك في المالية رغبة الشخص فيه بحسب حاجاته الفعلية العقلائية بحيث يبذل بإزائه المال.

______________________________
(1) الفقه على المذاهب الأربعة 3/ 145، مباحث الإجارة، مبحث ما تجوز إجارته و ما لا تجوز.

302
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الثالث: كونه مجهولا ؛ ج‌1، ص : 303

الثالث: كونه مجهولا.

______________________________
و يرد عليه أنّه إن أريد بذلك الجهل بمقدار النطفة، ففيه أنّ الجهل به يوجب البطلان إذا كان المطلوب مقدار الشي‌ء و كميته بحيث تختلف الرغبة و القيمة باختلافها و تصير المعاملة غررية. و النطفة ليست كذلك في مقام الإحبال كما مرّ.

و إن أريد بذلك الجهل بأصل وجود النطفة، ففيه أنّ هذا يوجب بطلان البيع.

و أمّا الإجارة فإنّها تقع على عمل الإنزاء بترقّب الإحبال، فيكفي فيها الشأنية و ظنّ وجود النطفة.

و العقلاء يقدمون على ذلك و على أداء الأجرة لذلك، و عمل المسلم محترم. و نظير ذلك رائج في أعمال الناس و معاملاتهم، فيعملون و يعاملون بترقب النتائج.

الرابع: عدم القدرة على التسليم.

و يرد عليه أنّ تسليم كل شي‌ء بحسبه. و تسليم النطفة يحصل بإنزاء الفحل و ترغيبه في العمل.

الخامس: ما مرّ من كون الإجارة تمليكا للمنفعة فقط

، فلا تصحّ إذا استلزمت انتقال العين و استهلاكها. و قد مرّ الجواب عنه عن مستند العروة و عن السيّد الأستاذ- طاب ثراه-، فراجع.

و قد صحّت الإجارة على الإرضاع بلا إشكال، لقوله- تعالى-: فَإنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ. «1» و للأخبار الواردة.

فيظهر بذلك صحّة الإجارة لعمل يستتبع انتقال عين و استهلاكها.

و ليس هذا من القياس بعد إلغاء الخصوصيّة و العلم بوحدة المناط. و محلّ الإشكال لو سلّم صورة استتباع الانتفاع لتلف العين المستأجرة.

______________________________
(1) سورة الطلاق (65)، الآية 6.

303
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

السادس: الأخبار الواردة من طرق الفريقين: ؛ ج‌1، ص : 304

السادس: الأخبار الواردة من طرق الفريقين:

______________________________
1- ما في الخصال في باب التسعة بإسناده عن محمد بن عليّ، عن أبيه، عن الحسين بن عليّ- عليهم السلام-، قال: «لما افتتح رسول اللّه «ص» خيبر دعا بقوسه فاتكأ على سيتها ثم حمد اللّه و أثنى عليه و ذكر ما فتح اللّه له و نصره به و نهى عن خصال تسعة:

عن مهر البغيّ، و عن كسب الدابّة يعني عسب الفحل، و عن خاتم الذهب، و عن ثمن الكلب ...» «1»

و رواه عنه في الوسائل و فيه: «و عن عسيب الدابة، يعني كسب الفحل.» «2»

2- ما عن الفقيه، قال: «نهى رسول اللّه «ص» عن عسيب الفحل، و هو أجر الضراب.» «3»

أقول: التفسير للصدوق. و نقله عنه «ص» بلا ترديد يدلّ على قطعه بصدوره عنه «ص».

3- ما في دعائم الإسلام: «روّينا عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن آبائه، عن عليّ «ع»: أنّ رسول اللّه «ص»: «نهى عن بيع الأحرار و عن بيع الميتة و الدّم و الخنزير و الأصنام و عن عسب الفحل.» «4» و رواه عنه في المستدرك «5».

4- ما عن الجعفريات بإسناده عن عليّ «ع» في حديث طويل مرّ، قال: «من السحت‌

______________________________
(1) الخصال/ 417 (الجزء 2)، الحديث 10.

(2) الوسائل 12/ 64، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 14.

(3) الوسائل 12/ 77، الباب 12 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 3.

(4) دعائم الإسلام 2/ 18، كتاب البيوع الفصل 2 (ذكر ما نهى عن بيعه)، الحديث 22.

(5) مستدرك الوسائل 2/ 427، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 5.

304
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

السادس: الأخبار الواردة من طرق الفريقين: ؛ ج‌1، ص : 304

..........

______________________________
ثمن الميتة و ثمن اللقاح و مهر البغيّ و كسب الحجام ... و عسب الفحل، و لا بأس أن يهدي له العلف ...»
«1»

5 و 6- ما مر عن المغني من حديثي البخاري و مسلم، فراجع.

7- ما في البيهقي بإسناده عن أبي هريرة: «نهى عن مهر البغي و عسب الفحل و عن ثمن السنور و عن الكلب إلّا كلب صيد.» «2»

و راجع البيهقي أيضا، روايتي أنس بن مالك و أبي سعيد الخدري «3».

8- و في مبسوط السرخسي في فقه الحنفية عن أبي نعيم، عن بعض أصحاب النبي «ص» أنّ رسول اللّه «ص»: «نهى عن عسب التيس و كسب الحجام و قفيز الطّحان.» «4»

9- و فيه أيضا عن أبي هريرة أنّ رسول اللّه «ص» قال: «من السحت عسب التيس و مهر البغيّ و كسب الحجام.» «5»

و هذه الأخبار و إن ضعفت بحسب الأسناد لكنها بلغت من الاستفاضة حدّا يطمئن الإنسان بصدور بعضها، و ليس المضمون ممّا يوجد الداعي إلى اختلاقه. و النهي فيها يشمل البيع و الإجارة معا.

و لكن في قبالها ما يدلّ على الجواز إجمالا:

1- خبر حنان بن سدير، قال: دخلنا على أبي عبد اللّه «ع» و معنا فرقد الحجّام ... فقال‌

______________________________
(1) نفس المصدر و الباب 2/ 426، الحديث 1.

(2) سنن البيهقى 6/ 6، كتاب البيوع، باب النهى عن ثمن الكلب.

(3) راجع سنن البيهقى 5/ 339، كتاب البيوع، باب النهى عن عسب الفحل.

(4) مبسوط السرخسى 8/ 83 (الجزء 15)، كتاب الإجارات.

(5) مبسوط السرخسى 8/ 83 (الجزء 15)، كتاب الإجارات.

305
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

السادس: الأخبار الواردة من طرق الفريقين: ؛ ج‌1، ص : 304

..........

______________________________
له: جعلني اللّه فداك إنّ لي تيسا أكريه، فما تقول في كسبه؟ قال: «كل كسبه فإنّه لك حلال. و الناس يكرهونه.» قال حنان: قلت: لأيّ شي‌ء يكرهونه و هو حلال؟ قال:

«لتعيير الناس بعضهم بعضا.» «1»

2- صحيحة معاوية بن عمار عن أبي عبد اللّه ... قال: قلت له: أجر التيوس؟ قال: «إن كانت العرب لتعاير به، و لا بأس.» «2»

و صدر كلتا الروايتين يرتبط بكسب الحجام و كونه جائزا حلالا. هذا.

و يمكن الجمع بين هاتين الروايتين و بين أخبار المنع بوجوه:

الأوّل: حمل أخبار المنع على الكراهة حملا للظاهر على النصّ و كثرة استعمال النهي و كذا لفظ السحت في الكراهة. و يؤيد ذلك اشتمال أخبار المنع على ما ليس بحرام قطعا، مثل كسب الحجام و أجر القارئ و الهدية يلتمس أفضل منها و نحو ذلك في خبر الجعفريات مثلا، فتأمّل.

الثاني: حمل أخبار المنع على البيع و الروايتين على الإجارة، كما هي الظاهر منهما.

و يؤيد ذلك أنّ وجود النطفة في الصلب كثيرا ما مشكوك فيه و مع الشكّ في تحقق الشي‌ء لا يصحّ بيعه.

و على هذا الوجه فدلالة الروايتين على الكراهة أيضا لا تخلو من إشكال، إذ كراهة الناس و تعييرهم لا تكفي في الحكم بالكراهة الشرعية، اللّهم إلّا أن يقال: إنّ حمل أخبار المنع على البيع حمل على الفرد النادر، إذ المتعارف كان هو الإجارة لا البيع.

______________________________
(1) الوسائل 12/ 77، الباب 12 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

(2) نفس المصدر و الباب و الصفحة، الحديث 2.

306
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

السادس: الأخبار الواردة من طرق الفريقين: ؛ ج‌1، ص : 304

كما أنّ الملاقيح هو ماؤه بعد الاستقرار، كما في جامع المقاصد و عن غيره. (1) و علّل في الغنية بطلان بيع ما في أصلاب الفحول بالجهالة و عدم القدرة على التسليم. (2)

______________________________
الثالث: حمل أخبار المنع على التقية، لكون المنع عندهم أشهر كما مرّ.

هذا و لكن حمل الأخبار النبوية على التقية غريب غير محتمل.

و أمّا احتمال حمل النهي على التكليف المحض و القول بالصحة وضعا فضعيف جدّا، إذ النهي كما مرّ لم يتعلق بنفس الماء و لا بنفس العمل بل بالثمن أو الأجرة، و مثله يكون ظاهرا في الإرشاد إلى الفساد كما لا يخفى.

و كيف كان فالإجارة ممّا تصحّ قطعا للروايتين و للآية الشريفة في الرضاع بعد إلغاء الخصوصية، و لحلّية العمل قطعا و كثرة الاحتياج إلى الاستيجار له.

(1) قد مرّ في صدر المسألة عبارة جامع المقاصد و المناقشة فيها، و قلنا إنّ المقصود ببيع الملاقيح و المضامين كان بيع ما يتكوّن حيوانا من هذه الأنثى أو من هذا الفحل لا بيع النطفة المبحوث عنه هنا.

(2) قال في الغنية: «و لما ذكرنا من الشرطين نهي أيضا عن بيع حبل الحبلة و هو نتاج النتاج، و عن بيع الملاقيح و هو ما في بطون الأمهات، و عن بيع المضامين و هو ما في أصلاب الفحول، لأنّ ذلك مجهول غير مقدور على تسليمه.» «1»

أقول: أنت ترى أنّ محطّ نظر الغنية بيع الملاقيح و المضامين، و قد عرفت أنّهما غير بيع النطفة المبحوث عنه هنا.

______________________________
(1) الجوامع الفقهية/ 524 (طبعة أخرى/ 586)، كتاب البيع من الغنية.

307
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

المسألة الخامسة: المعاوضة على الميتة و أجزائها ؛ ج‌1، ص : 308

 

[المسألة الخامسة: المعاوضة على الميتة و أجزائها]

الخامسة: يحرم المعاوضة على الميتة و أجزائها التي تحلّها الحياة من ذي النفس السائلة على المعروف من مذهب الأصحاب. و في التذكرة كما عن المنتهى و التنقيح الإجماع عليه. و عن رهن الخلاف الإجماع على عدم ملكيتها. (1)

______________________________
5- المعاوضة على الميتة و أجزائها

[كلمات الأصحاب]

(1) أقول: 1- قد مرّ عن التذكرة قوله: «يشترط في المعقود عليه الطهارة الأصلية ...

و لو باع نجس العين كالخمر و الميتة و الخنزير لم يصحّ إجماعا.» «1»

2- و فيه أيضا: «لا يجوز بيع جلد الميتة قبل الدباغ إجماعا منّا، و به قال أحمد. و قال أبو حنيفة: يجوز. أمّا بعد الدباغ فكذلك عندنا، لأنه لا يطهر خلافا للجمهور ...» «2»

3- و في المنتهى: «و قد احتجّ العلماء كافّة على تحريم بيع الميتة و الخمر و الخنزير بالنصّ و الإجماع.» «3»

______________________________
(1) التذكرة 1/ 464، كتاب البيع، المقصد الأوّل، الفصل الرابع.

(2) التذكرة 1/ 464، كتاب البيع، المقصد الأوّل، الفصل الرابع.

(3) المنتهى 2/ 1008، كتاب التجارة، المقصد الثانى، البحث الأوّل.

 

308
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

حكم الانتفاع بالميتة ؛ ج‌1، ص : 309

و يدلّ عليه- مضافا إلى ما تقدّم من الأخبار- ما دلّ على أنّ الميتة لا ينتفع بها، منضما إلى اشتراط وجود المنفعة المباحة في المبيع لئلا يدخل في عموم النهي عن أكل المال بالباطل. (1)

______________________________
4- و في التنقيح في ذيل قول المصنّف: «الأوّل: الأعيان النجسة» قال: «إنّما حرم بيعها لأنها محرّمة الانتفاع. و كلّ محرّمة الانتفاع لا يصحّ بيعه. أمّا الصغرى فإجماعية، و أمّا الكبرى فلقول النبي «ص» ...»
«1»

5- و في رهن الخلاف (المسألة 34): «إذا كان الرهن شاة فماتت زال ملك الراهن عنها و انفسخ الرهن إجماعا ...

دليلنا: إجماع الفرقة على أنّ جلد الميتة لا يطهر بالدباغ. و إذا ثبت ذلك لم يعد الملك إجماعا ...» «2»

هذه ما أشار إليه المصنّف من الكلمات. و أنت ترى أنّ إجماع التنقيح على عدم جواز الانتفاع لا عدم جواز المعاوضة.

حكم الانتفاع بالميتة

(1) الكلام هنا يقع في مقامين: الأوّل: حكم الانتفاع بالميتة. الثاني: حكم بيع الميتة و أجزائها النجسة.

و المصنّف بنى البحث عن صحة البيع و عدمها إجمالا على جواز الانتفاع و عدمه.

فالأنسب تقديم هذا البحث فنقول:

______________________________
(1) التنقيح الرائع 2/ 5، كتاب التجارة، الفصل الأوّل.

(2) الخلاف 3/ 239 (ط. أخرى 2/ 103)، كتاب الرهن.

309
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

كلمات الأصحاب ؛ ج‌1، ص : 310

[كلمات الأصحاب]

______________________________
الأصل الأوّلي يقتضي حلّية الانتفاع بها و بكل شي‌ء إلّا فيما ثبت من الشرع خلافه.

و في الكتاب العزيز: هُوَ الَّذي خَلَقَ لَكُمْ مٰا في الْأَرْض جَميعاً. «1»

و لكن يظهر من كثير من الكلمات و الأخبار الواردة حرمة أنواع التصرف في الميتة و الانتفاع بها. بل يظهر من بعضهم كونها إجماعية. و يظهر من البعض أيضا خلاف ذلك:

1- ففي مكاسب النهاية: «و بيع الميتة و الدم و لحم الخنزير و ما أهلّ لغير اللّه به، و التصرّف فيه و التكسب به حرام محظور ... و لا يجوز التصرّف في شي‌ء من جلود الميتة و لا التكسب بها على حال.» «2»

أقول: لفظ التصرّف يحتمل أن يراد به التصرفات الناقلة، و يحتمل أن يراد به مطلق الانتفاعات، و لعلّ الثاني أظهر.

2- و في الصيد و الذبائح منه: «و ما لم يذكّ و مات لم يجز استعمال جلده في شي‌ء من الأشياء لا قبل الدباغ و لا بعده.» «3»

3- و في المراسم: «و التصرّف في الميتة و لحم الخنزير و شحمه ... ببيع و غيره حرام.» «4»

أقول: ظهور لفظ التصرف في هذه العبارة في التصرفات الناقلة قويّ، فيشكل دلالتها على حرمة الانتفاعات.

4- و في مستطرفات السرائر في ردّ خبر البزنطي الدالّ على جواز الإسراج بأليات الغنم المقطوعة من الأحياء قال: «الإجماع منعقد على تحريم الميتة و التصرّف فيها بكلّ‌

______________________________
(1) سورة البقرة (2)، الآية 29.

(2) النهاية/ 364 و 366، كتاب المكاسب، باب المكاسب المحظورة ...

(3) النهاية/ 586، باب ما يحلّ من الميتة ... و حكم البيض و الجلود.

(4) الجوامع الفقهية/ 585 (طبعة أخرى/ 647)، كتاب المكاسب من المراسم.

310
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

كلمات الأصحاب ؛ ج‌1، ص : 310

..........

______________________________
حال إلّا أكلها للمضطر غير الباغي و العادي.»
«1»

5- و في الجواهر: «لا يجوز الانتفاع بشي‌ء منها ممّا تحلّه الحياة فضلا عن التكسب سواء كانت ميتة نجس العين أو طاهرها ذي النفس السائلة.» «2»

إلى غير ذلك مما يجده المتتبع في كلمات فقهاء الفريقين.

و في قبال ذلك بعض الكلمات الظاهرة في جواز بعض الانتفاعات:

1- ففي المقنع للصدوق: «و لا بأس أن تتوضأ من الماء إذا كان في زقّ من جلد ميتة و لا بأس أن تشربه.» «3»

2- و في الصيد و الذبائح من النهاية: «و يجوز أن يعمل من جلود الميتة دلو يستقى به الماء لغير وضوء الصلاة و الشرب، و تجنّبه أفضل.» «4»

3- و عن التهذيب أنّه بعد نقل صحيحة زرارة (قال: سألت أبا عبد اللّه «ع» عن جلد الخنزير يجعل دلوا يستقى به الماء قال: «لا بأس.») قال: «الوجه أنّه لا بأس أن يستقى به، لكن يستعمل ذلك في سقي الدوابّ و الأشجار و نحو ذلك.» «5»

4- و في الأطعمة و الأشربة من الشرائع: «و يجوز الاستسقاء بجلود الميتة و إن كان نجسا و لا يصلّي من مائها، و ترك الاستسقاء أفضل.» «6»

______________________________
(1) السرائر 3/ 574، في مستطرفاته عن جامع البزنطى.

(2) الجواهر 22/ 17، كتاب التجارة، الفصل الأوّل.

(3) الجوامع الفقهية/ 3، باب الوضوء من المقنع.

(4) النهاية/ 587، باب ما يحلّ من الميتة ... و حكم البيض و الجلود.

(5) الوسائل 1/ 129، الباب 14 من أبواب الماء المطلق، الحديث 16 و ذيله؛ عن التهذيب 1/ 413.

(6) الشرائع/ 755 (ط. أخرى 3/ 227)، كتاب الأطعمة و الأشربة، القسم السادس.

311
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

كلمات الأصحاب ؛ ج‌1، ص : 310

..........

______________________________
5- و في الأطعمة من المختصر النافع: «و يجوز الاستقاء بجلود الميتة و لا يصلّي بمائها.»
«1»

6- و في أطعمة الإرشاد: «و لا يجوز الاستقاء بجلد الميتة لغير الصلاة، و تركه أفضل.» «2»

7- و في أطعمة القواعد: «و لا يجوز الاستسقاء بجلد الميتة لغير الطهارة، و تركه أفضل.

و لو كان يسع كرّا فأملأه من الفرات جاز استعمال ما فيه، و لو كان أقلّ كان نجسا.» «3»

8- و في طهارة القواعد: «و جلد الميتة لا يطهر بالدباغ. و لو اتخذ منه حوض لا يتسع للكر نجس الماء فيه، و إن احتمله فهو نجس و الماء طاهر، فإن توضأ منه جاز إن كان الباقي كرا فصاعدا.» «4»

إلى غير ذلك مما يعثر عليه المتتبع.

9- و في مفتاح الكرامة بعد التعرّض لبعض كلمات المانعين قال: «و لا مخالف في عدم جواز الانتفاع بالميتة سوى الشيخ في النهاية و المحقق في الشرائع و النافع و تلميذه كاشف الرموز و المصنّف في الإرشاد، فجوّز و الاستقاء بجلودها لغير الصلاة و الشرب.

و مال إليه صاحب التنقيح للأصل و تبادر التناول من الآية الشريفة. و في السرائر أنّه مرويّ ...

و الصّدوق في المقنع جوّز الاستقاء بجلد الخنزير بأن يجعل دلوا لغير الطهارة. و قد وافقه المصنّف على ذلك في مطاعم الكتاب.

و حكى الشهيد في حواشيه على الكتاب أنّه نقل عن المصنّف في حلقة الدرس أنّه‌

______________________________
(1) المختصر النافع/ 254 (الجزء 2)، كتاب الأطعمة و الأشربة، القسم السادس.

(2) الإرشاد 2/ 113، كتاب الصيد و توابعه، المقصد الثالث، الباب الأوّل.

(3) القواعد 1/ 159، كتاب الصيد و الذباحة، المقصد الخامس، الفصل الأوّل.

(4) القواعد 1/ 7، كتاب الطهارة، المقصد الثالث، الفصل الأوّل.

312
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

ما يمكن أن يتمسك به في المقام ؛ ج‌1، ص : 313

 

..........

______________________________
جوّز الاستصباح بأليات الغنم المقطوعة تحت السماء.

و صاحب الكفاية استشكل في حرمة التكسب بجلد الميتة نظرا إلى خبر أبي القاسم الصيقل و ولده.» «1»

أقول: غرضنا من التطويل في نقل كلمات الأصحاب منع تحقق الإجماع في المسألة، حيث تمسك به البعض في المقام حتّى ربما يشككون في جواز الانتفاع بها في التسميد أيضا، مع أنّ المسألة مختلف فيها؛ فترى الشيخ الطوسي مثلا يفتي في كتاب الصيد و الذبائح من نهايته الذي وضعه لنقل خصوص المسائل المأثورة تارة بعدم جواز استعمال جلد الميتة في شي‌ء من الأشياء. و أخرى بعد صفحة بجواز عمل الدلو منه و الاستقاء به لغير وضوء الصلاة و الشرب.

[ما يمكن أن يتمسك به في المقام]

و مسألة بيع الميتة مبتلى بها في أعصارنا جدّا، حيث يشترون أجساد الأموات للتشريح و الترقيع و نحوهما بأثمان غالية. فإذا لم يثبت إجماع في البين فلنتعرّض لسائر ما يمكن أن يتمسك به في المقام:

[الآيات الدالة على التحريم]

فممّا استدلوا به لحرمة جميع الانتفاعات بها بل حرمة المعاوضة عليها أيضا ما ورد من الآيات في تحريم الميتة و ما قارنها:

قال اللّه- تعالى- في أوائل سورة المائدة: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ وَ لَحْمُ الْخنْزير وَ مٰا أُهلَّ لغَيْر اللّٰه به «2» الآية.

قال في التذكرة بعد ذكر الآية: «و الأعيان لا يصحّ تحريمها و أقرب مجاز إليها جميع‌

______________________________
(1) مفتاح الكرامة 4/ 19، كتاب المتاجر، المقصد الأوّل، الفصل الأوّل.

(2) سورة المائدة (5)، الآية 3.

 

313
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الآيات الدالة على التحريم ؛ ج‌1، ص : 313

..........

______________________________
وجوه الانتفاع، و أعظمها البيع فكان حراما.»
«1»

و في مفتاح الكرامة: «و قد استدلّ على تحريم الانتفاع بالميتة: الطوسي و البيضاوي و الراوندي في أحد وجهيه و المرتضى في ظاهر الانتصار و المصنّف في التذكرة و نهاية الإحكام و المنتهى و المختلف و ولده في شرح الإرشاد و غيرهم بقوله- تعالى-: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ.

قالوا: لأنه يستلزم إضافة التحريم إلى جميع المنافع المتعلقة بها، لأن التحريم لا يتعلق بالأعيان حقيقة فتعيّن المجاز. و أقرب المجازات تحريم جميع وجوه الاستمتاعات و الانتفاعات. و حكاه في كنز العرفان عن قوم. و احتمله المولى الأردبيلي في آيات أحكامه. و قد يرشد إلى ذلك تخصيص اللحم بالذكر في الخنزير دون الميتة. و قد تجعل الشهرة قرينة على ذلك.» «2»

أقول: قد مرّ في مسألة الدم أنّ محطّ النظر في هذه الآية و نظائرها ليس تحريم جميع الانتفاعات من الأشياء المذكورة فيها، بل تحريم أكلها الذي كان متعارفا في تلك الأعصار، كما يشهد بذلك سياقها و القرائن الموجودة فيها.

ففي سورة البقرة مثلا ورد قوله- تعالى-: يٰا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا كُلُوا منْ طَيِّبٰات مٰا رَزَقْنٰاكُمْ وَ اشْكُرُوا للّٰه إنْ كُنْتُمْ إيّٰاهُ تَعْبُدُونَ ثم عقّبه بلا فصل بقوله: إنَّمٰا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَ الدَّمَ وَ لَحْمَ الْخنْزير «3» الآية.

______________________________
(1) التذكرة 1/ 464، كتاب البيع، المقصد الأوّل، الفصل الرابع.

(2) مفتاح الكرامة 4/ 19، كتاب المتاجر، المقصد الأوّل، الفصل الأوّل.

(3) سورة البقرة (2)، الآيتان 172 و 173.

314
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الآيات الدالة على التحريم ؛ ج‌1، ص : 313

..........

______________________________
و قد وقع نظير ذلك في سورة النحل أيضا في آيتين متواليتين
«1».

و الحصر وقع بلحاظ ما تعارف أكله من المحرّمات فلا ينتقض بمثل الكلب و السباع و نحوها، لعدم تعارف أكلها في تلك الأعصار. و بهذا اللحاظ أيضا ذكر اللحم في الخنزير.

و ورد في الأنعام قوله: قُلْ لٰا أَجدُ في مٰا أُوحيَ إلَيَّ مُحَرَّماً عَلىٰ طٰاعمٍ يَطْعَمُهُ إلّٰا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خنزيرٍ «2»

و في آية المائدة ذكر بعدها إحلال الطيبات و طعام أهل الكتاب و الترخيص في أكل ما يمسكه الكلاب المعلّمة «3».

و استثنى في الآيات الأربع من اضطرّ إليها و قيّد في المائدة بالمخمصة بمعنى المجاعة.

فمع هذه القرائن الكثيرة كيف يحتمل تعلق الحرمة فيها بجميع الانتفاعات؟!

و يشهد لما ذكرنا من كون النظر في الآيات إلى خصوص الأكل ما ورد في تعليل تحريم الأشياء المذكورة، فراجع الوسائل «4».

منها: خبر مفضل بن عمر، قال: قلت لأبي عبد اللّه «ع»: أخبرني- جعلت فداك- لم حرّم اللّه- تبارك و تعالى- الخمر و الميتة و الدّم و لحم الخنزير؟ قال: «إنّ اللّه- سبحانه و تعالى- لم يحرّم ذلك على عباده و أحلّ لهم سواه رغبة منه فيما حرّم عليهم و لا زهدا فيما أحلّ لهم. و لكنه خلق الخلق و علم- عزّ و جلّ- ما تقوم به أبدانهم و ما يصلحهم‌

______________________________
(1) سورة النحل (16)، الآيتان 114 و 115.

(2) سورة الأنعام (6)، الآية 145.

(3) سورة المائدة (5)، الآيات 3، 4، 5.

(4) راجع الوسائل 16/ 310 (طبعة أخرى 16/ 376)، الباب 1 من أبواب الأطعمة المحرمة.

315
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الأخبار الدالة على منع الانتفاع بالميتة ؛ ج‌1، ص : 316

..........

______________________________
فأحلّه لهم و أباحه تفضّلا منه عليهم به- تبارك و تعالى- لمصلحتهم، و علم ما يضرّهم فنهاهم عنه و حرّمه عليهم ثم أباحه للمضطرّ و أحلّه له في الوقت الذي لا يقوم بدنه إلّا به فأمره أن ينال منه بقدر البلغة لا غير ذلك.»‌

ثم قال: «أمّا الميتة فإنّه لا يدمنها أحد إلّا ضعف بدنه و نحل جسمه و ذهبت قوّته و انقطع نسله و لا يموت آكل الميتة إلّا فجأة ...» «1»

و أمّا الأخبار الواردة في المسألة فعلى طائفتين: الأولى ما تدل على المنع. الثانية ما تدل على الجواز.

الأخبار الدّالّة على منع الانتفاع بالميتة

أمّا الطائفة الأولى فهي كثيرة:

1- موثقة سماعة، قال: سألته عن جلود السباع أ ينتفع بها؟ فقال: «إذا رميت و سمّيت فانتفع بجلده و أمّا الميتة فلا.» «2»

يستفاد منها بإلغاء الخصوصيّة عدم جواز الانتفاع بجلد الميتة مطلقا، إذ لا خصوصية للسّباع في ذلك. و حمل الانتفاع المنفيّ على انتفاع خاصّ كجعلها أوعية للمائعات مثلا خلاف الإطلاق لا يصار إليه إلّا بدليل.

و ما في الكفاية من توقف الإطلاق على انتفاء القدر المتيقن في مقام التخاطب، على إطلاقه ممنوع؛ إذ المتيقن إن كان من الوضوح بمنزلة القيد المذكور في اللفظ بحيث ينصرف‌

______________________________
(1) الكافى 6/ 242، كتاب الأطعمة، باب علل التحريم، الحديث 1.

(2) الوسائل 16/ 368 (طبعة أخرى 16/ 453)، الباب 34 من أبواب الأطعمة المحرمة، الحديث 4.

316
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الأخبار الدالة على منع الانتفاع بالميتة ؛ ج‌1، ص : 316

..........

______________________________
الإطلاق إليه فهو، و إلّا فلا حجة لرفع اليد عن ظهور المطلق.

نعم، يمكن أن يقال: إنّ المنع في الموثقة و كذا في بعض الأخبار التالية توجّه إلى الانتفاع بالجلد، و لا نسلّم إلغاء الخصوصية منه إلى جميع أجزاء الميتة، إذ الانتفاع بالجلد في التعيّش يوجب السراية غالبا، فلا يسري المنع إلى الانتفاع بالميتة في مثل التسميد و إطعام الطيور مثلا، و بذلك تصير ذات قيمة و مالية قهرا، فيجوز بيعها أيضا لذلك.

2- خبر علي بن أبي المغيرة، قال: قلت لأبي عبد اللّه «ع»: الميتة ينتفع منها بشي‌ء؟

فقال: «لا.» قلت: بلغنا أنّ رسول اللّه «ص» مرّ بشاة ميتة فقال: «ما كان على أهل هذه الشاة إذا لم ينتفعوا بلحمها أن ينتفعوا بإهابها.» فقال «ع»: تلك شاة كانت لسودة بنت زمعة زوج النبي «ص» و كانت شاة مهزولة و لا ينتفع بلحمها فتركوها حتى ماتت. فقال رسول اللّه «ص»: «ما كان على أهلها إذا لم ينتفعوا بلحمها أن ينتفعوا بإهابها، أي تذكّى.» «1»

و دلالة الخبر واضحة. و قوله: «بشي‌ء» يحتمل أن يراد به بجزء من أجزائها. و يحتمل أن يراد به بانتفاع من الانتفاعات.

و أمّا السند فهو إلى علي بن أبي المغيرة صحيح، و لكن في عليّ كلام: فعن العلامة توثيقه. و نوقش في ذلك بأنّ منشأ التوثيق الخطأ في فهم كلام النجاشي حيث قال في شرح حال ابنه الحسن: «الحسن بن علي بن أبي المغيرة الزبيدي الكوفي ثقة هو، و أبوه روى عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه «ع» و هو يروي كتاب أبيه عنه و له كتاب مفرد.» «2»

______________________________
(1) الوسائل 16/ 368 (طبعة أخرى 16/ 452)، الباب 34 من أبواب الأطعمة المحرمة، الحديث 1.

(2) رجال النجاشى/ 49 (ط. أخرى/ 37). و راجع تنقيح المقال 1/ 291 (في ترجمة الحسن بن على)؛

317
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الأخبار الدالة على منع الانتفاع بالميتة ؛ ج‌1، ص : 316

..........

______________________________
فتوهم من عبارته هذه كون التوثيق لابن و الأب معا، مع وضوح أنّ الواو في قوله:

«و أبوه» للاستيناف لا للعطف، اذ لا يروي الحسن عن أبي جعفر «ع».

قال الأستاذ الإمام «ره»: «فتعبير السّيد صاحب الرياض عنها بالصحيحة غير وجيه ظاهرا.» «1» هذا.

و قصّة مرور رسول اللّه «ص» بالشاة المذكورة رويت بأنحاء أخر أيضا و ربما يخالف بعضها بعضا:

فمنها: موثقة أبي مريم، قال: قلت لأبي عبد اللّه «ع»: السخلة التي مرّ بها رسول اللّه «ص» و هي ميتة فقال رسول اللّه «ص»: «ما ضرّ أهلها لو انتفعوا بإهابها؟» قال: فقال أبو عبد اللّه «ع»: لم تكن ميتة يا أبا مريم، و لكنها كانت مهزولة فذبحها أهلها فرموا بها فقال رسول اللّه «ص»: «ما كان على أهلها لو انتفعوا بإهابها» «2»

أقول: فظاهر هذه الموثقة أنّ الشاة كانت مذكّاة لا ميتة. قال في الوسائل: «لا منافاة بينه و بين السابق لاحتمال تعدّد الشاة و القول.» «3»

أقول: احتمال تعدّد الواقعة بعيد و لا سيما بعد ملاحظة روايات السنة أيضا في هذا المجال، راجع البيهقي «4».

و منها: ما عن عوالي اللآلي، قال: صحّ عنه «ص» أنّه قال: «لا تنتفعوا من الميتة بإهاب‌

______________________________
- و 2/ 264 (في ترجمة على بن أبى المغيرة).

(1) المكاسب المحرمة 1/ 46.

(2) الوسائل 16/ 368 (طبعة أخرى 16/ 452)، الباب 34 من أبواب الأطعمة المحرمة، الحديث 3 و ذيله.

(3) الوسائل 16/ 368 (طبعة أخرى 16/ 452)، الباب 34 من أبواب الأطعمة المحرمة، الحديث 3 و ذيله.

(4) راجع سنن البيهقى 1/ 15- 18، كتاب الطهارة، باب طهارة جلد الميتة بالدبغ، و باب طهارة باطنه ...

318
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الأخبار الدالة على منع الانتفاع بالميتة ؛ ج‌1، ص : 316

..........

______________________________
و لا عصب.» و قال في شاة ميمونة: «ألّا انتفعتم بجلدها؟»
«1»

و منها: ما عن دعائم الإسلام عن عليّ «ع»، قال: سمعت رسول اللّه «ص» يقول: «لا ينتفع من الميتة بإهاب و لا عظم و لا عصب.» فلما كان من الغد خرجت معه فإذا نحن بسخلة مطروحة على الطريق فقال: «ما كان على أهل هذه لو انتفعوا بإهابها؟» قال:

قلت: يا رسول اللّه، فأين قولك بالأمس لا ينتفع من الميتة بإهاب؟ قال: ينتفع منها بالإهاب (باللحاف- الدعائم) الذي لا يلصق.» «2»

أقول: عظم الميتة لا يجري عليه حكم الميتة لعدم نجاسته، فلا وجه لعدم جواز الانتفاع به.

و لم يظهر لي وجه ذكر العصب في هذا الخبر و غيره، و أيّ نفع كان يترتب عليه؟

و الظاهر من عدم لصوق الجلد دباغته بنحو يخرج منه دسومته. و هذا يوافق مذاهب أهل الخلاف، حيث يقولون بطهارة جلد الميتة بالدباغة و على ذلك تدلّ أخبارهم، فراجع البيهقي «3».

اللّهم إلّا أن يقال: إنّ المقصود في خبر الدعائم ليس هو الطهارة بالدباغ، بل عدم سرايته إلى ما يلاقيه من الجوامد فيكون بيانه «ص» إرشادا إلى طريق الانتفاع به بلا سراية.

و لعلّ هذا أيضا كان هو المقصود فيما رواه أهل الخلاف عنه «ص» في هذا المجال،

______________________________
(1) مستدرك الوسائل 3/ 76، الباب 25 من أبواب الأطعمة المحرمة، الحديث 1.

(2) مستدرك الوسائل 3/ 77، الباب 25 من أبواب الأطعمة المحرمة، الحديث 2؛ عن الدعائم 1/ 126.

(3) راجع سنن البيهقى 1/ 17، كتاب الطهارة، باب طهارة باطنه بالدبغ كطهارة ظاهره ...

319
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الأخبار الدالة على منع الانتفاع بالميتة ؛ ج‌1، ص : 316

..........

______________________________
حيث قال «ص»: «ألّا نزعتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به؟» فتوهّموا من كلامه هذا كون الدباغة مطهرة. و في بعضها قالوا: يا رسول اللّه، إنّها ميتة. قال: «إنّما حرم أكلها».

و ما رووه في قصّة الشاة المذكورة يظهر من بعضها أنّ الشاة كانت لميمونة زوج النبي «ص». و من بعضها أنّها كانت لمولاة لها. و من بعضها أنّها كانت لسودة زوجه «ص». و احتمال تعدّد الواقعة بعيد جدّا، فراجع البيهقي «1».

3- خبر الفتح بن يزيد الجرجاني عن أبي الحسن «ع»، قال: كتبت إليه أسأله عن جلود الميتة التي يؤكل لحمها ذكيا (إن ذكّي- الكافي). فكتب «ع»: «لا ينتفع من الميتة بإهاب و لا عصب. و كلّ ما كان من السخال (من) الصوف و إن جزّ و الشعر و الوبر و الإنفحة و القرن. و لا يتعدّى إلى غيرها إن شاء اللّه.» «2»

و السند ضعيف، و فتح بن يزيد مجهول، و لكن دلالة الخبر واضحة إن قلنا بعدم الفرق بين الإهاب و العصب و بين غيرهما من الأجزاء التي تحلّها الحياة.

و الظاهر وجود سقط في الحديث، فيكون قوله: «كلّ ما كان» مبتدأ حذف خبره، مثل: «ينتفع به» مثلا.

و لم يظهر لي وجه عدم ذكر العظم أيضا في عداد الشعر و الوبر و غيرهما، و لا وجه تقييد الصوف بقوله: «و إن جزّ» مع أنّه فرد جليّ. و لعلّ عدم ذكر العظم لعدم ترتب الفائدة عليه في تلك الأعصار. و في الاستبصار «3»: «إن جزّ» بدون الواو فلا إشكال.

______________________________
(1) راجع سنن البيهقى 1/ 15- 18، كتاب الطهارة، باب طهارة جلد الميتة بالدبغ، و باب طهارة باطنه ...

(2) الوسائل 16/ 366 (طبعة أخرى 16/ 448)، الباب 33 من أبواب الأطعمة المحرمة، الحديث 7؛ عن الكافى 6/ 258.

(3) الاستبصار 4/ 89، كتاب الصيد و الذبائح، باب تحريم جلود الميتة، الحديث 1.

320
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الأخبار الدالة على منع الانتفاع بالميتة ؛ ج‌1، ص : 316

..........

______________________________
4- خبر الكاهلي، قال: سأل رجل أبا عبد اللّه «ع» و أنا عنده عن قطع أليات الغنم. فقال:

«لا بأس بقطعها إذا كنت تصلح بها مالك.» ثم قال «ع»: «إنّ في كتاب عليّ «ع»: أنّ ما قطع منها ميّت لا ينتفع به.» «1»

و الظاهر أنّ المقصود بالكاهلي هنا عبد اللّه بن يحيى الكاهلي الوجيه عند أبي الحسن «ع» بقرينة رواية البزنطي عنه. و في السند سهل بن زياد، و الأمر فيه سهل، فلا بأس بالسند.

و يظهر منه أنّ عدم جواز الانتفاع بالميتة كان واضحا مفروغا عنه، فصار الجزء المقطوع من الحيّ بحكمها لكونه منها حقيقة أو تنزيلا.

اللّهم إلّا أن يناقش في ذلك بأنّ الخبر بصدد تنزيل الجزء المقطوع منزلة الميتة لا بصدد بيان حكم الميتة، فلا إطلاق لها من هذه الجهة، فلعلّ الانتفاع المنفي في الميتة كان انتفاعا خاصّا معلوما لأهله، مثل الأكل و نحوه، فيكون المقصود أنّه لا ينتفع به مثل ما ينتفع به لو كان مذكّى.

و يشهد لذلك ما عن مستطرفات السرائر نقلا عن جامع البزنطي صاحب الرضا «ع»، قال: سألته عن الرجل يكون له الغنم يقطع من ألياتها و هي أحياء أ يصلح أن ينتفع بما قطع؟ قال: «نعم، يذيبها و يسرج بها و لا يأكلها و لا يبيعها.» و رواه في قرب الإسناد أيضا عن عبد اللّه بن الحسن، عن جدّه علي بن جعفر، عن أخيه «ع» «2».

5- ما مرّ من خبر العوالي عنه «ص» أنّه قال: «لا تنتفعوا من الميتة بإهاب و لا عصب.» «3»

______________________________
(1) الوسائل 16/ 295 (طبعة أخرى 16/ 359)، الباب 30 من أبواب الذبائح، الحديث 1.

(2) الوسائل 16/ 296 (طبعة أخرى 16/ 360)، الباب 30 من أبواب الذبائح، الحديث 4.

(3) مستدرك الوسائل 3/ 76، الباب 25 من أبواب الأطعمة المحرمة، الحديث 1.

321
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الأخبار الدالة على منع الانتفاع بالميتة ؛ ج‌1، ص : 316

..........

______________________________
6- ما في سنن البيهقي بإسناده عن عبد اللّه بن عكيم، قال: قرئ علينا كتاب رسول اللّه «ص» بأرض جهينة و أنا غلام شابّ أن: «لا تستمتعوا من الميتة بإهاب و لا عصب.»‌

و في معناه أخبار أخر عن عبد اللّه بن عكيم «1».

7- ما مرّ من رواية تحف العقول، حيث علّل فيها حرمة بيع الميتة و غيرها من وجوه النجس بقوله: «لأن ذلك كلّه منهي عن أكله و شربه و لبسه و ملكه و إمساكه و التقلّب فيه بوجه من الوجوه، لما فيه من الفساد، فجميع تقلّبه في ذلك حرام.» «2»

اللّهم إلّا أن يقال: إنّ التعليل بقوله: «لما فيه من الفساد» يحدّد الحكم بموارد ترتّب الفساد عليه. و التعليل يقع غالبا بأمر يدركه العقلاء و المتشرعة بحسب ارتكازهم لا بأمر غيبي لا يدركه الناس، فلا يعمّ الحكم للانتفاع بها في التشريح أو الترقيع أو إطعام الطيور و نحوها.

و لأجل ذلك حكم في الرواية في الصّناعات بحلّية ما اشتملت منها على جهتي الصلاح و الفساد معا و قال: «فلعلّه لما فيه (فلعلّة ما فيه- الوسائل) من الصلاح حلّ تعلّمه و تعليمه و العمل به، و يحرم على من صرفه إلى غير وجه الحقّ و الصلاح.» «3»

8- خبر الوشّاء، قال: سألت أبا الحسن «ع» فقلت: جعلت فداك إنّ أهل الجبل تثقل عندهم أليات الغنم فيقطعونها. قال: «هي حرام.» قلت: فنصطبح بها؟ قال: «أما تعلم أنّه يصيب اليد و الثوب و هو حرام؟» «4»

______________________________
(1) راجع سنن البيهقى 1/ 14- 15، كتاب الطهارة، باب في جلد الميتة.

(2) تحف العقول/ 333.

(3) تحف العقول/ 336؛ عنه الوسائل 12/ 57، الباب 2 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

(4) الوسائل 16/ 295 (طبعة أخرى 16/ 359)، الباب 30 من أبواب الذبائح، الحديث 2.

322
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الأخبار الدالة على منع الانتفاع بالميتة ؛ ج‌1، ص : 316

..........

______________________________
بتقريب أنّ المقصود بحرمتها ليس حرمة الأكل فقط و إلّا لم يمنع من الاصطباح بها.

بل المقصود بها حرمة جميع الانتفاعات حذرا من تلوّث البدن و الثوب بها أحيانا.

أقول: يمكن أن يقال: إنّ السؤال الأوّل ناظر إلى أنّ المقطوع بحكم المذكّى أو الميتة.

و جواب الإمام «ع» ناظر إلى كونه بحكم الميتة التي ثبت حرمة أكلها بالكتاب و نجاستها بالسنّة و هما حكمان متلازمان في الميتة عند المتشرعة.

و السؤال الثاني وقع عن حكم الاصطباح بها بعد ما اتضح كونها بحكم الميتة.

و الإمام «ع» لم ينه عنه و إنّما أرشده إلى أنّ هذا يوجب التلوّث غالبا، فيكون ضرّه أكثر من نفعه. فهذا إرشاد محض و ليس حكما تحريميّا.

و إن شئت قلت: إنّ قوله أخيرا: «و هو حرام» لا يراد به حرمة إصابة اليد و الثوب، لوضوح عدم حرمة ذلك، بل الواو للحال و الضمير عائد إلى الجزء المقطوع و يراد بحرمته نجاسته أو مانعيته عن الصلاة، و قد شاع استعمال لفظ الحرمة في الأحكام الوضعية.

قال في مصباح الفقاهة في هذا المجال: «بل عدم تعرّضه «ع» لحكم الانتفاع بها بالاستصباح المسؤول عنه و تصدّيه لبيان نجاستها أو مانعيّتها عن الصلاة أدلّ دليل على جواز الانتفاع بها دون العكس. سلّمنا ذلك و لكن لا بدّ من الاقتصار فيها على موردها أعني صورة إصابتها اليد و الثوب.» «1»

فإلى هنا ذكرنا ثمانية أخبار يظهر من بعضها حرمة الانتفاع بالميتة مطلقا، و من بعضها حرمة الانتفاع بجلدها كذلك، و ربما يقال برجوع القسم الثاني إلى الأوّل بإلغاء الخصوصيّة، و لكن مرّت المناقشة في ذلك. و يدلّ على تحريم جميع الانتفاعات خبر‌

______________________________
(1) مصباح الفقاهة 1/ 63.

323
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الأخبار الدالة على منع الانتفاع بالميتة ؛ ج‌1، ص : 316

..........

______________________________
جابر المذكور في كتب السنة أيضا و يأتي نقله في البحث عن بيع الميتة.

و هنا قسم ثالث ربما يظهر منها حرمة الانتفاع بها في اللبس و نحوه حتى في غير حال الصلاة:

1- ما عن قرب الإسناد عن عبد اللّه بن الحسن، عن جدّه علي بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر «ع»، قال: سألته عن لبس السمور و السنجاب و الفنك. فقال: «لا يلبس و لا يصلّى فيه إلّا أن يكون ذكيّا.» «1»

بتقريب أنّ السؤال وقع عن مطلق اللبس فيها. و الإمام «ع» فصّل في ذلك بين الميتة و المذكّى، فالاستثناء وقع بلحاظ أصل اللبس، إذ الصلاة فيها و لا سيما في السمور و الفنك لا تجوز عندنا مطلقا و المنع عنها في المستثنى منه ذكر تطفّلا.

أقول: عبد اللّه بن الحسن في السند مجهول لم يذكر في الرجال بمدح و لا قدح، فالخبر لا يعتمد عليه.

و يحتمل أن يكون السؤال وقع عن اللبس بلحاظ الصلاة، فيحمل الجواب على التقية أو الضرورة، كما في الوسائل.

2- ما رواه في تحف العقول عن الصادق «ع» في جوابه عن جهات معايش العباد، قال: «و ما يجوز من اللباس: فكلّ ما أنبتت الأرض فلا بأس بلبسه و الصلاة فيه. و كلّ شي‌ء يحلّ لحمه فلا بأس بلبس جلده الذكي منه و صوفه و شعره و وبره. و إن كان الصوف و الشعر و الريش و الوبر من الميتة و غير الميتة ذكيا فلا بأس بلبس ذلك و الصلاة فيه.» «2»

______________________________
(1) الوسائل 3/ 255، الباب 4 من أبواب لباس المصلّى، الحديث 6.

(2) تحف العقول/ 338؛ عنه الوسائل 3/ 252، الباب 3 من أبواب لباس المصلّى، الحديث 8.

324
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الأخبار الدالة على منع الانتفاع بالميتة ؛ ج‌1، ص : 316

..........

______________________________
يظهر منه عدم جواز لبس الجلد غير المذكّى مطلقا و لو لغير الصلاة.

أقول: أجاب الأستاذ الإمام «ره» فقال: «و يمكن الخدشة في دلالتها بعد الغضّ عن سندها بأنّ الظاهر من قوله: «فلا بأس بلبسه و الصلاة فيه» أنّه بصدد بيان حكم اللبس في الصلاة فقوله: «فلا بأس بلبسه» كالأمر المقدّمي المذكور توطئة. كقوله: «لا بأس بلبس الحرير و الحرب فيه»، و «لا بأس بالجلوس في المسجد و القضاء فيه»، و «لا بأس بأخذ الماء من الدجلة و الشرب منه» إلى غير ذلك. فحينئذ يكون قوله: «و كلّ شي‌ء يحلّ أكله ...» بصدد بيان اللبس في الصلاة أيضا. و كذلك الفقرة الأخيرة، فلا يستفاد منها حكمان: تكليفي مربوط بأصل اللبس و وضعيّ مربوط بالصلاة.» «1»

أقول: يرد على ما ذكره: أنّ عنوان الكلام في الرواية هو قوله: «و ما يجوز من اللباس» و ليس فيه اسم من الصلاة، فراجع.

3- ما رواه علي بن جعفر في كتابه عن أخيه موسى بن جعفر «ع»، قال: سألته عن الماشية تكون لرجل فيموت بعضها أ يصلح له بيع جلودها و دباغها و يلبسها؟ قال: «لا، و إن لبسها فلا يصلّي فيها.» «2»

و يرد عليه- مضافا إلى منع ظهور عدم الصلاح في الحرمة- أنّ الظاهر منه هنا الكراهة، إذ فرض الإمام «ع» اللبس مع الحرمة لا يخلو عن بعد و غرابة. هذا مضافا إلى عدم ثبوت اعتبار الكتاب بنحو يعتمد عليه.

4- موثقة سماعة، قال: سألته عن أكل الجبن و تقليد السيف و فيه الكيمخت و الغرا.

______________________________
(1) المكاسب المحرمة 1/ 47.

(2) الوسائل 16/ 369 (طبعة أخرى 16/ 453)، الباب 34 من أبواب الأطعمة المحرمة، الحديث 6.

325
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الأخبار الدالة على منع الانتفاع بالميتة ؛ ج‌1، ص : 316

..........

______________________________
فقال: «لا بأس ما لم تعلم أنّه ميتة.»
«1»

أقول: في المجمع: «في الحديث ذكر الغراء و الكيمخت. الغراء ككتاب: شي‌ء يتخذ من أطراف الجلود يلصق به و ربما يعمل من السمك، و الغرا كالعصا لغة.» «2»

و فيه أيضا في لغة كمخ: «الكيمخت بالفتح فالسكون. و فسّر بجلد الميتة المملوح.

و قيل: هو الصاغري المشهور.» «3»

و دلالة الموثقة على المنع بالمفهوم كما هو ظاهر.

و أجاب عنها الأستاذ الإمام «ره» «بأنّه لا إطلاق في مفهومها، فإنّه بصدد بيان حكم المنطوق لا المفهوم. فلا يستفاد منها إلّا ثبوت البأس مع العلم في الجملة. بل التحقيق أنّ المفهوم قضيّة مهملة حتّى في مثل قوله «ع»: الماء إذا بلغ قدر كر لا ينجّسه شي‌ء.» «4»

أقول: و يمكن حمل المنع في الموثّقة على الكراهة بقرينة موثقة أخرى لسماعة؛ قال:

سألته عن جلد الميتة المملوح، و هو الكيمخت، فرخّص فيه و قال: «إن لم تمسّه فهو أفضل.» «5»

بناء على حمل الترخيص فيها على أصل الانتفاع بها لا معاملة الطهارة معها، و إلّا كان اللازم حملها على التقية كما لا يخفى.

فقوله: «إن لم تمسّه فهو أفضل» فيه احتمالان: الأوّل: أن يكون كناية عن عدم الانتفاع بها مطلقا. فيدل على كراهة الانتفاع و يكون قرينة على الجمع بين روايات المنع‌

______________________________
(1) الوسائل 16/ 368 (طبعة أخرى 16/ 453)، الباب 34 من أبواب الأطعمة المحرمة، الحديث 5.

(2) مجمع البحرين 1/ 315 (ط. أخرى/ 63).

(3) مجمع البحرين 2/ 441 (ط. أخرى/ 185).

(4) المكاسب المحرمة 1/ 48.

(5) الوسائل 16/ 369 (طبعة أخرى 16/ 454)، الباب 34 من أبواب الأطعمة المحرمة، الحديث 8.

326
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الأخبار الدالة على جواز الانتفاع بالميتة إجمالا ؛ ج‌1، ص : 327

..........

______________________________
و ما يأتي من أخبار الجواز بحمل الأولى على الكراهة.

الثاني: أن يراد به كراهة مسّها باليد و إن كان يابسا لاحتمال السراية أحيانا، و يكون أصل الانتفاع مرخّصا فيه بلا إشكال. و الضمير في قوله: «و هو الكيمخت» يحتمل أن يرجع إلى المملوح، و يحتمل أن يرجع إلى الموصوف و الصفة معا. فالثاني موافق لما مرّ عن المجمع في معنى الكلمة. و أمّا على الأوّل فيكون الكيمخت أعمّ من الميتة و غيرها. و هو الذي يظهر من الموثقة الأولى و من خبر علي بن أبي حمزة الآتية «1».

و كيف كان فهذه أخبار يستدلّ بها على منع الانتفاع بالميتة. و قد عرفت أنّها ثلاثة أقسام: بعضها تدلّ على حرمة الانتفاع بها مطلقا، و بعضها تدلّ على حرمة الانتفاع بجلدها و عصبها و قد مرّ احتمال رجوعها إلى القسم الأوّل بإلغاء الخصوصية، و بعضها تدلّ على حرمة اللبس و ما شابهه. و أكثر الأخبار ضعاف كما مرّ بيانه.

الأخبار الدالّة على جواز الانتفاع بالميتة إجمالا

في قبال ما مرّ من أخبار المنع بأقسامها طائفة أخرى من الأخبار يستفاد منها جواز الانتفاع بالميتة إجمالا إلّا فيما يتوقف على الطهارة كالأكل و الشرب و الصلاة:

1- موثقة سماعة الأخيرة الدالة على الترخيص في جلد الميتة المملوح.

2- ما مرّ عن مستطرفات السرائر نقلا عن جامع البزنطي، صاحب الرضا «ع»، قال:

سألته عن الرجل يكون له الغنم يقطع من ألياتها و هي أحياء أ يصلح أن ينتفع بما قطع؟

قال: «نعم، يذيبها و يسرج بها، و لا يأكلها و لا يبيعها.» و رواه الحميري في قرب الإسناد‌

______________________________
(1) راجع الوسائل 2/ 1072، الباب 50 من أبواب النجاسات ...، الحديث 4.

327
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الأخبار الدالة على جواز الانتفاع بالميتة إجمالا ؛ ج‌1، ص : 327

..........

______________________________
بإسناده عن علي بن جعفر، عن أخيه «ع»
«1».

و لعلّ النهي عن البيع كان من جهة أنّ الإسراج بها لم يكن بحيث يوجب لها قيمة و مالية عرفية. أو المراد النهي عن بيعها للأكل أو فيما إذا كان إعانة عليه، و إلّا فلا وجه لحرمة بيعها بقصد المنافع المحلّلة.

3- ما عن الشيخ «ره» بإسناده عن محمد بن علي بن محبوب، عن يعقوب بن يزيد، عن ابن أبي عمير، عن أبي زياد النهدي، عن زرارة، قال: سألت أبا عبد اللّه «ع» عن جلد الخنزير يجعل دلوا يستقى به الماء. قال: «لا بأس.» و رواه الصدوق «ره» مرسلا عن الصادق «ع». قال الشيخ: «الوجه أنّه لا بأس أن يستقى به لكن يستعمل ذلك في سقي الدوابّ و الأشجار و نحو ذلك.» «2»

و رجال السند كلهم ثقات إلّا أبا زياد النهدي، فإنه مجهول، إلّا أن يعتبر برواية ابن أبي عمير عنه.

و الظاهر أنّ السؤال عن حكم الانتفاع بالجلد لا عن طهارة الماء و نجاسته. كما أنّ الظاهر كون الاستقاء بجلد الخنزير لمثل سقي الأشجار و الزراعات لا لشرب الإنسان، إذ يبعد جدّا استقاء المسلمين في عصر الإمام الصادق «ع» للشرب و الوضوء و نحوهما بجلد الخنزير الميتة المتفق على نجاسة ذاته فضلا عن ميتته.

و إذا جاز الانتفاع به فالانتفاع بجلود الحيوانات الطاهرة الميتة جائز بطريق أولى.

و قد مرّ عن الشيخ في ذبائح النهاية الإفتاء بذلك فقال: «و يجوز أن يعمل من جلود‌

______________________________
(1) الوسائل 16/ 296 (طبعة أخرى 16/ 360)، الباب 30 من أبواب الذبائح، الحديث 4.

(2) الوسائل 1/ 129، الباب 14 من أبواب الماء المطلق، الحديث 16 و ذيله.

328
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الأخبار الدالة على جواز الانتفاع بالميتة إجمالا ؛ ج‌1، ص : 327

..........

______________________________
الميتة دلو يستقى به الماء لغير وضوء الصلاة و الشرب، و تجنّبه أفضل.»
«1»

4- ما ذكره المصنّف من رواية الصيقل: فروى الشيخ «ره» بإسناده عن محمد بن الحسن الصفار، عن محمد بن عيسى بن عبيد، عن أبي القاسم الصيقل و ولده، قال: كتبوا إلى الرجل- عليه السلام-: جعلنا اللّه فداك، إنّا قوم نعمل السيوف، و ليست لنا معيشة و لا تجارة غيرها، و نحن مضطرّون إليها. و إنّما علاجنا من جلود الميتة من البغال و الحمير الأهلية لا يجوز في أعمالنا غيرها، فيحلّ لنا عملها و شراؤها و بيعها و مسّها بأيدينا و ثيابنا و نحن نصلّي في ثيابنا؟ و نحن محتاجون إلى جوابك في هذه المسألة يا سيّدنا لضرورتنا إليها. فكتب «ع»: «اجعل ثوبا للصلاة.» و كتبت إليه: جعلت فداك، و قوائم السيف التي تسمّى السفن أتخذها من جلود السمك، فهل يجوز لي العمل بها و لسنا نأكل لحومها؟ فكتب «ع»: «لا بأس به.»‌

أقول: هكذا في التهذيب «2»، و رواه عنه في الوسائل، و لكن فيه: «و إنما علاجنا جلود الميتة و البغال و الحمير الأهلية.» و في آخره: «و كتب إليه: جعلت فداك ...» «3»

و السفن كفرس: جلد خشن يجعل على قوائم السيوف.

و رجال السند إلى محمد بن عيسى ثقات، و كذلك هو أيضا على الأقوى. و أمّا أبو القاسم الصيقل فمجهول.

و لكن في مكاسب الأستاذ الإمام قال: «و الرواية صحيحة و لا يضرّ بها جهالة‌

______________________________
(1) النهاية/ 587، باب ما يحلّ من الميتة ... و حكم البيض و الجلود.

(2) التهذيب 6/ 376، باب المكاسب، الحديث 221.

(3) الوسائل 12/ 125، الباب 38 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 4.

329
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الأخبار الدالة على جواز الانتفاع بالميتة إجمالا ؛ ج‌1، ص : 327

..........

______________________________
أبى القاسم، لأنّ الراوي للكتابة و الجواب هو محمد بن عيسى. و قوله: قال: كتبوا، أي قال محمد بن عيسى: كتب الصيقل و ولده، فهو مخبر لا الصيقل و إلّا لقال: كتبنا.

و احتمال كون الراوي الصيقل مخالف للظاهر جدّا سيّما مع قوله في ذيلها: و كتب إليه، فلو كان الراوي الصيقل لقال: و كتبت إليه.» «1»

و قال المجلسي «ره» في ملاذ الأخيار أيضا: «القائل محمد بن عيسى، و الكاتب أبو القاسم و ولده مع رفيق أو تجوّزا.» «2»

أقول: احتمال كون القائل هو الصيقل حاكيا كتابة نفسه و ولده ليس بعيدا عن اللفظ. و حكى في الآخر كتابة نفسه. و الأستاذ «ره» اعتمد على نسخة الوسائل و لم يراجع التهذيب ظاهرا مع أنّه الأصل. و على هذا فصحّة الرواية غير واضحة.

و في ملاذ الأخيار أيضا: «و الظاهر أنّ المراد بالرجل: الحسن أو الحجّة، و يحتمل أبا الحسن الثالث أيضا صلوات اللّه عليهم أجمعين.» «3»

أقول: بل الظاهر أنّ المراد به الرضا «ع» بقرينة رواية أخرى يقاربها في المضمون بل المظنون اتحادهما. و إن كان الراوي فيها قاسم الصيقل، فيكون أحد من أبي القاسم و قاسم مصحّفا عن الآخر، و كلاهما مجهولان:

ففي الوسائل بإسناده عن قاسم الصيقل، قال: كتبت إلى الرضا «ع»: إني أعمل أغماد السيوف من جلود الحمر الميتة فتصيب ثيابي فأصلّي فيها؟ فكتب «ع» إليّ: «اتّخذ ثوبا‌

______________________________
(1) المكاسب المحرمة للإمام الخمينى «ره» 1/ 49.

(2) ملاذ الأخيار 10/ 390، ذيل الحديث 221 من باب المكاسب.

(3) ملاذ الأخيار 10/ 390، ذيل الحديث 221 من باب المكاسب.

330
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الأخبار الدالة على جواز الانتفاع بالميتة إجمالا ؛ ج‌1، ص : 327

..........

______________________________
لصلاتك.» فكتبت إلى أبي جعفر الثاني «ع»: كنت كتبت إلى أبيك «ع» بكذا و كذا، فصعب عليّ ذلك فصرت أعملها من جلود الحمر الوحشية الذكية. فكتب «ع» إليّ: «كلّ أعمال البرّ بالصبر يرحمك اللّه. فإن كان ما تعمل وحشيا ذكيا فلا بأس.»‌

رواها في الوسائل عن الكافي و التهذيب، فراجع «1».

و الأستاذ «ره» استظهر كون القاسم في هذه الرواية ابن أبي القاسم الراوي مع ولده للسابقة «2». هذا.

و تقريب الاستدلال بالروايتين: أنّ الإمام «ع» قرّر الصيقل و ولده فيما كانوا يصنعون من استعمال جلود الميتة في أغماد السيوف، بل و بيعها، و إنّما منع من الصلاة فيها، و تقرير الإمام حجة كفعله و قوله.

و أجاب عنه المصنّف- فيما يأتي من عبارته- «بأنّ مورد السؤال عمل السيوف و بيعها و شراؤها لا خصوص الغلاف مستقلا و لا في ضمن السيف على أن يكون جزء من الثمن في مقابل عين الجلد ... مع أنّ الجواب لا ظهور فيه في الجواز إلّا من حيث التقرير الغير الظاهر في الرضا خصوصا في المكاتبات المحتملة للتقية.»‌

و ناقشه الأستاذ الإمام بما حاصله: «أنّ المظنون لو لا المقطوع به: أنّ قوله في الرواية الأولى: «نعمل السيوف» مصحّف عن قوله: «نغمد السيوف.» و الشاهد عليه أوّلا رواية القاسم. و ثانيا: أنّ عمل السيوف بمعنى صنعتها أو تصقيلها عمل مستقل كان في تلك الأزمنة في غاية الأهمية. و هو عمل غير عمل تغميدها الذي كان مباينا لهما. و من‌

______________________________
(1) الوسائل 2/ 1050، الباب 34 من أبواب النجاسات ...، الحديث 4؛ عن الكافى 3/ 407؛ و التهذيب 2/ 358.

(2) المكاسب المحرمة للإمام الخمينى «قده» 1/ 50.

331
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الأخبار الدالة على جواز الانتفاع بالميتة إجمالا ؛ ج‌1، ص : 327

..........

______________________________
البعيد قيام شخص بعملها معا في ذلك العصر. و يشهد له قوله: «ليست لنا معيشة و لا تجارة غيرها و نحن مضطرّون إليها.» فأيّة معيشة و تجارة أعظم من صنعة السيوف في تلك الأزمنة أزمنة الحروف السّيفية، و أيّ احتياج لصانع السيوف إلى عمل الجلود؟

فلا شبهة في أنّ أبا القاسم و ولده بحسب هذه الرواية كان عملهم إغماد السيوف فسألوا عن بيع الميتة و شرائها و عملها و مسّها. و حملها على بيع السيوف لا بيع الجلود كما صنع شيخنا الأنصاري «ره» طرح للرواية الصحيحة الصّريحة.

نعم في رواية أخرى عن أبي القاسم الصيقل قال: كتبت إليه «ع»: إنّي رجل صيقل أشتري السيوف و أبيعها من السلطان، أ جائز لي بيعها؟ فكتب «ع»: «لا بأس به.» «1»

يظهر منها أيضا أنّ شغله لم يكن عمل السيف بل كان صيقلا. و مقتضى الروايتين أنّه كان يشتري السيوف و يغمدها و يبيعها من السلطان. و كيف كان فلا شبهة في بيعه الأغماد و لا معنى لإعطائها بلا ثمن و بنحو المجانية.

و أمّا قوله: «و نحن مضطرّون إليها» فليس المراد من الاضطرار هو الذي يحلّ المحظورات سيّما في مثل رجل كان يبيع من السلطان. بل المراد به الاضطرار و الاحتياج في التجارة و لهذا ترك القاسم العمل بالميتة بمجرّد صعوبة اتخاذ ثوب للصلاة. بل لا وجه للاضطرار إلى خصوص الميتة في بلاد المسلمين الشائع فيها الجلود الذكيّة في عصر الرضا و الجواد «ع».

و قوله: «لا يجوز في أعمالنا غيرها» يراد به أنّه لا تدور تجارتهم إلّا مع الابتلاء بها.

فالإنصاف أنّ الرواية ظاهرة الدلالة على جواز الانتفاع بجلود الميتة و بيعها و شرائها. بل‌

______________________________
(1) الوسائل 12/ 70، الباب 8 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 5.

332
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الأخبار الدالة على جواز الانتفاع بالميتة إجمالا ؛ ج‌1، ص : 327

..........

______________________________
ظاهر قول أبي جعفر «ع»: «كلّ أعمال البرّ بالصبر»: أنّ الأرجح ترك العمل بالميتة، فيكون شاهد جمع بينها و بين ما دلّت على أنّ الميتة لا ينتفع بها و هو الحمل على الكراهة ...»
«1»

أقول: ما ذكره الأستاذ «ره» من التفصيل بعضها حدسيّات يشكل إثباتها. و عمل السيوف يطلق على تصقيلها أيضا. و قد يقال: إنّ تصقيلها كان بسبب الجلود الخشنة الضخيمة. و قوله: «و إنّما علاجنا من جلود الميتة» يراد به أنّ عمل التصقيل لا يحصل إلّا بها، فليس في الرواية الأولى اسم من الإغماد، و إنّما كان يستعمل في التصقيل جلود الميتة من جهة أنّ البغال و الحمير لم يتعارف ذبحها بل كانت تستعمل غالبا إلى أن تموت حتف أنفها.

و لعلّ أبا القاسم و ولده كانوا متصدّين لجميع الأعمال الراجعة إلى السيوف من الصنع و التصقيل و الإغماد، و كان يختلف ذلك حسب اختلاف الطالبين و الأزمنة.

و في كلام الأستاذ «ره» يوجد نحو تهافت أيضا، إذ حمل قوله: «و نحن مضطرون إليها» تارة على مهانة شغلهم و جعل ذلك شاهدا على عدم كون شغلهم عمل السيوف، و أخرى على توقف شغلهم و دوران تجارتهم عليها.

و كيف كان فما ذكره الشيخ «ره» من عدم وقوع الثمن في مقابل الجلود خلاف الظاهر جدّا. كيف؟! و ظاهر قوله: «فيحلّ لنا عملها و شراؤها و بيعها و مسّها بأيدينا و ثيابنا و نحن نصلّي في ثيابنا» رجوع الضمائر إلى جلود الميتة لا إلى السيوف كما لا يخفى.

فالرواية- كما ذكره الأستاذ- تدلّ على جواز الانتفاع بجلود الميتة إجمالا و بيعها و أخذ الثمن في قبالها.

______________________________
(1) المكاسب المحرمة 1/ 50.

333
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الأخبار الدالة على جواز الانتفاع بالميتة إجمالا ؛ ج‌1، ص : 327

..........

______________________________
و أمّا احتمال التقية فيها فمدفوع بأنّ أهل الخلاف أيضا يمنعون من الانتفاع بالميتة و بيعها إلّا بعد دباغها. و ليس في الرواية اسم من الدباغة. و لو سلّم حملها على هذه الصورة فالأمر باتخاذ ثوب للصلاة لا يناسب التقية، إذ القائل بطهارتها بالدباغة يحلّ الصلاة فيها أيضا، فتدبّر.

5- ما مرّ عن دعائم الإسلام عن علي «ع»، قال: سمعت رسول اللّه «ص» يقول: «لا ينتفع من الميتة بإهاب و لا عظم و لا عصب.» فلمّا كان من الغد خرجت معه فإذا نحن بسخلة مطروحة على الطريق فقال: «ما كان على أهل هذه لو انتفعوا بإهابها؟» قال:

قلت: يا رسول اللّه، فأين قولك بالأمس: لا ينتفع من الميتة بإهاب؟ قال: «ينتفع منها باللحاف الذي لا يلصق.» «1» و رواه عنه في المستدرك إلّا أنّ فيه: «بالإهاب الذي لا يلصق.» «2»

إذ الظاهر منه عدم الانتفاع بالإهاب إلّا بعد الدباغة المزيلة لدسومته، فالممنوع الانتفاع به مع السراية لا مطلقا. و لا دليل على حمل الخبر على مطهّرية الدباغة و صدوره تقية.

و مؤلّف الدعائم أيضا ينكر مطهّرية الدباغة أشدّ الإنكار، فراجع ما ذكره قبل هذه الرواية. هذا. و لكن الرواية مرسلة، و الكتاب أيضا لم يثبت اعتباره.

6- رواية علي بن أبي حمزة، قال: سألت أبا عبد اللّه «ع» أو أبا الحسن «ع» عن لباس الفراء و الصلاة فيها. فقال: «لا تصلّ فيها إلّا ما كان منه ذكيا.» قال: قلت: أو ليس الذكيّ ممّا ذكّي بالحديد؟ قال: «بلى إذا كان ممّا يؤكل لحمه ...» «3»

______________________________
(1) دعائم الإسلام 1/ 126، كتاب الطهارة- ذكر طهارات الجلود و العظام و الشعر و الصوف.

(2) مستدرك الوسائل 3/ 77، الباب 25 من أبواب الأطعمة المحرمة، الحديث 2.

(3) الوسائل 3/ 251، الباب 2 من أبواب لباس المصلّى، الحديث 2.

334
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الأخبار الدالة على جواز الانتفاع بالميتة إجمالا ؛ ج‌1، ص : 327

..........

______________________________
بتقريب أنّ السؤال وقع عن اللبس و الصلاة معا، فسكوته «ع» عن حكم اللبس ظاهر في جوازه، و لكن السند مخدوش و الدلالة أيضا ممنوعة لاحتمال كون السؤال عن الصلاة فقط.

7- رواية أخرى له، قال: إنّ رجلا سأل أبا عبد اللّه «ع» و أنا عنده عن الرجل يتقلّد السيف و يصلّي فيه؟ قال: «نعم.» فقال الرجل: إنّ فيه الكيمخت. قال «ع»: «و ما الكيمخت؟» قال: جلود دوابّ منه ما يكون ذكيا و منه ما يكون ميتة. فقال «ع»: «ما علمت أنّه ميتة فلا تصلّ فيه.» «1»

بتقريب أنّ النهي وقع عن الصلاة فقط لا عن أصل تقليده. و لكن السند مخدوش بابن أبي حمزة، و الدلالة أيضا ممنوعة كما مرّ.

و استصحاب عدم التذكية يقتضي عدم جواز الصلاة في المشكوك أيضا إلّا أن يقال:

إنّ المفروض شراؤه من سوق المسلمين.

8- ما رواه أبو بصير، قال: سألت أبا عبد اللّه «ع» عن الصلاة في الفراء. فقال: «كان عليّ بن الحسين «ع» رجلا صردا لا يدفئه فراء الحجاز لأن دباغها بالقرظ، فكان يبعث إلى العراق فيؤتى ممّا قبلكم بالفرو فيلبسه، فإذا حضرت الصلاة ألقاه و ألقى القميص الذي يليه، فكان يسأل عن ذلك فقال: «إنّ أهل العراق يستحلّون لباس جلود الميتة و يزعمون أنّ دباغه ذكاته.» «2»

بتقريب أنّ فعله «ع» يدلّ على جواز الانتفاع بالميتة إلّا فيما يكون مشروطا بالطهارة كالصلاة.

______________________________
(1) الوسائل 2/ 1072، الباب 50 من أبواب النجاسات ...، الحديث 4.

(2) الوسائل 3/ 338، الباب 61 من أبواب لباس المصلّى، الحديث 2.

335
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

و ما قيل في الجمع بين الطائفتين وجوه: ؛ ج‌1، ص : 336

..........

______________________________
إلّا أن يقال مضافا إلى ضعف سند الرواية: إنّ المأخوذ من سوق المسلمين محكوم بالتذكية شرعا فلا بأس بلبسه و الصلاة فيه. و إنّما احترز هو «ع» عن الصلاة فيه احتياطا لأمر الصلاة التي هي معراج المؤمن. و إذا فرض كون الاحتياط المطلق موجبا للعسر و الحرج فلا محالة يحتاط في الأمور المهمّة كالصلاة مثلا، و الاحتياط حسن على كلّ حال.

9- ما عن الجعفريات بإسناده أنّ عليّا «ع» كان يصلّي في سيفه و عليه الكيمخت «1».

بتقريب أنّ الكيمخت- على ما مرّ عن مجمع البحرين- كان من الميتة و إلّا لما كان وجه لنقل فعله «ع».

أقول: قد مرّ منّا منع انحصار الكيمخت في الميتة، كما يشهد بذلك موثقة سماعة و كذا رواية علي بن أبي حمزة المتقدمتين.

و لعلّ نقل فعله «ع» كان لبيان ذلك أو لمنع كونه من أجزاء ما لا يؤكل لحمه و إلّا لم يكن وجه لصلاته «ع» فيه مع فرض كونه ميتة.

فإلى هنا ذكرنا تسعة أخبار يستدلّ بها على جواز الانتفاع بالميتة إجمالا و أكثرها ضعاف و لكن ربما يوجب استفاضتها الوثوق بصدور بعضها إجمالا، مضافا إلى أنّ أخبار المنع أيضا أكثرها ضعاف كما مرّ.

و ما قيل في الجمع بين الطائفتين وجوه:

الأوّل: أنّ أخبار الجواز صريحة في الجواز و أخبار المنع ظاهرة في المنع فتحمل أخبار المنع على الكراهة.

______________________________
(1) مستدرك الوسائل 1/ 206، الباب 39 من أبواب لباس المصلّى، الحديث 1.

336
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

و ما قيل في الجمع بين الطائفتين وجوه: ؛ ج‌1، ص : 336

..........

______________________________
و يوجد في نفس الأخبار شواهد لذلك كما مرّ. مثل قوله «ع» في موثقة سماعة: «إن لم تمسّه فهو أفضل.»‌

و قوله «ع» في خبر الصيقل: «كلّ أعمال البرّ بالصبر»، و قوله «ع» في خبر الوشّاء: «أمّا تعلم أنّه يصيب اليد و الثوب و هو حرام؟»، حيث إنّ ظاهره الإرشاد و هو مناسب للكراهة، فتأمّل.

الثاني: حمل أخبار المنع على الانتفاع بها نحو ما ينتفع من المذكّى من الاستعمال فيما يتوقف على الطهارة كالصلاة و الأكل و الشرب. و يشهد لذلك ما مرّ من خبر البزنطي في قطع أليات الغنم و هي أحياء، حيث قال: «يذيبها و يسرج بها، و لا يأكلها و لا يبيعها.» و نحوه خبر الدعائم، حيث صرّح فيه بالانتفاع منها باللحاف الذي لا يلصق.

الثالث: حمل أخبار الجواز على خصوص ما وردت فيها من الجلود و الأليات لكثرة الابتلاء بهما.

و لكن يرد على ذلك القطع بعدم خصوصية لهما و إن احتملنا في أخبار المنع الخصوصية لمنع الجلود. و في أعصارنا قد كثر الابتلاء بالأجساد للتشريح و الترقيع و نحوهما.

الرابع: حمل أخبار الجواز على التقية.

و لكن يرد عليه أنّ أكثر أهل الخلاف أيضا يمنعون من الانتفاع بها حتى من الجلود قبل دباغتها.

قال في الشرح الكبير: «فأمّا شحوم الميتة و شحم الكلب و الخنزير فلا يجوز الاستصباح‌

337
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

و ما قيل في الجمع بين الطائفتين وجوه: ؛ ج‌1، ص : 336

..........

______________________________
به و لا الانتفاع به في جلود و لا سفن و لا غيرها لما ذكرنا من الحديث.»
«1»

الخامس: ما في حاشية الإيرواني «ره» قال: «و أحسن جمع بينها و بين الطائفة المانعة عن الانتفاع حمل الطائفة المانعة على صورة التلويث، كما يشهد به ما ورد من تعليل المنع عن الإسراج بأليات الغنم بأنّه يصيب اليد و الثوب و هو حرام. و حمل أخبار الرخصة على صورة التحفّظ من التلويث أو عدم استعمال ما يتلوّث بها فيما يشترط بالطهارة.

و في رواية الصيقل التصريح بذلك و أنّ المنع من استعمال جلد الميتة إنّما هو من جهة حصول التلويث.» «2»

أقول: تلويث اليد و الثياب بالنجاسة ليس بنفسه محرما شرعيا بلا إشكال و لم يفت به أحد. نعم لا يجوز الصلاة معها و لا استعمالها في الأكل و الشرب. و على هذا فيرجع ما ذكره إلى ما مرّ من الوجه الثاني.

و ظاهر التعليل بأنّه يصيب اليد و الثوب كونه للإرشاد لا لبيان الحكم التكليفي كما مرّ بيانه. هذا.

و لو سلّم تكافؤ أخبار المنع و أخبار الجواز و لم يظهر وجه للجمع بينهما كان المرجع بعد التساقط قاعدة الحلّ. و كذا قوله- تعالى-: هُوَ الَّذي خَلَقَ لَكُمْ مٰا في الْأَرْض جَميعاً. «3»

و أمّا الإجماع المدّعى على المنع فقد عرفت في أوّل المسألة منعه و ذكرنا هناك كلمات كثيرة منهم في الجواز، فراجع.

______________________________
(1) ذيل «المغنى» 4/ 15، كتاب البيع، الشرط الثالث من شروط صحة البيع.

(2) حاشية المكاسب للمحقق الإيروانى/ 5.

(3) سورة البقرة (2)، الآية 29.

338
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

حكم بيع الميتة ؛ ج‌1، ص : 339

[حكم بيع الميتة]

و خصوص عدّ ثمن الميتة من السحت في رواية السكوني. (1)

______________________________
حكم بيع الميتة

(1) ما مرّ إلى هنا كان في البحث عن المقام الأوّل أعني حكم الانتفاع بالميتة، و قد قوّينا فيه الجواز.

[كلمات الفقهاء]

و أمّا المقام الثاني أعني البحث عن حكم بيعها فالمشهور عدم صحة بيعها و شرائها بل ادّعي على ذلك الإجماع في كلماتهم. و قد مرّ في أوّل المسألة نقله عن التذكرة و المنتهى و التنقيح، فراجع «1».

و في المستند: «حرمة بيعها و شرائها و التكسب بها إجماعي.» «2»

و مرّ المنع عن بيعها في عبارات المقنعة، و النهاية، و المبسوط، و المراسم، و الشرائع، و القواعد، و الفقه على المذاهب الأربعة نقلا عن الحنابلة و الحنفية و المالكية، و عن الشافعية: لا يصحّ بيع كل نجس «3».

و في الشرح الكبير: «لا يجوز بيع الميتة و لا الخنزير و لا الدم. قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على القول به.» «4»

[استدلّ للمنع بوجوه]

و كيف كان فاستدلّ للمنع بوجوه:

الأوّل: الإجماعات المدّعاة و الشهرة المحققة.

و يرد عليهما منع كونهما تعبّديين كاشفين عن قول المعصوم «ع» أو دليل معتبر و اصل‌

______________________________
(1) راجع ص 308 من الكتاب.

(2) مستند الشيعة 2/ 333، كتاب مطلق المكاسب، المقصد الثالث، الفصل الثانى.

(3) راجع ص 176 و ما بعدها من الكتاب.

(4) ذيل «المغنى» 4/ 13، كتاب البيع، الشرط الثالث من شروط صحة البيع.

339
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الثاني: ما مر في عبارة المصنف و محصله عدم جواز الانتفاع بالميتة، ؛ ج‌1، ص : 340

..........

______________________________
إليهم غير ما بأيدينا. بل المظنون كونهما مستندين إلى ما يأتي من الأدلّة المذكورة لعدم جواز بيعها و بيع كلّ نجس.

الثاني: ما مرّ في عبارة المصنّف و محصّله عدم جواز الانتفاع بالميتة،

فلا تكون مالا عند المتشرعة المتعبّدين بالشرع. لدوران مالية الأشياء مدار الانتفاعات الحاصلة منها. و إذا لم تكن مالا صار أخذ الثمن بإزائها أكلا للمال بالباطل.

و يرد على ذلك أوّلا: ما مرّ منّا بالتفصيل من جواز الانتفاع بها فيما لا يتوقف على الطهارة، و به أفتى كثير منّا كما مرّ.

و حينئذ فربما يرغب فيها من لا يجدها فيجوز بيعها منه، لما مرّ من أنّ المعاملات ليست بإبداع الشارع و اختراعه، بل هي أمور عرفية عقلائية اخترعها العقلاء لرفع الحاجات و تبادل الأعيان و المنافع، و يكفي في صحتها عدم ردع الشارع عنها. مضافا إلى عموم أدلّة العقود و التجارة.

اللهمّ إلّا أن يقال بردع الروايات الآتية عنها، فانتظر.

و ثانيا: ما مرّ من أنّ الظاهر من الباء في قوله- تعالى-: بالْبٰاطل بقرينة استثناء التجارة عن تراض كونها للسببية لا للمقابلة، فتكون الآية بصدد المنع عن أكل الأموال بالأسباب الباطلة من القمار و السرقة و نحوهما. و لا نظر لها إلى ماهية العوضين و أنّ لهما مالية أم لا. نعم لو لم يكن يترتب على الشي‌ء غرض عقلائي أصلا بحيث عدّت المعاوضة عليه سفهية أمكن القول ببطلانها لذلك.

الثالث: اتفاق المسلمين على نجاسة الميتة

مما له نفس سائلة، فتشملها الأدلّة العامّة التي أقاموها على عدم صحة بيع النجس، و منها رواية تحف العقول الماضية و قد ذكر فيها‌

340
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الرابع: الأخبار التي عد فيها ثمن الميتة من السحت: ؛ ج‌1، ص : 341

..........

______________________________
الميتة بخصوصها، فراجع.

و يرد على ذلك: ما مرّ في تكملة البحث عن بيع النجس من عدم كون النجاسة بنفسها مانعة عن صحّة البيع. و أنّه يظهر من كثير من كلماتهم أنّ عدم جواز بيعها مسبّب عن عدم جواز الانتفاع بها. و قد مرّ تفصيل ذلك فلا نعيد. و حينئذ فلو قلنا بجواز الانتفاع بالميتة إجمالا فلا مانع من المعاملة عليها مع الحاجة.

و المصنّف أيضا و إن كان يظهر من كلماته السابقة كون النجاسة بنفسها مانعة عن الصحّة لكن صرّح هنا بأنّ مجرّد النجاسة لا تصلح علّة لمنع البيع لو لا الإجماع على حرمة بيع الميتة بقول مطلق.

الرابع: الأخبار التي عدّ فيها ثمن الميتة من السحت:

1- معتبرة السكوني عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «السّحت ثمن الميتة و ثمن الكلب و ثمن الخمر و مهر البغيّ و الرشوة في الحكم و أجر الكاهن.» «1»

2- مرسلة الصدوق، قال: و قال (أبو عبد اللّه «ع»): «أجر الزانية سحت، و ثمن الكلب الذي ليس بكلب الصيد سحت، و ثمن الخمر سحت، و أجر الكاهن سحت، و ثمن الميتة سحت. فأمّا الرشا في الحكم فهو الكفر باللّه العظيم.» «2»

و الرواية و إن أرسلها الصدوق لكن إسناده القطعي إلى الإمام «ع» يدلّ على صحّتها و اعتبارها عنده.

3- ما في خبر وصايا النبي «ص» لعليّ «ع»، قال: «يا عليّ، من السّحت ثمن الميتة‌

______________________________
(1) الوسائل 12/ 62، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 5.

(2) نفس المصدر و الباب، ص 63، الحديث 8.

341
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الخامس: الأخبار التي وقع فيها النهي عن بيعها ؛ ج‌1، ص : 342

..........

______________________________
و ثمن الكلب و ثمن الخمر و مهر الزانية و الرشوة في الحكم و أجر الكاهن.»
«1»

4- ما في كتاب التفسير من الجعفريات بإسناده عن عليّ «ع»، قال: «من السّحت ثمن الميتة و ثمن اللقاح و مهر البغيّ و كسب الحجّام و أجر الكاهن ...» «2» و رواه عنه في المستدرك «3».

و تقريب الاستدلال بهذه الروايات أنّ لفظ السّحت و إن كان ربما يفسّر بمطلق ما فيه عار و خسّة و بهذا اللحاظ أطلق على المكروهات أيضا كأجر الحجّام و ثمن اللقاح و ثمن القرد و أجر القارئ و نحو ذلك كما مرّ، لكن الظاهر منه مع الإطلاق خصوص الحرام.

و قد مرّ عن الخليل في العين «4» تفسير السحت بكلّ حرام قبيح الذكر يلزم منه العار.

و عن معجم مقاييس اللغة قوله: «المال السحت: كلّ حرام يلزم آكله العار.» «5»

إلى غير ذلك من كلماتهم، فراجع ما ذكرناه في مسألة بيع العذرة.

و لا يخفى أنّ حرمة الثمن يكشف عن فساد المعاملة و عدم تحقق الانتقال، إذ لا وجه لحرمته مع صحّتها.

و كيف كان فدلالة هذه الروايات على المنع واضحة إلّا أن يعارضها دليل أقوى فتحمل على الكراهة.

الخامس: الأخبار التي وقع فيها النهي عن بيعها

أو صرّحت بتحريم البيع أو الثمن:

______________________________
(1) نفس المصدر و الباب و الصفحة، الحديث 9.

(2) الجعفريات (المطبوع مع قرب الإسناد)/ 180، كتاب التفسير.

(3) مستدرك الوسائل 2/ 426، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

(4) العين 3/ 132.

(5) مقاييس اللغة 3/ 143.

342
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الخامس: الأخبار التي وقع فيها النهي عن بيعها ؛ ج‌1، ص : 342

..........

______________________________
1- ما مرّ عن مستطرفات السّرائر عن البزنطي، صاحب الرضا «ع»، قال: سألته عن الرجل تكون له الغنم يقطع من ألياتها و هي أحياء أ يصلح له أن ينتفع بما قطع؟ قال: «نعم يذيبها و يسرج بها، و لا يأكلها و لا يبيعها.»‌

و رواه في قرب الإسناد أيضا عن عبد اللّه بن الحسن، عن علي بن جعفر، عن أخيه «ع» «1».

2- رواية علي بن جعفر عن أخيه «ع»، قال: سألته عن الماشية تكون للرجل فيموت بعضها أ يصلح له بيع جلودها و دباغها و لبسها؟ قال: «لا، و لو لبسها فلا يصلّي فيها.» «2»

بناء على ظهور عدم الصلاح في الحرمة و رجوع النفي إلى البيع و اللبس معا.

3- ما في دعائم الإسلام بإسناده عن عليّ «ع»: أنّ رسول اللّه «ص» نهى عن بيع الأحرار و عن بيع الميتة و الدّم و الخنزير و الأصنام ...» «3» و رواه عنه في المستدرك «4».

4- ما في سنن أبي داود بإسناده عن جابر بن عبد اللّه أنّه سمع رسول اللّه «ص» يقول عام الفتح و هو بمكّة: «إنّ اللّه حرّم بيع الخمر و الميتة و الخنزير و الأصنام.» فقيل: يا رسول اللّه، أ رأيت شحوم الميتة فإنّه يطلى بها السفن و يدهن بها الجلود و يستصبح بها الناس؟

فقال: «لا، هو حرام.» ثم قال رسول اللّه «ص» عند ذلك: «قاتل اللّه اليهود لمّا حرم عليهم شحومها أجملوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه.» و بإسناد آخر عن جابر نحوه و لم يقل: «هو حرام.» «5»

______________________________
(1) الوسائل 12/ 67، الباب 6 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 6؛ و 16/ 296 (طبعة أخرى 16/ 360).

(2) الوسائل 12/ 65، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 17؛ و 16/ 369 (طبعة أخرى 16/ 453).

(3) دعائم الإسلام 2/ 18، كتاب البيوع، الفصل 2، الحديث 22.

(4) مستدرك الوسائل 2/ 427، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 5.

(5) سنن أبى داود 2/ 250- 251، كتاب الإجارة، باب في ثمن الخمر و الميتة.

343
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الخامس: الأخبار التي وقع فيها النهي عن بيعها ؛ ج‌1، ص : 342

..........

______________________________
و رواية جابر رواها مسلم أيضا في كتاب المساقاة من صحيحه، و ابن ماجة في التجارات، فراجع
«1».

أقول: قد مرّ أنّ السفن كفرس: جلد خشن يجعل على قوائم السيف. و جمله و جمّله و أجمله بمعنى أذابه.

و الظاهر أنّ الرواية أظهر رواية في حرمة جميع الانتفاعات، و هي المرجع لفقهاء السنة في تحريم بيع جميع النجاسات بضميمة ما ورد في الكلب، فقاسوا على ما ذكر فيهما سائر النجاسات، كما مرّ عن أبي إسحاق الشيرازي في المهذّب، فراجع «2».

و في الرواية و لا سيما في السؤال دلالة على التلازم بين جواز الانتفاع بالشي‌ء و جواز بيعه، كما كنّا نصّر عليه.

5- ما في سنن أبي داود أيضا بإسناده عن أبي هريرة أنّ رسول اللّه «ص» قال: «إنّ اللّه حرّم الخمر و ثمنها، و حرّم الميتة و ثمنها، و حرّم الخنزير و ثمنه.» «3» و لكن الروايتين الأخيريتين عاميتان.

فهذه الروايات و ما قبلها من أخبار السحت ظاهرة في حرمة بيع الميتة و فساده بنحو الإطلاق. و حملها على الكراهة أو على ما إذا وقع البيع بقصد الأكل أو كان إعانة عليه مخالف للظاهر جدّا لا يصار إليه إلّا بدليل متقن.

______________________________
(1) راجع صحيح مسلم 3/ 1207، كتاب المساقاة، باب تحريم بيع الخمر و الميتة و ...، الحديث 71؛ و سنن ابن ماجة 2/ 732، كتاب التجارات، باب ما لا يحل بيعه، الحديث 2167.

(2) راجع المهذّب 9/ 225 المطبوع مع شرحه «المجموع» للنووي.

(3) سنن أبى داود 2/ 250- 251، كتاب الإجارة، باب في ثمن الخمر و الميتة.

344
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

ما ورد في الجواز ؛ ج‌1، ص : 345

 

[ما ورد في الجواز]

[رواية الصيقل]

نعم قد ورد بعض ما يظهر منه الجواز، مثل رواية الصيقل، قال:

كتبوا إلى الرجل: جعلنا اللّه فداك إنّا قوم نعمل السيوف و ليست لنا معيشة و لا تجارة غيرها و نحن مضطرّون إليها. و إنما غلافها (1) من جلود الميتة من البغال و الحمير الأهلية لا يجوز في أعمالنا غيرها. (2) فيحلّ لنا عملها و شراؤها و بيعها و مسّها بأيدينا و ثيابنا و نحن نصلّي في ثيابنا؟ و نحن محتاجون إلى جوابك في المسألة يا سيدنا لضرورتنا إليها.

فكتب «ع»: «اجعلوا ثوبا للصلاة». الحديث. و نحوها رواية أخرى بهذا المضمون. (3)

______________________________
(1) في التهذيب و الوسائل
«1»: «و إنّما علاجنا.» و قد يقال- كما مرّ- أنّه لا دليل على كون السؤال في هذه الرواية عن الغلاف و الأغماد، بل كان عن تصقيل السيوف بجلود الميتة حيث إنّها كانت وسيلة للتصقيل و هو المراد بعمل السيوف.

و لكن الأستاذ الإمام «ره» جعل قوله: «نعمل السيوف» مصحفا عن قوله: «نغمد السيوف» بقرينة رواية القاسم الصيقل كما مرّ.

(2) الضمير في غيرها يحتمل أن يرجع إلى جلود الميتة، و يحتمل أن يرجع إلى البغال و الحمير. و لكن الظاهر هو الأوّل كما لا يخفى.

(3) المقصود بها رواية قاسم الصيقل التي مرّت «2». و قد احتملنا اتحادهما و كون القاسم و أبي القاسم أحدهما مصحفا عن الآخر، فراجع ما مرّ في البحث عن الانتفاع بالميتة «3».

______________________________
(1) راجع التهذيب 6/ 376، باب المكاسب، الحديث 221؛ عنه الوسائل 12/ 125.

(2) راجع الوسائل 2/ 1050، الباب 34 من أبواب النجاسات، الحديث 4.

(3) راجع ص 330 من الكتاب.

 

345
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

رواية الصيقل ؛ ج‌1، ص : 345

..........

______________________________
و تقريب الاستدلال بالرواية على الجواز و الصحّة أنّ الإمام «ع» قرّر الصيقل و ولده على ما كانوا يصنعون من استعمال جلود الميتة و شرائها و بيعها، و إنّما منع عن الصلاة فيها، و تقريره «ع» حجة كقوله و فعله، إذ سكوته إغراء بالجهل و هو قبيح. و بضميمة إلغاء الخصوصية و عدم خصوصية للمورد يتم المطلوب.

و يؤيد ذلك ما مرّ من جلب علي بن الحسين «ع» الفرو من العراق ليدفئه و إلقائه عنه عند الصلاة. إذ الظاهر أنّه كان بالشراء منهم، فكان فعله «ع» تنفيذا لبيعها. إلّا أن يقال: إنّ ذلك كان على مبنى يد المسلم و سوقه المقتضيين للتذكية و إنّ إلقاءه عند الصلاة كان لأجل الاحتياط في الصلاة التي هي عمود الدين كما مرّ.

أقول: قد مرّ أنّ أبا القاسم و القاسم الصيقل كليهما مجهولان. و لكن الأستاذ الإمام «ره» حكم بصحّة الرواية بجعل الراوي لها محمد بن عيسى لا الصيقل. و نحن قد ناقشنا في ذلك كما مرّ. و إذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال.

و يظهر من مصباح الفقاهة أيضا هنا «1» الاعتماد على الرواية، حيث جعل أخبار المنع معارضة بهذه الرواية، و لكنه بعد صفحتين صرّح بكونها ضعيفة السند. و كيف كان فلو فرض صحّة الرواية و الاعتماد عليها فلا محالة يجمع بينها و بين أخبار المنع إمّا بحمل أخبار المنع على التقية لما قيل من اتفاق العامّة على المنع، و إمّا على الكراهة و إن كان لا يجري هذا فيما اشتمل منها على لفظ الحرمة، و إمّا على صورة وقوع البيع عليها بنحو يقع على المذكّى من دون إعلام.

و لو سلّم عدم تطرّق جمع بينهما فمقتضى القاعدة التساقط و الرجوع إلى الأصول و القواعد. و الأصل في المعاملات و إن اقتضى الفساد و عدم ترتّب الأثر لكن مقتضى‌

______________________________
(1) راجع مصباح الفقاهة 1/ 69.

346
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

رواية الصيقل ؛ ج‌1، ص : 345

..........

______________________________
عمومات العقود و التجارة هو الصّحة. و يؤيد ذلك ما مرّ منّا من التلازم بين جواز الانتفاع شرعا و صحّة البيع لذلك، إذ المعاملات شرّعت لرفع حاجات المجتمع في تبادل الأعيان و المنافع و ليس لتشريعها مصالح خفيّة سرّية لا يعلمها إلّا اللّه- تعالى-.

و على هذا فإذا فرض جواز بعض الانتفاعات منها و صار لها قيمة و مالية لذلك فأيّ وجه يتصور لمنع المعاملة عليها؟ و هل هذا إلّا جزاف؟ اللّهم إلّا أن يكون بنحو التنزيه حذرا من أن ينتفع بها أحيانا بالنحو المحرّم.

فإن قلت: الاستدلال بخبر الصيقل كان من جهة التقرير. و من المحتمل أن تقريره «ع» كان لأجل أنّ الصيقل و ولده كانوا مضطرين، كما يشهد بذلك قولهم: «و نحن مضطرون إليها»، و قولهم: «لا يجوز في أعمالنا غيرها.»‌

قلت: قد أجاب عن ذلك الأستاذ الإمام «ره» كما مرّ بأنّ المراد بذلك دوران تجارتهم عليها لا الاضطرار الذي يبيح المحظورات. و لذا ترك القاسم الصيقل العمل بالميتة بمجرد صعوبة اتخاذ ثوب للصلاة. بل لا وجه للاضطرار إلى خصوص الميتة في بلاد المسلمين الشائع فيها الجلود الذكيّة في عصر الرضا و الجواد «ع».

و أجاب عنه في مصباح الفقاهة بما محصّله: «أنّ منشأ هذا التوهم إرجاع الضمير في «غيرها» إلى جلود الميتة، و لكنه فاسد، إذ لا خصوصية لها حتّى لا يمكن جعل الأغماد من غيرها.

بل مرجع الضمير إنما هي جلود البغال و الحمير سواء كانت من الميتة أو الذكيّ. و يدلّ على ذلك قوله في رواية القاسم الصيقل: فإن كان ما تعمل وحشيّا ذكيا فلا بأس.» «1»

أقول: ما ذكره الأستاذ «ره» قريب جدّا، إذ هو المتبادر من لفظ الاضطرار في أمثال المقام من محاورات التجار و أهل الحرف.

______________________________
(1) مصباح الفقاهة 1/ 70.

347
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

رواية الصيقل ؛ ج‌1، ص : 345

..........

______________________________
و أمّا ما في مصباح الفقاهة فقابل للمناقشة، إذ ما ذكره الصيقل و ولده من الاضطرار و من عدم جواز غيرها ذكرا مقدمة لبيان ما بعدهما من السؤال عن حلّية عملها و شرائها و بيعها و مسّها بأيديهم و ثيابهم و هم يصلّون. و إنّما يتطرق هذا الإشكال و السؤال لو فرض الاضطرار إلى خصوص الميتة. و أمّا الاضطرار إلى جلود البغال و الحمر الأهلية الذكية فلا يوجب إشكالا يحوج إلى السؤال، فتأمّل. هذا.

و قد يقال: لو فرض الاضطرار المبيح للمحظورات فهو يصلح لأن يرفع التكليف فقط و لا يصلح لأن يصحح المعاملة الفاسدة.

أقول: يمكن منع ذلك لدلالة بعض الأخبار المعتبرة على كون الاضطرار رافعا للوضع أيضا:

ففي صحيحة محمد بن مسلم قال: سألت أبا عبد اللّه «ع» عن الرجل و المرأة يذهب بصره فيأتيه الأطبّاء فيقولون: نداويك شهرا أو أربعين ليلة مستلقيا، كذلك يصلّي؟

فرخص في ذلك و قال: فَمَن اضْطُرَّ غَيْرَ بٰاغٍ وَ لٰا عٰادٍ فَلٰا إثْمَ عَلَيْه. «1»

و في موثقة سماعة قال: سألته عن الرجل يكون في عينيه الماء فينتزع الماء منها فيستلقي على ظهره الأيام الكثيرة أربعين يوما أو أقل أو أكثر فيمتنع من الصلاة الأيام إلّا إيماء و هو على حاله. فقال: «لا بأس بذلك، و ليس شي‌ء ممّا حرّم اللّه إلّا و قد أحلّه لمن اضطر إليه.» «2»

و راجع موثقة أبي بصير أيضا «3» و المقصود بالحرمة و الحلّ في أمثال هذه الروايات هو الأعمّ من التكليف و الوضع كما مرّ.

______________________________
(1) الوسائل 4/ 699، الباب 7 من أبواب القيام، الحديث 1. و الآية المذكورة من سورة البقرة (2)، رقمها 173.

(2) الوسائل 4/ 690، الباب 1 من أبواب القيام، الحديثان 6.

(3) الوسائل 4/ 690، الباب 1 من أبواب القيام، الحديثان 7.

348
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

رواية الصيقل ؛ ج‌1، ص : 345

و لذا قال في الكفاية و الحدائق: إنّ الحكم لا يخلو عن إشكال.

و يمكن أن يقال: إنّ مورد السؤال عمل السيوف و بيعها و شراؤها لا خصوص الغلاف مستقلا و لا في ضمن السيف على أن يكون جزء من الثمن في مقابل عين الجلد. (1) فغاية ما يدلّ عليه جواز الانتفاع بجلد الميتة بجعله غمدا للسيف و هو لا ينافي عدم جواز معاوضته بالمال. (2) و لذا جوّز جماعة منهم الفاضلان في النافع و الإرشاد على ما حكي عنهما الاستقاء بجلد الميتة لغير الصلاة و الشرب. (3) مع عدم قولهم بجواز بيعه.

______________________________
(1) أقول: ما احتمله المصنف من القول عجيب لوضوح أنّ الضمائر في قول السائل:

«فيحلّ لنا عملها و شراؤها و بيعها و مسّها بأيدينا و ثيابنا و نحن نصلّي في ثيابنا؟» كلّها راجعة إلى الجلود لا السيوف، إذ مسّ السيوف لا يوجب إشكالا في الصلاة قطعا.

مضافا إلى أن تقديم الشراء على البيع أيضا يشهد بذلك لأن عامل السيوف لا يشتري سيوفا للبيع و إنما يشتري الجلود لتغميدها ثم بيعها.

و الأغماد إذا صنعت من الجلود لم تكن أشياء مبتذلة عند الناس حتى لا تتقوم و لا تقابل بالمال. بل ربما كانت قيمتها على حسب كيفية صنعها و ظرافتها أكثر من نفس السيوف بمراتب.

(2) قد مرّ آنفا وجود التلازم بين جواز الانتفاع الموجب للمالية و الرغبة في الشي‌ء و بين جواز المعاملة عليه، و يأتي من المصنف أيضا.

(3) قد مرّ في أوّل المسألة في هذا المجال عبارات النهاية و التهذيب و الشرائع و النافع و الإرشاد و القواعد و مفتاح الكرامة فراجع. و لأجل ذلك منعنا الإجماع على حرمة الانتفاع بالميتة و إن ادّعاه بعض.

349
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

رواية الصيقل ؛ ج‌1، ص : 345

مع أنّ الجواب لا ظهور فيه في الجواز إلّا من حيث التقرير الغير الظاهر في الرضا خصوصا في المكاتبات المحتملة للتقية. (1)

______________________________
(1) قد مرّ بيان أنّ تقرير المعصوم «ع» مثل قوله و فعله، إذ السكوت منه في مقابل بعض الأعمال المسؤول عنها مع إمكان الردع يعتبر إمضاء له. و لا يتطرق احتمال التقية في هذه المكاتبة حيث إنّ فتوى أهل الخلاف على المنع.

و قد مرّت عبارة الشرح الكبير حيث قال: «و لا يجوز بيع الميتة و لا الخنزير و لا الدّم.

قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على القول به.» «1» هذا.

و تعرّض في مصباح الفقاهة في هذا المجال لسؤال و أجوبة فقال: «و ربما ترمى الرواية بالتقية لذهاب العامة إلى جواز بيع جلود الميتة بعد الدبغ لطهارتها به. و أمّا قبل الدبغ فلا تصلح للإغماد.

و فيه أوّلا: أنّ أمره «ع» بأن يجعلوا ثوبا لصلاتهم على خلاف التقية.

و ثانيا: لو كانت الرواية موردا للتقية لكان الأليق أن يجاب بحرمة البيع و الشراء و يدفع محذور التقية عند الابتلاء بها بإرادة حرمة بيعها قبل الدبغ. فإنّ فيه بيان الحكم الواقعي مع ملاحظة التقية.

و ثالثا: أنّ الرواية خالية عن كون البيع و الشراء بعد الدبغ لتحمل عليها. و مجرّد عدم صلاحية الجلود للغلاف قبل الدبغ لا يوجب تقييدها، لإمكان دبغها عند جعلها غمدا.» «2»

أقول: عمدة الكلام في رواية الصيقل أنّ الراوي مجهول فلا تقاوم ما مرّ من الأخبار المستفيضة الظاهرة في المنع.

______________________________
(1) ذيل «المغنى» 4/ 13، كتاب البيع، الشرط الثالث من شروط صحة البيع.

(2) مصباح الفقاهة 1/ 71.

350
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

رواية الصيقل ؛ ج‌1، ص : 345

..........

______________________________
و لكن يمكن أن يقال: إنّه بعد تسليم جواز الانتفاع بالميتة فيما لا يتوقف على الطهارة- كما دلّت على ذلك روايات مستفيضة و أفتى به الأصحاب كما مرّ- فلا نرى وجها ظاهرا لتحريم بيعها بنحو الإطلاق كما مرّ بيانه من التلازم بين جواز الانتفاع الموجب لمالية الشي‌ء و بين جواز المعاملة عليه. و تعرّض له المصنف أيضا. فلا بدّ أن يوجّه أخبار المنع بحملها على صورة بيعها على نحو ما يباع المذكّى بلا إعلام، بل يمكن القول بانصرافها إلى هذه الصورة.

و إطلاق السحت على المكروهات كان شائعا في أخبارنا كما مرّ، و كذا استعمال النهي فيها.

و قوله «ص»: «إنّ اللّه حرّم الميتة و ثمنها» كان إشارة إلى آيات تحريمها و تحريم ما قارنها. و قد مرّ أنّ المقصود بها بقرينة السياق حرمة خصوص الأكل فيكون تحريم ثمنها أيضا بهذا اللحاظ. و كذا قوله «ع» في رواية البزنطي: «يذيبها و يسرج بها، و لا يأكلها و لا يبيعها» ينصرف إلى بيعها للأكل لذكره بعده. و إذا توجّهنا إلى كون أكل الميتة شائعا في عصر نزول القرآن و كون الأكل هي المنفعة المهمّة المقصودة منها عندهم حصل الوثوق بتحقق الانصراف، فتدبّر.

و يمكن أن يتمسك لجواز البيع بعد جواز الانتفاع بصحيحة الحلبي أيضا، قال:

سمعت أبا عبد اللّه «ع» يقول: «إذا اختلط الذكيّ و الميتة باعه ممّن يستحلّ الميتة و أكل ثمنه.» و نحوها حسنة الحلبي أيضا «1». بعد إلغاء خصوصيتي الاختلاط و الاستحلال، فيكون الملاك في جواز البيع ترتب المنفعة الموجبة للمالية و لو لغير المسلم، فتأمّل.

و سيجي‌ء البحث في المسألة عن قريب.

______________________________
(1) الوسائل 12/ 67 و 68، الباب 7 من أبواب ما يكتسب به، الحديثان 1 و 2.

351
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

جواز الانتفاع بالميتة ؛ ج‌1، ص : 352

[جواز الانتفاع بالميتة]

هذا. و لكن الإنصاف أنّه إذا قلنا بجواز الانتفاع بجلد الميتة منفعة مقصودة كالاستقاء بها للبساتين و الزرع إذا فرض عدّه مالا عرفا. (1)

فمجرد النجاسة لا تصلح علّة لمنع البيع لو لا الإجماع على حرمة بيع الميتة بقول مطلق. (2) لأنّ المانع حرمة الانتفاع في المنافع المقصودة لا مجرّد النجاسة. (3) و إن قلنا: إن مقتضى الأدلّة حرمة الانتفاع بكلّ نجس، فإنّ هذا كلام آخر سيجي‌ء ما فيه بعد ذكر حكم النجاسات.

لكنا نقول: إذا قام الدليل الخاصّ على جواز الانتفاع منفعة مقصودة بشي‌ء من النجاسات فلا مانع من صحّة بيعه، لأنّ ما دلّ على المنع عن بيع النجس من النصّ و الإجماع ظاهر في كون المانع حرمة الانتفاع.

______________________________
(1) و المفروض مقطوع الحصول بعد فرض جواز الانتفاع بها، إذ المقوّم لمالية الأشياء المنافع المترتبة عليها بحيث يرغب فيها لأجلها.

(2) و هو ممنوع، إذ الإجماع مضافا إلى احتمال كونه مدركيّا دليل لبّي لا إطلاق له.

و المتيقن من مورده صورة بيعها على نحو ما يباع المذكّى للأكل و نحوه.

(3) و قد مرّ تحقيق ذلك و إن كان ربما يظهر ممّن قسم المكاسب المحرّمة إلى خمسة أنواع كون النجاسة بنفسها مانعة عن صحة المعاملة لجعلها قسيما لما لا منفعة له.

إلّا أن يقال: إنّ المقصود مما لا منفعة له ما لا نفع له خارجا و تكوينا. و أمّا النجاسات فلها منفعة بهذا اللحاظ. و إنّما صار التشريع مانعا عن الانتفاع بها فلذا عدّت قسيما لما لا منفعة له خارجا.

352
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

جواز الانتفاع بالميتة ؛ ج‌1، ص : 352

فإنّ رواية تحف العقول المتقدّمة قد علّل فيها المنع عن بيع شي‌ء من وجوه النجس بكونه منهيا عن أكله و شربه، إلى آخر ما ذكر فيها.

و مقتضى رواية دعائم الإسلام المتقدّمة أيضا إناطة جواز البيع و عدمه بجواز الانتفاع و عدمه. (1)

و أدخل ابن زهرة في الغنية النجاسات فيما لا يجوز بيعه من جهة عدم حلّ الانتفاع بها. (2)

و استدلّ أيضا على جواز بيع الزيت النجس بأنّ النبي «ص» أذن في الاستصباح به تحت السماء. قال: «و هذا يدلّ على جواز بيعه لذلك.» انتهى (3)

______________________________
(1) رواها عن الصادق «ع»، قال: «الحلال من البيوع كلّ ما هو حلال من المأكول و المشروب و غير ذلك مما هو قوام للناس و صلاح و مباح لهم الانتفاع به. و ما كان محرّما أصله منهيا عنه لم يجز بيعه و لا شراؤه.»
«1» أقول: قد مرّ أنّ الظاهر من قوله: «محرّما أصله» خصوص المتمحض في الحرمة و الفساد بحيث لا يوجد له منفعة محلّلة أصلا أو وقع البيع بلحاظ منفعته المحرّمة.

(2) ففي الغنية في ذكر شرائط البيع قال: «و اشترطنا أن يكون منتفعا به تحرّزا ممّا لا منفعة فيه كالحشرات و غيرها، و قيّدنا بكونها مباحة تحفّظا من المنافع المحرّمة و يدخل في ذلك كلّ نجس لا يمكن تطهيره إلّا ما أخرجه الدليل ...» «2»

(3) راجع بيع الغنية «3».

______________________________
(1) دعائم الإسلام 2/ 18، كتاب البيوع، الفصل 2 (ذكر ما نهى عن بيعه)، الحديث 23.

(2) الجوامع الفقهية/ 524 (طبعة أخرى/ 586)، كتاب البيع من الغنية.

(3) نفس المصدر.

353
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

جواز الانتفاع بالميتة ؛ ج‌1، ص : 352

فقد ظهر من أوّل كلامه و آخره أنّ المانع من البيع منحصر في حرمة الانتفاع و أنّه يجوز مع عدمها.

و مثل ما ذكرناه عن الغنية من الاستدلال كلام الشيخ في الخلاف في باب البيع (1)، حيث ذكر النبوي الدالّ على إذن النبي «ص» في الاستصباح. ثم قال: «و هذا يدلّ على جواز بيعه.» انتهى.

و عن فخر الدين في شرح الإرشاد و الفاضل المقداد في التنقيح (2) الاستدلال على المنع عن بيع النجس بأنّه محرّم الانتفاع، و كلّ ما كان كذلك لا يجوز بيعه.

______________________________
(1) راجع بيع الخلاف مسألة بيع الزيت النجس (المسألة 312).
«1»

(2) راجع التنقيح في ذيل قول المصنّف: «الأوّل: الأعيان النجسة» قال: «إنّما حرم بيعها لأنّها محرمة الانتفاع. و كلّ محرّمة الانتفاع لا يصحّ بيعه. أمّا الصغرى فإجماعية.

و أمّا الكبرى فلقول النبي «ص» ...» «2»

أقول: و قد مرّ عن ابن إدريس أيضا دوران جواز البيع مدار جواز الانتفاع، فإنّه في السرائر بعد ما حكى عن الشيخ «ره» المنع عن التكسب بالفيلة و الدببة و غيرها قال: «فيه كلام، و ذلك أنّ كلّ ما جعل الشارع و سوّغ الانتفاع به فلا بأس ببيعه و ابتياعه لتلك المنفعة ...» «3»

و راجع في هذا المجال أيضا كلام فخر الدين في الإيضاح «4»، و قد نقلناه في التكميل‌

______________________________
(1) راجع الخلاف 3/ 187 (ط. أخرى 2/ 83)، كتاب البيوع.

(2) التنقيح الرائع 2/ 5، كتاب التجارة، الفصل الأوّل.

(3) السرائر 2/ 220، كتاب المكاسب، باب ضروب المكاسب.

(4) راجع إيضاح الفوائد 1/ 401. و قد مرّت عبارته في ص 213 من الكتاب.

354
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

ما دل على جواز بيع العبد الكافر و كلب الصيد ؛ ج‌1، ص : 355

نعم، ذكر في التذكرة شرط الانتفاع و حلّيته بعد اشتراط الطهارة.

و استدلّ للطهارة بما دلّ على وجوب الاجتناب عن النجاسات و حرمة الميتة. و الإنصاف إمكان ارجاعه إلى ما ذكرنا فتأمّل. (1)

[ما دل على جواز بيع العبد الكافر و كلب الصيد]

و يؤيّده أنهم أطبقوا على بيع العبد الكافر و كلب الصيد، و علّله في التذكرة بحلّ الانتفاع به. و ردّ من منع عن بيعه لنجاسته بأنّ النجاسة غير مانعة، و تعدّى إلى كلب الحائط و الماشية و الزرع، لأنّ المقتضي و هو النفع موجود فيها.

______________________________
المذكور في ذيل البحث عن بيع النجس بإطلاقه.

(1) قد تعرّضنا سابقا لما ذكره العلامة في التذكرة في هذا المجال، و لكن لمّا أشار إليها المصنّف في المقام مع الاهتمام بها و كانت الحوالة لا تخلو من الخسارة نعيدها هنا ثانيا تسهيلا للقرّاء الكرام، فنقول:

1- قال فيه: «يشترط في المعقود عليه الطهارة الأصلية ... و لو باع نجس العين كالخمر و الميتة و الخنزير لم يصحّ إجماعا، لقوله- تعالى-: فَاجْتَنبُوهُ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ. و الأعيان لا يصحّ تحريمها، و أقرب مجاز إليها جميع وجوه الانتفاع، و أعظمها البيع فكان حراما ...» «1»

2- و فيه أيضا: «الشرط الثاني: المنفعة. مسألة: لا يجوز بيع ما لا منفعة فيه لأنّه ليس مالا فلا يؤخذ في مقابلته المال.» «2»

3- و فيه أيضا: «ما أسقط الشارع منفعته لا نفع له، فيحرم بيعه كآلات الملاهي مثل العود و الزمر ...» «3»

______________________________
(1) التذكرة 1/ 464 و 465 كتاب البيع، المقصد الأوّل، الفصل الرابع.

(2) التذكرة 1/ 464 و 465 كتاب البيع، المقصد الأوّل، الفصل الرابع.

(3) التذكرة 1/ 464، كتاب البيع، المقصد الأوّل، الفصل الرابع.

355
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

جواز المعاوضة على لبن اليهودية ؛ ج‌1، ص : 356

[جواز المعاوضة على لبن اليهودية]

و مما ذكرنا من قوّة جواز بيع جلد الميتة لو لا الإجماع إذا جوّزنا الانتفاع به في الاستقاء يظهر حكم جواز المعاوضة على لبن اليهودية المرضعة، بأن يجعل تمام الأجرة أو بعضها في مقابل اللبن، فإنّ نجاسته لا تمنع عن جواز المعاوضة عليه. (1)

______________________________
4- و فيه أيضا: «أمّا كلب الصيد فالأقوى عندنا جواز بيعه ... و لأنه يحلّ الانتفاع به ...

و النجاسة غير مانعة كالدهن النجس. و الخنزير لا ينتفع به بخلافه.» «1»

5- و فيه أيضا: «إن سوّغنا بيع كلب الصيد صحّ بيع كلب الماشية و الزرع و الحائط، لأنّ المقتضي و هو النفع حاصل هنا.» «2»

6- و فيه أيضا: «يصحّ إجارة كلب الصيد، و به قال الشافعية، لأنّها منفعة مباحة فجازت المعاوضة عنها ...» «3»

7- و فيه أيضا: «يجوز بيع كلّ ما فيه منفعة، لأنّ الملك سبب لإطلاق التصرّف، و المنفعة المباحة كما يجوز استيفاؤها يجوز أخذ العوض عنها، فيباح لغيره بذل ماله فيها توصّلا إليها و دفعا للحاجة بها كسائر ما أبيح بيعه.» «4»

و راجع في هذا المجال المنتهى للعلامة أيضا «5».

أقول: يظهر من هذه الكلمات ما كنّا نصرّ عليه، و يظهر من المصنّف أيضا وجود التلازم بين جواز الانتفاع بالشي‌ء بحيث يصير بذلك مالا يرغب فيه و بين جواز المعاوضة عليه، فتذكّر.

(1) ما ذكره مبني على نجاسة أهل الكتاب نجاسة ذاتية. و الأقوى عندنا طهارتهم.

______________________________
(1) التذكرة 1/ 464، كتاب البيع، المقصد الأوّل، الفصل الرابع.

(2) التذكرة 1/ 464، كتاب البيع، المقصد الأوّل، الفصل الرابع.

(3) التذكرة 1/ 464، كتاب البيع، المقصد الأوّل، الفصل الرابع.

(4) التذكرة 1/ 464، كتاب البيع، المقصد الأوّل، الفصل الرابع.

(5) المنتهى 2/ 1009، كتاب التجارة، المقصد الثانى، البحث الأوّل.

356
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

فرعان ؛ ج‌1، ص : 357

 

[فرعان]

فرعان

[الأوّل: لا يجوز بيع الميتة منضمّة إلى مذكّى]

الأوّل: أنّه كما لا يجوز بيع الميتة منفردة كذلك لا يجوز بيعها منضمّة إلى مذكّى.

و لو باعها فإن كان المذكى ممتازا صحّ البيع فيه و بطل في الميتة كما سيجي‌ء في محلّه. و إن كان مشتبها بالميتة لم يجز بيعه أيضا لأنّه لا ينتفع به منفعة محلّلة بناء على وجوب الاجتناب عن كلا المشتبهين، فهو في حكم الميتة من حيث الانتفاع، فأكل المال بإزائه أكل المال بالباطل (1)، كما أنّ أكل كلّ من المشتبهين في حكم أكل الميتة.

و من هنا يعلم (2) أنّه لا فرق في المشتري بين الكافر المستحلّ للميتة و غيره. لكن في صحيحة الجلي و حسنته: «إذا اختلط المذكّى

[الاستدلال بآية الأكل بالباطل في المقام]

______________________________
(1) الاستدلال بالآية الشريفة في المقام مبنيّ على كون الباء في قوله:
بالْبٰاطل للمقابلة، نظير ما تدخل على الثمن في المعاملة، و قد مرّ الإشكال في ذلك. بل الظاهر كونها للسببية، فيكون المقصود في الآية النهي عن أكل مال الغير بالأسباب الباطلة نظير الربا و القمار و السرقة و نحوها، كما يشهد بذلك استثناء التجارة عن تراض، إذ الظاهر كون المستثنى مسانخا للمستثنى منه. فليس في الآية نظر إلى جنس الثمن و أنّه باطل أو غير باطل.

(2) الظاهر كونه إشارة إلى ما مرّ من أكل المال بالباطل. و لكن يرد عليه مضافا إلى ما مرّ آنفا أنّه لو قيل بعدم كون الكافر مكلفا بالفروع كان المختلط ذا قيمة و مالية عنده بلا حرمة شرعية فلا يكون باطلا. و يكفي في صحة المعاملة عدم كون المبيع باطلا عند المشتري و إن كان باطلا تافها عند البائع، و قد كثر نظير ذلك في المعاملات الدارجة.

 

357
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

لا مجال لذكر هذا الفرع ؛ ج‌1، ص : 358

بالميتة بيع ممن يستحلّ الميتة.» و حكي نحوهما عن كتاب علي بن جعفر «ع» (1).

______________________________
(1) أقول: قد تحصّل مما مرّ منّا في المسألة الخامسة جواز الانتفاع بالميتة إجمالا إلّا في الأكل و نحوه مما حرّمه الشارع. و رتّبنا على ذلك صحة المعاملة عليها أيضا بلحاظ المنافع المحلّلة و إن لم تصحّ بقصد الأكل و نحوه من المنافع المحرمة، إذ بعد ما جاز بعض الانتفاعات بالشي‌ء و صار بذلك ذا قيمة و مالية عند المتشرعة فلا محالة يشمله إطلاقات أدلّة التجارة و المعاملات، و لا وجه لمنعها بعد ما شرّعت لرفع الحاجات في المبادلات.

و بالجملة يوجد بين جواز الانتفاع بالشي‌ء و جواز المعاملة عليه بهذا اللحاظ نحو ملازمة عرفية و شرعية كما مرّ تفصيله.

[لا مجال لذكر هذا الفرع]

فعلى هذا المبنى لا يبقى مجال لذكر هذا الفرع، إذ كما يجوز بيع الميتة منفردة يجوز بيعها منضمة إلى المذكّى أيضا مع تحقق سائر شرائط البيع. سواء كانت الميتة ممتازة مشخصة أو كانت مختلطة بالمذكّى مشتبهة به لذلك عند البائع أو المشتري أو كليهما.

غاية الأمر أنّه مع بقاء الاختلاط و الاشتباه يجري عليهما أحكام المشتبهين بالنسبة إلى الأكل و نحوه، فيجتنب عنهما معا على ما هو المشهور بين الأصوليين، للعلم الإجمالي، و لجريان أصالة عدم التذكية في كليهما، بناء على جواز إجراء الأصل في الطرفين إذا لم يلزم من ذلك مخالفة عملية، لتحقق موضوعه فيهما و هو الشك. و على هذا فيصرف كلا المشتبهين في مثل التسميد و الترقيع و نحوهما من المنافع المحلّلة.

و أمّا إذا قلنا بعدم جواز الانتفاع بالميتة مطلقا، كما نسب إلى المشهور، أو عدم جواز المعاملة عليها كذلك أو فيما إذا وقعت بقصد الأكل و نحوه مع انفرادها، فيقع البحث حينئذ في أنّه هل يجوز بيعها منضمّة إلى المذكّى بحيث يصير الانضمام إليه مصححا‌

358
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

كلمات الأصحاب ؛ ج‌1، ص : 359

..........

______________________________
لبيعها أيضا كما وقع نظيره في كثير من المسائل أو لا؟ و هل يفرّق في ذلك بين كون المشتري مسلما أو كافرا مستحلّا للميتة؟

فهذا هو الّذي تعرّض له المصنف في هذا الفرع.

فنقول: أمّا مع امتيازها عن المذكّى فالقاعدة تقتضي عدم صحّة بيعها أيضا، فلو أوقعه عليها و على المذكّى معا صحّ بالنسبة إلى المذكّى فقط و لا محالة يقسّط الثمن عليهما و ليس للمشتري خيار تبعض الصفقة مع علمه بذلك.

و أمّا مع اختلاطها بالمذكّى و عدم تميزهما فللمسألة صور كثيرة، إذ المعاملة يمكن أن تقع بقصدهما معا فيجعل الثمن بإزائهما، و يمكن أن تقع بقصد المذكّى فقط، و الاشتباه قد يكون عند البائع و المشتري معا و قد يكون لأحدهما فقط، و المشتري إمّا مسلم أو كافر ذمّي محترم المال أو كافر حربي لا احترام لماله، ثم إمّا أن نقول بأنّ الكفار أيضا مكلفون بالفروع مثل المسلمين و إمّا أن ننكر ذلك.

فهذه صور المسألة، و يختلف الحكم باختلافها.

[كلمات الأصحاب]

و المسألة معنونة في كلمات الأصحاب مختلف فيها بلحاظ الأخبار الواردة فيها.

فلنتعرض لبعض الكلمات ثم نعقّبها بتحقيق المسألة، فنقول:

1- قال الشيخ في كتاب الصيد و الذبائح من النهاية: «و إذا اختلط اللحم الذكيّ بالميتة و لم يكن هناك طريق إلى تمييزه منها لم يحلّ أكل شي‌ء منه، و بيع على مستحلّي الميتة.» «1»

2- و في الوسيلة لابن حمزة: «و إن اختلط لحم الميتة بالمذكّى و لم يتميز لم يؤكل، و بيع على مستحلّيه. و إن اشتبه المذكّى بالميتة طرح على النار فإن انقبض فهو مذكّى و إن‌

______________________________
(1) النهاية/ 586، كتاب الصيد و الذبائح، باب ما يحلّ من الميتة و يحرم من الذبيحة ...

359
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

كلمات الأصحاب ؛ ج‌1، ص : 359

..........

______________________________
انبسط فهو ميتة.»
«1»

أقول: يظهر من ابن حمزة أنّه عمل في المختلط بما ورد فيه، و حمل ما ورد في المشتبه على خصوص مورده أعني اللحم الواحد المردّد بين كونه مذكّى أو ميتة.

3- و في الجامع للشرائع: «و إذا اختلط اللحم الذكيّ بالميّت بيع على مستحلّ الميتة، و ثمنه حلال.» «2»

4- و في الأطعمة من الشرائع: «و إذا اختلط الذكيّ بالميتة وجب الامتناع منه حتى يعلم الذكيّ بعينه. و هل يباع ممّن يستحلّ الميتة؟ قيل: نعم، و ربّما كان حسنا إن قصد بيع المذكّى حسب.» «3»

5- و في كتاب الصيد من الإرشاد: «و يحرم المشتبه بالميتة، فإن بيع على مستحلّيه قصد المذكّى» «4»

أقول: أراد بالمشتبه في كلامه المختلط، كما لا يخفى.

6- و لكن في المهذّب لابن البرّاج: «فإذا اختلط لحم ذكيّ بميتة و لم يمكن تمييزه لم يحلّ أكل شي‌ء منه. و قد قيل: إنّه يجوز بيعه على مستحلّي الميتة، و الأحوط ترك بيعه.» «5»

7- و في السرائر: «و إذا اختلط اللحم الذكيّ بلحم الميتة و لم يكن هناك طريق إلى تمييزه منها لم يحلّ أكل شي‌ء منه و لا يجوز بيعه و لا الانتفاع به. و قد روي أنّه يباع على مستحلّ الميتة. و الأولى اطراح هذه الرواية و ترك العمل بها، لأنّها مخالفة لأصول مذهبنا‌

______________________________
(1) الوسيلة/ 362، كتاب المباحات، فصل في بيان ما يحرم من الذبيحة و يحلّ من الميتة ...

(2) الجامع للشرائع/ 387، كتاب المباحات.

(3) الشرائع/ 752 (ط. أخرى 3/ 223)، كتاب الأطعمة و الأشربة، القسم الرابع، النوع الأوّل.

(4) الإرشاد 2/ 113، كتاب الصيد و توابعه، المقصد الثالث، الباب الأوّل.

(5) المهذّب 2/ 441، كتاب الأطعمة و الأشربة ...، باب ما يحلّ من الذبائح و ما يحرم منها ...

360
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

كلمات الأصحاب ؛ ج‌1، ص : 359

..........

______________________________
و لأنّ الرسول «ص» قال: إنّ اللّه إذا حرّم شيئا حرّم ثمنه.»
«1»

8- و في كتاب الصيد من المختلف بعد نقل كلمات الشيخ و ابن حمزة و ابن البرّاج و ابن إدريس قال: «و الوجه ما قاله الشيخ. لنا: أنّه في الحقيقة ليس بيعا بل هو استنقاذ مال الكافر من يده برضاه فكان سائغا، و ما رواه محمد بن يعقوب عن الحلبي ...» «2»

أقول: فالمحقق و العلّامة لم يأخذا بظاهر أخبار الجواز بل حملاها على إرادة المذكّى أو استنقاذ مال الكافر.

9- و في الأطعمة من الدروس: «و إذا اختلط اللحم المذكّى بالميتة و لا طريق إلى تمييزه لم يحلّ أكله. و في جواز بيعه على مستحلّ الميتة قولان: فالجواز قول النهاية لصحيحة الحلبي عن الصادق «ع»، و المنع ظاهر القاضي و فتوى ابن إدريس.

قال الفاضل: هذا ليس ببيع حقيقة و إنما هو استنقاذ مال الكافر برضاه.

و يشكل بأنّ ماله محترم إذا كان ذمّيا إلّا على الوجه الشرعي و من ثمّ حرم الربا معه.

قال المحقق: ربّما كان حسنا إذا قصد بيع الذكيّ فحسب، و تبعه الفاضل.

و يشكل بجهالته و عدم إمكان تسليمه متميزا.

و لو وجد لحما مطروحا لا يعلم حاله فالمشهور تركه و يكاد أن يكون إجماعا (و روي- ظ.)

أنّه يطرح على النار فإن انقبض فهو ذكيّ و إن انبسط فهو ميتة. و توقف فيه الفاضلان، و العمل بالمشهور. و يمكن اعتبار المختلط بذلك إلّا أنّ الأصحاب و الأخبار أهملت ذلك.» «3»

______________________________
(1) السرائر 3/ 113، كتاب الصيد و الذبائح، باب ما يحلّ من الميتة و يحرم من الذبيحة ...

(2) المختلف/ 683، كتاب الصيد و توابعه، الفصل الرابع.

(3) الدروس/ 281 (ط. أخرى 3/ 13)، الدرس 203. و لم يرد في هذه الطبعة كلمة «تركه».

361
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الأقوال في المسألة ؛ ج‌1، ص : 362

..........

______________________________
أقول: لا يخفى أنّ عنوان البحث أوّلا هو بيع الميتة منضمّة إلى المذكّى و أنّ الانضمام إليه هل يصحّح بيعها أولا؟ و لكن منصرف أكثر الكلمات- كما ترى- بيع المذكّى الواقع في البين. و هو المحتمل من عبارتي النهاية و الوسيلة أيضا.

[الأقوال في المسألة]

و كيف كان فالمحتملات بل الأقوال في المسألة كثيرة:

الأوّل: ما مرّ منّا من جواز بيعهما مطلقا و لو من مسلم غاية الأمر أنّه لا يجوز له صرفهما في الأكل و نحوه بل يصرفان في مثل التسميد و إطعام الحيوانات و استخراج الموادّ الكيمياوية و نحوها. و لو قيل: إنّ العلم الإجمالي لا أثر له في التنجيز و إنّ وزانه وزان الشبهات البدوية كان مقتضاه جواز بيعهما و صرفهما في الأكل و نحوه أيضا كما لا يخفى، و لكنّ المبنى باطل عندنا.

الثاني: جواز بيعهما معا من مستحلّ الميتة، كما يدلّ عليه صحيحتا الحلبي، و أفتى به في النهاية و الوسيلة و غيرهما.

الثالث: جواز ذلك و لكن بقصد بيع المذكى فقط بحيث يقع الثمن بإزائه فقط و يكون تسليمهما معا مقدمة لتسليم المذكّى.

الرابع: عدم قصد المعاملة حقيقة بل استنقاذ مال الكافر بذلك برضاه، كما في كلام العلّامة في المختلف.

الخامس: جواز بيع أحدهما فقط بنحو التخيير بناء على عدم وجوب الموافقة القطعية في العلم الإجمالي و جواز ارتكاب أحد الطرفين مع جعل الآخر بدلا عن الواقع.

و هذا مبنيّ على القول بجريان أصالة الحلّ في كليهما فيأخذ المكلف بأحدهما تخييرا، كما قيل بذلك في الخبرين المتعارضين.

362
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

المقام الأول تحقيق المسألة بملاحظة القواعد العامة ؛ ج‌1، ص : 363

..........

______________________________
بل التخيير هنا أوفق، إذ الخبر جعل طريقا إلى الواقع و مقتضاه تساقط المتعارضين منه، و هذا بخلاف الأصول حيث يوجد فيها نحو من السببية.

السادس: عدم جواز بيعهما من شخص واحد و جواز بيعهما من شخصين، بناء على كون المانع عن بيع الميتة حرمة الانتفاع بها و لا تثبت هذه إلّا على الميتة المعلومة تفصيلا أو إجمالا لشخص واحد و ينتفي هذا بالنسبة إلى كلّ واحد من المشتريين.

و يأتي هذا الاحتمال من مصباح الفقاهة.

السّابع: عدم جواز البيع أصلا للعلم الإجمالي و لجريان أصالة عدم التذكية في كليهما.

الثامن: أن يترتب على المختلط حكم المشتبه حيث وردت الرواية بطرحه على النار فما انقبض فهو مذكّى.

[المقام الأوّل تحقيق المسألة بملاحظة القواعد العامة]

إذا عرفت هذا فنقول: تحقيق المسألة يقع في مقامين: الأوّل بملاحظة القواعد العامة.

الثاني بملاحظة الأخبار الواردة هنا.

أمّا المقام الأوّل فنقول: على ما مرّ منّا من جواز الانتفاع بالميتة و جواز بيعها لذلك أيضا لا يبقى إشكال في المسألة كما مر بيانه.

و أمّا على المشهور من عدم جواز بيع الميتة منفردة فإن قيل بعدم جواز الانتفاع بها أيضا مطلقا كما هو المشهور فالقاعدة تقتضي منع بيعهما لوجوب الاجتناب عن كلا المشتبهين فلا يجوز الانتفاع بهما و يصيران بذلك مسلوبي المالية شرعا.

نعم لو قيل بجواز الانتفاع بالميتة و منع بيعها فقط جاز البيع بقصد المذكّى منهما و لو من مسلم فيصرفهما في التسميد و نحوه من المنافع المحلّلة. كما جاز ذلك من الكافر بقصد‌

363
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

المقام الأول تحقيق المسألة بملاحظة القواعد العامة ؛ ج‌1، ص : 363

..........

______________________________
الأكل و نحوه أيضا بناء على عدم تكليفه بالفروع. و لا دليل على اشتراط كون المبيع بشخصه ممكن الانتفاع للبائع، و لذا لو اشتبه المذكّى بالميتة لدى البائع دون المشتري صحّ بيعه من المسلم العالم بالواقع أيضا. هذا. و لكنّ البيع بقصد المذكّى خارج عن محلّ البحث كما مرّ.

و قال في مصباح الفقاهة في المقام ما محصّله: «أنّ المدرك لحرمة بيع الميتة إن كان هي النصوص و الإجماعات فلا شبهة في أنّهما لا تشملان صورة الاختلاط لأنّه لا يصدق بيع الميتة على ذلك مع قصد المذكّى. فلا وجه لما ذهب إليه المصنّف من المنع على الإطلاق بناء على وجوب الاجتناب عن كلا المشتبهين. نعم لا يجوز أن ينتفع بهما فيما كان مشروطا بالطهارة و التذكية.

و إن كان المدرك في المنع هي حرمة الانتفاع بالميتة لكونها مسلوبة المالية عند الشارع و قلنا بتنجيز العلم الإجمالي، فغاية ما يترتب عليه هو عدم جواز بيعهما من شخص واحد لوجوب اجتنابه عن كلا المشتبهين. و أمّا بيعهما من شخصين فلا بأس به لأنّ حرمة الانتفاع لم تثبت إلّا على الميتة المعلومة تفصيلا أو إجمالا فإذا انتفى العلم لم يبق إلّا الاحتمال فيندفع بالأصل، نظير انعدام أحد المشتبهين أو خروجه من محلّ الابتلاء الموجب لسقوط العلم الإجمالي عن التأثير». «1»

أقول: يرد على ما ذكره أوّلا: أنّه خروج عن مفروض بحث المصنّف، إذ محطّ نظر المصنّف بيع المختلط بحيث يقع الثمن بإزائهما معا كما هو الظاهر من صحيحتي الحلبي أيضا. و أمّا قصد خصوص المذكّى فأمر حكاه المصنّف بعد ذلك عن بعض و ناقشه بأنّ‌

______________________________
(1) مصباح الفقاهة 1/ 72.

364
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

المقام الثاني تحقيق المسألة بملاحظة الأخبار ؛ ج‌1، ص : 365

 

..........

______________________________
القصد لا ينفع، فلاحظ. و إذا فرض أنّ محطّ البحث بيعهما معا فكما أنّ النصوص و الإجماعات تشمل الميتة منفردة تشمل المنضمة إلى المذكّى أيضا، إذ لا نرى وجها لانصرافهما عنها.

و ثانيا: لأحد أن يقول: إنّ البيع من شخصين و إن أوجب رفع الإشكال في ناحية المشتري لكنّ الإشكال في ناحية البائع باق بحاله، إذ ظاهر ما دلّ على عدم جواز الانتفاع بالميتة كونها مسلوبة المالية عند الشارع كما صرّح به هو، و إذا كانت كذلك فكيف يبيعها و يأخذ ثمنها؟ و بيع الشي‌ء و أخذ ثمنه من أظهر مصاديق الانتفاع به، فتأمّل.

[المقام الثاني تحقيق المسألة بملاحظة الأخبار]

و أما المقام الثاني فاعلم أنّ هنا ثلاث طوائف من الأخبار:

الأولى: ما دلّت على جواز بيع المختلط ممن يستحلّ الميتة.

الثانية: ما دلّت على رميهما إلى الكلاب.

الثالثة: ما ورد في اللحم المشتبه من طرحه على النار فإن انقبض فهو ذكيّ. بناء على ما احتمله الشهيد في الدروس من تطبيقه على المختلط أيضا.

أمّا الطائفة الأولى: [ما دل على جواز بيع المختلط]

1- صحيحة الحلبي، قال: سمعت أبا عبد اللّه «ع» يقول: «إذا اختلط الذكيّ و الميتة باعه ممن يستحلّ الميتة، و أكل ثمنه.» «1»

2- حسنة الحلبي بل صحيحته عنه «ع» أنّه سئل عن رجل كان له غنم و بقر و كان يدرك الذكيّ منها فيعزله و يعزل الميتة ثم إنّ الميتة و الذكيّ اختلطا كيف يصنع به؟ قال:

______________________________
(1) الوسائل 12/ 67، الباب 7 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

 

365
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

أما الطائفة الأولى: ما دل على جواز بيع المختلط ؛ ج‌1، ص : 365

..........

______________________________
«يبيعه ممّن يستحلّ الميتة و يأكل ثمنه، فإنّه لا بأس.»
«1»

و المظنون اتحاد الخبرين و أنّ السائل عن أبي عبد اللّه «ع» كان غير الحلبي و الحلبي كان حاضرا سمع الجواب فنقله. و الظاهر رجوع الضمير إلى المختلط، فهو المبيع لا خصوص المذكّى في البين.

3- و في الوسائل بعد نقل الخبر الثاني قال: «و رواه علي بن جعفر «ع» في كتابه عن أخيه موسى بن جعفر «ع» مثله.»‌

و لكن متن خبر علي بن جعفر علي ما في البحار هكذا: «و سألته عن رجل كان له غنم و كان يعزل من جلودها الذي من الميّت فاختلطت فلم يعرف الذكي من الميت هل يصلح له بيعه؟ قال: «يبيعه ممّن يستحل بيع الميتة منه، و يأكل ثمنه و لا بأس.» «2»

و ظاهر ما في البحار في سند المسائل أنّ موسى بن جعفر «ع» سألها عن أبيه جعفر بن محمد «ع»، فراجع. «3»

4- و يشهد لمضمون هذه الأخبار خبر حفص بن البختري أيضا عن أبي عبد اللّه «ع» في العجين من الماء النجس كيف يصنع به؟ قال: «يباع ممّن يستحلّ الميتة.» «4» و حفص ثقة على الأصح «5»، و السند إليه صحيح.

______________________________
(1) الوسائل 12/ 68، الباب 7 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2.

(2) بحار الأنوار 10/ 252، كتاب الاحتجاج، الباب 17 (باب ما وصل إلينا من أخبار على بن جعفر ...).

(3) راجع بحار الأنوار 10/ 249. و راجع أيضا ص 291 من هذا الجزء، فإنّه بيّن فيه ما استصوبه من سند المسائل.

(4) الوسائل 12/ 68، الباب 7 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 3؛ و 1/ 174، الباب 11 من أبواب الأسآر، الحديث 1، مع تفاوت.

(5) راجع تنقيح المقال 1/ 352.

366
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

أما الطائفة الأولى: ما دل على جواز بيع المختلط ؛ ج‌1، ص : 365

..........

______________________________
5- بل مفهوم ما عن قرب الإسناد بسنده عن علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر «ع» قال: سألته عن حبّ دهن ماتت فيه فأرة. قال: «لا تدهن به و لا تبعه من مسلم.»
«1»

6- و خبر زكريّا بن آدم، قال: سألت أبا الحسن «ع» عن قطرة خمر أو نبيذ مسكر قطرت في قدر فيه لحم كثير و مرق كثير. قال: «يهراق المرق أو يطعمه أهل الذمّة أو الكلب، و اللحم اغسله و كله.» قلت: فإنّه قطر فيه الدم؟ قال: «الدّم تأكله النار إن شاء اللّه.» قلت: فخمر أو نبيذ قطر في عجين أو دم؟ قال: فقال: «فسد». قلت: أبيعه من اليهودي و النصارى و أبين لهم؟ قال: «نعم، فإنّهم يستحلّون شربه ...» «2»

نعم، في سند رواية قرب الإسناد عبد اللّه بن الحسن، و في سند هذه الرواية الحسن بن مبارك و كلاهما مجهولان «3» و لكن الأخبار الأول كافية.

أقول: من المظنون جدا- كما يظهر من مصباح الفقاهة «4» أيضا- أنّ التخصيص بالبيع ممن يستحلّ الميتة في هذه الروايات كان من جهة عدم رغبة غيره، و أنّ الانتفاع من الميتة بغير الأكل لم يكن موردا للتوجه في تلك الأعصار بحيث يوجب المالية لها و بذل الثمن بإزائها. و بالجملة كان الانتفاع منها منحصرا في الأكل غالبا. و لعلّ المقصود بالمستحلّ أعم من الكافر و المسلم الذي لا يبالي بالموازين الشرعية، فتأمّل.

و أمّا في أعصارنا فحيث ينتفع منها باستخدام المكائن الحديثة في استخراج الموادّ الكيمياوية‌

______________________________
(1) الوسائل 12/ 69، الباب 7 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 5.

(2) الوسائل 2/ 1056، الباب 38 من أبواب النجاسات، الحديث 8 عن التهذيب؛ و 17/ 286، الباب 26 من أبواب الأشربة المحرمة، الحديث 1 عن الكافى.

(3) راجع تنقيح المقال 1/ 304 في ترجمة الحسن بن مبارك. و لم يعنون عبد اللّه بن الحسن فيه.

(4) راجع مصباح الفقاهة 1/ 74.

367
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

أما الطائفة الأولى: ما دل على جواز بيع المختلط ؛ ج‌1، ص : 365

و استوجه العمل بهذه الأخبار في الكفاية (1)، و هو مشكل.

______________________________
و تهيئة أنواع السّماد و غذاء الحيوانات و الطيور و نحو ذلك مما لا تقلّ نفعا عن مثل الأكل، فيجوز بيعها لذلك أيضا و لو من مسلم. و لا يبقى وجه لاختصاص بيعها ممن يستحلّ أكل الميتة. و لو سلّم الاختصاص أيضا فلا يبعد القول بجواز بيع الميتة منفردة و مع التميز أيضا من المستحلّ، ضرورة أنّ الاختلاط و الاشتباه لا دخل له في جواز ذلك. و يشهد لذلك صحيحة حفص، فإن العجين النجس متميز.

بل أقول: لو انضمّ إلى مضمون هذه الروايات الأخبار المستفيضة الدالّة على جواز أخذ الجزية و المطالبات من أهل الذمّة بل مطلق المديونين إذا أدّوها من أثمان الخمور و الخنازير و الميتات «1»، و قد أفتى بها الأصحاب إجمالا مع أنّ هذه الأشياء لا مالية لها عند المسلمين، و كذا ما دلّ على جواز بيع الثمرة ممن يعلم أنّه يجعله خمرا «2» لاستفدنا من مجموع ذلك جواز إلزام الناس بما ألزموا به أنفسهم اعتقادا أو عملا. و لعلّه ينفتح بذلك باب واسع يمكن أن ينتفع به الأشخاص و الدول المسلمة في معاملاتهم مع الدول الأجنبية الكافرة بل المسلمة الملتزمة بحلّية مالا نعدّه حلالا في فقهنا كالأسماك التي لا فلس لها و الضفادع و سائر ما يستحلّون أكلها بحسب موازينهم. و راجع في هذا المجال ولاية الفقيه «3».

(1) قال في كتاب الأطعمة منه: «و المشهور بين المتأخرين أنّه إذا اختلط و لم يعلم وجب الامتناع من الجميع حتى يعلم الذكيّ بعينه ... و يجوز بيعها ممن يستحلّ الميتة‌

______________________________
(1) راجع الوسائل 12/ 171- 172، الباب 60 من أبواب ما يكتسب به.

(2) راجع الوسائل 12/ 168- 170، الباب 59 من أبواب ما يكتسب به.

(3) راجع «دراسات في ولاية الفقيه ...» 3/ 451، الباب الثامن، الفصل الرابع، الجهة الثامنة من المسألة 1.

368
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

أما الطائفة الأولى: ما دل على جواز بيع المختلط ؛ ج‌1، ص : 365

..........

______________________________
لصحيحة الحلبي و حسنة الحلبي ...»
«1».

أقول: من العجب أنّ المصنّف تعرّض من بين العاملين بهذه الأخبار لصاحب الكفاية الذي هو من المتأخرين، مع أنّه أفتى بها الشيخ في النهاية و ابن حمزة في الوسيلة و ابن سعيد في الجامع و قد مرّت عباراتهم و تبعهم جمع من المتأخرين «2»، فخرجت الأخبار بذلك من الشذوذ المتوهّم.

و كيف كان فقد أورد على العمل بالصحيحين بوجوه، و ربما حملوهما على محامل بعيدة:

الوجه الأوّل: شذوذهما و إعراض الأصحاب عنهما. و قد مرّ عن السرائر أنّ الأولى اطراحها لأنها مخالفة لأصول مذهبنا.

و يرد على ذلك: ما مرّ آنفا من عمل جمع بهما. و المحقق و العلامة أيضا لم يعرضا عنهما بل حملاهما على قصد المذكّى كما مرّ.

و في الجواهر قال: «و بالجملة فالمتّجه العمل بالخبرين الجامعين لشرائط الحجية، خصوصا بعد الشهرة المحكية في مجمع البرهان على العمل بهما. و ابن إدريس طرحهما على أصله. بل لا ريب في أولوية ذلك مما في الدروس من الميل إلى تعرّفه بالعرض على النار بالانبساط و الانقباض كما سيأتي في اللحم المطروح المشتبه ... و دعوى عدم الفرق بينهما في ذلك ممنوعة بعد حرمة القياس، على أنّه بعد تسليمه يقتضي جواز كلّ منهما عملا بمجموع النصوص. و اللّه العالم.» «3»

______________________________
(1) كفاية الأحكام/ 251، كتاب الأطعمة و الأشربة، الفصل الخامس، المسألة 2.

(2) راجع ص 359.

(3) الجواهر 36/ 341، كتاب الأطعمة و الأشربة، القسم الرابع، النوع الأوّل.

369
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

أما الطائفة الأولى: ما دل على جواز بيع المختلط ؛ ج‌1، ص : 365

..........

______________________________
و الوجه الثاني: أنهما مخالفتان لما دلّ على عدم جواز الانتفاع بالميتة و عدم جواز بيعها.

و يرد عليه أوّلا: ما مرّ منّا من تقوية جواز الانتفاع إلّا في الأكل و نحوه و جواز البيع أيضا.

و ثانيا: أنّهما أخص منها فتخصص بهما. قال المحقق النراقي في مطاعم المستند: «ثم إنّ ما دلت عليه الصحيحان من جواز البيع لمستحلي الميتة مذهب جماعة منهم الشيخ في النهاية و ابن حمزة و هو الأقوى للصحيحين المذكورين المخصّصين للأخبار المانعة عن الانتفاع بالميتة مطلقا و عن بيعها، لأخصّيتهما المطلقة منها من وجوه. خلافا للحلّي و القاضي و جمع أخر، فمنعوه للأخبار المذكورة بجوابها، و لما دلّ على حرمة الإعانة على الإثم بناء على كون الكفّار مكلّفين بالفروع كما هو المذهب. و فيه منع كونه إعانة كما يظهر وجهه مما ذكرناه في بيان الإعانة على الإثم في كتاب العوائد. مع أنّها أيضا ليست إلّا قاعدة كلّية للتخصيص صالحة.» «1»

الوجه الثالث: أنّ العمل بهما مستلزم للإعانة على الإثم القبيحة عقلا و المحرمة شرعا بمقتضى النهي عن التعاون عليه بناء على تكليف الكفّار بالفروع كما هو المشهور و المنصور، إذ التعاون ليس إلّا إعانتين من شخصين كلّ منهما مكلّف مستقل فحرمته دليل على حرمتها أيضا، فتدبّر.

و يرد على ذلك أوّلا: أنّ هذا اجتهاد في قبال النصّ الصحيح، و ما دلّ على حرمة الإعانة على الإثم عامّ صالح للتخصيص كما في المستند، فتأمّل.

و ثانيا: منع صدق الإعانة على مجرّد البيع في المقام، كيف؟! و لو كان مجرّد العلم بترتّب الحرام على فعل الإنسان إعانة عليه لحرم أكثر أفعال الناس و صناعاتهم‌

______________________________
(1) مستند الشيعة 2/ 416، كتاب المطاعم و المشارب، الباب الثانى، الفصل السادس، المسألة 3.

370
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

أما الطائفة الأولى: ما دل على جواز بيع المختلط ؛ ج‌1، ص : 365

..........

______________________________
و معاملاتهم، حيث يترتب عليها تقوية الظالمين في أنواع ظلمهم و أخذهم العشور و الكمارك، و كذلك تقوية العصاة في معاصيهم. بل كان أفعال اللّه- تعالى- أيضا من الخلق و التدبير و الرزق كلّها إعانة على الإثم، حيث ينتفع منها الكفّار و العصاة و الظلمة، و اللّه- تعالى- يعلم ذلك و القبيح عقلا يقبح عليه أيضا.

و قد تعرّض المحقق النراقي في العائدة السابعة من عوائده «1» لتفسير آية التعاون، و ذكر لصدق الإعانة شروطا، منها: القصد إلى ترتّب الحرام على الفعل. و مثّل لذلك بأمثلة توضح المقصود، و رتّب على ذلك عدم حرمة بيع العنب ممن يعلم أنّه يجعله خمرا ما لم يقصد بالبيع ذلك، كما دلّ على ذلك أخبار مستفيضة. و حيث إنّ المصنف يتعرض في مسألة بيع العنب لشرح مفهوم الإعانة بالتفصيل فالأولى إحالة البحث إليها إن بقيت الحياة و ساعدنا التوفيق إن شاء اللّه.

الوجه الرابع: احتمال حملهما على التقية. حكاه في متاجر مفتاح الكرامة «2» عن أستاذه.

و يرد عليه: أنّه فرع وجود القائل بذلك من العامّة. و قد مرّ أنّهم لا يجيزون بيع الميتة.

نعم أجاز بعضهم بيع جلودها بعد الدباغة لتوهّم طهارتها بها. و حمل الصحيحين على ذلك خلاف الظاهر جدّا.

الوجه الخامس: حملهما على التعجيز. حكاه في مفتاح الكرامة «3» أيضا عن أستاذه مستندا في ذلك إلى أنّه لا مستحلّ للميتة بعد عهد موسى «ع» من جميع الملّيين.

______________________________
(1) راجع عوائد الأيام/ 26- 28.

(2) راجع مفتاح الكرامة 4/ 20، كتاب المتاجر، المقصد الأوّل، الفصل الأوّل.

(3) راجع مفتاح الكرامة 4/ 20، كتاب المتاجر، المقصد الأوّل، الفصل الأوّل.

371
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الطائفة الثانية: ما دلت على رميهما إلى الكلاب ؛ ج‌1، ص : 372

مع أنّ المرويّ عن أمير المؤمنين «ع»: أنّه يرمى بهما (1).

______________________________
و يرد عليه- مضافا إلى كونه خلاف الظاهر-: أن النهي في آيات الكتاب العزيز عن أكل الميتة و أصنافها من المنخنقة و الموقوذة و المتردية و النطيحة و ما أكل السبع يدلّ على شيوع أكلها و أكل غيرها مما نهي عنها في تلك الأعصار. و يكفي في ذلك استحلال المشركين و عبدة الأصنام لها و لو فرض عدم استحلال أهل الكتاب لها. و حكى في مفتاح الكرامة عن الفاضل المقداد: أنّهم في الجاهلية لا يحرّمون الميتة. و عن السدّي بنقل الراوندي أنّ أناسا من العرب كانوا يأكلون جميع ذلك و لا يعدّونه ميتا، إنما يعدّون الميت ما يموت من الوجع
«1».

فهذه وجوه من الإشكالات التي أوردوها على العمل بالصحيحين أشار إليها المصنّف بقوله: «و هو مشكل.» و قد أجبنا عنها. فالظاهر أنّه لا مانع من العمل بهما كما مرّ بيانه.

نعم يبقى الجواب عن الأخبار الآتية.

[الطائفة الثانية: ما دلّت على رميهما إلى الكلاب]

(1) هذه هي الطائفة الثانية من أخبار المسألة. رواها في الجعفريات بإسناده عن جعفر بن محمد «ع»، عن أبيه، عن علي «ع» أنه سئل عن شاة مسلوخة و أخرى مذبوحة عن عمى على الراعي أو على صاحبها، فلا يدري الذكية من الميتة. قال: «يرمى بهما جميعا إلى الكلاب.» «2»

أقول: لا يخفى أنّ كتاب الجعفريات- و يقال له الأشعثيات أيضا- كتاب جامع وزين كثير الرواية مرويّ عن محمد بن محمد بن الأشعث الكوفي، عن موسى بن إسماعيل بن موسى بن جعفر «ع»، عن أبيه إسماعيل، عن آبائه عليهم السلام. و ابن الأشعث ثقة.

______________________________
(1) نفس المصدر 4/ 20.

(2) مستدرك الوسائل 2/ 427، الباب 7 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

372
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الطائفة الثالثة: ما ورد في اللحم المشتبه من طرحه على النار فإن انقبض فهو ذكي ؛ ج‌1، ص : 373

..........

______________________________
و إسماعيل ممدوح بل يمكن استفادة وثاقته ممّا ذكروه في شرح حاله. و ابنه موسى أيضا لا يخلو من مدح
«1».

و لكن مع ذلك يشكل الاعتماد على ما تفرّد به الكتاب من الرواية. من جهة أنّ ما عندنا من الكتاب جاء به بعض السادة من الهند في القرن الثالث عشر بعنوان كتاب الجعفريات «2».

و إثبات أنّه بعينه و تمامه كان ما رواه ابن الأشعث و اشتهر باسمه في الأعصار السّالفة مشكل مع ما نشاهده من التخليط و النقص و الزيادة في بعض الكتب في طيّ القرون.

و ليس مثل الكتب الأربعة التي كان عليها المدار و كان يقرأها الشيوخ لتلاميذهم في كلّ عصر و يجيزون لهم روايتها و رواها الثقات و تلقّوها يدا بيد. هذا في ناحية السند.

و أمّا متن الرواية فمن الواضح أن الرمي إلى الكلاب ليس واجبا نفسيّا تعبّديّا نظير الصلاة و الصيام. فلا محالة يكون قوله: «يرمى بهما جميعا إلى الكلاب» إرشادا إلى عدم الانتفاع بهما على نحو ما ينتفع من جلد المذكّى و لحمه. نظير ما ورد من الأمر بكسر الدراهم المغشوشة و إراقة الإناءين المشتبهين و نحو ذلك. فلا ينافي هذا جواز بيعهما ممن يستحلّ. و يشهد لذلك ما ورد في خبر زكريا بن آدم السابق من الأمر بإهراق المرق أو إطعامه أهل الذمّة أو الكلب، فجعل الأمور الثلاثة في عرض واحد. و لا خصوصية لأهل الذمّة قطعا و إنما ذكروا من جهة أنّ الموجودين من الكفّار في بلاد الإسلام كانوا من أهل الذمّة غالبا. و كيف كان فلا تصلح الرواية لمعارضة الصحيحين مع صراحتهما في المفاد.

[الطائفة الثالثة: ما ورد في اللحم المشتبه من طرحه على النار فإن انقبض فهو ذكيّ]

الطائفة الثالثة: ما ورد في اللحم المشتبه بتوهّم اعتبار المختلط أيضا بذلك كما مرّ احتماله عن الدروس:

______________________________
(1) راجع تنقيح المقال 3/ 179؛ و 1/ 145؛ و 3/ 252.

(2) راجع مستدرك الوسائل 3/ 295، الفائدة الثانية من الخاتمة.

373
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الطائفة الثالثة: ما ورد في اللحم المشتبه من طرحه على النار فإن انقبض فهو ذكي ؛ ج‌1، ص : 373

..........

______________________________
1- ما عن الكليني عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن البزنطي، عن إسماعيل بن شعيب، عن أبي عبد اللّه «ع» في رجل دخل قرية فأصاب بها لحما لم يدر أ ذكيّ هو أم ميّت؟ فقال: «فاطرحه على النار، فكلّ ما انقبض فهو ذكيّ، و كلّ ما انبسط فهو ميّت.»‌

و رواه الشيخ أيضا بإسناده عن أحمد بن محمد بن عيسى مثله «1».

و في الكافي و التهذيب: إسماعيل بن عمر عن شعيب، فراجع «2». و إسماعيل و شعيب و إن كانا مجهولين «3»، لكن السند إليهما صحيح ينتهي إلى البزنطي، و هو ممن قال الشيخ فيهم: إنّهم لا يروون و لا يرسلون إلّا ممن يوثق به «4»، فتأمّل.

2- و عن الفقيه قال: قال الصادق «ع»: «... و إذا وجدت لحما و لم تعلم أ ذكيّ هو أم ميتة فألق قطعة منه على النار فإن انقبض فهو ذكي و إن استرخى فهو ميتة.» «5»

و الظاهر وثوقه بصدور الرواية، حيث نسبها إلى الإمام «ع» قاطعا، و لم يقل: روي عن الصادق «ع».

و يحتمل أيضا كون هذه العبارة فتوى للصدوق مأخوذة من رواية إسماعيل. و كيف كان فالصدوق اعتمد عليها.

______________________________
(1) الوسائل 16/ 370 (ط. أخرى 16/ 456)، الباب 37 من أبواب الأطعمة المحرمة، الحديث 1.

(2) راجع الكافي 6/ 261، كتاب الأطعمة، الباب 13؛ و التهذيب 9/ 48، كتاب الصيد و الذبائح، الباب 1، الحديث 200.

(3) راجع تنقيح المقال 1/ 141؛ و 2/ 86- 87.

(4) عدّة الأصول 1/ 387، فصل في ذكر القرائن التى تدلّ على صحة أخبار الآحاد ...

(5) الوسائل 16/ 370 (ط. أخرى 16/ 457)، الباب 37 من أبواب الأطعمة المحرمة، الحديث 2.

374
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الطائفة الثالثة: ما ورد في اللحم المشتبه من طرحه على النار فإن انقبض فهو ذكي ؛ ج‌1، ص : 373

..........

______________________________
و اعلم أنّ في أطعمة الشرائع نسب مضمون الخبرين إلى القيل
«1».

و في الجواهر قال: «و القائل غير واحد، بل في الدروس: كاد أن يكون إجماعا، بل في الرياض حكايته عن بعض الأصحاب و الغنية صريحا مؤيدا بفتوى ابن إدريس الذي لا يعمل بأخبار الآحاد، بل في غاية المراد: لا أعلم أحدا خالف فيه إلّا المحقق و الفاضل أورداه بلفظ القيل المشعر بالضعف ...» «2»

أقول: نسخة الدروس المطبوع هكذا: «و لو وجد لحما مطروحا لا يعلم حاله فالمشهور تركه و يكاد أن يكون إجماعا انّه يطرح على النار.» «3»

و الظاهر وجود سقط في عبارته، فيكون الشهرة و الإجماع راجعين إلى ترك اللحم، و سقط قبل قوله: «انّه يطرح على النار» لفظ: «قيل» أو «روي»، فلاحظ.

و كيف كان فليس مفاد الخبرين مجمعا عليه و لا مشهورا و لا يساعده العقل و الاعتبار أيضا، إذ من الواضح أنّه لا تأثير للذكاة و الموت في انقباض اللحم و انبساطه على النار. إلّا أن يقال: إن الميّت حتف أنفه حيث حبس دمه في عروقه فينبسط بالحرارة بخلاف المذكّى الذي خرج دمه بالذبح. و لكن لو سلّم هذا فلا يجري فيما يحكم بموته بترك البسملة أو القبلة أو نحوهما من الشرائط. فالأولى ردّ علم الخبرين إلى أهله. و مقتضى أصالة عدم التذكية الاجتناب عن اللحم المشتبه إلّا أن يوجد أمارة على ذكاته.

______________________________
(1) الشرائع/ 756 (ط. أخرى 3/ 227)، كتاب الأطعمة و الأشربة، القسم السادس، المسألة 2.

(2) الجواهر 36/ 402.

(3) الدروس/ 281 (ط. أخرى 3/ 13)، الدرس 203. و لم يرد في هذه الطبعة كلمة «تركه».

375
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

البيع بقصد بيع المذكى ؛ ج‌1، ص : 376

[البيع بقصد بيع المذكّى]

و جوّز بعضهم البيع بقصد بيع المذكّى (1). و فيه أنّ القصد لا ينفع بعد فرض عدم جواز الانتفاع بالمذكّى لأجل الاشتباه (2).

______________________________
ثم لو سلّم صحة مفاد الخبرين فموردهما اللحم الواحد المشتبه. و إلغاء الخصوصية و الإسراء إلى المختلط و إن لم يكن بعيدا في حد نفسه لكن لا يتعين ذلك بعد صراحة الصحيحين في جواز بيع المختلط ممن يستحلّ، فيمكن القول بجواز كلّ منهما. و قد مرّ عن الجواهر قوله: «و دعوى عدم الفرق بينهما في ذلك ممنوعة بعد حرمة القياس، على أنه بعد تسليمه يقتضي جواز كل منهما عملا بمجموع النصوص.»
«1»

(1) قد مرّ إبداء هذا من المحقق في الشرائع و العلامة في الإرشاد و تبعهما غيرهما. «2»

(2) أقول: لعلّ نظر هذا البعض إلى أنّ المفروض هو البيع ممن يستحل الميتة.

و نفرض عدم تكليف الكفّار بالفروع فيجوز لهم الانتفاع و لكن البائع لإسلامه لا يجوز له يبع الميتة أخذا بإطلاق أدلّة المنع فيقصد بيع المذكّى حذرا من الوقوع في بيع الميتة.

نعم يشكل على القول بقصد المذكّى فقط أوّلا: أنه خروج عن محلّ البحث، إذ البحث كان في بيع المختلط. و ثانيا: أنه خلاف ظاهر الصحيحين. و ثالثا: ما مرّ عن الدروس و تبعه في المسالك «3» من جهالة المذكّى و عدم إمكان تسليمه متميزا منفردا. و رابعا: بأن قصد البائع فقط لا يكفي مع قصد المشتري لكليهما و أداء الثمن بإزائهما، لاشتراط توافق قصد البائع و المشتري في العوضين. هذا. و لكن لو فرض توافق قصدهما و وقع الثمن بإزاء المذكّى فقط و كان تسليمهما مقدمة لتسليم المذكّى أمكن القول بارتفاع الإشكال مع عدم تفاوتهما في نظر المشتري من جهة القيمة و قلنا بعدم تكليف الكفّار بالفروع، فتدبّر.

______________________________
(1) الجواهر 36/ 341، كتاب الأطعمة و الأشربة، القسم الرابع، النوع الأوّل.

(2) راجع ص 360.

(3) راجع ص 361؛ و المسالك 2/ 242، كتاب الأطعمة و الأشربة، القسم الرابع، النوع الأوّل.

376
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

البيع بقصد بيع المذكى ؛ ج‌1، ص : 376

نعم لو قلنا بعدم وجوب الاجتناب في الشبهة المحصورة و جواز ارتكاب أحدهما جاز البيع بالقصد المذكور (1). لكن لا ينبغي القول به في المقام، لأنّ الأصل في كلّ واحد من المشتبهين عدم التذكية. غاية الأمر العلم الإجمالي بتذكية أحدهما و هو غير قادح في العمل بالأصلين. و إنّما يصحّ القول بجواز ارتكاب أحدهما في المشتبهين إذا كان الأصل في كلّ منهما الحلّ و علم إجمالا بوجود الحرام، فقد يقال هنا بجواز ارتكاب أحدهما اتّكالا على أصالة الحلّ و عدم جواز ارتكاب الآخر بعد ذلك حذرا عن ارتكاب الحرام الواقعي (2)، و إن كان هذا الكلام مخدوشا في هذا المقام أيضا لكن القول به ممكن هنا بخلاف ما نحن فيه لما ذكرنا، فافهم.

______________________________
(1) لو قيل بعدم وجوب الاحتياط في الشبهة المحصورة و كفاية الموافقة الاحتمالية جاز بيع أحدهما المعين أيضا بالقصد المذكور، لجواز انتفاع كل من البائع و المشتري منه و لا يتعين بيعهما معا بقصد المذكى الواقع في البين.

(2) توضيح ذلك أنّ الأصل الجاري في المشتبهين قد يكون أصالة الحلّ، كما إذا كان هنا إناءان طاهران مثلا ثم علم بتنجّس أحدهما لا بعينه. و قد يكون الأصل الجاري فيهما الحرمة، كما إذا كانا نجسين ثم علم بطهارة أحدهما لا بعينه.

ففي الأوّل لم يجز الأخذ باستصحاب الطهارة و الحلّية في كليهما، لاستلزامه المخالفة العملية للعلم الإجمالي، و لكن يمكن القول بجواز الأخذ بأحدهما تخييرا و يترك الآخر للحرام المعلوم في البين، نظير التخيير في الخبرين المتعارضين على القول به.

377
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

التعرض لأمور أصولية ؛ ج‌1، ص : 378

 

..........

______________________________
و أمّا في الثاني فبمقتضى استصحاب الحرمة و النجاسة الجارية في كلّ منهما يحكم بنجاسة كلّ منهما و يجب الاجتناب عن كليهما. و يترتب على ذلك وجوب الاجتناب عن ملاقي كلّ منهما أيضا و لا يلزم من ذلك مخالفة عملية للعلم الإجمالي. و المختلط من الميتة و المذكّى يكون من قبيل القسم الثاني، إذ مقتضى استصحاب عدم التذكية الجاري في كلّ منهما نجاسته و حرمته، فيجب الاجتناب عن كليهما شرعا. و معه لا مجال لأصالة الحلّ و الطهارة، إذ أصالة عدم التذكية أصل موضوعي حاكم عليها و متقدم عليها تقدم الأصل السببي على المسببي.

التعرّض لأمور [أصولية]

أقول: ينبغي هنا التعرّض لأمور و إن كان محلّ تفصيلها كتب الأصول:

الأوّل: [أصل عدم التذكية]

في مصباح الفقاهة ناقش في إجراء أصالة عدم التذكية هنا. و محصّلها: «أن هذا الأصل لا يثبت الميتة التي هي أمر وجودي إلّا على القول بالأصول المثبتة.

لا يقال: إنّ الميتة عبارة عما لم تلحقه الذكاة كما في القاموس.

فإنّه يقال: لا نسلّم اتحادهما، إذ الميتة في اللغة و الشرع إمّا عبارة عمّا مات حتف أنفه، أو عبارة عما فارقته الروح بغير ذكاة شرعية و على هيئة غير مشروعة إمّا في الفاعل أو في القابل فلا يثبت شي‌ء منهما بأصالة عدم التذكية. و أمّا ما في القاموس فلم تثبت صحّته، و كذلك ما عن أبي عمرو من أنّها ما لم تدرك تذكيته.» «1»

أقول: يمكن أن يجاب عن هذه المناقشة بأنّ حلّية الأكل لما كانت معلّقة على التذكية‌

______________________________
(1) مصباح الفقاهة 1/ 73.

 

378
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الأول: أصل عدم التذكية ؛ ج‌1، ص : 378

..........

______________________________
الشرعية كما هو المستفاد من الكتاب و السنة فلا محالة يكون ما لم يذك محكوما بالحرمة و إن لم يصدق عليه عنوان الميتة.

و إن شئت قلت: بأن الحرمة و إن علّقت في لسان الدليل على عنوان الميتة، لكن لا إشكال في أنّ حلّية الحيوان تتوقّف على التذكية الشرعية، فإذا فرض إحراز عدمها و لو بالاستصحاب حكم بانتفاء الحلية قهرا انتفاء الحكم بانتفاء موضوعه و إن لم نحكم عليه- على هذا المبنى- بالأحكام الوجودية كالحرمة و النجاسة. هذا.

و قد يقال: إنّ المترتب على عدم التذكية هو حرمة الأكل أو عدم حلّيته، و أمّا النجاسة فهي ثابتة لعنوان الميتة، إذ لا ملازمة بين الحكمين، و محلّ الكلام في المقام هي النجاسة لا حرمة الأكل، فتدبّر.

و هاهنا شبهة تختلج بالبال، و هي أنّه لا دليل على كون عدم التذكية بإطلاقه موضوعا للحرمة أو لعدم الحلّية، فإنّ عدم الذكاة ثابت في حال حياة الحيوان أيضا و لا دليل على حرمة التقامه حينئذ لو أمكن، نظير التقام السمك الحيّ في قعر البحر مثلا.

فما هو الموضوع للحرمة أو لعدم الحلية هو ما زهق روحه بغير التذكية الشرعية، فكأنّ زهوق الروح مقتض لقذارة الحيوان و التذكية رافعة لها، و إثبات هذا المقيد باستصحاب قيده العدمي تعويل على الأصل المثبت و لا نقول به.

بل يمكن أن يقال: إنّ كلا من زهوق الروح بالتذكية و زهوقها بغير التذكية مسبوقان بالعدم، فيستصحب عدمهما، و يتعارضان فيرجع إلى أصل الحلية و الطهارة.

اللّهم إلّا أن يمنع التقييد و يقال بتركب الموضوع من زهوق الروح و عدم التذكية، حيث إنّ التذكية و عدمها ليسا من حالات زهوق الروح و قيودها بل من صفات الحيوان‌

379
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الأمر الثاني: تساقط الاستصحابين في طرفي العلم الإجمالي ؛ ج‌1، ص : 380

..........

______________________________
و حالاته- كما قيل-. و على هذا فيحرز أحد جزئي المركب بالوجدان و الآخر بالأصل كما في سائر الموضوعات المركبة. هذا و التفصيل يطلب من محلّه.

الأمر الثاني: [تساقط الاستصحابين في طرفي العلم الإجمالي]

أنّ الشيخ الأنصاري- قدّس سرّه- حكم في أواخر الاستصحاب من الرسائل بتساقط الاستصحابين في طرفي العلم الإجمالي إذا استلزم الأخذ بهما المخالفة العملية للعلم الإجمالي، و استدل لذلك بما لفظه: «لأنّ العلم الإجمالي هنا بانتقاض أحد اليقينين يوجب خروجهما عن مدلول لا تنقض. لأن قوله: «لا تنقض اليقين بالشك و لكن تنقضه بيقين مثله» يدلّ على حرمة النقض بالشك و وجوب النقض باليقين. فإذا فرض اليقين بارتفاع الحالة السابقة في أحد المستصحبين فلا يجوز إبقاء كلّ منهما تحت عموم حرمة النقض بالشك لأنه مستلزم لطرح الحكم بنقض اليقين بمثله، و لا إبقاء أحدهما المعين لاشتراك الآخر معه في مناط الدخول من غير مرجّح. و أمّا أحدهما المخير فليس من أفراد العام، إذ ليس فردا ثالثا غير الفردين المتشخصّين في الخارج فإذا خرجا لم يبق شي‌ء. و قد تقدم نظير ذلك في الشبهة المحصورة و أنّ قوله: كلّ شي‌ء حلال حتّى تعرف أنه حرام لا يشمل شيئا من المشتبهين.» «1»

أقول: ظاهر هذا الاستدلال أنّ دليل الأصل لا يشمل طرفي العلم الإجمالي لا أنه يشملهما و يسقطان بالتعارض. و قد يعبّر عن هذا الاستدلال بلزوم مناقضة صدر الدليل لذيله فتوجب إجمال الدليل.

و يرد عليه أوّلا: أنّ ظاهر استدلال الشيخ لا يطابق ظاهر ما ادّعاه، إذ ظاهر المدّعى جريانهما بالذات و سقوطهما بالتعارض، و ظاهر الاستدلال عدم شمول الدليل لهما، فراجع.

______________________________
(1) الرسائل/ 429 (ط. أخرى/ 744) في الكلام في تعارض الاستصحابين.

380
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الأمر الثاني: تساقط الاستصحابين في طرفي العلم الإجمالي ؛ ج‌1، ص : 380

..........

______________________________
و ثانيا: أنّ هذا البيان يجري فيما إذا لم يستلزم من إجراء الأصلين مخالفة عملية أيضا، كما في أصالة عدم التذكية في المقام، و قد صرّح المصنف في المقام بجريانهما.

و ثالثا: ما مرّت الإشارة إليه من منع المناقضة، لاختلاف متعلقي اليقين و الشك، حيث إنّ الشك تعلق بكلّ واحد من الطرفين مشخصا و كذا اليقين السابق، و اليقين بالخلاف تعلق بعنوان أحدهما المردّد.

و رابعا: أنّ الذيل الموجب للمناقضة و الإجمال لا يوجد في جميع أدلّة الأصول، و ما في البعض أيضا ليس لبيان حكم مستقل شرعي بل تأكيد لبيان موضوع الأصل أعني الشك، كيف؟! و الأخذ باليقين بمعنى حجيته و العمل به ليس بحكم الشرع بل مما يحكم به العقل كما قرّر في محلّه.

و خامسا: يرد على ما ذكره أخيرا: أنّ القائل بالتخيير في المقام لا يريد جعل الفرد المخير فردا ثالثا مشمولا للعام. بل يقول: إنّ إطلاق دليل الأصل إذا لم يمكن الأخذ به في الطرفين وجب الأخذ به في أحدهما لا محالة رعاية لمصلحة الجعل مهما أمكن.

و التخيير هنا عقليّ نظير سائر موارد تزاحم الملاكات. فوزان الأصلين المتعارضين ظاهرا وزان الخبرين المتعارضين على القول بالسببية، حيث لم يلحظ في جعل الأصول الطريقية إلى الواقع، بل هو مجعول تعبّدي لوجود المصلحة في نفسه و لو كانت هي التسهيل على المكلف لئلا يبتلى بالاحتياط الموجب للحرج. و اللّه- تعالى- كما يحبّ أن يؤخذ بعزائمه يحبّ أن يؤخذ برخصه أيضا مهما أمكن، و إذا كان عدم القدرة تكوينا على الجمع بين واجدي المصلحة موجبا للحكم بالتخيير بينهما فليكن عدم القدرة على ذلك تشريعا أيضا موجبا لذلك. و قد قالوا: الممنوع شرعا كالممتنع عقلا. و العجب أنّ الشيخ-

381
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الأمر الثالث: المقتضي لجريان العلم الإجمالي في الأطراف تام ؛ ج‌1، ص : 382

..........

______________________________
قدّس سرّه- كان ملتفتا إلى هذا المعنى كما يظهر مما ذكره قبل العبارة السابقة و بعدها فراجع، فلم ذكر هنا هذا الإشكال؟!

الأمر الثالث: [المقتضي لجريان العلم الإجمالي في الأطراف تامّ]

قد فصّل المحقق النائيني- على ما في أوائل الجزء الرابع من فوائد الأصول- بين الأصول التنزيلية و غير التنزيلية و قال ما محصّله: «أنّ المجعول في الأصول التنزيلية- و منها الاستصحاب- إنّما هو البناء العملي و الأخذ بأحد طرفي الشك على أنه هو الواقع. و أمّا في الأصول غير التنزيلية كأصالة الطهارة و الحلّية و نحوهما فالمجعول فيها مجرد تطبيق العمل على أحد طرفي الشكّ من دون تنزيل المؤدّى منزلة الواقع المشكوك فيه.

فالقسم الاوّل يمكن جعلها في الشبهات البدوية و في بعض أطراف العلم الإجمالي. و أمّا بالنسبة إلى جميع الأطراف فلا يمكن مثل هذا الجعل للعلم بانتقاض الحالة السابقة في بعض الأطراف فكيف يمكن الحكم ببقاء الإحراز السابق في جميع الأطراف و لو تعبدا.

و لا فرق في ذلك بين أن يلزم من إجرائهما مخالفة عملية أم لا. و أمّا في القسم الثاني فيمكن جعلها في الطرفين أيضا إلّا أن يلزم من إجرائهما مخالفة عملية.» «1»

أقول: الظاهر عدم الفرق بين التنزيلية و غيرها، فيمكن جعلها في جميع الأطراف في التنزيلية أيضا إلّا أن يلزم مخالفة عملية. فعلى فرض كون الاستصحاب من الأصول التنزيلية كما فرضه يجوّز في المقام جعل استصحاب عدم التذكية في الطرفين، حيث لا يلزم من التعبد بهما و إجرائهما مخالفة عملية بل هما يؤكّدان العلم الإجمالى بالنجاسة.

______________________________
(1) فوائد الأصول 4/ 14- 17. في الشكّ في المكلّف به في الشبهة الموضوعية التحريمية.

382
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الأمر الرابع: العلم الإجمالي حجة كالعلم التفصيلي ؛ ج‌1، ص : 383

..........

______________________________
و السرّ في ذلك أنّ كلّ أصل يلحظ بنفسه و مفاده و يكون مجعولا مستقلا في قبال الأصل الآخر و كلّ منهما تعبد مستقلّ بلحاظ تحقق موضوعه و ليسا معا تعبّدا واحدا حتى يورد بأن التعبّد بهما ينافي التعبّد بالمعلوم إجمالا في البين.

و بعبارة أوضح: الموضوع لكلّ واحد من الاستصحابين هو الشك في مجراه و المفروض أنه متحقق. و التعبّد بكل منهما مستقلا لا ينافي الواقع المعلوم إجمالا في البين، لاختلاف الموضوع و لاختلاف الرتبة كما في الجمع بين الحكم الواقعي و الظاهري. و كلّ أصل يثبت مفاد نفسه و مجراه دون لوازمه و ملازماته و ملزوماته. و لذا نرى التفكيك بين مفاد الأصول و لوازمها، كما إذا توضّأ بمائع مردّد بين البول و الماء، حيث يحكم ببطلان الوضوء و طهارة البدن باستصحابهما مع العلم إجمالا بكون أحدهما خلاف الواقع. و كذا لو شك بعد الصلاة في وقوعها مع الطهارة، حيث يحكم بصحة هذه الصلاة بقاعدة الفراغ و وجوب الوضوء للصلوات الآتية.

و قد تلخّص مما ذكرنا هنا و في الأمر السابق أنّ المقتضي لجريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي متحقق ثبوتا و إثباتا، بمعنى تحقق موضوعها و هو الشك و شمول إطلاق الأدلّة أيضا من غير فرق بين التنزيلية و غيرها، و أنّ المانع عن إجرائها ليس إلّا لزوم المخالفة العملية للحكم المعلوم و الترخيص في المعصية القطعية. هذا. و التفصيل يطلب من محلّه.

الأمر الرابع: [العلم الإجمالي حجة كالعلم التفصيلي]

بعد ما ثبت حجية العلم التفصيلي ذاتا و كونه علّة تامّة لتنجيز الواقع عقلا فهل العلم الإجمالي كذلك أولا؟

ربما نسب إلى المحقق الخونساري و المحقق القمي- طاب ثراهما- المنع و أنه بحكم الشك البدوي، فيجري في مورده الأصول المرخّصة، إذ الواقع لم ينكشف تمام الانكشاف،

383
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الأمر الرابع: العلم الإجمالي حجة كالعلم التفصيلي ؛ ج‌1، ص : 383

..........

______________________________
و مرتبة الحكم الظاهري أعني الشك محفوظة في كل واحد من الطرفين، فيشملهما إطلاقات أدلّة الأصول و إن استلزمت المخالفة العملية للعلم الإجمالي.

و ظاهر الكفاية في مبحث القطع «1» أنّه منجّز بنحو الاقتضاء لا العلّية التامّة، فللشارع الترخيص في بعض الأطراف أو جميعها و لكن بدون تحقق الترخيص يتنجز الواقع قهرا.

و يظهر من بعض كلمات الشيخ الأنصاري- قدّس سرّه- «2» أنه بالنسبة إلى حرمة المخالفة القطعية علّة تامّة و بالنسبة إلى وجوب الموافقة القطعية بنحو الاقتضاء فتجب الموافقة إلّا أن يرد الترخيص في بعض الأطراف فيجعل الطرف الآخر بدلا عن الواقع.

و للأستاذ آية اللّه العظمى البروجردي- قدّس سرّه- في هذا المقام تفصيل كتبناه منه فيما قررناه منه في مبحث القطع من الأصول.

و محصّله التفصيل بين العلم الإجمالي بالتكليف الفعلي أعني البعث أو الزجر الفعلي الحتمي من ناحية المولى، و بين العلم بالحجة الإجمالية:

فالأوّل كالعلم التفصيلي علّة تامة للتنجيز و لا مجال للترخيص لا في جميع أطرافه و لا في البعض فإنه مناقضة صريحة.

و أمّا في الحجج الإجمالية غير العلم فيمكن أن يرخص في بعض الأطراف بل في الجميع أيضا فيكشف عن رفع اليد عن إطلاق الدليل الأوّل. مثلا إذا فرض العلم الوجداني الحتمي إجمالا بحرمة أحد الشيئين بالفعل و أنه مع إجماله و عدم تميّزه مبغوض للشارع جدّا فلا محالة يحكم العقل حكما جازما بوجوب الاجتناب عنه و لو‌

______________________________
(1) كفاية الأصول 2/ 35، المقصد الثانى، الأمر السابع.

(2) راجع الرسائل ص 16 (ط. أخرى ص 27) و ما بعدها، في كفاية العلم الإجمالى في تنجز التكليف ...

384
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الأمر الرابع: العلم الإجمالي حجة كالعلم التفصيلي ؛ ج‌1، ص : 383

..........

______________________________
بترك الطرفين مقدمة، و لا يعقل ترخيص الشارع في مخالفته بعد العلم الوجداني بحرمته فعلا و مبغوضيته له، إذ بالعلم وصل التكليف الفعلي إلى العبد و انكشف له تمام الانكشاف فلا حالة منتظرة لحكم العقل بتنجزه و استحقاق العقوبة على مخالفته، و الترخيص فيه يرى ترخيصا في المعصية و مناقضة صريحة لما علم.

و أمّا إذا علمنا إجمالا بأنّ أحد الإناءين خمر مثلا فإطلاق قوله: «لا تشرب الخمر» و إن كان يشمله لكنه ليس علما بالتكليف الفعلي بل علما إجماليا بوجود الحجة أعني إطلاق الدليل بالنسبة إلى هذا أو ذاك، فلا يرى العقل مانعا من ترخيص الشارع في ارتكاب الطرفين أو أحدهما و به ينكشف عدم إرادة الإطلاق و تقييد قوله: «لا تشرب الخمر» بما علم خمريته بالتفصيل أو بما لم يرد الترخيص فيه من الطرفين.

و بعبارة أوضح: العلم الذي هو صفة خاصّة نفسانية و يرادف القطع و اليقين و الجزم إذا فرض تعلّقه بالتكليف الفعلي و الإرادة الحتمية من المولى فلا مجال للقول بعدم تنجيزه و الترخيص في مخالفته، تفصيليا كان أو إجماليا، محصورة كانت الشبهة أو غير محصورة.

و جهل العبد ببعض خصوصيات المنكشف لا يضرّ مع فرض تحقق ماهية العلم أعني انكشاف الواقع عنده انكشافا تامّا بنحو المائة في المائة بحيث لا يدخله في ذلك شكّ و ريب، فيحرم مخالفة التكليف الواقعي المنكشف و يجب موافقته عقلا و لا يحصل هذا إلّا بإتيان الطرفين من باب المقدمة العلمية.

و الترخيص في أحد الطرفين و جعل الطرف الآخر بدلا عن الواقع ينافي ما هو المفروض من الجزم بكون المعلوم في البين بواقعه و ذاته مرادا حتميا للمولى بحيث لا‌

385
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الأمر الرابع: العلم الإجمالي حجة كالعلم التفصيلي ؛ ج‌1، ص : 383

..........

______________________________
يرضى بتركه سواء كان في هذا الطرف أو ذاك.

بل في الشبهة البدوية أيضا مع فرض فعلية التكليف بواقعه على فرض تحققه يجب الاحتياط أيضا كما في الأمور المهمة كالدماء و الفروج فكيف مع العلم به إجمالا.

و الظاهر أنّ القوم خلطوا بين العلم الإجمالي بالتكليف الفعلي و بين العلم بالحجة الإجمالية فعنونوا العلم الإجمالي بالتكليف و لكنهم في مقام التمثيل لذلك مثّلوا بالحجج الإجمالية كإطلاق لا تشرب الخمر مثلا الشامل بطبعه للخمر المردد بين الإناءين مع أنه ليس علما إجماليا بالتكليف الفعلي الحتمي بل علما بوجود الحجة أعني الإطلاق بالنسبة إلى هذا أو ذاك. و لا يخفى أنّ مثل هذا يمكن ترخيص الشارع في بعض أطرافه أو جميعها، و مرجعه إلى رفع اليد عن الإطلاق و عدم إرادته.

و الظاهر أنّ نظر المحقق الخونساري و المحقق القمّي في التمسك بأخبار الترخيص إلى الحجج الإجمالية لا إلى صورة تعلّق العلم الوجداني و لو إجمالا بنفس التكليف الفعلي و الإرادة الحتمية. هذا.

و الأصوليون تعرّضوا للعلم الإجمالي تارة في مبحث القطع و أخري في الاشتغال.

و لا يخفى أنّ المناسب لمبحث القطع البحث عن العلم الإجمالي المتعلق بالتكليف الفعلي الحتمي، و المناسب لمبحث الاشتغال البحث عن الحجج الإجمالية و أنّها توجب الاشتغال أو أنّ أدلّة الأصول العملية المرخّصة تشملها.

هذه خلاصة ما ذكره الأستاذ آية اللّه البروجردي في المسألة. و الأستاذ الإمام «ره» أيضا تعرّض لهذا التفصيل هنا و فيما طبع من تقريرات بحثه «1». و لعلّه أخذه منه- طاب‌

______________________________
(1) راجع المكاسب المحرمة 1/ 61؛ و تهذيب الأصول 2/ 123، المقصد السادس، الأمر السادس.

386
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الأمر الرابع: العلم الإجمالي حجة كالعلم التفصيلي ؛ ج‌1، ص : 383

..........

______________________________
ثراهما- حيث كان يحضر درسه. هذا.

و هنا ملاحظات على هذا التفصيل نشير إليها إجمالا:

الأولى: قد يناقش ما ذكره في القسم الأوّل من عدم جواز الترخيص في بعض الأطراف و عدم كفاية الموافقة الاحتمالية بأن العلم الإجمالي لا يزيد عن العلم التفصيلي قطعا، و قد جاز في مورده الاكتفاء بالامتثال الاحتمالي، كما في موارد قاعدة التجاوز و الفراغ و الشكّ بعد الوقت و نحو ذلك.

و لكن يمكن أن يجاب عن هذه المناقشة: بأنّ حكم الشارع بعدم الاعتناء بالشكّ بعد التجاوز أو الفراغ يكشف عن كون المأتي به بنظر الشارع مصداقا طوليّا للطبيعة المأمور بها وافيا بتمام غرضه منها و لأجل ذلك اكتفى به، فتأمّل.

و أما في الشكّ بعد الوقت في أصل إتيان العمل فحكمه بعدم الاعتناء به كاشف لا محالة عن رفع يده عن الواقع على فرض عدم تحقق المأمور به. و الداعي على ذلك تسهيل الأمر على المكلفين و هو من أهمّ المصالح في الشريعة السهلة، إذ لو فرض بقاء فعلية الواقع كيفما كان و لو في صورة الشكّ و كونه مرادا حتميا للمولى بحيث لا يرضى بتركه أصلا لما جاز ترخيصه في تركه و لو احتمالا لكونه مناقضة صريحة. و احتمال المناقضة أيضا كالقطع بها غير معقول كما لا يخفى.

الثانية: ما في كلام الأستاذ «ره» في القسم الثاني أعني الحجة الإجمالية من جواز الترخيص في البعض أو الجميع و أنّ به ينكشف تقييد إطلاق الدليل الأوّل لا يخلو تعبيره الأخير عن مسامحة، إذ الموضوع لجلّ الأحكام الشرعية نفس الطبائع بواقعيتها و لم يؤخذ العلم بها جزء من الموضوع. فموضوع الحرمة في قوله: «لا تشرب الخمر»‌

387
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الأمر الرابع: العلم الإجمالي حجة كالعلم التفصيلي ؛ ج‌1، ص : 383

..........

______________________________
مثلا نفس طبيعة الخمر لا ما علم خمريّته. و الأصول المرخّصة موضوعها الشكّ في الحكم الواقعي، فهي متأخرة عن موضوع الحكم الواقعي بمراتب، فلا يعقل أن تمسّ كرامة الأحكام الواقعية بتقييد موضوعاتها، حيث إنّ القيد و المطلق المقيّد به في رتبة واحدة. فيجب أن يحمل كلام الأستاذ «ره» على إرادة عدم وصول التكليف الأول إلى مرحلة الفعلية التامة الملازمة للتنجز إلّا بسبب العلم التفصيلي.

و بالجملة فموضوع الحكم الأوّلي في مرحلة الإنشاء مطلق، و بفعلية الموضوع يصير الحكم فعليا من جهة، و لكن الفعلية التامة الملازمة للتنجّز تتوقف على عدم المانع عنها و يمكن أن يكون رعاية مصلحة التسهيل مانعة عنها، فبالأصل المرخّص يكشف اشتراط الفعلية التامّة بالعلم به تفصيلا، نظير ما قيل في جميع الأمارات و الأصول المخالفة للواقع، حيث إنّ في موارد تخلفها عن الواقع لا محيص عن رفع اليد عن فعلية الواقع و عدم وصوله إلى مرتبة التنجز من دون أن يوجب ذلك تقييدا في مرحلة الإنشاء.

و المصحّح لتفويت الواقع و رفع اليد عنه ثبوتا ملاحظة مصلحة أقوى و أهمّ منه أعني تسهيل الأمر على المكلفين على ما هو مقتضى الشريعة السمحة السهلة.

الثالثة: أنّ التفصيل الذي شيّد أركانه الأستاذان العلمان- طاب ثراهما- مع كثرة اهتمامهما به لا يترتب عليه ثمرة مهمّة، إذ العلم الوجداني بالتكليف الواقعي الفعلي و الإرادة الحتمية للشارع بحيث لا يرضى بتركه كيفما كان قلّما يتفق للفقيه. حيث إنّ فقهنا ليس على أساس الإلهام و المكاشفة، و إنما الذي يزاوله الفقيه في أبواب الفقه ليس إلّا ظواهر الحجج الشرعية و إطلاقاتها. و ليس العلم بالحجة الشرعية مستلزما للعلم الوجداني بالتكليف الفعلي الحتمي من المولى كما مرّ. و لكنها مع ذلك يجب الأخذ بها‌

388
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الأمر الرابع: العلم الإجمالي حجة كالعلم التفصيلي ؛ ج‌1، ص : 383

..........

______________________________
أيضا تفصيلية كانت أو إجمالية كالعلم بنفسه، إذ معنى حجيتها اعتماد الشارع عليها في تحصيل أغراضه و مقاصده الواقعية و جواز احتجاجه بها على العبيد.

و ظاهر الحجج أيضا كون مفادها أحكاما فعلية لا يجوز للعبد التخلف عنها بعد وصولها إليه. إذ تشريع الأحكام يكون على نحو القضايا الحقيقية و لم يؤخذ العلم في موضوعاتها. و فعلية الحكم تابعة لفعلية موضوعه، فهي من هذه الجهة تكون مطلقة.

و كما يحكم العقل في العلم الإجمالي بالتكليف الفعلي الحتمي بحرمة المخالفة القطعية و وجوب الموافقة كذلك من باب وجوب الإطاعة و لزوم المقدمة العلمية و أنّ الاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينية، فكذلك في الحجة الإجمالية أيضا طابق النعل بالنعل. و لا يعذر العبد في مخالفة الواقع بعد قيام الحجة عليه و لو إجمالا. إذ المعتبر وصول التكليف إليه لا تميّز المكلف به لديه.

و بالجملة وزان قيام الحجة على الحكم الفعلي و لو إجمالا وزان العلم الوجداني به بنظر العقل الحاكم في باب الإطاعة و العصيان.

اللّهم إلّا أن تقوم حجة أقوى على الترخيص و رفع اليد عن الواقع رعاية لمصلحة التسهيل التي هي أيضا من أهمّ المصالح المنظورة. و بذلك تفترق الحجة الظاهرية عن العلم الوجداني بالتكليف الفعلي الحتمي. هذا.

و على هذا فاللازم ملاحظة أدلّة الأصول المرخصة و أنّها هل تشمل أطراف الحجة الإجمالية بحيث يرفع بسببها اليد عن إطلاقها أم لا؟

و لا نعني بذلك البحث عن أصل شمول أدلة الأصول لأطراف العلم أو الحجة الإجمالية، إذ قد عرفت أنّ مرتبة الحكم الظاهري أعني الشك محفوظة في كل واحد‌

389
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الأمر الرابع: العلم الإجمالي حجة كالعلم التفصيلي ؛ ج‌1، ص : 383

..........

______________________________
من الأطراف. و إطلاقات أدلّة الأصول أيضا تشملها بالطبع و لكن قيّدنا ذلك بعدم لزوم المخالفة العملية للمعلوم في البين.

فالغرض في المقام هو البحث عن شمول أدلّة الأصول المرخصة لأطراف الحجة الإجمالية بنحو يرفع بسببها اليد عن إطلاقها و إن لزمت المخالفة العملية لها.

فنقول: أمّا ما كان من قبيل حديث الرفع و نحوه فالظاهر عدم كفايته لرفع التكليف الثابت بالحجة الشرعية و لو إجمالا، إذ إطلاقات الأدلة الأوّلية و عموماتها من قبيل الأمارات، و هي تقوم مقام العلم شرعا في إثبات مفادها، فمواردها تكون من قبيل ما يعلم تعبدا و ليست مما حجب اللّه علمه عن العباد.

و بالجملة الأمارات تكون حاكمة بل واردة على الأصول العملية رافعة لموضوعها بناء على أن يراد بالعلم الحجة الشرعية بإطلاقها، فتأمّل.

و كذا قوله «ع» في موثقة مسعدة عن أبي عبد اللّه «ع»: «كلّ شي‌ء هو لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك. و ذلك مثل الثوب يكون قد اشتريته و هو سرقة، أو المملوك عندك و لعلّه حرّ قد باع نفسه أو خدع فبيع أو قهر، أو امرأة تحتك و هي أختك أو رضيعتك. و الأشياء كلّها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البينة.» «1»

إذ قوله: «بعينه» لا يراد به خصوص العلم التفصيلي بل كما بيّنه الشيخ «ره» في الرسائل: «تأكيد للضمير جي‌ء به للاهتمام في اعتبار العلم كما يقال: رأيت زيدا نفسه بعينه لدفع توهم الاشتباه في الرؤية و إلّا فكلّ شي‌ء علم حرمته فقد علم حرمة‌

______________________________
(1) الكافى 5/ 313، كتاب المعيشة، باب النوادر، الحديث 40.

390
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الأمر الرابع: العلم الإجمالي حجة كالعلم التفصيلي ؛ ج‌1، ص : 383

..........

______________________________
نفسه.»
«1» و على هذا فتشمل الغاية العلم الإجمالي بالشي‌ء أيضا. هذا.

و في تطبيق الكبرى المذكورة في الموثقة على الأمثلة المذكورة في ذيلها إشكال، إذ الحلّية في الأمثلة مستندة غالبا إلى أمارات و قواعد متقدمة رتبة على أصالة الحلّ كاليد في الثوب المشتراة و أصالة الصحة في العقود و استصحاب عدم كون المرأة رضيعة و نحو ذلك، فيجب أن يقال: إنّ الكبرى ليست في مقام بيان أصالة الحلّ المصطلحة بل بصدد بيان حكم الحلّ و لو بأمارة شرعية أو بأصل محرز.

نعم هنا ثلاث روايات ربما يظهر منها ورودها في مورد الحجة الإجمالية أو شمولها له أيضا، و مقتضاها جريان أصالة الحلّ في موردها أيضا:

الأولى: صحيحة عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «كلّ شي‌ء يكون فيه حلال و حرام فهو حلال لك أبدا حتّى (إلى خ. ل) أن تعرف الحرام منه بعينه فتدعه.» «2»

إذ الظاهر منها كون: «بعينه» قيدا للمعرفة، فظاهره كظاهر مادّة المعرفة المعرفة التفصيلية كما لا يخفى.

الثانية: ما في الكافي عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن محبوب، عن عبد اللّه بن سنان، عن عبد اللّه بن سليمان، قال: سألت أبا جعفر «ع» عن الجبن، فقال لي: لقد سألتني عن طعام يعجبني. ثم أعطى الغلام درهما فقال: يا غلام، ابتع لنا جبنا، و دعا بالغداء فتغدّينا معه و أتي بالجبن فأكل و أكلنا معه، فلمّا فرغنا من‌

______________________________
(1) الرسائل/ 241 (ط. أخرى/ 405)، في الشك في المكلّف به، في الشبهة المحصورة.

(2) الكافي 5/ 313 كتاب المعيشة، باب النوادر، الحديث 39؛ و رواه عن التهذيب 9/ 79 في الوسائل 16/ 403 (ط. أخرى 16/ 495) بتفاوت يسير.

391
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الأمر الرابع: العلم الإجمالي حجة كالعلم التفصيلي ؛ ج‌1، ص : 383

..........

______________________________
الغداء قلت له: ما تقول في الجبن؟ فقال لي: أولم ترني أكلته؟ قلت: بلى و لكني أحبّ أن أسمعه منك. فقال: «سأخبرك عن الجبن و غيره: كلّ ما كان فيه حلال و حرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه فتدعه.»
«1»

و رواه عنه في الوسائل، إلّا أنّ فيه بدل عن ابن محبوب: عن أبي أيّوب «2».

و دلالته كدلالة الصحيحة. و الظاهر أن علّة ترديد الراوي في حلّية الجبن احتمال وجود الميتة في بعضها أو علمه به إجمالا، كما يظهر من سائر الأخبار الواردة في الباب، فراجع. و إطلاق الجواب يشمل الشبهة البدوية و أطراف العلم الإجمالي.

و عبد اللّه بن سليمان مجهول مردّد بين عدّة «3»، و الراوي عنه عبد اللّه بن سنان، فيحتمل كون الصحيحة قطعة من هذا الخبر و أنّه سقط من سندها عبد اللّه بن سليمان.

و لا يدفع هذا الاحتمال اختلاف الإمام المرويّ عنه فيهما، لاحتمال الاشتباه و كون المروي عنه في كليهما أبا عبد اللّه «ع»، كما ربما يقرب ذلك خبر آخر لعبد اللّه بن سنان، قال: سأل رجل أبا عبد اللّه «ع» عن الجبن، فقال: إن أكله ليعجبني. ثم دعا به فأكله «4». هذا و لكن المروي عنه في المرسلة الآتية أيضا أبو جعفر «ع»، فتأمّل.

و كيف كان فلعلّ حلّية الجبن في أطراف العلم الإجمالي مستندة إلى كون الشبهة غير محصورة أو خروج بعض الأطراف عن محلّ الابتلاء.

______________________________
(1) الكافى 6/ 339، كتاب الأطعمة، باب الجبن، الحديث 1.

(2) الوسائل 17/ 90، الباب 61 من أبواب الأطعمة المباحة، الحديث 1.

(3) راجع تنقيح المقال 2/ 185.

(4) الوسائل 17/ 91، الباب 61 من أبواب الأطعمة المباحة، الحديث 3.

392
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الأمر الرابع: العلم الإجمالي حجة كالعلم التفصيلي ؛ ج‌1، ص : 383

..........

______________________________
و هنا إشكال، و هو أنّ المفتى به لأصحابنا تبعا للأخبار المستفيضة طهارة أنفحة الميتة خلافا لأكثر فقهاء السنة كما لك و الشافعي و أحمد، حيث أفتوا بنجاستها، فراجع الوسائل
«1» و المغني لابن قدامة «2». و لكن لا يضرّ هذا لحجية الكبرى الكلية المذكورة في الذيل و إن كان في تطبيقها على المقام نوع تقية.

الثالثة: ما عن معاوية بن عمّار عن رجل من أصحابنا، قال: كنت عند أبي جعفر «ع» فسأله رجل عن الجبن، فقال أبو جعفر «ع»: «إنه لطعام يعجبني و سأخبرك عن الجبن و غيره: كلّ شي‌ء فيه الحلال و الحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام فتدعه بعينه.» «3»

و الظاهر كون هذه المرسلة ناظرة إلى خبر عبد اللّه بن سليمان. و كلمة «بعينه» فيها متأخرة و ظاهرها كونها قيدا لقوله: «فتدعه» لا للمعرفة.

و كيف كان فالعمدة هي الصحيحة لو صرفنا النظر عما ناقشنا فيها. و الظاهر منها كما مرّ شمولها لأطراف العلم الإجمالي أيضا و كون الغاية فيها خصوص المعرفة التفصيلية، فلا يجب الاجتناب عن أطراف الحجة الإجمالية.

فهل يجوز رفع اليد بسبب رواية واحدة- قابلة للحمل على الشبهة غير المحصورة أو خروج بعض الأطراف عن محلّ الابتلاء أو غير ذلك و لا سيما على احتمال كونها قطعة من رواية عبد اللّه بن سليمان كما مرّ- عن جميع إطلاقات العناوين المحرمة الشاملة للمعلوم بالإجمال أيضا، مع حكم العقل بوجوب الإطاعة في الحجة الإجمالية‌

______________________________
(1) راجع الوسائل 16/ 364 (ط. أخرى 16/ 444) و ما بعدها، الباب 33 من أبواب الأطعمة المحرمة.

(2) راجع المغنى 1/ 61، باب الآنية.

(3) الوسائل 17/ 92، الباب 61 من أبواب الأطعمة المباحة، الحديث 7.

393
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الأمر الرابع: العلم الإجمالي حجة كالعلم التفصيلي ؛ ج‌1، ص : 383

..........

______________________________
أيضا باجتناب جميع الأطراف من باب المقدمة العلمية كما مر بيانه؟

قال الشيخ الأنصاري «ره» في أوائل الاشتغال من الرسائل بعد استظهار كون قوله:

«بعينه» قيدا للمعرفة قال: «إلّا أنّ إبقاء الصحيحة على هذا الظهور يوجب المنافاة لما دلّ على حرمة ذلك العنوان المشتبه مثل قوله: «اجتنب عن الخمر»، لأن الإذن في كلا المشتبهين ينافي المنع عن عنوان مردّد بينهما و يوجب الحكم بعدم حرمة الخمر المعلوم إجمالا في متن الواقع، و هو مما يشهد الاتفاق و النصّ على خلافه حتّى نفس هذه الأخبار، حيث إنّ مؤدّاها ثبوت الحرمة الواقعية للأمر المشتبه.» «1»

ثم أطال الإشكال و الجواب في هذا المجال، فراجع.

و العمدة ما ذكره من شهادة الاتفاق و النصّ على خلاف ظاهر الصحيحة. و إن كان الظاهر أنّ الاتفاق في المسائل الأصولية المبتنية غالبا على الاستنباطات ليس بنحو يكشف عن قول المعصومين. و الظاهر أنّه أراد بالنصّ ما تعرّض له بعد ذلك بصفحات:

مثل ما ورد في الماءين المشتبهين من إهراقهما و التيمم. «2»

و ما ورد من تكرار الصلاة في الثوبين المشتبهين. «3»

و ما ورد في وجوب غسل كلّ الثوب إذا علم بنجاسة بعضه و وجوب غسل جميع الناحية التي علم بإصابة بعضها النجاسة معلّلا بقوله: «حتّى تكون على يقين من طهارتك.» «4»

______________________________
(1) الرسائل/ 241 (ط. أخرى/ 405)، في الشك في المكلف به، في الشبهة المحصورة.

(2) راجع الوسائل 1/ 113 و 116، من الباب 8 من أبواب الماء المطلق.

(3) راجع الوسائل 2/ 1082، الباب 64 من أبواب النجاسات.

(4) راجع الوسائل 2/ 1005- 1007، الباب 7 من أبواب النجاسات.

394
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الأمر الرابع: العلم الإجمالي حجة كالعلم التفصيلي ؛ ج‌1، ص : 383

..........

______________________________
و ما دلّ على بيع المختلط من المذكّى و الميتة ممن يستحلّ الميتة الظاهر في عدم جواز أكلهما و لا بيعهما من مسلم
«1».

و ما ورد من وجوب القرعة في قطيع الغنم التي علم إجمالا بكون بعضها موطوءة «2».

حيث إن المستفاد من جميع ذلك منجزية العلم الإجمالي و وجوب الاجتناب من جميع أطرافه، فراجع. هذا.

و يؤيد ذلك كلّه ما ذكره الشيخ أيضا من النبويين أعني قوله «ص»: «ما اجتمع الحرام و الحلال إلّا غلب الحرام الحلال.» «3» و قوله: «اتركوا ما لا بأس به حذرا عما به البأس.» «4»

قال الشيخ: «و ضعفهما منجبر بالشهرة المحققة و الإجماع المدّعى في كلام من تقدم.» «5»

أقول: الجبران إنّما يتحقق على فرض استناد المشهور أو المجمعين على هاتين الروايتين و لم يتّضح هذا.

و بما ذكرنا كلّه في المقام يظهر أيضا بطلان ما احتملناه في الأمر الثاني من إجراء الأصول المرخصة في بعض أطراف العلم الإجمالي بنحو التخيير.

مضافا إلى أنّه إذا كان مفاد العلم الإجمالي حكما اقتضائيا إلزاميا و مفاد الأصل مجرّد اللااقتضاء فالظاهر عند العقلاء و العرف عدم مزاحمة اللااقتضاء المحض للاقتضاء الملزم. و لو سلّم كون الترخيص أيضا عن اقتضاء كما لعلّه الظاهر في الإباحة و الحلّية‌

______________________________
(1) راجع الوسائل 12/ 67 و ما بعدها، الباب 7 من أبواب ما يكتسب به.

(2) راجع الوسائل 16/ 359 (ط. أخرى 16/ 436)، الباب 30 من أبواب الأطعمة المحرمة.

(3) عوالى اللآلى 2/ 132، الحديث 358.

(4) قال في الرسائل/ 244 (ط. أخرى/ 410) عند نقل الحديث: المرسل المروي في بعض كتب الفتاوى.

(5) الرسائل/ 247 (ط. أخرى/ 414)، في الشكّ في المكلّف به، في الشبهة المحصورة.

395
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الأمر الخامس: إذا فرض إجراء أصالة الحل في أحد الطرفين ؛ ج‌1، ص : 396

..........

______________________________
الظاهرية فالظاهر عندهم أهمية الاقتضائي الملزم من غير الملزم. هذا.

و تفصيل هذه المسائل موكول إلى علم الأصول، و إنما أشرنا إليها هنا استطرادا.

الأمر الخامس: [إذا فرض إجراء أصالة الحلّ في أحد الطرفين]

قد ظهر من عبارة المصنّف أنّه لو قلنا بجواز ارتكاب أحد الطرفين بإجراء أصالة الحلّ فيه بنحو التخيير جاز بيعه أيضا بقصد المذكّى الواقع في البين.

و ناقش في ذلك المحقّق الشيرازي في حاشيته في المقام بما لفظه: «الظاهر أنّ أصالة الحلّ بالمعنى الذي ذكرناه لا يثبت به إلّا جواز الأكل. و أمّا جواز البيع فلا، لأنّ المفروض عدم جواز بيع الميتة الواقعية. فمع الشك في تحقق الموضوع القابل للانتقال يحكم بأصالة عدم الانتقال و إن لم يكن هناك أصل يثبت به عدم كونه المذكّى، و ذلك نظير المال المردّد بين كونه مال الشخص أو مال غيره، فإنّه و إن قلنا بجواز أكله إذا لم يكن مسبوقا بكونه ملكا لغيره، لكن لا نقول بجواز بيعه، لما قلنا من الشكّ في الملكية المترتّب عليها جواز البيع و نفوذه.

نعم لو كان المانع من جواز البيع هو مجرّد عدم جواز الانتفاع دون عنوان الميتة النجسة أمكن أن يقال بارتفاع المانع بجواز التصرّف الثابت و لو بأصالة الحلّ ...» «1»

و قد تعرّض لنحو هذه المناقشة المحقّق المامقانى أيضا في حاشيته إلّا أنه ذكر بدل أصالة الحلّ أصالة الطهارة و قال: «إنّ أصالة الطهارة لا تفيد كونه ملكا، ضرورة أنّه لا ملازمة بين الطهارة و بين كونه ملكا ...» فراجع كلامه. «2»

و أجاب الأستاذ الإمام في المقام عن مناقشة المحقق الشيرازي بما محصّله: «أنّ مفاد‌

______________________________
(1) حاشية المكاسب للشيرازي/ 10.

(2) حاشية المكاسب للمامقانى/ 22.

396
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الأمر الخامس: إذا فرض إجراء أصالة الحل في أحد الطرفين ؛ ج‌1، ص : 396

..........

______________________________
أصالة الحلّ ليس حلّية الأكل فقط بل مقتضى إطلاق أدلّتها جواز ترتيب آثار الحلّية، و من آثارها جواز البيع و صحّته. فإنّ قوله «ع» في صحيحة عبد اللّه بن سنان: «كلّ شي‌ء يكون فيه حلال و حرام فهو حلال لك أبدا حتى أن تعرف الحرام منه بعينه فتدعه» لا قصور فيه لإثبات جميع آثار الحلّية الواقعية عليه، لأن الحلّية فيه لمّا لم تكن واقعيّة تحمل على الظاهرية بلحاظ ترتيب الآثار بلسان جعل الموضوع. و إطلاقه يقتضي ترتيب جميع الآثار. بل الظاهر أنّ مفاد أصالة الحلّ أعمّ من التكليفية و الوضعية، فإذا شكّ في نفوذ بيع المشكوك فيه حكم بنفوذه بأصالة الحلّ الوضعي.

بل يمكن أن يقال: إنّ جواز الأكل و سائر الانتفاعات كاشف عن ملكيته لدى الشارع و لو ظاهرا، كما أنّ النهي عن جميع التصرفات كاشف عن سقوطها لديه. أو يقال: إنّ ملكية الميتة و ماليّتها عقلائية لا بدّ في نفيهما من ردع الشارع. و لا دليل على الردع في مورد المشتبه مع تجويز الشارع الانتفاع به فيصحّ بيعه بإطلاق أدلّة تنفيذه.

فتحصّل مما ذكرناه أنّ الحكم بصحة البيع لا يتوقف على إحراز كونه مذكّى أو عدم كونه ميتة. هذا، مضافا إلى إمكان استصحاب كون المشتبه قابلا للنقل و الانتقال و مملوكا يجوز فيه أنحاء التصرّفات فتكون تلك الاستصحابات حاكمة على استصحاب عدم الانتقال. و توهّم عدم بقاء الموضوع لعروض الموت على الحيوان قد فرغنا عن جوابه في محلّه.» «1»

أقول: جوابه «ره» عن المناقشة يرجع إلى خمسة أجوبة:

الأوّل: أنّ الحكم بحليّة المشكوك فيه تكليفا يقتضي ترتيب جميع آثار الحلّية، و من جملة آثارها جواز البيع و صحّته.

______________________________
(1) المكاسب المحرمة 1/ 59.

397
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الأمر الخامس: إذا فرض إجراء أصالة الحل في أحد الطرفين ؛ ج‌1، ص : 396

..........

______________________________
الثاني: أنّ المقصود بالحليّة في الصحيحة و غيرها ليس خصوص الحلّية التكليفية بل الأعمّ من التكليف و الوضع أعني الصحّة.

الثالث: أنّ جواز أكل الشي‌ء و سائر الانتفاعات منه كاشف عن حكم الشارع بملكية هذا الشي‌ء.

الرابع: أنّ ملكية الميتة و ماليتها مما يحكم به العقلاء و لا نحتاج في الأمور العقلائية إلى إمضاء الشارع، نعم له الردع عنها، و لا دليل على الردع في المشتبه بعد تجويز الانتفاع به.

الخامس: استصحاب كون المشتبه قابلا للنقل و الانتقال و مملوكا، و هذا الاستصحاب حاكم على أصالة عدم الانتقال.

أقول: الجواب الأوّل لا يخلو عن إشكال، إذ لو كان الموضوع لمنع البيع حرمة الشي‌ء كان الحكم بحلّيته و لو ظاهرا رافعا لموضوع المنع و لو تعبّدا فيحكم بصحة بيعه. و لكن المفروض- كما ذكره المناقش- أنّ الموضوع لمنع البيع هو عنوان الميتة الواقعية، فما لم يحرز كونه مذكّى لم يحكم بصحة بيعه. و بأصالة الحلّ لا يثبت هذا العنوان. نعم لو ثبتت الملازمة بين حلّية الشي‌ء تكليفا و بين صحة بيعه صحّ ما ذكره.

و أحسن الأجوبة الخمسة الجواب الثاني. و توضيحه: أنه قد مرّ في بعض الأبحاث السابقة أنّ الحلّ و الحرمة لا تختصّان بالتكليفية. و استعمالهما في خصوص التكليف و تبادره منهما إنّما حدث في ألسنة الفقهاء و المتشرّعة. و أمّا في الكتاب و السنة فكانا يستعملان في المفهوم الجامع للتكليف و الوضع. فكان يراد بحلّية الشي‌ء إطلاقه و عدم المنع بالنسبة إليه من ناحية الشرع، و بحرمة الشي‌ء المنع و المحدودية من ناحيته. و إطلاق كلّ شي‌ء و محدوديته يلاحظان بحسب ما يترقب من هذا الشي‌ء.

398
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

البيع ممن يستحل الميتة ؛ ج‌1، ص : 399

و عن العلّامة حمل الخبرين على جواز استنقاذ مال المستحلّ للميتة بذلك برضاه (1).

و فيه أنّ المستحلّ قد يكون ممّن لا يجوز الاستنقاذ منه إلّا بالأسباب الشرعية كالذمّي (2).

______________________________
و استعمال اللفظين و إرادة الوضع أيضا كان شائعا في لسان الشرع المبين، و منه قوله- تعالى-:
أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبٰا. «1»

و في صحيحة محمد بن عبد الجبار: «لا تحلّ الصلاة في حرير محض.» «2» إلى غير ذلك من الروايات.

و إذا استعمل اللفظان و لم تكن قرينة على إرادة خصوص التكليف أو الوضع فالظاهر منهما إرادة المطلق كما في الصحيحة و الموثقة المتقدمتين. و لذا قوّينا جواز الاستدلال بهما على صحة الصلاة في اللباس المشكوك فيه.

و قد مرّ عن الأستاذ آية اللّه البروجرديّ حكاية ذلك عن المحقق القمي- طاب ثراهما-.

و على هذا ففي المقام إذا فرض إجراء أصالة الحلّ في أحد طرفي العلم الإجمالي تخييرا كان مقتضاه حليته تكليفا و وضعا بالصلاة فيه و صحة المعاملة عليه و نحو ذلك، فتدبّر.

[البيع ممن يستحلّ الميتة]

(1) في كتاب الصيد من المختلف بعد نقل كلام الشيخ و غيره قال: «و الوجه ما قاله الشيخ.

لنا: أنّه في الحقيقة ليس بيعا بل هو استنقاذ مال الكافر من يده برضاه فكان سائغا.» «3»

(2) في مصباح الفقاهة بعد نقل كلام العلّامة قال: «يرد عليه أوّلا: أنّ النسبة بين‌

______________________________
(1) سورة البقرة (2)، الآية 275.

(2) الوسائل 3/ 267، الباب 11 من أبواب لباس المصلّى، الحديث 2.

(3) المختلف/ 683، كتاب الصيد و توابعه، الفصل الرابع.

399
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

البيع ممن يستحل الميتة ؛ ج‌1، ص : 399

و يمكن حملهما على صورة قصد البائع المسلم أجزاءها التي لا تحلّها

______________________________
الكافر المستحلّ و بين من يجوز استنقاذ ماله عموم من وجه. فإنّه قد يكون المستحلّ ممن لا يجوز استنقاذ ماله إلّا بأسباب شرعية كالذمّي و قد يكون غير المستحلّ ممن يجوز استنقاذ ماله.

و ثانيا: أنّه لم يكن في مكان صدور تلك الأخبار و زمانه كافر حربي يجوز استنقاذ ماله، فإنّها إنّما صدرت من الصادق «ع» في الكوفة، فكانت هي و نواحيها في ذلك الوقت خالية عن الحربيين لدخول غير المسلمين فيها بأجمعهم تحت الذّمة و الأمان.» «1»

أقول: ينبغي الإشارة إلى نكات: الأولى: لعله أراد بغير المستحلّ الذي يجوز استنقاذ ماله النواصب مثلا، حيث يظهر من بعض الأخبار عدم احترام مال الناصب و أنه يجوز أخذ ماله و تملكه بعد إعطاء خمسه.

الثانية: الظاهر أنّ قوله: «إنما صدرت من الصادق «ع» في الكوفة» تخرّص بالغيب، إذ الإمام «ع» كان في المدينة غالبا، و كون الحلبي كوفيا لا يدلّ على صدور الروايات في الكوفة. مضافا إلى ما مرّ من استظهار رجوع روايتي الحلبي في المقام إلى رواية واحدة، و الظاهر من الحسنة أنّ السائل كان غير الحلبي و الحلبي كان حاضرا فسمعها، فلعلّ السائل كان من بلاد يوجد فيه الحربيّون.

الثالثة: قد يقال: إنّ مفروض كلام العلامة استنقاذ مال الكافر برضاه، فلا يرد عليه أن مال الذمّي محترم لا يجوز استنقاذه.

و فيه: أنّ المفروض أخذ المال بعنوان البيع، فالرضا مقيد بالمعاملة و مع فرض بطلانها ينتفي الرضا.

______________________________
(1) مصباح الفقاهة 1/ 75.

400
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

حكم بيع ما يقطع من أليات الغنم ؛ ج‌1، ص : 401

الحياة من الصوف و العظم و الشعر و نحوها (1)، و تخصيص المشتري بالمستحلّ لأنّ الداعي له على الاشتراء اللحم أيضا، و لا يوجب ذلك فساد البيع ما لم يقع العقد عليه (2).

[حكم بيع ما يقطع من أليات الغنم]

و في مستطرفات السرائر عن جامع البزنطي صاحب الرضا «ع» قال:

سألته عن الرجل يكون له الغنم يقطع من ألياتها و هي أحياء، أ يصلح

______________________________
(1) الظاهر أنّ مراده توافق البائع و المشتري على وقوع العقد على هذه الأجزاء و إن كان داعي المشتري أعمّ منها، و إلّا فمجرد قصد البائع لا يصحح المعاملة ما لم يتوافق المتعاملان في القصد.

و في مصباح الفقاهة قال: «الظاهر أن هذا الرأي إنما نشأ من عدم ملاحظة الروايتين، فإنّه- مضافا إلى إطلاقهما و عدم وجود ما يصلح لتقييدهما- إنّ الحسنة إنما اشتملت على اختلاط المذكّى بالميتة من الغنم و البقر، و بديهي أنه ليس في البقر من الأجزاء التي لا تحلّها الحياة شي‌ء يمكن الانتفاع به حتّى يتوهم حمل الروايتين على ذلك.» «1»

(2) في حاشية المحقق الإيرواني «ره»: «الاشتراء بداعي الحرام فاسد عند المصنّف مندرج في الأكل بالباطل، و سيجي‌ء التعرض له في شراء الجارية المغنية و غيره.» «2»

أقول: بل الظاهر من المصنّف في تلك المسألة أيضا أن ما كان على وجه الداعي لا يوجب حرمة المعاوضة، فراجع. «3»

______________________________
(1) مصباح الفقاهة 1/ 75.

(2) حاشية المكاسب للمحقق الإيروانى/ 6.

(3) راجع المكاسب المحرمة للشيخ الأنصاري/ 16، النوع الثانى، القسم الثانى.

401
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

حكم بيع ما يقطع من أليات الغنم ؛ ج‌1، ص : 401

أن ينتفع بها؟ قال: «نعم يذيبها و يسرج بها و لا يأكلها و لا يبيعها.» (1)

و استوجه في الكفاية العمل بها (2) تبعا لما حكاه الشهيد عن العلّامة في بعض أقواله (3).

______________________________
(1) راجع السرائر
«1» و الوسائل «2».

(2) لم أعثر في الكفاية بالنسبة إلى هذه المسألة إلّا على هذه العبارة: «و المعروف من مذهبهم أنّ كل ما أبين من حيّ فهو ميتة يحرم أكله و استعماله، و كذا ما يقطع من أليات الغنم، و على الأخير يدلّ أخبار ضعيفة. و في كلامهم أنّه لا يجوز الاستصباح به بخلاف الدهن النجس بوقوع النجاسة.» «3»

و ظاهر كلامه هذا إشكاله في المسألة.

و في تجارة الكفاية قال: «و في رواية أبي القاسم الصيقل و ولده دلالة على جواز بيع ما يتّخذ من جلود الميتة للسيوف و شرائها. و الحكم لا يخلو عن إشكال.» «4»

فهو في مسألة الميتة و القطعة المبانة من الحيّ كليهما مردّد غير جازم.

(3) في مفتاح الكرامة قال: «و حكى الشهيد في حواشيه على الكتاب أنّه نقل عن المصنف في حلقة الدرس أنّه جوّز الاستصباح بأليات الغنم المقطوعة تحت السماء.» «5»

______________________________
(1) راجع «مستطرفات» السرائر 3/ 573؛ و عنه الوسائل 16/ 296 (ط. أخرى 16/ 360)، الباب 30.

من أبواب الذبائح، الحديث 4 و فيهما: «بما قطع» بدل: «بها».

(2) راجع «مستطرفات» السرائر 3/ 573؛ و عنه الوسائل 16/ 296 (ط. أخرى 16/ 360)، الباب 30.

من أبواب الذبائح، الحديث 4 و فيهما: «بما قطع» بدل: «بها».

(3) كفاية الأحكام/ 250، كتاب الأطعمة و الأشربة، الفصل الخامس، المسألة 2.

(4) المصدر السابق/ 84، كتاب التجارة، المقصد الثانى، المبحث الأوّل.

(5) مفتاح الكرامة 4/ 19، كتاب المتاجر، المقصد الأوّل، الفصل الأوّل.

402
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

حكم بيع ما يقطع من أليات الغنم ؛ ج‌1، ص : 401

و الرواية شاذّة (1)، ذكر الحلي بعد إيرادها: «أنها من نوادر الأخبار، و الإجماع منعقد على تحريم الميتة و التصرف فيها على كل حال إلّا أكلها للمضطر.» (2)

______________________________
(1) في مصباح الفقاهة: «لا يضرّ شذوذها بحجيتها بعد فرض صحّتها. و الإجماع المحصّل على حرمة التصرّف في الميتة غير ثابت، و المنقول منه مع تصريح جماعة من الفقهاء بالجواز غير حجة ...»
«1»

أقول: إن ثبت الإعراض القطعي عن الخبر أضرّ بحجيته عندنا و إن كان في غاية الصحّة، بل كلّما ازداد حينئذ صحة ازداد ضعفا، و لكن قد مرّ منّا بالتفصيل جواز الانتفاع بالميتة و إفتاء جمع من الأصحاب بذلك و بنينا على ذلك جواز بيعها أيضا فلا نعيد.

(2) راجع السرائر 3/ 574.

أقول: البحث في الفرع الأوّل من الفرعين كان في حكم المختلط من المذكّى و الميتة.

و رواية البزنطي و ما بعدها لا تناسب بحث المختلط. و البحث عن حكم الميتة انتفاعا و بيعا قد مرّ من المصنّف و منّا أيضا فلا وجه لإعادته. و لعلّ طرح المصنّف البحث هنا كان بداعي بيان أنّ القطعة المبانة من الحيّ أيضا محكومة بحكم الميتة، و لكن كان المناسب ذكر ذلك في خاتمة بحث الميتة لا في بحث المختلط.

و كيف كان فالظاهر عدم الإشكال في أنّ القطعة المبانة من الحيّ تكون بحكم الميتة.

و ربما يشهد لذلك- مضافا إلى اتفاق الأصحاب و ما ورد فيها من الأخبار المستفيضة-: أن الموت عبارة عن زوال الحياة، و الحياة سارية في أجزاء الحيوان، فكل جزء منه كان مشتملا على الحياة و آثارها يصدق عليه الميتة بعد انقطاع الحياة عنه و إن بقيت في سائر الأجزاء، فتأمّل. هذا.

______________________________
(1) مصباح الفقاهة 1/ 75.

403
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

حكم بيع ما يقطع من أليات الغنم ؛ ج‌1، ص : 401

أقول: مع أنها معارضة بما دلّ على المنع من موردها معلّلا بقوله «ع»:

«أما علمت أنّه يصيب الثوب و اليد و هو حرام؟» (1)، و مع الإغماض

______________________________
و قد تعرّض لمسألة بيع القطعة المبانة في تجارة الحدائق فقال: «الرابع: ما اشتملت عليه الأخبار المتقدمة من تحريم الميتة و أنّ ثمنها سحت، المراد به ما ينجس بالموت ممّا له نفس سائلة، فيشمل ما قطع من جسده حيا كان أو ميتا. و أمّا تخصيص صاحب المسالك و مثله صاحب المعالم ذلك بجسد الميّت دون الأجزاء فهو ضعيف. و قد تقدم البحث معهما في ذلك في كتاب الطهارة في بحث النجاسات، و قد أوردنا جملة من الأخبار الصحيحة الصريحة فيما ذكرناه ... و المشهور في كلام الأصحاب تحريم الاستصباح بما قطع من أليات الغنم بناء على ما ذكرناه من أنّها ميتة و الميتة لا ينتفع بشي‌ء منها مما تحلّه الحياة.

و نقل الشهيد عن العلّامة جواز الاستصباح به تحت السماء. ثم قال: و هو ضعيف إلّا أنّه روى ابن إدريس في السرائر عن جامع البزنطي عن الرضا «ع» ... و ظاهر شيخنا المجلسي «ره» في البحار الميل إلى العمل بهذه الرواية، حيث قال- بعد نقل الخلاف في هذه المسألة-: و الجواز عندي أقوى لدلالة الخبر الصحيح المؤيد بالأصل على الجواز، و ضعف حجة المانع إذ المتبادر من تحريم الميتة تحريم أكلها كما حقق في موضعه، و الإجماع ممنوع.» «1»

و راجع في حكم نجاسة القطعة المبانة و الأخبار الواردة فيها طهارة الحدائق «2».

(1) أراد بذلك خبر الوشاء، قال: سألت أبا الحسن «ع» فقلت: جعلت فداك إنّ أهل الجبل تثقل عندهم أليات الغنم فيقطعونها؟ قال: «هي حرام.» قلت: فنصطبح بها؟ قال:

«أما تعلم أنه يصيب اليد و الثوب و هو حرام؟» «3»

______________________________
(1) الحدائق 18/ 77، كتاب التجارة، المقدمة الثالثة.

(2) راجع الحدائق 5/ 72، الباب الخامس، المقصد الأوّل، الفصل الخامس، المسألة 2.

(3) الوسائل 16/ 295 (ط. أخرى 16/ 359)، الباب 30 من أبواب الذبائح، الحديث 2.

404
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

حكم بيع ما يقطع من أليات الغنم ؛ ج‌1، ص : 401

عن المرجحات يرجع إلى عموم ما دلّ على المنع عن الانتفاع بالميتة مطلقا (1). مع أنّ الصحيحة صريحة في المنع عن البيع إلّا أن تحمل على إرادة البيع من غير الإعلام بالنجاسة.

______________________________
أقول: الظاهر أنّ السؤال الأوّل ناظر إلى أنّ القطعة المقطوعة بحكم الميتة أو المذكّى.

و الجواب يبيّن كونها بحكم الميتة التي ثبت بالكتاب حرمتها و بالسنة نجاستها من ذي النفس السائلة و الحكمان متلازمان فيها عند المتشرعة.

و السؤال الثاني وقع عن حكم الاصطباح بها بعد وضوح كونها بحكم الميتة.

و الإمام «ع» لم ينه عنه و إنّما أرشد إلى أنّه يوجب تلوّث البدن و الثوب بها حال كونها حراما و نجسا فيكون ضرره أكثر من نفعه، فكلامه الأخير إرشاد محض و ليس حكما تحريميا. و الواو في قوله: «و هو حرام» للحال، و الضمير عائد إلى الجزء المقطوع، و يراد بحرمته نجاسته أو مانعيته للصلاة و نحوها. و قد مرّ جواز استعمال لفظ الحرمة في الأحكام الوضعية أيضا و شيوع ذلك في الكتاب و السنّة.

و لا يراد به حرمة إصابة الثوب و البدن، لوضوح عدم حرمة ذلك. و على هذا فلا يصلح الخبر لمعارضة خبر البزنطي. و بذلك أشار صاحب الوسائل أيضا حيث قال بعد نقل الخبر: «هذا لا يدل على تحريم الاستصباح بالأليات مع اجتناب نجاستها.»‌

(1) قد مرّ منّا جواز الانتفاع بالميتة في غير مثل الأكل و نحوه، و به أفتى كثير من أصحابنا. و المقصود بالأخبار المانعة المنع عن الانتفاع بها نحو ما ينتفع بالمذكّى. و إذا جاز الانتفاع بها جاز بيعها لذلك أيضا، لما مرّ من الملازمة بين جواز الانتفاع بالشي‌ء و صيرورته بذلك مالا و ملكا و بين جواز المعاملة عليه إجمالا. و النهي عن البيع في خبر البزنطي يراد به النهي عن البيع بقصد الأكل و نحوه أو بدون الإعلام بالنجاسة، فتدبّر.

405
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الفرع الثاني: المعاوضة على الميتة من غير ذي النفس السائلة ؛ ج‌1، ص : 406

[الفرع الثاني: المعاوضة على الميتة من غير ذي النفس السائلة]

الثاني: أنّ الميتة من غير ذي النفس السائلة يجوز المعاوضة عليها إذا كانت مما ينتفع بها أو ببعض أجزائها كدهن السمك الميتة للإسراج و التدهين، لوجود المقتضي و عدم المانع، لأنّ أدلّة عدم الانتفاع بالميتة مختصّة بالنجسة (1). و صرّح بما ذكرنا جماعة، و الظاهر أنه مما لا خلاف فيه.

______________________________
(1) أقول: المشهور بين أصحابنا و كذا بين أهل الخلاف طهارة الميتة مما ليس له نفس سائلة. و يدلّ على ذلك الأخبار الواردة من طرق الفريقين:

منها: موثقة حفص بن غياث، عن أبي عبد اللّه «ع»، عن أبيه «ع»، قال: «لا يفسد الماء إلّا ما كانت له نفس سائلة.» «1»

و في موثقة عمار- بعد السؤال عما يموت في البئر أو الزيت أو السمن-: «كل ما ليس له دم فلا بأس.» «2»

و روى البيهقي بسنده عن سلمان، قال: قال النبي «ص»: «يا سلمان، كلّ طعام و شراب وقعت فيه دابّة ليس لها دم فماتت فهو الحلال أكله و شربه و وضوؤه.» «3»

و يظهر من نهاية الشيخ «4» و المهذّب لابن البراج «5» نجاسة ما يموت فيه العقرب أو الوزغ. راجع المختلف أيضا «6».

______________________________
(1) الوسائل 2/ 1051، الباب 35 من أبواب النجاسات، الحديث 2.

(2) الوسائل 2/ 1051، الباب 35 من أبواب النجاسات، الحديث 1.

(3) سنن البيهقى 1/ 253، كتاب الطهارة، باب ما لا نفس له سائلة إذا مات في الماء القليل.

(4) راجع النهاية/ 6، كتاب الطهارة، باب المياه و أحكامها.

(5) راجع المهذّب 1/ 25، كتاب الطهارة، أسآر الحيوان.

(6) المختلف/ 58، باب النجاسات و أحكامها، الفصل الأوّل.

406
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الفرع الثاني: المعاوضة على الميتة من غير ذي النفس السائلة ؛ ج‌1، ص : 406

..........

______________________________
و في الفقه على المذاهب الأربعة: «الشافعية قالوا بنجاسة ميتة ما لا نفس له سائلة إلّا ميتة الجراد.»
«1»

و الظاهر عدم إرادتهم حيوانات البحر، لما رواه الشافعي و غيره عن رسول اللّه «ص» في البحر: «هو الطهور ماؤه، الحلّ ميتته.» «2» إذ الحلال لا يكون نجسا قطعا. و تفصيل المسألة يطلب من كتاب الطهارة.

و كيف كان فلو قيل بنجاسة ميتة ما لا نفس له فيمكن أن يقال بشمول الروايات السابقة الواردة في حكم الميتة انتفاعا و بيعا و كون ثمنها سحتا لها أيضا. و يمكن أن يقال بانصرافها عنها، إذ مورد كثير منها الغنم و السخلة و السباع و الجلود و الأليات و نحوها، فتأمّل.

نعم، لو قيل بحرمة بيع كلّ نجس كما هو الظاهر من كثير من أصحابنا و من المخالفين أيضا كان مقتضى ذلك حرمة بيعها أيضا.

و في الفقه على المذاهب الأربعة: «الشافعية قالوا: لا يصحّ بيع كلّ نجس.» «3»

و أمّا على المشهور من عدم نجاستها فاختار المصنف جواز المعاوضة عليها مع وجود المنفعة العقلائية لها، لتحقق المالية عرفا و عموم أدلّة العقود و انتفاء المانع أعني النجاسة.

و أدلّة عدم الانتفاع بالميتة مختصّة بالنجسة، لما مرّ من كون موارد رواياته الغنم و السخلة و السباع و الجلود و الأليات مما تختص بما له نفس سائلة.

______________________________
(1) الفقه على المذاهب الأربعة 1/ 10، كتاب الطهارة، مبحث الأعيان النجسة.

(2) سنن البيهقى 1/ 3، كتاب الطهارة، باب التطهير بماء البحر.

(3) الفقه على المذاهب الأربعة 2/ 232، كتاب البيع، مبحث النجس و المتنجس.

407
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الفرع الثاني: المعاوضة على الميتة من غير ذي النفس السائلة ؛ ج‌1، ص : 406

..........

______________________________
و ناقش في ذلك المحقق الشيرازي في حاشيته بما ملخّصه: «يمكن أن يقال: إنّه و لو سلّم الاختصاص المزبور لكن ما دلّ على عدم جواز بيع الميتة و أنّ ثمنها سحت لا اختصاص لها بما يحرم الانتفاع به و لا دليل على اختصاصها بالنجسة مع الإطلاق المقتضي للعموم. و دعوى الانصراف إلى خصوص النجسة يمكن منعها، لكثرة الميتات الطاهرة من السموك و غيرها، مضافا إلى منع كون القلّة موجبا للانصراف.»
«1»

أقول: يمكن أن تؤيد المناقشة المذكورة بوجهين آخرين: الأوّل: الاستدلال بالنبوي المشهور: «إنّ اللّه- تعالى- إذا حرّم على قوم أكل شي‌ء حرّم عليهم ثمنه.» «2»

الثاني: أنّ البيع المذكور مظنّة الإعانة على الإثم لاحتمال أن تصرف الميتة المشتراة في الأكل و نحوه من المصارف المحرّمة، فالمناسب تحريم بيعها حسما لمادّة الفساد. هذا.

و لكن مع ذلك كلّه لا نفتي بحرمة المعاوضة و فسادها بعد جواز الانتفاع بها و لو بمقتضى أصالة الحلّ. و قد مرّ منّا في الميتات النجسة أيضا اختيار جواز الانتفاع بها في غير الأكل و نحوه، و به أفتى كثير من الأصحاب، و كذا جواز بيعها بقصد الانتفاعات المحلّلة، و منعنا صدق الإعانة على الإثم حتّى مع العلم بصرف المشتري إياها في الحرام ما لم يقع البيع بهذا الداعي، إذ وزانه حينئذ وزان بيع العنب ممن يعلم أنّه يجعله خمرا، و قد وردت روايات صحيحة على جوازه و صحّته كما سيجي‌ء في محلّه.

و إذا كان هذا حكم الميتات النجسة ففي الطاهرة التي حلّ الانتفاع بها جاز البيع بطريق أولى، إذ بعد ما حلّ الانتفاع بها صارت بذلك مالا يرغب فيه، و ليست المعاملات أمورا تعبدية صرفة أبدعها الشرع لمصالح سرّية لا يعلمها إلّا اللّه- تعالى- نظير الصلاة و الحج و نحوهما، بل هي أمور عقلائية اخترعوها بينهم لتبادل الأعيان و المنافع حسب‌

______________________________
(1) حاشية المكاسب/ 12.

(2) سنن أبى داود 2/ 251، كتاب الإجارة، باب في ثمن الخمر و الميتة.

408
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الفرع الثاني: المعاوضة على الميتة من غير ذي النفس السائلة ؛ ج‌1، ص : 406

..........

______________________________
الحاجات، و يكفي في الحكم بصحتها عدم ردع الشارع عنها، مضافا إلى عموم أدلة العقود. و قد استظهرنا سابقا من روايات تحف العقول و الرضوي و الدعائم إناطة فساد المعاملة بعدم وجود المنافع المحلّلة و صحتها بوجودها و أن ما هو صلاح للناس و قوام لهم حلّ عمله و بيعه و شراؤه، فراجع.

و ما دلّ على كون ثمن الميتة من السحت ذكرت الميتة فيها في عداد الخمر و الخنزير و نحوهما من الأعيان النجسة، فيمكن القول بانصرافها إلى الميتات النجسة، مضافا إلى ما مرّ بالتفصيل من منع ظهور لفظ السحت في الحرمة مع كثرة استعماله في المكاسب المكروهة لابتذال المتعلق و رداءته كالحجامة و نحوها.

و أمّا النبويّ فالمشهور في نقله وجود كلمة الأكل، و لا يمكن الالتزام بفساد المعاملة على كلّ ما حرم أكله، فلا بد من حمله على ما تعارف أكله و وقع بيعه بهذا الداعي. و لو سلّم عدم وجود كلمة الأكل فيه فظاهر إسناد الحرمة المطلقة إلى الشي‌ء حرمة جميع منافعه، إذ لا يصحّ إطلاق الحرمة على الذات بلحاظ حرمة بعض منافعه، فتدبّر.

409
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

المسألة السادسة: بيع كلب الهراش و الخنزير البريين ؛ ج‌1، ص : 410

 

[المسألة السادسة: بيع كلب الهراش و الخنزير البرّيين]

السادسة: يحرم التكسب بالكلب الهراش و الخنزير البرّيين (1) إجماعا

______________________________
6- بيع كلب الهراش و الخنزير البرّيين

[في معنى الهراش]

(1) قال في النهاية: «فيه: يتهارشون تهارش الكلاب، أي: يتقاتلون و يتواثبون.

و التهريش بين الناس كالتحريش.» «1»

و في لغة: حرش منه: «و فيه: أنّه نهى عن التحريش بين البهائم، هو الإغراء و تهييج بعضها على بعض كما يفعل بين الجمال و الكباش و الديوك و غيرها.» «2»

و في القاموس: «هرش كفرح: ساء خلقه. و التهريش: التحريش بين الكلاب و الإفساد بين الناس.» «3»

أقول: و قيّدهما المصنّف بالبرّيين، لاختياره طهارة البحريين منهما تبعا للمشهور، لانصراف إطلاقهما عن البحريين منهما.

و لصحيحة عبد الرحمن بن الحجاج، قال: سأل أبا عبد اللّه «ع» رجل و أنا عنده عن جلود الخزّ. فقال: ليس بها بأس. فقال الرجل: جعلت فداك إنّها علاجي (في بلادي) و إنّما‌

______________________________
(1) النهاية لابن الأثير 5/ 260.

(2) نفس المصدر 1/ 368.

(3) القاموس المحيط 2/ 293.

 

410
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

1 - البحث في بيع الكلب ؛ ج‌1، ص : 411

 

على الظاهر المصرّح به في المحكي عن جماعة، و كذلك أجزاؤهما (1).

______________________________
هي كلاب تخرج من الماء. فقال أبو عبد اللّه «ع»: إذا خرجت من الماء تعيش خارجة من الماء؟ فقال الرجل: لا. قال: ليس به بأس.
«1»

قال الشيخ في طهارته بعد نقلها: «و في التعليل إشارة إلى طهارة الخنزير البحري أيضا.» «2»

و في مصباح الفقاهة: «بل الظاهر أنّهما من أقسام السمك الغير المأكول، فيكونان خارجين عما نحن فيه تخصّصا.» «3» هذا.

و تحقيق المسألة موكول إلى كتاب الطهارة.

(1) البحث في المسألة يقع في ثلاثة مقامات: الأوّل في بيع الكلب. الثاني في بيع الخنزير. الثالث في بيع أجزائهما:

1- البحث في بيع الكلب

[كلمات الفقهاء في المقام]

1- قال الشيخ في بيع الخلاف (المسألة 302): «يجوز بيع كلاب الصيد. و يجب على قاتلها قيمتها إذا كانت معلّمة. و لا يجوز بيع غير الكلب المعلّم على حال. و قال أبو حنيفة و مالك: يجوز بيع الكلاب مطلقا إلّا أنّه مكروه، فإن باعه صح البيع و وجب الثمن، و إن أتلفه متلف لزمته قيمته. و قال الشافعي: لا يجوز بيع الكلاب معلّمة كانت أو غير معلّمة، و لا يجب على قاتلها القيمة.

______________________________
(1) الوسائل 3/ 263، الباب 10 من أبواب لباس المصلّى، الحديث 1.

(2) كتاب الطهارة للشيخ الأنصاري/ 347، النظر السادس- النجاسات.

(3) مصباح الفقاهة 1/ 77.

 

411
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

كلمات الفقهاء في المقام ؛ ج‌1، ص : 411

..........

______________________________
دليلنا: إجماع الفرقة، فإنّهم لا يختلفون فيه، و يدلّ على ذلك أيضا قوله- تعالى-:

وَ أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ، و قوله: إلّٰا أَنْ تَكُونَ تجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ. و لم يفصّل. و روى جابر أنّ النبي «ص» نهى عن ثمن الكلب و السنّور إلّا كلب الصيد. و هذا نصّ.» «1»

أقول: الظاهر رجوع الإجماع- بقرينة الأدلّة التي بعده- إلى الحكم الأوّل فقط أعني جواز بيع كلاب الصيد.

2- و في النهاية في عداد المكاسب المحظورة: «و كذلك ثمن الكلب إلّا ما كان سلوقيا للصيد.» «2»

3- و في المقنعة: «و ثمن الكلب حرام إلّا ما كان سلوقيا للصّيد.» «3»

أقول: في المنتهى: «عنى بالسلوقي كلب الصيد، لأنّ سلوق قرية باليمن أكثر كلابها معلّمة فنسب الكلب إليها.» «4»

4- و في المنتهى: «و قد أجمع علماؤنا على تحريم ما عدا كلب الصيد و الماشية و الزرع و الحائط من الكلاب، و على جواز بيع كلب الصيد، و اختلفوا في الثلاثة الباقية ...» «5»

5- و في التذكرة: «الكلب إن كان عقورا حرم بيعه عند علمائنا، و به قال الحسن و ربيعة و حماد و الأوزاعي و الشافعي و داود و أحمد. و عن أبي حنيفة روايتان. و بعض أصحاب مالك منعه لأنّ النبيّ «ص» نهى عن ثمن الكلب ...» «6»

______________________________
(1) الخلاف 3/ 181 (ط. أخرى 2/ 80).

(2) النهاية/ 364، كتاب المكاسب، باب المكاسب المحظورة و المكروهة و المباحة.

(3) المقنعة/ 589، [كتاب التجارة]، باب المكاسب.

(4) المنتهى 2/ 1009، كتاب التجارة، المقصد الثانى، البحث الأوّل، النوع الأوّل.

(5) المنتهى 2/ 1009، كتاب التجارة، المقصد الثانى، البحث الأوّل، النوع الأوّل.

(6) التذكرة 2/ 464، كتاب البيع، المقصد الأوّل، الفصل الرابع.

412
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

كلمات الفقهاء في المقام ؛ ج‌1، ص : 411

..........

______________________________
أقول: الظاهر أنّ العقور و الهراش متقاربان معنى. و طبع الكلب هو التكالب و الهجوم و الإيذاء، و قد يصل في ذلك إلى حدّ يصير مرضا ساريا إلى من يعضّه الكلب و يسمّى داء الكلب. و لعلّه الحكمة في إسقاط ماليته شرعا و المنع عن بيعه و الترغيب في قتله و إعدامه، كما وردت به الروايات
«1». و لكن إذا فرض وقوعه تحت الرياضة و التربية الصحيحة و صارت هجمته تحت الضابطة و الهداية من الإنسان صار وجوده نافعا للصيد أو الحراسة أو نحوهما، فصار مالا قابلا للنقل و الانتقال عرفا بل شرعا، لما مرّ منّا من أنّ تحقق المنافع المحلّلة الموجبة للمالية ملازم لجواز النقل إجمالا. فهو بنحو ما يشبه القوة الغضبية في الإنسان، حيث إنّ إطلاقها مضرّ جدّا، و لكن يترتب على وجودها فوائد كثيرة إذا فرض انضباطها و وقوعها تحت سيطرة العقل و هدايته.

6- و في المستند: «و منها: الخنزير و الكلب، و حرمة التكسب بهما إجماعية كما صرّح به جماعة.» «2»

7- و في مختصر الخرقي في فقه الحنابلة: «و بيع الكلب باطل و إن كان معلّما.»‌

و ذيّله في المغني بقوله: «لا يختلف المذهب في أن بيع الكلب باطل أيّ كلب كان.

و به قال الحسن و ربيعة و حمّاد و الأوزاعي و الشافعي و داود، و كره أبو هريرة ثمن الكلب.

و رخّص في ثمن كلب الصيد خاصّة جابر بن عبد اللّه و عطاء و النخعي. و جوّز أبو حنيفة بيع الكلاب كلّها و أخذ أثمانها، و عنه رواية في الكلب العقور أنّه لا يجوز‌

______________________________
(1) راجع الوسائل 8/ 389، الباب 46 من أبواب أحكام الدوابّ؛ و 16/ 249 و 251 (ط. أخرى 16/ 300 و 305)، البابان 40 و 45 من أبواب الصيد.

(2) مستند الشيعة 2/ 334، كتاب مطلق الكسب و الاقتناء، المقصد الثالث، الفصل الثانى.

413
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الاستدلال للمنع بالأخبار ؛ ج‌1، ص : 414

..........

______________________________
بيعه. و اختلف أصحاب مالك، فمنهم من قال: لا يجوز، و منهم من قال: الكلب المأذون في إمساكه يجوز بيعه و يكره. و احتجّ من أجاز بيعه بما روي عن جابر أنّ النبي «ص»:

«نهى عن ثمن الكلب و السنّور إلّا كلب الصيد.» و لأنه يباح الانتفاع به و يصحّ نقل اليد فيه و الوصية به فصحّ بيعه كالحمار.» «1»

8- و في الفقه على المذاهب الأربعة: عن المالكية: «لا يصحّ بيع الكلب مع كونه طاهرا، سواء كان كلب صيد أو حراسة أو غيرهما، لورود النهي عن بيعه شرعا.»‌

و عن الحنابلة: «لا يصحّ بيع الكلب سواء كان كلب صيد و نحوه أو لا.»‌

و عن الشافعية: «لا يصحّ بيع كلّ نجس كالخنزير و الخمر و الزبل و الكلب و لو كان كلب صيد.»‌

و عن الحنيفة: «يصحّ بيع كلب الصيد و الحراسة و نحوه من الجوارح.» «2»

أقول: محلّ البحث هنا هو المنع عن بيعه إجمالا، و أنت ترى تطابق فتاوى الفريقين عليه. و أمّا المستثنيات من ذلك فسيجي‌ء البحث فيها عند تعرّض المصنف لها.

[الاستدلال للمنع بالأخبار]

و استدلّوا للمنع بوجهين: الأوّل: الإجماع المنقول في كلام جماعة. الثاني: الأخبار الواردة من طرق الفريقين.

و لا يخفى أنّ العمدة هي الأخبار، لاحتمال كون الإجماع مدركيا ناشئا عن الأخبار الواردة فلا اعتبار به بنفسه عندنا. فلنتعرض للأخبار الواردة:

1- موثقة محمد بن مسلم و عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه بن أبي عبد اللّه «ع»،

______________________________
(1) المغنى 4/ 300، كتاب البيوع، باب المصراة و غير ذلك.

(2) الفقه على المذاهب الأربعة 2/ 231- 232، كتاب البيع، مبحث النجس و المتنجس.

414
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الاستدلال للمنع بالأخبار ؛ ج‌1، ص : 414

..........

______________________________
قال: «ثمن الكلب الذي لا يصيد سحت.» ثم قال: «و لا بأس بثمن الهرّ.»
«1»

أقول: من المحتمل جدّا أن يكون ذكر الصيد من باب المثال، فيراد منع بيع الكلب الذي لا يترتب على وجوده فائدة عقلائية. أو يقال: إنّ مفاد الصيد لا يختصّ بالهجوم على حلال اللحم بل يراد به الهجمة على ما أراد صاحبه التكالب عليه سواء كان إنسانا أو حيوانا حلال اللحم أو حرامه، فيشمل الصيود كلاب الحراسة و التفتيش أيضا.

2- ما عن الكليني بسنده عن أبي عبد اللّه العامري، قال: سألت أبا عبد اللّه «ع» عن ثمن الكلب الذي لا يصيد، فقال: «سحت. و أمّا الصيود فلا باس.» و عن الشيخ بسنده عن الوليد العماري مثله. «2»

و الرجلان مجهولان «3» و من المحتمل اتحادهما بأن يكون الوليد اسما لأبي عبد اللّه و أحد اللقبين مصحّفا عن الآخر.

3- خبر أبي بصير، قال: سألت أبا عبد اللّه «ع» عن ثمن كلب الصيد. قال: «لا بأس بثمنه، و الآخر لا يحلّ ثمنه.» «4»

4- خبره الآخر عنه «ع» أن رسول اللّه «ص» قال: «ثمن الخمر و مهر البغيّ و ثمن الكلب الذي لا يصطاد من السحت.» «5»

5- خبر جرّاح المدائني، قال: قال أبو عبد اللّه «ع»: «من أكل السّحت ثمن الخمر.

______________________________
(1) الوسائل 12/ 83، الباب 14 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 3.

(2) الوسائل 12/ 83، الباب 14 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1 عن الكافي 5/ 125، و الحديث 7 عن التهذيب 6/ 367. و فيه: «العامري» بدل «العماري». و الظاهر أنّ للحديث بنقل الكلينى سندين اختلطا.

(3) راجع تنقيح المقال 3/ 280؛ و لم يعنون أبو عبد اللّه العامري فيه.

(4) الوسائل 12/ 83، الباب 14 من أبواب ما يكتسب به، الحديثان 5.

(5) الوسائل 12/ 83، الباب 14 من أبواب ما يكتسب به، الحديثان 6.

415
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الاستدلال للمنع بالأخبار ؛ ج‌1، ص : 414

..........

______________________________
و نهى عن ثمن الكلب.»
«1»

أقول: ظاهر الرواية إطلاق النهي بحيث يعمّ كلب الصيد أيضا، و لكن السند ضعيف، و في المتن أيضا شي‌ء إذ لا يعلم وجه تغيير السبك فيه.

6- معتبرة السكوني عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «السحت ثمن الميتة و ثمن الكلب و ثمن الخنزير و مهر البغيّ و الرشوة في الحكم و أجر الكاهن.»‌

و نحوها خبر وصايا النبي «ص» لعليّ «ع» و راجع مرسلة الصدوق أيضا. «2»

قال الأستاذ الإمام بعد نقل خبر السكوني و خبر الوصايا ما محصّله: «يمكن منع الإطلاق فيهما و ما أشبههما مما يكون في مقام تعداد جملة من السحت أو المنهي عنه، إذ ليستا في مقام بيان حكم كلّ واحد من العناوين، بل بصدد التعداد إجمالا. نظير أن يقال: في الشرع محرّمات: الكذب و الغيبة و التهمة و الربا. أو في الشرع واجبات: الصلاة و الزكاة و الحج. فإنّه لا يصحّ أخذ الإطلاق في هذه الموارد يرجع إليه عند الشك في جزئية شي‌ء أو شرطية لأحدها. فالروايتان في المقام بصدد بيان موارد السحت إجمالا لا بيان حكم كلّ واحد منها بإطلاقه.» «3»

7- خبر الوشّاء، قال: سئل أبو الحسن الرضا «ع» عن شراء المغنية. قال: «قد تكون للرجل الجارية تلهيه و ما ثمنها إلّا ثمن كلب. و ثمن الكلب سحت و السحت في النار.» «4»

______________________________
(1) نفس المصدر 12/ 83، الباب 14 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 4.

(2) نفس المصدر 12/ 63- 62، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الأحاديث 5 و 9 و 8.

(3) المكاسب المحرمة 1/ 66.

(4) الوسائل 12/ 88، الباب 16 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 6.

416
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الاستدلال للمنع بالأخبار ؛ ج‌1، ص : 414

..........

______________________________
و روى في الوسائل قطعة منه في باب بيع الكلب
«1» و بدّل الوشّاء بالقاساني، و الظاهر أنه اشتباه. كما أن ما رواه عن العياشي في هذا الباب «2» أيضا قطعة منها.

و الرواية بصدد بيان حكم الجارية المغنية لا الكلب، بل جعل حكمه مفروغا عنه، فلا يستفاد منها حكم الكلب بإطلاقه و إنما يستفاد منها حرمته إجمالا.

8- صحيحة إبراهيم بن أبي البلاد المروية عن قرب الإسناد، قال: قلت لأبي الحسن الأوّل «ع»: جعلت فداك إنّ رجلا من مواليك عنده جواز مغنّيات قيمتهن أربعة عشر ألف دينار، و قد جعل لك ثلثها. فقال: «لا حاجة لي فيها، إنّ ثمن الكلب و المغنية سحت.» «3»

و يمكن منع الإطلاق في هذه الرواية أيضا، إذ الكلام كان في الجارية المغنية، و إنما ذكر في الجواب الكلب لتحقير المغنية و ثمنها و أنّ ثمنها نظير ثمن الكلب، فلا يستفاد منها حكم الكلب بإطلاقه، فتأمّل.

إلى غير ذلك من أخبارنا الواردة في حكم الكلب المتفرقة في الأبواب المختلفة.

و المستفاد من جميعها بعد إرجاع بعضها إلى بعض و لو بحمل المطلق منها على فرض وجوده على المقيّد أمران:

الأوّل: حرمة بيع بعض الكلاب إجمالا. الثاني: عدم حرمة بيع الصيود منه، و كلتا المسألتين إجماعيتان عندنا.

9- و في آخر البيوع من البخاري- باب ثمن الكلب- بسنده عن أبي مسعود‌

______________________________
(1) الوسائل 12/ 83، الباب 14 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2.

(2) نفس المصدر 12/ 84، الباب 14 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 8.

(3) الوسائل 12/ 87، الباب 16 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 4.

417
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الاستدلال للمنع بالأخبار ؛ ج‌1، ص : 414

..........

______________________________
الأنصاري أنّ رسول اللّه «ص»: «نهى عن ثمن الكلب و مهر البغيّ و حلوان الكاهن»
«1» و رواه البيهقي أيضا. «2»

10- و فيه أيضا بسنده عن عون بن أبي جحيفة، قال: رأيت أبي اشترى حجّاما فسألته عن ذلك، قال: إنّ رسول اللّه «ص»: «نهى عن ثمن الدّم و ثمن الكلب و كسب الأمة الحديث.» «3»

و رواه البيهقي عن عون بن أبي جحيفة هكذا: سمعت أبي و اشترى غلاما حجّاما، فعمد إلى المحاجم فكسرها و قال: إنّ رسول اللّه «ص»: «نهى عن ثمن الدم و ثمن الكلب و مهر البغي. الحديث.» «4»

و هذا النقل يفسّر نقل البخاري.

11- و روى البيهقي بسنده عن رافع بن خديج، قال: قال رسول اللّه «ص»: «كسب الحجام خبيث، و كسب البغي خبيث، و ثمن الكلب خبيث.» رواه مسلم في الصحيح «5».

أقول: الخبيث عبارة أخرى عن السحت.

12- البيهقي بسنده عن ابن عباس، قال: «نهى رسول اللّه «ص» عن ثمن الخمر و مهر البغيّ و ثمن الكلب.» و قال: «إذا جاء يطلب ثمن الكلب فاملأ كفّه ترابا.» «6»

______________________________
(1) صحيح البخاري 2/ 29.

(2) سنن البيهقى 6/ 6، كتاب البيوع، باب النهى عن ثمن الكلب.

(3) صحيح البخاري 2/ 29، كتاب البيوع، باب ثمن الكلب.

(4) سنن البيهقى 6/ 6، كتاب البيوع، باب النهى عن ثمن الكلب.

(5) نفس المصدر 6/ 6.

(6) نفس المصدر 6/ 6.

418
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الاستدلال للمنع بالأخبار ؛ ج‌1، ص : 414

..........

______________________________
13- البيهقي بسنده عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللّه «ص»: «لا يحلّ ثمن الكلب و لا حلوان الكاهن و لا مهر البغيّ.»
«1»

14- البيهقي بسنده عن أبي هريرة أيضا عن النبي «ص»: «ثلاث كلّهن سحت.»‌

فذكر كسب الحجّام، و مهر البغيّ، و ثمن الكلب إلّا كلبا ضاريا. «2»

أقول: ضرى الكلب بالصيد تعوّده و أولع به، فيراد بالكلب الضاري: الصيود منه، في قبال الكلاب المهملة غير النافعة.

و في رواية أخرى عن أبي هريرة: «نهى عن مهر البغيّ ... و عن الكلب إلّا كلب صيد.» «3» إلّا أنّه لم يسنده إلى النبي «ص» صريحا، إلّا أن يقال برجوع الضمير إليه «ص».

15- البيهقي بسنده عن جابر، قال: «نهى عن ثمن الكلب و السنّور إلّا كلب صيد.» «4» هكذا رووه عن جابر، و ليس فيه الإسناد إلى النبي «ص»، إلّا أن يرجع الضمير إليه.

و بالجملة فأكثر رواياتهم مطلقة ليس فيها استثناء. و ناقش بعضهم في وجود الاستثناء، و لذا أفتوا بالحرمة مطلقا. هذا.

و أكثر الروايات ضعيفة، و لكن فيها الصحيحة و الموثقة أيضا كما مرّ، مضافا إلى أنّ كثرتها و ورودها من طرق الفريقين ربما توجب الوثوق بصدور بعضها بل تطمئن النفس‌

______________________________
(1) نفس المصدر 6/ 6.

(2) سنن البيهقى 6/ 6، كتاب البيوع، باب النهى عن ثمن الكلب.

(3) نفس المصدر 6/ 6.

(4) نفس المصدر 6/ 6.

419
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الاستدلال للمنع بالأخبار ؛ ج‌1، ص : 414

..........

______________________________
بصدور نهي ما في هذا الباب عن النبيّ «ص».

و لكن ربما يوهن الاستدلال بها على الحرمة ذكر ثمن الكلب في سياق ثمن الدم و كسب الحجّام المراد بهما على الظاهر معنى واحد. و قد مرّ في بعض المباحث السابقة كثرة إطلاق لفظ السحت في المكروهات كأجر الحجّام و ثمن اللقاح و أجر القارئ و نحو ذلك. و فسّروه بمطلق ما فيه عار و خسّة لا يناسبان شئون الإنسان. و لكن الظاهر منه مع ذلك الحرمة ما لم يثبت دليل على الترخيص كما ورد في كسب الحجام، فتدبّر.

و كيف كان فالعمدة في المسألة الأخبار الواردة. و أمّا الإجماع فيحتمل كونه مدركيا كما مرّ.

قال في مصباح الفقاهة ما ملخصه: «دعوى الإجماع التعبّدي على حرمة بيعه في غير محلّه. لأنّه إن كان المراد بها الحرمة الوضعية فهي و إن كانت مسلّمة و لكن المدرك لها ليس إلّا تلك الأخبار المتكثرة. و إن كان المراد بها الحرمة التكليفية ففيه: أنّ الظاهر انحصار معقد الإجماع بالحرمة الوضعية بل يكفينا الشك في ذلك لكونه دليلا لبّيا لا يؤخذ منه إلّا المقدار المتيقن ...» «1»

أقول: قد مرّ منّا أنّ إطلاق لفظ الحرمة في كلمات القدماء من أصحابنا تبعا للأخبار أو هم المتأخرين أنّهم أرادوا بها الحرمة التكليفية، و لذا أتعبوا أنفسهم بإقامة الدليل عليها في باب المعاملات.

و لكن مرّ منا أنّ لفظ الحرمة و الحلّ يستعملان في الجامع بين التكليف و الوضع أعني المحدودية و الإطلاق و أنّ محطّ النظر في الروايات و كلمات القدماء في باب المكاسب‌

______________________________
(1) مصباح الفقاهة 1/ 78.

420
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الاشتراء لإعدام الكلاب المضرة ؛ ج‌1، ص : 421

 

..........

______________________________
و المعاملات هو الوضع أعني الفساد و الصحة لا الحرمة التكليفية. هذا.

[الاشتراء لإعدام الكلاب المضرّة]

و ينبغي التنبيه على أمر، و هو أنّ الظاهر كون أدلّة الحرمة و الفساد في المقام منصرفة عما إذا أراد المشتري للكلاب المضرّة جمعها و إعدامها لإراحة الناس من شرّها. إلّا أن يقال: إنّ المتعارف في هذه الصورة التوسّل بالإجارة أو الجعالة لا نقل نفس العين بإزاء الثمن.

2- البحث في بيع الخنزير

[كلمات الفقهاء في المقام]

1- قال الشيخ في بيع الخلاف (المسألة 308): «لا يجوز بيع شي‌ء من المسوخ مثل القرد و الخنزير و الدبّ و الثعلب و الأرنب و الذئب و الفيل و غير ذلك ممّا سنبيّنه. و قال الشافعي: كلّ ما ينتفع به يجوز بيعه مثل القرد و الفيل و غير ذلك. دليلنا إجماع الفرقة.

و أيضا قوله «ص»: «إنّ اللّه- تعالى- إذا حرّم شيئا حرّم ثمنه.» و هذه الأشياء محرّمة اللحم بلا خلاف إلّا الثعلب فإنّ فيه خلافا، و هذا نصّ.» «1»

أقول: لعلّ فتوى الشيخ «ره» مبنيّة على القول بنجاسة المسوخ، كما اختاره في أطعمة الخلاف و في المبسوط، و هي ممنوعة. و ادعاؤه إجماع الفرقة عجيب، إلّا أن يريد الإجماع على أصل الكبرى أعني حرمة بيع النجس. و استدلاله بالنبوي أيضا محلّ إشكال. إذ على فرض عدم وجود كلمة الأكل فيه كان ظاهر حرمة الشي‌ء حرمة جميع الانتفاعات منه، و وجود ذلك في المسوخ ممنوع. فما ذكره الشافعي من أنّ كلّ ما ينتفع به يجوز بيعه هو الصحيح.

______________________________
(1) كتاب الخلاف 3/ 184 (ط. أخرى 2/ 81)، كتاب البيوع، بيع القرد.

 

421
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

كلمات الفقهاء في المقام ؛ ج‌1، ص : 421

..........

______________________________
2- و في النهاية في عداد المكاسب المحظورة: «و من ذلك لحم الخنزير، فبيعه و هبته و أكله حرام، و كذلك كلّ ما كان من الخنزير من شعر و جلد و شحم و غير ذلك.»
«1»

3- و في المبسوط: «و إن كان نجس العين مثل الكلب و الخنزير و الفأرة و الخمر و الدم و ما توالد منهم و جميع المسوخ و ما توالد من ذلك أو من أحدهما فلا يجوز بيعه و لا إجارته و لا الانتفاع به و لا اقتناؤه بحال إجماعا إلّا الكلب فإنّ فيه خلافا.» «2»

4- و في التذكرة: «يشترط في المعقود عليه الطهارة الأصليّة ... و لو باع نجس العين كالخمر و الميتة و الخنزير لم يصحّ إجماعا.» «3»

5- و في المنتهى: «قد احتجّ العلماء كافة على تحريم بيع الميتة و الخمر و الخنزير بالنصّ و الإجماع.» «4»

6- و في المستند: «و منها الخنزير و الكلب. و حرمة التكسّب بهما إجماعية كما صرّح به جماعة.» «5»

7- و في المغني لابن قدامة: «و لا يجوز بيع الخنزير و لا الميتة و لا الدّم، قال ابن المنذر:

أجمع أهل العلم على القول به و أجمعوا على تحريم الميتة و الخمر و على أنّ بيع الخنزير و شراءه حرام ...» «6»

______________________________
(1) النهاية/ 363، كتاب المكاسب، باب المكاسب المحظورة و المكروهة و المباحة.

(2) المبسوط 2/ 165، كتاب البيوع، فصل في حكم ما يصحّ بيعه و ما لا يصحّ.

(3) التذكرة 1/ 464، كتاب البيع، المقصد الأوّل، الفصل الرابع.

(4) المنتهى 2/ 1008، كتاب التجارة، المقصد الثانى، البحث الأوّل، النوع الأوّل.

(5) مستند الشيعة 2/ 334، كتاب مطلق الكسب و الاقتناء، المقصد الثالث، الفصل الثانى.

(6) المغنى 4/ 302، كتاب البيوع، في ذيل حكم قتل الكلب

422
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

و الأخبار الواردة ثلاث طوائف: ؛ ج‌1، ص : 423

 

..........

______________________________
8- و في الفقه على المذاهب الأربعة حكى عن المذاهب الأربعة عدم صحّة بيع الخنزير
«1» و ظاهره إجماعهم على ذلك.

و كيف كان فاستدلّوا لعدم جواز بيعه بالإجماع و بالأخبار الواردة من طرق الفريقين.

و العمدة هي الأخبار لاحتمال كون الإجماع مدركيّا، و إن كان يظهر من المصنّف اعتماده في هذه المسألة و كذا في مسألة الكلب على الإجماع فقط.

و الأخبار الواردة ثلاث طوائف:

الأولى: ما يظهر منها عدم الصحّة مطلقا.

الثانية: ما يظهر منها الصحّة مطلقا.

الثالثة: ما يظهر منها التفصيل بين المسلم و الذمّي أو لم يتعرّض فيها إلّا لحكم المسلم:

أمّا الطائفة الأولى، أعني ما يظهر منها حرمة البيع و فساده بنحو الإطلاق،

فأخبار مستفيضة و إن كانت ضعافا من جهة السند:

1- في رواية تحف العقول التي مرّ ذكرها عدّ من وجوه الحرام من البيع و الشراء البيع للميتة أو الدم أو لحم الخنزير و حكم بكونها ممّا فيه الفساد. «2»

2- في كتاب التفسير من الجعفريات بإسناده عن عليّ بن أبي طالب «ع» قال: «من السحت ثمن الميتة و ثمن اللقاح ... و ثمن الخنزير ...» و رواه عنه في المستدرك «3».

______________________________
(1) الفقه على المذاهب الأربعة 2/ 231 و 232، كتاب البيع، مبحث بيع النجس و المتنجّس.

(2) الوسائل 12/ 56، الباب 2 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

(3) الجعفريات (المطبوع مع قرب الإسناد)/ 180؛ و مستدرك الوسائل 2/ 426، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

 

423
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

أما الطائفة الأولى، أعني ما يظهر منها حرمة البيع و فساده بنحو الإطلاق، ؛ ج‌1، ص : 423

..........

______________________________
3- و في دعائم الإسلام: روّينا عن جعفر بن محمّد، عن أبيه، عن آبائه، عن علي «ع» أنّ رسول اللّه «ص»: «نهى عن بيع الأحرار و عن بيع الميتة و الدّم و الخنزير و الأصنام.

الحديث.» و رواه عنه في المستدرك «1».

4- و في عبارة فقه الرضا التي مرّت عدّ ممّا فيه الفساد لحم الخنزير «2»، و ظاهره حرمة بيعه مطلقا، فراجع.

5- و في البيهقي بإسناده عن جابر بن عبد اللّه أنّه سمع رسول اللّه «ص» يقول عام الفتح و هو بمكّة: «إنّ اللّه و رسوله حرّم بيع الخمر و الميتة و الخنزير و الأصنام. الحديث.» «3»

6- و فيه أيضا بإسناده عن أبي هريرة أنّ رسول اللّه «ص» قال: «إنّ اللّه- جلّ ثناؤه- حرّم الخمر و ثمنها و حرّم الميتة و ثمنها و حرّم الخنزير و ثمنه.» «4»

7- و فيه أيضا عن ابن عباس قال: «السحت الرشوة في الحكم، و مهر البغيّ، و ثمن الكلب، و ثمن القرد، و ثمن الخنزير، و ثمن الخمر. الحديث.» «5» و الخبر الأخير موقوف لم يرفع إلى النبي «ص».

أقول: هذه الروايات مضافا إلى ضعفها يمكن المناقشة في إطلاقها، لما مرّ من كون أمثالها في مقام تعداد أنواع السحت أو المحرّمات إجمالا و ليست في مقام بيان حكم كلّ واحد من العناوين المذكورة حتّى ينعقد لها الإطلاق.

______________________________
(1) دعائم الإسلام 2/ 18؛ و مستدرك الوسائل 2/ 427، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 5.

(2) فقه الرضا/ 250، باب التجارات و البيوع و المكاسب.

(3) سنن البيهقى 6/ 12، كتاب البيوع، باب تحريم بيع الخمر و الميتة و الخنزير ...

(4) نفس المصدر.

(5) نفس المصدر.

424
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الطائفة الثانية: ما يظهر منها جواز البيع و صحته مطلقا ؛ ج‌1، ص : 425

..........

______________________________
هذا مضافا إلى إمكان القول بانصرافها إلى بيان الوظيفة للمسلمين، فلا تعمّ الكفّار المتعارف بينهم أكل الخنزير و الانتفاع به، و احتمال انصرافها أيضا إلى البيع للأكل و نحوه ممّا كان متعارفا بين أهله و وقع النهي عنه في القرآن بهذا اللحاظ دون ما إذا بيع لفوائد محلّلة عقلائية كتربية الخيول و إيجاد النشاط فيها على ما قيل من أنّ أنس الخنزير بالخيل يوجب سمنها و كمالها، و كإطعام الكلاب أو الطيور بلحمه أو التسميد أو استخراج الموادّ الكيمياويّة أو نحو ذلك.

و بالجملة لو قيل بجواز الانتفاع به و لو بأصالة الحلّ فالقاعدة تقتضي جواز بيعه لذلك أيضا، لما مرّ منّا مرارا من الملازمة بين جواز الانتفاع المقوّم لماليّة الشي‌ء عرفا و شرعا و بين جواز بيعه لذلك، فتدبّر.

الطائفة الثانية: ما يظهر منها جواز البيع و صحّته مطلقا

و لو كان البائع مسلما:

1- صحيحة زرارة عن أبي عبد اللّه «ع» في الرجل يكون عليه الدراهم فيبيع بها خمرا و خنزيرا ثمّ يقضي منها؟ قال: «لا بأس» أو قال: «خذها.» «1»

2- خبر الخثعمي، قال: سألت أبا عبد اللّه «ع» عن الرجل يكون لنا عليه الدين فيبيع الخمر و الخنازير فيقضينا؟ فقال: «لا بأس به، ليس عليك من ذلك شي‌ء.» «2»

3- خبر أبي بصير، قال: سألت أبا عبد اللّه «ع» عن الرجل يكون له على الرجل مال فيبيع بين يديه خمرا و خنازير، يأخذ ثمنه؟ قال: «لا بأس.» «3»

______________________________
(1) الوسائل 12/ 171، كتاب التجارة، الباب 60 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 3.

(2) الوسائل 12/ 172، كتاب التجارة، الباب 60 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 4.

(3) الوسائل 12/ 171، كتاب التجارة، الباب 60 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 5.

425
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الطائفة الثانية: ما يظهر منها جواز البيع و صحته مطلقا ؛ ج‌1، ص : 425

..........

______________________________
أقول: يستفاد من هذه الأخبار صحّة المعاملة، و إلّا حرم أخذ الثمن و التصرّف فيه.

و ربّما يتراءى من الأوّل و الأخير جوازها بحسب التكليف أيضا. نعم ظاهر الجواب في الخبر الثاني الحرمة التكليفيّة بالنسبة إلى البائع، كما لا يخفى.

و الأظهر حمل هذه الأخبار على كون البائع ذمّيا، لما مرّ من الأخبار المانعة، و لما يأتي من أخبار الطائفة الثالثة، و لأنّه ذكر فيها الخمر أيضا و هي ممّا لا يجوز للمسلم بيعها قطعا لا تكليفا و لا وضعا، و لأنّه يبعد جدّا في عصر الإمام الصادق «ع» وقوع بيع الخمر و الخنازير من ناحية المسلم و في سوق المسلمين.

4- صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر «ع» في رجل كان له على رجل دراهم فباع خمرا و خنازير و هو ينظر فقضاه؟ فقال: «لا بأس به، أمّا للمقتضي فحلال، و أمّا للبائع فحرام.» «1»

و نحوها صحيحة داود بن سرحان أيضا. «2»

و ربّما يناقش فيهما بأنّ البائع إن كان ذمّيا جازت معاملته وضعا و تكليفا، و إن كان مسلما حرمت كذلك فما وجه التفصيل بين البائع و المقتضي؟

و يمكن أن يجاب عن ذلك بحملهما على الذمّي، و لا نسلّم حلّية المعاملة له تكليفا لكونهم مكلفين بالفروع أيضا، غاية الأمر تصحيح معاملاتهم من ناحية الشارع.

و إن شئت قلت: مقتضى الاشتراك في التكليف حرمة معاملتهم في الخمر و الخنازير و فسادها أيضا بالنسبة إليهم فلا يجوز تصرّفهم في ثمنهما، و إنّما أجاز الشارع ذلك‌

______________________________
(1) الوسائل 12/ 171، كتاب التجارة، الباب 60 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2.

(2) الوسائل 13/ 116، كتاب التجارة، الباب 28 من أبواب الدين و القرض، الحديث 1.

426
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الطائفة الثالثة: ما يظهر منها التفصيل بين المسلم و الذمي ؛ ج‌1، ص : 427

..........

______________________________
بالنسبة إلى المسلمين المعاشرين لهم تسهيلا، فتأمّل.

الطائفة الثالثة: ما يظهر منها التفصيل بين المسلم و الذمّي

أو لم يتعرّض فيها إلّا لحكم المسلم فقط أو الذمي فقط.

1- ما في الكافي عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي نجران، عن محمّد بن سنان، عن معاوية بن سعيد، عن الرضا «ع» قال: سألته عن نصراني أسلم و عنده خمر و خنازير و عليه دين هل يبيع خمره و خنازيره فيقضي دينه؟ فقال: لا. «1»

أقول: في الطبع القديم من الكافي كتب ابن أبي عمير فوق ابن أبي نجران بعنوان النسخة.

و في الطبع الجديد منه ذكر ابن سعد بدل ابن سعيد. و الصحيح ابن سعيد كما يظهر من الرجال و لا يخلو هو عن مدح، و كذا محمّد بن سنان، و إن لم يوثّقا بل ضعّفوا ابن سنان. و في الوسائل ذكر محمّد بن مسكان بدل محمّد بن سنان و الظاهر أنّه اشتباه.

و رواها في الكافي أيضا عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن بعض أصحابنا عن الرضا «ع». «2»

و في الطبع القديم من الكافي كتب فوق ابن أبي عمير ابن أبي نجران بعنوان النسخة.

و الظاهر اتحاد الروايتين و كون المقصود من بعض أصحابنا محمّد بن سنان عن معاوية بن سعيد المذكورين في الرواية الأولى منهما.

و مفاد الرواية عدم جواز بيع المسلم لهما بل عدم صحّته. و لعلّ جواز بيع النصراني لهما إجمالا كان مفروغا عنه و إنما سأل عن بقاء حكم الجواز بعد ما أسلم.

______________________________
(1) الكافى 5/ 231؛ و الوسائل 12/ 167، كتاب التجارة، الباب 57 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

(2) الكافى 5/ 232؛ و الوسائل 12/ 167، نفس الباب و الحديث.

427
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الطائفة الثالثة: ما يظهر منها التفصيل بين المسلم و الذمي ؛ ج‌1، ص : 427

..........

______________________________
2- ما في الكافي أيضا عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن إسماعيل بن مرّار، عن يونس في مجوسيّ باع خمرا أو خنازير إلى أجل مسمّى ثم أسلم قبل أن يحلّ المال.

قال: «له دراهمه.» و قال: إن أسلم رجل و له خمر و خنازير ثم مات و هي في ملكه و عليه دين. قال: «يبيع ديّانه أو وليّ له غير مسلم خمره و خنازيره و يقضي دينه، و ليس له أن يبيعه و هو حيّ و لا يمسكه.» «1»

و الظاهر أنّ السند لا بأس به، و لكنّ الرواية موقوفة لم ترفع إلى الإمام «ع»، فيحتمل أن تكون من فتاوى يونس، و لكن يونس بن عبد الرحمن كان رجلا متعبّدا، فلا محالة أخذها من أهل البيت- عليهم السلام-.

و مفادها التفصيل بين كون البائع لهما مسلما أو ذمّيا فيصحّ في الثاني.

3- ما عن قرب الإسناد، عن عبد اللّه بن الحسن، عن جدّه عليّ بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر «ع»، قال: سألته عن رجلين نصرانيين باع أحدهما خمرا أو خنزيرا إلى أجل فأسلما قبل أن يقبضا الثمن هل يحلّ له ثمنه بعد الإسلام؟ قال: «إنّما له الثمن، فلا بأس أن يأخذه.» «2»

و عبد اللّه بن الحسن مجهول.

و ظاهر الرواية أنّ عدم جواز بيع المسلم لهما كان مركوزا في ذهن السائل، و إنّما سأل عن حكم بيعه لهما قبل الإسلام. و إجازة الإمام «ع» لأخذ الثمن حينئذ تدلّ على صحّة بيع الذمّي لهما و انتقال ثمنهما إليه. و مقتضى الحصر عدم جواز غير أخذ الثمن السابق‌

______________________________
(1) الكافى 5/ 232؛ و الوسائل 12/ 167، نفس الباب، الحديث 2.

(2) الوسائل 12/ 172، كتاب التجارة، الباب 61 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

428
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

ما يستفاد من الأخبار ؛ ج‌1، ص : 429

..........

______________________________
بعد ما أسلم، فلا يجوز له بيعهما بعد الإسلام.

4- و في التهذيب بسند موثوق به عن عمّار الساباطي عن أبي عبد اللّه «ع» في حديث: و عن رجلين نصرانيين باع أحدهما من صاحبه خمرا أو خنازير ثمّ أسلما قبل أن يقبض الدراهم؟ قال: «لا بأس.» «1»

5- ما في الكافي أيضا عن محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد، عن ابن فضّال، عن يونس بن يعقوب، عن منصور، قال: قلت لأبي عبد اللّه «ع»: لي على رجل ذمّي دراهم، فيبيع الخمر و الخنزير و أنا حاضر، فيحلّ لي أخذها؟ فقال: «إنما لك عليه دراهم، فقضاك دراهمك.» «2»

و منصور مردّد بين عدّة، و لكنّ المظنون أنّه منصور بن حازم، فتكون الرواية موثقة.

و المستفاد منها صحّة بيع الذمّي لهما مطلقا أو بالنسبة إلى المسلم المعاشر له. و لعلّ المركوز في ذهن السائل كان عدم صحّة بيعهما إجمالا، فتأمّل.

[ما يستفاد من الأخبار]

فهذه ثلاث طوائف من الأخبار في بيع الخنزير. و المستفاد من الطائفة الثالثة منها إجمالا هو التفصيل بين كون البائع ذمّيا أو مسلما فيصحّ في الأول دون الثاني.

و يؤيّد ذلك أيضا ما ورد في أخذ الجزية من ثمن خمورهم و خنازيرهم. و المتيقّن من ذلك صحّة معاملاتهم عليهما و جواز ترتيب أثر الملكيّة على المأخوذ منهم و أمّا جواز بيعهم تكليفا فلا.

بل لعلّ المستفاد من بعض الأخبار حرمته تكليفا بل و وضعا أيضا بالنسبة إليهم‌

______________________________
(1) التهذيب 9/ 116، في الذبائح و الأطعمة، الحديث 237.

(2) الكافى 5/ 232؛ و الوسائل 12/ 171، كتاب التجارة، الباب 60 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

429
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

ما يستفاد من الأخبار ؛ ج‌1، ص : 429

..........

______________________________
و إنّما حلّله الشارع لنا تسهيلا، كصحيحة محمّد بن مسلم الماضية، و كصحيحته الأخرى في باب الجزية، قال: سألت أبا عبد اللّه «ع» عن صدقات أهل الذمّة و ما يؤخذ من جزيتهم من ثمن خمورهم و خنازيرهم و ميتتهم. قال: «عليهم الجزية في أموالهم، تؤخذ من ثمن لحم الخنزير أو خمر. فكلّ ما أخذوا منهم من ذلك فوزر ذلك عليهم و ثمنه للمسلمين حلال يأخذونه في جزيتهم.»
«1»

و بالجملة فالمستفاد من الطائفة الثالثة في المقام هو التفصيل بين المسلم و الذمّي، فتحمل الطائفتان الأوليان عليها. هذا.

و لكن لو رمينا الروايات الأربع الأول من هذه الطائفة بالضعف أو الوقف و رددناها لذلك فالظاهر أنّ رواية منصور بانفرادها لا تصلح لأن تكون قرينة للجمع إذ التقييد بالذمّي وقع في كلام السائل لا في جواب الإمام «ع» و ليس في الجواب إشعار بعدم جواز الأخذ إن كان البائع مسلما. و بالجملة هذه الرواية و روايات الطائفة الثانية المجوزة مطلقا كلتاهما مثبتتان. فإن كان التقييد بالذمّي في رواية منصور في كلام الإمام «ع» صار ظاهرا في دخله في الحكم. و لكنّه لم يقع في كلامه بل في كلام السائل.

نعم يظهر من مجموع الأخبار عدم جواز بيع المسلم لهما إجمالا، و ظاهره عدم الصحّة، لما مرّ من ظهور النهي و الحرمة و عدم الجواز في المعاملات في الحكم الوضعي أعني الفساد. و لكن يقرب جدّا القول بانصراف أدلّة الحرمة إلى صورة البيع بقصد المنافع المحرّمة كالأكل و نحوه، إذ كانت هي المنافع المتعارفة في تلك الأعصار لمثل الميتة و لحم الخنزير و نحوهما، فتدبّر.

______________________________
(1) الوسائل 11/ 117، كتاب الجهاد، الباب 70 من أبواب جهاد العدوّ ...، الحديث 1.

430
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

البحث في أجزاء الخنزير ؛ ج‌1، ص : 431

 

[البحث في أجزاء الخنزير]

نعم لو قلنا بجواز استعمال شعر الخنزير و جلده جاء فيه ما تقدّم في جلد الميتة. (1)

______________________________
البحث في أجزاء الخنزير

[بيان موضع البحث]

(1) يعني لو قلنا بجواز استعمال جلده و شعره صار بذلك مالا يرغب فيه قهرا فجازت المعاملة عليه أيضا لذلك، كما مرّ في الميتة. و مجرّد النجاسة لا تصلح مانعة عن المعاملة، لما مرّ منّا من وجود الملازمة بين جواز الانتفاع بالشي‌ء منفعة مقصودة عقلائيّة و بين صحّة المعاملة عليه إجمالا، و أنّ المعاملات و منها البيع أمور عقلائيّة أمضاها الشرع إلّا فيما إذا كان فيها مفسدة ظاهرة، و ليست صحّتها دائرة مدار ملاكات سرّية غير واضحة.

فالعمدة هنا هو البحث في جواز الانتفاع بأجزاء الخنزير. و لا خصوصيّة لجلده و شعره، و إنما تعرّض لهما الأصحاب من جهة عدم تصويرهم في تلك الأعصار منفعة محتمل الحلّية لغير الجلد و الشعر و لذكرهما في الأخبار.

ثمّ لو سلّم عدم جواز بيع نفس الخنزير حيّا و ميتا- بمقتضى الأخبار السابقة مطلقا بتقريب أنّه معرض لانتفاع المشتري و من يرتبط به من لحمه المحرّم شرعا فوقع النهي عنه لذلك حسما لمادّة الفساد- أمكن القول بانصراف هذه الأخبار عن بيع الأجزاء كالجلد أو الشعر أو نحوهما، إذ لا يصدق على شعر الخنزير مثلا عنوان الخنزير، فيجوز بيعه مستقلّا بعد ما اشتمل على منفعة عقلائيّة و صار بذلك مالا يرغب فيه.

و المستفاد من بعض الأخبار جواز الانتفاع بجلد الخنزير و شعره. و يمكن إلقاء الخصوصيّة منهما مضافا إلى أصالة الحلّ الجارية في جميع الأجزاء.

 

431
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

بيان كلمات الأصحاب ؛ ج‌1، ص : 432

..........

______________________________
و لكن المشكل في المقام عدم إفتاء المشهور بظاهر هذه الأخبار و تقييدهم الجواز في الشعر بالضرورة، مع ما مرّ من النهاية و التهذيب و الشرائع و النافع و الإرشاد و القواعد في كتاب الأطعمة من الإفتاء بجواز الاستقاء بجلد الميتة للدوابّ و الأشجار بلا تقييد بحال الضرورة. و يشكل الفرق بينهما بل يكون جلد الخنزير من مصاديق الميتة.

[بيان كلمات الأصحاب]

فلنتعرض لبعض كلماتهم في المقام ثمّ نذكر الأخبار الواردة:

1- في الصيد و الذبائح من المقنع: «و إيّاك أن تجعل جلد الخنزير دلوا تستقي به الماء.» «1»

أقول: في مفتاح الكرامة قال: «و الصدوق في المقنع جوّز الاستقاء بجلد الخنزير بأن يجعل دلوا لغير الطهارة، و قد وافقه المصنّف على ذلك في مطاعم الكتاب.» «2»

و أنت ترى أنّ الصدوق حذّر من الاستقاء بجلده، و المصنّف يعني العلامة أيضا لم يتعرض في مطاعم القواعد لذلك و إنما تعرض فيه للاستقاء بجلد الميتة، فراجع «3»

2- و في الصيد و الذباحة من النهاية في البحث عن الجلود قال: «و كذلك شعر الخنزير لا يجوز له أن يستعمله مع الاختيار، فإن اضطرّ إلى استعماله فليستعمل منه ما لم يكن بقي فيه دسم، و يغسل يده عند حضور الصلاة.» «4»

3- و نحوه في المهذّب لابن البرّاج. «5»

______________________________
(1) الجوامع الفقهية/ 35، باب الصيد و الذبائح من المقنع.

(2) مفتاح الكرامة 4/ 19، كتاب المتاجر، في المحرّمات من المتاجر.

(3) القواعد 2/ 159، كتاب الصيد و الذبائح، المقصد الخامس، الفصل الأوّل، المطلب الخامس.

(4) النهاية/ 587، كتاب الصيد و الذبائح، باب ما يحلّ من الميتة و يحرم من الذبيحة ...

(5) المهذّب 2/ 443، آخر كتاب الأطعمة و الأشربة و الصيد و الذباحة.

432
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

بيان كلمات الأصحاب ؛ ج‌1، ص : 432

..........

______________________________
أقول: ظاهرهما اتخاذ أصل الفتوى من الأخبار الآتية، مع أنّه ليس فيها تفصيل بين المختار و المضطرّ.

و هل يراد بالاضطرار في المقام الاضطرار الذي يحلّ معه كلّ محرّم حتى أكل الميتة و لا محالة تتقدّر بقدره، أو يراد به اتخاذ الإنسان شغلا لا يتمّ و لا يكمل عمله فيه إلّا بشعر الخنزير من دون أن يكون هنا اضطرار إلى اتخاذ هذا الشغل؟

4- و في السرائر: «و كذلك شعر الخنزير لا يجوز للإنسان استعماله مع الاختيار على الصحيح من أقوال أصحابنا و إن كان قد ذهب قوم منهم إلى جواز استعماله، و تمسّك بأنّه لا تحلّه الحياة إلّا أن أخبارنا متواترة من الأئمة الأطهار بتحريم استعماله، و الاحتياط يقتضي ذلك. فإن اضطرّ إلى استعماله فليستعمل منه ما لم يكن فيه دسم بأن يتركه في فخّار و يجعله في النار فإذا ذهب دسمه استعمله عند الضرورة و الحاجة إليه و يغسل يده عند حضور الصلاة على ما وردت الأخبار بذلك.» «1»

أقول: الظاهر أنّه أراد بقوم من أصحابنا السيّد المرتضى و من تبعه، حيث ذهب تبعا لجدّه الناصر إلى طهارة شعر الكلب و الخنزير كما في الميتة، فراجع الناصريات «2».

5- و في أطعمة الشرائع: «لا يجوز الاستعمال شعر الخنزير اختيارا، فإن اضطرّ استعمل ما لا دسم فيه و غسل يده.» «3»

6- و في أطعمة القواعد: «و يحرم استعمال شعر الخنزير، فإن اضطر استعمل ما لا‌

______________________________
(1) السرائر 3/ 114، أواخر كتاب الصيد و الذباحة.

(2) الجوامع الفقهية/ 218 (ط. أخرى/ 182)، كتاب الطهارة من الناصريات، المسألة 19.

(3) الشرائع/ 755 (ط. أخرى 3/ 227)، القسم السادس من كتاب الأطعمة و الأشربة.

433
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

و أما أخبار المسألة: ؛ ج‌1، ص : 434

..........

______________________________
دسم فيه و غسل يده.»
«1»

7- و لكنّه في كتاب الصيد من المختلف بعد نقل كلام النهاية و السرائر قال: «و المعتمد جواز استعماله مطلقا. و نجاسته لا تعارض الانتفاع به، لما فيه من المنفعة العاجلة الخالية من ضرر عاجل أو آجل، فيكون سائغا عملا بالأصل السّالم عن معارضة دليل عقلي أو نقليّ في ذلك.» «2» ثمّ استدلّ للجواز بالأخبار الآتية. و تبعه في ذلك في كشف اللثام، فراجع «3».

و أمّا أخبار المسألة:

1- ما عن الشيخ بإسناده عن محمّد بن عليّ بن محبوب، عن يعقوب بن يزيد، عن ابن أبي عمير، عن أبي زياد النهدي، عن زرارة، قال: سألت أبا عبد اللّه «ع» عن جلد الخنزير يجعل دلوا يستقى به الماء. قال: «لا بأس.»‌

في الوسائل: «قال الشيخ: الوجه أنّه لا بأس أن يستقى به، لكن يستعمل ذلك في سقي الدوابّ و الأشجار و نحو ذلك.» «4»

أقول: يظهر من عبارة الشيخ العمل بالخبر و الأخذ به.

و رجال السند كلّهم ثقات إلّا أبا زياد النهدي، فإنّه مجهول، إلّا أن يعتبر برواية ابن أبي عمير عنه.

______________________________
(1) القواعد 2/ 159، كتاب الصيد و الذبائح، المقصد الخامس، الفصل الأوّل، المطلب الخامس.

(2) المختلف/ 684 (الجزء الخامس، ص 132)، كتاب الصيد و توابعه، الفصل الرابع.

(3) كشف اللثام 2/ 91، كتاب الأطعمة و الأشربة، فيما يحرم أكله و شربه.

(4) الوسائل 1/ 129، كتاب الطهارة، الباب 14 من أبواب الماء المطلق، الحديث 16.

434
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

و أما أخبار المسألة: ؛ ج‌1، ص : 434

..........

______________________________
و يظهر من الصدوق أيضا الاعتماد على الخبر، حيث قال في الفقيه: «و سئل الصادق «ع» عن جلد الخنزير يجعل دلوا يستقى به الماء فقال: «لا باس به.»
«1»

إذ نسب الكلام إلى الصادق «ع» بنحو الجزم، و المظنون كونه ناظرا إلى خبر زرارة. و لو فرض كونه غيره كان مؤيّدا له.

و الظاهر أنّ السؤال عن حكم الانتفاع بالجلد لا عن طهارة الماء و نجاسته، كما أنّ الظاهر أنّ الاستقاء بجلد الخنزير كان لمثل سقي الأشجار و الزراعات لا الشرب، إذ يبعد جدّا استقاء المسلمين في عصر الإمام الصادق «ع» للشرب و الوضوء و نحوهما بجلد الخنزير، فتأمّل.

2- صحيحة زرارة عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: سألته عن الحبل يكون من شعر الخنزير يستقى به الماء من البئر هل يتوضّأ من ذلك الماء؟ قال: «لا بأس.» «2»

يظهر منها جواز استعمال الحبل المذكور، و إلّا لنبّه الإمام «ع» على حرمته، إلّا أن يقال: إنّه ليس في السؤال مباشرة السائل للاستقاء حتى يجب تنبيهه، فلعلّ العمل صدر عن شخص آخر غير مكلّف أو غير متعبّد، و السؤال وقع عن حكم الماء بعد عمله أو عن حكم ماء البئر.

قال في الوسائل: «الظاهر أنّ المراد بذلك الماء ماء البئر لا ماء الدلو، و إن أريد به ماء الدلو فإنّ الحبل لا يلاقيه بعد الانفصال عن البئر، و يحتمل كون الدلو كرّا.»‌

أقول: الاحتمال الأخير بعيد جدّا. و ربّما يؤيّد الاحتمال الأوّل ظاهر الرواية التالية‌

______________________________
(1) الفقيه 1/ 10، باب المياه و طهرها و نجاستها، الحديث 14.

(2) الوسائل 1/ 125، كتاب الطهارة، الباب 14 من أبواب الماء المطلق، الحديث 2.

435
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

و أما أخبار المسألة: ؛ ج‌1، ص : 434

..........

______________________________
كما يأتي بيانه، فتحملان على اعتصام البئر أو الماء مطلقا و لو كان قليلا أو على عدم نجاسة الشعر كما أفتى به السيّد المرتضى و من تبعه. و الأوّل أظهر.

و أمّا الاحتمال الثاني فيبعّده أن تنجس ماء الدلو باحتمال ملاقاته للحبل شبهة موضوعيّة ليس مرجعها الإمام «ع» فيبعد عن مثل زرارة سؤالها منه «ع».

و ذكر الأستاذ الإمام «ره» في تقريب الاستدلال بالصحيحة للمقام ما محصّله:

«الظاهر أنّ شبهة السائل كانت من جهة تنجّس الماء أو احتماله و حكم التوضّي منه، و نفي البأس عن الوضوء مع أنه نحو انتفاع بالحبل دليل على عدم حرمة الانتفاع به لا سيّما و أنّ مقتضى إطلاقها جوازه و لو كان المتوضي هو الذي يستقي.

و توهّم أنّ الوضوء من الماء ليس انتفاعا بالحبل بل انتفاع بالماء فاسد، ضرورة أنّ الانتفاع بالحبل هو رفع نحو حاجة به كالشرب أو الوضوء، ففرق بين حرمة التصرّف في الشي‌ء و حرمة الانتفاع به. فلو حرم الانتفاع بالشجر مثلا حرم الاستظلال به مع أنّه ليس تصرّفا فيه، ففي المقام أيضا لو أخرج الماء بالحبل من البئر و أهريق قهرا لم يصدق أنّه انتفع بالبئر و لا بالدّلو و الحبل بخلاف ما لو استعمله في الحوائج.» «1»

أقول: قد مرّ أنّ الظاهر بقرينة رواية الحسين بن زرارة الآتية كون السؤال عن حكم التوضي بماء البئر لا ماء الدلو.

و لو سلّم فلو كان المباشر للاستقاء غير المتوضي و لا بأمره و رضاه فصدق الانتفاع بالحبل على الوضوء حينئذ مشكل و لا أقلّ من انصراف دليل التحريم على فرض وجوده عنه كما هو واضح. و إذا كان الخبر سؤالا و جوابا في مقام بيان حكم الوضوء‌

______________________________
(1) مكاسب المحرّمة للإمام الخمينى «ره» 1/ 77، في حرمة بيع الخنزير.

436
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

و أما أخبار المسألة: ؛ ج‌1، ص : 434

..........

______________________________
فليس في مقام بيان حكم الاستقاء حتّى يؤخذ بإطلاقه بالنسبة إلى ما إذا كان المتوضي هو الذي يستقي.

و السؤال وقع عن صحّة الوضوء و فساده لا عن حكم الانتفاع تكليفا.

3- ما رواه الحسين بن زرارة، قال: كنت عند أبي عبد اللّه «ع» و أبي يسأله عن اللبن من الميتة و البيضة من الميتة و أنفحة الميتة. فقال: «كلّ هذا ذكيّ.» قال: فقلت له: فشعر الخنزير يعمل حبلا و يستقى به من البئر التي يشرب منها أو يتوضّأ منها؟ قال: «لا بأس به.» «1»

أقول: توصيف البئر بالتي يشرب منها أو يتوضّأ منها دليل على أن نظر السائل هو السؤال عن ماء البئر التي استقي منها لا عن ماء الدلو و لا عن حكم الاستقاء بالحبل.

و مسألة تنجّس البئر كانت موردا للسؤال و الجواب في تلك الأعصار كما يظهر بمراجعة الأخبار.

4- صحيحة زرارة عن أبي جعفر «ع»، قال: قلت له: إنّ رجلا من مواليك يعمل الحمائل بشعر الخنزير؟ قال: «إذا فرغ فليغسل يده.» «2»

أقول: الحمائل جمع الحميلة بمعنى علاقة السيف. و دلالته على جواز العمل واضحة و كذا نجاسة الشعر، بل و كذا جواز البيع، إذ الظاهر أنّ عامل الحمائل كان يعملها للبيع.

و احتمال أنّ عملها كان لنفسه أو للغير بنحو الإجارة بعيد، مضافا إلى أنّ ترك‌

______________________________
(1) الوسائل 16/ 365 (ط. أخرى 16/ 447)، الباب 33 من كتاب الأطعمة و الأشربة، الحديث 4، و كذا 1/ 126، الباب 14 من أبواب الماء المطلق، الحديث 3.

(2) الوسائل 12/ 167، كتاب التجارة، الباب 58 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

437
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

و أما أخبار المسألة: ؛ ج‌1، ص : 434

..........

______________________________
الاستفصال يقتضي العموم للبيع أيضا، فتأمّل.

5- خبر سليمان الإسكاف، قال: سألت أبا عبد اللّه «ع» عن شعر الخنزير يحرز به؟

قال: «لا بأس به، و لكن يغسل يده إذا أراد أن يصلّي.» «1»

أقول: سند الخبر صحيح إلّا سليمان، فإنّه مجهول، إلّا أن يجبر بابن أبي عمير في السند. و الدلالة على جواز العمل و كذا نجاسة الشعر واضحة.

6- خبر برد الإسكاف، قال: قلت لأبي عبد اللّه «ع»: إنّي رجل خرّاز و لا يستقيم عملنا إلّا بشعر الخنزير نخرز به. قال: «خذ منه و بره فاجعلها في فخّارة ثمّ أوقد تحتها حتّى يذهب دسمها ثمّ اعمل به.» «2»

7- و خبره الآخر، قال: قلت لأبي عبد اللّه «ع»: جعلت فداك، إنا نعمل بشعر الخنزير، فربّما نسي الرجل فصلّى و في يده منه شي‌ء، فقال: «لا ينبغي أن يصلّي و في يده منه شي‌ء.» و قال: «خذوه فاغسلوه فما كان له دسم فلا تعملوا به، و ما لم يكن له دسم فاعملوا به و اغسلوا أيديكم منه.» و نحو ذلك خبر ثالث له عنه أيضا. «3»

و الظاهر اتحاد الأخبار الثلاثة و اختلافها بالإجمال و التفصيل.

و برد الإسكاف مجهول الحال، إلّا أن يقال: إنّ رواية ابن أبي عمير لكتابه. تدخله في الحسان كما قيل. و الراوي عنه في إحدى رواياته الثلاث صفوان بن يحيى، و هو على ما في العدّة لا يروي و لا يرسل إلّا ممّن يوثق به.

______________________________
(1) الوسائل 2/ 1018، كتاب الطهارة، الباب 13 من أبواب النجاسات، الحديث 3.

(2) الوسائل 12/ 168، كتاب التجارة، الباب 58 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 3.

(3) نفس المصدر و الباب، الحديثان 4 و 2.

438
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الأقوى الجواز مطلقا ؛ ج‌1، ص : 439

..........

______________________________
و الظاهر أن الأمر بإذهاب الدّسم في أخبار برد كان من باب الإرشاد إلى ما يقلّ معه السراية و يسهل التطهير لا من باب التعبّد و لذا لم يتعرّض لذلك في صحيحة زرارة و لا في خبر سليمان مع كونهما في مقام البيان.

و ظاهر هذه الأخبار جواز الاستعمال مطلقا مع فرض نجاسة الشعر و لذا أمر بغسل اليد، فلا وجه لما في كلمات الأصحاب من التقييد بالاضطرار، إلّا أنّ لا يراد به الاضطرار المصطلح عليه في الكتاب و السنة المحلّل لكلّ محرّم شرعي، بل الاضطرار العرفي، أعني توقّف شغله المنتخب عليه و إن لم يضطر إلى انتخابه، كما يشعر بذلك قوله في خبر برد: «لا يستقيم عملنا إلّا بشعر الخنزير.» و من الواضح أنّ الإنسان المتعبّد بالشرع لا يختار استعمال النجس بالطبع إلّا إذا توقّف شغله المنتخب عليه. قال في كشف اللثام: «و لعلّه يكفي في الاضطرار عدم كمال العمل بدونه.» «1»

و لكن يشكل حمل كلمات الأصحاب على هذا المعنى، إذ مرجعه إلى الحليّة في حال الاختيار، حيث لم يعهد لنا جواز عمل خاصّ لخصوص من توقّف شغله المنتخب باختياره عليه و حرمته على غيره.

[الأقوى الجواز مطلقا]

و على هذا فالأقوى هو الجواز مطلقا كما مرّ عن العلامة في المختلف، و هو اختيار صاحب الجواهر أيضا، حيث قال ما ملخّصه: «الأقوى الجواز مطلقا لا لما سمعته من المختلف المعارض بما ذكرناه في المكاسب من الإجماع المحكيّ على عدم جواز الانتفاع بالأعيان النجسة و خبر التحف، بل لظهور النصوص المزبورة التي لا يحكّم ما فيها من النهي عن استعمال ذي الدسم على إطلاق غيره بعد ظهور إرادة الإرشاد منه للتحفّظ عن‌

______________________________
(1) كشف اللثام 2/ 91، كتاب الأطعمة و الأشربة، فيما يحرم أكله و شربه.

439
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

ما استدل به لعدم الجواز ؛ ج‌1، ص : 440

..........

______________________________
النجاسة، و بها يخرج عن معقد إطلاق الإجماع و عموم خبر التحف.»
«1» هذا.

[ما استدل به لعدم الجواز]

و استدل لعدم الجواز- كما يظهر من الجواهر «2»- بما حكي من الإجماع على عدم جواز الانتفاع بالنجس مطلقا إلّا فيما خرج بالدليل، و برواية تحف العقول، و بأن إسناد الحرمة إلى الخنزير في الكتاب العزيز يقتضي حرمة مطلق الانتفاع به لا خصوص الأكل لأنّه أقرب إلى الحقيقة خصوصا بعد ذكره مع الميتة التي حكمها ذلك نصّا و فتوى، و لا سيّما مع ملاحظة الشهرة أيضا، و بما مرّ من السرائر من دعوى تواتر الأخبار بذلك و إن كنّا لم نظفر بخبر واحد كما اعترف به في كشف اللثام.

و في مفتاح الكرامة قال: «و الأقوى عدم جواز استعماله مطلقا إلّا عند الضرورة كما هو المشهور. و قد سمعت أنّه في السرائر ادّعى تواتر الأخبار في ذلك، و ليس ما يحكيه إلّا كما يرويه و الشهرة تجبرها أو تعضدها. و إنكار من أنكر الظفر بخبر واحد لا يعتبر.

بل في أحد خبري برد الإسكاف: فما له دسم فلا تعملوا به، و في الخبر الآخر: فإن جمد فلا تعمل به. و حيث ثبت المنع في الجملة ثبت المنع مطلقا إلّا عند الضرورة لعدم القائل بالفرق ...» «3»

أقول: ما ذكر كلّها اجتهادات في قبال النصوص. و الإجماع على عدم جواز الانتفاع بالنجس على إطلاقه غير ثابت بعد ما ثبت الجواز في كثير من الموارد كالكلب الصيود و العذرة للتسميد و العبد الكافر و الاستقاء بجلد الميتة لغير الشرب و الصلاة على ما أفتى‌

______________________________
(1) الجواهر 36/ 400، كتاب الأطعمة و الأشربة، القسم السادس في اللواحق.

(2) الجواهر 36/ 398، كتاب الأطعمة و الأشربة، القسم السادس في اللواحق.

(3) مفتاح الكرامة 4/ 23، كتاب المتاجر، في ذيل قول المصنّف: «و الكلب و الخنزير البريّان».

440
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

ما استدل به لعدم الجواز ؛ ج‌1، ص : 440

..........

______________________________
به الأصحاب في الذبائح و الأطعمة كما مرّ. و المتيقّن منه على فرض تحقّقه الانتفاعات المتوقّفة على الطهارة كالأكل و الشرب و الصلاة و نحوها. و رواية تحف العقول مضافا إلى ضعفها يظهر من مجموعها- على ما مرّ- اختصاص الحرمة بما فيه الفساد محضا دون ما يوجد فيه جهات الفساد و الصلاح معا.

و إسناد الحرمة في الكتاب العزيز كان بلحاظ الأكل فقط لا مطلق الانتفاعات كما يظهر من سياق الآيات الأربع النازلة في هذا المجال. و المذكور فيها لحم الخنزير فكيف يستدلّ بها على حرمة الانتفاع بالجلد و الشعر و نحوهما؟! و لو فرض وجود الأخبار المتواترة على الحرمة كما ادّعاه في السرائر فكيف خفيت الجميع على الجميع؟! فلعلّ ابن إدريس أراد بذلك الأخبار الدالّة على نجاسة الخنزير بعد ضمّ ما كان في اعتقاده من عدم جواز الانتفاع بالنجس، و يشهد لذلك ذكره كلام السّيد المرتضى القائل بطهارة الشعر في قبال ذلك.

و التفصيل بين الدسم و غيره قد حملناه على الإرشاد لا التعبّد فلا نقول بالفرق بينهما.

و بالجملة فلا وجه لرفع اليد عن ظاهر الأخبار المذكورة الدالّة على جواز الانتفاع بالجلد و الشعر. و قد مرّ منا أنّ ذكرهما في الأخبار و الفتاوى من باب المثال من جهة عدم تصوير الانتفاع المحلل لغيرهما في تلك الأعصار.

و إذا فرض وجود المنافع المحلّلة المقصودة للأجزاء و صارت بذلك من الأموال المرغوب فيها جاز تبديلها بالمال قهرا لعموم أدلّة العقود و البيع و التجارة و ما مرّ منا من وجود الملازمة العرفيّة بين حليّة الانتفاع بالشي‌ء و ماليته و بين جواز المعاملة عليه و استقرار سيرة العقلاء على ذلك.

441
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

المسألة السابعة: بيع الخمر ؛ ج‌1، ص : 442

 

[المسألة السابعة: بيع الخمر]

السابعة: يحرم التكسّب بالخمر و كلّ مسكر مائع و الفقاع إجماعا نصّا و فتوى. (1)

______________________________
و الإجماع على عدم صحة بيع النجس- على فرض تحقّقه- منصرف إلى صورة عدم وجود المنفعة المحلّلة العقلائيّة له، أو صورة وقوع البيع بقصد المنافع المحرّمة كالأكل و نحوه من المنافع المتوقّفة على الطهارة.

و ما دلّ على عدم صحّة بيع المسلم للخنزير منصرف إلى بيعه للأكل و نحوه على نحو ما كان يصنعه الكفّار و أهل الذمّة. مضافا إلى أنّ الخنزير اسم للحيوان الخاصّ، و لو سلّم صدقه بنحو المسامحة على ميّته أيضا فلا يصدق على مثل جلده أو شعره. و مثله في هذا المجال عنوان الكلب أيضا، فتدبّر.

[كلمات الفقهاء على حرمة بيع الخمر]

7- بيع الخمر

(1) قد قام الإجماع و أطبقت نصوص الفريقين على حرمة بيع الخمر و فساده:

1- قال الشيخ في بيع الخلاف (المسألة 311): «لا يجوز بيع الخمر، و به قال الشافعي.

و قال أبو حنيفة: يجوز أن يوكّل ذمّيا ببيعها و شرائها. دليلنا إجماع الفرقة. و أيضا روي عن عائشة أنها قالت: إنّ النبيّ «ص» حرّم التجارة في الخمر.

و روي عنه «ص» أنّه قال: «إنّ الذي حرّم شربها حرّم بيعها.» و روى ابن عباس، قال:

إنّ رسول اللّه «ص» أتاه جبرائيل فقال: «يا محمّد، إنّ اللّه لعن الخمر و عاصرها‌

 

442
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

كلمات الفقهاء على حرمة بيع الخمر ؛ ج‌1، ص : 442

..........

______________________________
و معتصرها و حاملها و المحمول إليه و شاربها و بائعها و مبتاعها و ساقيها.»‌

و روى جابر أنّه سمع رسول اللّه «ص» عام الفتح بمكّة يقول: «إنّ اللّه و رسوله حرّم بيع الخمر و الميتة و الخنزير و الأصنام.» فقيل: يا رسول اللّه، أ فرأيت شحوم الميتة فإنّه يطلى بها السفن و يدهن بها الجلود و يستصبح بها الناس. فقال: «لا، هو حرام.» ثمّ قال: «قاتل اللّه اليهود، إنّ اللّه لما حرّم عليهم شحومها حملوها ثمّ باعوها فأكلوا ثمنها.» «1»

أقول: راجع للروايات المذكورة سنن البيهقي «2» و السفن محركة: جلد خشن كان يجعل على قوائم السيوف. و في كتبهم: جملوها بالجيم، و قالوا: جمله و جمّله و أجمله بمعنى أذابه.

2- و في التذكرة: «يشترط في المعقود عليه الطهارة الأصليّة، فلا تضرّ النجاسة العارضة مع قبول التطهير. و لو باع نجس العين كالخمر و الميتة و الخنزير لم يصحّ إجماعا ...

مسألة: كما لا يجوز للمسلمين مباشرة بيع الخمر فكذا لا يجوز أن يوكّل فيه ذميّا، و به قال الشافعي و مالك و أحمد و أكثر أهل العلم. و قال أبو حنيفة: يجوز أن يوكّل ذمّيا في بيعها و شرائها، و هو خطأ لما تقدّم، و لأنّه نجس العين فيحرم فيه التوكيل كالخنزير.» «3»

3- و في المغني لابن قدامة: «و لا يجوز بيع الخمر و لا التوكيل في بيعه و لا شراءه.

قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أنّ بيع الخمر غير جائز. و قال أبو حنيفة: يجوز للمسلم أن يوكّل ذمّيا في بيعها و شرائها، و هو غير صحيح، فإنّ عائشة روت أنّ النبي «ص» قال: «حرمت التجارة في الخمر.» و عن جابر أنّه سمع النبي «ص» ... و من وكّل في بيع الخمر و أكل ثمنه فقد أشبههم في ذلك. و لأنّ الخمر نجسة محرّمة يحرم بيعها‌

______________________________
(1) كتاب الخلاف 3/ 185 (ط. أخرى 2/ 182) كتاب البيوع، بيع الخمر و الاختلاف فيه.

(2) سنن البيهقى 6/ 11 و 12، كتاب البيوع، باب تحريم التجارة في الخمر و باب تحريم بيع الخمر و الميتة و ...

(3) التذكرة 1/ 464، كتاب البيع، المقصد الأوّل، الفصل الرابع.

443
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

كلمات الفقهاء على حرمة بيع الخمر ؛ ج‌1، ص : 442

..........

______________________________
و التوكيل في بيعها كالميتة و الخنزير ...»
«1»

4- و قد مرّ منّا- في البحث الجامع عن بيع النجاسات- عن نهاية الشيخ ذكر الخمر و كلّ شراب مسكر و الفقاع «2».

و عن مبسوطه ذكر الخمر «3».

و عن المراسم ذكر المسكرات من الأشربة و الفقّاع و الأدوية الممزوجة بالخمر «4».

و عن الشرائع ذكر الخمر و الأنبذة و الفقّاع «5».

و عن قواعد العلامة ذكر الخمر و النبيذ و الفقّاع فيما لا يجوز بيعه «6».

5- و مرّ عن الفقه على المذاهب الأربعة عن المذاهب الأربعة في عداد البيوع الباطلة بيع الخمر، فراجع «7».

و قد مرّ أنّ نظر الفقهاء من الحرمة أو عدم الجواز في باب المعاملات هي الحرمة الوضعيّة أعني فساد المعاملة. و هو الظاهر من الأخبار الواردة في هذا المجال، و النهي فيها أيضا ظاهر في الإرشاد إلى ذلك.

نعم في بعض الموضوعات تثبت الحرمة التكليفيّة أيضا كالربا مثلا، و من هذا القبيل‌

______________________________
(1) المغنى 4/ 284، كتاب البيوع، بيع العصير ممّن يتخذه خمرا.

(2) النهاية للشيخ/ 363 و 364، كتاب المكاسب، باب المكاسب المحظورة و المكروهة و المباحة.

(3) المبسوط 2/ 166، كتاب البيوع، فصل في حكم ما يصحّ بيعه و ما لا يصحّ.

(4) الجوامع الفقهية/ 585 (ط. أخرى/ 647)، كتاب المكاسب من المراسم.

(5) الشرائع/ 263 (ط. أخرى 2/ 9)، كتاب التجارة، الفصل الأوّل، النوع الأوّل من المحرّم.

(6) القواعد 1/ 120، كتاب المتاجر، المقصد الأوّل، الفصل الأوّل.

(7) الفقه على المذاهب الأربعة 2/ 231 و 232، كتاب البيع، مبحث بيع النجس و المتنجّس.

444
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

النصوص الواردة من طرق الفريقين ؛ ج‌1، ص : 445

..........

______________________________
بيع الخمر فهو محرم تكليفا و وضعا كما سيظهر.

[النصوص الواردة من طرق الفريقين]

و كيف كان فقد تواترت النصوص من طرق الفريقين على حرمة التكسّب بالخمر، فلنتعرض لبعضها:

1- صحيحة محمّد بن مسلم عن أبي عبد اللّه «ع» في رجل ترك غلاما له في كرم له يبيعه عنبا أو عصيرا فانطلق الغلام فعصر خمرا ثمّ باعه. قال: «لا يصلح ثمنه.» ثمّ قال:

إنّ رجلا من ثقيف أهدى إلى رسول اللّه «ص» روايتين من خمر فأمر بهما رسول اللّه «ص» فأهريقتا، و قال: «إنّ الذي حرّم شربها حرّم ثمنها.» ثمّ قال أبو عبد اللّه «ع»: «إنّ أفضل خصال هذه التي باعها الغلام أن يتصدّق بثمنها.» «1»

أقول: ظاهر حرمة الثمن فساد المعاملة و إلّا لم يكن وجه لحرمته. و التصدّق به من باب التصدّق بمجهول المالك، أو لإلزام مالك الثمن بما ألزم به نفسه من إخراجه عن ملكه باختياره.

2- خبر أبي أيّوب، قال: قلت لأبي عبد اللّه «ع»: رجل أمر غلامه أن يبيع كرمه عصيرا فباعه خمرا ثمّ أتاه بثمنه؟ فقال: «إنّ أحبّ الأشياء إليّ أن يتصدّق بثمنه.» «2»

3- خبر أبي بصير عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: سألته عن ثمن الخمر. قال: أهدي إلى رسول اللّه «ص» رواية خمر بعد ما حرّمت الخمر فأمر بها أن تباع، فلمّا أدبر بها الذي يبيعها ناداه رسول اللّه «ص» من خلفه: يا صاحب الرواية، إنّ الذي حرّم شربها فقد حرّم ثمنها، فأمر بها فصبّ في الصعيد. و قال: «ثمن الخمر و مهر البغيّ و ثمن الكلب الذي لا يصطاد من السّحت.» «3»

______________________________
(1) الوسائل 12/ 164، الباب 55 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

(2) نفس المصدر و الباب، الحديث 2.

(3) نفس المصدر و الباب، ص 165، الحديث 6.

445
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

النصوص الواردة من طرق الفريقين ؛ ج‌1، ص : 445

..........

______________________________
أقول: الظاهر أنّ الأمر بالبيع صدر من المهدي بقصد أن يهدي الثمن إلى النبي «ص» بعد ما لم يقبل العين.

4- و عن زيد بن عليّ «ع» بسند لا يخلو من وثاقة عن آبائه «ع»، قال: «لعن رسول اللّه «ص» الخمر و عاصرها و معتصرها و بائعها و مشتريها و ساقيها و آكل ثمنها و شاربها و حاملها و المحمولة إليه.» «1»

5- و في خبر جابر عن أبي جعفر «ع» قال: «لعن رسول اللّه «ص» في الخمر عشرة:

غارسها و حارسها و عاصرها و شاربها و ساقيها و حاملها و المحمولة إليه و بائعها و مشتريها و آكل ثمنها.» «2»

6- و في حديث المناهي: أنّ رسول اللّه «ص» نهى أن يشترى الخمر و أن يسقى الخمر. و قال: «لعن اللّه الخمر و غارسها و عاصرها و شاربها و ساقيها و بائعها و مشتريها و آكل ثمنها و حاملها و المحمولة إليه.» «3»

أقول: لعن الغارس لا بدّ أن يحمل على من يغرس الكرم بقصد اتخاذ الخمر من ثمره، كما هو المتعارف في بعض البلاد. و لعن آكل الثمن دليل على فساد المعاملة و عدم انتقال الثمن. و لعن البائع و المشتري و غيرهما و التشديد الظاهر من هذه الروايات دليل على حرمة نفس المعاملة بحسب التكليف أيضا، نظير ما ورد في حرمة الربا من التشديدات، و إلّا فمجرد عدم صحّة المعاملة و عدم انتقال الثمن و الأكل لمال الغير لا‌

______________________________
(1) نفس المصدر و الباب، الحديث 3.

(2) نفس المصدر و الباب، الحديث 4.

(3) نفس المصدر و الباب، الحديث 5.

446
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

هنا أمور نبحث فيها ؛ ج‌1، ص : 447

 

..........

______________________________
يناسب هذه التشديدات، فتدبّر.

7- و في البيوع من صحيح البخاري بسنده عن عائشة: لما نزلت آيات سورة البقرة عن آخرها خرج النّبيّ «ص» فقال: «حرّمت التجارة في الخمر.» «1»

8- و روى البيهقي بسنده عن أبي هريرة أنّ رسول اللّه «ص» قال: «إنّ اللّه- جلّ ثناؤه- حرّم الخمر و ثمنها، و حرّم الميتة و ثمنها، و حرّم الخنزير و ثمنه.»‌

و راجع في هذا المجال البيهقي «2».

إلى غير ذلك من الأخبار من طرق الفريقين، و قد مرّ بعضها في المسائل السابقة كبيع الميتة و الكلب و الخنزير، فراجع.

[هنا أمور نبحث فيها]

إذا عرفت هذا فلنبحث في أمور:

[الأمر الأوّل:] معنى الخمر بحسب اللغة و الشرع

الأمر الأوّل: هل الخمر اسم لخصوص ما يتّخذ من العنب، أو من العنب أو التمر، أو اسم لكلّ مسكر مائع بالأصالة؟

1- قال الراغب في المفردات: «أصل الخمر: ستر الشي‌ء، و يقال لما يستر به خمار ... و الخمر سمّيت لكونها خامرة لمقرّ العقل. و هو عند بعض الناس اسم لكلّ مسكر. و عند بعضهم اسم للمتّخذ من العنب و التمر، لما روي عنه «ص»: «الخمر من هاتين الشجرتين: النخلة و العنبة» «3».

أقول: لعلّ ذكر الشجرتين في الحديث من جهة غلبة تحصيل الخمر منهما في تلك‌

______________________________
(1) صحيح البخاري 2/ 28.

(2) سنن البيهقى 6/ 11 و 12، كتاب البيوع، باب تحريم التجارة في الخمر و باب تحريم بيع الخمر و ...

(3) مفردات الراغب/ 160.

 

447
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الأمر الأول: معنى الخمر بحسب اللغة و الشرع ؛ ج‌1، ص : 447

..........

______________________________
الأعصار، فلا ينافي كون اللفظ اسما للأعمّ.

2- و في المصباح المنير: «و يقال: هي اسم لكلّ مسكر خامر العقل أي غطّاه.» «1»

3- و في المعتبر: «و الأنبذة المسكرة عندنا في التنجيس كالخمر، لأنّ المسكر خمر فيتناوله حكم الخمر. أمّا أنّه خمر لأنّ الخمر إنّما سمّي بذلك لكونه يخمر العقل و يستره، فما ساواه في المسمى يساويه في الاسم.» «2» هذا.

و على فرض الاختصاص بحسب اللغة أو بسبب الانصراف المستند إلى الغلبة فالظاهر أنّ الموضوع للبحث في المقام و في أبواب الحرمة و النجاسة و الحدّ و مقداره هو الأعمّ، و عليه تحمل أخبار الباب لورود الأخبار المستفيضة الحاكمة عليها الشارحة لها:

1- ففي صحيحة عليّ بن يقطين عن أبي الحسن الماضي «ع» قال: «إنّ اللّه- عزّ و جلّ- لم يحرّم الخمر لاسمها و لكن حرّمها لعاقبتها، فما كان عاقبته عاقبة الخمر فهو خمر.» «3»

2- و في خبر آخر له عنه «ع» قال: «إنّ اللّه- عزّ و جلّ- لم يحرم الخمر لاسمها و لكن حرّمها لعاقبتها، فما فعل فعل الخمر فهو خمر.» «4»

3- و في خبر أبي الجارود قال: سألت أبا جعفر «ع» عن النبيذ أخمر هو؟ فقال: «ما زاد على الترك جودة فهو خمر.» «5»

______________________________
(1) المصباح المنير 1/ 248.

(2) المعتبر 1/ 424، كتاب الطهارة، الركن الرابع، مسألة في الخمر و شبهه.

(3) الوسائل 17/ 273، كتاب الأطعمة و الأشربة، الباب 19 من أبواب الأشربة المحرّمة، الحديث 1.

(4) نفس المصدر و الباب، الحديث 2.

(5) نفس المصدر و الباب، ص 274، الحديث 4.

448
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الأمر الأول: معنى الخمر بحسب اللغة و الشرع ؛ ج‌1، ص : 447

..........

______________________________
4- و في خبر الكلبي النّسابة أنّه سأل أبا عبد اللّه «ع» عن النبيذ فقال: «حلال.» فقال:

إنا ننبذه فنطرح فيه العكر و ما سوى ذلك. فقال: «شه شه! تلك الخمرة المنتنة.» «1»

5- و في صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي عبد اللّه «ع» قال: قال رسول اللّه:

«الخمر من خمسة: العصير من الكرم، و النقيع من الزبيب، و البتع من العسل، و المزر من الشعير، و النبيذ من التمر.» «2»

و بهذا المضمون أخبار أخر مستفيضة، فراجع «3».

6- و في خبر أبي الجارود عن أبي جعفر «ع» في قوله- تعالى-: إنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسرُ الآية: «أمّا الخمر فكلّ مسكر من الشراب إذا أخمر فهو خمر، و ما أسكر كثيره فقليله حرام، و ذلك أنّ أبا بكر شرب قبل أن تحرم الخمر فسكر (إلى أن قال:) فأنزل اللّه تحريمها بعد ذلك. و إنّما كانت الخمر يوم حرّمت بالمدينة فضيخ البسر و التمر، فلمّا نزل تحريمها خرج رسول اللّه «ص» فقعد في المسجد ثمّ دعا بآنيتهم التي كانوا ينبذون فيها فأكفأها كلّها، و قال: هذه كلّها خمر حرّمها اللّه، فكان أكثر شي‌ء (أكفئ) في ذلك اليوم الفضيخ، و لم أعلم أكفئ يومئذ من خمر العنب شي‌ء إلّا إناء واحد كان فيه زبيب و تمر جميعا. فأمّا عصير العنب فلم يكن منه يومئذ بالمدينة شي‌ء.

و حرّم اللّه الخمر قليلها و كثيرها و بيعها و شراءها و الانتفاع بها. الحديث.» «4»

______________________________
(1) الوسائل 1/ 147، كتاب الطهارة، الباب 2 من أبواب الماء المضاف، الحديث 2.

(2) الوسائل 17/ 221، كتاب الأطعمة و الأشربة، الباب 1 من أبواب الأشربة المحرّمة، الحديث 1.

(3) راجع نفس المصدر و الباب.

(4) نفس المصدر و الباب، ص 222، الحديث 5.

449
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الأمر الأول: معنى الخمر بحسب اللغة و الشرع ؛ ج‌1، ص : 447

..........

______________________________
أقول: في الحديث تعريض ببعض الفقهاء، حيث خصّوا الحرمة المطلقة بخمر العنب و أمّا سائر المسكرات فلا يحرم منها إلا المقدار الكثير المسكر، و بذلك أحلّوا النبيذ للخلفاء.

7- و في خبر الوشاء قال: كتبت إليه يعني الرضا «ع» أسأله عن الفقاع. قال: فكتب:

«حرام و هو خمر.» «1»

8- و في موثقة عمّار قال: سألت أبا عبد اللّه «ع» عن الفقاع. فقال: «هو خمر.» «2»

9- و في خبر الحسن بن جهم و ابن فضّال جميعا قالا: سألنا أبا الحسن «ع» عن الفقاع فقال: «هو خمر مجهول و فيه حدّ شارب الخمر». إلى غير ذلك من الأخبار في هذا المجال «3».

10- و في صحيح مسلم بسنده عن ابن عمر قال: قال رسول اللّه «ص»: «كلّ مسكر خمر و كلّ مسكر حرام.» «4»

11- و فيه أيضا بسنده عنه عن النّبيّ «ص» قال: «كلّ مسكر خمر و كلّ خمر حرام.» «5»

فهذه الأخبار المستفيضة الواردة من طرق الفريقين حاكمة على ما ورد في تحريم الخمر شربا و بيعا و في ثبوت الحدّ و مقداره و حكم نجاستها.

قال في الفقه على المذاهب الأربعة: «الخمر ما خامر العقل أي خالطه فأسكره و غيّبه، فكلّ ما غيّب العقل فهو خمر سواء كان مأخوذا من العنب المغليّ على النار أو من التمر أو من العسل أو الحنطة أو الشعير حتّى و لو كان مأخوذا من اللبن أو الطعام أو أيّ شي‌ء‌

______________________________
(1) الوسائل 17/ 287، كتاب الأطعمة و الأشربة، الباب 27 من أبواب الأشربة المحرّمة.

(2) نفس المصدر و الباب، ص 288، الحديث 4.

(3) نفس المصدر و الباب ص 287. و منها الحديث 11 في الصفحة 289.

(4) صحيح مسلم 3/ 1587، كتاب الأشربة، باب بيان أنّ كلّ مسكر خمر ...، الحديثان 73 و 74.

(5) نفس المصدر 3/ 1588، الحديث 75.

450
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الأمر الثاني: حكم تخليل الخمر و بيعها لذلك أو للتداوي ؛ ج‌1، ص : 451

..........

______________________________
وصل إلى حدّ الإسكار. و قد بيّن النبيّ «ص»: أنّ كلّ ما أسكر كثيره فقليله حرام و لو لم يسكر. و لفظ الحديث: «ما أسكر كثيره فقليله حرام.» رواه أبو داود و الترمذي و ابن ماجة و البيهقي.»
«1»

[الأمر الثاني:] حكم تخليل الخمر و بيعها لذلك أو للتداوي

الأمر الثاني: هل تشمل أدلّة حرمة بيع الخمر و حرمة ثمنها لما إذا بيعت للتخليل أو التطيين مثلا أو للتداوي بها مع الاضطرار و انحصار العلاج فيها؟

أو يقال بانصرافها إلى صورة بيعها للشرب المحرّم لأنّه المنفعة المقصودة المتعارفة لعاصرها و بائعها و مشتريها في عصر صدور تلك الأخبار و في كلّ عصر، و على أساسه كان تقويمها و المعاملة عليها، فأريد بالنهي عن بيعها و التجارة عليها البيع و التجارة على النحو المتعارف بين الفسّاق و شرّاب الخمور، حيث إنّها كانت ممحّضة للشرب المحرم.

و أمّا إذا فرضت لها منافع عقلائيّة مشروعة و صارت بذلك مالا مرغوبا فيها لذلك فلا بأس ببيعها بهذا القصد و لم يثبت إسقاط الشارع لماليتها بنحو الإطلاق.

و قد دلّت أخبار مستفيضة على جواز تخليلها كما تأتي. و في موثقة سماعة عن أبي عبد اللّه «ع»: «ليس شي‌ء ممّا حرّم اللّه إلّا و قد أحلّه لمن اضطر إليه.» و نحوه في موثّقة أبي بصير «2». و قد ذكر الإمام «ع» هذه الكلّية لتصحيح صلاة المضطرّ فيكون المقصود من الحرمة و الحلّ في هذا الكلام أعمّ من التكليف و الوضع.

______________________________
(1) الفقه على المذاهب الأربعة 2/ 6، كتاب الحظر و الإباحة، مبحث ما يحرم شربه و ما يحلّ.

(2) الوسائل 4/ 690، كتاب الصلاة، الباب 1 من أبواب القيام، الحديثان 6 و 7.

451
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

و أما الأخبار المتعرضة لتخليل الخمر ؛ ج‌1، ص : 452

..........

______________________________
و أمر رسول اللّه «ص» بإهراق ما في المدينة من الخمور بنحو الإطلاق حين ما نزل تحريمها لعلّه كان حكما سياسيّا موسميّا لتحكيم حرمة الخمر في بدو تشريعها و قلع مادّة الفساد و قطع عذر المعتادين و مالكي الخمور، إذ كان من الممكن تهيئتهم أو شراؤهم لها متعذرين بأنّها للتخليل أو للتداوي لا للشرب المحرّم، أو أنّ منفعة التخليل كان مغفولا عنها في زمانه «ص» و لم يكن موردا لتوجه أرباب الخمور. و أمره «ص» بإهراق ما أهدي له «ص» قضيّة في واقعة شخصيّة، فلعلّ هذه الخمر لم تكن ممّا يمكن تخليلها و لم تكن محتاجا إليها للتداوي. و بالجملة فإذا فرض إمكان التخليل أو التداوي بها و جوازهما شرعا فلم لا يجوز بيعها بقصدهما؟ و المعاملات شرّعت لمبادلة الأمتعة لدى الحاجة.

و قد مرّ أنّ المستفاد من رواية تحف العقول بعد ضمّ بعض فقراتها إلى بعض أنّ ما اشتمل على جهتين- جهة صلاح للعباد و جهة فساد- فبيعه لجهة الصلاح يكون حلالا، و إنّما يحرم بيع ما تمحّض في الفساد أو كان التقلّب فيه و بيعه لأجل جهة الفساد. و كذلك ما مرّ من عبارة فقه الرضا. و هذا هو الموافق للعقل و الاعتبار، و يقتضيه مناسبة الحكم و الموضوع.

و أمّا الأخبار المتعرّضة لتخليل الخمر

فكثيرة ذكرها في الوسائل في أبواب الأشربة المحرمة «1»، فلنذكر بعضها:

1- صحيحة زرارة عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: سألته عن الخمر العتيقة تجعل خلا؟

قال: «لا بأس.» «2»

______________________________
(1) راجع الوسائل 17/ 296، كتاب الأطعمة و الأشربة، الباب 31 من أبواب الأشربة المحرّمة.

(2) نفس المصدر و الباب، الحديث 1.

452
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

و أما الأخبار المتعرضة لتخليل الخمر ؛ ج‌1، ص : 452

..........

______________________________
2- موثّقة عبيد بن زرارة، قال: سألت أبا عبد اللّه «ع» عن الرجل يأخذ الخمر فيجعلها خلا؟ قال: «لا بأس.»
«1»

أقول: ظاهر الخبرين جعل الخمر خلا بالعلاج لا انقلابها بنفسها. و لعلّ إطلاق الأخذ يعمّ الأخذ من الغير أيضا بالشراء و نحوه، فتأمّل.

3- موثقة أبي بصير، قال: سألت أبا عبد اللّه «ع» عن الخمر يجعل خلا؟ قال: «لا بأس إذا لم يجعل فيها ما يغلبها.» «2»

4- صحيحة محمّد بن مسلم و أبي بصير عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: سئل عن الخمر يجعل فيها الخلّ؟ فقال: «لا إلّا ما جاء من قبل نفسه.» «3»

5- موثّقة أخرى لأبي بصير، قال: سألت أبا عبد اللّه «ع» عن الخمر يصنع فيها الشي‌ء حتّى تمحض؟ قال: «إن كان الذي صنع فيها هو الغالب على ما صنع فلا بأس به.» «4»

قال في الوسائل: «ذكر الشيخ أنّه خبر شاذّ متروك لأنّ الخمر نجس ينجس ما حصل فيها.» ثمّ قال: «و هو محمول على الانقلاب لا الامتزاج و الاستهلاك.» «5»

6- و لأبي بصير رواية رابعة عنه «ع» أنّه سئل عن الخمر تعالج بالملح و غيره لتحول خلا؟ قال: «لا بأس بمعالجتها.» قلت: فإني عالجتها و طيّنت رأسها ثمّ كشفت عنها‌

______________________________
(1) نفس المصدر و الباب، الحديث 3.

(2) نفس المصدر و الباب، الحديث 4.

(3) نفس المصدر و الباب، ص 297، الحديث 7.

(4) نفس المصدر و الباب، ص 296، الحديث 2.

(5) نفس المصدر و الباب؛ و التهذيب 9/ 119، باب الذبائح و الأطعمة، ذيل الحديث 246.

453
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

و المستفاد من مجموع الأخبار: ؛ ج‌1، ص : 454

..........

______________________________
فنظرت إليها قبل الوقت فوجدتها خمرا أ يحلّ لي إمساكها؟ قال: «لا بأس بذلك، إنّما إرادتك أن يتحوّل الخمر خلا و ليس إرادتك الفساد.»
«1» إلى غير ذلك من الأخبار في هذا المجال فراجع.

و المستفاد من مجموع الأخبار:

أنّ ما يلقى في الخمر لعلاجها إن كان قليلا يستهلك فيها ثمّ تنقلب خلا فلا بأس به، و إن كان كثيرا غالبا على الخمر ففيه بأس.

هذا كلّه في الخمر التي تصنع عادة للشرب و الإسكار و تعارف شربها لذلك بين أهلها.

حكم الكحول الطبّية و الصناعية

و أمّا التي يكون صنعها و توليدها عادة لا للشرب و الإسكار بل لمصالح أخر عقلائية كالكحول التي تستعمل في تجلية الأخشاب و الدروب أو إيقاد السراج أو للتزريقات و دفع الجراثيم المضرّة أو نحو ذلك من المنافع العقلائية المحلّلة و يكون المعاملة عليها بهذه الدواعي فالظاهر عدم الإشكال في جواز بيعها لذلك و إن فرض كونها في أعلى مراتب الإسكار لانصراف الأخبار عن ذلك جدّا.

بل قد يقال بطهارتها أيضا و إن قلنا بنجاسة الخمر لاحتمال كون أدلّة النجاسة ناظرة إلى ما تعارف شربه للإسكار، فيكون حكم الشارع بنجاستها بداعي استقذار الناس لها و اجتنابهم عنها. فلا تعمّ ما لم يتعارف شربه و تنصرف عنه و إن كان مسكرا. نظير انصراف أدلّة المنع عن الصلاة في أجزاء ما لا يؤكل لحمه عن أجزاء الإنسان، فتدبّر.

______________________________
(1) نفس المصدر و الباب، ص 298، الحديث 11.

454
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

بعض آخر من أخبار التخليل ؛ ج‌1، ص : 455

[بعض آخر من أخبار التخليل]

و في بعض الأخبار: يكون لي على الرجل دراهم فيعطيني خمرا.

قال: «خذها و أفسدها.» (1) قال ابن أبي عمير: يعني اجعلها خلا.

و المراد به إمّا أخذ الخمر مجانا ثمّ تخليلها، أو أخذها و تخليلها لصاحبها ثمّ أخذ الخلّ وفاء عن الدراهم.

______________________________
(1) أقول: هذا أيضا من أخبار تخليل الخمر. رواه في الوسائل عن الشيخ بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن محمّد بن أبي عمير و عليّ بن حديد جميعا عن جميل، قال: قلت لأبي عبد اللّه «ع»: يكون لي على الرجل الدراهم فيعطيني بها خمرا؟ فقال:

«خذها ثمّ أفسدها.» قال عليّ: و اجعلها خلا «1»

و الظاهر أنّ المقصود ب‍ «عليّ» عليّ بن حديد بن السند لا عليّ أمير المؤمنين «ع» و إن احتمله الأستاذ الإمام «2». و يحتمل كون: «و اجعلها خلا» من تتمة الرواية بنقل عليّ لا تفسيرا من قبل نفسه.

و ذكر المصنّف بدل عليّ: ابن أبي عمير، و هو من سبق القلم.

و قد ذكر المصنّف هذا الخبر بعنوان المعارض لما حكم به أوّلا من حرمة التكسّب بالخمر، بتقريب أنّ أخذ الخمر عوضا عن الدين يكون نحو تكسّب بها، إذ مآله إلى المعاوضة بين الدراهم و بين الخمر.

ثمّ أجاب عن ذلك بوجهين:

الأوّل: أخذ الخمر مجانا ثمّ تخليلها لنفسه.

______________________________
(1) الوسائل 17/ 297، كتاب الأطعمة و الأشربة، الباب 31 من أبواب الأشربة المحرّمة، الحديث 6.

(2) المكاسب المحرمة للإمام الخمينى- قدّس سرّه- 1/ 30.

455
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

بعض آخر من أخبار التخليل ؛ ج‌1، ص : 455

..........

______________________________
الثاني: أخذها أمانة و تخليلها لصاحبها ثمّ أخذ الخلّ وفاء.

أقول: الظاهر أنّ جواب الإمام «ع» مبنيّ على عدم سقوط الخمر عن الماليّة و الملكيّة رأسا، لإمكان الانتفاع بها بنحو التخليل. فعلاقة المالك باقية بالنسبة إليها إمّا بنحو الملكيّة أو بنحو الحقّ القابل للمعاوضة. و إنما الممنوع شرعا المعاملة عليها نحو ما يعامل عليها الفسّاق و شرّاب الخمور أعني البيع بقصد الشرب المحرّم. و على هذا فيجوز أخذها وفاء عن الدين ثمّ تخليلها لنفسه، و الأمر بالإفساد للإرشاد إلى طريق الانتفاع المحلّل.

و أمّا ما ذكره المصنّف من الوجهين فأورد في مصباح الفقاهة على الأوّل منهما بأنّ أخذها مجانا ثمّ تخليلها لنفسه لا يوجب سقوط الدين عن ذمّة الغريم. و على الثاني بأن تخليلها لصاحبها لا يصحّح أخذ الخلّ وفاء ما لم يأذن المالك في ذلك. و المالك إنّما أذن في أخذ الخمر وفاء لا في أخذ الخلّ «1».

أقول: يمكن أن يدافع عن الوجه الأوّل بأن قبول ما يعطيه المديون بعنوان دينه ملازم لإبراء ذمّته منه.

و عن الثاني بأنّ إذنه تعلّق بهذه العين الخارجيّة بذاتها وفاء و هو مطلق شامل لجميع حالاتها و تطوّراتها و ليس مقيّدا بحالة خمريّتها فقط، فتأمّل. هذا.

و المحقّق الإيرواني في حاشيته بعد مناقشة ما ذكره المصنّف من الوجهين قال: «مع أنّ هذا مبنيّ على اجتهاد ابن أبي عمير من كون المراد من الإفساد التخليل، لم لا يكون المراد منه جعلها خمرا فاسدا لا يرغب فيها؟ و ليس في الرواية إشارة إلى أخذها بدلا عن الدراهم. نعم مجرّد إيهام لا حجيّة فيه، فيحكم ببقاء الدراهم في الذمة. و أمّا الخمر‌

______________________________
(1) مصباح الفقاهة 1/ 87، حرمة التكسّب بالخمر و كل مسكر مائع.

456
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الأمر الثالث: صحة بيع أهل الذمة بعضهم من بعض ؛ ج‌1، ص : 457

..........

______________________________
فيفسدها حسما لمادّة الفساد.»
«1»

أقول: قد مرّ ورود أخبار مستفيضة بجواز تخليل الخمر و لو بعلاج، فلا يجب إهراقها أو إفسادها بنحو لا يرغب فيها قطعا، فلا محالة يراد بإفسادها جعلها خلا. و ظاهر قوله «ع» في جواب سؤال السائل: «خذها ثمّ أفسدها» جواز أخذها بدل الدراهم و إلّا لقال: أفسدها و لك ما كان عليه من الدراهم. و ابن أبي عمير في كلام الإيرواني أيضا من سبق القلم.

الأمر الثالث: [صحة بيع أهل الذمّة بعضهم من بعض]

لا يخفى أنّ محلّ البحث في مسألة بيع الخمر صورة كون المتبايعين أو أحدهما مسلما. و أما أهل الذمّة فيصحّ معاملاتهم عليها فيما بينهم على نحو ما مرّ في معاملة الخنزير، بمعنى أنّه يترتّب على معاملاتهم لهما آثار الصحّة فيجوز أخذ ثمنهما منهم بإزاء الدين أو الجزية أو نحو ذلك و قد مرّ تفصيل ذلك في بيع الخنزير، فراجع.

[الأمر الرابع:] بيع الجامد من المسكرات

الأمر الرابع: قال الإيرواني «ره» في حاشيته في ذيل قول المصنّف: و كلّ مسكر مائع قال: «التخصيص بالمائع لأجل أنّ النجس من المسكرات هو ما كان مائعا. و الكلام فعلا في بيع الأعيان النجسة. لا لاختصاص حرمة البيع به، فإنّ الحرمة عامّة، لعموم حرمة الانتفاع بالمسكر. لكنك عرفت أنّ مناط المنع في النجس أيضا هو حرمة الانتفاع به، فكلّ المسكرات يحرم بيعها بمناط واحد.» «2»

أقول: ما ذكره أخيرا من أنّ مناط المنع في النجس أيضا هو حرمة الانتفاع به كلام‌

______________________________
(1) حاشية المحقّق الإيروانى على المكاسب/ 6، في الأعيان النجسة.

(2) نفس المصدر، ص 6.

457
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

و استدل للمنع بوجوه: ؛ ج‌1، ص : 458

 

..........

______________________________
متين و قد كنا نصرّ عليه تبعا لما ذكره المصنّف أيضا في مبحث بيع الميتة ناسبا له إلى الأعلام. فذكرهم للنجاسات نوعا مستقلا ممّا يحرم الاكتساب به لعلّه من جهة أنّ المتبادر ممّا لا منفعة له في النوع الثالث ما ليس له منفعة أصلا، و أمّا النجاسات فربّما يكون لها منافع عقلائيّة كالميتة و الخنزير و نحوهما و لكنّها غير مشروعة. و الجامع بين النوعين ما لا منفعة له إمّا خارجا أو بحسب حكم الشرع. و رتبنا على ما ذكر جواز المعاملة على النجس إذا كان له منافع محلّلة عقلائيّة و وقع البيع بلحاظها. ففي المقام أيضا نقول: يحرم الانتفاع بالمسكر الجامد و لا يصحّ بيعه أيضا إذا فرض انحصار منفعته في الإسكار المحرّم، و أمّا إذا لم ينحصر في ذلك و كان له منافع طبيّة أو كيمياويّة صالحة للمجتمع فأيّ مانع من بيعه لذلك؟ نظير الأفيون الذي لا ينحصر منفعته في التخدير به بل ربّما ينتفع به في الأدوية و المعاجين النافعة، فتدبّر.

و استدلّ للمنع بوجوه:

الأوّل: أنّ المستفاد من كلام بعض أهل اللغة أن الخمر اسم لكلّ ما يخامر العقل و يخالطه

، فتشمل المسكرات الجامدة أيضا، و لا محالة تعمّها ما ورد في حرمة بيع الخمر. و قد مرّ عن الراغب في المفردات قوله: «و الخمر سمّيت لكونها خامرة لمقرّ العقل، و هو عند بعض الناس اسم لكلّ مسكر، و عند بعض اسم للمتّخذ من العنب و التمر ...» «1»

و في المصباح المنير: «و يقال: هي اسم لكلّ مسكر خامر العقل أي غطّاه.» «2»

و فيه مضافا إلى اختلافهم في ذلك أن نظر القائلين بالتعميم إلى المسكرات المائعة فقط، بداهة عدم صدق عنوان الخمر على مثل الحشيش و نحوه من المسكرات الجامدة.

______________________________
(1) مفردات الراغب/ 160.

(2) المصباح المنير 1/ 248.

 

458
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الثاني: صحيحة عمار بن مروان عن أبي جعفر«ع»، ؛ ج‌1، ص : 459

الثاني: صحيحة عمّار بن مروان عن أبي جعفر «ع»،

______________________________
و فيها: «و السّحت أنواع كثيرة:

منها أجور الفواجر و ثمن الخمر و النبيذ و المسكر و الربا بعد البيّنة. الحديث.» «1»

حيث يستفاد منها حرمة الثمن و بطلان المعاملة في كلّ مسكر و لو كان جامدا.

و فيه: أنّ الاستدلال مبنيّ على ما في الوسائل و التهذيب من عطف المسكر على النبيذ، و لكنّه في الكافي الذي هو أحفظ و أصحّ غالبا بحذف الواو، فيكون لفظ المسكر وصفا للنبيذ لإخراج ما ليس بمسكر منه، فراجع. «2»

و يشهد لذلك نقل الخبر عن الخصال و المعاني أيضا بحذف الواو. «3»

و قد دلّ خبر الكلبي النسابة عن أبي عبد اللّه «ع» على كون النبيذ على قسمين:

مسكر حرام و غير مسكر حلال، فراجع «4».

هذا مضافا إلى أنّ مجرّد الاحتمال و الاختلاف في النقل يكفي في بطلان الاستدلال، و إلى ما مرّ سابقا من استعمال لفظ السحت في كثير من المكروهات أيضا مثل كسب الحجّام، فراجع «5».

الثالث: ما روي عن النّبيّ «ص» من قوله: «كلّ مسكر حرام»:

ففي صحيحة الفضيل بن يسار قال: ابتدأني أبو عبد اللّه «ع» يوما من غير أن أسأله فقال: قال رسول اللّه «ص»:

______________________________
(1) الوسائل 12/ 62، كتاب التجارة، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

(2) راجع التهذيب 6/ 368، الحديث 183 من المكاسب؛ و الكافى 5/ 126، كتاب المعيشة، باب السحت، الحديث 1.

(3) الوسائل 12/ 64، كتاب التجارة، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 12.

(4) الوسائل 1/ 147، كتاب الطهارة، الباب 2 من أبواب الماء المضاف، الحديث 2.

(5) الوسائل 12/ 62، كتاب التجارة، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2.

459
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الرابع: ما مر في صحيحة علي بن يقطين عن أبي الحسن الماضي«ع» ؛ ج‌1، ص : 460

..........

______________________________
«كلّ مسكر حرام.» قال: قلت: أصلحك اللّه، كلّه؟ قال: «نعم، الجرعة منه حرام.»
«1»

و في خبر عطاء بن يسار عن أبي جعفر «ع» قال: قال رسول اللّه «ص»: «كلّ مسكر حرام و كلّ مسكر خمر. «2»

و مرّ عن مسلم بإسناده إلى ابن عمر قال: قال رسول اللّه «ص»: «كلّ مسكر خمر و كلّ مسكر حرام.» «3»

و فيه أوّلا: أنّ الظاهر من الحرمة في الروايات حرمة الاستعمال بقصد الإسكار فلا تدلّ على حرمة الانتفاعات الأخر و البيع لأجلها، و قد مرّ منّا جوازهما في المسكرات المائعة أيضا.

و ثانيا: أنّ الظاهر من الروايات إرادة خصوص المسكرات المائعة، كما يشهد بذلك قوله في آخر صحيحة الفضيل: «نعم، الجرعة منه حرام.» و في صحيحة أخرى له عن أبي عبد اللّه «ع» قال: «حرّم اللّه الخمر بعينها، و حرّم رسول اللّه «ص» المسكر من كلّ شراب فأجاز اللّه له ذلك ... فكثير المسكر من الأشربة نهاهم عنه نهي حرام و لم يرخّص فيه لأحد.» «4»

الرابع: ما مرّ في صحيحة عليّ بن يقطين عن أبي الحسن الماضي «ع»

من قوله: «فما كان عاقبته عاقبة الخمر فهو خمر.» و في خبر آخر له عنه «ع»: «فما فعل فعل الخمر فهو خمر.» «5»

بتقريب أنّ ظاهر التنزيل ترتيب جميع آثار الخمر أو آثارها الظاهرة التي منها حرمة البيع.

______________________________
(1) الوسائل 17/ 259، كتاب الأطعمة و الأشربة، الباب 15 من أبواب الأشربة المحرّمة، الحديث 1.

(2) الوسائل 17/ 260، كتاب الأطعمة و الأشربة، الباب 15 من أبواب الأشربة المحرّمة، الحديث 5.

(3) صحيح مسلم 3/ 1587، كتاب الأشربة، باب بيان أنّ كلّ مسكر خمر ...، الحديثان 73 و 74.

(4) الوسائل 17/ 259، كتاب الأطعمة و الأشربة، الباب 15 من أبواب الأشربة المحرّمة، الحديثان 1 و 2.

(5) الوسائل 17/ 273، كتاب الأطعمة و الأشربة، الباب 19 من أبواب الأشربة المحرّمة، الحديثان 1 و 2.

460
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الرابع: ما مر في صحيحة علي بن يقطين عن أبي الحسن الماضي«ع» ؛ ج‌1، ص : 460

..........

______________________________
و فيه أوّلا: أنّ النظر في هذا التعميم إلى المسكرات المائعة في قبال من خصّ الحرمة المطلقة بخصوص خمر العنب أو العنب و التمر فقط. و لم يعهد إطلاق لفظ الخمر على المسكرات الجامدة كالحشيش و نحوه، إلّا أن يقال: إنّ باب التنزيل و المجاز أوسع من ذلك.

و ثانيا: أنّ كون التنزيل بلحاظ جميع الآثار حتّى في الجوامد يقتضي الحكم بنجاسة المسكرات الجامدة أيضا و لم يقل به أحد. فالمراد منه بالنسبة إليها الآثار الظاهرة فقط، و كون حرمة البيع منها غير واضح، و المتيقّن منها حرمة الشرب و الاستعمال للإسكار.

هذا. و قد مرّ منّا عدم الفرق بين المائعات و الجوامد في أنّ بيعها بلحاظ الاستعمال المتعارف الموجب للإسكار حرام و فاسد، و بلحاظ المنافع المحلّلة العقلائيّة حلال و صحيح، فلاحظ.

461
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

المسألة الثامنة: المعاوضة على الأعيان المتنجسة الغير القابلة للطهارة ؛ ج‌1، ص : 462

 

[المسألة الثامنة: المعاوضة على الأعيان المتنجسة الغير القابلة للطهارة]

الثامنة: يحرم المعاوضة على الأعيان المتنجسة الغير القابلة للطهارة إذا توقّف منافعها المحلّلة المعتدّ بها على الطهارة. (1)

______________________________
8- المعاوضة على الأعيان المتنجسة ...

(1) أقول: الشي‌ء المتنجّس إمّا أن يقبل التطهير كالثوب و نحوه و كالماء على القول بطهارته بمجرد الاتصال بالكر أو الجاري، و إمّا أن لا يقبل التطهير كالدهن و الزيت المائعين إذا تنجّسا. و الثاني إمّا أن يمكن الانتفاع به شرعا مع نجاسته كالزيت المتنجّس للاستصباح أو لتدهين السفن مثلا و الدبس المتنجّس لإطعام النحل، و إمّا أن لا يمكن ذلك.

ظاهر المصنّف جواز المعاوضة في القسمين الأوّلين، فيختصّ حرمة المعاوضة بما لا يقبل الطهارة و لا نفع له شرعا مع نجاسته.

ففي الحقيقة يكون البحث فيما لا قيمة له و لا ماليّة بلحاظ الشرع و إن كان يعدّ مالا عند من لا يعتني بالشرع.

و الظاهر صحّة هذا التفصيل، و سيظهر وجهه.

[نقل بعض كلمات الأعلام في المسألة]

و الأولى نقل بعض كلمات الأعلام في المسألة:

1- قال الشيخ في مكاسب النهاية: «و كلّ طعام أو شراب حصل فيه شي‌ء من الأشربة المحظورة أو شي‌ء من المحظورات و النجاسات فإنّ شربه و عمله و التجارة فيه‌

 

462
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

نقل بعض كلمات الأعلام في المسألة ؛ ج‌1، ص : 462

..........

______________________________
و التكسّب به و التصرّف فيه حرام محظور.»
«1»

2- و في المبسوط ما ملخّصه: «و أمّا النجس بالمجاورة فإمّا أن يكون جامدا أو مائعا. فإن كان جامدا فالنجاسة إن كانت ثخينة تمنع النظر إليه فلا يجوز بيعه. و إن كانت رقيقة لا تمنع من النظر جاز بيعه. و إن كان مائعا فإن كان ممّا لا يطهر بالغسل مثل السمن فلا يجوز بيعه. و إن كان ممّا يطهر بالغسل مثل الماء يجوز بيعه إذا طهر.» «2»

أقول: ظاهره أنّ الماء النجس القابل للطهارة لا يجوز بيعه قبل تطهيره، مع أنّ الظاهر جواز بيعه على هذا الفرض إذا فرض له قيمة و ماليّة.

3- و في بيع الغنية: «و قيدنا بكونها مباحة تحفّظا من المنافع المحرّمة، و يدخل في ذلك كلّ نجس لا يمكن تطهيره إلّا ما أخرجه الدليل من بيع الكلب المعلّم للصيد و الزيت النجس للاستصباح به تحت السماء، و هو إجماع الطائفة.» «3»

أقول: لا يخفى ظهور عبارته في دوران حرمة البيع و حلّيته مدار حرمة المنافع و حلّيتها كما قلنا به فيما مرّ. فليست النجاسة مانعة بنفسها.

4- و في التذكرة: «و ما عرضت له النجاسة إن قبل التطهير صحّ بيعه و يجب إعلام المشتري بحاله، و إن لم يقبله كان كنجس العين.» «4»

5- و في المنتهى ما ملخّصه: «القسم الثاني من قسمي النجس و هو الأعيان الطاهرة بالأصالة إذا أصابها نجاسة. فإمّا أن تكون جامدة كالثوب و شبهه فهذا يجوز بيعه‌

______________________________
(1) النهاية/ 364، كتاب المكاسب، باب المكاسب المحظورة و المكروهة و المباحة.

(2) المبسوط 2/ 167، كتاب البيوع، فصل في حكم ما يصحّ بيعه و ما لا يصحّ.

(3) الجوامع الفقهية/ 524 (ط. أخرى/ 586)، كتاب البيع من الغنية.

(4) التذكرة 1/ 464، كتاب البيع، المقصد الأوّل، الفصل الرابع.

463
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

نقل بعض كلمات الأعلام في المسألة ؛ ج‌1، ص : 462

..........

______________________________
إجماعا. و الثاني أن تكون مائعة، فحينئذ إمّا أن لا تطهر كالخلّ و الدبس فهذا لا يجوز بيعه إجماعا كالأعيان النجسة، و إمّا أن تطهر كالماء ففيه للشافعي و جهان: أحدهما أنّه لا يجوز بيعه لأنّه نجس لا يمكن غسله، و الثاني يجوز بيعه لأنّه يطهر بالماء فأشبه الثوب النجس، و الآخر عندي أقوى ...»
«1»

أقول: المتيقّن من الإجماع على عدم جواز البيع في مثل الخلّ و الدبس- على فرض تحقّقه- صورة عدم وجود المنفعة المحلّلة لهما، فلو فرض وجودها كما في الدبس لإطعام النحل مثلا أو الزيت للاستصباح به فالإجماع منصرف عنه و لا وجه لعدم جواز بيعه لذلك. نعم يشكل الاستفادة من عسل النحل حينئذ، إذ تحقّق الاستحالة مشكل.

6- و في المستند في عداد ما يحرم التكسّب به قال: «و منها المائعات النجسة ذاتا أو عرضا كان التكسّب بها بالبيع أو غيره و إن قصد بها نفع محلّل و أعلم المشتري بحالها إن لم يقبل التطهير إجماعا كما عن الغنية و المنتهى و ظاهر المسالك. و مع قبولها له على الأصحّ وفاقا لظاهر الحلّي بل التهذيب بل الخلاف و نهاية الشيخ حيث صرّح فيهما بوجوب إهراق الماء النجس ...» «2»

أقول: قد مرّ أنّه مع وجود المنفعة العقلائية المحلّلة للشي‌ء المتنجّس لا نرى وجها لحرمة التكسّب به و إن لم يقبل التطهير كالزيت المتنجّس للاستصباح به. و كذا الماء المتنجّس إذا فرض الانتفاع به مع نجاسته كسقي الحيوان أو الشجر به فصار بذلك مالا يرغب فيه و يبذل بإزائه المال عرفا لإعواز الماء في المحلّ. و كأنّه- قدس سرّه- كان متعبّدا‌

______________________________
(1) المنتهى 2/ 1010، كتاب التجارة، المقصد الثانى، البحث الأوّل، النوع الأوّل.

(2) مستند الشيعة 2/ 332، كتاب مطلق الكسب و الاقتناء، المقصد الثالث، الفصل الثانى.

464
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

نقل بعض كلمات الأعلام في المسألة ؛ ج‌1، ص : 462

..........

______________________________
بالإجماع المدّعى على عدم جواز المعاوضة على النجس مطلقا. و قد عرفت أنّ المتيقّن منه- على فرض تحقّقه- صورة عدم وجود المنفعة المحلّلة له، فالنجاسة بنفسها ليست مانعة.

و أمّا طهارة الماء المتنجس بمجرد الاتصال بالكر أو الجاري فمحلّ إشكال و إن اختاره البعض، إذ النجاسة في المائع تسري إلى عمقه و جميع أجزائه، فمجرّد اتّصال الماء الطاهر بأحد سطوحه لا يكفي في تطهّره كما في سائر الأشياء المتنجّسة بعمقها و سطوحها.

و إنّما يطهر لو فرض استيلاء الكرّ على جميع الأجزاء النجسة، و لازم ذلك غلبة الماء الطاهر عليها و استهلاك النجس بكلّه فيه.

و القائل بالطهارة بمجرد الاتّصال يعتمد على ما قالوه من أنّ المائين بالاتّصال يصيران ماء واحدا حقيقة بضميمة الإجماع المدّعى على أنّ الماء الواحد له حكم واحد و حيث إنّ الكر أو الجاري طاهر فالمتّحد معه أيضا صار طاهرا.

و يرد على ذلك منع تحقّق الإجماع بنحو يكشف عن قول المعصوم «ع»، بل الظاهر بطلان ذلك. ألا ترى أنّه إذا وجد هنا ماء واحد أزيد من الكرّ فتغير بعضه بوصف النجاسة و كان الباقي كرّا فهنا ماء واحد محكوم بحكمين، إذ تغيّر البعض لا يجعل الماء الواحد مائين بعد بقاء اتّصالهما، نظير ماء واحد ملوّن كلّ طرف منه بلون. و على هذا فحكم الماء المتنجّس المتصل بالكرّ بلا خلط به حكم الزيت أو الدبس المتنجّس المتّصل به.

و أمّا ما عن أبي جعفر «ع» مشيرا إلى ماء غدير: «إنّ هذا لا يصيب شيئا إلّا طهّره» «1»

و ما عن أبي عبد اللّه «ع»: «كلّ شي‌ء يراه ماء المطر فقد طهر» «2» فمضافا إلى ضعفهما‌

______________________________
(1) المختلف 1/ 3، كتاب الطهارة، الفصل الأوّل في الماء القليل.

(2) الوسائل 1/ 109، كتاب الطهارة، الباب 6 من أبواب الماء المطلق، الحديث 5.

465
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

نقل بعض كلمات الأعلام في المسألة ؛ ج‌1، ص : 462

..........

______________________________
يظهر منهما بمناسبة الحكم و الموضوع لزوم إحاطة المطهّر بالشي‌ء المتنجّس بحيث يصيب كلّ جزء منه فلا يكفي إصابته لجزء منه في طهارة الجميع كما هو الشرط في طهارة سائر الأشياء.

و بالجملة يشكل الحكم بطهارة الماء المتنجّس بمجرد اتصاله بالكر و نحوه. هذا.

و لكن مع ذلك نقول بجواز بيعه قبل تطهيره إذا فرضت له منفعة محلّلة مقصودة كما مرّ.

و الأمر بإهراق المائين المشتبهين في أخبارنا «1» ليس لوجوب الإهراق تعبّدا و لا لعدم جواز الانتفاع بهما فيما لا يتوقّف على الطهارة كسقي الحيوان أو الشجر مثلا. بل هو كناية عن عدم جواز التوضّي بهما و لزوم صرف النظر عنهما.

و لم يكن الماء النجس أو المشتبه غالبا ذا أهميّة و قيمة بحيث ينتفع به و يرغب فيه حتّى يبذل بإزائه المال أو يكون إهراقه تبذير للمال، فتدبّر.

و بالجملة ليس ذكر الشيخ و غيره لهذه الأخبار في كتبهم دليلا على حكمهم بعدم جواز الانتفاع بالماء النجس أو عدم جواز بيعه.

7- و في حاشية المحقّق المامقاني في ذيل كلام المصنّف في المقام: «هذا الحكم ممّا لا خلاف فيه و لا إشكال، بل هو مما قام عليه الإجماع، و لا أشكال في كونه مجمعا عليه.» «2»

8- و في الفقه على المذاهب الأربعة عن المالكيّة: «و كذلك لا يصحّ بيع المتنجّس الذي لا يمكن تطهيره كزيت و عسل و سمن وقعت فيه نجاسة على المشهور ... أمّا المتنجّس الذي يمكن تطهيره كالثوب فإنه يجوز بيعه. و يجب على البائع أن يبيّن ما فيه من النجاسة، فإن لم يبيّن كان للمشتري حقّ الخيار ...»‌

______________________________
(1) الوسائل 1/ 124، كتاب الطهارة، الباب 12 من أبواب الماء المطلق، الحديث 1.

(2) حاشية المكاسب (غاية الآمال) للمحقق المامقانى/ 27.

466
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

ما يستدل به للمنع ؛ ج‌1، ص : 467

[ما يستدل به للمنع]

لما تقدّم من النبويّ: «إنّ اللّه إذا حرّم شيئا حرّم ثمنه» و نحوه المتقدّم عن دعائم الإسلام. (1) و أمّا التمسّك بعموم قوله «ع» في رواية تحف العقول: «أو شي‌ء من وجوه النجس» ففيه نظر، لأنّ الظاهر من وجوه النجس العنوانات النجسة لأنّ ظاهر الوجه هو العنوان.

نعم يمكن الاستدلال على ذلك بالتعليل المذكور بعد ذلك و هو قوله «ع»: «لأنّ ذلك كلّه محرّم أكله و شربه و لبسه» إلى آخر ما ذكر. (2)

______________________________
و عن الحنابلة: «أما الدهن الذي سقطت فيه نجاسة فإنّه لا يحلّ بيعه و لكن يحلّ الانتفاع به في الاستضاءة في غير المسجد ...»‌

و عن الحنفيّة: «و يصحّ بيع المتنجّس و الانتفاع به في غير الأكل، فيجوز أن يبيع دهنا متنجّسا ليستعمله في الدبغ و دهن عدد الآلات و الماكينات و نحوها و الاستضاءة به في غير المسجد ...» «1»

أقول: كلام الحنفيّة منهم أولى و أصحّ كما لا يخفى. هذه ما أردنا نقله من الكلمات في المسألة.

(1) حيث قال: «و ما كان محرّما أصله منهيّا عنه لم يجز بيعه و لا شراؤه.» «2»

(2) عبارة رواية التحف هكذا: «لأنّ ذلك كلّه منهي عن أكله و شربه و لبسه و ملكه و إمساكه و التقلّب فيه بوجه من الوجوه لما فيه من الفساد.» «3»

______________________________
(1) الفقه على المذاهب الأربعة 2/ 231 و 232، كتاب البيع، مبحث بيع النجس و المتنجّس.

(2) دعائم الإسلام 2/ 19، كتاب البيوع ...، الفصل الثانى.

(3) تحف العقول/ 333.

467
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

ما يستدل به للمنع ؛ ج‌1، ص : 467

..........

______________________________
أقول: قد تحصّل ممّا ذكروه في المقام أن المتنجّس إمّا جامد أو مائع، و المائع إمّا أن يقبل التطهير أو لا، و ما لا يقبله إمّا أن تكون له منفعة عقلائيّة محلّلة أو لا.

و يظهر من البعض حرمة المعاوضة على المائع مطلقا، فيكون وزانه وزان الأعيان النجسة عندهم. و ربّما يدّعون الإجماع على ذلك كما ادّعوه في الأعيان النجسة.

و لكن الظاهر من عبارة المصنّف هنا اختصاص حرمة المعاوضة بما لا يقبل التطهير و لا يكون له في حال نجاسته منفعة محلّلة، و هو الأقوى عندنا، إذ مع قبول التطهير أو وجود المنفعة المحلّلة المقصودة لا نرى وجها للمنع عن بيعه، فيشمله أدلّة العقود و البيع و التجارة من غير فرق في ذلك بين الجامد و المائع.

و الإجماع على كون النجاسة بنفسها مانعة عن صحّة المعاملة حتّى مع وجود المنفعة المحلّلة ممنوع، لما عرفت من رجوع كثير من كلماتهم إلى جعل المانع عدم المنفعة المحلّلة.

فالمتيقّن من معقد الإجماع- على فرض تحقّقه- صورة عدم المنفعة المحلّلة أو وقوع المعاملة بلحاظ المحرمة منها. و إلى ذلك أيضا تنصرف أخبار المنع حتّى رواية تحف العقول، للتعليل بقوله: «لما فيه من الفساد.»‌

ثمّ إن الظاهر وضوح الحكم فيما لا يقبل التطهير و لا يكون له منفعة محلّلة مع نجاسته، لعدم كون المتنجّس حينئذ مالا يرغب فيه بلحاظ الشرع. و المعاوضات أمور عقلائيّة أمضاها الشارع و قد شرّعت لمبادلة الأموال و الحاجات المشروعة.

و أمّا ما استدل بها المصنّف من الأخبار فضعفها مانع عن الاستدلال بها، نعم تصلح للتأييد. و قد مرّ شرح الروايات في أوائل الكتاب، فراجع.

و ناقش في مصباح الفقاهة ما ذكره المصنّف في مقام الاستدلال بما ملخّصه: «أنّه مع‌

468
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

ما يستدل به للمنع ؛ ج‌1، ص : 467

..........

______________________________
ضعفها إن كان المراد بالحرمة فيها الحرمة الذاتية فلا تشمل المتنجّس. و إن كان المراد بها ما تعمّ الحرمة الذاتيّة و العرضية فيلزم على المصنّف أن لا يفرّق حينئذ بينما يقبل التطهير و ما لا يقبله، فإنّ موضوع حرمة البيع على هذا التقدير مطلق ما يتّصف بالنجاسة. و مع الإغضاء عن ذلك فلا دلالة فيها على حرمة بيع المتنجّس، لأنّه إن كان المراد بالحرمة فيها حرمة جميع منافع الشي‌ء أو منافعه الظاهرة فلا تشمل المتنجّس، ضرورة جواز الانتفاع به في غير ما يتوقّف على الطهارة كإطعامه للبهائم أو سائر الانتفاعات المحلّلة. و إن كان المراد بها حرمة الأكل و الشرب فإنّها لا تستلزم حرمة البيع، فإنّ كثيرا من الأشياء يحرم أكلها و شربها و مع ذلك يجوز بيعها. و أمّا دعوى الإجماع على ذلك فجزافيّة، فإنّ مدرك المجمعين هي الوجوه المذكورة.»
«1»

أقول: يمكن أن يقال: إنّ المراد بالحرمة في الروايات هو الأعمّ من الذاتيّة و العرضيّة كما هو ظاهر إطلاقها. و لكنّها تنصرف عمّا يقبل التطهير بسهولة حيث تزول حرمته بذلك.

ثمّ إنّ الظاهر من الحرمة المسندة إلى الذوات بنحو الإطلاق حرمة جميع منافعها أو حرمة منافعها الظاهرة الغالبة. كما أنّ الظاهر من حرمة بيعها- بمناسبة الحكم و الموضوع و بسبب تعليق الحكم على الوصف المشعر بالعلّية و الدخالة- ما إذا وقع البيع بلحاظ هذه المنافع المحرمة، فلا يحرم بيعها بلحاظ المنافع المحلّلة و إن كانت نادرة بشرط كونها عقلائيّة موجبة لماليّة الشي‌ء، و قد التزمنا في الأعيان النجسة أيضا بجواز بيعها بقصد المنافع المحلّلة حتّى في مثل الخمر للتخليل و جلد الميتة للاستقاء به، فراجع.

و الإجماع في كلا البابين- على فرض تحقّقه- منصرف إلى صورة عدم المنفعة المحلّلة‌

______________________________
(1) مصباح الفقاهة 1/ 89، جواز بيع المتنجس.

469
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

ما يستدل به للمنع ؛ ج‌1، ص : 467

..........

______________________________
أو وقوع البيع بلحاظ المحرّمة منها. و بعبارة أخرى: الإجماع دليل لبّي، فيؤخذ بالقدر المتيقّن من معقده. هذا.

و ربّما يستدلّ للمنع في المقام بقوله- تعالى-: وَ لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالْبٰاطل «1» بتقريب أنّ أخذ الثمن في مقابل ما لا نفع له أكل له بالباطل، و الباطل أعمّ ممّا بطل عرفا أو شرعا.

و فيه ما مرّ من أنّ الاستدلال مبنيّ على كون الباء في قوله: بالْبٰاطل للمقابلة، نظير ما تدخل على الأثمان في المعاوضات. و لكنّ الظاهر كونها للسببيّة، فأريد بالنهي في الآية النهي عن تصرّف الأموال بالأسباب الباطلة كالقمار و السرقة و نحوهما.

و يشهد لذلك استثناء التجارة عن تراض التي هي من قبيل الأسباب للنقل و الانتقال، فلا نظر في الآية إلى العوضين و ماهيّتهما.

و ربّما يقال بإلحاق كلّ متنجّس بما يتنجّس به في أحكامه إلّا فيما ثبت استثناؤه، و من أحكام النجس حرمة البيع: فالمتنجّس بالخمر بحكم الخمر، و المتنجّس بالميتة بحكم الميتة و هكذا.

و استشهد لذلك بما رواه جابر عن أبي جعفر «ع»، قال: أتاه رجل فقال: وقعت فأرة في خابية فيها سمن أو زيت، فما ترى في أكله؟ قال: فقال له أبو جعفر «ع»: «لا تأكله.»‌

فقال له الرجل: الفأرة أهون عليّ من أن أترك طعامي من أجلها! قال: فقال له أبو جعفر «ع»:

«إنّك لم تستخفّ بالفأرة و إنّما استخففت بدينك، إنّ اللّه حرّم الميتة من كلّ شي‌ء.» «2»

و السند ضعيف بعمرو بن شمر.

و تقريب الاستدلال أنّ تمسّك الإمام «ع» في الذيل بالكبرى المذكورة مع عدم انطباقها‌

______________________________
(1) سورة البقرة (2)، الآية 188.

(2) الوسائل 1/ 149، كتاب الطهارة، الباب 5 من أبواب الماء المضاف، الحديث 2.

470
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

هل يجب إعلام المشتري بالنجاسة أم لا؟ ؛ ج‌1، ص : 471

..........

______________________________
على المورد أعني الطعام المتنجّس لا يتمّ إلّا بتنزيل المتنجّس بالميتة منزلة الميتة، و يتعدّى منها إلى غيرها بإلغاء الخصوصيّة أو عدم القول بالفصل.

و ناقش ذلك الأستاذ الإمام «ره» بقوله: «الظاهر أنّه لم يتمسّك بالكبرى لإثبات حرمة الزيت و السّمن بل بعد بيان حرمتها بقوله: «لا تأكله» لما قال الرجل ما قال أراد بيان أنّ الميتة من الفأرة و غيرها حرام بحكم اللّه- تعالى- و الاستخفاف إنّما هو بحكمه- تعالى- لا بها، مع احتمال تفسّخ الفأرة و إرادة الرجل أكل الزيت بما فيه، تأمّل.

مضافا إلى عدم دلالة الرواية بوجه على إرادة التنزيل، فإنّ إرادته من تلك العبارة في غاية البعد، بل لا تخلو من استهجان فضلا عن استفادة عموم التنزيل و عن إسراء الحكم إلى سائر المتنجّسات كلّ بحسبه فيقال بإسراء حكم كلّ نجس إلى ما تنجّس به.» «1»

أقول: يمكن أن يقال: إنّ ظهور الكبرى المذكورة في الملازمة بين حرمة الميتة و حرمة ملاقيها واضح و لكنّها لا تدلّ على الملازمة في جميع الأحكام بل في حرمة الأكل فقط، فلا تدلّ على حرمة البيع و فساده، كما لا تدلّ على ثبوت الحدّ لمن تناول ملاقي الخمر مثلا.

اللّهم إلّا أن يتمّم ذلك بقوله «ع»: «إنّ اللّه إذا حرّم شيئا حرّم ثمنه.» و العرف أيضا يساعد على الملازمة بين الخبيث و بين ما يجاوره و يلاقيه في الاشميزاز و التنفّر منه.

هل يجب إعلام المشتري بالنجاسة أم لا؟

بقي الكلام فيما في بعض الكلمات التي مرّت من وجوب إعلام المشتري بالنجاسة إن باع المتنجّس. فهل يجب ذلك لحرمة استعمال النجس فيما يتوقّف على الطهارة كالأكل و الشرب و الصلاة فيحرم التسبيب إليه.

______________________________
(1) المكاسب المحرمة للإمام الخمينى- قدس سرّه- 1/ 20، في المائعات المتنجّسة.

471
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

هل يجب إعلام المشتري بالنجاسة أم لا؟ ؛ ج‌1، ص : 471

..........

______________________________
أو لا يجب لأنّ المشتري معذور بجهله و اعتماده على أصل الطهارة و لا يكون عاصيا، و الإعلام يوجب المشقّة عليه فلا وجه لإلقائه فيها.

أو يفرّق بين ما يستعمل عادة في الأكل و الشرب كالسمن و الزيت و نحوهما و بين ما يستعمل للصلاة و نحوها كالثوب فيجب الإعلام في القسم الأوّل دون الثاني، إذ في القسم الأوّل يكون المنهيّ عنه استعمال النجاسة بوجودها الواقعي لوجود المفسدة فيها فيكون استعمالها قبيحا و مبغوضا بالذات و إن وقع عن جهل المباشر، فلا يجوز الإقدام في تحققه تسبيبا. و بعبارة أخرى نفس الفعل قبيح و مبغوض لوجود المفسدة فيه و إن كان الفاعل المباشر معذورا فيكون السبب مقدما على فعل قبيح.

بخلاف القسم الثاني، حيث إنّ الصلاة في النجس مع عدم العلم بالنجاسة صحيحة واقعا و لا تقصر بحسب الملاك عن الصلاة مع الطهارة الواقعيّة إذ المانع عن صحّتها هو العلم بالنجاسة لا نفسها. فلا نرى وجها لوجوب إعلامها؟ في المسألة وجوه.

و الأظهر هو الوجه الثالث و يشهد لهذا التفصيل بعض الأخبار:

فيشهد لوجوب الإعلام في القسم الأوّل ما دلّ على وجوب الإعلام في الزيت المتنجّس، كخبر معاوية بن وهب و غيره عن أبي عبد اللّه «ع» في جرذ مات في زيت، ما تقول في بيع ذلك؟ فقال: «بعه و بيّنه لمن اشتراه ليستصبح به.» و نحوه خبر أبي بصير و الأعرج السمان. «1»

و يشهد لعدم الوجوب في القسم الثاني موثقة ابن بكير قال: سألت أبا عبد اللّه «ع» عن رجل أعار رجلا ثوبا فصلى فيه و هو لا يصلي فيه. قال: «لا يعلمه.» قال: قلت: فإن أعلمه؟ قال: «يعيد» «2».

______________________________
(1) راجع الوسائل 12/ 66، كتاب التجارة، الباب 6 من أبواب ما يكتسب به.

(2) الوسائل 2/ 1069، كتاب الطهارة، الباب 47 من أبواب النجاسات، الحديث 3.

 

472
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

حكم بيع المسوخ ؛ ج‌1، ص : 473

 

[حكم بيع المسوخ]

ثمّ اعلم أنّه قيل بعدم جواز بيع المسوخ من أجل نجاستها. (1) و لمّا كان الأقوى طهارتها لم يحتج إلى التكلّم في جواز بيعها هنا. نعم لو قيل بحرمة البيع لا من حيث النجاسة كان محلّ التعرّض له ما سيجي‌ء من أنّ كلّ طاهر له منفعة محلّلة مقصودة يجوز بيعه.

و سيجي‌ء ذلك في ذيل القسم الثالث ممّا لا يجوز الاكتساب به لأجل عدم المنفعة فيه.

______________________________
و الأمر بالإعادة محمول على الاستحباب أو الإعلام في أثناء الصلاة لعدم وجوب الإعادة لو كان بعدها كما يشهد بذلك صحيحة الفيض
«1» هذا.

و لكن يمكن أن يقال بافتراق الثوب المستعار موقتا لصلاة عن الثوب أو الفرش الذي يشترى، حيث إنّهما دائما في معرض الملاقاة بالرطوبة و السراية فتسري النجاسة بالمآل في جميع ما يتزاوله الإنسان حتّى في مأكله و مشربه، و على هذا فالأحوط الإعلام فيهما أيضا.

حكم بيع المسوخ

[بعض كلمات الفقهاء في المقام]

(1) أقول: يظهر من بعض الكلمات أنّ العلّة في المنع عن بيعها نجاستها، و من بعضها عدم النفع لها. و حيث إنّ أكثر المسوخ من السباع فيمكن أن يستدلّ لها بما ورد في الانتفاع بالسباع و حكمها، فلنتعرّض لبعض كلمات الأصحاب:

1- ففي المقنعة بعد ذكر حرمة بيع الميتة و الدم و الخنزير و الأعيان النجسة قال:

______________________________
(1) نفس المصدر و الباب، الحديث 4.

 

473
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

بعض كلمات الفقهاء في المقام ؛ ج‌1، ص : 473

..........

______________________________
«و التجارة في القردة و السباع و الفيلة و الذئبة و سائر المسوخ حرام و أكل أثمانها حرام.»
«1»

أقول: ليس في كلامه هذا اسم من نجاسة المسوخ و أنّها العلّة لحرمة بيعها و ثمنها.

نعم في ذكرها في خلال النجاسات إشعار بذلك.

2- و قال الشيخ في بيع الخلاف (المسألة 308): «لا يجوز بيع شي‌ء من المسوخ مثل القرد و الخنزير و الدبّ و الثعلب و الأرنب و الذئب و الفيل و غير ذلك ممّا سنبيّنه. و قال الشافعي: كلّ ما ينتفع به يجوز بيعه مثل القرد و الفيل و غير ذلك. دليلنا إجماع الفرقة.

و أيضا قوله «ع»: «إن اللّه إذا حرّم شيئا حرّم ثمنه.» و هذه الأشياء محرّمة اللحم بلا خلاف إلّا الثعلب فإنّ فيه خلافا. و هذا نصّ.» «2»

أقول: ادّعاؤه إجماع الفرقة على منع البيع في جميع ما ذكر عجيب، إلّا أن يكون المنع عنده من جهة النجاسة و يريد الإجماع على أصل الكبرى أعني عدم جواز بيع النجس.

3- و فيه أيضا (المسألة 306): «القرد لا يجوز بيعه. و قال الشافعي: يجوز بيعه. دليلنا إجماع الفرقة على أنّه مسخ نجس، و ما كان كذلك لا يجوز بيعه بالاتّفاق.» «3»

أقول: لعلّ معقد الإجماع المدّعى كونه مسخا، و أمّا النجاسة فحكم رتّبه هو عليه على اعتقاده و إلّا فليس نجاسة القرد إجماعيّة.

4- و في النهاية: «و بيع سائر المسوخ و شراؤها و التجارة فيها و التكسّب بها محظور مثل القردة و الفيلة و الدببة و غيرها من أنواع المسوخ.» «4»

______________________________
(1) المقنعة/ 589، باب المكاسب.

(2) كتاب الخلاف 3/ 184 (ط. أخرى 2/ 82)، كتاب البيوع.

(3) كتاب الخلاف 3/ 183 (ط. أخرى 2/ 81)، كتاب البيوع.

(4) النهاية/ 364، كتاب المكاسب، باب المكاسب المحظورة و المكروهة و المباحة.

474
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

بعض كلمات الفقهاء في المقام ؛ ج‌1، ص : 473

..........

______________________________
5- و في المبسوط: «و إن كان نجس العين مثل الكلب و الخنزير و الفأرة و الخمر و الدّم و ما توالد منهم و جميع المسوخ و ما توالد من ذلك أو من أحدهما فلا يجوز بيعه و لا إجارته و لا الانتفاع به و لا اقتناؤه بحال إجماعا إلّا الكلب فإنّ فيه خلافا.»
«1»

أفول: قوله: «و ما توالد من ذلك أو من أحدهما» مبنيّ على الغالب و إلّا فلو فرض كون الولد من جنس الحيوانات المحلّلة اللحم و شبيها بها في الصورة و الآثار فالظاهر إلحاقه بها كما إذا تولّدت شاة من اجتماع كلب و شاة مثلا.

و ليس في عبارة النهاية ظهور في كون المنع في المسوخ من جهة النجاسة و إن كان ذكرها في خلال ذكر النجاسات مشعرا بذلك. و لكن عبارة المبسوط ظاهرة في ذلك.

و قد صرّح في أطعمة الخلاف (المسألة 2) بنجاسة المسوخ كلّها فقال: «الحيوان على ضربين: طاهر و نجس، فالطاهر: النعم بلا خلاف و ما جرى مجراها من البهائم و الصيد.

و النجس: الكلب و الخنزير و المسوخ كلّها. و قال الشافعي: الحيوان طاهر و نجس، فالنجس الكلب و الخنزير فحسب و الباقي كلّه طاهر. و قال أبو حنيفة: الحيوان على أربعة أضرب:

طاهر مطلق و هو النعم و ما في معناها، و نجس العين و هو الخنزير، و نجس نجاسته تجري مجرى ما ينجس بالمجاورة و هو الكلب و الذئب (الدبّ- خ.) و السباع كلّها، و مشكوك فيه و هو الحمار. دليلنا إجماع الفرقة و أخبارهم ...» «2»

6- و في الفقه على المذاهب الأربعة عن الحنابلة: «و يجوز بيع سباع البهائم كالفيل و السّبع و نحوهما ...»‌

______________________________
(1) المبسوط 2/ 165، كتاب البيوع، فصل في ما يصحّ بيعه و ما لا يصحّ.

(2) كتاب الخلاف 3/ 264، كتاب الأطعمة.

475
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

بعض كلمات الفقهاء في المقام ؛ ج‌1، ص : 473

..........

______________________________
و عن الحنفيّة: «و يصحّ بيع كلب الصيد و الحراسة و نحوه من الجوارح كالأسد و الذئب و الفيل و سائر الحيوانات سوى الخنزير إذا كان ينتفع بها أو بجلودها على المختار ...

و الضابط في ذلك أنّ كلّ ما فيه منفعة تحلّ شرعا فإنّ بيعه تجوز.» «1»

أقول: و الأقوى عدم نجاسة المسوخ و انحصار النجس من الحيوان في الكلب و الخنزير كما مرّ عن الشافعي. و ادّعاء الخلاف إجماع الفرقة على نجاستها عجيب.

و في صحيحة الفضل أبي العباس قال: سألت أبا عبد اللّه «ع» عن فضل الهرّة و الشاة و البقرة و الإبل و الحمار و الخيل و البغال و الوحش و السباع فلم أترك شيئا إلّا سألته عنه فقال: «لا بأس به» حتى انتهيت إلى الكلب فقال: «رجل نجس لا تتوضّأ بفضله و اصبب ذلك الماء و اغسله بالتراب أوّل مرّة ثمّ بالماء.» «2»

و راجع في هذا المجال خبر معاوية بن شريح أيضا «3». و تحقيق المسألة يطلب من كتاب الطهارة.

ثم على فرض القول بنجاستها فلو كان لها أو لأجزائها منافع عقلائيّة محلّلة كما في جلود السباع و عظام الفيل بل و لحومها أيضا للتسميد أو لإطعام الكلاب أو الطيور و عدّت لأجل ذلك مالا عند العقلاء و المتشرعة فلا نرى وجها للمنع عن بيعها. و قد مرّ منّا جواز بيع جميع النجاسات لذلك، و يشمله أدلّة العقود و البيع و التجارة على القول بإطلاقها و يساعده الاعتبار أيضا. و قد حملنا أدلّة المنع و منها الإجماع المدّعى على صورة عدم المنفعة المحلّلة أو وقوع البيع بلحاظ المحرّمة منها.

و في السّرائر بعد ما حكى عن الشيخ المنع عن التكسّب بالفيلة و الدببة و غيرهما من‌

______________________________
(1) الفقه على المذاهب الأربعة 2/ 232، كتاب البيع، مبحث النجس و المتنجّس.

(2) الوسائل 1/ 163، الباب 1 من أبواب الأسآر، الحديث 4.

(3) نفس المصدر و الباب، الحديث 6.

476
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الروايات الواردة على جواز الانتفاع بجلود السباع ؛ ج‌1، ص : 477

..........

______________________________
أنواع المسوخ قال: «فيه كلام، و ذلك أنّ كلّ ما جعل الشارع و سوّغ الانتفاع به فلا بأس ببيعه و ابتياعه لتلك المنفعة و إلّا يكون قد حلّل و أباح و سوّغ شيئا غير مقدور عليه.

و عظام الفيل لا خلاف في جواز استعمالها مداهن و أمشاطا و غير ذلك.» «1»

[الروايات الواردة على جواز الانتفاع بجلود السباع]

و قد استفاضت الروايات على جواز الانتفاع بجلود السباع، و هي تشمل بإطلاقها المسوخ منها أيضا:

1- ففي صحيحة علي بن يقطين قال: سألت أبا الحسن «ع» عن لباس الفراء و السّمور و الفنك و الثعالب و جميع الجلود. قال: «لا بأس بذلك.» «2»

2- و في موثّقة سماعة قال: سألته عن لحوم السباع و جلودها. فقال: «أمّا لحوم السباع فمن الطير و الدوابّ فإنّا نكرهه. و أمّا الجلود فاركبوا عليها و لا تلبسوا منها شيئا تصلّون فيه.» «3»

3- و في صحيحة عليّ بن جعفر «ع» عن أخيه قال: سألته عن ركوب جلود السباع فقال: «لا بأس ما لم يسجد عليها.» «4»

إلى غير ذلك من الأخبار في هذا المجال.

4- و قد دلّت موثّقة أخرى لسماعة على قبول السباع للتذكية، فتصير جلودها بذلك مذكّاة طاهرة و إن حرم لحمها: قال: سألته عن جلود السباع أ ينتفع بها؟ فقال: «إذا رميت و سمّيت فانتفع بجلده، و أمّا الميتة فلا.» «5»

______________________________
(1) السرائر 2/ 220، في حكم التكسّب بالأطعمة و الأشربة المحظورة و النجاسات.

(2) الوسائل 3/ 255، كتاب الصلاة، الباب 5 من أبواب لباس المصلّى، الحديث 1.

(3) نفس المصدر و الباب، ص 256، الحديث 3.

(4) نفس المصدر و الباب، ص 256، الحديث 5.

(5) الوسائل 16/ 368 (ط. أخرى 16/ 453)، كتاب الأطعمة و الأشربة، الباب 34، الحديث 4.

477
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

ما استدل أو يمكن أن يستدل به للمنع ؛ ج‌1، ص : 478

..........

______________________________
5- و في رواية عبد الحميد بن سعيد قال: سألت أبا إبراهيم «ع» عن عظام الفيل يحلّ بيعه أو شراؤه الذي يجعل منه الأمشاط؟ فقال: «لا بأس، قد كان لي منه مشط أو أمشاط.»
«1»

[ما استدل أو يمكن أن يستدل به للمنع]

و أمّا ما استدل أو يمكن أن يستدل به للمنع فوجوه:

الوجه الأوّل: ما في كلام الشيخ «ره» من نجاسة المسوخ.

و فيه أوّلا: منع ذلك.

و عمدة ما استدل به لنجاستها توهّم دلالة حرمة أكلها على نجاستها، و مرسلة يونس عن بعض أصحابه عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: سألته هل يحلّ أن يمسّ الثعلب و الأرنب أو شيئا من السباع حيّا أو ميّتا؟ قال: «لا يضرّه و لكن يغسل يده.» «2» مع وضوح أنّ حرمة الأكل لا تستلزم النجاسة.

و غسل اليد في المرسلة يمكن منع إطلاقه فيحمل على صورة المسّ ميتا مع الرطوبة.

كيف؟! و لا يجب الغسل مع الجفاف قطعا. و يمكن حمله على المطلوبيّة المطلقة الجامعة بين الوجوب و الاستحباب أيضا بقرينة صحيحة الفضل الماضية و غيرها الصريحة في عدم البأس بفضل السباع.

و ثانيا: ما مرّ منّا من أنّ النجاسة بنفسها غير مانعة عن صحّة البيع مع فرض وجود المنفعة العقلائيّة المحلّلة.

الوجه الثاني: ما مرّ عن الخلاف و المبسوط من دعوى الإجماع على المنع.

و فيه مضافا إلى احتمال كونه مدركيّا مبتنيا على ما ذكروه من الأدلّة فليس دليلا‌

______________________________
(1) الوسائل 12/ 123، كتاب التجارة، الباب 37 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2.

(2) الوسائل 2/ 1050، كتاب الطهارة، الباب 34 من أبواب النجاسات، الحديث 3.

478
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الوجه الثالث: ما عن النبي«ص»: ؛ ج‌1، ص : 479

..........

______________________________
مستقلّا: أنّ الإجماع دليل لبّي يقتصر على المتيقّن من معقده، و المتيقّن منه في المقام كما مرّ صورة عدم المنفعة المحلّلة أو وقوع البيع بلحاظ المحرّمة منها.

الوجه الثالث: ما عن النّبيّ «ص»:

«إنّ اللّه إذا حرّم شيئا حرّم ثمنه.» كما مرّ عن الخلاف الاستدلال به.

و فيه أوّلا: أنّه لم يرد من طرقنا و لم يثبت صحّته. و نقل الشيخ و أمثاله لأمثال هذه الروايات العاميّة و الاستدلال بها لا يجبر ضعفها، إذ بناؤهم في أمثال هذه الكتب الاستدلاليّة على المحاجّة مع أهل الخلاف، فيذكرون كثيرا من رواياتهم جدلا، و هذا النحو من الاستدلال الجدلي كان شائعا بين فقهائنا المتقدّمين. و ما يجبر الضعف- على القول به- هو الشهرة العمليّة لا الاستدلالات الجدليّة.

و ثانيا: أنّ كلمة الأكل مذكورة في أكثر نقول هذه الرواية كما مرّ في أوائل الكتاب و لا يمكن الالتزام بحرمة ثمن كلّ ما حرم أكله، فلا محالة يراد به ما شاع أكله عادة و يقع البيع بلحاظ أكله.

و ثالثا: ما مرّ منّا من أنّ مقتضى مناسبة الحكم و الموضوع و تعليق الحكم بحرمة الثمن على حرمة الشي‌ء اختصاص حرمة الثمن و فساد المعاملة بصورة وقوع البيع بلحاظ المنافع المحرّمة، فتدبّر.

الوجه الرابع: ما عن الجعفريات

بسنده عن عليّ بن أبي طالب «ع»، قال: «من السّحت ثمن الميتة و ثمن اللقاح و مهر البغيّ و كسب الحجام ... و ثمن القرد و جلود السباع.

الحديث.» «1»

______________________________
(1) مستدرك الوسائل 2/ 426، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

479
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الوجه الرابع: ما عن الجعفريات ؛ ج‌1، ص : 479

..........

______________________________
و عن دعائم الإسلام عنه «ع» أنّه قال: «من السحت ثمن جلود السباع.»‌

و فيه مضافا إلى عدم ثبوت حجّية الكتابين: عدم مقاومة الخبرين لما مرّ من أدلّة الجواز، فيحملان على الكراهة. و السّحت كثيرا ما يطلق على المكروهات أيضا مثل كسب الحجّام، فراجع ما حرّرناه سابقا في معناه.

و لعلّهم كانوا يلبسونها في الصلاة مثل العامّة فورد النهي بلحاظ ذلك، فتدبّر.

480
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الاكتساب بالمستثنيات من الأعيان النجسة تذكر في مسائل أربع ؛ ج‌1، ص : 481

[الاكتساب بالمستثنيات من الأعيان النجسة تذكر في مسائل أربع]

و أمّا المستثنى من الأعيان المتقدّمة فهي أربعة تذكر في مسائل أربع: (1)

______________________________
الاكتساب بالمستثنيات من الأعيان النجسة تذكر في مسائل أربع

(1) لو قيل بعدم كون النجاسة بنفسها مانعة مستقلّة عن صحّة البيع بل يكون المنع في النجاسات من جهة عدم المنفعة المحلّلة فيها أو وقوع البيع بلحاظ المحرّمة منها كما قوّيناه في خلال بحثنا إلى هنا فلا نحتاج إلى البحث عن المستثنيات مستقلا، إذ على هذا يكون الجميع على مساق واحد و يكون الجواز و المنع في الجميع دائرين مدار وجود المنفعة العقلائية المحلّلة و عدمها. بل نقول: إنّ نفس المستثنيات بلحاظ وجود المنافع المحلّلة فيها أدلّ دليل على ما قوّيناه من دوران الجواز و المنع مدار ذلك.

و أمّا على القول بالمنع عن بيع النجاسات مطلقا تعبّدا و كونها بنفسها عنوانا مستقلا للمنع كما هو ظاهر كلمات الأصحاب بل ادّعوا عليه الإجماع كما مرّ فالبحث عن الاستثناءات ممّا لا بدّ منه كما صنعه المصنّف.

481
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

المسألة الاولى: جواز بيع المملوك الكافر ؛ ج‌1، ص : 482

 

[المسألة الاولى: جواز بيع المملوك الكافر]

الأولى: يجوز بيع المملوك الكافر أصليّا كان أو مرتدّا ملّيا (1) بلا خلاف

______________________________
المسألة الاولى: جواز بيع المملوك الكافر

[أنواع الكافر و المرتدّ]

(1) الكافر إمّا أصليّ باق على كفره أو مرتدّ أي من سبق منه الإسلام إجمالا ثم كفر.

و المرتدّ على قسمين: فطري و ملّي. فالفطري من ولد على الإسلام بأن كان أبواه أو أحدهما مسلما ثمّ دخل في الكفر. و قيل: من ولد على الإسلام و وصف بالإسلام حين بلغ أو حين صار مميّزا ثمّ كفر. و الملّي من أسلم عن كفر أصلي ثمّ رجع ثانيا إلى الكفر.

و كلّ منهما إمّا رجل أو امرأة.

و قد ثبت في محلّه أنّ الفطري إن كان رجلا لا يقبل توبته ظاهرا، و إن قيل بقبولها بينه و بين اللّه كما هو الأقوى، فيتحتّم قتله من قبل الحاكم الإسلامي و تبين منه زوجته و تعتدّ منه عدّة الوفاة و تقسم أمواله بين ورثته. و إن كان امرأة لم تقتل بل تحبس و يضيّق عليها حتّى تتوب أو تخلد في السّجن.

و الملّي إن كان رجلا يستتاب ثلاثة أيّام أو بمقدار يمكن معه رجوعه فإن تاب و إلّا قتل، و لا تزول منه أملاكه ما دام حيّا، و ينفسخ العقد بينه و بين زوجته و لكنّه مراعى على انقضاء عدّتها فإن تاب فيها رجع إليها. و إن كانت امرأة فكالفطريّة.

 

482
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

كلمات الفقهاء في المقام ؛ ج‌1، ص : 483

ظاهر بل ادّعي عليه الإجماع و ليس ببعيد (1). كما يظهر للمتتبّع في المواضع المناسبة لهذه المسألة كاسترقاق الكفّار، و شراء بعضهم من بعض، و بيع العبد الكافر إذا أسلم على مولاه الكافر، و عتق الكافرة، و بيع المرتدّ، و ظهور كفر العبد المشترى على ظاهر الإسلام، و غير ذلك.

[كلمات الفقهاء في المقام]

______________________________
(1) أقول: 1- قسم الشيخ الطوسي «ره» في بيوع المبسوط
«1» الآدميّ المملوك إلى ما ثبت له سبب العتق كأمّ الولد مثلا و إلى ما لم يثبت. فحكم في القسم الثاني بجواز البيع، و أمّا في غير الآدمي من الحيوان ففصّل بين الطاهر منه و النجس فحكم في نجس العين منه بعدم جواز بيعه، فيظهر منه عدم التفصيل في الآدمي بين الطاهر منه و النجس، و هم يقولون بنجاسة الكافر.

2- و قال العلّامة في التحرير: «و يجوز التجارة في الجارية النصرانيّة و المغنّية بالبيع و الشراء.» «2»

3- و في المنتهى: «يجوز التجارة في الجارية النصرانيّة و المغنّية بالبيع و الشراء لأنّهما عينان تملكان فصحّ أخذ العوض بحقّهما كسائر الأعيان المملوكة، و لا نعلم فيه خلافا.» «3»

4- و في التذكرة: «المرتدّ إن كان عن فطرة ففي صحّة بيعه نظر ينشأ من تضادّ الحكمين، و من بقاء الملك فإنّ كسبه لمولاه. أمّا عن غير فطرة فالوجه صحة بيعه لعدم تحتّم قتله لاحتمال رجوعه إلى الإسلام.» «4»

______________________________
(1) المبسوط 2/ 165، كتاب البيوع، فصل في حكم ما يصحّ بيعه و ما لا يصحّ.

(2) تحرير الأحكام/ 162، كتاب المتاجر، الفصل الثانى فيما يكره التكسّب به و فيه.

(3) المنتهى 2/ 1023، كتاب التجارة، المقصد الثانى، البحث الثانى.

(4) التذكرة 1/ 466، كتاب البيوع، المقصد الأوّل، الفصل الرابع.

483
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

التعرض لمدارك الإجماع المدعى في المسألة ؛ ج‌1، ص : 484

 

..........

______________________________
5- و في مفتاح الكرامة بعد الإشارة إلى ما مرّ من المبسوط و ابتنائه على قبول الكافر للتطهير بسبب الإسلام قال: «و قد يكون الرقّ الكافر خارجا بالأخبار و الإجماع لا بأنّ الإسلام مطهّر له، إذ قلّ من عدّه في المطهّرات فلعلّه عندهم كالاستحالة.

و جميع النجاسات يقبل الطهارة بها فمرادهم بقبول الطهارة قبولها بغير الاستحالة.» «1»

6- و في الجواهر بعد الإشارة إلى جواز البيع في بعض الكلاب قال: «كما أنّه لا إشكال في جوازه بأخيه أي الكافر حربيّا كان أم ذمّيا لمسلم كان أم لكافر ذمّي أو حربي و إن كان هو من الأعيان النجسة إلّا أنّ ذلك لا يمنع من بيعه بإجماع المسلمين و النصوص ...» «2»

أقول: فأنت ترى ادّعاء بعضهم الإجماع أو عدم العلم بالخلاف في المسألة كما ذكر المصنّف. و لكنّ الظاهر عدم كون مسألة جواز بيع الكافر بعنوانه و كلّيته معنونة في كلمات القدماء من أصحابنا فضلا عن كونها مجمعا عليها، و إنّما التقط الإجماع المدّعى من المسائل المختلفة المعنونة في أبواب متفرّقة. و كون الإجماع كذلك حجّة بنفسه كاشفا عن قول المعصومين- عليهم السلام- مشكل.

[التعرض لمدارك الإجماع المدّعى في المسألة]

فالعمدة ملاحظة المسائل المختلفة التي التقط منها هذا الإجماع بمداركها، و قد أشار إليها المصنّف، فلنتعرض لها إجمالا و التفصيل يطلب من محلّه:

الأولى و الثانية: استرقاق الكفّار، و شراء بعضهم من بعض.

و إنما يدلّ الاسترقاق‌

______________________________
(1) مفتاح الكرامة 4/ 12، كتاب المتاجر، المحرمات من المتاجر.

(2) الجواهر 22/ 23، كتاب التجارة، الفصل الأوّل.

 

484
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الأولى و الثانية: استرقاق الكفار، و شراء بعضهم من بعض ؛ ج‌1، ص : 484

..........

______________________________
على جواز البيع من جهة أنّه يوجب الملكيّة و جاز الانتفاع به في الخدمات و النكاح و الكفّارات، فصار مالا مرغوبا فيه، و من آثار الملك و المال صحّة المعاملة عليه.

قال المحقّق في بيع الحيوان من الشرائع: «ما يؤخذ من دار الحرب بغير إذن الإمام يجوز تملّكه في حال الغيبة و وطئ الأمة. و يستوي في ذلك ما يسببه المسلم و غيره و إن كان فيها حقّ الإمام أو كانت للإمام.» «1»

و ذيّله في المسالك بما ملخّصه: «أنّ الترديد الأخير للتنبيه على الفرق بين المأخوذ بسرقة و غيلة و نحوهما ممّا لا قتال فيه فهو لآخذه و عليه الخمس، و إن كان بقتال فهو بأجمعه للإمام. و على التقديرين يباح تملّكه حال الغيبة و لا يجب الخمس لإباحة الأئمة «ع» لشيعتهم، و كذا يجوز شراؤه من آخذه. و يمكن أن يكون الترديد للخلاف في أنّ المغنوم بغير إذن الإمام هل هو له كما هو المشهور و وردت به الرواية أم لآخذه و عليه الخمس.» «2»

أقول: المتيقّن من مورد التحليل ما إذا انتقل المغنوم من غيره إليه و لا سيّما من قبل من لا يعتقد بالخمس، و أمّا إذا كان هو بنفسه اغتنمه فشمول أخبار التحليل له مشكل بل الأظهر التخميس لإطلاق الأدلّة.

و في الجواهر في بيان ما يؤخذ من دار الحرب قال: «من أموال و أعراض و أراضي و أشجار و سرايا أو نحو ذلك، بسرقة أو خيانة أو خدعة أو أسر أو قهر من غير جيش أو جيش‌

______________________________
(1) الشرائع/ 315 (ط. أخرى 2/ 59)، كتاب التجارة، الفصل التاسع في بيع الحيوان، المسألة 7 من لواحق الباب.

(2) المسالك 1/ 210، كتاب التجارة، بيع الأناسى.

485
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الأولى و الثانية: استرقاق الكفار، و شراء بعضهم من بعض ؛ ج‌1، ص : 484

..........

______________________________
من غير قهر أو غير ذلك، فهو لآخذه كالمأخوذ بإذنه، لإطلاق ما دلّ من كتاب و سنّة و إجماع على جواز اغتنام مال الكفّار و سبيهم. بل ظاهرهما كونهم و ما في أيديهم من المباحات التي يملكها من يحوزها و يستولي عليها و إنما يلزم فيه الخمس كسائر الغنائم كما أومئ إليه في قوله «ع»: خذ مال الناصب حيث وجدته و ادفع إلينا الخمس.»
«1» هذا.

1- و في صحيحة رفاعة النخّاس قال: قلت لأبي الحسن «ع»: إنّ الرّوم يغيرون على الصقالبة و الروم فيسرقون أولادهم من الجواري و الغلمان فيعمدون إلى الغلمان فيخصونهم ثمّ يبعثون بهم إلى بغداد إلى التّجار فما ترى في شرائهم و نحن نعلم أنّهم قد سرقوا و إنّما أغاروا عليهم من غير حرب كانت بينهم؟ فقال: «لا بأس بشرائهم، إنّما أخرجوهم من الشرك إلى دار الإسلام.» «2»

أقول: في القاموس: «الصقالبة: جيل تتاخم بلادهم بلاد الخزر بين بلغر و قسطنطنية.» «3»

و ربّما ينقدح في الذهن احتمال كونها صقالية بالياء المثناة من تحت، منسوبة إلى جزيرة صقلية (سيسيل) المجاورة للروم.

و دلالة الصحيحة على كون استرقاق الكافر موجبا للملكيّة و جواز شرائه بعد استرقاقه واضحة و إن أمكن المناقشة في جواز الإقدام على الاسترقاق تكليفا بدون‌

______________________________
(1) الجواهر 24/ 229، كتاب التجارة، حكم ما يؤخذ من دار الحرب ...؛ و الرواية في الوسائل 6/ 340، الباب 2 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 6.

(2) الوسائل 13/ 27، كتاب التجارة، الباب 2 من أبواب بيع الحيوان، الحديث 1.

(3) القاموس المحيط 1/ 96.

486
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الأولى و الثانية: استرقاق الكفار، و شراء بعضهم من بعض ؛ ج‌1، ص : 484

..........

______________________________
إذن الإمام أو الحاكم، بل الظاهر منع ذلك بالنسبة إلى الكفّار غير المحاربين مع المسلمين و لا سيّما إذا كان بين دولتهم و دولة الإسلام معاهدات ودّية سياسيّة و اقتصاديّة و لا سيّما إن استلزم ذلك تنقيصا في الإسلام و دعاية على المسلمين كما في أعصارنا. هذا.

و أمّا الإخصاء فالظاهر عدم جوازه، لكونه ظلما فاحشا، و ليس في الصحيحة إشعار بجواز ذلك إذ النظر فيها إلى الشراء بعد ما وقع الاسترقاق و الإخصاء من آخرين، فتدبّر.

و الظاهر من سؤال رفاعة أنّ أسر نساء الكفّار و ذراريهم في الحرب كان أمرا مفروغا عنه مشروعا عنده و لم يكن في ذهنه إشكال من ناحيته لكونه أثرا طبيعيّا للحروب و إنّما استبعد الاستيلاء عليهم و سرقتهم من غير حرب. و قد أشار الإمام «ع» إلى نكتة مشروعية أسرهم سواء كان في الحرب أو في غيره، و محصّلها أنّ أسرهم يوجب هضمهم في خلال بيوت الإسلام تدريجا فيتعلّمون منهم بالطبع موازين الإسلام و يكتسبون جنسيّة إسلاميّة و ينجو المسلمون من شرورهم و هجماتهم الاحتمالية. و قد أوصى الإسلام بتأمين معاشهم و رعاية حقوقهم الإنسانية ثمّ بعد ذلك شرّع طرقا متعددة لتحريرهم و حكم بإعتاقهم أو انعتاقهم القهري في موارد كثيرة بعد ما حصل لهم في محيط الإسلام الانعطاف و التربية الإسلامية، فتدبّر.

2- و في رواية زكريا بن آدم قال: سألت الرضا «ع» عن قوم من العدوّ ... و سألته عن سبي الديلم يسرق بعضهم من بعض و يغير المسلمون عليهم بلا إمام أ يحلّ شراؤهم؟

قال: «إذا أقرّوا لهم بالعبودية فلا بأس بشرائهم.» «1»

______________________________
(1) الوسائل 13/ 27، كتاب التجارة، الباب 2 من أبواب بيع الحيوان، الحديث 3.

487
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الأولى و الثانية: استرقاق الكفار، و شراء بعضهم من بعض ؛ ج‌1، ص : 484

..........

______________________________
3- و في موثقة إبراهيم بن عبد الحميد عن أبي الحسن «ع» في شراء الروميّات؟

فقال: «اشترهنّ و بعهنّ.» «1»

4- و في موثقة إسماعيل بن الفضل قال: سألت أبا عبد اللّه «ع» عن شراء مملوك (مملوكي- التهذيب) أهل الذمّة. قال: «إذا أقرّوا لهم بذلك فاشتر و أنكح.» و نحوها موثّقتا عبد الرحمن و زرارة. «2»

أقول: اشتراط إقرارهم بذلك لعلّه من جهة عدم الاعتناء باليد غير المبالية في الدلالة على الملكيّة.

5- و في خبر عبد اللّه اللّحام قال: سألت أبا عبد اللّه «ع» عن رجل يشتري من رجل من أهل الشرك ابنته فيتّخذها؟ قال: «لا بأس.» و نحوه خبره الآخر عنه «ع» إلّا أنّه ذكر بدل ابنته: امرأة الرجل. «3»

أقول: اللّحام مجهول. و الظاهر من قوله: «فيتّخذها» استرقاقها و اتّخاذها أمة.

6- و في خبر عبد اللّه بن الحسن الدينوري قال: قلت لأبي الحسن «ع»: جعلت فداك، ما تقول في النصرانيّة أشتريها و أبيعها من النصراني؟ فقال «ع»: «اشتر و بع.

الحديث.» «4»

أقول: و جواز استرقاق النساء و الذراري من أهل الحرب بعد الغلبة عليهم في الحروب‌

______________________________
(1) المصدر السابق و الباب، الحديث 2.

(2) الوسائل 13/ 26، كتاب التجارة، الباب 1 من أبواب بيع الحيوان، الحديثان 2 و 1.

(3) الوسائل 13/ 28، كتاب التجارة، الباب 3 من أبواب بيع الحيوان، الحديثان 2 و 3.

(4) الوسائل 12/ 86، كتاب التجارة، الباب 16 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

488
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الثالث من الموارد التي أشار اليها المصنف: بيع العبد الكافر إذا أسلم على مولاه الكافر ؛ ج‌1، ص : 489

..........

______________________________
ممّا ثبت عند الفريقين و استقرّ عليه العمل في الحروب الإسلاميّة.

الثالث من الموارد التي أشار اليها المصنّف: بيع العبد الكافر إذا أسلم على مولاه الكافر.

إذ يظهر منه صحّة مالكيّة الكافر له و يترتّب عليها جواز بيعه و شرائه في حال كفره قهرا. و لو لا مالكيّته لم يكن وجه لإعطائه الثمن بعد بيعه عليه.

و يشهد لبيعه عليه- مضافا إلى قوله- تعالى-: وَ لَنْ يَجْعَلَ اللّٰهُ للْكٰافرينَ عَلَى الْمُؤْمنينَ سَبيلًا «1»، و قوله «ع»: «الإسلام يعلو و لا يعلى عليه» «2»، و ما دلّ على وجوب تعظيم المسلم و حرمة إهانته-: خبر حمّاد بن عيسى عن أبي عبد اللّه «ع» أنّ أمير المؤمنين «ع» أتي بعبد ذمّي قد أسلم فقال: «اذهبوا فبيعوه من المسلمين و ادفعوا ثمنه إلى صاحبه و لا تقرّوه عنده.» «3» و الظاهر عدم الإشكال في المسألة، فراجع الجواهر. «4»

أقول: الاستدلال بقوله «ص»: «الإسلام يعلو و لا يعلى عليه» متوقّف على كونه بمعنى الإنشاء و بيان الحكم الشرعي. و لكن يحتمل كونه إخبارا عن علوّ الإسلام و غلبته من جهة الاستدلال و المنطق المطابق للعقل السليم.

الرابع من الموارد: عتق الكافرة.

حيث يستفاد من ذلك ملكه لها، و الملك قابل للبيع و الشراء.

أقول: لم أعثر أنا على رواية في عتق الأمة الكافرة، فلعلّ الوصف للرقبة لتشمل‌

______________________________
(1) سورة النساء (4)، الآية 141.

(2) الوسائل 17/ 376، كتاب الفرائض و المواريث، الباب 1 من أبواب موانع الإرث، الحديث 11.

(3) الوسائل 12/ 282، كتاب التجارة، الباب 28 من أبواب عقد البيع و شروطه، الحديث 1.

(4) الجواهر 22/ 334 و ما بعدها، كتاب التجارة، عدم جواز بيع عبد المسلم للكافر.

489
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الخامس: بيع المرتد ؛ ج‌1، ص : 490

..........

______________________________
العبد أيضا و قد ورد في عتقه على ما رأيت روايتان:

الأولى: خبر الحسن بن صالح عن أبي عبد اللّه «ع». قال: «إنّ عليّا أعتق عبدا له نصرانيا فأسلم حين أعتقه.»‌

الثانية: خبر أبي البختري، عن جعفر بن محمد، عن أبيه أنّ عليّا «ع» أعتق عبدا له نصرانيا ثمّ قال: «ميراثه بين المسلمين عامّة إن لم يكن له وليّ.» «1»

الخامس: بيع المرتدّ

كما في قصّة بني ناجية، حيث كانوا نصارى فأسلموا ثم رجعوا إلى النصرانيّة فبعث إليهم أمير المؤمنين «ع» معقل بن قيس فقتل مقاتليهم و سبى ذراريهم و أتى بهم عليّا «ع»، فاشتراهم مصقلة بن هبيرة بمائة ألف درهم فأعتقهم و حمل إلى عليّ «ع» خمسين ألفا فأبى أن يقبلها فالحق بمعاوية فخرّب أمير المؤمنين «ع» داره و أجاز عتقهم. «2»

السادس من الموارد: مسألة ظهور كفر العبد المشترى على ظاهر الإسلام.

و لم أقف عاجلا على محلّ التعرض له و الدليل عليه، فتتّبع.

و بالجملة على فرض نجاسة الكافر- كما هو المشهور بين أصحابنا- فله منافع كثيرة في حال كفره غير متوقّفة على الطهارة. و الكافر الأصلي لا يجب قتله و لا المرتدّ على ملّة إذا تاب، فليسا في معرض التّلف و لهما ماليّة عقلائيّة و شرعيّة، فلا وجه لمنع المعاملة عليهما. و قد منعنا كون النجاسة بنفسها مانعة عن صحّة المعاملة. مضافا إلى دلالة الأخبار الواردة في الموارد المختلفة على جواز بيعهما كما مرّ.

______________________________
(1) الوسائل 16/ 19 و 20، الباب 17 من كتاب العتق، الحديثان 2 و 6.

(2) الوسائل 18/ 548، كتاب الحدود و التعزيرات، الباب 3 من أبواب حدّ المرتدّ، الحديث 6.

490
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

في بيع الفطري ؛ ج‌1، ص : 491

[في بيع الفطري]

و كذا الفطري على الأقوى. بل الظاهر أنّه لا خلاف فيه من هذه الجهة، و إن كان فيه كلام من حيث كونه في معرض التلف لوجوب قتله. و لم نجد من تأمّل فيه من جهة نجاسته عدا ما يظهر من بعض الأساطين في شرحه على القواعد، حيث احترز بقول العلّامة: «ما لا يقبل التطهير من النجاسات» عما يقبله و لو بالإسلام كالمرتدّ و لو عن فطرة على أصحّ القولين. فبنى جواز بيع المرتد على قبول توبته. بل بنى جواز بيع مطلق الكافر على قبوله للطهر بالإسلام.

و أنت خبير بأنّ حكم الأصحاب بجواز بيع الكافر نظير حكمهم بجواز بيع الكلب لا من حيث قابليّته للتطهير نظير الماء المتنجّس. و أن اشتراطهم قبول التطهير إنّما هو فيما يتوقّف الانتفاع به على طهارته ليتّصف بالملكية لا مثل الكلب و الكافر المملوكين مع النجاسة إجماعا.

و بالغ تلميذه في مفتاح الكرامة «1» فقال: «أمّا المرتدّ عن فطرة فالقول بجواز بيعه ضعيف جدّا لعدم قبول توبته فلا يقبل التطهير.» ثمّ ذكر جماعة ممّن جوّز بيعه- إلى أن قال-: «و لعلّ من جوّز بيعه بناه على قبول توبته». انتهى.

و تبعه على ذلك شيخنا المعاصر. (1)

______________________________
(1) مراد المصنّف من بعض الأساطين كاشف الغطاء، حيث شرح كتابي‌

______________________________
(1) مفتاح الكرامة 4/ 12، كتاب المتاجر، المحرمات من المتاجر.

491
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

في بيع الفطري ؛ ج‌1، ص : 491

..........

______________________________
الطهارة و المكاسب من القواعد. و مراده من شيخنا المعاصر صاحب الجواهر، حيث قال: «فما عساه يتوهّم من إطلاق بعض الأصحاب تحريم التكسّب بالأعيان النجسة المندرج فيها الكافر في غير محلّه، ضرورة اختصاص الحكم بما لا يقبل الطهارة من الأعيان، لأنّ شرط صحّة البيع طهارة العوضين فعلا أو قوة، و الكافر يقبل الطهارة بالإسلام.»
«1»

أقول: بعد تحقّق المنافع المشروعة للكافر كاستخدامه فيما لا يتوقّف على الطهارة و عتقه في الكفّارات المطلقة و ثبوت الماليّة له بذلك و عموم أدلّة البيع و العقود له يكون توهّم المنع عن بيعه مبتنيا على أحد أمرين: إمّا القول بكون النجاسة بنفسها مانعة عن صحّة المعاملة، أو سقوطه عن الماليّة بمعرضيّته للقتل.

و بعض من جعل النجاسة بنفسها مانعة تخلّص منها في المقام بأنّه مما يقبل الطهارة بالإسلام بناء على قبول توبته و لو كان مرتدّا عن فطرة، فيكون كالماء المتنجّس.

و يرد على ذلك أوّلا: منع مانعيّة النجاسة بنفسها عن الصحّة على ما مرّ منا، بل الملاك في صحّة البيع وجود المنفعة العقلائيّة المحلّلة الموجبة لماليّة الشي‌ء، بل قد مرّ أنّ نفس المستثنيات في هذا الباب حيث تكون بلحاظ وجود المنافع العقلائية المحلّلة فيها أدلّ دليل على دوران الجواز و المنع مدار ذلك.

و ثانيا: ما ذكره المصنّف بنحو أو في من أنّ حكم الأصحاب بجواز بيع الكافر نظير حكمهم بجواز بيع الكلب الصيود مثلا، فيكون من باب الاستثناء لا من حيث قابليّته‌

______________________________
(1) الجواهر 22/ 24، كتاب التجارة، الفصل الأوّل.

492
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

في بيع الفطري ؛ ج‌1، ص : 491

..........

______________________________
للتطهير نظير الماء المتنجّس.

و ثالثا: أنّ الحكم يصير فعليّا بفعليّة موضوعه، فإذا قلنا بمانعيّة النجاسة بنفسها كانت مانعة بوجودها الفعلي سواء كانت قابلة للزوال أم لا. كيف؟! و لو كانت قابليّة الزوال موجبة لصحة البيع لجاز بيع جميع الأعيان النجسة لإمكان زوالها بالاستحالة.

و كونها بذهاب الموضوع غير فارق إلّا أن تخرج بذلك عن الماليّة. على أنّ إمكان طهره بالتوبة لا يستلزم تحقّقه، لاحتمال أن لا يتوب و لا يخرج الإمكان إلى الفعلية أصلا.

لا يقال: لعلّ اعتبار القابليّة من جهة أنّها توجب الرغبة و الماليّة بلحاظ حاله الاستقبالي المترتّب عليه المنافع.

فإنّه يقال: مرجع هذا إلى ما مرّ من دوران الجواز و المنع مدار وجود المنفعة و عدمها.

و المفروض في الكافر أنّه نافع فعلا.

و أمّا كون المرتدّ الفطري في معرض التلف بالقتل:

ففيه أوّلا: أنّ الملّي أيضا يمكن أن لا يتوب فيقتل إن كان رجلا مع أنّهم حكموا بجواز بيعه كما مرّ.

و ثانيا: أنّ مجرد وجوب قتله لا يخرجه عن الماليّة، و قتله خارجا لا يتحقّق إلّا مع وجود حاكم مبسوط اليد و ثبوت ارتداده عنده. نعم احتمال ذلك ربّما يوجب تنزّل قيمته لا سقوطها بالكلية و لذا لو قتله غير الحاكم ضمنه. و هذا يجري في غير مهدور الدم أيضا إذا كان في معرض القتل ظلما.

و ثالثا: أنّه يمكن الانتفاع به مع ذلك بعتقه في الكفّارات المطلقة.

493
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

المملوك المرتد عن فطرة ملك و مال لمالكه ؛ ج‌1، ص : 494

[المملوك المرتدّ عن فطرة ملك و مال لمالكه]

أقول: لا إشكال و لا خلاف في كون المملوك المرتدّ عن فطرة ملكا و مالا لمالكه و يجوز له الانتفاع به بالاستخدام ما لم يقتل. و إنّما استشكل من استشكل في جواز بيعه من حيث كونه في معرض القتل بل واجب الإتلاف شرعا. فكأنّ الإجماع منعقد على عدم المنع من بيعه من جهة عدم قابليّة طهارته بالتوبة.

قال في الشرائع: «و يصحّ رهن المرتدّ و إن كان عن فطرة.»

و استشكل في المسالك من جهة وجوب إتلافه و كونه في معرض التلف، ثمّ اختار الجواز لبقاء ماليّته إلى زمان القتل.

و قال في القواعد: «و يصحّ رهن المرتدّ و إن كان عن فطرة على إشكال.»

و ذكر في جامع المقاصد: «أنّ منشأ الإشكال أنّه يجوز بيعه فيجوز رهنه بطريق أولى، و أنّ مقصود البيع حاصل. (1) و أمّا مقصود الرهن فقد لا يحصل بقتل الفطري حتما، و الآخر قد لا يتوب.» ثم اختار الجواز.

و قال في التذكرة: «المرتدّ إن كان عن فطرة ففي جواز بيعه نظر ينشأ من تضادّ الحكمين (2)، و من بقاء الملك فإنّ كسبه لمولاه. أمّا عن غير فطرة

______________________________
(1) يعني أنّ المقصود منه يحصل بالملك و لو آنا ما، بخلاف الرهن إذ الغرض منه الاستيثاق و لا يحصل إلّا مع دوام الملك و ثباته.

(2) يعني أنّ الحكم بالقتل و الحكم بوجوب الوفاء بالعقد و تسليمه إلى المشتري متضادّان.

494
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

المملوك المرتد عن فطرة ملك و مال لمالكه ؛ ج‌1، ص : 494

فالوجه صحّة بيعه لعدم تحتّم قتله» (1). ثمّ ذكر المحارب الذي لا يقبل توبته (2) لوقوعها بعد القدرة عليه. و استدل على جواز بيعه بما يظهر منه جواز بيع المرتد عن فطرة و جعله نظير المريض المأيوس عن برئه.

نعم منع في التحرير و الدروس عن بيع المرتد عن فطرة و المحارب إذا وجب قتله للوجه المتقدّم عن التذكرة.

بل في الدروس: أنّ بيع المرتدّ عن ملّة أيضا مراعى بالتوبة.

و كيف كان فالمتتبّع يقطع بأنّ اشتراط قابليّة الطهارة إنّما هو فيما يتوقّف الانتفاع المعتدّ به على طهارته.

و لذا قسّم في المبسوط المبيع إلى آدمي و غيره (3) ثم اشتراط الطهارة في غير الآدمي ثمّ استثنى الكلب الصيود.

______________________________
(1) المرتد الملّي أيضا يتحتّم قتله إن كان رجلا و علم بعدم توبته.

(2) يعني من أسر و الحرب قائمة بعد فإنّه يجب قتله، و راجع التذكرة. «1»

(3) راجع المبسوط. «2» و قد مرّ كلامه في أوّل المسألة.

______________________________
(1) التذكرة 1/ 466، كتاب البيوع، المقصد الأوّل، الفصل الرابع.

(2) المبسوط 2/ 165، كتاب البيوع، فصل في حكم ما يصحّ بيعه و ما لا يصحّ.

495
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

المسألة الثانية: المعاوضة على غير كلب الهراش و ذكر بعض أقسام الكلاب النافعة ؛ ج‌1، ص : 496

 

[المسألة الثانية: المعاوضة على غير كلب الهراش و ذكر بعض أقسام الكلاب النافعة]

الثانية: يجوز المعاوضة على غير كلب الهراش في الجملة، بلا خلاف ظاهر إلّا ما عن ظاهر العماني، و لعلّه كإطلاق كثير من الأخبار بأنّ ثمن الكلب سحت، محمول على الهراش، لتواتر الأخبار و استفاضة نقل الإجماع على جواز بيع ما عدا كلب الهراش في الجملة (1).

______________________________
المسألة الثانية: المعاوضة على غير كلب الهراش و ذكر بعض أقسام الكلاب النافعة

[بيان المسألة]

(1) أقول: قد مرّ عن نهاية ابن الأثير قوله: «فيه: يتهارشون تهارش الكلاب أي يتقاتلون و يتواثبون.» «1»

و عن القاموس قوله: «هرش كفرح: ساء خلقه. و التهريش: التحريش بين الكلاب فساد بين الناس.» «2»

فالهراش و العقور المذكور في كلام العلّامة في التذكرة متقاربان، و يراد بهما الكلاب المهملة التي يثب بعضها على بعض، فيكون وجودها مضرّا بالمجتمع و لا يترتّب عليها منفعة عقلائيّة.

و قد مرّ في المسألة السّادسة البحث عن حرمة بيع الكلب إجمالا و كلمات الفريقين في‌

______________________________
(1) النهاية لابن الأثير 5/ 260.

(2) القاموس المحيط 2/ 293.

 

496
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

1 - كلب الصيد السلوقي ؛ ج‌1، ص : 497

 

ثمّ إنّ ما عدا كلب الهراش على أقسام: أحدها: كلب الصيد السّلوقي.

و هو المتيقّن من الأخبار و معاقد الإجماعات الدالّة على الجواز (1).

______________________________
المسألة و الروايات المستفيضة بل المتواترة الواردة فيها من طرقهما، فراجع.

و الغرض هنا البحث فيما استثني من الكلاب. و المتيقّن من موارد المنع الكلب الذي لا خاصيّة له و لا منفعة عقلائية توجب ماليته أو تمحّض منافعه في المحرّمة، كما أنّ المتيقّن من موارد الجواز كلب الصيد إذا كان سلوقيّا المعبّر عنه في عرفنا ب‍ «تازي» و يراد به الكلب العربي، فإنّ السّلوق على ما في الصحاح و القاموس بلدة باليمن تنسب إليها الدروع و الكلاب السّلوقيّة. و قول المصنّف: «في الجملة» لبيان أنّ الإجماع على جواز البيع فيما عدا كلب الهراش ليس ثابتا في جميع موارده.

و أمّا ما ذكره المصنّف وجها لكلام العماني من إطلاق قوله: «ثمن الكلب سحت» فيمكن أن يناقش بأنّه ذكر في هذه الأخبار في عداد أنواع أخر من السحت كثمن الخمر و الميتة و نحوهما، فراجع الوسائل. «1» فتكون في مقام تعداد أنواع السحت إجمالا، و ليست في مقام بيان حكم كلّ واحد من العناوين المذكورة بحدوده و شرائطه حتّى ينعقد لها إطلاق، نظير قوله «ع»:

«بني الإسلام على خمس: على الصلاة و الزكاة و الحج و الصوم و الولاية» «2»، فتأمّل.

1- كلب الصيد السلوقي

[كلمات الفقهاء في المقام]

(1) قال المفيد في مكاسب المقنعة: «و ثمن الكلب حرام إلّا ما كان سلوقيّا للصيد، فإنّه لا بأس ببيعه و أكل ثمنه.» «3»

______________________________
(1) راجع الوسائل 12/ 62، كتاب التجارة، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به.

(2) الوسائل 1/ 7، كتاب الطهارة، الباب 1 من أبواب مقدّمة العبادات، الحديث 1.

(3) المقنعة/ 589، كتاب التجارة، المكاسب المحرّمة.

 

497
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

كلمات الفقهاء في المقام ؛ ج‌1، ص : 497

..........

______________________________
2- و في المكاسب المحظورة من المراسم: «و بيع الكلاب إلّا السّلوقي و كلب الماشية و الزرع.»
«1»

3- و قال الشيخ في المكاسب المحظورة من النهاية: «و كذلك ثمن الكلب إلّا ما كان سلوقيّا للصيد، فإنّه لا بأس ببيعه و شرائه و أكل ثمنه و التكسّب به.» «2»

أقول: فظاهرهم كما ترى حصر الجواز في كلب الصيد إذا كان سلوقيّا لا مطلقا.

و الكتب الثلاثة من الكتب المعدّة لنقل الأصول المتلقّاة.

4- و في بيع الخلاف (المسألة 302): «يجوز بيع كلاب الصيد. و يجب على قاتلها قيمتها إذا كانت معلّمة. و لا يجوز بيع غير الكلب المعلّم على حال. و قال أبو حنيفة و مالك: يجوز بيع الكلاب مطلقا إلّا أنّه مكروه. فإن باعه صحّ البيع و وجب الثمن، و إن أتلفه متلف لزمته قيمته. و قال الشافعي: لا يجوز بيع الكلاب معلّمة كانت أو غير معلّمة و لا يجب على قاتلها القيمة. دليلنا إجماع الفرقة، فإنّهم لا يختلفون فيه ...» «3»

5- و في التذكرة: «أمّا كلب الصيد فالأقوى عندنا جواز بيعه، و به قال أبو حنيفة و بعض أصحاب مالك و جابر و عطاء و النخعي ... و قال الشافعي و أحمد و الحسن و ربيعة و الحمّاد و الأوزاعي و داود بالتحريم، و هو قول لنا، لأنّه «ع» نهى عن ثمن الكلب و هو عامّ.» «4»

______________________________
(1) الجوامع الفقهية/ 585 (ط. أخرى/ 647)، كتاب المكاسب من المراسم.

(2) النهاية للشيخ/ 364، باب المكاسب المحظورة ...

(3) الخلاف 3/ 181 (ط. أخرى 2/ 80)، كتاب البيوع.

(4) التذكرة 1/ 464، كتاب البيوع، المقصد الأوّل، الفصل الرابع.

498
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

كلمات الفقهاء في المقام ؛ ج‌1، ص : 497

..........

______________________________
6- و في المنتهى: «قد أجمع علماؤنا على تحريم بيع ما عدا كلب الصيد و الماشية و الزرع و الحائط من الكلاب و على جواز بيع كلب الصيد. و اختلفوا في الثلاثة الباقية؛ فقال الشيخ في النهاية و المفيد في المقنعة بتحريم ثمن الكلب إلّا السلوقي، و عني بالسّلوقي كلب الصيد، لأنّ سلوق قرية باليمن أكثر كلابها معلّمة، فنسب الكلب إليها.»
«1»

أقول: في قوله: «و عني بالسلوقي كلب الصيد» احتمالان:

الأول: أن يراد به مطلق كلب الصيد، فاستعير لفظ الخاصّ للعامّ.

الثاني: أن يراد به خصوص الصيود السلوقي، فأراد بذلك بيان حرمة السلوقي إذا لم يكن صيودا، و لعلّ الأظهر هو الثاني خلافا لما يأتي من المصنّف.

7- و في الفقه على المذاهب الأربعة عن المالكيّة: «لا يصحّ بيع الكلب مع كونه طاهرا سواء كان كلب صيد أو حراسة أو غيرهما لورود النهي عن بيعه شرعا.»‌

و عن الحنابلة: «لا يصحّ بيع الكلب سواء كان كلب صيد و نحوه أولا.»‌

و عن الشافعية: «لا يصح بيع كلّ نجس كالخنزير و الخمر و الزبل و الكلب و لو كان كلب صيد.»‌

و عن الحنفية: «يصحّ بيع كلب الصيد و الحراسة و نحوه من الجوارح.» «2»

أقول: لا يخفى مخالفة ما حكاه عن مالك لما حكاه الشيخ عنه في الخلاف. و قد نقلنا هنا بعض ما نقلناه في المسألة السادسة حذرا عمّا في الحوالة من مشقّة القارئين.

______________________________
(1) المنتهى 2/ 1009، كتاب التجارة، المقصد الثانى، البحث الأوّل.

(2) الفقه على المذاهب الأربعة 2/ 231، كتاب البيع، مبحث بيع النجس و المتنجّس.

499
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

معنى الكلب و أصنافه ؛ ج‌1، ص : 500

..........

______________________________
و كيف كان فجواز البيع في الصيود السّلوقي بلا إشكال.

[معنى الكلب و أصنافه]

و اعلم أنّ الكلب- كما يظهر من اسمه- جبل في طبعه التكالب و الهجوم و الإيذاء و قد يصل في ذلك إلى حدّ يصير مرضا ساريا إلى من يعضّه الكلب، و يسمّى داء الكلب، و لعلّه الحكمة في إسقاط ماليّته شرعا و المنع عن بيعه و الترغيب في قتله كما ورد في بعض الأخبار. و لكن إذا وقع تحت التعليم و التربية الصحيحة و صارت هجماته تحت الضابطة و الهداية من الإنسان صار وجوده نافعا للصيد أو الحراسة أو نحوهما من الأغراض الصحيحة و صار بذلك مالا قابلا للنقل و الانتقال عرفا، بل شرعا أيضا على ما مرّ منا مرارا من أنّ تحقّق المنافع المحلّلة العقلائيّة الموجبة للماليّة ملازم لجواز النقل إجمالا، حيث إنّ المعاملات شرّعت لتبادل الحاجات العقلائيّة.

و ليست المعاملات دائرة مدار التعبّد المحض و المصالح السريّة الخفيّة نظير الأحكام العباديّة، فلا محالة تنصرف أدلّة المنع- على فرض إطلاقها- إلى صورة بقاء الكلب على طبعه الأوّلي من دون أن يقع تحت التعليم الصحيح، أو فرض تمحّض منافعه في الأمور المحرّمة شرعا.

و لعلّه إلى ما ذكرنا أشار فقهاؤنا حيث علّقوا صحّة بيعه على كونه معلّما، فهو بنحو ما يشبه القوة الغضبيّة في الإنسان حيث إنّ إطلاقها مضرّ جدّا و لكن يترتب عليها فوائد كثيرة إذا فرض انضباطها و وقوعها تحت سيطرة العقل و هدايته.

و يشهد لما ذكرناه ما رواه في العلل في باب علّة خلق الكلب بسنده عن عليّ «ع» أنّ النبي «ص» سئل ممّا خلق اللّه- عزّ و جل- الكلب؟ قال: «خلقه من بزاق إبليس.» قيل:

و كيف ذاك؟ يا رسول اللّه! قال: «لما أهبط اللّه- عزّ و جلّ- آدم و حواء إلى الأرض‌

500
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

معنى الكلب و أصنافه ؛ ج‌1، ص : 500

..........

______________________________
أهبطهما كالفرخين المرتعشين فعدا إبليس الملعون إلى السّباع- و كانوا قبل آدم في الأرض- فقال لهم: إنّ طيرين قد وقعا من السماء لم ير الراؤون أعظم منهما، تعالوا فكلوهما.

فتعادت السباع معه، و جعل إبليس يحثّهم و يصيح و يعدهم بقرب المسافة، فوقع من فيه من عجلة كلامه بزاق، فخلق اللّه- عزّ و جلّ- من ذلك البزاق كلبين: أحدهما ذكر و الآخر أنثى، فقاما حول آدم و حواء الكلبة بجدّة و الكلب بهند فلم يتركوا (فلم يتركوا- ظ.)

السباع أن يقربوهما. و من ذلك اليوم الكلب عدوّ السبع و السبع عدوّ الكلب.» «1»

و بالجملة فالكلاب تنقسم إلى أقسام: بعضها ممّا لا منفعة له و لا ماليّة أصلا، و بعضها يتمحّض منافعه في المحرّمة، و بعضها يشتمل على منافع عقلائيّة محلّلة. فلنشر إلى أصناف الكلاب:

الأوّل: الصيود السّلوقي و يقال له في عرفنا: «تازي». و هو من أخفّ الكلاب و أحسنها و أسرعها.

الثاني: الصيود غير السّلوقي.

الثالث: كلب الحراسة لحراسة الماشية و البساتين و الزروع أو الدور و الحيطان و نحو ذلك. و يمكن عدّه من أقسام الصيود كما يأتي بيانه.

الرابع: ما يستفاد منه للتفتيش و كشف الجرائم و أجساد المهدوم عليهم و نحو ذلك.

و هذه الاستفادات من المنافع المهمّة في أعصارنا.

الخامس: ما يستعمل للهجوم على الأعداء أو المحكومين أو المأسورين أو المستضعفين من الناس ظلما و عدوانا.

______________________________
(1) علل الشرائع 2/ 496، الباب 25، علّة خلق الكلب.

501
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

2 - الثاني: كلب الصيد غير السلوقي ؛ ج‌1، ص : 502

 

[2- الثاني: كلب الصيد غير السّلوقي]

الثاني: كلب الصيد غير السّلوقي. و بيعه جائز على المعروف من غير ظاهر إطلاق المقنعة و النهاية (1).

و يدلّ عليه قبل الإجماع المحكيّ عن الخلاف و المنتهى و الإيضاح و غيرها (2) الأخبار المستفيضة:

______________________________
السادس: ما يتّخذ للّهو و التفريح و الأنس به أو الاستمتاعات الجنسيّة على ما هو المتعارف عند بعض المترفين المنحرفين.

السابع: الكلاب المهملة التي غلب عليها التكالب و الإيذاء و لم تقع تحت التربية و يطلق عليها الهراش و العقور، و أخسّها ما ابتلي بداء الكلب السّاري.

الثامن: الكلاب المهملة أو الضعيفة التي سلبت منها ملكة التكالب و صارت بلا خاصيّة بحيث لا تصلح للتربية و لا للتصيد و الحراسة و نحوهما.

2- كلب الصيد غير السّلوقي

[عبارات الفقهاء]

(1) قد مرت عبارتا المقنعة و النهاية، و نحوهما عن المراسم. و الثلاثة من الكتب المعدّة لنقل الأصول المتلقّاة.

(2) قد مرّت عبارتا الخلاف و المنتهى و يأتي عبارة الإيضاح في مسألة كلب الماشية و نحوها.

و لعلّ المقصود من قوله: «قبل الإجماع» كون الأخبار المذكورة مدركا له و لو احتمالا، فلا يكون الإجماع دليلا على حدة. و هذا بخلاف ما لو قيل: «بعد الإجماع»، حيث يدلّ على تحقّقه و لو مع قطع النظر عن الأخبار المذكورة.

 

502
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الأخبار ؛ ج‌1، ص : 503

[الأخبار]

منها: قوله «ع» في رواية القاسم بن الوليد. قال: سألت أبا عبد اللّه «ع» عن ثمن الكلب الذي لا يصيد. قال: «سحت، و أمّا الصيود فلا بأس به.» (1)

و منها: الصحيح عن ابن فضال، عن أبي جميلة، عن ليث. قال:

سألت أبا عبد اللّه «ع» عن الكلب الصيود يباع؟ قال: «نعم و يؤكل ثمنه.» (2)

و منها: رواية أبي بصير. قال: سألت أبا عبد اللّه «ع» عن ثمن كلب

______________________________
(1) رواها الشيخ في موضعين من التهذيب في أحدهما: القاسم بن الوليد العامري، و في الثاني: القاسم بن الوليد العمّاري عن أبي عبد اللّه «ع». و لكن في الوسائل رواها عن الكليني و الشيخ و القاسم بن الوليد مذكور في أثناء السندين، فراجع.
«1» و القاسم بن الوليد مهمل لم يذكر بمدح و لا قدح.

(2) راجع التهذيب. «2» و أبو جميلة كنية المفضّل بن صالح، و هو ضعيف كذّاب على ما في الرجال. «3»

______________________________
(1) راجع التهذيب 6/ 367، كتاب المكاسب، باب المكاسب، الحديث 181؛ و 9/ 80، كتاب الصيد و الذبائح، باب الذبائح و الأطعمة ...، الحديث 77؛ و الوسائل 12/ 83، كتاب التجارة، الباب 14 من أبواب ما يكتسب به، الحديثان 1 و 7. و الظاهر أنّ للحديث سندين بنقل الكلينى فاختلطا.

(2) التهذيب 9/ 80، باب الذبائح و الأطعمة، الحديث 78؛ و الوسائل 16/ 252 (ط. أخرى 16/ 306)، كتاب الصيد و الذبائح، الباب 45 من أبواب الصيد، الحديث 4.

(3) راجع تنقيح المقال 3/ 237.

503
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الأخبار ؛ ج‌1، ص : 503

الصيد، قال: «لا بأس به و أمّا الآخر فلا يحلّ ثمنه.» (1)

و منها: ما عن دعائم الإسلام للقاضي نعمان المصري عن أمير المؤمنين «ع» أنّه قال: «لا بأس بثمن كلب الصيد.» (2)

و منها: مفهوم رواية أبي بصير عن أبي عبد اللّه «ع». قال: قال رسول اللّه «ص»: «ثمن الخمر و مهر البغيّ و ثمن الكلب الذي لا يصطاد من السحت.» (3)

و منها: مفهوم رواية عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه عن أبي عبد اللّه «ع».

قال: «ثمن الكلب الذي لا يصيد سحت، و لا بأس بثمن الهرة.» (4)

______________________________
(1) راجع الوسائل
«1». و في السند القاسم بن محمّد الجوهري و عليّ بن أبي حمزة، و هما واقفيان و لم يثبت وثاقتهما. «2»

(2) راجع الدعائم. «3» و الاعتماد على هذا الكتاب مشكل إلّا للتأييد كما مرّ.

(3) راجع الوسائل. «4» و في السند القاسم بن محمّد و عليّ بن أبي حمزة، و هما واقفيان و لم يثبت وثاقتهما كما مرّ.

(4) راجع الوسائل. «5» و الراوي عن الإمام «ع» محمد بن مسلم و عبد الرحمن معا‌

______________________________
(1) الوسائل 12/ 83، كتاب التجارة، الباب 14 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 5.

(2) راجع تنقيح المقال 2/ 24 و 260.

(3) دعائم الإسلام 2/ 19، كتاب البيوع، الفصل 2 (ذكر ما نهى عن بيعه)، الحديث 28.

(4) الوسائل 12/ 83، كتاب التجارة، الباب 14 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 6.

(5) المصدر السابق و الباب، الحديث 3.

504
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الأخبار ؛ ج‌1، ص : 503

و مرسلة الصدوق. و فيها: «ثمن الكلب الذي ليس بكلب الصيد سحت.» (1)

______________________________
و السند موثوق به.

(1) راجع الوسائل. «1» و الرواية و إن كانت مرسلة لكن إسناده الصدوق إيّاها إلى أبي عبد اللّه «ع» بقوله: «قال» يدلّ على ثبوتها عنده و اعتماده عليها.

و قد مرّ عن البيهقي بسنده عن أبي هريرة عن النبيّ «ص»: «ثلاث كلّهن سحت.»‌

فذكر كسب الحجّام و مهر البغيّ و ثمن الكلب إلّا كلبا ضاريا. «2»

و في المنجد: «ضرى الكلب بالصيد: تعوّده و أولع به.» «3» فيراد بالكلب الضاري:

الصيود منه.

و في رواية أخرى عن أبي هريرة: «نهى عن مهر البغي ... و عن الكلب إلّا كلب صيد» إلّا أنّه لم يسنده إلى النّبيّ «ص» صريحا.

و في البيهقي أيضا بسنده عن جابر قال: «نهى عن ثمن الكلب و السنّور إلّا كلب صيد.» «4» هكذا رووه عن جابر. فليس فيه الإسناد إلى النبي «ص» صريحا إلّا أن يقال برجوع الضمير إليه كما لا يبعد. هذا.

و لكن أكثر روايات العامّة مطلقة في المنع لا تشتمل على الاستثناء، و لذا أفتى أكثرهم بالمنع مطلقا على خلاف ما عليه فقهاؤنا.

______________________________
(1) الوسائل 12/ 63، كتاب التجارة، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 8.

(2) سنن البيهقى 6/ 6، كتاب البيوع، باب النهى عن ثمن الكلب.

(3) المنجد/ 450.

(4) سنن البيهقى 6/ 6، كتاب البيوع، باب النهى عن ثمن الكلب.

505
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

المراد بالسلوقي ؛ ج‌1، ص : 506

[المراد بالسلوقي]

______________________________
ثمّ إنّ لفظ السّلوقي لم يذكر فيما بأيدينا من الأخبار إلّا أن يجعل عبارات المقنعة و المراسم و النهاية بما أنّها من الكتب المعدّة لنقل الفتاوى المأثورة عن الأئمة «ع»- كما كان يصرّ على ذلك الأستاذ آية اللّه العظمى البروجردي طاب ثراه- قرينة على ورود رواية به عنهم «ع».

و المذكور فيما بأيدينا من الأخبار ثلاثة تعبيرات: الأوّل: كلب الصيد. الثاني:

الكلب الصيود. الثالث: الذي لا يصيد أو لا يصطاد، و في قبالهما الذي يصيد أو يصطاد.

و الأوّل إشارة إلى نوع خاصّ من الكلاب الموجودة في الخارج له اختصاص بالصيد فيمكن أن يقال بانصرافه في تلك الأعصار إلى خصوص الكلب السّلوقي لتمحّضه فيه و عدم تعارف الصيد بغيره في تلك الأعصار. و يمكن منع ذلك، إذ الظاهر من اللفظ كلّ كلب يزاول الصيد و إن لم يكن سلوقيّا.

[المراد بالصيود]

و أمّا الصيود فيحتمل أن يراد به ما فيه ملكة الاصطياد بتعليمه و تربيته لذلك و إن لم يستعمل فيه بعد و يطلق عليه الكلب المعلّم، و لعلّه الأظهر، إذ الصفات المشبهة ظاهرة في المعنى الثبوتي. و يحتمل أن يراد به ما يستعمل في الصيد فعلا مع وجود الملكة فيه أيضا. و يحتمل بعيدا أن يراد به ما يزاول الصيد خارجا و إن لم يكن عن ملكة و تربية.

و أمّا الذي لا يصيد أو لا يصطاد فظهورهما في الفعل و الحدوث واضح، فيراد بهما ما لا يقدم خارجا في التصيّد و لا يصدر عنه و لو فرض كونه معلّما لذلك و كان واجدا لملكته إمّا لاستنكافه عن العمل أو لعدم استعمال صاحبه إيّاه في ذلك بأن استعمله في أعمال أخر كالحراسة و نحوها. و في مقابلهما ما يصيد أو يصطاد خارجا و يزاوله و إن لم يكن عن ملكة و تعليم لذلك. هذا.

506
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

كلام الأستاذ الإمام«ره» و بعض المناقشات فيه ؛ ج‌1، ص : 507

[كلام الأستاذ الإمام «ره» و بعض المناقشات فيه]

______________________________
و للأستاذ الإمام «ره» في بيان الاحتمالات المتصورة في التعبيرات المذكورة كلام طويل نذكره ملخصا لاشتماله على فوائد و إن اشتمل على مناقشات أيضا.

قال في مكاسبه: «أحدها: أن يكون قوله: «الذي لا يصيد» إشارة إلى أقسام ما عدا الكلب السّلوقي. و قوله: «الصيود» أو «كلب الصيد» إشارة إلى السّلوقي صيودا كان أولا، فيكون الموضوع للجواز السلوقي مطلقا من غير دخالة للوصف فيه. و لكن هذا الاحتمال بعيد لظهور الأخبار في دخالة وصف الصيد.

ثانيها: أن يكون المراد من الصيود و الذي يصيد: الكلب المعلّم لذلك، و من الذي لا يصيد غير المعلّم سلوقيا كان أو غيره بدعوى انصراف الأخبار إليهما. و فيه منع الانصراف لا سيّما مثل قوله: «لا يصيد» و «لا يصطاد»، إذ الظاهر منهما سلب وصف الصيد. و يتلوه في الضعف احتمال الانصراف إلى خصوص السلوقي المعلّم. نعم لا يبعد انصراف: «كلب الصيد» إلى المعلّم بل إلى السلوقي منه.

ثالثها: أن يكون المراد من الصيود: ما يتّخذ للصيد. و في مقابله ما لا يتّخذ له. و هو بعيد أيضا، إذ الظاهر من العناوين ما هي ثابتة للكلاب من غير دخالة اتّخاذها لها.

رابعها: أن يكون المراد ما ثبت له نفس هذه العناوين من غير دخالة التعليم و عدمه و لا الاتّخاذ و عدمه.

ثمّ الوصف يحتمل أن يكون بمعنى الشغل الفعلي، فلا يشمل كلب الصيد الذي جعل صاحبه شغله الحراسة مثلا. و يحتمل أن يكون بمعنى ملكة الصيد، فيكون معنى قوله: «الذي لا يصيد»: الذي سلب عنه وصف كونه صيودا و زالت ملكته عنه. و في مقابله ما ثبت له الوصف و الملكة. و لا يبعد أن يكون الأقرب الأخير من هذين‌

507
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

كلام الأستاذ الإمام«ره» و بعض المناقشات فيه ؛ ج‌1، ص : 507

..........

______________________________
الاحتمالين بعد أظهريّتهما من سائرها.

و يشهد لما قلنا من أنّ الموضوع نفس العنوان من غير دخالة التعليم فيه بعد إطلاق الأدلّة: أنّ الأخبار الواردة في حكم الصيد و جواز أكله في أبواب الصيد و الذبائح مشحونة بذكر الكلب المعلّم. و أمّا في المقام فلم يرد خبر مشعر بكون الكلب المذكور هو المعلّم.

فالموضوع للحكم هناك المعلّم بخلافه هنا.

فتحصّل ممّا ذكر أنّ الأظهر في قوله: «الكلب الذي لا يصيد» أو «لا يصطاد» هو ما سلب عنه هذا الوصف و هذه الملكة. و إنّما قلنا: إنّ الاحتمال الأخير أقرب، لأنّ الكلب الذي له ملكة الاصطياد يصدق عليه أنّه صيود و لا يصحّ سلب العنوان عنه. و ليس المراد من «لا يصيد» عدم العمل الخارجي في مقابل العمل كذلك، و لذلك قابله بالصيود.

و الكلب الذي لو ترك يصيد لا يقال إنّه لا يصيد أو ليس بصيود بمجرد منع صاحبه عنه.

و لهذا لا ريب في أنّ الكلب المعلّم صيود و صائد و يصدق عليه أنّه يصيد و يصطاد و إن لم يستعمله صاحبه في الصيد و منعه عنه.

ثم بعد ما علم من قوّة هذا الاحتمال يقال: إنّ الصّيود و الصائد و سائر المشتقّات منه عناوين وصفيّة صادقة على مطلق الاصطياد من غير اعتبار قيد حلّية اللحم في صيده، فإذا كان الكلب يصيد الذئب أو الثعلب مثلا يصدق عليه أيضا أنّه صيود و صائد عرفا و لغة، فيمكن أن يقال: إنّ مطلق الكلاب عدا الكلاب المهملة التي في الأزقّة و الأسواق.

ممّا زالت عنها ملكة الاصطياد و التكالب- داخل في عنوان الكلب الصيود و الذي يصطاد و إن كان للماشية و الحراسة و نحوهما. و الكلب ما لم تكن له ملكة الاصطياد لا يتّخذ للماشية و حفظ الأغنام.

508
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

كلام الأستاذ الإمام«ره» و بعض المناقشات فيه ؛ ج‌1، ص : 507

..........

______________________________
فالكلاب على صنفين: أحدهما: ما زالت عنها صفة التصيّد، و هي الكلاب الدائرة في الأزقّة مهملة.

و ثانيهما: ما بقيت على صفتها و ملكتها السبعية، و هي صيود و سبع بطبعها سواء اتّخذت للاصطياد أو لحفظ الأغنام أو حراسة البلد أو المزارع. فالميزان في جواز البيع صدق الوصف عليها لا استعمالها في الصيد أو اشتغالها به. و الظاهر صدق العناوين على جميع أنواع الكلاب غير المهملة.

إن قلت: لو فرض صدق العناوين لغة و عرفا لكن الأخبار منصرفة إلى الكلاب المستعملة للتصيّد.

قلت: نمنع انصراف ذلك الوصف العنواني لا سيّما مع مقابلة الصيود الذي لا يصيد.

نعم كلب الصيد عبارة عن الكلب الذي اتّخذ له و يكون شغله ذلك، إذ هو منصرف إليه أو إلى خصوص السّلوقي منه بخلاف الذي لا يصيد.

و إن شئت قلت: إنّ العناوين و المشتقّات مختلفة في إفادة المعنى عرفا، ففرق بين عنوان كلب الصيد الذي لا يصدق على كلب الماشية و الزرع و نحوهما لأنّ شغل الحراسة غير شغل الصيد، و بين الكلب الذي يصيد و الذي لا يصيد. فإنّ صدق عنوان الذي لا يصيد يتوقّف عرفا على عدم اقتدار الكلب على الاصطياد أو على عدم اقتضائه فيه. و الكلب الذي لو أغري على الصيد يصيده لا يقال: إنّه لا يصيد أو لا يصطاد بمجرد عدم استعمال صاحبه له ...» «1»

أقول: ما ذكره أخيرا من اختلاف العناوين و المشتقّات في إفادة المعنى عرفا كلام‌

______________________________
(1) المكاسب المحرمة للإمام الخمينى «ره» 1/ 68- 71.

509
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

كلام الأستاذ الإمام«ره» و بعض المناقشات فيه ؛ ج‌1، ص : 507

..........

______________________________
صحيح، و قد بيّنا المعنى الظاهر بحسب العرف و اللغة لكلّ واحد من التعبيرات الثلاثة.

و كذا ما ذكره من عدم اعتبار قيد حلّية اللحم في صدق الاصطياد و أنّ الهجوم على الذئب و الثعلب بل و السارق و العدوّ أيضا يمكن أن يطلق عليه الاصطياد بالمعنى الأعمّ.

و كذلك ما ذكره من انصراف كلب الصيد إلى خصوص السلوقي المعلّم للصيد أمر احتملناه أيضا و يأتي توضيحه في الحاشية التالية.

و أمّا ما ذكره في أثناء كلامه من أنّ الموضوع في المقام نفس العنوان من غير دخالة التعليم فيه بخلاف الموضوع في باب الصيد و الذبائح ثمّ استشهاده لذلك بأن الأخبار في ذلك الباب مشحونة بذكر المعلّم دون المقام، فيمكن أن يناقش فيه بأنّ الظاهر ارتباط البابين و كون الموضوع فيهما واحدا. إذ الحلّية و جواز الأكل للصيد لو توقّف على كون الصيد بالكلب المعلّم- كما هو ظاهر الكتاب أيضا- فلا محالة يتوقّف صحّة البيع أيضا على ذلك، إذ جواز بيعه يدور مدار ماليّته و منفعته، و المفروض أنّ عمدة منفعة كلب الصيد جواز أكل صيده و الانتفاع منه و لولاه لم يكن له مالية و قيمة.

و بعبارة أخرى: قيمة الكلب الصيود بكونه معلّما و أنّه يجوز الانتفاع من صيده.

فالظاهر أنّ أخبار الجواز في المقام ناظرة إلى ما تقرّر في الصيد و الذبائح من حلّية صيد الكلب المعلّم و جواز أكله. و لعلّ ذكر التعليم في الكتاب العزيز و في الأخبار الواردة من جهة أنّ ايتماره بأمر صاحبه و إقدامه على الاصطياد بإذنه لا يحصل غالبا إلّا بالتعليم و التربية فيدور الحكم في البابين مداره.

و إن شئت قلت: إنّ المراد بالصيود على ما مرّ: ما ثبت له ملكة الصيد، و الملكة لا تحصل فيه الّا بالتعليم، فهما أمران متلازمان.

510
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

دعوى انصراف الأخبار المجوزه إلى السلوقي ؛ ج‌1، ص : 511

[دعوى انصراف الأخبار المجوزه إلى السّلوقي]

ثمّ إنّ دعوى انصراف هذه الأخبار كمعاقد الإجماعات المتقدّمة إلى السّلوقي ضعيفة، لمنع الانصراف لعدم الغلبة المعتدّ بها على فرض تسليم كون مجرّد غلبة الوجود من دون غلبة الاستعمال منشأ للانصراف (1).

______________________________
(1) أقول: قد مرّ أنّ عنوان كلب الصيد الواقع بنحو الاستثناء في أخبار الفريقين يحتمل أن يراد به كلّ ما صدق عليه هذا العنوان الإضافي بطبيعته السارية، سلوقيّا كان أو غيره، كما يحتمل أن يكون إشارة إلى خصوص ما تعارف الاصطياد به في تلك الأعصار خارجا. و لعلّه كان خصوص السّلوقي المعلّم بحيث لم يتعارف الاصطياد في تلك الأعصار إلّا بسببه، فإنّه كان أخفّ الكلاب و أضبطها و أسرعها و أكثرها استعدادا لقبول التعليم و التربية. و لعلّ هذا التعارف كان باقيا إلى عصر الشيخين أيضا، و لذا ذكر في المقنعة و النهاية و المراسم خصوص السلوقي.

فمرجع هذين الاحتمالين إلى احتمال كون مفاد الاستثناء قضيّة حقيقيّة أو خارجيّة، و كلتاهما معتبرتان متعارفتان في العلوم و في استعمالات أهل المحاورة. و إذا دار الأمر بينهما لم يثبت الاستثناء إلّا بالنسبة إلى الأخصّ منهما، فيبقى إطلاق المستثنى منه و عمومه باقيا في غير القدر المتيقّن لجواز التمسّك بالعامّ مع إجمال المخصّص و دورانه بين الأقل و الأكثر كما حقّق في محلّه.

و بالجملة فحمل المستثنى على خصوص السلوقي ليس من باب دعوى انصراف المطلق إلى بعض أفراده حتى يرد عليه ما ذكره المصنّف أوّلا من عدم غلبة الوجود، و ثانيا من عدم كفايتها في الانصراف من دون غلبة الاستعمال، بل من باب أنّ القضية‌

511
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

دعوى انصراف الأخبار المجوزه إلى السلوقي ؛ ج‌1، ص : 511

..........

______________________________
محتملة للحقيقيّة و الخارجيّة، فيتمسّك بإطلاق المستثنى منه في غير القدر المتيقّن، فتأمّل.

و ما مرّ منّا سابقا من منع الإطلاق في قوله: «ثمن الكلب سحت» لورود هذا السنخ من الأخبار في مقام تعداد الأشياء المنهيّة عنها إجمالا و ليست بصدد بيان الحدود و الشرائط لكلّ منها، إنّما يجري في غير ما اشتمل منها على الاستثناء. إذ الاستثناء بنفسه دليل على إرادة العموم في المستثنى منه بالنسبة إلى ما بقي تحته.

فإن قلت: التصيّد بغير السّلوقي إذا فرض كونه معلّما لذلك جائز قطعا كما يشهد بذلك إطلاق الكتاب و الأخبار المعلّقة لحلّية الصيد على اصطياده بالكلب المعلّم من غير تقييد بالسلوقيّ، فراجع الوسائل. «1» و بذلك يصير الكلب لا محالة ذا منفعة عقلائيّة مشروعة فلا يبقى وجه لعدم جواز بيعه و حصر الجواز في السّلوقيّ منه. بل لو فرض كون المستثنى في الأخبار خصوص السّلوقيّ الصيود- كما هو ظاهر المقنعة و النهاية و المراسم كما مرّ- لفهمنا منه بإلقاء الخصوصيّة عدم دخالة السّلوقيّة و أنّ الملاك في صحّة البيع كونه صيودا ذا منفعة و ماليّة عقلائيّة.

قلت: ما ذكرناه كان على مبنى القوم، حيث يجعلون النجاسة بنفسها مانعة عن صحّة البيع تعبّدا و يقولون بإطلاق النهي عن بيع الكلب إلّا فيما ثبت استثناؤه.

و أمّا على ما قلناه من عدم التعبّد المحض في هذا الباب و أنّ الجواز و المنع دائران مدار وجود المنفعة العقلائية المحلّلة و تحقّق الماليّة شرعا فالأمر سهل، إذ نقول على هذا بصحّة بيع كل نجس فيه منفعة عقلائيّة مشروعة، و منها أنواع الكلاب التي يترتّب عليها المنافع المحلّلة من التصيّد و غيره و لا نقتصر على خصوص ما ورد النصّ على جوازه، فتدبّر.

______________________________
(1) الوسائل 16/ 207 (ط. أخرى 16/ 249)، كتاب الصيد و الذبائح، الباب 1 و ما بعده من أبواب الصيد.

512
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

دعوى انصراف الأخبار المجوزه إلى السلوقي ؛ ج‌1، ص : 511

مع أنّه لا يصحّ في مثل قوله: «ثمن الكلب الذي لا يصيد» أو «ليس بكلب الصيد»، لأنّ مرجع التقييد إلى إرادة ما يصحّ عنه سلب صفة الاصطياد (1). و كيف كان فلا مجال لدعوى الانصراف.

______________________________
و يشهد للتعميم أيضا قوله «ع» في معتبرة السكوني عن أبي عبد اللّه «ع»: «الكلاب الكرديّة إذا علّمت فهي بمنزلة السلوقيّة».
«1»

و كونها ناظرة إلى حلّية الصّيد أكلا لا يوجب الاختصاص بعد ما مرّ منا من وحدة الموضوع في البابين و ارتباط أحدهما بالآخر.

و راجع أيضا ما ورد في دية الكلب بأنواعه «2»، حيث يستفاد منها ماليّته شرعا فجاز بيعه على ما بيّناه.

(1) تحقيق ما ذكره المصنّف في المقام أنّ أخبار الجواز- كما ترى- مطلقة تعمّ السلوقي و غيره. و لو قيل بانصرافها إلى السّلوقي فالجواب عنه بوجهين:

الوجه الأوّل: أنّ مجرد غلبة التصيّد بالسّلوقي- على فرض تسليمها- لا توجب الانصراف، لعدم كفاية غلبة الوجود في ذلك، بل الذي يوجب انصراف المطلق إلى بعض أفراده استعماله كثيرا في هذا البعض بحيث أوجب أنس اللفظ بهذا البعض و كأنّه قالب له و صار كالقرينة المتصلة ترفع الإطلاق.

الوجه الثاني: أنّه لو سلّم الانصراف فإنّما هو في مثل قوله: «لا بأس بثمن كلب الصيد.» و أمّا فيما إذا ذكر المطلق ثمّ قيّد بقيد مثل قوله: «ثمن الكلب الذي لا يصيد» أو‌

______________________________
(1) الوسائل 16/ 224 (ط. أخرى 16/ 268)، كتاب الصيد و الذبائح، الباب 10 من أبواب الصيد، الحديث 1.

(2) الوسائل 19/ 167، كتاب الديات، الباب 19 من أبواب ديات النفس.

513
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

دعوى انصراف الأخبار المجوزه إلى السلوقي ؛ ج‌1، ص : 511

..........

______________________________
«ليس بكلب الصيد» فظاهره دخالة القيد و تقسيم المطلق بسببه إلى نوعين متضادّين:

الذي يصطاد و الذي لا يصطاد، و مقتضاه اختلافهما في الحكم. فكونه سحتا يختصّ بما يصحّ سلب صفة الاصطياد عنه. و لازمه ثبوت الجواز لكلّ ما اتّصف بصفة الاصطياد.

و في حاشية المحقّق المامقاني بيان آخر لكلام المصنّف. قال ما محصّله: «أنّه إن صحّ دعوى الانصراف في مثل رواية ليث، قال: سألت أبا عبد اللّه «ع» عن الكلب الصيود يباع؟ قال: «نعم»، ممّا سيق الوصف بطريق الإثبات، لم يصحّ دعواه فيما سيق بطريق السلب، ضرورة أنّ المراد بسلب الاصطياد ليس هو سلب الاصطياد بالفعل، و إلّا لم يصحّ البيع في السّلوقي أيضا إلّا في حال اصطياده. فالمراد سلب ملكة الاصطياد. و مثل هذا يعطي القاعدة و لا يكون قابلا لدعوى الانصراف لأنّ دعواه إنّما تجري فيما هو من قبيل المطلق لا فيما يفيد الكليّة و العموم.» «1» هذا.

و ناقش المصنّف في مصباح الفقاهة بما محصّله: «أنّ ما ذكره المصنّف إنّما يصحّ في أمثال قوله: «ثمن الكلب الذي لا يصيد سحت»، فإنّ ظاهر التوصيف كون وصف الاصطياد قيدا للموضوع، و لا يتمّ في قوله في مرسلة الفقيه: «ثمن الكلب الذي ليس بكلب الصيد سحت»، فإنّ من القريب أن لا يصدق كلب الصيد على غير السّلوقي و انصرافه عنه.» «2»

أقول: و المناقشة واردة على بيان المحقّق المامقاني أيضا، إذ عموم السلب بمقدار عموم مدخوله و إذا فرض انصراف المدخول إلى قسم خاصّ فالسّلب أيضا مقصور عليه، فتدبّر.

______________________________
(1) غاية الآمال 1/ 30.

(2) مصباح الفقاهة 1/ 94.

514
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

المراد من السلوقي مطلق الصيود ؛ ج‌1، ص : 515

[المراد من السلوقي مطلق الصيود]

بل يمكن أن يكون مراد المقنعة و النهاية من السلوقي مطلق الصيود على ما شهد به بعض الفحول من إطلاقه عليه أحيانا.

و يؤيّد بما عن المنتهى، حيث إنّه بعد ما حكى التخصيص بالسّلوقي عن الشيخين قال: «و عني بالسّلوقي كلب الصيد لأنّ سلوق قرية باليمن أكثر كلابها معلّمة فنسب الكلّ إليها.» و إن كان هذا الكلام من المنتهى يحتمل لأن يكون مسوقا لإخراج غير كلب الصيد من الكلاب السّلوقيّة و أنّ المراد بالسّلوقي خصوص الصيود لا كلّ سلوقي. لكن الوجه الأوّل أظهر، فتدبّر (1).

______________________________
(1) أقول: بل الأظهر من كلام العلّامة هو الوجه الثاني كما مرّ. و السّلوقي في عبارة الشيخين يشكل حمله على مطلق كلب الصيد، إذ عبارة الكتابين هكذا: «إلّا ما كان سلوقيّا للصيد» فالصيد مصرّح به في كلامهما. و لو حمل السلوقي على مطلق كلب الصيد كان مفاد عبارتهما: «إلّا ما كان كلب صيد للصيد» فيصير لفظ: «للصيد» زائدا. إلّا أن يريدا بذلك حرمة بيع كلب الصيد لغير الصيد. هذا و الأمر سهل.

و في بعض روايات دية الكلب جعل الأربعون درهما- التي هي أكثر دية جعلت للكلب في أخبارنا- دية للكلب السّلوقي. و في بعضها لكلب الصيد بإطلاقه، و في ثالث لكلب الصيد السّلوقي، فراجع الوسائل. «1»

فيستفاد من هذه الروايات نحو ملازمة بين كلب الصيد و الكلب السلوقي إجمالا.

فإمّا أن يحمل الأولى على الثانية بأن يراد من المطلق ما تعارف الصيد به خارجا، أو‌

______________________________
(1) الوسائل 19/ 167، كتاب الديات، الباب 19 من أبواب ديات النفس.

515
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

و ينبغي التنبيه على أمرين: ؛ ج‌1، ص : 516

..........

______________________________
يحمل الثانية على الأولى من باب إطلاق لفظ الخاصّ على العامّ كما قيل في المقام.

و يمكن أن يقال بحمل الطائفتين الأوليين على الثالثة حملا للمطلقين على المقيّد لهما. و مقتضاه اختصاص الأربعين درهما بالسلوقي الصيود، و لعلّ دية الصيود غير السّلوقي كانت أقل من ذلك لكونه أنزل قيمة.

و يمكن أن يستشعر من هذا الجمع أن إطلاق كلب الصيد كان ينصرف إلى السلوقي منه و إطلاق السلوقي إلى الصائد منه، فتدبّر.

و ينبغي التنبيه على أمرين:

الأوّل: [هل الغرض الاصطياد أو مطلق]

بناء على اختصاص جواز البيع بكلب الصيد- كما هو ظاهر كثير من عبارات الأصحاب- فهل يعتبر في جواز بيعه كون الداعي إلى اشترائه هو الاصطياد به و كون بيعه لذلك، أو يجوز بيعه و لو لغرض آخر كالحراسة أو التجارة به؟ و جهان: من أنّ تعليق الحكم على وصف مشعر بدخالته فيه موضوعا و غاية، و من إطلاق روايات الجواز. و لعلّ الأظهر هو الثاني و لا سيّما على ما بيّناه من كون جواز البيع و عدمه دائرين مدار الماليّة العقلائيّة و المنافع المحلّلة و عدمهما. نعم لو اشتراه لغرض محرّم كأكل لحمه مثلا بحيث جعل قيدا في المعاملة فالظاهر عدم جواز بيعه لأن اللّه- تعالى- إذا حرّم شيئا حرّم ثمنه.

الثاني: [عنوان كلب الصيد ما كان بالفعل فلا يشمل الجرو القابل للتعليم]

الظاهر من عنوان كلب الصيد ما كان بالفعل واجدا لملكته، فلا يشمل الجرو القابل للتعليم و إن كان متولّدا من المعلّم. فعلى مبنى الأصحاب في الباب يشمله عمومات المنع و إطلاقاته، غاية الأمر كونه تابعا لأمّه في أحقّية مالك الأمّ به لكونه نتيجة لملكه، نظير ما قالوا في الخمر القابلة للتخليل من أحقّية صاحبها قبل التخمير بها.

و لكن قال العلّامة في التذكرة: «يجوز تربية الجرو الصغير لأحد المنافع المباحة، و هو أقوى وجهي الحنابلة، لأنّه قصد لذلك فله حكمه، كما جاز بيع العبد الصغير الذي لا‌

516
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الثاني: عنوان كلب الصيد ما كان بالفعل فلا يشمل الجرو القابل للتعليم ؛ ج‌1، ص : 516

..........

______________________________
نفع فيه.» و نحو ذلك في المنتهى.
«1»

و عنوان بحثه و إن كان تربيته و لكن تشبيهه إيّاه ببيع العبد الصغير يشعر بكون جواز البيع أيضا محطّا لنظره.

و في حاشية المحقق المامقاني: «و لكن عن نهاية الإحكام و الروضة و المسالك الجزم بجواز بيعه. بل عن المصابيح أنّه لازم لكلّ من جعل العلّة المسوّغة للبيع قصد الانتفاع، فإنّ النفع أعمّ من الحاصل و المتوقّع، فيشمله عمومات البيع و نحوه، بل عمومات كلب الصيد لصدقه على المتولد منه و إن لم يتحقّق منه الصيد فإنّه صار اسما لهذا النوع كالسلوقي و نحوه. و لكن توجّه المنع على ذلك جليّ. بل الكلب في لغة العرب لا يقال على الجرو فكيف مضافا إلى الصيد. بل عن المصابيح أيضا أنّه لو سلّم فما دلّ على جواز بيع كلب الصيد معارض بما دلّ على تحريم بيع ما ليس بصيود، فإنّ بينهما عموما من وجه و الترجيح للثاني لمطابقته لعمومات المنع.» «2»

أقول: هذا على مبنى الأصحاب من جعل النجاسة بنفسها مانعة إلّا فيما ثبت جوازه. و أمّا على ما قلناه من دوران الجواز و المنع مدار الماليّة العقلائيّة المعتبرة عند الشرع فلا إشكال، إذ الماليّة العقلائيّة و إن كانت تعتبر بلحاظ المنافع لكنّها عند العقلاء أعمّ من الحاصلة و المتوقعة كما حكاه عن المصابيح. و تربية الأجراء بلحاظ المنافع المتوقعة جائزة قطعا لاستقرار سيره العقلاء و المتشرعة عليها في جميع الأعصار. هذا و في مصباح الفقاهة في هذا المجال كلام طويل من شاء فليراجعه. «3» و لم نتعرض له روما للاختصار.

______________________________
(1) التذكرة 1/ 464، كتاب البيوع، المقصد الأوّل، الفصل الرابع؛ و المنتهى 2/ 1010.

(2) غاية الآمال 1/ 30.

(3) مصباح الفقاهة 1/ 94.

517
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الثالث: كلب الماشية و الحائط و الزرع ؛ ج‌1، ص : 518

[الثالث: كلب الماشية و الحائط و الزرع]

الثالث: كلب الماشية و الحائط و هو البستان و الزرع. و الأشهر بين القدماء على ما قيل المنع. و لعلّه استظهر ذلك من الأخبار الحاصرة لما يجوز بيعه في الصيود، المشتهرة بين المحدثين كالكليني و الصدوقين و من تقدّمهم، بل و أهل الفتوى كالمفيد و القاضي و ابن زهرة و ابن سعيد و المحقّق. بل ظاهر الخلاف و الغنية الإجماع عليه (1).

نعم المشهور بين الشيخ و من تأخّر عنه الجواز وفاقا للمحكي عن ابن الجنيد- قدس سرّه-، حيث قال: «لا بأس بشراء الكلب الصائد و الحارس للماشية و الزرع.» ثمّ قال: «لا خير في الكلب فيما عدا الصيود

______________________________
3- كلب الماشية و الحائط و الزرع

(1) أقول: ظاهر ما مرّ من الروايات في كلب الصيد انحصار المستثنى في ذلك، لدلالة الاستثناء على عموم المستثنى منه لجميع ما بقي تحته، و هو الظاهر أيضا من المحدّثين الذين تعرّضوا لهذه الروايات في كتبهم، إذ بناؤهم على ذكرها للعمل كما يظهر ذلك من ديباجة الكافي و الفقيه. و كذا أهل الفتوى المقتصرين في فتاويهم على ذكر كلب الصيد فقط. اللّهم إلّا أن يقال بكون ذكره في الأخبار و الفتاوى من باب المثال و أنّ الغرض كان استثناء كلّ كلب يترتّب عليه فائدة عقلائيّة مشروعة. و لما كان كلب الصيد في تلك الأعصار من أظهر مصاديقه تعرّض له الأئمة- عليهم السلام-. و القدماء من أصحابنا كان بناؤهم في مقام الإفتاء على ذكر متون الروايات و لهذا لم يصرّحوا بغير كلب الصيد.

518
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

كلمات الأصحاب ؛ ج‌1، ص : 519

و الحارس.» و ظاهر الفقرة الأخيرة لو لم يحمل على الأولى جواز بيع الكلاب الثلاثة و غيرها كحارس الدور و الخيام.

و حكي الجواز أيضا عن الشيخ و القاضي في كتاب الإجارة و عن سلّار و أبي الصلاح و ابن حمزة و ابن إدريس و أكثر المتأخّرين كالعلّامة و ولده السعيد و الشهيدين و المحقّق الثاني و ابن القطّان في المعالم و الصيمري و ابن فهد و غيرهم من متأخّري المتأخرين. عدا قليل وافق المحقّق كالسبزواري و التقي المجلسي و صاحب الحدائق و العلّامة الطباطبائي في مصابيحه و فقيه عصره في شرح القواعد و هو الأوفق بالعمومات المتقدّمة المانعة.

______________________________
و حيث إنّ الكلب له فوائد كثيرة غير الصيد و الانتفاع به جائز قطعا كما استقرّت على ذلك سيرة العقلاء و المتشرعة فالاعتبار يقتضي جواز المعاملة على الكلاب النافعة بعد صيرورتها مالا معتبرا عند العقل و الشرع، و لذا حرّم الشارع إتلافها على صاحبها و جعل لها ديات كما مرّت الإشارة إلى ذلك.
«1»

[كلمات الأصحاب]

فلنذكر بعض ما ورد في جواز الانتفاع بها من كلمات الأصحاب و الأخبار الواردة ثمّ نتعرّض لمسألة بيعها:

1- قال الشيخ في بيع الخلاف (المسألة 304): «يجوز اقتناء الكلب لحفظ البيوت.

و لأصحاب الشافعي فيه قولان: أحدهما مثل ما قلناه و هو الصحيح عند محصّليهم.

______________________________
(1) راجع الوسائل 19/ 167، كتاب الديات، الباب 19 من أبواب ديات النفس.

519
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

كلمات الأصحاب ؛ ج‌1، ص : 519

..........

______________________________
و منهم من قال: لا يجوز، لأنّ السنّة خصّت كلب الصيد و الماشية و الزرع. دليلنا إجماع الفرقة و أخبارهم.»
«1»

أقول: فالشيخ الطوسي «ره» ادّعى إجماع أصحابنا و أخبارهم على جواز اقتناء الكلب لحفظ البيوت، و السيرة أيضا قد استقرّت على ذلك في جميع الأعصار. و الشافعي كان ممّن يمنع عن بيع الكلب مطلقا حتّى كلب الصيد. و لكنّهم مع ذلك أجازوا اقتناءه للصيد و الماشية و الزرع و إنما اختلفوا في كلب البيوت.

2- و فيه أيضا (المسألة 305): «يجوز اقتناء الكلب لحفظ الماشية أو الحرث أو الصيد إن احتاج إليه و إن لم يكن له في الحال ماشية و لا حرث. و لأصحاب الشافعي فيه قولان: أحدهما مثل ما قلناه. و الثاني أنّه لا يجوز.

و قالوا في تربية الجرو و هو فرخ الكلب أيضا و جهان. دليلنا ظواهر الأخبار، و لأن الأصل الإباحة و المنع يحتاج إلى دليل.» «2»

3- و قال العلّامة في التذكرة: «يجوز اقتناء كلب الصيد و الزرع و الماشية و الحائط دون غيره، لقوله «ع»: «من اتّخذ كلبا إلّا كلب ماشية أو صيد أو زرع نقص من أجره كلّ يوم قيراط.» و لو اقتناه لحفظ البيوت فالأقرب الجواز، و هو قول بعض الشافعية و بعض الحنابلة لأنّه في معنى الثلاثة. و منع منه بعضهم لعموم النهي.» «3»

4- و فيه أيضا: «يحرم قتل ما يباح اقتناؤه من الكلاب إجماعا و عليه الضمان على ما يأتي و به قال مالك و عطاء. و قال الشافعي و أحمد لا غرم لأنّه يحرم أخذ عوضه فلا‌

______________________________
(1) الخلاف 3/ 183 (ط. أخرى 2/ 81)، كتاب البيوع.

(2) الخلاف 3/ 183 (ط. أخرى 2/ 81)، كتاب البيوع.

(3) التذكرة 1/ 464، كتاب البيوع، المقصد الأوّل، الفصل الرابع.

520
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

كلمات الأصحاب ؛ ج‌1، ص : 519

..........

______________________________
يجب غرم بإتلافه. و الأصل ممنوع.»
«1»

5- و قال في المنتهى: «يحرم اقتناء ما عدا كلب الصيد و الماشية و الزرع. روى أبو هريرة عن النبيّ «ص» قال: «من اتّخذ كلبا إلّا كلب الماشية أو زرع أو صيد نقص من أجره كلّ يوم قيراط.» و من طريق الخاصّة ما روي عنهم «ع» أنّه: «من ربط إلى جنب داره كلبا نقص من عمله كلّ يوم قيراط، و القيراط كجبل أحد.» و لأنّه لا ينفكّ من النجاسة و يتعذّر الاحتراز منه.

و إذا ثبت هذا فلو اقتناه لحفظ البيوت فالأقرب الإباحة و هو قول بعض الشافعيّة.

و بعضهم حرّم ذلك. لنا أنّ له دية مقدّرة بالشرع على ما يأتي فيجوز اقتناؤه. و لأنّ فيه منفعة كمنفعة كلب الماشية و الزرع من الحفظ و الحراسة.» «2»

6- و راجع في هذا المجال المغني لابن قدامة. «3» فهم أيضا متّفقون في جواز اقتناء الكلاب الثلاثة.

أقول: ذكر كلب الماشية و الزرع و الحائط في كلمات الأصحاب في رديف كلب الصيد ربّما يقوّي ما مرّ منّا من أنّ ذكر كلب الصيد في الأخبار و الفتاوى لعلّه كان من باب المثال.

كيف؟! و من البعيد جدّا أن يقال بجواز اقتناء الكلب و حرمة إتلافه على صاحبه و ضمانه له المستلزم لماليّته، و مع ذلك يحكم بحرمة المعاملة عليه تعبّدا. و المعاوضات‌

______________________________
(1) نفس المصدر و الفصل.

(2) المنتهى 2/ 1009، كتاب التجارة، المقصد الثانى، البحث الأوّل.

(3) المغنى لابن قدامة 4/ 301، كتاب البيوع، حكم قتل الكلب و اقتنائه ...

521
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

كلمات الأصحاب ؛ ج‌1، ص : 519

..........

______________________________
شرّعت لتبادل الحاجات و ليس بناؤها على التعبد المحض نظير الأحكام العبادية. هذا.

7- و روى السكوني عن أبي عبد اللّه «ع»: «أنّ النبيّ «ص» رخّص لأهل القاصية في كلب يتّخذونه.» «1»

8- و روى محمد بن قيس عن أبي جعفر «ع» قال: قال أمير المؤمنين «ع»: «لا خير في الكلاب إلّا كلب صيد أو كلب ماشية.» «2»

9- و عن عوالي اللآلي عن النّبي «ص» في حديث: فقال: «لا أدع كلبا بالمدينة إلّا قتلته، فهربت الكلاب حتّى بلغت العوالي. فقيل: يا رسول اللّه، كيف الصيد بها و قد أمرت بقتلها؟ فسكت رسول اللّه «ص» فجاء الوحي باقتناء الكلاب التي ينتفع بها فاستثنى رسول اللّه «ص» كلاب الصيد و كلاب الماشية و كلاب الحرث و أذن في اتّخاذها.» «3»

10- و عن الشيخ أبي الفتوح الرازي في تفسيره عن أبي رافع عن النبيّ «ص» في حديث أنّه رخّص في اقتناء كلب الصيد. و كلّ كلب فيه منفعة مثل كلب الماشية و كلب الحائط و الزرع، رخّصهم في اقتنائه. «4»

هذا مضافا إلى أنّ اللّه القادر الحكيم لم يخلق الكلب عبثا، و استقرّت سيرة العقلاء و كذا المتشرّعة في جميع الأعصار على اقتناء الكلاب و تعليمها و تربيتها و الانتفاع بها‌

______________________________
(1) الوسائل 8/ 388، كتاب الحجّ، الباب 43 من أبواب أحكام الدوابّ، الحديث 7.

(2) الوسائل 8/ 387، كتاب الحج، الباب 43 من أبواب أحكام الدوابّ، الحديث 2.

(3) مستدرك الوسائل 2/ 430، كتاب التجارة، الباب 12 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 6.

(4) المصدر السابق، الحديث 7.

522
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

كلمات الأصحاب ؛ ج‌1، ص : 519

..........

______________________________
في شئونهم المختلفة، و لا يستقيم حفظ المواشي و الحيطان في أكثر البلدان إلّا بها. و في عصرنا كثرت منافعها و الاستفادة منها في أمور مهمّة، فلا يمكن القول بحرمة اقتنائها.

نعم يستفاد من بعض الأخبار أنّ الناس كانوا يفرطون في اقتنائها في البيوت و إطلاقها في مجالي الحياة و التعيش كما هو الشائع في عصرنا أيضا و كان ضرّها أكثر من نفعها، فلأجل ذلك وقع النهي عن اتّخاذها في البيوت و الترغيب في قتل بعض أنواعها، فراجع الوسائل. «1»

و إذا فرض جواز اقتناؤها و ترتّب الفوائد الكثيرة عليها بعد تعليمها و تربيتها فالحكم بحرمة المعاملة عليها جزاف لا ينسب إلى الشارع الحكيم و الشريعة السّمحة الخالدة.

و لأجل ذلك كلّه وردت الروايات المستفيضة من طرق الفريقين بجواز بيع الصيود منها، فإمّا أن يكون ذكره من باب المثال أو يفسّر الصيد بنحو يشمل ما يترقّب من كلب الماشية و الزرع و نحوهما أيضا كما مرّ بيانه.

و لا يخفى أنّ المسألة ذات قولين بين الأصحاب، حتّى إنّ بعضهم كالشيخ يظهر منه المنع في بعض الكتب و الجواز في آخر. و المشهور بين المتأخّرين هو الجواز.

و عمدة نظر المانعين إلى الحصر المستفاد من استثناء كلب الصيد. و إذا فرض التعدّي من ظاهر هذه الروايات و عدم الأخذ بالحصر المستفاد منها فلا يتفاوت الأمر بين أن يكون المستثنى ثلاثة أنواع من الكلب أو أزيد أو أقل بل الملاك وجود المنفعة العقلائيّة المشروعة الموجبة للماليّة، و يحمل الأنواع المذكورة في كلماتهم على المثال، و إن عدّ البعض الاختلافات الواقعة في ذكر الأمثلة أقوالا مختلفة.

______________________________
(1) الوسائل 8/ 387، الباب 43 من أبواب أحكام الدوابّ.

523
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

كلمات الأصحاب ؛ ج‌1، ص : 519

..........

______________________________
و حيث إنّ تحقيق المسألة يتوقّف على ملاحظة كلمات الأعلام في المقام فلنتعرّض لبعضها و إن لزم التكرار، فإنّ الحوالة لا تخلو من الخسارة:

1- قال الشيخ الطوسي في المكاسب المحظورة من النهاية: «و كذلك ثمن الكلب إلّا ما كان سلوقيّا للصيد فإنّه لا بأس ببيعه و شرائه و أكل ثمنه و التكسّب به.» و نحوه عبارة المفيد في المقنعة كما مرّت. «1»

2- و في بيع الخلاف (المسألة 302): «يجوز بيع كلاب الصيد و يجب على قاتلها قيمتها إذا كانت معلّمة. و لا يجوز بيع غير الكلب المعلّم على حال ... دليلنا إجماع الفرقة و أخبارهم فإنّهم لا يختلفون فيه.» «2» و قد مرّت عبارته بتمامها في أوّل المسألة، فراجع.

فظاهر الشيخ في الكتابين و كذا المفيد في المقنعة حصر المستثنى في كلب الصيد.

و يحتمل بعيدا أن يريد بالجملة الأخيرة نفي بيع الكلاب المهملة أو المضرّة فقط، فيكون المقصود من الكلب المعلّم أعمّ ممّا علّم للصيد أو للحراسة أو لغيرهما من الفوائد العقلائية المشروعة، حيث إنّ التعليم ملاك الماليّة في الجميع.

3- و لكن في إجارة الخلاف (المسألة 43): «يصح إجارة كلب الصيد للصيد (إجارة الكلب للصيد- ظ.) و حفظ الماشية و الزرع. و للشافعي فيه و جهان: أحدهما مثل ما قلناه.

و الآخر أنّه لا يجوز ذلك. دليلنا أنّ الأصل جوازه و المنع يحتاج إلى دليل. و لأن بيع هذه الكلاب يجوز عندنا و ما يصحّ بيعه يصحّ إجارته بلا خلاف.» «3»

______________________________
(1) النهاية للشيخ/ 364، باب المكاسب المحظورة ...؛ و المقنعة/ 589، كتاب التجارة، المكاسب المحرمة.

(2) الخلاف 3/ 181 (ط. أخرى 2/ 80)، كتاب البيوع.

(3) الخلاف 3/ 511 (ط. أخرى 2/ 216)، كتاب الإجارة.

524
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

كلمات الأصحاب ؛ ج‌1، ص : 519

..........

______________________________
4- و في بيع المبسوط: «و الكلاب على ضربين: أحدهما لا يجوز بيعه بحال. و الآخر يجوز ذلك فيه. فما يجوز بيعه ما كان معلّما للصيد. و روي أنّ كلب الماشية و الحائط كذلك. و ما عدا ذلك كلّه فلا يجوز بيعه و لا الانتفاع به.»
«1»

أقول: ذكره كلب الماشية و الحائط بعد كلب الصيد يدلّ على عدم شموله لهما.

و إسنادهما إلى الرواية ظاهر في ورود رواية ببيعهما. و يحتمل استنباطه ذلك ممّا ورد في جواز اقتنائهما على ما مرّ منّا من الملازمة بين جواز الانتفاع و جواز البيع. و لعلّه الظاهر أيضا من قوله أخيرا: «فلا يجوز بيعه و لا الانتفاع به.»‌

5- و في إجارة المبسوط: «إجارة الكلب للصيد و حراسة الماشية و الزرع صحيحة لأنّه لا مانع من ذلك. و لأنّ بيع هذه الكلاب يصحّ. و ما يصحّ بيعه يصحّ إجارته.» «2»

فانظر إلى اختلاف كلمات الشيخ خرّيت فقه الإمامية في مسألة واحدة.

6- و في المكاسب المحظورة من المراسم: «و بيع الكلاب إلّا السلوقي و كلب الماشية و الزرع.» «3»

و مؤلّف الكتاب سالار بن عبد العزيز الديلمي من أكابر تلامذة المفيد و المعاصر للشيخ الطوسي- رضوان اللّه تعالى عليهم أجمعين-.

7- و في أواخر الإجارة من مهذّب ابن البرّاج المشهور بالقاضي: «و إذا استأجر من غيره كلبا لحراسة الماشية أو الزرع، أو استأجره للصيد كان جائزا، لأنّه لا مانع يمنع من‌

______________________________
(1) المبسوط 2/ 166، كتاب البيوع، فصل في حكم ما يصحّ بيعه و ما لا يصحّ.

(2) المبسوط 3/ 250، كتاب الإجارات، فصل في تضمين الأجراء.

(3) الجوامع الفقهية/ 585 (ط. أخرى/ 647)، كتاب المكاسب من المراسم.

525
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

كلمات الأصحاب ؛ ج‌1، ص : 519

..........

______________________________
ذلك. و لأنّ بيع هذه الكلاب يصحّ. و ما صحّ بيعه صحّ الاستيجار له.»
«1»

و ظهور كلامه في الملازمة بين صحّة الإجارة المبنيّة على المنافع المحلّلة و صحّة البيع واضح. و الرجل من تلامذة الشيخ و معاصريه.

8- و في بيع الغنية في شرائط المبيع: «و اشترطنا أن يكون منتفعا به تحرّزا ممّا لا منفعة فيه كالحشرات و غيرها و قيّدنا بكونها مباحة تحفظا من المنافع المحرّمة، و يدخل في ذلك كلّ نجس لا يمكن تطهيره إلّا ما أخرجه الدليل من بيع الكلب المعلّم للصيد و الزيت النجس للاستصباح به تحت السماء و هو إجماع الطائفة.» «2»

أقول: فابن زهرة لم يستثن إلّا كلب الصيد و لكن يستفاد من كلامه ما نصرّ عليه من دوران الجواز و المنع مدار المنفعة المحلّلة و عدمها، فإذا ثبت جواز الانتفاع بالكلاب الثلاثة و غيرها ثبت قهرا جواز بيعها أيضا و يكون ذكر كلب الصيد من باب المثال.

9- و في بيع الوسيلة لابن حمزة: «و البهيمة ضربان: إمّا يحلّ لحمها أو يحرم ...

و الثاني إمّا يمكن الانتفاع بها مثل جوارح الطير و السباع و كلب الصّيد و الماشية و الزرع و الحراسة، و السنجاب و الفنك و السمّور و سباع الوحش للانتفاع بجلدها و صيدها مثل الفهد و النمر و الذئب و أشباه ذلك و جاز بيع جميع ذلك. و إمّا لا يمكن الانتفاع بها و يحرم بيعه، و هو ما سوى ذلك.» «3»

أقول: فجعل الملاك في جواز البيع و عدمه إمكان الانتفاع بها و عدمه.

______________________________
(1) المهذّب لابن البرّاج 1/ 502، أواخر كتاب الإجارة.

(2) الجوامع الفقهية/ 524 (ط. أخرى/ 586)، كتاب البيع من الغنية.

(3) الوسيلة/ 248، كتاب البيع، فصل في بيان بيع الحيوان.

526
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

كلمات الأصحاب ؛ ج‌1، ص : 519

..........

______________________________
10- و في السرائر: «و الرشا في الأحكام سحت و كذلك ثمن الكلب إلّا كلب الصيد سواء كان سلوقيّا- منسوب إلى سلوق، قرية باليمن- أو لم يكن، و كلب الزرع و كلب الماشية و كلب الحائط فإنّه لا بأس ببيع الأربعة كلاب و شرائها و أكل ثمنها، و ما عداها محرّم محظور ثمنه ... و قال شيخنا في نهايته: و الرشا في الأحكام سحت و كذلك ثمن الكلب إلّا ما كان سلوقيّا للصيد، فاستثنى السّلوقي فحسب. و الأظهر ما ذكرناه لأنّه لا خلاف بيننا أنّ لهذه الكلاب الأربعة ديات و أنّه تجب على قاتلها، و شيخنا فقد رجع في غير هذا الكتاب في مسائل خلافه عمّا ذكره في نهايته.»
«1»

11- و العلّامة في متاجر المختلف بعد نقل كلام النهاية و المبسوط و الخلاف قال:

«و قال ابن الجنيد: لا بأس بشراء الكلب الصائد و الحارس للماشية و الزرع. و قال ابن البرّاج: يجوز بيع كلب الصيد دون غيره من الكلاب. و قال ابن إدريس: يجوز [بيع] كلب الصيد ... و كلب الزرع و كلب الماشية و كلب الحائط. و به قال ابن حمزة. و هو الأقرب عندي. لنا: الأصل الإباحة. و لأنّه لو جاز بيع كلب الصيد جاز بيع باقي الكلاب الأربعة.

و الأوّل ثابت إجماعا فكذا الثاني. بيان الشرطيّة أنّ المقتضي للجواز هناك كون المبيع ممّا ينتفع به، و ثبوت الحاجة إلى المعاوضة. و هذان المعنيان ثابتان في صورة النزاع فيثبت الحكم عملا بالمقتضي السّالم عن المعارض إذ الأصل انتفاؤه، و لأنّ لها ديات منصوصة فتجوز المعاوضة عليها. و لأنّه يجوز إجارتها فيجوز بيعها.» «2»

أقول: ما حكاه عن ابن البرّاج مخالف لما مرّ عنه في إجارة المهذّب، فلعلّه قال ذلك في محلّ آخر.

______________________________
(1) السرائر 2/ 220، كتاب المكاسب، باب ضروب المكاسب، المكاسب المحظورة ...

(2) المختلف/ 341، كتاب المتاجر، الفصل الأوّل في وجوه الاكتساب.

527
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

كلمات الأصحاب ؛ ج‌1، ص : 519

..........

______________________________
و دلالة كلام العلّامة على دوران جواز البيع و المنع عنه مدار المنفعة المحلّلة و عدمها واضحة.

و القول بأنّ المنفعة مقتضية للجواز، و مجرّد المقتضي لا يكفي في تحقّق المقتضى بعد احتمال وجود المانع عن تأثيره، يردّه القطع هنا بعدم الفرق بين كلب الصيد و كلب الماشية و الزرع بعد اشتراك الجميع في النجاسة.

نعم يمكن المناقشة في كلب البيوت لاحتمال كونه في معرض تنجيس وسائل التعيّش و تعذّر الاحتراز منه كما مرّ عن المنتهى. و في الحديث: «يكره أن يكون في دار الرجل المسلم الكلب.» و نحوه غيره «1»، فتأمّل.

12- و في بيع التذكرة: «إن سوّغنا بيع كلب الصيد صحّ بيع كلب الماشية و الزرع و الحائط، لأنّ المقتضي و هو النفع حاصل هنا.» «2» و راجع في هذا المجال المنتهى أيضا «3»، حيث قوّى فيه الجواز.

13- و في إجارة التذكرة: «لا يجوز استيجار ما لا منفعة فيه محلّلة مقصودة في نظر الشرع فلا يصحّ إجارة كلب الهراش و الخنزير. و أمّا ما يجوز اقتناؤه من الكلاب و يصحّ بيعه و له قيمة في نظر الشرع و له منفعة محلّلة مثل كلب الصيد و الماشية و الزرع و الحائط فإنّه يجوز استيجاره لهذه المنافع لأنّه يجوز إعارته لهذه المنافع فجاز استيجاره، و لأنّه يصحّ بيعه عندنا و كلّ ما يصح بيعه ممّا يبقى من الأعيان يصحّ إجارته. و للشافعية و جهان:

أحدهما الجواز لهذا و الثاني: المنع ...» «4»

______________________________
(1) الوسائل 8/ 387، كتاب الحجّ، الباب 43 من أبواب أحكام الدوابّ، الحديث 1.

(2) التذكرة 1/ 464، كتاب البيوع، المقصد الأوّل، الفصل الرابع.

(3) المنتهى 2/ 1009، كتاب التجارة، المقصد الثانى، البحث الأوّل.

(4) التذكرة 2/ 295، كتاب الإجارة، الركن الرابع من الفصل الثانى.

528
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

كلمات الأصحاب ؛ ج‌1، ص : 519

..........

______________________________
14- و في القواعد: «و الأقرب جواز بيع كلب الصيد و الماشية و الزرع و الحائط و إجارتها و اقتناؤها ...»
«1»

15- و ذيّله ولده السعيد في الإيضاح بقوله: «هذا مذهب ابن الجنيد و ابن إدريس و ابن حمزة للأصل. و جوّز الشيخ و المفيد و ابن البراج بيع كلب الصيد دون غيره. لنا أنّه لو جاز بيع كلب الصيد جاز بيع باقي الكلاب الأربعة، و المقدّم ثابت إجماعا فالتالي مثله.

بيان الشرطيّة أنّ المقتضي للجواز هناك كون المبيع ممّا ينتفع به و ثبوت الحاجة إلى المعاوضة. و هذان المعنيان ثابتان في صورة النزاع فثبت الحكم ...» «2»

أقول: الظاهر أنّه أخذ الأقوال و الاستدلال من أبيه في المختلف و إلّا فالشيخ و ابن البراج أفتيا في إجارة المبسوط و المهذّب بالجواز كما مرّ.

16- و في متاجر اللّمعة فيما يحرم التجارة فيه قال: «و الكلب إلّا كلب الصيد و الماشية و الزرع و الحائط.» و يظهر من شرحه أيضا قبول ذلك، فراجع. «3»

17- و في المسالك: «و الأصحّ جواز بيع الكلاب الثلاثة لمشاركتها الكلب الصيد في المعنى المسوّغ لبيعه. و دليل المنع ضعيف السند قاصر الدلالة.» «4»

أقول: رواية محمّد بن مسلم و عبد الرحمن عن أبي عبد اللّه «ع» قال: «ثمن الكلب الذي لا يصيد سحت» موثوق بها كما مرّ. «5»

______________________________
(1) القواعد للعلّامة 1/ 120، كتاب المتاجر، المقصد الأول، الفصل الأول.

(2) إيضاح الفوائد 1/ 402، كتاب المتاجر، المقصد الأول، الفصل الأوّل.

(3) راجع الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية 1/ 308، الفصل الأوّل من كتاب المتاجر.

(4) المسالك 1/ 167، كتاب التجارة، الفصل الأوّل.

(5) الوسائل 12/ 83، كتاب التجارة، الباب 14 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 3.

529
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

كلمات الأصحاب ؛ ج‌1، ص : 519

..........

______________________________
18- و المحقّق المقدّس الأردبيلي في مجمع الفائدة في ذيل كلام المصنّف: «و كلب الهراش» بعد نقل ما مرّ عن المنتهى إجمالا من تقويته الجواز قال: «و يريد بكلب الهراش هنا ما لا ينتفع به فيكون مختاره هنا أيضا الجواز كما قوّاه في المنتهى، و ذلك غير بعيد للأصل مع حصول النفع المطلوب للعقلاء. مع عدم المنع في نصّ و إجماع. و مجرّد كونه نجسا لا يصلح لذلك، و لا لعدم التملّك. فالظاهر التملّك و جواز ما يترتّب عليه. و يحتمل العدم لأنّ الأصل عدم التملّك و البيع فرعه. و للرواية الدالّة على أنّ: «ثمن الكلب سحت.» خرج كلب الصيد بدليل آخر و بقي الباقي و لا دليل على التملّك.

و يمكن أن يكون عموم خلق الأشياء للإنسان و لانتفاعه بها و قبضه لها مع صلاحيّة الانتفاع به دليلا له كما في سائر المباحات. و يحمل رواية: «ثمن الكلب سحت»- مع عدم ظهور الصحة- على كلب الهراش الذي لا نفع فيه غير الكلاب الأربعة، فتأمّل.» «1»

أقول: لعلّه أشار بقوله: «فتأمّل» إلى ما يمكن أن يقال أوّلا بأنّ حمل روايات المنع على كلب لا ينتفع به أصلا لا يخلو من إشكال، إذ العاقل لا يقدم على معاملة لا نفع فيها أصلا، فكيف تحمل الأخبار المستفيضة الواردة من طرق الفريقين على المنع على كلب لا منفعة له و لا قيمة و لا يقدم على بيعه عاقل؟ اللّهم إلّا أن يقال بحملها على كلب يباع بقصد المنافع المحرمة كالاستمتاعات المحرّمة و الهجوم على الناس ظلما و عدوانا، و نحو ذلك.

و ثانيا بأنّ النصوص السابقة المستثنية لكلب الصيد فقط ظاهرة في المنع، فما معنى قوله: «مع عدم المنع في نصّ و إجماع»؟ هذا.

______________________________
(1) مجمع الفائدة و البرهان 8/ 37، كتاب المتاجر، أقسام التجارة و أحكامها.

530
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

كلمات الأصحاب ؛ ج‌1، ص : 519

..........

______________________________
19- و لكن خريت فقه الشيعة في عصره المحقّق الحلّي «ره» قال في الشرائع: «لا يجوز بيع شي. من الكلاب إلّا كلب الصيد. و في كلب الماشية و الزرع و الحائط تردّد. و الأشبه المنع. نعم يجوز إجارتها، و لكلّ واحد من هذه الأربعة دية لو قتله غير المالك.»
«1»

أقول: قوله: «الأشبه المنع» يراد به أنّ ما يناسب موازين الفقه و قواعده، هو المنع إذ دلّ عليه النصوص المتضمّنة لاستثناء كلب الصيد فقط الدالّة على عموم المستثنى منه لجميع ما بقي تحته. و قوله: «نعم يجوز إجارتها» إشارة إلى ردّ من قايس المقام بالإجارة و جعل المناط فيهما واحدا. و ذكره للدية إشارة إلى ردّ من قال: إنّ الدية قيمة للكلب فيجوز أخذها بإزائه بالمعاملة أيضا.

20- و في كفاية المحقّق السبزواري: «المشهور جواز بيع كلب الصيد و نقل عن جماعة الإجماع عليه و يدلّ عليه النصّ. و لا أعلم خلافا في عدم صحّة بيع كلب الهراش. و اختلفوا في كلب الماشية و الزرع و الحائط، و الأقرب المنع لصحيحة عبد الرحمن و محمّد بن مسلم ...» «2»

21- و في الحدائق بعد نقل أخبار كلب الصيد قال: «و هذه الأخبار كلّها- كما ترى- متفقة على ما ذكرناه من أنّ ما عدا كلب الصيد فإنّه لا يجوز بيعه و لا شراؤه، و لم أقف على خبر يتضمّن استثناء غيره سوى ما في عبارة المبسوط من قوله: «و روي أنّ كلب الماشية و الحائط مثل ذلك.» و في الاعتماد على مثل هذه الرواية في تخصيص هذه الأخبار إشكال ...»، فراجع. «3»

______________________________
(1) الشرائع/ 265 (ط. أخرى 2/ 11)، كتاب التجارة، الفصل الأوّل فيما يكتسب به.

(2) كفاية الأحكام/ 88، كتاب التجارة، البحث الثالث من المقصد الثانى.

(3) الحدائق 18/ 81، كتاب التجارة، المقدمة الثالثة فيما يكتسب به، في ثمن كلب غير الصيد.

531
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

المختار في المسألة ؛ ج‌1، ص : 532

[المختار في المسألة]

إذ لم نجد مخصّصا لها سوى ما أرسله في المبسوط من أنّه روي ذلك يعني جواز البيع في كلب الماشية و الحائط المنجبر قصور سنده و دلالته لكون المنقول مضمون الرواية لا معناها و لا ترجمتها، باشتهاره بين المتأخّرين (1). بل ظهور الاتّفاق المستفاد من قول الشيخ في كتاب الإجارة أنّ أحدا لم يفرّق بين بيع هذه الكلاب و إجارتها بعد ملاحظة الاتّفاق على صحّة إجارتها. و من قوله «ره» في التذكرة: «يجوز بيع هذه

______________________________
أقول: و قد مرّ عن الفقه على المذاهب الأربعة
«1» عن الحنفية: «يصحّ بيع كلب الصيد و الحراسة و نحوه من الجوارح.» و غير الحنفية لا يجوزون بيع الكلاب مطلقا و لو كان كلب صيد، نعم يجوّزون اقتناءها و الانتفاع بها.

و يظهر من كلمات أصحابنا في المقام أنّ المسألة ذات قولين، و أنّ القائل بالمنع يستند إلى عموم أخبار المنع المستثنى منه كلب الصيد فقط.

و عمدة مستند القائل بالجواز اشتراك الأربعة في المنفعة المحلّلة و كونها ذات قيمة و ثبوت الملازمة بين صحّة الإجارة و صحّة البيع. و إذا فرض التعدّي عن كلب الصيد فيتعدى إلى كلّ ما فيه منفعة محلّلة و لا ينحصر في الكلاب الثلاثة، و عدم التعرّض لسائر المنافع في كلام الأصحاب من جهة عدم الالتفات إليها في تلك الأعصار.

(1) إذا وقفت على بعض كلمات الأصحاب في المقام فلنبيّن ما هو المختار عندنا.

فنقول: الأصل الأوّلي في المعاملات عدم الصحّة و عدم النفوذ، و يعبّر عن ذلك بأصالة الفساد.

______________________________
(1) الفقه على المذاهب الأربعة 2/ 231، كتاب البيع، مبحث بيع النجس و المتنجّس.

532
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

المختار في المسألة ؛ ج‌1، ص : 532

الكلاب عندنا.» و من المحكيّ عن الشهيد في الحواشي: «أنّ أحدا لم يفرّق بين الكلاب الأربعة.» فيكون هذه الدعاوي قرينة على حمل كلام من اقتصر على كلب الصيد على المثال لمطلق ما ينتفع به منفعة محلّلة مقصودة.

كما يظهر ذلك من عبارة ابن زهرة في الغنية، حيث اعتبر أوّلا في المبيع أن يكون ممّا ينتفع به منفعة محلّلة مقصودة، ثمّ قال: «و احترزنا بقولنا: ينتفع به منفعة محلّلة عمّا يحرم الانتفاع به. و يدخل في ذلك كلّ نجس إلّا ما خرج بالدليل من بيع الكلب المعلّم للصيد و الزيت النجس للاستصباح تحت السّماء.»

______________________________
و ما يظهر من بعض الكلمات من التمسّك بأصالة الإباحة فيها مخدوش. إذ أصل الإباحة إنّما يفيد فيما إذا شك في جواز الفعل تكليفا لا في صحة المعاملة و فسادها وضعا. اللّهم إلّا أن يحمل الإباحة في كلماتهم على الأعمّ من التكليف و الوضع و يستدلّ لها بإطلاقها، بأخبار الحلّ بحملها على الأعمّ كما مرّ بيانه سابقا. هذا.

و لكن يرفع اليد عن أصل الفساد بعمومات الوفاء بالعقود و حلّية البيع و التجارة عن تراض بناء على إطلاق دليلهما بل و باستقرار سيرة العقلاء و المتشرعة في جميع الأعصار على تنفيذها إلا فيما ثبت المنع عنه.

و لعلّ الشارع الحكيم في هذا السنخ من الأمور العرفية التي يدور عليها حياة البشر أحالهم إلى عقولهم و خلّاهم و العقول إلّا فيما ثبت ردعهم. و في المقام حيث إنّ ظاهر الأخبار السابقة عدم الجواز إلّا في كلب الصيد فلا بدّ للقائل بالجواز في غيره من الكلاب‌

533
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الإجماع و السيرة على جواز الانتفاع بهذه الكلاب ؛ ج‌1، ص : 534

[الإجماع و السيرة على جواز الانتفاع بهذه الكلاب]

و من المعلوم بالإجماع و السيرة جواز الانتفاع بهذه الكلاب منفعة محلّلة مقصودة أهمّ من منفعة الصيد، فيجوز بيعها لوجود القيد الذي اعتبره فيها. و أنّ المنع من بيع النجس منوط بحرمة الانتفاع فينتفي بانتفائها.

و يؤيّد ذلك كلّه ما في التذكرة: من أنّ المقتضي لجواز بيع كلب الصيد أعني المنفعة موجود في هذه الكلاب.

و عنه في مواضع أخر: أنّ تقدير الدية لها يدلّ على مقابلتها بالمال.

و إن ضعّف الأوّل برجوعه إلى القياس.

______________________________
النافعة من دليل معتدّ به يوجب رفع اليد عن هذا الظاهر و حمل كلب الصيد في الأخبار على المثال أو تخصيص عموم المستثنى منه بسببه. و قد تعرّض المصنّف في المتن لما ذكروه من الأدلّة فلنتعرّض لها إجمالا:

الأوّل: ما أرسله في المبسوط من قوله: «و روي أن كلب الماشية و الحائط كذلك.» «1»

بضميمة جبره سندا و دلالة باشتهاره بين المتأخّرين بل بالإجماعات المدّعاة في المسألة.

و يرد عليه أوّلا: عدم ثبوت الرواية و عدم ضبطه في كتب الحديث التي بأيدينا من كتب الفريقين.

و قد احتملنا استنباطه ذلك ممّا ورد في جواز اقتناء الكلبين من جهة الملازمة المدّعاة بين جواز الاقتناء و جواز البيع كما مرّ منّا بيانه.

______________________________
(1) المبسوط 2/ 166، كتاب البيوع، فصل في حكم ما يصحّ بيعه و ما لا يصحّ.

534
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الإجماع و السيرة على جواز الانتفاع بهذه الكلاب ؛ ج‌1، ص : 534

و الثاني بأنّ الدية لو لم تدلّ على عدم التملّك- و إلّا لكان الواجب القيمة كائنة ما كانت- لم تدلّ على التملّك. لاحتمال كون الدية من باب تعيين غرامة معيّنة لتفويت شي‌ء ينتفع به لا لإتلاف مال كما في إتلاف الحرّ.

______________________________
و الظاهر- كما صرّح به المصنّف و يشهد به التعبير بلفظ كذلك أيضا- عدم كون المرويّ لفظ الإمام و لا ترجمته و لا معناه بل المضمون المستفاد منه بالحدس و الاجتهاد، نظير إفتاء المجتهد بما يستنبطه من الرواية، و مثل هذا لا يشمله أدلّة حجّية الخبر كما قرّر في محلّه.

و ثانيا: عدم إحراز استناد المشهور إلى المرسلة كي يكون هذا جابرا لضعفه. و مجرد مطابقة فتواهم لها لا يدلّ على استنادهم إليها.

و ثالثا: أنّ الشهرة الجابرة لضعف الرواية- على القول به- هي شهرة القدماء المتعبّدين بالإفتاء على طبق النصوص الواردة لا الشهرة بين المتأخّرين، حيث إنّ بناءهم على الإفتاء بما أدّى إليه أنظارهم و اجتهاداتهم الحدسيّة، و ليس مثلها كاشفا عن تلقّي الحكم عن المعصومين «ع».

و رابعا: لو سلّم كون الشهرة مطلقا جابرة لضعف السند فلا دليل على كونها جابرة للدلالة، إذ مرجع ذلك إلى حجيّة فهم الأصحاب و تقليدهم في ذلك.

الثاني: دعوى الإجماع و الاتّفاق المستفاد من قول الشيخ في إجارة الخلاف: «و لأنّ بيع هذه الكلاب يجوز عندنا، و ما يصحّ بيعه يصحّ إجارته بلا خلاف.» «1» و من قول‌

______________________________
(1) الخلاف 3/ 511 (ط. أخرى 2/ 216) المسألة 43 من كتاب الإجارة.

535
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الإجماع و السيرة على جواز الانتفاع بهذه الكلاب ؛ ج‌1، ص : 534

..........

______________________________
العلّامة في إجارة التذكرة: «و لأنّه يصحّ بيعه عندنا، و كلّ ما يصحّ بيعه ممّا يبقى من الأعيان يصحّ إجارته.»
«1» و من المحكيّ عن الشهيد في الحواشي: «أنّ أحدا لم يفرّق بين الكلاب الأربعة.» «2» فتكون هذه الدعاوي قرينة على حمل كلب الصيد في كلام من اقتصر عليه على المثال، بل ينجبر بها أيضا ضعف المرسلة المتقدّمة.

و يرد عليه أوّلا: أنّ هذه الدعاوي معارضة بما مرّ عن الخلاف و الغنية من دعوى الإجماع على عدم جواز بيع غير المعلّم من الكلاب. و حمل المعلّم على الأعمّ ممّا علّم للصيد أو لغيره أو حمل كلب الصيد على الأعمّ، أو حمله على المثال كلّها خلاف الظاهر لا يصار إليها إلّا بدليل قويّ.

و ثانيا: أنّ المتتبّع يجد أنّ المسألة بين أصحابنا كانت خلافيّة قديما و حديثا، فيكون ادعاء الاتّفاق فيها موهونا. و كيف ادّعى الشهيد أنّ أحدا لم يفرّق بين الكلاب الأربعة مع تحقّق الخلاف في المسألة و تحقّق الإجماع في كلب الصيد؟! إلّا أن يكون نظره إلى مسألة جواز الانتفاع التي مرّ اتّفاق الفريقين فيها، أو إلى فقهاء العامّة حيث إنّ الشافعيّة و الحنابلة و بعض المالكيّة منهم منعوا من بيع الكلاب مطلقا حتّى كلب الصيد، و الحنفية و بعض المالكيّة ذهبوا إلى صحّته مطلقا.

و ثالثا: احتمال كون الإجماع المدّعى- على فرض تحقّقه- مدركيا لاحتمال كون المدرك له ما بيّناه و يظهر من الأعلام أيضا من الملازمة بين جواز الانتفاع و صحّة البيع.

و قد مرّ الاتفاق في تلك المسألة، أو الملازمة بين صحّة الإجارة و صحّة البيع. و ليس‌

______________________________
(1) التذكرة 2/ 295، كتاب الإجارة، الركن الرابع من الفصل الثانى.

(2) راجع متن المكاسب للشيخ الأعظم؛ و كذا مفتاح الكرامة 4/ 29.

536
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الثالث من أدلة الجواز: أنه إذا جاز بيع كلب الصيد مع كونه من الأعيان النجسة جاز بيع باقي الكلاب النافعة أيضا ؛ ج‌1، ص : 537

..........

______________________________
الإجماع بما هو إجماع و اتّفاق حجّة عندنا، بل بسبب كشفه عن قول المعصومين «ع».

و هذا إنّما يصحّ في المسائل المأثورة عنهم «ع» المبتنية على النقل، لا المسائل التفريعية المبتنية على الاستنباط و الاجتهاد أو المحتملة لذلك، فتدبر.

الثالث من أدلّة الجواز: أنّه إذا جاز بيع كلب الصيد مع كونه من الأعيان النجسة جاز بيع باقي الكلاب النافعة أيضا.

و المقدّم ثابت بالإجماع و الأخبار الواردة، فالتالي مثله.

بيان ذلك أنّ المقتضي للجواز في كلب الصيد هو المنفعة المحلّلة العقلائيّة و ثبوت الماليّة بسببها و الحاجة إلى معاوضته، و هي بتمامها متحقّقة في الكلاب الثلاثة و غيرها من الكلاب النافعة. بل المنفعة في كثير منها تكون أهمّ من منفعة الصيد بمراتب، و الحاجة إلى المعاوضة فيها أشدّ. و النجاسة لو كانت مانعة لمنعت في كلب الصيد أيضا. و لا نتصوّر مانعا آخر بعد حلّية الانتفاع به و ماليّته عند العقلاء. فالحكم بحرمة المعاملة عليها مع ذلك يعدّ جزافا لا ينسب إلى الشارع الحكيم و الشريعة السمحة الخالدة.

و يستفاد هذا الدليل من كثير من كلمات الأصحاب كابن حمزة في الوسيلة و العلّامة في التذكرة و المختلف و ولده في الإيضاح و الأردبيلي في مجمع الفائدة، فراجع ما مرّ من كلماتهم.

و ابن زهرة في الغنية و إن استثنى من الكلاب كلب الصيد فقط لكنّه يظهر من عبارته أنّ سبب المنع عنده ليس هو النجاسة بل عدم كون الشي‌ء منتفعا به منفعة محلّلة، و لأجل ذلك استثنى كلب الصيد و الزيت النجس للاستصباح، فيتراءى من كلامه أنّ ذكرهما من باب المثال. و قد مرّ بالتفصيل جواز الانتفاع بالكلاب الثلاثة بالإجماع و الأخبار و استقرار سيرة العقلاء و المتشرعة في جميع الأعصار و أنّ المعاملات شرّعت لتبادل الحاجات و ليست كالعبادات المبنيّة على التعبّد المحض و الأسرار و المصالح الخفيّة.

537
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الرابع: أن ثبوت الدية على قاتل هذه الكلاب شرعا ؛ ج‌1، ص : 538

..........

______________________________
و المناقشة برجوع ذلك إلى القياس- كما في المتن- يمكن رفعها بأنّ الحكم على طبق الملاك القطعي، و إلقاء الخصوصيّة المذكورة لا يعدّ قياسا. و القول بأنّ مجرد المقتضي لا يكفى في الحكم بوجود المقتضى لاحتمال وجود المانع عن تأثيره مرّ الجواب عنه بعدم تصور المانع غير النجاسة، و قد مرّ أنّها لو منعت لمنعت في كلب الصيد أيضا. فالظاهر جواز الاستناد إلى هذا الدليل للحكم بالجواز، و به يخصّص عمومات المنع أو يحمل كلب الصيد في الأخبار على المثال بإلقاء الخصوصيّة.

و قد مرّت صحيحة محمّد بن قيس عن أبي جعفر «ع»: قال: قال أمير المؤمنين «ع»:

«لا خير في الكلاب إلّا كلب صيد أو كلب ماشية.» «1» و كيف يوجد في كليهما الخير الموجب لماليّتهما و مع ذلك يجوز بيع أحدهما دون الآخر؟! فالصحيحة بنفسها دليل على جواز المعاملة عليهما.

هذا كلّه على فرض حمل لفظ السحت في أخبار الكلب على الحرمة، و أمّا لو قلنا بأنّ ثمن الكلب ذكر في الأخبار في سياق ثمن الدم و كسب الحجام أيضا و هما غير محرّمين قطعا كما مرّ، و قد فسّروا لفظ السحت بمطلق ما فيه عار و خسّة لا يناسبان شئون الإنسان فكيف بالإنسان المؤمن، و على هذا فيمكن حمل هذه الأخبار بل أخبار النهي أيضا على الكراهة، و مقتضى الاستثناء فيها سلب الكراهة عن بيع كلب الصيد. و على هذا فيرتفع الإشكال بحذافيره إذ لا نأبى عن كراهة بيع الكلاب الثلاثة لخسّتها و رداءتها.

الرابع: أنّ ثبوت الدية على قاتل هذه الكلاب شرعا

يدلّ على ماليّتها و جواز المعاوضة عليها، و قد مرّ عن المختلف قوله: «و لأن لها ديات منصوصة فتجوز المعاوضة‌

______________________________
(1) الوسائل 8/ 387، كتاب الحجّ، الباب 43 من أبواب أحكام الدّواب، الحديث 2.

538
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الرابع: أن ثبوت الدية على قاتل هذه الكلاب شرعا ؛ ج‌1، ص : 538

..........

______________________________
عليها» و قد مرّ نظير ذلك عن السرائر أيضا.
«1»

و قد قدّرت في أخبارنا دية كلب الصيد باربعين درهما و دية كلب الماشية بعشرين درهما كما في بعض الأخبار أو بكبش كما في بعضها. «2»

و أورد على ذلك المصنّف بما محصّله: أنّ الدية لا تدلّ على الملكية فضلا عن جواز المعاوضة عليها. بل لعلّ التعبير بالدية تكشف عن عدم الملكية، و إلّا لكان الواجب هو القيمة كائنة ما كانت و هي تختلف باختلاف الكلاب و الرّغبات و الأزمنة و الأمكنة.

فالدية غرامة جعلها الشارع لما يكون محترما و ليس مملوكا يقوّم، نظير الحرّ و أعضائه.

أقول: الظاهر أنّ المقصود بالدية في أخبار الكلب ليس إلّا قيمته. و قياسه على الحرّ مع الفارق، فإنّ الحرّ فوق أن يقوّم أو يملك، و هذا بخلاف الكلب، و لذا قدّر في الأخبار لكلب الصيد أيضا الدّية مع أنّ بيعه جائز بالإجماع و لا محالة يتحقق ذلك بتقويمه و لا يتعين بيعه بالدّية المقدّرة، و الحرّ لا يقوّم و لا يباع أصلا.

و في ديات الشرائع: «دية الكلاب الثلاثة مقدّرة على القاتل. أمّا لو غصب أحدها و تلف في يد الغاصب ضمن قيمته السّوقية و لو زادت عن المقدر.» «3»

و لعلّ التقدير كان لصورة عدم إمكان التقويم السوقي.

و في صحيح ابن مسكان: «دية العبد قيمته.» و نحوه أخبار أخر. «4» فأطلق على القيمة لفظ الدّية.

______________________________
(1) راجع المختلف 1/ 341، كتاب المتاجر، الفصل الأوّل؛ و السرائر 2/ 220، كتاب المكاسب، باب ضروب المكاسب.

(2) راجع الوسائل 19/ 167، كتاب الديات، الباب 19 من أبواب ديات النّفس.

(3) الشرائع/ 1051 (ط. أخرى 4/ 286)، كتاب الديات، النظر الرابع في اللواحق.

(4) الوسائل 19/ 152، الباب 6 من أبواب ديات النفس، الحديث 1 و غيره.

539
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الخامس: صحة إجارة الشي‌ء تكشف عن وجود منفعة محللة له ؛ ج‌1، ص : 540

..........

______________________________
و من المحتمل أنّ تقدير الديات لأنواع الكلاب كان تقويما لها من النبيّ «ص» لدفع المنازعات المحتملة كثيرا في عصره. و بعبارة أخرى: كان التقويم لها حكما سلطانيا من النبي «ص» لا حكما إلهيّا، و لذا نسب تقديرها إلى رسول اللّه «ص»، فراجع.

بل يحتمل هذا الأمر في الديات المقدّرة للإنسان أيضا، و التحقيق موكول إلى محلّه.

و في معتبرة السكوني، عن أبي عبد اللّه «ع»، عن أمير المؤمنين «ع» في من قتل كلب الصيد قال: «يقوّمه. و كذلك البازي. و كذلك كلب الغنم. و كذلك كلب الحائط.» «1»

و حملها على الدية المقدرة خلاف الظاهر بل الظاهر منها القيمة السّوقية. و حملها على التقية كما في الوسائل غير واضح، إذ المشهور بين العامّة عدم الغرم في الكلاب، فراجع المغني. «2»

و بالجملة فالاستدلال بلفظ الدية على عدم التملك و عدم القيمة للكلب مدفوع لنقضه بكلب الصيد.

الخامس: [صحة إجارة الشي‌ء تكشف عن وجود منفعة محلّلة له]

أنه لا إشكال في جواز إجارة الكلاب الثلاثة كما مرّ في كلماتهم، و إذا صحت إجارتها صحّ بيعها أيضا. إذ صحة إجارة الشي‌ء تكشف عن وجود منفعة محلّلة له، و مقتضى ذلك ثبوت الماليّة له فجاز بيعه أيضا. و قد مرّ عن المختلف قوله: «و لأنّه يجوز إجارتها فيجوز بيعها.»‌

و يظهر من الشيخ في إجارة الخلاف و المبسوط و ابن البرّاج في المهذب عكس ذلك، حيث فرضوا صحّة بيعها و استدلوا بها لصحة إجارتها.

______________________________
(1) المصدر السابق ص 167، الباب 19 من أبواب ديات النفس، الحديث 3.

(2) المغنى 4/ 301، كتاب البيوع، باب المصراة و ثبوت الخيار فيها.

540
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الخامس: صحة إجارة الشي‌ء تكشف عن وجود منفعة محللة له ؛ ج‌1، ص : 540

..........

______________________________
و ناقش في هذا الدليل في مصباح الفقاهة بما هذا لفظه: «و فيه أنّه لا ملازمة شرعية بين صحة الإجارة و صحة البيع. فإنّ إجارة الحرّ و أمّ الولد جائزة بالاتفاق و لا يجوز بيعهما. كما لا ملازمة بين صحة البيع و صحة الإجارة، فإنّ بيع الشعير و الحنطة و عصير الفواكه و سائر المأكولات و المشروبات جائز اتفاقا و لا تصح إجارتها، فإن من شرائط الإجارة أن العين المستأجرة مما يمكن الانتفاع بها مع بقاء عينها، و الأمور المذكورة ليست كذلك.»
«1»

أقول: دعوى الملازمة بين صحة البيع و صحة الإجارة من الطرفين من جهة أن صحّة بيع الشي‌ء تكشف عن ماليّته، و اعتبار المالية فيه يكون بلحاظ منافعه المقصودة. و إذا كان للشي‌ء منافع مقصودة محلّلة صحّت إجارته بلحاظها. كما أنّ صحة إجارة الشي‌ء تكشف عن وجود المنافع المقصودة المحلّلة فيه، و هذه توجب ماليّته. و إذا كان الشي‌ء مالا صحّ بيعه قهرا.

غاية الأمر أنّه يشترط في صحة الإجارة أمر آخر أيضا، و هو إمكان الانتفاع به مع بقاء عينه، و لذا لا تصحّ إجارة المأكولات و المشروبات للأكل و الشرب. كما أنّه يشترط في البيع أيضا أمر آخر، و هو كون العين قابلة للتملك شرعا، و لذا لا يصحّ بيع الحرّ و أمّ الولد. و لكن هذان النقضان غير واردين في الكلب، إذ الكلب ليس مثل الحنطة و الشعير، إذ ليست إجارته لأكله. كما أنّه ليس مثل الحرّ و أمّ الولد، إذ ليس فيه قداستهما المانعة عن تملكهما. و احتمال عدم قابليته له لدنائته و خسته يدفعه الحكم بالضمان له و تقويمه شرعا عند غصبه أو إتلافه كما مرّ.

و على هذا فالملازمة المدّعاة بين صحة البيع و صحة الإجارة من الطرفين صحيحة إجمالا، فتدبّر.

______________________________
(1) مصباح الفقاهة 1/ 98، في حرمة بيع كلب الحراسة.

541
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

السادس: أن مقتضى الجمع بين الأدلة هو الجواز في المقام ؛ ج‌1، ص : 542

السادس: أنّ مقتضى الجمع بين الأدلة هو الجواز في المقام.

______________________________
إذ بين عموم ما دلّ على المنع عن بيع الكلاب إلّا الصيود منه، و بين عموم قوله «ع» في رواية تحف العقول السابقة:

«من جميع جهات المنافع التي لا يقيمهم غيره من كل شي‌ء يكون لهم فيه الصلاح من جهة من الجهات، فهذا كله حلال بيعه و شراؤه و إمساكه و استعماله و هبته و عاريته»، و في دعائم الإسلام عنه «ع»: «الحلال من البيوع كلّ ما هو حلال من المأكول و المشروب و غير ذلك مما هو قوام للناس و صلاح و يباح لهم الانتفاع»، و نحوهما ما في عبارة فقه الرضا السابقة، بل و مفهوم النبوي السابق: «إنّ اللّه- تعالى- إذا حرّم شيئا حرّم ثمنه» عموم من وجه كما لا يخفى.

و مورد اجتماع الدليلين و تعارضهما هي الكلاب المشتملة على صلاح العباد، مثل كلب الماشية و الزرع و الحائط و غيرها من الكلاب النافعة.

فإمّا أن يرجّح العمومات السابقة بموافقتها لعمومات الكتاب و السنّة الدالّة على وجوب الوفاء بالعقود و حلّية البيع و التجارة عن تراض، أو يقال بتساقط الدليلين في مورد الاجتماع. فيرجع بعد تساقطهما إلى عمومات الكتاب و السنّة، و يساعده الاعتبار العقلي أيضا كما مرّ بيانه في الدليل الثالث.

فإن قلت: هذا الجمع يوجب حمل أخبار المنع على خصوص الكلاب المهملة غير النافعة أو المضرّة التي لا يقدم على بيعها عاقل، فيلزم حمل كلام الشارع الحكيم على اللغو أو تخصيص الأكثر المستهجن.

قلت: الانتفاعات المحرّمة بالكلاب كاللعب بها في البيوت و المجامع و كإيذاء الناس بها من المحكومين و المأسورين كان شائعا في تلك الأعصار أيضا، فينصرف إليها أدلّة المنع.

542
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

السادس: أن مقتضى الجمع بين الأدلة هو الجواز في المقام ؛ ج‌1، ص : 542

..........

______________________________
مضافا إلى ما مرّ منا من منع دلالة لفظ السحت على الحرمة و احتمال أن يراد به خسّة الاكتساب بها و رداءته، فيكون مكروها كما في كسب الحجام و نحوه. هذا.

و المناسب هنا أن نتعرّض لما في مصباح الفقاهة في المقام في جواب الدليل السّادس، لما فيه من نفع عامّ: قال ما ملخصه: «فيه أوّلا: أنّا لو أغمضنا عما تقدم في رواية تحف العقول فإنّها لا تقاوم العمومات المذكورة في خصوص المقام، لأنّ كثرة الخلاف هنا مانعة عن انجبار ضعفها بعمل المشهور.

و ثانيا: أنه لا مناص هنا من ترجيح عمومات المنع عليها، لما بيناه في محلّه أنّ من جملة المرجحات عند تعارض الدليلين بالعموم من وجه أن يلزم من العمل بعموم أحدهما إلغاء الآخر من أصله. و حينئذ فلا بد من العمل بالآخر الذي لا يلزم منه محذور. و في المقام لو عملنا برواية تحف العقول في مورد التعارض لزم منه إلغاء عمومات المنع عن بيع الكلب إلّا الصيود منه. إذ لو خرجت الكلاب الثلاثة أيضا لما بقي تحتها إلّا كلب الهراش، و يكفي في المنع عن بيعه عدم النفع فيه فلا يحتاج إلى تلك العمومات المتظافرة. و أمّا إذا عملنا بعمومات المنع فلا يلزم منه محذور، لأن ما فيه الصلاح للعباد لا ينحصر في الكلاب النافعة.

و نظير ذلك المعارضة بين ما ورد من الأمر بغسل الثوب من أبوال ما لا يؤكل لحمه، و بين ما ورد من نفي البأس عن بول الطير و خرئه. فإنّا لو قدّمنا في الطير المحرّم الخبر الأوّل لكان ذكر الطير في الخبر الثاني لغوا محضا، لعدم دخالة عنوانه أصلا. و هذا بخلاف العكس، إذ لو عملنا بالخبر الثاني لم يلزم المحذور، لكثرة أفراد غير المأكول من غير جنس الطيور.

543
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

السادس: أن مقتضى الجمع بين الأدلة هو الجواز في المقام ؛ ج‌1، ص : 542

و نحوهما في الضعف دعوى انجبار المرسلة بدعوى الاتفاق المتقدم عن الشيخ و العلّامة و الشهيد قدّس اللّه أسرارهم. لوهنها- بعد الإغماض عن معارضتها بظاهر عبارتي الخلاف و الغنية من الإجماع على عدم جواز غير المعلّم من الكلاب- بوجدان الخلاف العظيم من أهل الرواية و الفتوى (1).

______________________________
و من هذا القبيل أيضا معارضة ما يدل على انفعال الماء القليل بملاقاة النجاسة لما يدلّ على عدم انفعال الماء الجاري، فإنّ العمل بإطلاق الطائفة الأولى و الحكم بانفعال الجاري القليل يوجب كون ذكر الجاري في الطائفة الثانية لغوا لعدم دخالته في الحكم حينئذ.

و لو انعكس الأمر لم يلزم المحذور لكثرة القليل من غير الجاري.» «1»

أقول: ما ذكره- قدّس سرّه- من القاعدة الكلّية في المتعارضين بالعموم من وجه كلام متين سار في كثير من أبواب الفقه.

و لكن قد مرّ في خصوص المقام وجود كلاب كان يستفاد منها منافع محرّمة عند الشرع كاللعب بها على ما اشتهر من يزيد و أمثاله أو إيذاء الناس بها على ما كان دأب الظلمة و الحكّام، فيمكن حمل أخبار المنع عليها، فتأمّل. و في عصرنا شاع اللعب بالكلاب و الاستمتاع بها.

(1) قد مرّ الإشكال في المرسلة و دعوى انجبارها بالشهرة أو الإجماع المدّعى في الدليل الأوّل، فراجع.

______________________________
(1) مصباح الفقاهة 1/ 99.

544
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

ادعاء الإجماع على المنع ؛ ج‌1، ص : 545

[ادّعاء الإجماع على المنع]

نعم لو ادّعي الإجماع أمكن منع وهنها بمجرد الخلاف و لو من الكثير. بناء على ما سلكه بعض متأخري المتأخرين في الإجماع من كونه منوطا بحصول الكشف من اتفاق جماعة و لو خالفهم أكثر منهم (1). مع أنّ دعوى الإجماع ممن لم يصطلح الإجماع على مثل هذا الاتفاق لا يعبأ بها عند وجدان الخلاف.

______________________________
(1) أقول: أشار المصنّف هنا إلى الفرق بين الاتفاق و بين الإجماع. فالاتفاق عبارة عن تطابق علماء الأمّة جميعا في جميع الأعصار على فتوى واحدة بحيث لا يوجد لهم مخالف. و أمّا الإجماع عندنا فيراد به فتوى جماعة يستكشف بها قول المعصوم «ع».

و النسبة بينهما عموم من وجه. إذ يمكن اتفاق العلماء جميعا في مسألة تفريعية مبنية على الاستنباط و النظر و مع ذلك لا يستكشف به قول المعصوم «ع»، نظير اتفاق الفلاسفة جميعا في مسألة فلسفيّة أو اتفاق الرياضيين في مسألة رياضية.

و يمكن اتفاق جمع من العلماء المتعبّدين بعدم الإفتاء إلّا على ما تلقّوه عن الأئمة «ع» يدا بيد فيقطع بإجماعهم بتلقي المسألة عن المعصوم «ع». و نعبّر عن هذا السنخ من المسائل بالأصول المتلقاة.

و قد مرّ منّا مرارا أنّ العامّة يعتبرون الإجماع بما هو اتفاق أهل الحلّ و العقد حجة بنفسه و دليلا مستقلا في قبال سائر الأدلة. و عليه بنوا أساس مسألة الخلافة و استندوا له بأدلّة منها: ما رووه عن النبيّ «ص» أنّه قال: «لا تجتمع أمّتي على خطأ.» «1»

______________________________
(1) روى ابن ماجة في سننه 2/ 1303 عن النبي «ص» أنّه قال: «إنّ أمّتي لا تجتمع على ضلالة ...» و لم يوجد في كتب الحديث للسنّة ما يشتمل على لفظ الخطأ. نعم هو مذكور في كتب الاستدلال. راجع «دراسات في ولاية الفقيه ...» 2/ 66.

545
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

ادعاء الشهرة على المنع ؛ ج‌1، ص : 546

[ادعاء الشهرة على المنع]

و أمّا شهرة الفتوى بين المتأخرين فلا تجبر الرواية خصوصا مع مخالفة كثير من القدماء (1)، و مع كثرة ظاهر العمومات الواردة في مقام الحاجة و خلوّ كتب الرواية المشهورة عنها. حتّى إنّ الشيخ لم يذكرها في جامعيه.

و أمّا حمل كلمات القدماء على المثال ففي غاية البعد.

______________________________
و أمّا أصحابنا الإمامية فينكرون حجية الإجماع بنفسه، بل من جهة كشفه عن قول المعصوم «ع» إمّا بدخول شخصه في المجمعين و إن قلّوا كما هو الظاهر من بعض القدماء و لكنه فرض بعيد قلّما يتفق، أو بوجوب الوفاق أو إلقاء الخلاف من ناحيته «ع» من باب اللطف لو فرض اتفاق الأمّة في عصر واحد على حكم واحد كما نسب إلى الشيخ، أو بحدس قوله «ع» حدسا قطعيا من فتوى الجماعة المتعبدين بعدم الإفتاء إلّا بما تلقوه عن الأئمة «ع» يدا بيد و لا أقلّ من اطلاعهم على رواية معتبرة عنهم «ع».

و التفصيل يطلب من محلّه. و الغرض هنا بيان إمكان تحقق الإجماع مع مخالفة الكثير من أهل الفتوى.

(1) قد عرفت أنّ بناء أكثر المتأخرين على الإفتاء بما أدّى إليه نظرهم و استنباطهم.

و أمّا القدماء فكان بناؤهم على الإفتاء بما تلقّوه عن الأئمة «ع» يدا بيد أو وجدوا به رواية معتبرة عنهم «ع». و على هذا فيمكن القول بحجيّة الشهرة بين القدماء، و منع حجية الإجماع فضلا عن الشهرة بين المتأخرين. فهذا هو الفارق بين القدماء من أصحابنا و المتأخرين منهم.

546
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

ادعاء الشهرة على المنع ؛ ج‌1، ص : 546

و أما كلام ابن زهرة المتقدم فهو مختلّ على كل حال (1)، لأنّه استثنى الكلب المعلّم عما يحرم الانتفاع به، مع أنّ الإجماع على جواز الانتفاع بالكافر. فحمل كلب الصيد على المثال لا يصحّح كلامه، إلّا أن يريد كونه مثالا و لو للكافر أيضا (2). كما أنّ استثناء الزيت من باب المثال لسائر الأدهان المتنجسة. هذا. و لكن الحاصل من شهرة الجواز بين المتأخرين بضميمة أمارات الملك في هذه الكلاب يوجب الظن بالجواز حتى في غير هذه الكلاب مثل كلاب الدور و الخيام. فالمسألة لا تخلو عن إشكال، و إن كان الأقوى بحسب الأدلّة و الأحوط في العمل هو المنع، فافهم.

______________________________
(1) لا نسلّم اختلال كلامه بعد ظهوره في أنّ ملاك المنع هو عدم النفع المحلّل لا النجاسة. و يرشد لفظة «من» في قوله: «من بيع الكلب المعلّم للصيد» الظاهرة في التبعيض إلى كونه من باب المثال و أنّ غرضه ليس استقصاء الأمثلة.

(2) أو انصراف البحث و الأدلّة عن بيع الإنسان أو عدم ثبوت نجاسته عنده، حيث إنّ إقامة الدليل عليها مشكلة.

تذييل: في مصباح الفقاهة: «المستفاد من أخبار الباب إنّما هو حرمة بيع كلب الماشية و كلب الحائط و كلب الزرع. و أمّا المعاملات الأخرى غير البيع فلا بأس في إيقاعها عليها، كإجارتها و هبتها و الصلح عليها، بناء على عدم جريان أحكام البيع عليه إذا كانت نتيجته المبادلة بين المالين. فإنّ المذكور في تلك الأخبار هي حرمة ثمن غير الصيود من الكلاب.

547
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

ادعاء الشهرة على المنع ؛ ج‌1، ص : 546

..........

______________________________
و لا يطلق الثمن على ما يؤخذ بدلا بغير عنوان البيع من المعاملات.» و الظاهر أنّه أخذ هذا من حاشية المحقّق الإيرواني.

أقول: احتمال أن يكون أخذ العوض للكلب بعنوان البيع حراما و سحتا و بعنوان الصلح مثلا حلالا طيبا لا يخلو من جزاف. كاحتمال حرمة المعاملة عليه مع كونه مالا ذا منفعة محللة عقلائية و شدة الحاجة إلى معاملته. و قد مرّ تفصيل ذلك في الدليل الثالث.

548
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

المسألة الثالثة: المعاوضة على العصير العنبي إذا غلى و لم يذهب ثلثاه ؛ ج‌1، ص : 549

 

[المسألة الثالثة: المعاوضة على العصير العنبي إذا غلى و لم يذهب ثلثاه]

الثالثة: الأقوى جواز المعاوضة على العصير العنبي إذا غلى و لم يذهب ثلثاه و إن كان نجسا (1).

______________________________
المسألة الثالثة: المعاوضة على العصير العنبي ...

[في معنى العصير و حكم أنواعه]

(1) أقول: العصير- بحسب اللغة- عصارة الشي‌ء المستخرجة منه بسبب عصره.

و في الروايات أطلق على الماء المستخرج من العنب العصير، و على ما يستخرج من الزبيب النقيع، و على ما يستخرج من التمر النبيذ. «1» و يشبه أن يكون فعيل هنا بمعنى المفعول، و المعصور حقيقة نفس العنب كما أنّ المنقوع نفس الزبيب و المنبوذ نفس التمر، فأطلق الألفاظ الثلاثة على مائها بنحو من العناية. و من هذا القبيل أيضا قوله- تعالى- نقلا عن صاحب يوسف في السجن: إنِّي أَرٰاني أَعْصرُ خَمْراً. «2»

و في كلمات الفقهاء يطلق على الثلاثة: العصير. فيقال: العصير العنبي و العصير الزبيبي و العصير التمري. و البحث في الحلية و الحرمة و الطهارة و النجاسة يجري في الثلاثة. و لكن المصنّف هنا خصّ البحث بالعصير العنبي. و هو على ثلاثة اقسام: ما لم يغل، و ما غلى بنفسه، و ما غلى بالنار.

______________________________
(1) راجع الوسائل 17/ 221، الباب 1 من أبواب الأشربة المحرمة.

(2) سورة يوسف (12)، الآية 36.

 

549
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

في معنى العصير و حكم أنواعه ؛ ج‌1، ص : 549

..........

______________________________
فالأوّل طاهر بالذات و حلال بلا إشكال. و الثاني خمر أو بحكمه على الأقوى.

و الثالث حرام بلا إشكال إلّا أن يذهب ثلثاه و لكن وقع البحث في نجاسته و طهارته.

و الظاهر المستفاد من الأخبار و من كلمات الأعلام أنّ المغليّ بنفسه لا يحلّ و لا يطهر إلّا بانقلابه خلّا كسائر الخمور.

فيكون الحليّة و الطهارة بذهاب الثلثين و صيرورته دبسا مختصا بالقسم الثالث أعني ما غلى بالنار.

و أمّا ما في الشرائع من قوله: «و يحرم العصير إذا غلى سواء غلى من قبل نفسه أو بالنار، و لا يحلّ حتى يذهب ثلثاه أو ينقلب خلا» «1» فظاهره و إن كان مخالفا لما ذكرناه لكن يمكن حمله على التنويع بنحو اللفّ و النشر غير المرتب كما لا يخفى.

و يمكن أن يستشهد لكون ما غلى بنفسه خمرا أو محكوما بحكمه بما رواه الكلبي النسابة في النبيذ أنّه سأل أبا عبد اللّه «ع» عن النبيذ. فقال: «حلال». فقال: إنّا ننبذه فنطرح فيه العكر و ما سوى ذلك؟ فقال: «شه شه! تلك الخمرة المنتنة ...» «2»

و لعلّ عبارة المصنّف بالنظر البدوي تشمل ما غلى بنفسه أيضا و لكن يمكن أن يجعل قوله: «و لم يذهب ثلثاه» و ما ذكره من الأدلّة في المسألة قرينة على إرادة ما غلى بالنار على فرض نجاسته. إذ ما غلى بنفسه- كما مرّ- يكون خمرا أو بحكمها و قد مضى منه- قدّس سرّه- في المسألة السّابعة حرمة التكسب بالخمر مطلقا. و إن استشكلنا نحن ذلك و قلنا بانصراف الأدلّة عن الخمر التي تباع بقصد التخليل، فراجع.

______________________________
(1) الشرائع/ 753 (ط. أخرى 3/ 225)، كتاب الأطعمة و الأشربة، القسم الخامس.

(2) الوسائل 1/ 147، الباب 2 من أبواب الماء المضاف، الحديث 2.

550
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

في معنى العصير و حكم أنواعه ؛ ج‌1، ص : 549

..........

______________________________
و بالجملة فالظاهر أنّ نظر المصنّف في هذه المسألة استثناء خصوص العصير المغليّ بالنار على فرض نجاسته الصالح لأن يحلّ و يطهر بذهاب ثلثيه. و أمّا المغليّ بنفسه فهو خمر أو بحكمها لا تطهر و لا تحلّ إلّا بانقلاب موضوعه و استحالته خلا.

قال الشيخ الطوسي في الأطعمة و الأشربة من النهاية: «و العصير لا بأس بشربه و بيعه ما لم يغل. و حدّ الغليان الذي يحرّم ذلك هو أن يصير أسفله أعلاه. فإذا غلى حرم شربه و بيعه إلى أن يعود إلى كونه خلا. و إذا غلى العصير على النار لم يجز شربه إلى أن يذهب ثلثاه و يبقى ثلثه.» «1»

أقول: ظاهر العبارة الأولى بيان صورة الغليان بنفسه. و يظهر منه أنّ الغليان إذا أسند إلى العصير أو غيره و لم يقيد بالنار يكون ظاهرا في غليانه من قبل نفسه. و قد حكم في هذه الصورة بحرمة شربه و بيعه إلى أن يصير خلّا. و هذا ما قلنا من كونه خمرا أو بحكم الخمر، و مقتضاه الحرمة و النجاسة و حرمة البيع. و ظاهر العبارة الثانية صورة كون الغليان بالنار، فحكم فيها بحرمة شربه إلى أن يذهب ثلثاه. و لم يحكم بحرمة بيعه، فظاهره جواز بيعه.

و يظهر هذا التفصيل بين الصورتين من ابن حمزة في الوسيلة أيضا و إن لم يتعرض لحكم بيعهما. قال فيه: «فإن كان عصيرا لم يخل إمّا غلى أو لم يغل، فإن غلى لم يخل إمّا غلى من قبل نفسه أو بالنار. فإن غلى من قبل نفسه حتّى يعود أسفله أعلاه حرم و نجس إلّا أن يصير خلا بنفسه أو بفعل غيره فيعود حلالا طيّبا. و إن غلى بالنار حرم شربه حتى يذهب على النار نصفه و نصف سدسه و لم ينجس ...» «2»

______________________________
(1) النهاية/ 591، كتاب الأطعمة و الأشربة، باب الأشربة المحظورة و المباحة.

(2) الوسيلة/ 365، فصل في بيان أحكام الأشربة.

551
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

في جواز بيعه ؛ ج‌1، ص : 552

[في جواز بيعه]

لعمومات البيع و التجارة الصادقة عليها بناء على أنّه مال قابل للانتفاع به بعد طهارته بالنقص. لأصالة بقاء ماليته و عدم خروجه عنها بالنجاسة. غاية الأمر أنّه مال معيوب قابل لزوال عيبه (1).

______________________________
أقول: الأخبار المستفيضة بل المتواترة تدلّ على اعتبار ذهاب الثلثين فيما على بالنار.

نعم يدل بعضها على كفاية ذهاب النصف و نصف السدس ثم يترك حتى يبرد فقد ذهب ثلثاه و بقي ثلثه. «1» فيكون فتوى ابن حمزة على أساس هذا الخبر، و لكن المشهور على خلافه. و قد صرّح هو فيما غلى بالنار أنّه لا ينجس به و إن حرم شربه. و على هذا فلا وجه للإشكال في بيعه. و لكن المصنّف طرح المسألة على أساس الحكم بنجاسته. و راجع في هذا المجال عبارة المهذّب لابن البراج أيضا. «2» و تحقيق المسألة يطلب من كتاب الطهارة.

(1) أقول: القول بكون النجاسة بنفسها مانعة عن صحة المعاملة- كما عليه الأصحاب- يقتضي القول بعدم جواز بيع العصير أيضا بناء على نجاسته بالغليان، و ربما يستدل لذلك بأخبار خاصة أيضا واردة في خصوص العصير كما يأتي.

و لكن المصنّف جعل العصير من المستثنيات و استدل على جواز المعاملة عليه بعمومات البيع و التجارة و كونه مالا قابلا للانتفاع به بإذهاب ثلثيه، و لذا يضمنه الغاصب و المتلف له، و أنّ النجاسة فيه نجاسة عرضية قابلة للرفع فتفترق عن سائر النجاسات، و أنّ الروايات الخاصة مسوقة للنهي عن بيعه نظير الدبس و الخلّ من دون إعلام المشتري.

______________________________
(1) راجع الوسائل 17/ 233، الباب 7 من أبواب الأشربة المحرّمة؛ و الباب 5 منها، الحديث 7.

(2) المهذّب 2/ 433، كتاب الأطعمة و الأشربة ...، باب الأشربة.

552
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

في جواز بيعه ؛ ج‌1، ص : 552

و لذا لو غصب عصيرا فأغلاه حتّى حرم و نجس لم يكن في حكم التالف بل وجب عليه ردّه و وجب عليه غرامة الثلثين و أجرة العمل فيه حتّى يذهب الثلثان، كما صرّح به في التذكرة (1) معللا لغرامة الأجرة بأنّه ردّه معيبا و يحتاج زوال العيب إلى خسارة و العيب من فعله فكانت الخسارة عليه.

______________________________
و لكن نحن في فسحة عن هذا الإشكال، إذ قد مرّ منا عدم مانعية النجاسة بنفسها، و أنّ الملاك للمنع عدم المنفعة المحللة الموجبة لمالية الشي‌ء. و العصير القابل لصنعه دبسا حلالا يعدّ عرفا و شرعا من الأموال المحترمة، فلا وجه للمنع عن بيعه.

و قد قلنا إنّ نفس استثناء هذه المستثنيات أدلّ دليل على أنّ الملاك لجواز البيع و منعه وجود المنفعة المحلّلة و عدمها لا الطهارة و النجاسة.

بل العصير المغليّ بنفسه أيضا إذا أعدّ للتخليل جاز بيعه لذلك و إن كان عندنا بحكم الخمر.

بل قلنا في باب الخمر أيضا بجواز بيعها بقصد التخليل و أنّ أخبار منع بيعها و حرمة ثمنها منصرفة عن بيعها بهذا القصد، فراجع ما ذكرناه في المسألة السابعة السابقة. هذا.

و يمكن أن يتمسك لجواز البيع في المقام- مضافا إلى ما ذكره المصنّف و ذكرناه- بما يظهر من روايات تحف العقول و الدعائم و فقه الرضا السابقة من جواز البيع في كل ما يكون صلاحا للعباد من جهة من الجهات و يباح لهم الانتفاع به، فلاحظ و تدبّر.

(1) في كتاب الغصب من التذكرة: «لو غصب عصيرا فأغلاه حرم عندنا و صار نجسا لا يحلّ و لا يطهر إلّا إذا ذهب ثلثاه بالغليان. فلو ردّه الغاصب قبل ذهاب ثلثيه وجب عليه غرامة الثلثين. و الوجه أنّه يضمن أيضا غرامة الخسارة على العمل فيه إلى أن‌

553
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

في جواز بيعه ؛ ج‌1، ص : 552

نعم ناقشه في جامع المقاصد في الفرق بين هذا و بين ما لو غصبه عصيرا فصار خمرا، حيث حكم فيه بوجوب غرامة مثل العصير لأنّ المالية قد فاتت تحت يده فكان عليه ضمانها كما لو تلفت.

لكن لا يخفى الفرق الواضح بين العصير إذا غلى و بينه إذا صار خمرا، فإنّ العصير بعد الغليان مال عرفا و شرعا، و النجاسة إنّما تمنع من المالية إذا لم يقبل التطهير كالخمر فإنّها لا يزول نجاستها إلّا بزوال موضوعها، بخلاف العصير فإنّه يزول نجاسته بنقصه نظير طهارة ماء البئر بالنزح. و بالجملة فالنجاسة فيه و حرمة الشرب عرضية تعرضانه في حال متوسط بين حالتي طهارته. فحكمه حكم النجس بالعرض القابل للتطهير.

______________________________
يذهب كمال الثلثين، لأنّه ردّه معيبا و يحتاج زوال العيب إلى خسارة، و العيب من فعله فكانت الخسارة عليه.»
«1»

و فيه أيضا: «الصفات تضمن كما يضمن الأعيان إذا كانت متقومة. فلو غصب عصيرا فصار خمرا عند الغاصب وجب عليه دفع مثل العصير إلى المالك لأنّ المالية قد فاتت تحت يده و هي يد عادية فكان عليه ضمانها كما لو تلفت ...» «2»

و فيه أيضا: «لو غصب عصيرا فأغلاه فنقصت عينه دون قيمته، مثل أن كان صاعين قيمتهما أربعة دراهم فلما أغلاه عاد إلى صاع قيمته أربعة دراهم، قال الشيخ: لا يضمن‌

______________________________
(1) التذكرة 2/ 387، كتاب الغصب، الفصل الخامس، البحث الأوّل، النظر الثانى و النظر الثالث.

(2) التذكرة 2/ 387، كتاب الغصب، الفصل الخامس، البحث الأوّل، النظر الثانى و النظر الثالث.

554
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

في جواز بيعه ؛ ج‌1، ص : 552

..........

______________________________
الغاصب الناقص من العين هنا لأنه مجرد مائية رطوبة لا قيمة لها. و للشافعية و جهان:

أحدهما أنّه يضمن ما نقص من العين كالزيت لأنه مضمون بالمثل. و الثاني أنّه لا يغرم شيئا لأنه إذا أغلاه نقصت المائية التي فيه و صار ربّا و لهذا يثخن و يزيد حلاوته. فالذي نقص منه لا قيمة له ...» «1»

أقول: مقتضى ما ذكروه في كتاب الغصب من ضمان المثلى بالمثل و القيمي بالقيمة صحة الوجه الأوّل المحكي عن بعض الشافعية. إذ العصير مثلي فيضمن الغاصب ما نقص من عينه و لا يلحظ فيه القيمة، و لا يجبر نقص العين فيه بارتفاع قيمة البقية. بل لعلّ الحكم سار في القيميات أيضا إذا حصل تلف بعض العين. فلو غصب قطعة خشب وزنها مأئة رطل مثلا فنحتها و صنع منه كرسيا ذا قيمة كثيرة وزنه خمسون رطلا فالظاهر أنّ لمالك الخشبة أخذ الكرسي المتحصل من خشبه و مطالبة قيمة خمسين رطلا من خشب. و ليس للغاصب مطالبة أجرة عمله، لوقوعه على ملك الغير بلا إذن منه فصار هدرا. و لا يجبر قيمة العمل قيمة التالف من الخشب، و لعلّ المالك كان يريد أن يصنع من خشبه شيئا آخر لا يتلف منه شي‌ء، و الغاصب يؤخذ بأشقّ الأحوال.

و الظاهر أنّ ما ذكره العلامة في العصير المغلي بالنار من غرامة الثلثين و خسارة عيب الباقي يكون على هذا الأساس. و وافقه المصنّف أيضا.

و لكن يمكن أن يقال: إنّ ما ذكرت صحيح فيما إذا أغلاه حتى نقصت عينه خارجا، حتى إنّه لو أغلاه إلى أن بقي ثلثه و صار دبسا نلتزم بوجوب ردّ الثلث الباقي مع مثل المثلين الذاهبين.

______________________________
(1) المصدر السابق ص 386، كتاب الغصب ...، النظر الثانى.

555
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الدليل على منع البيع ؛ ج‌1، ص : 556

 

[الدليل على منع البيع]

فلا يشمله قوله «ع» في رواية تحف العقول: «أو شي‌ء من وجوه النجس»، و لا يدخل تحت قوله «ص»: إذا حرّم اللّه شيئا حرم ثمنه» (1)، لأنّ الظاهر منهما العنوانات النجسة و المحرمة بقول مطلق لا ما تعرضانه في حال دون حال فيقال: يحرم في حال كذا و ينجس في حال كذا.

______________________________
و أمّا في المقام فالمفروض عدم ذهاب الثلثين خارجا، غاية الأمر أن وصف العصير قد تغير، فيضمن الغاصب قيمة الوصف التالف أعني وصف عدم كونه مغليا إن فرض نقص قيمته بالغليان بناء على ما هو الحق من أنّ الغاصب كما يضمن العين يضمن الأجزاء و كذا الأوصاف التالفة أيضا إن أوجبت اختلاف الرغبات.

(1) القائل بحرمة بيع العصير إمّا أن يتمسك له بالأدلّة العامة أو بالأخبار الخاصة الواردة في خصوص العصير.

أمّا القسم الأوّل فثلاثة: النجاسة، و حرمة الشرب، و انتفاء المالية الفعلية المسبب عن حرمة الانتفاع فعلا.

[الدليل الأوّل النجاسة]

أمّا النجاسة فلقوله «ع» في رواية تحف العقول السابقة: «أو شي‌ء من وجوه النجس.»‌

مضافا إلى إجماع التذكرة حيث قال: «يشترط في المعقود عليه الطهارة الأصلية ... و لو باع نجس العين كالخمر و الميتة و الخنزير لم يصحّ إجماعا.» «1»

و أجاب عن ذلك المصنّف بأنّ المتبادر من الرواية و من معقد الإجماع المذكور النجاسات الذاتية لا العرضية، و العصير قبل غليانه طاهر و كذا بعد التثليث، و إنّما‌

______________________________
(1) التذكرة 1/ 464، كتاب البيع، المقصد الأوّل، الفصل الرابع.

 

556
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الدلل الثاني الحرمة ؛ ج‌1، ص : 557

..........

______________________________
النجاسة تعرض له في حالة متوسطة بين الحالتين.

أقول: ما ذكره قابل للمناقشة، إذ المفروض كون العين في هذه الحالة نجسا بذاتها كالخمر بل ربما يحكم بكونها خمرا، و ليست من قبيل الماء أو الزيت المتنجس حتى يقال بانصراف لفظ النجس عنه.

فالأولى أن يجاب بما مرّ من منع كون النجاسة بنفسها مانعة، و العصير قابل للانتفاع به بإذهاب ثلثيه فيعدّ مالا عرفا.

و رواية تحف العقول- مضافا إلى ضعفها و اضطراب متنها كما مرّ- علّل المنع فيها بقوله: «لما فيه من الفساد.» بل دلّت على جواز المعاملة على كلّ شي‌ء يكون لهم فيه الصلاح من جهة من الجهات، فراجع.

[الدلل الثاني الحرمة]

و أمّا الاستدلال بالحرمة فبتقريب أنّ قوله «ص»: «إنّ اللّه إذا حرم شيئا حرّم ثمنه» ظاهر في الملازمة بين حرمة الشي‌ء و حرمة بيعه.

و يرد عليه- مضافا إلى عدم ثبوت الرواية عندنا و الاختلاف في متنها كما مرّ تفصيله- أنّ الحرام بنحو الإطلاق لا يصدق إلّا على ما حرم جميع منافعه و لا أقلّ جميع منافعه الظاهرة المتعارفة. و مثل هذا الشي‌ء يحرم قهرا بيعه لعدم المنفعة المحللة له.

و إن شئت قلت: إن تعليق الحكم على وصف يشعر بدوران الحكم مداره، فيراد أنّ حرمة شي‌ء بسبب حرمة انتفاع خاص منه يستلزم حرمة بيعه لذلك الانتفاع المحرّم. فإذا فرض حرمة شربه مثلا حرم بيعه بلحاظ الشرب فلا يشمل بيعه للتخليل أو لصنعه دبسا.

كيف؟! و هل يمكن الالتزام بأنّ ما حرم شربه مثلا يحرم بيعه مطلقا و لو لسائر الانتفاعات و الغايات المحلّلة.

557
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الدليل الثالث عدم المالية ؛ ج‌1، ص : 558

و بما ذكرنا يظهر عدم شمول معقد إجماع التذكرة على فساد بيع نجس العين للعصير، لأنّ المراد بالعين هي الحقيقة، و العصير ليس كذلك (1).

و يمكن أن ينسب جواز بيع العصير إلى كلّ من قيّد الأعيان النجسة المحرم بيعها بعدم قابليتها للتطهير (2). و لم أجد مصرّحا بالخلاف عدا ما

[الدليل الثالث عدم المالية]

______________________________
و أمّا التمسك بعدم المالية فقد عرفت أنّه من الأموال المحترمة عرفا و شرعا بلحاظ استعداده لأن يصنع دبسا حلالا. و حكم الأصحاب بضمان متلفه و غاصبه. و لو فرض الشك في ماليته الشرعية بلحاظ النجاسة جرى فيه استصحابها كما في كلام المصنف.

(1) المتبادر من نجس العين ما يكون ذاته محكومة بالنجاسة في قبال ما تنجس بملاقاة غيره، و المفروض أنّ العصير كذلك، سواء كان الحكم بالنجاسة بلحاظ صورته النوعية أو بلحاظ حالة من حالاتها، إذ النجاسة حكم شرعي اعتباري، و يمكن تبدل الاعتبار بتبدّل الأحوال و الأوصاف أيضا.

(2) إن أمكن نسبة هذا إلى الأصحاب أمكن نسبة جواز بيع بعض الأعيان النجسة أيضا إليهم، لقبولها الطهارة بالاستحالة أو الانقلاب كالخمر القابلة للتخليل. و كون الموضوع في المقام باقيا دون صورة الاستحالة مدفوع باستحالة ارتفاع الحكم مع بقاء موضوعه، غاية الأمر أنّ الموضوع قد يكون هي الصورة النوعية للشي‌ء و قد يكون حال من أحوالها كما في المقام. و لا فرق بينهما بعد اشتراكهما في عدم دوامهما و قابليتهما للتطهير. و بالجملة ما يصرّ عليه المصنّف هنا من الفرق بين العصير المحتمل للدبسية و الخمر المحتمل للتخليل قابل للمناقشة، لعدم تفاوتهما فيما نحن بصدده، فتدبّر.

558
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الدليل الرابع الأخبار ؛ ج‌1، ص : 559

 

في مفتاح الكرامة من أنّ الظاهر المنع للعمومات المتقدمة (1).

[الدليل الرابع الأخبار]

[رواية أبي كهمس]

و خصوص بعض الأخبار مثل قوله «ع»: «و إن غلى فلا يحل بيعه.» (2)

______________________________
(1) قال في مفتاح الكرامة: «و أمّا عصير العنب فلا ريب في عدم جواز بيعه إذا نشّ و غلى من قبل نفسه، لأنّه يصير حينئذ خمرا و لا يطهر إلّا بانقلابه خلّا كما نصّ عليه الأكثر من المتقدمين و المصنّف في رهن التذكرة و المحقق في رهن جامع المقاصد ... و أمّا إذا غلى عصير العنب بالنار و لم يذهب ثلثاه فلا ريب في نجاسته كما بيّناه في غير موضع بل ادّعي عليه الإجماع. و الظاهر أيضا عدم جواز بيعه لأنه حينئذ خمر كما صرّح به جماعة أو كالخمر إذا اعتدّ للتخليل كما نصّ عليه المحقق الثاني ... و هو الذي تقتضي به قواعد الباب، و يدل عليه قول الصادق «ع» في خبر أبي كهمس ...»
«1»

ثم تعرّض بعد ذلك لخبر أبي بصير و مرسل ابن الهيثم الآتيين في كلام المصنّف.

(2) هذه قطعة من خبر أبي كهمس. قال: سأل رجل أبا عبد اللّه «ع» عن العصير فقال: لي كرم و أنا أعصره كل سنة و أجعله في الدنان و أبيعه قبل أن يغلي. قال: «لا بأس به، و إن غلى فلا يحلّ بيعه.» ثم قال: «هو ذا نحن نبيع تمرنا ممّن نعلم أنّه يصنعه خمرا.» «2»

و هذه الرواية إحدى الروايات الخاصّة التي استدلّ بها في مفتاح الكرامة للمنع. و في السند حنّان، و الظاهر أنّه حنّان بن سدير الصير في، و فيه خلاف، و الأشهر أنّه ثقة و إن قيل بوقفه. و كهمس اسم من أسماء الأسد، و الرجل القبيح الوجه، و الناقة الكوماء أي العظيمة السنام. و أبو كهمس كنية للهيثم بن عبد اللّه و الهيثم بن عبيد، و يحتمل اتحادهما و لم يثبت وثاقتهما.

______________________________
(1) مفتاح الكرامة 4/ 12، كتاب المتاجر، المقصد الأوّل، الفصل الأوّل.

(2) الوسائل 12/ 69، الباب 59 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 6.

 

559
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

رواية أبي كهمس ؛ ج‌1، ص : 559

..........

______________________________
أقول: يرد على الاستدلال بالرواية- مضافا إلى ضعفها- أنّ السؤال فيها وقع عن بيع العصير قبل أن يغلي، و من الواضح عدم الإشكال في ذلك بطبعه. فالظاهر أنّ شبهة السائل- كما يظهر من ذيل الرواية- كانت من جهة كون المشتري ممن يصنعه خمرا، و لعلّ بيع العصير لذلك كان معهودا و متعارفا في تلك الأعصار فسأل عنه، و الإمام «ع» فصّل بين بيعه منه قبل الغليان أو بعده و استشهد لرفع شبهته بذكر عمل أنفسهم.

و الظاهر منها غليان العصير في الدنان بنفسه لا بالنار، فالرواية لا ترتبط بمسألتنا أعني بيع العصير المغليّ بالنار للتخليل أو ليجعل دبسا، بل تكون- كما ذكر الأستاذ الإمام «ره» «1»- من قبيل الروايات المستفيضة الدالة على جواز بيع العنب أو التمر أو العصير ممن يعلم أنّه يجعله خمرا. و لا يبعد في تلك المسألة- على القول بها- التفصيل المذكور في الرواية، إذ حال عدم الغليان يكون العصير صالحا بالذات لكل واحد من الانتفاعات المحللة و يكون بيعه من المقدمات البعيدة للخمرية و لا يعدّ إعانة على الإثم إذا لم يكن بقصده.

و هذا بخلاف بيعه بعد الغليان بنفسه، فإنّه في هذه الحالة إمّا خمر أو قريب منها، و لذا حرم شربه قطعا فلأجل ذلك منع من بيعه. و إطلاق قوله «ع»: «فلا يحل بيعه» يشمل صورة الإعلام و عدمها.

و بالجملة فوزان الرواية وزان صحيحة عمر بن أذينة. قال: كتبت إلى أبي عبد اللّه «ع» أسأله عن رجل له كرم، أ يبيع العنب و التمر ممن يعلم أنّه يجعله خمرا أو سكرا؟

فقال: «إنّما باعه حلالا في الإبّان الذي يحلّ شربه أو أكله فلا بأس ببيعه.» «2»

______________________________
(1) المكاسب المحرمة للإمام الخمينى «قده» 1/ 85.

(2) الوسائل 12/ 169، الباب 59 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 5.

560
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

رواية أبي كهمس ؛ ج‌1، ص : 559

..........

______________________________
و يظهر من المصنف حمل الرواية و ما بعدها على النهي عن بيعه بعد الغليان نظير بيع الخل و الدبس من دون إعلام المشتري بحاله، فلا تشمل بيعه بقصد التطهير مع إعلام المشتري.

و لكن الظاهر عدم مناسبة ما ذكره لما هو محطّ نظر السّائل في سؤاله كما مرّ بيانه.

نعم لو فرض أنّ المشتري يريد شربه بحاله بزعم عدم غليانه جرى ما ذكره.

و في مصباح الفقاهة: «إنّ الظاهر من الحلّية فيها بقرينة الصدر و الذيل هي التكليفية فقط دون الوضعية وحدها أو ما هو أعمّ منها و من التكليفية. إذن فالرواية ناظرة إلى حرمة بيع العصير للشرب فإنّ إشراب النجس أو المتنجس للمسلم حرام. و أمّا بيعه للدبس و نحوه فلا يستفاد منها.» «1»

أقول: لم يظهر لي ظهور الرواية في الحلّية التكليفية و لا قرينية صدرها و لا ذيلها لذلك.

و ما يهتمّ به المتعاملان غالبا و يسألان عنها هو صحة المعاملة أو فسادها لا حلّيتها تكليفا.

و الحلّية و الحرمة و إن انصرفتا في عرفنا إلى التكليف فقط لكن قد مرّ مرارا أنّهما في لسان الكتاب و السنة بل و في اصطلاح القدماء من فقهائنا كان يراد بهما الأعمّ من التكليف و الوضع أعني الصحة و الفساد. فكان يراد بالحلية إطلاق الشي‌ء و عدم محدوديته و بالحرمة محدوديته. و هما يختلفان حسب اختلاف الموضوعات و الموارد:

ففي قوله- تعالى-: «و أحل اللّه البيع و حرّم الربا»، و كذا قول الإمام «ع»: «لا تحلّ الصلاة في حرير محض» «2» مثلا يراد بهما الصحة و الفساد. و مثلهما ألفاظ الجواز و عدم الجواز و البأس و عدم البأس و نحو ذلك. ففي المقام أيضا ينصرف قوله: «فلا يحل بيعه» إلى الوضع، و لا أقل إلى الوضع و التكليف معا، و لكن محطّ النظر في المعاملات هو الوضع.

______________________________
(1) مصباح الفقاهة 1/ 105، في جواز بيع العصير ...

(2) الوسائل 3/ 273، الباب 14 من أبواب لباس المصلّى، الحديث 1.

561
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

رواية أبي بصير ؛ ج‌1، ص : 562

[رواية أبي بصير]

و رواية أبي بصير: «إذا بعته قبل أن يكون خمرا و هو حلال فلا بأس.» (1)

______________________________
(1) أراد بذلك رواية أبي بصير. قال: سألت أبا عبد اللّه «ع» عن ثمن العصير قبل أن يغلي لمن يبتاعه ليطبخه أو يجعله خمرا. قال «ع»: «إذا بعته قبل أن يكون خمرا و هو حلال فلا بأس.»
«1»

هكذا في الكافي المطبوع بطبعيه. نعم في التهذيب المطبوع بطبعيه: «فهو حلال»، و لكن في الطبع القديم منه كتب الواو أيضا بعنوان النسخة. و في السند القاسم بن محمد الجوهري و علي بن أبي حمزة، و هما واقفيان و لم يثبت وثاقتهما، فالرواية ضعيفة.

و الظاهر أنّ المراد بالغليان هنا أيضا الغليان بنفسه، و لا يخفى أنّ بيع العصير قبل غليانه لشربه كذلك أو لجعله دبسا مما لا إشكال فيه قطعا، و يبعد خفاء ذلك لمثل أبي بصير، فالظاهر أنّ محطّ نظره في السؤال بيعه حلالا ممن يعلم أنّه يجعله حراما، فلعلّ المراد بقوله: «ليطبخه» طبخه محرّما، حيث إنّ الشراب المحرّم- على ما قيل و يظهر من الأخبار أيضا- كان على قسمين: أحدهما غير مطبوخ و كان غليانه بنفسه و يسمّى خمرا. و الثاني مطبوخ و هو ما غلى بالنار و لم يذهب ثلثاه، و كان يقال له بالفارسية:

«باده» و في الروايات: «البختج» و كان هو أيضا مسكرا أو في معرضه:

ففي صحيحة عمر بن يزيد قال: قلت لأبي عبد اللّه «ع»: الرجل يهدى إليه البختج من غير أصحابنا؟ فقال: «إن كان ممن يستحلّ المسكر فلا تشربه، و إن كان ممّن لا يستحل فاشربه.» «2»

______________________________
(1) الوسائل 12/ 169، الباب 59 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2؛ عن فروع الكافي 5/ 231 (ط.

القديم 1/ 394)؛ و التهذيب 7/ 136 (ط. القديم 2/ 155).

(2) الوسائل 17/ 234، الباب 7 من أبواب الأشربة المحرمة، الحديث 1.

562
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

رواية أبي بصير ؛ ج‌1، ص : 562

..........

______________________________
و ظهورها في كون البختج قبل ذهاب ثلثيه مسكرا أو في معرضه واضح. و بذلك ظهر أنّ حرمته ناشئة من ذلك و ليست جزافية.

و في صحيحة معاوية بن عمار قال: سألت أبا عبد اللّه «ع» عن الرجل من أهل المعرفة بالحقّ يأتيني بالبختج و يقول: قد طبخ على الثلث و أنا أعرف أنّه يشربه على النصف أ فأشربه بقوله و هو يشربه على النصف؟ فقال: «لا تشربه.» قلت: فرجل من غير أهل المعرفة ممن لا نعرفه يشربه على الثلث و لا يستحلّه على النصف يخبرنا أن عنده بختجا على الثلث قد ذهب ثلثاه و بقي ثلثه يشرب منه؟ قال: «نعم.» «1»

قال ابن الأثير في النهاية: «البختج: العصير المطبوخ. و أصله بالفارسية «مى پخته»، أي عصير مطبوخ.» «2»

و يظهر من الحديث عدم حجية إخبار ذي اليد إذا كان متّهما و كان عمله مخالفا لما يخبر به.

و قد تحصّل مما ذكرنا أنّ السؤال في رواية أبى بصير أيضا وقع عن بيع العصير قبل غليانه ممّن يجعله خمرا أو ما بحكمها. فتكون من قبيل السؤال عن بيع العنب ممن يجعله خمرا. و الإمام «ع» فصّل في الجواب بين بيعه في حال حلّيته و بيعه بعد غليانه و صيرورته خمرا أو ما بحكمها. فوزان الرواية وزان رواية أبي كهمس السّابقة و لا ترتبط بمسألتنا أعني بيع العصير المغليّ بالنار.

و الظاهر أنّ قوله «ع»: «و هو حلال» حال توضيحي لسابقه لا شرط مستقل، و ذكر‌

______________________________
(1) الوسائل 17/ 234، الباب 7 من أبواب الأشربة المحرمة، الحديث 2.

(2) النهاية 1/ 101.

563
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

رواية أبي بصير ؛ ج‌1، ص : 562

..........

______________________________
لبيان ما هي النكتة حقيقة لجواز البيع قبل الخمرية و هي وقوع البيع على الشي‌ء حال كونه حلالا، و ذكر كونه قبل الخمرية من جهة كونه سببا للحليّة و موضوعا لها. فيكون مفهومه عدم جواز البيع إجمالا لو وقع في حال حرمته، و إن كان القدر المتيقن من ذلك صورة كون بيعه لصرفه حراما فيمكن الجواز فيما إذا وقع بقصد تخليله مثلا. هذا.

و احتمل الأستاذ الإمام «ره» «1» جعل كل من الجملتين شرطا مستقلا، فيكون من قبيل ما إذا تعدد الشرط و اتّحد الجزاء. مثل قوله: «إذا خفي الجدران فقصّر» و قوله: «إذا خفي الأذان فقصّر.» فيكون بين الشرطين عموم من وجه فيتضح الحكم بالجواز في مورد اجتماع الشرطين، و يشكل في صورة افتراقهما، كما إذا كان قبل الخمرية و لكن كان حراما لغليانه أو كان بعد الخمرية و لكن كان حلالا للاضطرار إليه.

و لكنه خلاف الظاهر بل الظاهر كون الواو للحال، و الشرط كونه حلالا و كونه قبل الخمرية، ذكر توطئة لبيان موضوع الحلية.

هذا على فرض كون النسخة بالواو. و أمّا إذا كان بالفاء فالأمر واضح.

و الأستاذ الإمام أجاب عن الرواية «2» أوّلا: بضعفها و اغتشاش متنها.

و ثانيا: بأنّ القضية الشرطية هنا لا مفهوم لها لأنّها سيقت لبيان تحقق الموضوع، نظير قول القائل: إن رزقت ولدا فعليّ كذا. و أمّا مفهوم القيد فهو من مفهوم اللقب الذي لا يقال به.

و ثالثا: أنّ الرواية بصدد بيان حكم المنطوق لا المفهوم فلا إطلاق له، و المتيقن منه ما إذا باعه ممن يجعله خمرا أو بختجا محرما.

______________________________
(1) راجع المكاسب المحرمة 1/ 83.

(2) راجع المكاسب المحرمة 1/ 83.

564
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

رواية أبي بصير ؛ ج‌1، ص : 562

..........

______________________________
أقول: الظاهر أنّ نظر المستدلّ ليس إلى الاستدلال بمفهوم الشرط بل بمفهوم القيد أعني قوله: «قبل أن يكون خمرا و هو حلال.» و عدّ مفهوم القيد من مفهوم اللقب عجيب، إذ اللقب ليس قيدا لموضوع الحكم بل هو بنفسه موضوع، و المقام ليس كذلك، إذ الموضوع لعدم البأس هنا هو بيع العصير، و تقييده بكونه قبل الخمرية و في حال الحلّية قيد زائد لا بدّ أن يكون ذكره لفائدة و إلّا كان لغوا لا يصدر عن الحكيم. و فائدة القيد و الغرض منه غالبا دخله في موضوع الحكم و عدم كون الطبيعة المجعولة موضوعا بإطلاقها تمام الموضوع له.

و كان الأستاذ آية اللّه العظمى البروجردي- طاب ثراه- يقول: إنّ ظهور المفهوم ليس من قبيل ظهور اللفظ بما هو لفظ موضوع لمعنى خاصّ المنقسم إلى المطابقة و التضمن و الالتزام، بل من قبيل ظهور الفعل. فإنّ الفاعل الحكيم لا يصدر عنه الفعل إلَّا لغرض و فائدة عقلائية سواء كان الفعل من قبيل التلفظ بالألفاظ الموضوعة، أو من قبيل سائر الأفعال الصادرة عن الجوارح الأخر، فيحمل الفعل الصادر عنه على كون صدوره لفائدة عقلائية إجمالا. و إذا فرض لفعل خاصّ فوائد و أغراض مختلفة عندهم يحمل فعله على أنّه صدر عنه لغايته الطبيعية المتعارفة أعني ما يعدّ فائدة له بالطبع إلّا أن يحرز خلافه.

و لا يخفى أنّ الفائدة المتعارفة للتلفظ بالألفاظ الموضوعة هي إفادة معانيها الموضوعة لها. و فائدة التكلّم و التلفظ بالقيود هي دخالتها في موضوع الحكم و كون القيد المذكور جزءا منه.

نعم يمكن أن يختلفه في ذلك قيد آخر، كما في اعتصام الماء، حيث إنّ المستفاد من‌

565
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

رواية أبي بصير ؛ ج‌1، ص : 562

..........

______________________________
قوله «ع»: «إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شي‌ء»
«1» هو دخالة الكرية في الاعتصام و عدم كون طبيعة الماء بإطلاقه تمام الموضوع له. و هذا لا ينافي أن يخلف الكريّة في ذلك كون الماء ذا مادّة كما هو المستفاد من صحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع. «2»

و كيف كان فينفي الحديثان قول ابن أبي عقيل القائل باعتصام الماء بإطلاقه و لو كان قليلا بلا مادّة. «3»

و بالجملة مقتضى ذكر القيد شرطا كان أو وصفا أو غيرهما دخالته في موضوع الحكم. و أمّا انحصار القيد به فلا إذ يمكن أن يخلفه في ذلك قيد آخر.

و لعلّ الأستاذ الإمام أراد بما ذكره في المقام هذا المعنى أعني نفي انحصار القيد. فالقيد لموضوع جواز البيع إمّا وقوعه في حال حلّية الشي‌ء أو وقوعه بعد الحلية و لكن بقصد جعله حلالا كالتخليل مثلا، فتدبّر. هذا.

و في مصباح الفقاهة في الجواب عن رواية أبي بصير في المقام قال: «إنّ راويها أبا بصير مشترك بين اثنين و كلاهما كوفي و من أهل الثقة. و من المقطوع به أن بيع العصير العنبي لم يتعارف في الكوفة في زماننا هذا مع نقل العنب إليها من الخارج فضلا عن زمان الراوي الذي كان العنب فيه قليلا جدا. و عليه فالمسؤول عنه هو حكم العصير التمري- الذي ذهب المشهور إلى حلّيته حتّى بعد الغليان ما لم يصر خمرا-، فلا يستفاد من الرواية إلّا حرمة بيع الخمر و جواز بيع العصير التمري قبل كونه خمرا، فتكون‌

______________________________
(1) الوسائل 1/ 117، الباب 9 من أبواب الماء المطلق، الحديث 1 و غيره.

(2) راجع الوسائل 1/ 105، الباب 3 من أبواب الماء المطلق، الحديث 12.

(3) راجع المختلف/ 2، كتاب الطهارة، باب المياه، الفصل الأوّل.

566
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

رواية أبي بصير ؛ ج‌1، ص : 562

..........

______________________________
غريبة عن محلّ الكلام ...»
«1»

أقول أوّلا: الظاهر أنّ المراد بأبي بصير في المقام- بقرينة الراوي عنه- هو يحيى بن القاسم- أو أبي القاسم- الأسدي المكفوف، فإنّ علي بن أبي حمزة البطائني كان قائدا له و الرواية عنه.

و ثانيا: كون الراوي من أهل الكوفة لا يدلّ على كون سؤاله مرتبطا بمسائل بلده و لا سيما مثل أبي بصير الذي كان من خواصّ أصحاب الصادقين «ع» و من علمائهم.

و الظاهر أنّ مسألة بيع العصير ممن يعمله خمرا كانت مطرحا بين فقهاء السنة و اختلفوا في جوازه و منعه كما يظهر من المغني لابن قدامة «2»، فصار هذا سببا لسؤال أصحاب الأئمة «ع» عن ذلك في أخبار كثيرة و منها هذه الرواية.

و ثالثا: إنّ الكوفة في تلك الأعصار كانت من البلاد الكبيرة الواسعة جدا، فلا يقاس عليها البلدة الصغيرة في عصرنا. و كيف يخلو بلد كبير واسع في أرض خصب العراق من العنب؟

و رابعا: إنّ إطلاق العصير كان ينصرف إلى عصير العنب، كما يشهد بذلك قوله «ع» في صحيحة ابن الحجاج: «الخمر من خمسة: العصير من الكرم، و النقيع من الزبيب، و البتع من العسل، و المزر من الشعير، و النبيذ من التمر.» و نحوها أخبار أخر، فراجع. «3»

______________________________
(1) مصباح الفقاهة 1/ 106.

(2) راجع المغنى 4/ 283، كتاب البيوع، باب المصراة ...

(3) الوسائل 17/ 221، الباب 1 من أبواب الأشربة المحرّمة، الحديث 1 و غيره.

567
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

مرسل ابن الهيثم ؛ ج‌1، ص : 568

[مرسل ابن الهيثم]

و مرسل ابن الهيثم: «إذا تغيّر عن حاله و على فلا خير فيه.» (1)

بناء على أنّ الخير المنفيّ يشمل البيع.

______________________________
نعم يمكن أن يستظهر من ذيل موثقة زرارة في باب تحريم العصير من الوسائل
«1» إطلاق لفظ العصير على ما يتخذ من التمر أيضا. و لكن الظاهر كون ما في الوسائل مصحفا، حيث ذكر في أوّل الرواية لفظ «النخلة». و ربما يستفاد منها على ذلك اشتراط ذهاب الثلثين في العصير المغلي من التمر أيضا. و لكن الصحيح- كما في الكافي «2»- لفظ الحبلة. و هي- على ما في النهاية و الصحاح «3»- محركة: «القضيب من الكرم.»‌

و من هنا أوصي الطلّاب و الفضلاء الكرام بأخذ الأخبار مهما أمكن من الجوامع الأصلية.

(1) إشارة إلى ما رواه محمد بن الهيثم، عن رجل، عن أبي عبد اللّه «ع». قال:

سألته عن العصير يطبخ بالنار حتى يغلي من ساعته، أ يشربه صاحبه؟ فقال: «إذا تغيّر عن حاله و غلى فلا خير فيه حتى يذهب ثلثاه و يبقى ثلثه.» «4»

و السند إلى ابن الهيثم صحيح و هو أيضا ثقة، و لكن الرواية- كما ترى- مرسلة.

و الظاهر أنّ قول السائل: «من ساعته» إشارة إلى أنّ التغير الذي كان يحصل له بطبعه بعد أيّام حصل له بالنار سريعا، فأجابه الإمام «ع» بأنّ الملاك في الحرمة التغير و الغليان و لو سريعا.

و نحوها ما رواه أبو بصير. قال: سمعت أبا عبد اللّه «ع»- و سئل عن الطلاء- فقال:

«إن طبخ حتى يذهب منه اثنان و يبقى واحد فهو حلال، و ما دون ذلك فليس فيه خير.» «5»

و مورد السؤال في الخبرين- كما ترى- العصير المغلي بالنار و هو المبحوث عنه في المقام،

______________________________
(1) الوسائل 17/ 225، الباب 2 من أبواب الأشربة المحرّمة، الحديث 4؛ عن الكافى 6/ 394.

(2) الوسائل 17/ 225، الباب 2 من أبواب الأشربة المحرّمة، الحديث 4؛ عن الكافى 6/ 394.

(3) النهاية لابن الأثير 1/ 334؛ و صحاح اللغة 4/ 1665.

(4) الوسائل 17/ 226، الباب 2 من أبواب الأشربة المحرّمة، الحديثان 7.

(5) الوسائل 17/ 226، الباب 2 من أبواب الأشربة المحرّمة، الحديثان 6.

568
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الجواب عن الأخبار ؛ ج‌1، ص : 569

[الجواب عن الأخبار]

و في الجميع نظر. أمّا في العمومات فلما تقدّم (1). و أمّا الأدلّة الخاصّة فهي مسوقة للنهي عن بيعه بعد الغليان نظير بيع الدبس و الخلّ من غير اعتبار إعلام المكلّف (2). و في الحقيقة هذا النهي كناية عن عدم جواز الانتفاع ما لم يذهب ثلثاه، فلا يشمل بيعه بقصد التطهير مع إعلام

______________________________
و لكن ليس فيهما اسم من البيع و المعاملة. فالاستدلال بهما كما في المتن يتوقف على شمول الخير المنفي للبيع أيضا، و لكنه غير واضح. إذ السؤال في المرسلة كان عن شربه فيراد بيان حرمة شربه. و لعلّ عدم التصريح بها كان للتقية عمن كان يحلّه على النصف.

و بالجملة فلا دلالة للأخبار الخاصة المذكورة في المقام على حرمة بيع العصير العنبي المغلي بالنار إذا باعه مع إعلام حاله، فتدبّر.

(1) من انصراف النجاسة و الحرمة المذكورتين فيها عن العرضيتين العارضتين في حال متوسط بين حالي الطهارة و الحلّية. و العصير مال مرغوب فيه قابل للانتفاع فيشمله عمومات البيع و التجارة. هذا. و قد مرّ الكلام حول ذلك، فراجع. «1»

(2) التعبير بالمكلّف لا يخلو عن مسامحة، إذ الظاهر عدم جواز بيعه للصغير و المجنون أيضا بلا إعلام، لحرمة إشرابهما الخمر و ما في حكمها. إلّا أن يقال: إنّ المشتري لهما وليّهما و الإعلام يقع له و هو مكلّف. هذا. و قد عرفت أنّ خبري أبي كهمس و أبي بصير مع ضعفهما لا ربط لهما بالعصير المغليّ بالنار، و المرسل لا ارتباط له بمسألة البيع.

و قد يستدل للمنع مضافا إلى الأخبار الثلاثة المذكورة في المتن بصحيحة معاوية بن عمار السابقة بنقل الشيخ. قال: سألت أبا عبد اللّه «ع» عن الرجل من أهل المعرفة بالحق‌

______________________________
(1) راجع ص 556 من الكتاب.

569
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

من تعرض للمسألة صريحا ؛ ج‌1، ص : 570

المشتري نظير بيع الماء النجس (1).

و بالجملة فلو لم يكن إلّا استصحاب ماليته و جواز بيعه كفى.

[من تعرّض للمسألة صريحا]

و لم أعثر على من تعرّض للمسألة صريحا عدا جماعة من المعاصرين (2).

نعم، قال المحقق الثاني في حاشية الإرشاد في ذيل قول المصنّف:

«و لا بأس ببيع ما عرض له التنجيس مع قبوله التطهير»- بعد الاستشكال بلزوم عدم جواز بيع الأصباغ المتنجسة بعدم قبولها التطهير

______________________________
يأتيني بالبختج و يقول: قد طبخ على الثلث و أنا أعرفه أنّه يشربه على النصف. فقال:

«خمر لا تشربه.» «1» بتقريب أنّه إذا كان خمرا شمله أدلّة حرمة بيع الخمر.

و فيه- مضافا إلى أنّ لفظ الخمر لا يوجد في نقل الكافي «2» و هو أضبط-: أنّ التنزيل في الصحيحة بلحاظ حرمة الشرب المصرّح بها و أنّ الخمر أيضا يجوز بيعها بقصد التخليل و نحوه كما مرّ في مسألة بيع الخمر، فراجع.

(1) قد مرّ منا عدم مانعية النجاسة بنفسها عن البيع، و لكن على القول بها كما هو ظاهر الأصحاب يمكن الفرق بين نجس العين و المتنجس القابل للتطهير.

(2) راجع الجواهر و المستند. «3» و يظهر من الأول الجواز و من الثاني المنع، فراجع.

______________________________
(1) التهذيب 9/ 122، باب الذبائح و الأطعمة ...، الحديث 261.

(2) الكافى 6/ 421، كتاب الأشربة، باب الطلاء، الحديث 7.

(3) راجع الجواهر 22/ 8، كتاب التجارة، الفصل الأوّل؛ و مستند الشيعة 2/ 332.

570
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

من تعرض للمسألة صريحا ؛ ج‌1، ص : 570

و دفع ذلك بقبولها له بعد الجفاف (1)-: «و لو تنجس العصير و نحوه فهل يجوز بيعه على من يستحله؟ فيه إشكال.» ثم ذكر أنّ الأقوى العدم، لعموم: وَ لٰا تَعٰاوَنُوا عَلَى الْإثْم وَ الْعُدْوٰان. انتهى. و الظاهر أنّه أراد بيع العصير للشرب من غير التثليث، كما يظهر من ذكر المشتري و الدّليل، فلا يظهر منه حكم بيعه على من يطهّره (2).

______________________________
(1) يمكن أن يقال: إنّ القابل للتطهير هو الثوب المنصبغ بالأصباغ المتنجسة لا الأصباغ، إذ هي محكومة بالفناء عرفا.

(2) المصنّف حمل كلام المحقق الثاني في حاشية الإرشاد على بيع العصير المغليّ بالنار لمن يستحل شربه قبل التثليث.

و لكن الظاهر أنّه أراد بيع المائعات و عصير الفواكه المتنجسة بملاقاة النجاسة لمن يستحلها عصيرا كانت أو غيره.

و يشهد لذلك أمور: الأوّل: التعبير بلفظ التنجّس. الثاني: عطف قوله: و نحوه.

الثالث: تقييده جواز البيع بمن يستحلّه، إذ العصير المغليّ بالنار يجوز لغير المستحلّ أيضا لجواز شربه بعد تثليثه.

الرابع: الاستدلال بآية التعاون، إذ بيع العصير المغليّ لمن يريد شربه بعد إذهاب ثلثيه ليس تعاونا على الإثم.

و بالجملة فكلام المحقق الثاني لا يرتبط بمسألتنا. و قد تعرّض لهذا الإشكال في مصباح الفقاهة أيضا. «1»

______________________________
(1) راجع مصباح الفقاهة 1/ 106، في جواز بيع العصير ...

571
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

المسألة الرابعة: يجوز المعاوضة على الدهن المتنجس ؛ ج‌1، ص : 572

 

[المسألة الرابعة: يجوز المعاوضة على الدهن المتنجس]

الرابعة: يجوز المعاوضة على الدهن المتنجس على المعروف من مذهب الأصحاب. و جعل هذا من المستثنى عن بيع الأعيان النجسة مبنى على المنع من الانتفاع بالمتنجس إلّا ما خرج بالدليل، أو على المنع من بيع المتنجس و إن جاز الانتفاع به نفعا مقصودا محلّلا، و إلّا كان الاستثناء منقطعا من حيث إنّ المستثنى منه ما ليس فيه منفعة محلّلة مقصودة من النجاسات و المتنجسات (1). و قد تقدّم أنّ المنع عن بيع النجس

______________________________
المسألة الرابعة: المعاوضة على الدهن المتنجّس

[بيان موضوع المسألة]

(1) حاصل كلام المصنّف أن جعل الأصحاب هذه المسألة من المستثنيات مبني على التزامهم بأحد أمرين: إمّا القول بحرمة الانتفاع بالمتنجسات إلّا ما خرج بالدليل و يلزمها قهرا حرمة بيعها أيضا، أو القول بحرمة بيعها تعبّدا و إن جاز الانتفاع بها. و إلّا كان الاستثناء منقطعا، إذ على هذا يجب أن يفرض المستثنى منه ما ليس فيه منفعة محلّلة مقصودة فلا يكون المقام من أفراده.

 

572
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

بيان موضوع المسألة ؛ ج‌1، ص : 572

فضلا عن المتنجس ليس إلّا من حيث حرمة المنفعة المقصودة. فإذا فرض حلّها فلا مانع من البيع (1). و يظهر من الشهيد الثاني في المسالك خلاف ذلك و أنّ جواز بيع الدهن للنصّ لا لجواز الانتفاع به و إلّا لاطّرد

______________________________
أقول: كلام المصنّف في المقام يشبه اللغز و الأحجية. و كان الأولى أن يقول: و إلّا لم يكن في البين استثناء، إذ على فرض جواز الانتفاع بالمتنجس و جواز بيعه لذلك كان الدهن المتنجس من مصاديق هاتين الكليتين و كان جواز بيعه على القاعدة فلم يصحّ الاستثناء.

نعم هنا شي‌ء آخر و هو أنّ المصنّف جعل المستثنى منه في كلامه حرمة بيع الأعيان النجسة، و ظاهر أنّ الدهن المتنجس ليس منها. فمن هذه الجهة يصير الاستثناء منقطعا، إلّا أن يريد بالأعيان النجسة أعمّ من النجاسات الذاتية و العرضية الحاصلة بملاقاتها. و لذا جعل المسائل السّابقة ثمانية و جعل الثامنة منها مسألة بيع الأعيان المتنجسة غير القابلة للتطهير.

(1) هذا ما كنّا نصرّ عليه من عدم كون النجاسة بنفسها مانعة عن صحة البيع، و أنّ الجواز و المنع فيه يدوران مدار وجود المنفعة المحللة المقصودة المستلزمة لمالية الشي‌ء و عدمها.

و لو فرض الشك في جواز الانتفاع فبمقتضى أصالة الحلّ يحكم بجوازه و يترتب عليه قهرا جواز المعاملة عليه.

و عدّ الأصحاب النجاسات في المقام عنوانا مستقلا في قبال ما لا منفعة له من جهة أنّ المنافع المطلوبة منها في تلك الأعصار كانت محرّمة غالبا، فيراد بالنوع الأوّل من المكاسب المحرمة ما ليس لها منفعة محلّلة. و بالنوع الثالث ما لا منفعة لها أصلا.

و قد مرّ منّا أنّ نفس استثناء المستثنيات الأربعة في المقام أدلّ دليل على أنّ المنع ليس للتعبد المحض و مانعية النجاسة بنفسها بل يدور الجواز و المنع مدار وجود المنفعة المحلّلة العقلائية الموجبة لمالية الشي‌ء شرعا و عدمها، فتدبّر.

573
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

كلمات الفقهاء ؛ ج‌1، ص : 574

الجواز في غير الدهن أيضا (1). و أمّا حرمة الانتفاع بالمتنجس إلّا ما خرج بالدليل فسيجي‌ء الكلام فيه إن شاء اللّه.

و كيف كان فلا إشكال في جواز بيع الدهن المذكور، و عن جماعه الإجماع عليه في الجملة (2).

[كلمات الفقهاء]

______________________________
(1) قال في تجارة المسالك: «و أمّا الأدهان النجسة بنجاسة عارضة كالزيت تقع فيه الفأرة فيجوز بيعها لفائدة الاستصباح بها، و إنّما خرج هذا الفرد بالنصّ و إلّا فكان ينبغي مساواتها لغيرها من المائعات النجسة التي يمكن الانتفاع بها في بعض الوجوه. و قد ألحق الأصحاب ببيعها للاستصباح بها بيعها لتعمل صابونا أو ليدهن بها الأجرب و نحو ذلك. و يشكل بأنّه خروج عن مورد النصّ المخالف للأصل، فإن جاز لتحقق المنفعة فينبغي مثله في المائعات النجسة التي ينتفع بها كالدبس يطعم للنحل و نحوه.»
«1»

(2) ينبغي هنا نقل بعض الكلمات من علماء الفريقين ليكون القارئ على بصيرة:

1- قال الشيخ في بيع الخلاف (المسألة 312): «يجوز بيع الزيت النجس لمن يستصبح به تحت السّماء. و قال أبو حنيفة: يجوز بيعه مطلقا. و قال مالك و الشافعي: لا يجوز بيعه بحال. دليلنا إجماع الفرقة و أخبارهم. و أيضا قوله- تعالى-: وَ أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبٰا، و قوله: إلّٰا أَنْ تَكُونَ تجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ. و هذا بيع و تجارة. و أيضا دلالة الأصل، و المنع يحتاج إلى دليل. و روى أبو عليّ بن أبي هريرة في الإفصاح: أنّ النبي «ص» أذن في الاستصباح بالزيت النجس. و هذا يدلّ على جواز بيعه للاستصباح و أنّ‌

______________________________
(1) المسالك 1/ 164 (ط. أخرى 3/ 119)، كتاب التجارة، الفصل الأوّل.

574
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

كلمات الفقهاء ؛ ج‌1، ص : 574

..........

______________________________
لغيره لا يجوز إذا قلنا بدليل الخطاب.»
«1»

أقول: كلامه «قده» يشتمل على نكات ينبغي التنبيه إليها:

الأوّل: كون المسألة إجماعية عنده.

و فيه: عدم حجيته مع وجود الأخبار في المسألة لاحتمال استنادهم إليها و كون الإجماع مدركيا. بل الظاهر كون الجواز على طبق القاعدة بعد تحقق المنفعة المحلّلة العقلائية الموجبة لمالية الشي‌ء و دلالة عمومات البيع و التجارة عليه فلا نحتاج إلى الأخبار المجوزة أيضا.

الثاني: صريح كلامه دلالة الأصل على الجواز.

و فيه: أنّ مقتضى الأصل في التكليفيات و إن كان هو الجواز لكن مقتضاه في الوضعيات هو الفساد لاستصحاب عدم ترتب الأثر. و لا يراد بالأصل في كلامه عمومات صحة البيع و التجارة للتصريح بها قبل ذلك.

اللهم إلّا أن يحمل الحلّ و الحرمة في أخبار الحلّ على الأعمّ من التكليف و الوضع كما بيّناه في المسألة السابقة و قلنا إنّه المقصود في لسان الكتاب و السنة و اصطلاح القدماء من أصحابنا.

الثالث: يظهر من كلامه وجود الملازمة بين جواز الانتفاع بالشي‌ء و بين جواز بيعه، و هذا ما ذكرناه مرارا و يظهر من الشيخ الأنصاري أيضا.

الرابع: استدلاله «قده» بدليل الخطاب على عدم الجواز لغير الاستصباح.

أقول: المراد بدليل الخطاب مفهوم المخالفة أعني ظهور القيد كالشرط و الوصف‌

______________________________
(1) الخلاف 3/ 187 (ط. أخرى 2/ 83).

575
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

كلمات الفقهاء ؛ ج‌1، ص : 574

..........

______________________________
و نحوهما في الدخالة المستلزمة للانتفاء عند الانتفاء إجمالا.

و فيه: أنّ إذنه «ص» في الاستصباح به لعلّه من جهة أنّه الفائدة المحلّلة له في تلك الأعصار، فلا يبعد إلقاء الخصوصية منه و الإسراء إلى كل فائدة محلّلة فلا مفهوم له. و إن شئت قلت: إنّه من قبيل مفهوم اللقب الذي لا نقول به لأنّ إثبات الشي‌ء لا يستلزم نفي ما عداه. و بالجملة فدليل الخطاب لا يجري في المقام.

الخامس: أنّ تعبيره عن الزيت المتنجس بالزيت النجس يشهد لما كان يصرّ عليه الأستاذ آية اللّه العظمى البروجردي- طاب ثراه- من أنّ التعبير بالمتنجس من اصطلاح الفقهاء المتأخرين. و أمّا في الأخبار و كلمات القدماء من فقهائنا فكان يعبّر عن المتنجس أيضا بلفظ النجس أو القذر أو نحو ذلك. و يشهد لذلك قوله في رواية محمد بن ميسّر:

«و يداه قذرتان.» «1»

و في رواية أبي بصير: «إن كانت يده قذرة فأهرقه.» «2»

و في رواية عمّار: «البارية يبلّ قصبها بماء قذر.» «3»

و في موثقة عمّار المشهورة: «كلّ شي‌ء نظيف حتّى تعلم أنّه قذر، فإذا علمت فقد قذر و ما لم تعلم فليس عليك.» «4» إلى غير ذلك من الأخبار.

و كان الأستاذ «ره» يريد أن يستفيد من هذا البيان نجاسة الملاقي للمتنجس مطلقا و لو‌

______________________________
(1) الوسائل 1/ 113، الباب 8 من أبواب الماء المطلق، الحديث 5.

(2) الوسائل 1/ 115، الباب 8 من أبواب الماء المطلق، الحديث 11.

(3) الوسائل 2/ 1044، الباب 30 من أبواب النجاسات، الحديث 5.

(4) الوسائل 2/ 1054، الباب 37 من أبواب النجاسات، الحديث 4.

576
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

كلمات الفقهاء ؛ ج‌1، ص : 574

..........

______________________________
بألف واسطة، بتقريب أنّ مقتضى الحكم بنجاسة الشي‌ء نجاسة ملاقيه.

و لكن يرد على ذلك: أنّ القذارة- المعبّر عنه في الفارسية ب‍ «پليدي»- عند العرف مقولة بالتشكيك و لها عندهم مراتب فيمكن أن تتنزل القذارة إلى حدّ لا يستقذر ملاقيها لعدم السّراية عندهم. و الظاهر أنّ أصل الطهارة و النجاسة و مراتبهما و كيفية السراية أمور عرفية و ليست بتأسيس الشرع المبين و إن اختلف العرف و الشرع في تعيين المصاديق لهما. و تمام الكلام في المسألة موكول إلى بحث الطهارة.

2- و قال في المبسوط: «و إن كان مائعا فلا يخلو من أحد أمرين: إمّا أن يكون ممّا لا يطهر بالغسل أو يكون ممّا يطهر. فإن كان ممّا لا يطهر بالغسل مثل السّمن فلا يجوز بيعه ... يجوز بيع الزيت النجس لمن يستصبح به تحت السّماء، و لا يجوز إلّا لذلك.» «1»

3- و في بيع الغنية في شرائط المبيع قال: «و اشترطنا أن يكون منتفعا به تحرّزا مما لا منفعة فيه كالحشرات و غيرها، و قيدنا بكونها مباحة تحفظا من المنافع المحرّمة، و يدخل في ذلك كلّ نجس لا يمكن تطهيره إلّا ما أخرجه الدليل من بيع الكلب المعلّم للصيد و الزيت النجس للاستصباح به تحت السّماء، و هو إجماع الطائفة.» «2»

أقول: قوله: «و هو إجماع الطائفة» راجع إمّا إلى الجميع و إمّا إلى الحكم الأخير.

و كيف كان فيكون جواز بيع الزيت النجس عنده إجماعيا و لو في الجملة. و المستفاد من مجموع كلامه دوران جواز البيع و منعه مدار وجود المنفعة المحلّلة و عدمها. فلا محالة‌

______________________________
(1) المبسوط 2/ 167، كتاب البيوع، فصل في حكم ما يصحّ بيعه و ما لا يصحّ.

(2) الجوامع الفقهية/ 524 (ط. أخرى/ 586)، كتاب البيع من الغنية.

577
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

كلمات الفقهاء ؛ ج‌1، ص : 574

..........

______________________________
يحمل التقيد بالاستصباح تحت السّماء على الغالب في تلك الأعصار، حيث إنّ المنفعة الغالبة للزيت النجس كانت منحصرة في الاستصباح به. و التقييد بكونه تحت السّماء مع عدم وروده في نصّ لعلّه من جهة تقيّد المسلمين المتعبّدين بعدم تنجيس البيوت المستلزم غالبا لتنجس وسائل التعيّش. و بالجملة يحمل تقييد الكلب بالصيد و الزيت النجس بالاستصباح به تحت السّماء على المثال بذكر الفرد الغالب المتعارف منهما.

4- و في السّرائر: «و جميع ما لا يحل أكله حرام بيعه إلّا ما استثناه أصحابنا من بيع الدهن النجس لمن يستصبح به تحت السّماء بهذا الشرط، فإنّه يصحّ بيعه بهذا التقييد لإجماعهم على ذلك.» و راجع كتاب الأطعمة منه أيضا. «1»

5- و في أوّل التجارة من الشرائع في عداد ما يحرم بيعه قال: «و كل مائع نجس عدا الأدهان لفائدة الاستصباح به تحت السّماء.» «2»

6- و ذيّله في الجواهر بقوله: «فجاز بيعها لذلك بلا خلاف معتدّ به أجده فيه، بل في محكي الخلاف و الغنية و إيضاح النافع الإجماع عليه، بل يمكن تحصيله.» «3»

7- و في المستند: «و يستثنى من ذلك الدهن بجميع أصنافه، فيجوز الاستصباح به و بيعه لذلك. للإجماع و الأخبار المستفيضة من الصحاح و غيرها.» «4»

______________________________
(1) السرائر 2/ 222، كتاب المكاسب، باب ضروب المكاسب؛ و 3/ 121 و 127، كتاب الأطعمة و الأشربة، باب الأطعمة المحظورة و المباحة.

(2) الشرائع/ 263 (ط. أخرى 2/ 9)، كتاب التجارة، الفصل الأوّل.

(3) الجواهر 22/ 13، كتاب التجارة، الفصل الأوّل.

(4) مستند الشيعة 2/ 332، كتاب مطلق الكسب و الاقتناء، المقصد الثالث، الفصل الثانى.

578
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

كلمات الفقهاء ؛ ج‌1، ص : 574

..........

______________________________
8- و في التذكرة: «الثالث: الأليات المقطوعة من الشاة الميتة أو الحليّة لا يحلّ بيعها و لا الاستصباح بدهنها مطلقا. أمّا الدهن النجس بملاقاة النجاسة له فيجوز بيعه لفائدة الاستصباح به تحت السّماء خاصة. و للشافعي قولان: أحدهما: لا يجوز تطهيره فلا يصحّ، و به قال مالك و أحمد. و الثاني: يجوز تطهيره، ففي بيعه عنده و جهان. و في جواز الاستصب‌اح قولان. و الأظهر عنده جوازه و منع بيعه ...»
«1»

أقول: الظاهر أنّ أصل جواز البيع عند أصحابنا مما لا خلاف فيه إجمالا. و لكنه مبني عند الأكثر على النصّ و التعبّد المحض. فتكون النجاسة عندهم بنفسها و لو عارضية غير قابلة للتطهير مانعة عن البيع لو لا النصّ فيقتصر على مورده.

و لأجل ذلك ترى العلامة فرّق بين الألية المقطوعة و بين الدهن المتنجس.

مع أنّه يظهر من كثير من عباراته في التذكرة ما كنّا نصرّ عليه- تبعا للشيخ- من دوران الجواز و المنع مدار وجود المنفعة المحلّلة و عدمها. و من ذلك قوله «ره» بعد هذه العبارة:

«يجوز بيع ما فيه منفعة لأنّ الملك سبب لإطلاق التصرف، و المنفعة المباحة كما يجوز استيفاؤها يجوز أخذ العوض عنها فيباح لغيره بذل ماله فيها توصّلا إليها و دفعا للحاجة بها كسائر ما أبيح بيعه.» و على هذا ففي كلامه نحو تهافت.

9- و في المختصر الخرقي في فقه الحنابلة: «و إذا وقعت النجاسة في مائع كالدهن و ما أشبهه نجس و استصبح به إن أحب و لم يحلّ أكله و لا ثمنه.» «2»

10- و في كتاب الجوهر النقي ذيل سنن البيهقي قال: «و في قواعد ابن رشد: اختلفوا‌

______________________________
(1) التذكرة 1/ 464، كتاب البيع، المقصد الأوّل، الفصل الرابع.

(2) المغنى 11/ 86، كتاب الصيد و الذبائح.

579
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

كلمات الفقهاء ؛ ج‌1، ص : 574

..........

______________________________
في بيع الزيت النجس و نحوه بعد اتفاقهم على تحريم أكله، فمنعه مالك و الشافعي، و جوّزه أبو حنيفة و ابن وهب إذا بيّن. و روي عن ابن عباس و ابن عمر أنّهم جوّزوا بيعه ليستصبح به. و في مذهب مالك جواز الاستصباح به و عمل الصابون مع تحريم بيعه.

و أجازه الشافعي أيضا مع تحريم ثمنه ... و في نوادر الفقهاء لابن بنت نعيم: أجمع الصحابة على جواز بيع زيت و نحوه تنجس بموت شي‌ء فيه إذا بيّن ذلك ...» «1»

11- و في الفقه على المذاهب الأربعة عن المالكية: «و كذلك لا يصح بيع المتنجس الذي لا يمكن تطهيره كزيت و عسل و سمن وقعت فيه نجاسة على المشهور، فإنّ الزيت و العسل لا يطهر بالغسل. و بعضهم يقول: إنّ بيع الزيت المتنجس و نحوه صحيح لأن نجاسته لا توجب إتلافه، و أيضا فإنّ بعضهم يقول: إنّ الزيت يمكن تطهيره بالغسل.»‌

و عن الحنابلة: «أمّا الدهن الذي سقطت فيه نجاسة فإنّه لا يحلّ بيعه و لكن يحلّ الانتفاع به في الاستضاءة في غير المسجد.»‌

و عن الحنفية: «و يصح بيع المتنجس و الانتفاع به في غير الأكل، فيجوز أن يبيع دهنا متنجسا ليستعمله في الدّبغ و دهن عدد الآلات و الماكينات و نحوها و الاستضاءة به في غير المسجد ما عدا دهن الميتة فإنّه لا يحلّ الانتفاع به لأنّه جزء منها و قد حرّمها الشرع فلا تكون مالا، و قد تقدم في باب الطهارة أنّ الزيت و نحوه يمكن تطهيره.» «2»

أقول: فالمسألة عند فقهاء السنة خلافية و عند الأكثر مبنية على إمكان التطهير و عدمه و فرقوا بينه و بين دهن الميتة.

______________________________
(1) ذيل «سنن البيهقى» 6/ 13، كتاب البيوع، باب تحريم بيع ما يكون نجسا لا يحلّ أكله.

(2) الفقه على المذاهب الأربعة 2/ 231، كتاب البيع، مبحث بيع النجس و المتنجس.

580
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الأخبار الواردة في المسألة ؛ ج‌1، ص : 581

[الأخبار الواردة في المسألة]

و الأخبار به مستفيضة: منها: الصحيح عن معاوية بن وهب عن أبي عبد اللّه «ع». قال: قلت له: جرذ مات في سمن أو زيت أو عسل؟ قال:

«أمّا السمن و العسل فيؤخذ الجرذ و ما حوله، و الزيت يستصبح به.»

و زاد في المحكيّ عن التهذيب: أنّه يبيع ذلك الزيت و يبينه لمن اشتراه ليستصبح به. (1)

و لعلّ الفرق بين الزيت و أخويه من جهة كونه مائعا غالبا بخلاف السمن و العسل. و في رواية إسماعيل الآتية إشعاره بذلك.

______________________________
(1) راجع باب الذبائح و الأطعمة من التهذيب و الوسائل.
«1» و الظاهر أنّ الزيادة المذكورة في التهذيب إشارة إلى ما رواه هو في باب الغرر و المجازفة منه بسنده عن معاوية بن وهب و غيره عن أبي عبد اللّه «ع» في جرذ مات في زيت ما تقول في بيع ذلك؟ قال:

«بعه و بيّنه لمن اشتراه ليستصبح به.» «2»

و بالجملة فما في التهذيب- بعد ذكر الرواية الأولى-: «و قال في بيع ذلك الزيت:

تبيعه و تبيّنه لمن اشتراه ليستصبح به» ليس من تتمة الرواية، بل هو من كلام الشيخ و إشارة إلى الرواية الثانية لابن وهب، و ضمير قال يرجع إلى أبي عبد اللّه «ع». و الرواية الثانية صريحة في جواز البيع. و أمّا الأولى فلا تدلّ إلّا على جواز الاستصباح به، إلّا أن نتمم ذلك بما مرّ من الخلاف من أنّ الإذن في الاستصباح به يدل على جواز بيعه، و قد قوّينا ذلك و بيّناه.

______________________________
(1) راجع التهذيب 9/ 85، الحديث 94؛ و الوسائل 12/ 66، الباب 6 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

(2) التهذيب 7/ 129، باب الغرر و المجازفة ...، الحديث 34؛ و الوسائل 12/ 66.

581
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الأخبار الواردة في المسألة ؛ ج‌1، ص : 581

و منها: الصحيح عن سعيد الأعرج عن أبي عبد اللّه «ع» في الفأرة و الدابّة تقع في الطعام و الشراب فتموت فيه؟ قال: «إن كان سمنا أو عسلا أو زيتا فإنّه ربّما يكون بعض هذا، فإن كان الشتاء فانزع ما حوله و كله. و إن كان الصيف فادفعه حتى يسرج به.» (1)

و منها: عن أبي بصير في الموثق عن الفأرة تقع في السّمن أو الزيت فتموت فيه؟ قال: «إن كان جامدا فاطرحها و ما حولها و يؤكل ما بقي. و إن

______________________________
و بهذا البيان يمكن أن يستدلّ على جواز البيع بجميع ما دلّ على جواز الاستصباح به من أخبار الفريقين، فراجع التهذيب و الوسائل و سنن البيهقي.
«1» و الظاهر من بعض أخبارهم جواز مطلق الانتفاع غير الأكل، فراجع.

(1) قد وقع الاشتباه في نقل المصنّف هنا، حيث إنّ هذه الرواية للحلبي لا لسعيد الأعرج، راجع التهذيب. «2» و هي صحيحة و لكن لا اسم فيها من البيع. و قوله: «فادفعه حتى يسرج به» لا يدلّ على جواز البيع و أخذ الثمن بإزائه. مضافا إلى أنّ الموجود في التهذيب: «فارفعه حتى تسرج به.» فلعلّ المراد رفعه عن المائدة فعلا حتى تسرج به فيما بعد. و أما رواية سعيد الأعرج فمذكورة في التهذيب بعد رواية الحلبي، و في آخرها:

«و عن الفأرة تموت في الزيت؟ فقال: «لا تأكله و لكن أسرج به.» و لا دلالة فيها أيضا على جواز البيع إلّا على ما مرّ من الملازمة بين جواز الانتفاع و جواز البيع.

______________________________
(1) راجع التهذيب 9/ 58، الحديث 93 و غيره؛ و الوسائل 12/ 66، الباب 6 من أبواب ما يكتسب به؛ و سنن البيهقى 9/ 354، كتاب الضحايا، باب من أباح الاستصباح به.

(2) راجع التهذيب 9/ 86، باب الذبائح و الأطعمة، الحديث 96.

582
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الأخبار الواردة في المسألة ؛ ج‌1، ص : 581

كان ذائبا فأسرج به و أعلمهم إذا بعته.» (1)

و منها: رواية إسماعيل بن عبد الخالق. قال: سأله سعيد الأعرج السّمان- و أنا حاضر- عن السمن و الزيت و العسل يقع فيه الفأرة فتموت كيف يصنع به؟ قال: «أمّا الزيت فلا تبعه إلّا لمن تبيّن له فيبتاع للسراج.

و أمّا الأكل فلا. و أمّا السمن فإن كان ذائبا فكذلك، و إن كان جامدا و الفأرة في أعلاه فيؤخذ ما تحتها و ما حولها ثم لا بأس به، و العسل كذلك إن كان جامدا.» (2)

______________________________
(1) راجع التهذيب و الوسائل.
«1» و فيهما: قال: سألت أبا عبد اللّه «ع» عن الفأرة تقع في السمن أو الزيت. الحديث. و في السند ابن رباط و هو مختلف فيه و إن وثقه بعضهم.

(2) راجع قرب الإسناد و الوسائل. «2» و إسماعيل بن عبد الخالق ثقة. و الراوي عنه محمد بن خالد الطيالسي، و هو و إن لم يوثق لكن نقل الأعاظم الثقات لكتابه ربما يشهد باعتمادهم عليه و الرواية ناظرة إلى ما رواه سعيد الأعرج عنه «ع»، و قد مرّ ذيلها و لكن ليس في رواية الأعرج التي بأيدينا اسم من البيع، فراجع. «3»

و ليس في أخبارنا اسم من كون الاستصباح تحت السّماء، فهي من هذه الجهة مطلقة، فهل كان للأصحاب للتقييد بذلك حجة لم تصل إلينا أو أنّ التقييد به في كلماتهم كان من باب الإرشاد من جهة تقيد المسلمين و تعبّدهم بعدم تنجيس البيوت و مظاهر‌

______________________________
(1) راجع التهذيب 7/ 129، باب الغرر و المجازفة ... الحديث 33؛ و الوسائل 12/ 66.

(2) راجع قرب الإسناد/ 60؛ و الوسائل 12/ 66، الباب 6 من أبواب الأشربة المحرّمة، الحديث 5.

(3) راجع التهذيب 9/ 86، باب الذبائح و الأطعمة ...، الحديث 97.

583
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الأخبار الواردة في المسألة ؛ ج‌1، ص : 581

..........

______________________________
الحياة و التعيش كما مر؟

و من المحتمل كون ذكر الاستصباح في الأخبار و في كلمات الأصحاب أيضا من باب المثال من جهة كونه المنفعة المحلّلة الغالبة للدهن المتنجس في تلك الأعصار في قبال الانتفاع المحرم أعني الأكل، و لذا صرّح في الأخبار بالنهي عنه.

و على هذا فلا يكون للاستصباح خصوصية. و يشهد لذلك ما ورد في جعله صابونا:

مثل ما عن الجعفريات بإسناده أنّ عليّا «ع» سئل عن الزيت يقع فيه شي‌ء له دم فيموت؟ قال: «الزيت خاصة يبيعه لمن يعمله صابونا.» «1» و نحوه ما عن نوادر الراوندي بإسناده عن عليّ «ع». «2» و التقييد بقوله: «خاصة» من جهة أن سائر المائعات النجسة لم يكن يتصور لها في تلك الأعصار منفعة محلّلة عقلائية.

و عن دعائم الإسلام: سئل أمير المؤمنين «ع» عن الدوابّ تقع في السمن و العسل و اللبن و الزيت (فتموت فيه؟- الدعائم) قال: «إن كان ذائبا أريق اللبن و استسرج بالزيت و السّمن ...» و قال في الزيت: «يعمله صابونا إن شاء.» «3»

و ليس في هذه الرواية اسم من البيع، و لكن إذا جاز الانتفاع به صابونا و صار مالا فالقاعدة تقتضي جواز بيعه لذلك كما مرّ.

و يظهر من أخبار السّنة أيضا جواز الاستصباح به بل جواز الانتفاع مطلقا: ففي رواية ابن عمر: أنّ رسول اللّه «ص» سئل عن فأرة وقعت في سمن فقال: «ألقوها و ما حولها‌

______________________________
(1) مستدرك الوسائل 2/ 427، الباب 6 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2.

(2) المصدر السابق و الباب، الحديث 7.

(3) المصدر السابق و الباب، الحديث 4؛ عن الدعائم 1/ 122.

584
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الأخبار الواردة في المسألة ؛ ج‌1، ص : 581

..........

______________________________
و كلوا ما بقي، فقالوا: يا نبيّ اللّه، أ فرأيت إن كان السمن مائعا؟ قال: «انتفعوا به و لا تأكلوه.» و في رواية أبي سعيد عنه «ص»: «استصبحوا به و لا تأكلوه.»
«1»

و هنا روايات يظهر منها منع البيع مطلقا:

1- ما عن قرب الإسناد عن عليّ بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر «ع»، قال:

سألته عن حبّ دهن ماتت فيه فأرة. قال: «لا تدهن به و لا تبعه من مسلم.» «2»

و الرواية ضعيفة بعبد اللّه بن الحسن، فإنّه مجهول.

2- ما عن الجعفريات بإسناده عن أمير المؤمنين «ع»، قال: «و إن كان ذائبا فلا يؤكل يستسرج به و لا يباع.» «3»

و حجية الكتاب بجميع ما فيه من الأخبار غير ثابتة، و إن ثبت وجوده إجمالا في الأعصار الأوّلية و اعتماد البعض عليه.

3- ما عن دعائم الإسلام: و قالوا- عليهم السلام-: «إذا أخرجت الدابّة حيّة و لم تمت في الإدام لم ينجس و يؤكل. و إذا وقعت فيه فماتت لم يؤكل و لم يبع و لم يشتر.» «4»

و الجواب عن هذه الروايات- مضافا إلى ضعفها- إمكان حمل النهي فيها على النهي عن بيعه للأكل أو بدون الإعلام نظير ما يباع الأدهان الطاهرة، فلا تقاوم ما مرّ من الأخبار الموثوق بها الدالة على جواز بيعها مع الإعلام للمشتري.

______________________________
(1) سنن البيهقى 9/ 354، كتاب الضحايا، باب من أباح الاستصباح به.

(2) الوسائل 12/ 69، الباب 7 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 5؛ عن قرب الإسناد/ 112.

(3) مستدرك الوسائل 2/ 427، الباب 6 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

(4) المصدر السابق و الباب، الحديث 5؛ عن الدعائم 1/ 122.

585
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

الأخبار الواردة في المسألة ؛ ج‌1، ص : 581

..........

______________________________
و قال في مصباح الفقاهة ما محصّله: «أنّ الروايات الواردة في المقام ثلاث طوائف:

الأولى: ما دلّت على جواز بيعه مقيدا بإعلام المشتري. الثانية: ما دلّت على جوازه من غير تقييد بالإعلام كرواية الجعفريات الحاكمة ببيعه لمن يعمله صابونا. الثالثة: ما دلّت على عدم جواز بيعه مطلقا. و مقتضى القاعدة تخصيص الطائفة الثالثة بالطائفة الأولى الدالة على الجواز مع الإعلام، و بعد التخصيص تنقلب نسبتها إلى الطائفة الثانية الدالّة على الجواز مطلقا فنحكم بجواز بيعه مع الإعلام، و على هذا فيجب الإعلام بالنجاسة لأن لا يقع المشتري في محذور النجاسة.» «1»

أقول: لحاظ إحدى الطوائف الثلاث أوّلا مع إحدى الطائفتين الباقيتين ثم الحكم بانقلاب نسبتها مع الثلاثة على خلاف الصناعة، و أيّ مرجح لملاحظة الأولى أوّلا مع هذه دون ذاك؟ فالأولى أن يقال: إنّ المطلقين المتباينين يتعارضان بدوا، و بالطائفة المفصلة يرتفع التهافت بينهما.

و يمكن أن يقال: إنّ رواية الجعفريات المشار إليها ليست مطلقة، إذ المتفاهم من قوله:

«يبيعه لمن يعمله صابونا» إعلامه بحال الدهن حتّى يلتزم بعمله صابونا. و على هذا فليس لنا رواية تدلّ على جواز البيع مطلقا و إن توهم. هذا مضافا إلى ما مرّ من أنّ الموثوق بها من أخبار المسألة خصوص الطائفة الأولى المفصلة، و البقية أخبار ضعاف.

و قد مرّ منا أنّه بعد جواز الانتفاع بالمتنجس إجمالا بمقتضى الأصل و أخبار الفريقين و صيرورته بذلك مالا مرغوبا فيه جازت المعاملة عليه قهرا ما لم يدل دليل قطعي على المنع عنها، فلا نحتاج في صحتها إلى دليل خاصّ و يكفي عمومات البيع و التجارة و العقود.

______________________________
(1) مصباح الفقاهة 1/ 109.

586
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

أبحاث حول بيع الدهن المتنجس ؛ ج‌1، ص : 587

 

[أبحاث حول بيع الدهن المتنجس]

[الأوّل: هل يعتبر اشتراط الاستصباح في بيع الدهن المتنجس أم لا؟]

إذا عرفت هذا فالإشكال يقع في مواضع: الأوّل: أنّ صحة بيع هذا الدهن هل هي مشروطة باشتراط الاستصباح به صريحا أو يكفي قصدهما لذلك، أو لا يشترط أحدهما؟ ظاهر الحلّي في السرائر الأوّل، فإنّه بعد ذكر جواز الاستصباح بالأدهان المتنجسة جمع قال: «و يجوز بيعه بهذا الشرط عندنا.» (1)

و ظاهر المحكيّ عن الخلاف الثاني، حيث قال: «جاز بيعه لمن يستصبح به تحت السّماء. دليلنا إجماع الفرقة و أخبارهم. و قال أبو حنيفة: يجوز مطلقا.» انتهى. و نحوه مجردا عن دعوى الإجماع عبارة المبسوط و زاد: «أنّه

______________________________
هل يعتبر اشتراط الاستصباح في بيع الدهن المتنجس أم لا؟

(1) قد مرّت عبارة الحلي في البيع من السرائر. و راجع عبارتين له في كتاب الأطعمة منه. و العبارة المذكورة في المتن في ضمن عبارته الأخيرة، فراجع. «1»

و في كلام الحلّي بالنظر البدوي احتمالان:

الأوّل: أن يريد اعتبار اشتراط الاستصباح في متن العقد كما فهمه المصنف.

الثاني: أن يريد اعتبار وقوع الاستصباح خارجا بنحو الشرط المتأخر، كما استظهره المحقق الإيرواني «2» من عبارته و كذا من عبارة الشيخ في الخلاف.

______________________________
(1) راجع السرائر 2/ 222، كتاب المكاسب، باب ضروب المكاسب؛ و 3/ 121 و 127، كتاب الأطعمة و الأشربة، باب الأطعمة المحظورة و المباحة.

(2) حاشية المكاسب للمحقق الإيروانى/ 7.

 

587
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

في المسألة ستة احتمالات ؛ ج‌1، ص : 588

لا يجوز بيعه إلّا لذلك.» (1) و ظاهره كفاية القصد. و هو ظاهر غيره ممن عبّر بقوله: «جاز بيعه للاستصباح.» (2) كما في الشرائع و القواعد و غيرهما.

نعم ذكر المحقق الثاني ما حاصله: «أنّ التعليل راجع إلى الجواز، يعني يجوز لأجل تحقق فائدة الاستصباح بيعه.» و كيف كان فقد صرّح جماعة بعدم اعتبار قصد الاستصباح. و يمكن أن يقال باعتبار قصد الاستصباح إذا كانت المنفعة المحلّلة منحصرة فيه و كان من منافعه النادرة التي لا تلاحظ في ماليته كما في دهن اللوز و البنفسج و شبههما (3).

______________________________
(1) قد مرّ في أوائل المسألة عبارة الخلاف و المبسوط، فراجع.
«1»

(2) إذ الظاهر من هذه العبارة تعلق الظرف بالأقرب أعني البيع، فيراد منه كون البيع للاستصباح و بقصده. و أمّا إذا تعلّق بقوله: «جاز» كان الظاهر منه كون الاستصباح علّة للجواز و غاية له، كما استظهره في جامع المقاصد.

[في المسألة ستة احتمالات]

(3) أقول: محصّل الكلام أنّ في المسألة احتمالات و قد أنهاها في مصباح الفقاهة «2» إلى ستة، خمسة منها مذكورة في المتن:

الأوّل: جواز بيعه بشرط أن يشترط في متن العقد الاستصباح به، كما استظهره المصنف من عبارة السرائر.

______________________________
(1) راجع الخلاف 3/ 187 (ط. أخرى 2/ 83)، كتاب البيوع؛ و المبسوط 2/ 167، كتاب البيوع، فصل في حكم ما يصحّ بيعه و ما لا يصح.

(2) مصباح الفقاهة 1/ 110.

588
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

في المسألة ستة احتمالات ؛ ج‌1، ص : 588

و وجهه أنّ ماليّة الشي‌ء إنّما هي باعتبار منافعه المحلّلة المقصودة منه لا باعتبار مطلق الفوائد الغير الملحوظة في ماليّته. و لا باعتبار الفوائد الملحوظة المحرّمة.

فإذا فرض أن لا فائدة في الشي‌ء محلّلة ملحوظة في ماليته فلا يجوز بيعه، لا على الإطلاق لأن الإطلاق ينصرف إلى كون الثمن بإزاء المنافع المقصودة منه و المفروض حرمتها فيكون أكلا للمال بالباطل، و لا على قصد الفائدة النادرة لأن قصد الفائدة النادرة لا يوجب كون الشي‌ء مالا.

ثم إذا فرض ورود النصّ الخاصّ على جواز بيعه كما فيما نحن فيه فلا بدّ من حمله على صورة قصد الفائدة النادرة لأن أكل المال حينئذ ليس بالباطل بحكم الشارع، بخلاف صورة عدم القصد لأن المال في هذه الصورة مبذول في مقابل المطلق المنصرف إلى الفوائد المحرّمة، فافهم.

______________________________
الثاني: جواز بيعه مع قصد المتبايعين ذلك و إن لم يشترطاه في متن العقد و لم يقع خارجا، كما استظهره المصنف من الخلاف و غيره.

الثالث: جواز بيعه بشرط عدم قصدهما للمنافع المحرمة، كما يظهر من المصنف فيما بعد.

الرابع: جواز بيعه بشرط قصد المنافع المحلّلة إذا فرض كونها من المنافع النادرة له دون ما إذا كانت من المنافع الشائعة الغالبة أو المساوية للمحرمة فلا يعتبر قصدها حينئذ، كما احتمله المصنف في كلامه و استدل له بما يأتي بيانه.

589
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

في المسألة ستة احتمالات ؛ ج‌1، ص : 588

و حينئذ فلو لم يعلم المتبايعان جواز الاستصباح بهذا الدهن و تعاملا من غير قصد إلى هذه الفائدة كانت المعاملة باطلة لأن المال مبذول مع الإطلاق في مقابل الشي‌ء باعتبار الفوائد المحرمة.

نعم لو علمنا عدم التفات المتعاملين إلى المنافع أصلا أمكن صحّتها لأنه مال واقعي شرعا قابل لبذل المال بإزائه و لم يقصد به ما لم يصحّ بذل المال بإزائه من المنافع المحرّمة. و مرجع هذا في الحقيقة إلى أنّه لا يشترط إلّا عدم قصد المنافع المحرّمة، فافهم.

______________________________
الخامس: جواز بيعه على الإطلاق مع فرض وجود المنافع المحلّلة للشي‌ء و إن كانت نادرة فلا يعتبر الاشتراط و لا القصد، و هو الظاهر مما حكاه المصنف عن جامع المقاصد بحمل قولهم: «للاستصباح» على أن جواز بيعه مسبب عن تحقق المنفعة المحللة له أعني الاستصباح.

السّادس: جواز بيعه بشرط وقوع الاستصباح به خارجا بنحو الشرط المتأخر، على ما استظهره المحقق الإيرواني من عبارتي السرائر و الخلاف، و إن كان احتمال اعتبار ذلك في صحة العقد في غاية البعد.

أقول: أمّا اعتبار اشتراط الاستصباح في متن العقد بحيث تتوقف صحة العقد عليه فلا دليل عليه. كيف؟ و صحّة العقد تتوقف على تحقق أركانه من المتعاقدين و العوضين و شرائطهما. و لم يعهد في مورد توقّف صحّته على ذكر شرط في متنه زائدا على أركان العقد و شرائطهما. و ما ورد في الأخبار السابقة من التبيين لمن اشتراه ليستصبح به لا يدلّ على أزيد من وجوب الإعلام بأصل النجاسة لئلا يقع المشتري في محذور النجاسة و لا‌

590
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

إذا كان الاستصباح منفعة غالبة ؛ ج‌1، ص : 591

[إذا كان الاستصباح منفعة غالبة]

و أمّا فيما كان الاستصباح منفعة غالبة بحيث كان مالية الدهن باعتباره كالأدهان المعدّة للإسراج فلا يعتبر في صحة بيعه قصده أصلا لأن الشارع قد قرّر ماليّته العرفية بتجويز الاستصباح به و إن فرض حرمة سائر منافعه بناء على أضعف الوجهين من وجوب الاقتصار في الانتفاع بالنجس على مورد النصّ. و كذا إذا كان الاستصباح منفعة مقصودة مساوية لمنفعة الأكل المحرم كالألية و الزيت و عصارة السمسم.

فلا يعتبر قصد المنفعة المحلّلة فضلا عن اشتراطه، إذ يكفي في ماليته وجود المنفعة المقصودة المحلّلة. غاية الأمر كون حرمة منفعته الأخرى نقصا فيه يوجب الخيار للجاهل.

______________________________
يصرفه في الأكل و نحوه. و إنّما ذكر الاستصباح غاية للإعلام من جهة كونه المنفعة الغالبة للدهن المتنجس في تلك الأعصار كما مرّ بيانه، و هذا الغرض يحصل بمجرد الإعلام و لو بعد العقد، غاية الأمر وجود الخيار للمشتري حينئذ.

و أمّا قصدهما للاستصباح حين العقد فيظهر من المصنّف اعتباره و لكن لا مطلقا بل في بعض الأدهان أعني فيما كان الاستصباح من منافعه النادرة.

و محصّل ما استدلّ به لذلك أنّه يعتبر في المبيع أن يكون مالا عرفا و شرعا. و ماليّة الشي‌ء إنّما هي باعتبار منافعه المحلّلة المقصودة منه، لا باعتبار مطلق الفوائد غير الملحوظة و لا باعتبار الفوائد المحرّمة. فإذا فرض أن لا فائدة ملحوظة محلّلة للشي‌ء فلا يجوز بيعه لا بنحو الإطلاق لانصرافه إلى كون الثمن بإزاء المنافع المحرمة المقصودة فيكون أكلا للمال بالباطل، و لا بقصد الفائدة المحللة النادرة لعدم كون قصدها موجبا لماليتها، إلّا أن يرد نصّ‌

591
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

إذا كان الاستصباح منفعة غالبة ؛ ج‌1، ص : 591

..........

______________________________
خاصّ على جواز بيعه كما في المقام، فيحمل على صورة قصد النادرة المحلّلة، و يكون هذا النصّ حاكما على دليل حرمة أكل المال بالباطل. فلو تعاملا حينئذ من غير قصد كانت المعاملة باطلة. لانصراف الإطلاق إلى المنافع المحرّمة. نعم لو علمنا بعدم التفاتهما إلى المنافع أصلا أمكن صحّة المعاملة لأنّه مال واقعيّ شرعا، ففي الحقيقة يكون الشرط عدم قصد المنافع المحرّمة. هذا كله إذا كان الاستصباح منفعة نادرة للدهن.

و أمّا إذا كانت منفعة غالبة له أو مساوية لمنافعه المحرّمة فلا يعتبر في صحّة بيعه قصده، إذ يكفي وجود المنفعة المحلّلة المقصودة خارجا. هذا ملخص كلام المصنّف في التفصيل بين الأدهان و اعتبار القصد في بعضها دون بعض.

و ناقشه المحقق الإيرواني و غيره من الأعلام- قدّس أسرارهم- «1» بوجوه نتعرّض لها و لما يبدو لنا:

الأوّل: أن في كلام المصنّف خلطا بيّنا، إذ في عنوان البحث كان الكلام في اعتبار شرط الاستصباح في متن العقد أو قصده بمعنى قصد الاستصباح به خارجا غاية للشراء كما هو المقصود في الشرط أيضا، و لكن في مقام الاستدلال يظهر منه اعتبار قصده ركنا للعقد بحيث يقع الثمن بإزاء حيثية الاستصباح و يكون المقابلة بينه و بين هذه الحيثية و إن لم يقصد من شرائه الاستصباح به خارجا بل لأجل الأكل أو التجارة به.

و الحاصل: أن القصد المعاوضي و قصد الانتفاع الخارجي قصدان متغايران ينفك أحدهما عن الآخر، فربما يدفع الثمن بإزاء المنافع المحرّمة و لكن بقصد الانتفاع الخارجي المحلّل و ربّما يعكس. و ليس في الأخبار من القصد المعاوضي عين و لا أثر، فإن كان فيها‌

______________________________
(1) راجع حاشية المكاسب للمحقق الإيرواني/ 8؛ و غاية الآمال/ 34؛ و المكاسب المحرّمة للإمام الخميني 1/ 87؛ و مصباح الفقاهة 1/ 111.

592
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

إذا كان الاستصباح منفعة غالبة ؛ ج‌1، ص : 591

..........

______________________________
فذاك اعتبار قصد الانتفاع الخارجي بالمنفعة المحلّلة.

الثاني: أنّ مطلع كلام المصنّف هو اختيار التفصيل في الأدهان و اعتبار قصد المحلّلة في بعضها، و منتهى كلامه هو عدم اعتبار ذلك بل اعتبار عدم القصد إلى المنافع المحرمة مطلقا، ففي كلامه نحو تهافت. اللّهم إلّا أن يقال: إنّ كلامه الأوّل راجع إلى مقام الإثبات، و الثاني إلى مقام الثبوت و الواقع. فالشرط في الحقيقة هو عدم قصد المنفعة المحرّمة، و لكن في مقام الإثبات يلزم قصد المحلّلة النادرة دفعا لانصراف المطلق إلى الشائعة المحرّمة. و حيث إن مورد الإطلاق و الانصراف هو الشك في المراد فلا يجريان مع العلم بعدم التفاتهما إلى المنافع أصلا، فتأمّل.

أقول: وجهه أنّ التمسك بالإطلاق إنما يصحّ فيما إذا شكّ في مراد الغير و هنا ليس كذلك، و إنما البحث هنا في اعتبار تحقق قصد المحلّلة في ذهن المتعاملين ثبوتا أو كفاية عدم قصد المحرمة كذلك.

الثالث: أنّ جميع الأدهان مشتركة في أنّ الاستصباح أو الطلي بها أو جعلها صابونا تعدّ من منافعها المحلّلة الظاهرة الدخيلة في ماليتها و إن اختلفت مراتب الانتفاع بها أكلا أو شما أو استصحابا بها، و يفوق بعضها بعضها في بعض هذه الانتفاعات.

و بعبارة أخرى: الإسراج منفعة ظاهرة مقصودة في جميع الأدهان ملحوظة إجمالا في تقويمها و ماليّتها. و انتفاء بعض المنافع الظاهرة الشائعة عن بعض الأشياء كذهاب الرائحة عن الأدهان العطرية مثلا أو عروض حرمة الأكل لما يقصد أكله عادة لا يوجبان انتفاء ماليتها بالكلية، بل هي ثابتة بلحاظ المنافع الأخر و إن تنزلت قيمتها بذلك و لذا يحكم بضمانها مع إتلافها أو غصبها بحكم العقلاء و السيرة القطعية و عموم قاعدة اليد، فتأمّل.

593
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

إذا كان الاستصباح منفعة غالبة ؛ ج‌1، ص : 591

..........

______________________________
نعم لو كانت جميع منافع الشي‌ء محرّمة أو كانت المحلّلة منها نادرة نادرة غير معتنى بها جدا بحيث لا تؤثّر في ماليتها أصلا كسقي الأشجار بالخمر مثلا أو التطيين بها أو بناء الجدران بالكوز المكسور يشكل صحة المعاملة حينئذ، لعدم المالية و كونها سفهية خارجة عمّا عليه العقلاء من كون المعاملات لتبادل الحاجات. هذا.

و لكن لو فرض في مورد خاصّ حاجة شخص خاصّ إلى هذه المنفعة النادرة و كانت بالنسبة إليه معتنى بها في ظرف خاصّ أمكن القول بصحة المعاملة و إن فرض ندرتها جدا، إذ يصير الشي‌ء عنده في المورد الخاصّ مالا مرغوبا فيه و لا تعدّ المعاملة بالنسبة إليه سفهية. و لا دليل على اعتبار المالية النوعية العامّة بحيث يرغب فيها الأكثر من الناس.

و المالية تختلف باختلاف الدواعي و الحاجات و الرسوم و العادات و الأزمنة و الأمكنة و الأشخاص كما لا يخفى.

الرابع: أن ما استدل به المصنّف لمختاره قابل للمنع، إذ الثمن في البيع بإزاء ذات العين لا بإزاء منافعها، و المنافع دواع إلى شراء العين. و حرمة الداعي لا توجب حرمة المعاملة على العين و كونها أكلا للمال بالباطل. و بعبارة أخرى: المنافع من قبيل الحيثيات التعليلية لشراء الأعيان لا الحيثيات التقييدية بحيث يقع الثمن بإزاء نفس الحيثية. و المفروض في المقام أنّ العين ذات مالية و لو بلحاظ منافعها النادرة. و الشارع رخّص في المعاملة عليها بهذا اللحاظ كما هو المفروض. و إذا لم تكن باطلة بحكم الشرع خرجت عن البطلان بحكم العرف أيضا، فليس حكم الشارع بعدم البطلان تعبّدا محضا على خلاف حكم العرف على ما يظهر من المصنف. و حرمة بعض المنافع لا توجب حرمة المعاملة على العين بعد اشتمالها على المنافع المحلّلة المؤثرة في ماليتها، نظير بيع العنب ممن يعمله خمرا كما يأتي البحث فيه و دلّت الأخبار على جوازه.

594
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

اشتراط عدم المنفعة المحرمة ؛ ج‌1، ص : 595

[اشتراط عدم المنفعة المحرمة]

نعم يشترط عدم اشتراط المنفعة المحرمة بأن يقول: بعتك بشرط أن تأكله، و إلّا فسد العقد بفساد الشرط (1).

______________________________
الخامس: أنّ معنى حرمة الأكل بالباطل- كما مرّ سالفا- حرمة الأكل بالأسباب الباطلة كالسرقة و القمار و نحوهما لا حرمة الأكل بإزاء الشي‌ء الباطل. فالباء للسببية لا للمقابلة الداخلة على الثمن في عقد البيع. و يشهد لذلك استثناء التجارة عن تراض التي هي من أسباب الانتقال. و بالجملة الآية أجنبية عن شرائط العوضين.

و قد تحصّل مما ذكرنا أنّ القاعدة تقتضي عدم اعتبار الاشتراط و لا القصد في صحة المعاملة، فإنّ البيع عبارة عن مبادلة مال بمال، و المبيع هو العين، و الانتفاع بها لا دخل له في ماهية البيع و إن كان داعيا إليه، و الثمن يقع في قبال نفس العين.

و على هذا فيصح التمسك لصحة البيع في المقام بإطلاق أدلّة البيع و التجارة و العقود حتى مع قصد المنفعة المحرمة أيضا بعد كون المبيع ذا مالية عرفية و شرعية بلحاظ منافعها المحلّلة. و إسقاط الشارع لمنافعة المحرمة لا يسقط ماليته بالكلية و إن أوجب تنزل قيمته، نظير ما إذا اشترى السكّين بقصد قتل النفوس المحترمة، فإنّ السكّين مال محترم عرفا و شرعا و له منافع محلّلة عقلائية، و الثمن يقع بإزاء ذاته لا بإزاء منافعه المحلّلة أو المحرمة، و نحوه اشتراء العنب بقصد جعله خمرا.

(1) يمكن القول بصحة البيع حتى مع اشتراط الانتفاع بالمحرّم أيضا إذا لم يكن بنحو التقييد بل بنحو الشرط المصطلح عليه في مبحث الشروط أعني الالتزام في الالتزام، إذ على هذا لا يوجب فساد الشرط فساد العقد كما قواه المصنف في مبحث الشروط.

595
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

اشتراط عدم المنفعة المحرمة ؛ ج‌1، ص : 595

بل يمكن الفساد و إن لم نقل بإفساد الشرط الفاسد، لأنّ مرجع الاشتراط في هذا الفرض إلى تعيين المنفعة المحرمة عليه. فيكون أكل الثمن أكلا بالباطل، لأنّ حقيقة النفع العائد إلى المشتري بإزاء ثمنه هو النفع المحرّم، فافهم (1). بل يمكن القول بالبطلان بمجرد القصد و إن لم يشترط في متن العقد (2).

______________________________
نعم لو رجع اشتراط المحرّم إلى اشتراط عدم الانتفاع المحلّل من رأس أمكن القول بفساد العقد أيضا، نظير أن يبيع الشي‌ء و يشترط على المشتري عدم الانتفاع به أصلا و لو في الآجل لرجوعه حينئذ إلى عدم تمليك المبيع له، فتأمّل.

(1) مراده أنّ المقام يختلف عن تلك المسألة، إذ المفروض في المقام وقوع الثمن في مقابل المنفعة المحرمة فيفسد العقد بذلك.

و ناقشه المحقق الإيرواني «ره» بقوله: «قد عرفت أنّ اشتراط الصرف في المصرف المحرّم خارجا أجنبي عن لحاظ المنفعة المحرمة و مقابلتها بالثمن. و المفسد للمعاملة- و إن لم نقل بأنّ الشرط الفاسد مفسد- هو هذا دون ذاك.» «1»

أقول: و يرد على المصنّف أيضا أنّ الآية غير ناظرة إلى شرائط العوضين بل إلى النهي عن تلك الأشياء بالأسباب الباطلة كالقمار و السرقة و الربا و نحوها. فاستدلال المصنف بها في المقام- على ما هو ظاهر عبارته- وقع في غير محلّه.

(2) قد مرّ جواز التمسك لصحة المعاملة بالعمومات حتى مع قصد المنفعة المحرمة، نظير من اشترى سكّينا بقصد قتل النفوس المحترمة.

______________________________
(1) حاشية المكاسب للمحقق الإيروانى/ 8، ذيل قول المصنّف: لأن مرجع الاشتراط ...

596
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

اشتراط عدم المنفعة المحرمة ؛ ج‌1، ص : 595

و بالجملة فكل بيع قصد فيه منفعة محرّمة بحيث قصد أكل الثمن أو بعضه بإزاء المنفعة المحرمة كان باطلا، كما يومي إلى ذلك ما ورد في تحريم شراء الجارية المغنية و بيعها.

و صرّح في التذكرة بأنّ الجارية المغنية إذا بيعت بأكثر مما يرغب فيها لو لا الغناء فالوجه التحريم. انتهى (1).

______________________________
(1) راجع بيع التذكرة.
«1» و وجه الإيماء أنّ الظاهر من هذه الروايات كون قصد المنفعة المحرمة أعني التغني موجبا لبطلان المعاملة عليها و إن لم يشترط في متن العقد.

و لكن يمكن أن يقال: إنّ وصف التغني في الجارية المغنية ركن في المعاملة و يوجب زيادة قيمتها و وقوع بعض الثمن بل عمدته بإزائه في مقام التقويم و المعاملة، و يترتب عليه دائما أو غالبا وقوع التغنّي خارجا بحيث يضمحلّ سائر منافع هذه الجارية في قبال غنائها. فلو دلّت هذه الأخبار على فساد المعاملة عليها و لو إجمالا كما هو الظاهر فلا يستفاد منها إلّا فساد ما يشبهها لا فساد كل ما قصد فيها المنفعة المحرمة اتفاقا و لو مع كثرة المنافع المحلّلة المقصودة و ترتبها غالبا على هذا الشي‌ء المشترى.

و يأتي تفصيل هذه المسألة في المسألة الثانية من النوع الثاني، فانتظر.

و نظير بيع المغنية بيع الخمر أيضا، فإنّ الخمر يمكن أن ينتفع منها بالتخليل أو السقي للأشجار أو التطيين بها مثلا و لكنها منافع نادرة جدا غير ملحوظة في ماليتها، و المنفعة الغالبة المترتبة عليها خارجا بحسب طبعها هي الشرب، فلأجل ذلك ورد في صحيحة محمد بن مسلم: «إنّ الّذي حرّم شربها حرّم ثمنها.» و نحوها رواية‌

______________________________
(1) التذكرة 1/ 465، كتاب البيع، المقصد الأوّل، الفصل الرابع، الشرط الثانى.

597
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

اعتبار قصد الاستصباح ؛ ج‌1، ص : 598

[اعتبار قصد الاستصباح]

ثم إنّ الأخبار المتقدمة خالية عن اعتبار قصد الاستصباح، لأنّ موردها مما يكون الاستصباح فيه منفعة مقصودة منها كافية في ماليتها العرفية (1).

و ربما يتوهم من قوله «ع» في رواية الأعرج المتقدمة: «فلا تبعه إلّا لمن تبيّن

______________________________
أبي بصير.
«1» و حرمة الثمن كناية عن فساد المعاملة عليها. نعم قد مرّ جواز المعاملة عليها بقصد التخليل مع التباني عليه من المتعاملين.

و على هذا فيمكن أن يقال: إنّ مقتضى عمومات البيع و التجارة و العقود و إن كان صحة المعاملة على الدهن المتنجس بإطلاقه و لو مع قصد المنفعة المحرمة أو شرطها كما مرّ بيانه لكن المتفاهم من النبوي السابق: «إن اللّه إذا حرّم شيئا حرّم ثمنه» و من روايات تحف العقول و الرضوي و الدعائم، و مما ورد في المنع عن بيع الجارية المغنية و الخمر و نحوهما بالقاء الخصوصية هو عدم جواز بيع الدهن المتنجس أيضا إذا كان الاستصباح من منافعه النادرة و كان المترتب على بيعه غالبا الانتفاعات المحرمة بحيث صار بيعه إشاعة للفساد و تعريضا له و لا سيما مع الاشتراط أو قصد المنفعة المحرمة إلّا أن يتوافقا على صرفه في الاستصباح و نحوه من المنافع المحلّلة كما قلنا في بيع الخمر للتخليل و يكون في إيجاب التبيين إشارة إلى لزوم هذا التوافق.

فما بنى عليه المصنّف من التفصيل في الأدهان هو الأقوى و الأحوط، فتدبّر.

(1) يعني أنّ مورد الأخبار المتقدمة ما يكون الاستصباح من منافعه الغالبة أو المساوية فلا يحتاج إلى القصد و إنّما يحتاج إليه ما يكون الاستصباح من منافعه النادرة كدهن اللوز و البنفسج و نحوهما.

______________________________
(1) الوسائل 12/ 164 و 165، الباب 55 من أبواب ما يكتسب به، الحديثان 1 و 6.

598
دراسات في المکاسب المحرمة‌1

اعتبار قصد الاستصباح ؛ ج‌1، ص : 598

له فيبتاع للسراج» (1) اعتبار القصد. و يدفعه أنّ الابتياع للسراج إنّما جعل غاية للإعلام، بمعنى أنّ المسلم إذا اطلع على نجاسته فيشتريه للإسراج، نظير قوله «ع» في رواية معاوية بن وهب: «بيّنه لمن اشتراه ليستصبح به.» (2)

______________________________
(1) قد مرّ أنّ الرواية للحلبي لا للأعرج، و متنها كان هكذا: «و إن كان الصيف فارفعه حتى تسرج به.»
«1» و الظاهر أنّ المصنف أراد هنا رواية إسماعيل بن عبد الخالق الحاكية لسؤال الأعرج، فراجع ما مرّ.

(2) يعني أنّ الأخبار ليست بصدد بيان اعتبار القصد، بل بصدد بيان وجوب الإعلام بالنجاسة لئلا يقع المشتري في محذور النجاسة سواء وقع الإعلام قبل العقد أو بعده و إنّما ذكر الاستصباح غاية للإعلام كما مرّ عن جامع المقاصد احتماله في كلمات الأصحاب. و مرّ منّا أنّ ذكره من باب المثال.

و الحمد للّه ربّ العالمين و صلّى اللّه على محمد و آله الطاهرين‌

21 ذي الحجة 1414 ه‍. ق. الموافق ل‍ 11/ 3/ 1373 ه‍. ش.

______________________________
(1) التهذيب 9/ 86، باب الذبائح و الأطعمة ...، الحديث 96.

599