×
☰ فهرست و مشخصات
بحوث في شرح العروة الوثقى3

تتمة كتاب الطهارة ؛ ج‌3، ص : 5

 

الجزء الثالث

[تتمة كتاب الطهارة]

فصل للنجاسات اثنتا عشرة

الأول و الثاني- البول و الغائط

من الحيوان للذي لا يؤكل لحمه (1)

______________________________
(1) يشرع الماتن- قده- في ذكر النجاسات مدعيا انها اثنتا عشرة و سوف يتضح خلال البحث أنها أقل من ذلك: ثم يبدأ باستعراض كل قسم منها، فيذكر البول و الغائط من كل حيوان لا يؤكل لحمه.

[في نجاسة البول]

اما البول فنجاسته في الجملة من الواضحات، بل من الضروريات، الا أن الكلام في إطلاق هذا الحكم لجملة من الموارد، إذ قد يقال أن عمدة الدليل على نجاسة البول هو الإجماع القطعي، لأن الأخبار التي استدل بها على نجاسة البول بوجه عام مفادها الأمر بالغسل، و هو أعم من النجاسة، إذ قد يكون ملاكه التخلص من فضلات غير المأكول فلا يبقى إلا الإجماع و هو دليل لبي لا يصلح لإثبات النجاسة في موارد الخلاف و الكلام.

و يرد عليه: أولا- ان دليل نجاسة البول من الاخبار لا ينحصر بما ورد فيها بلسان الأمر بالغسل، بل من جملة أدلتها الأخبار الواردة في انفعال الماء القليل بملاقاة البول «1» و هي تدل على نجاسة البول. و كذلك ما ورد في تشديد البول، كصحيحة محمد بن مسلم عن ابي عبد اللّه (ع).

قال: «ذكر المنى و شدده و جعله أشد من البول» «2».

و ثانيا- ان أوامر الغسل تقتضي بإطلاقها وجوب الغسل حتى مع‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 8 من أبواب الماء المطلق

(2) مسائل الطبعة باب 16 من أبواب النجاسات

 

 

 

5
بحوث في شرح العروة الوثقى3

في نجاسة البول ؛ ج‌3، ص : 5

..........

______________________________
زوال الأثر، و هذا لا يبقى له وجه إلا النجاسة، فتثبت النجاسة بإطلاق الأمر بالغسل.

و ثالثا- ان بعض تلك الأوامر نص في وجوب الغسل مع زوال العين، خصوصا ما كان منها مشتملا على الأمر بالتعدد في الغسل، لوضوح عدم بقاء الأثر بعد الغسلة الاولى.

و رابعا- ان المتيقن من مطلقات الأمر بالغسل هو بول الإنسان، و مانعية ما لا يؤكل لحمه لا يشمل موضوعها الإنسان. و التفكيك في مفاد الأمر بالغسل غير عرفي. نعم إذا كان النظر في الاستشكال الى الأمر بالغسل فيما لا يؤكل لحمه فقد يدعى ان موضوعه مطابق لموضوع المانعية، و لكن الأمر لا ينحصر بذلك.

و خامسا- ان الأمر بالغسل يدل عرفا على النجاسة في المقام و في سائر المقامات المماثلة. و هذه الدلالة اما باعتبار ظهور الغسل المأمور به بمادته في انه تنظيف و تخلص من القذر لدخل ذلك في مدلول المادة لغة أو دخله فيها عرفا باعتباره الاستعمال المطهر عرفا، أو بملاحظة مناسبات الحكم و الموضوع حيث ان مركوزية كبرى وجود نجاسات في الشريعة و كبرى ان الماء مطهر و مزيل لها شرعا و عدم ارتكازية نكتة اخرى للغسل كبرويا، يوجب انسباق ذهن الإنسان العرفي المتشرعي من خطاب اغسل الى كون الغسل بملاك النجاسة.

و هذا الملاك بكلا تقريبية هو الوجه العام في استفادة النجاسة من الأمر بالغسل في مختلف الموارد.

و عليه، فالأخبار الدالة على الأمر بالغسل تصلح لإثبات النجاسة، و دليل النجاسة لا ينحصر بالإجماع. و على هذا الأساس لا بد من ملاحظة العناوين الواقعة موضوعا للنجاسة في الروايات لنرى ما إذا كان بالإمكان‌


6
بحوث في شرح العروة الوثقى3

و حاصل ما دل على نجاسة البول من الاخبار طوائف. ؛ ج‌3، ص : 7

 

..........

______________________________
تحصيل مطلق يرجع إليه في إثبات نجاسة كل بول ليكون مرجعا في موارد الخلاف و الشك.

و حاصل ما دل على نجاسة البول من الاخبار طوائف.

الأولى: ما دل على نجاسة البول بلا تخصيص أو اضافة،

كرواية ابن ابى يعفور. قال: «سألت أبا عبد اللّه (ع) عن البول يصيب الثوب.

قال: اغسله مرتين» «1» و خبر ابى بصير. قال: «إذا أدخلت يدك في الإناء قبل ان تغسلها فلا بأس الا ان يكون أصابها قذر بول أو جنابة» «2».

الثانية: ما دل على نجاسة بول الدواب،

كخبر محمد بن مسلم عن ابى عبد اللّه (ع). «سئل عن الماء تبول فيه الدواب و تلغ فيه الكلاب و يغتسل فيه الجنب. قال: إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شي‌ء» «3». بدعوى ان ظاهر الجواب إمضاء التنجس في فرض قلة الماء و عدم ردع السائل عما في ذهنه من كون ما ذكره موجبا للانفعال. و عنوان الدواب ينطبق على كل حيوان يدب على وجه الأرض إذا لم يسلم بالانصراف إلى الدابة العرفية.

و لو نوقش بعدم إمكان التمسك بإطلاق الإمضاء المقتنص لعدم كون الامام (ع) في مقام البيان من تلك الجهة، أمكن الاستدلال- لو لا الخدشة في السند- برواية أخرى لأبي بصير عن ابى عبد اللّه (ع) «أنه سأل عن الماء النقيع تبول فيه الدواب. فقال: إن تغير الماء فلا تتوضأ منه» «4». مع ضم العلم من الخارج بأن التغير بغير النجس لا ينجس.

الثالثة: ما دل على نجاسة بول كل دابة لم تعد للأكل

و ان حلل أكلها‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 1 من أبواب النجاسات

(2) وسائل الشيعة باب 8 من أبواب الماء المطلق

(3) وسائل الشيعة باب 9 من أبواب الماء المطلق

(4) وسائل الشيعة باب 3 من أبواب الماء المطلق

 

 

 

7
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الرابعة: ما دل على نجاسة بول ما لا يؤكل لحمه. ؛ ج‌3، ص : 8

..........

______________________________
شرعا، كخبر زرارة عن أحدهما (ع) «في أبوال الدواب تصيب الثوب فكرهه. فقلت: أ ليس لحومها حلالا. فقال: بلى و لكن ليس مما جعله اللّه للأكل»
«1». بناء على استفادة النجاسة من لفظ الكراهة في الرواية.

الرابعة: ما دل على نجاسة بول ما لا يؤكل لحمه.

كخبر عبد اللّه ابن سنان عن ابى عبد اللّه (ع) قال: «اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه» «2».

أما الطائفة الأولى، فباعتبار فرض الإصابة فيها للثوب و نحوه و كون البول الذي يكون في نطاق ذلك عادة هو بول الإنسان، لا يبعد انصراف البول فيها الى بول الإنسان.

و اما الطائفة الثانية، فلو تمت فيها رواية سندا و دلالة أمكن الإشكال في إطلاقها لاحتمال انصراف كلمة الدواب الى دابة الخاصة.

و يبقى بعد ذلك عنوانان. أحدهما عنوان بول ما لا يؤكل، و الآخر عنوان بول ما لا يكون معدا للأكل. فإن كان ما لا يؤكل ظاهرا فيما يحرم اكله اختلف العنوانان و أمكن حينئذ دعوى: رفع اليد عن هذا الظهور و تنزيل عنوان ما لا يؤكل على عنوان ما لا يكون معدا للأكل، بدعوى:

حكومة خبر زرارة لما فيه من النظر إجمالا إلى القضية المركوزة في الذهن التي يناط فيها حكم النجاسة بالمأكولية. و سيأتي في بحث أبوال الخيل و البغال و الدواب تتمة تحقيق لذلك.

و على أي حال، يتحصل إطلاق يدل على النجاسة في حدود بول ما يحرم أكل لحمه على كل حال، لأنه أضيق العنوانين.

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 9 من أبواب النجاسات

(2) وسائل الشيعة باب 8 من أبواب النجاسات


8
بحوث في شرح العروة الوثقى3

البحث عن إطلاق في دليل الخرء ؛ ج‌3، ص : 9

 

[البحث عن إطلاق في دليل الخرء]

______________________________
و أما الخرء، فلم نعثر على ما يصلح جعله مطلقا يرجع إليه في مورد الشك. و ما قد يدعى كونه مطلقا صالحا للرجوع إليه في إثبات الموجبة الكلية أحد أمور.

الأول: صحيح ابن بزيع.

قال: «كتبت الى رجل أسأله ان يسأل أبا الحسن الرضا (ع) عن البئر تكون في المنزل للوضوء فيقطر فيها قطرات من بول أو دم أو يسقط فيها شي‌ء من عذرة كالبعرة و نحوها، ما الذي يطهرها حتى يحل الوضوء منها. فوقع (ع) بخطه في كتابي: ينزح دلاء منها» «1». بدعوى: ان لفظ العذرة و ان كانت منصرفة إلى خرء الإنسان خاصة الا أنها مستعملة هنا في الأعم بقرينة التشبيه بالبعرة.

و فيه: بعد الإغماض عن أن التشبيه لعله بلحاظ تحديد الكمية لا بيان جنس العذرة. و الإغماض عن أنها واردة في بئر تكون في المنزل للوضوء، مما يكون بعيدا عادة عن خرء غير الإنسان و الدواب المأكولة: أن البعرة خرء الحيوان المأكول. و لا إشكال في عدم نجاسته فدلالتها على النجاسة ساقطة في موردها فلا يمكن استفادة النجاسة منها في غيره.

أضف الى ذلك، ان الأمر بالنزح و ان كان صالحا للإرشاد إلى النجاسة و انفعال البئر- على ما تقدم في أبحاث ماء البئر- إلا أنا أثبتنا بملاحظة مجموع روايات الباب اعتصام البئر فتحمل أوامر النزح على درجة من الحزازة و التنزه. و هو غير كاشف عن نجاسة الملاقي معه.

نعم، الإنصاف أن هذا لا يمنع عن ظهور شخص هذه الرواية في ان السائل كان المرتكز في ذهنه نجاسة العذرة و انفعال البئر بها. خصوصا بقرينة قوله (ما الذي يطهرها) و ظاهر سكوت الامام (ع) هو إمضاء‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 14 من أبواب الماء المطلق

 

 

 

9
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الثاني: نفس دليل نجاسة البول. ؛ ج‌3، ص : 10

..........

______________________________
كلا هذين الارتكازين و قد سقط ظهور السكوت في الإمضاء عن الحجية- بلحاظ انفعال ماء البئر و هذا لا يمنع عن التمسك بظهوره في الإمضاء لإثبات نجاسة العذرة.

الا أن هذا التقريب للاستدلال بالرواية لا يجدي في إثبات نجاسة الخرء من كل حيوان بنحو الموجبة الكلية، إذ لا يوجد دال على ان الارتكاز كان منعقدا بنحو الموجبة الكلية في ذهن السائل.

الثاني: نفس دليل نجاسة البول.

بدعوى الملازمة بين نجاسة البول من حيوان و نجاسة خرئه. فتكون الروايات الدالة على نجاسة البول من الحيوان مطلقا- لو كان فيها إطلاق- أو في الموارد الخاصة دالة على نجاسة خرءه أيضا.

و فيه: أنه لو أريد الملازمة المتشرعية باعتبار أنهم يرون أن نكتة قذارة البول و الخرء مشتركة. فهي و ان كانت غير بعيدة في الجملة، الا أنها لا جزم ببلوغها مرتبة تشكل ظهورا لدليل نجاسة البول في نجاسة الخرء أيضا، كيف و قد ثبت التفصيل بين الروث و البول في كثير من الموارد، فحكم بكراهة بول الخيل و الحمير و البغال و ورد الأمر بالغسل منها في روايات كثيرة مع عدم ورود شي‌ء من ذلك في روثها. و ثبت أيضا ان بول الإنسان أشد قذارة من خرئه، و ان الغسل من بوله لا بد فيه من التعدد بخلافه في خرئه بل يكتفى في التطهير منه بالحجر عند الاستنجاء. فمع ثبوت مثل هذه الأحكام كيف يمكن الجزم بوجود ارتكاز متشرعي على عدم الفرق لكي يشكل لدليل نجاسة البول مدلولا التزاميا عرفيا؟

و لو أريد دعوى الملازمة العرفية الأعم من المتشرعية ففسادها أوضح.

إذ العرف لا يملك ارتكازا على أصل استقذار بول كل حيوان أو خرءه‌


10
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الثالث: رواية عمار التي نقلها العلامة في المختلف عن كتابه، ؛ ج‌3، ص : 11

..........

______________________________
فضلا عن ارتكاز الملازمة بينهما بينهما في القذارة.

الثالث: رواية عمار التي نقلها العلامة في المختلف عن كتابه،

حيث جاء فيه، أن الصادق (ع) قال: «خرء الخطاف لا بأس به هو مما يؤكل لحمه و لكن كره أكله لأنه استجار بك و آوى الى منزلك و كل طير يستجير بك فأجره» «1».

و تقريب الاستدلال بها: أن قوله (هو مما يؤكل لحمه) ظاهر في كونه تعليلا للحكم بنفي البأس عن خرء الخطاف الذي هو نوع من الطيور، و ليس جملة مستقلة تبرع بها الامام (ع) لبيان حلية أكل لحم الخطاف، إذ لو كان الأمر كذلك لناسب عرفا الإتيان بما يدل على كون الجملة مستأنفة و منفصلة عن سابقتها مع انه لم يؤت بشي‌ء من ذلك، بل جعلت الجملة تتمة و فضلة لما قبلها و لم يفصل بينهما بالعطف فيكون هذا سببا في ظهورها في الارتباط بالحكم السابق و انه تعليل له. و عليه، يدل التعليل بمفهومه على ان ما لا يحل أكله في خرءه بأس. و هذا يحقق المطلق المطلوب.

و يرد عليه: ان التعليل لا يدل على العلية الانحصارية المستلزمة لانتفاء الحكم المعلل عند انتفاء العلة، فلو قيل أكرم زيدا لأنه عالم لم يدل على عدم وجوب إكرامه لكونه جارا و لو لم يكن عالما فلا ينعقد للرواية المذكورة مفهوم دال على الانتفاء عند الانتفاء.

و من ذلك يظهر الحال أيضا في مثل رواية عمار عن ابى عبد اللّه (ع):

قال: «كل ما أكل لحمه فلا بأس بما يخرج منه» «2». فان لسانها ليس لسان الحصر لينتزع منها المفهوم و يجعل دالا على نجاسة مطلق ما يخرج من‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 9 من أبواب النجاسات

(2) وسائل الشيعة باب 9 من أبواب النجاسات


11
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الرابع: رواية علي بن جعفر عن أخيه موسى(ع) ؛ ج‌3، ص : 12

 

..........

______________________________
الحيوان غير مأكول اللحم.

الرابع: رواية علي بن جعفر عن أخيه موسى (ع)

قال: «سألته عن الدجاجة و الحمامة و أشباههما تطأ العذرة ثم تدخل في الماء يتوضأ منه للصلاة.

قال: لا الا ان يكون الماء كثيرا قدر كر من ماء» «1». بدعوى ان كلمة العذرة مطلقة شاملة التمام إفراد المدفوع.

و يرد عليه: مضافا الى منع شمول كلمة العذرة لأنها لو لم تكن مختصة بعذرة الإنسان فلا أقل من إجمالها و كون عذرة الإنسان بنفسها معنى عرفيا لها بحيث يكون ارادتها من اللفظ من باب ارادة معنى اللفظ منه لا من باب التقييد. أن الرواية ناظرة سؤالا و جوابا الى تحقيق حال انفعال الماء و عدمه و ليست في مقام البيان من ناحية نجاسة العذرة ليتمسك بإطلاق جواب الامام (ع) من هذه الجهة.

و منه يظهر الحال في مثل رواية موسى بن القاسم عن علي بن محمد (ع) في حديث قال: «سألته عن الفارة و الدجاجة و الحمام و أشباهها تطأ العذرة ثم تطأ الثوب أ يغسل؟ قال: ان كان استبان من أثره شي‌ء فاغسله و الا فلا» «2». فإنه، مضافا الى المناقشة في إطلاق كلمة العذرة في نفسها، يلاحظ ظهور الرواية في النظر إلى حيثية قابلية الحيوان لنقل النجاسة الى الثوب و هذا يعنى ان أصل النجاسة للعذرة مفروغ عنه فلا يمكن التمسك بإطلاق الجواب لإثبات نجاسة مطلق العذرة.

الخامس: رواية عبد الرحمن بن ابى عبد اللّه (ع)

قال: «سألت» أبا عبد اللّه (ع) عن الرجل يصلى و في ثوبه عذرة من إنسان أو سنور أو‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 9 من أبواب الماء المطلق

(2) وسائل الشيعة باب 37 من أبواب النجاسات

 

 

 

12
بحوث في شرح العروة الوثقى3

حكم بول الصبي ؛ ج‌3، ص : 13

إنسانا أو غيره (1)

______________________________
كلب أ يعيد صلاته؟ قال: ان كان لم يعلم فلا يعيد»
«1». بدعوى:

ان الترديد بين الإنسان و السنور و الكلب قرينة عرفا على ان هذه العناوين مجرد أمثلة و ان المقصود جنس العذرة بمعناها العام الشامل لمدفوع الإنسان و غيره و بعد حمل العناوين المذكورة على المثالية يثبت الإطلاق.

و يرد عليه: ان الحمل على المثالية لا يقتضي أكثر من ملاحظة جامع عرفي بين العناوين الثلاثة و هذا لا يعين تقديره بنحو من السعة بحيث يشمل الطير مثلا أو السمك ليكون مطلقا فوقيا يرجع إليه في موارد الشك.

هذا مضافا الى النكتة التي أشرنا إليها سابقا، و هي كون النظر متجها الى حكم أخر مترتب على النجاسة و هو بطلان الصلاة مع الجهل، فحيثية السؤال أن ما يبطل الصلاة مع العلم هل يبطلها مع الجهل أولا. و كلما كان هناك حكمان طوليان من قبيل نجاسة العذرة و انفعال الماء بالنجس منها، أو نجاسة العذرة و مانعية نجاستها في حق المصلى الجاهل بوجودها و كان النظر الى استطلاع حال الحكم الثاني و حدوده كان للرواية بقرينة هذا النظر ظهور في الفراغ عن أصل الحكم الأول و افتراضه، فلا يتمسك بإطلاقها من ناحيته.

و هكذا يتبين: أنه لا يوجد ما يصلح ان يكون مرجعا للحكم بالنجاسة إلا في البول من الحيوان غير المأكول خاصة. و اما في غير ذلك من البول و الخرء فلا بد فيه من ملاحظة الأدلة الخاصة في كل مورد فان ثبت بها النجاسة فهو و الا كان المرجع قاعدة الطهارة أو غيرها من الأصول المؤمنة.

[حكم بول الصبي]

(1) لا إشكال في ان بول الإنسان هو القدر المتيقن من أدلة نجاسة البول. الا أنه ربما يقع الإشكال في بول الصبي قبل، ان يطعم حيث‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 4 من أبواب النجاسات


13
بحوث في شرح العروة الوثقى3

حكم بول الصبي ؛ ج‌3، ص : 13

..........

______________________________
نسب إلى الإسكافي القول بطهارته و لا ريب في أن مقتضى إطلاقات أدلة نجاسة البول شمولها لبول الصبي أيضا بحيث لا بد في القول بالطهارة من التماس مقيد لها. و ما يتوهم كونه مقيدا رواية السكوني عن جعفر عن أبيه عليهما السلام أن عليا (ع) قال: «لبن الجارية و بولها يغسل منه الثوب قبل ان تطعم، لأن لبنها يخرج من مثانة أمها، و لبن الغلام لا يغسل منه الثوب و لا من بوله قبل أن يطعم، لان لبن الغلام يخرج من العضدين و المنكبين»
«1».

حيث يستفاد من نفى الغسل عن الثوب الملاقي مع بوله الإرشاد إلى الطهارة و قد يورد على ذلك ان الغسل ان كان لا يشمل الصب فنفيه لا يدل على الطهارة لإمكان افتراض نجاسة تطهر بالصب و ان قيل بشموله للصب فهو انما يدل على الطهارة بإطلاق النفي لتمام راتب الغسل بما فيها الصب فيقيد هذا الإطلاق بما دل على وجوب الصب في بول الصبي غير المتغذي و لكن دلالة الرواية على الطهارة ليست بلحاظ مجرد نفي الغسل بل بلحاظ تعليل هذا النفي في الصبي و تعليل ثبوت الغسل في الجارية بما يناسب ان يكون النظر إلى أصل الطهارة و النجاسة.

هذا غير أن الصحيح عدم إمكان التعويل على الرواية، باعتبار سقوطها سندا و متنا و مضمونا.

اما السند فلانة قد ورد فيه النوفلي و هو ممن لا طريق لإثبات توثيقه عدا مجيئه في رجال كامل الزيارات و نحن لا نقول بوثاقة جميع رجال كامل الزيارات.

و اما المتن، فلان مفاد الرواية الحكم بنجاسة لبن الجارية أيضا و هذا مما لم يفت به فقيه و لا يحتمل في نفسه فقهيا، مما يكشف عن وجود و هن‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 3 من أبواب النجاسات الحديث 4


14
بحوث في شرح العروة الوثقى3

طهارة فضلات الطائر المحرم أكله ؛ ج‌3، ص : 15

بريا أو بحريا صغيرا أو كبيرا (1) بشرط ان يكون له دم سائل حين الذبح (2)، نعم في للطيور المحرمة الأقوى عدم للنجاسة لكن الأحوط فيها أيضا الاجتناب (3).

______________________________
في الرواية من جهة من الجهات و معه لا يمكن التعويل عليها و لو كانت نقية السند.

و اما المضمون ففي نفسه غريب و بعيد و ذلك باعتبار أن بول الغلام لو كان طاهرا في نفسه لا يحتاج الى التطهير منه و لا التجنب عنه لاشتهر هذا الحكم و ذاع بين المتشرعة و كثرت الروايات الدالة عليه باعتبار شدة الحاجة و الابتلاء في حياة الناس به مع أن الأمر على العكس تماما مضافا الى غرابة نفس التعليل الوارد فيها من ان لبن الجارية تخرج من مثانة الأم و لبن الغلام من بين عضديها و منكبيها، مع وضوح خلافه.

فالصحيح ما أفتى به الماتن- قده- من عدم الفرق في نجاسة البول بين الصبي و غيره و ان كان بوله أخف مئونة في مقام التطهير منه على ما سوف يأتي البحث عنه مستوعبا في فصول المطهرات.

(1) بمقتضى إطلاق ما تمت دلالته على نجاسة بول غير المأكول و اما الخرء فقد قلنا أنه لا يوجد مطلق يمكن التمسك به في تمام الموارد بل لا بد من الرجوع الى القدر المتيقن من الضرورة الفقهية و الارتكازات المتشرعية و ما يمكن التعدي إليه من الموارد المنصوصة بنكتة عدم الفرق عرفا و اثر ذلك يظهر في موارد الخلاف على ما سيأتي.

(2) سوف يأتي وجه هذه الشرطية.

[طهارة فضلات الطائر المحرم أكله]

(3) اختلفت كلمات الفقهاء في نجاسة بول و خرء غير المأكول من الطير بين قائل بنجاستهما معا و قائل بطهارتهما معا و متردد في نجاسة بوله‌


15
بحوث في شرح العروة الوثقى3

في بيان علاج التعارض بين الروايات الواردة في المقام ؛ ج‌3، ص : 16

 

..........

______________________________
مع الجزم بطهارة خرءه. و السبب في ذلك يرجع الى كيفية الاستفادة من الروايات المتعارضة بهذا الشأن، فهناك موثقة أبي بصير عن ابى عبد اللّه (ع) قال: «كل شي‌ء يطير فلا بأس ببوله و خرئه»
«1».

الواضحة في الدلالة على عدم النجاسة في مطلق الطير فتقع طرفا للمعارضة مع ما دل على نجاسة بول غير المأكول. و مورد التعارض هو البول من الطير غير المأكول بناء على إنكار الملازمة بين نجاسة البول و نجاسة الخرء.

و هو مع الخرء بناء على الملازمة.

و يمكن ان تذكر عدة وجوه في علاج هذا التعارض.

[في بيان علاج التعارض بين الروايات الواردة في المقام]

الأول- أن يقال بتقديم دليل النجاسة

باعتبار موافقته مع السنة الدالة على نجاسة البول مطلقا تطبيقا لكبرى الترجيح بموافقة الكتاب و السنة:

و فيه: أولا- ما حققناه فيما سبق من عدم وجود مطلق دال على نجاسة البول، و كل ما ورد من الروايات الدالة على نجاسة البول من دون تقييد كانت منصرفة إلى بول الآدمي خاصة. فلا تكون موافقة مع دليل نجاسة بول غير المأكول في مورد تعارضه مع دليل طهارة بول الطير كي ترجح بها، بل لا تكون موافقة معه حتى في غير مورد التعارض أيضا لمكان دعوى انصراف دليل نجاسة بول غير المأكول الى غير الإنسان من الحيوان غير المأكول فيختص كل من دليل نجاسة البول من دون تقييد و دليل نجاسة بول غير المأكول بموضوع غير موضوع الآخر.

و ثانيا- أن ترجيح أحد المتعارضين على الآخر انما يكون بموافقة السنة القطعية، بناء على إلغاء خصوصية الكتابية في الترجيح بموافقة الكتاب و استظهار أن مناط الترجيح هو موافقة دليل قطعي السند. و في المقام لم يبلغ ما دل على نجاسة البول بقول مطلق مبلغ القطع و التواتر.

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 10 من أبواب النجاسات

 

 

 

16
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الأول - أن يقال بتقديم دليل النجاسة ؛ ج‌3، ص : 16

..........

______________________________
و ثالثا- أن الترجيح بموافقة الكتاب و السنة من الترجيح السندي الذي مورده ما إذا كان التعارض بين الدليلين بحسب سنديهما كما في موارد التباين، فلا يجري في مورد تكاذب الدليلين بحسب الدلالة فقط كما فيما نحن فيه، على ما حقق في محله.

و رابعا- ان الرجوع الى المرجحات المذكورة في اخبار العلاج انما يكون بعد فقد الجمع الدلالي بين المتعارضين، فاذا تم شي‌ء من وجوه الجمع الدلالي الآتية لم تصل النوبة الى هذا العلاج.

ثم ان السيد الأستاذ- دام ظله- بعد أن ذكر هذا الوجه أورد عليه بأن المقام ليس من موارد الترجيح بموافقة الكتاب و السنة، لأن ذلك انما يكون فيما إذا كان عموم الكتاب أو السنة لفظيا لا بالإطلاق و مقدمات الحكمة لأن مقدمات الحكمة ليست من الكتاب و السنة كي تكون موافقتها موافقة الكتاب و روايات نجاسة البول في المقام لو سلم دلالتها فهي بالإطلاق و مقدمات الحكمة لا بالعموم «1».

و هذا بيان يطبقه الأستاذ- دام ظله- في تمام موارد المعارضة مع إطلاق الكتاب الثابت بمقدمات الحكمة.

الا أن هذه المناقشة غير صحيحة. إذ مضافا الى عدم تمامية التفصيل المذكور بين العموم و الإطلاق في نفسه على ما أوضحناه مفصلا في بعض الأبحاث السابقة من هذا الشرح. ان تطبيقه في المقام على موافقة السنة قياسا على الكتاب في غير محله. إذ الإطلاق و مقدمات الحكمة في الكتاب لو سلم انه ليس قرآنا فلا ريب في ان الإطلاق في السنة سنة أيضا إذ السنة نعم القول و الفعل و السكوت كما هو واضح «2»

______________________________
(1) التنقيح ج 1 ص 406

(2) راجع هامش الجزء الأول ص 73


17
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الثاني - ان يقال بتعارض الموثقة مع دليل نجاسة بول غير المأكول ؛ ج‌3، ص : 18

 

الثاني- ان يقال بتعارض الموثقة مع دليل نجاسة بول غير المأكول

______________________________
و تساقطهما و الرجوع بعد ذلك الى مطلقات نجاسة البول بوصفها عموما فوقيا.

و قد اعترض عليه السيد الأستاذ- دام ظله-: بأن تلك المطلقات على القول بانقلاب النسبة تكون هي أيضا طرفا للمعارضة بالعموم من وجه مع موثقة أبي بصير للعلم بتخصيص المطلقات بما دل على طهارة بول ما يؤكل لحمه من البقر و الغنم فيكون حالها بعد هذا التخصيص حال ما دل على نجاسة بول غير المأكول «1».

و هذا الاعتراض غريب في بابه. ذلك أن القائلين بانقلاب النسبة لا يقولون به فيما إذا كان هناك عام و مخصصان إذ لا موجب لملاحظة العام أولا مع أحد الخاصين ثم ملاحظته مع الآخر كي تنقلب النسبة بينهما. و مقامنا من هذا القبيل إذ كل من دليل طهارة بول المأكول و موثقة أبي بصير مخصص في عرض واحد لمطلقات النجاسة.

و الصحيح في إبطال هذا العلاج أن يقال:

أولا- بعدم تمامية مطلق دال على نجاسة البول في نفسه على ما تقدم تحقيقه.

ثانيا- بعدم الانتهاء الى هذا الموقف فيما إذا صح شي‌ء من وجوه الجمع الدلالي بين المتعارضين.

الثالث- إيقاع المعارضة بين موثقة أبي بصير و رواية عبد اللّه بن سنان

اغسل ثوبك من بول كل ما لا يؤكل لحمه «2» باعتبار أنهما معا بالعموم و بعد التساقط نرجع إلى رواية عبد اللّه بن سنان الأخرى «اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه» «3» باعتبارها بالإطلاق المحكوم في نفسه لموثقة‌

______________________________
(1) التنقيح ج 1 ص 406

(2) وسائل الشيعة باب 8 من أبواب النجاسات

(3) وسائل الشيعة باب 8 من أبواب النجاسات

 

 

 

18
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الرابع - تقديم رواية أبي بصير على رواية عبد الله بن سنان ؛ ج‌3، ص : 19

 

..........

______________________________
أبي بصير لو لا ابتلائها بالمعارض فيكون مرجعا بعد التساقط بنفس نكتة الرجوع الى العام الفوقاني.

و هذا الوجه في العلاج أيضا غير تام، و ذلك.

أولا- لعدم تمامية سند رواية عبد اللّه بن سنان الدالة على النجاسة بالعموم لأنها منقولة في الكافي عن علي بن محمد عن عبد اللّه بن سنان، و نحن نعلم بأن علي بن محمد الذي ينقل عنه صاحب الكافي إن كان هو شيخه فقد وقع بينه و بين عبد اللّه بن سنان سقط في السند للعلم بعدم معاصرته له:

و ان كان شخصا آخر ممن يمكن افتراضه معاصرا مع ابن سنان فيعلم ان نقل صاحب الكافي عنه لا يكون الا مع الواسطة فيكون في السند إرسال على كل حال.

و ثانيا- انه موقوف على ان لا يتم وجه من وجوه الجمع الدلالي بين المتعارضين.

الرابع- تقديم رواية أبي بصير على رواية عبد اللّه بن سنان

باعتبار ان دلالتها بالعموم و دلالة الأخيرة بالإطلاق و العموم مقدم على الإطلاق على ما حقق في محله- و لو فرض تساويهما في الظهور أيضا كانت النتيجة التساقط و الرجوع الى قاعدة الطهارة.

و هكذا يكون هذا الوجه للعلاج، خلافا للوجوه السابقة مثبتا لطهارة البول و الخرء من الطير غير المأكول.

الخامس- دعوى حكومة موثقة أبي بصير على أدلة نجاسة بول ما لا يؤكل لحمه،

باعتبار ظهورها في الاستثناء و التقييد، لأنها تفترض ثبوت النجاسة للبول بنحو القضية المهملة فتتعرض لنفي إطلاقها لبول الطير و القرينة على هذا الافتراض هي ان كل نفي للحكم عن حصة إذا لم يكن من المحتمل عادة اختصاص الحكم المنفي بها يكون له ظهور في انه نفي استثنائي و انه‌

 

 

 

19
بحوث في شرح العروة الوثقى3

السادس: تقديم دليل طهارة بول الطير و خرئه على دليل نجاسة بول ما لا يؤكل لحمه ؛ ج‌3، ص : 20

..........

______________________________
استثناء من الحكم الثابت على المطلق. و لهذا قلنا بأن لسان لا ضرر- مثلا- لسان الاستثناء لأن ما هو المحتمل في نفسه شمول الحكم لحال الضرر لا تشريع الأحكام الضررية خاصة فيكون للسان لا ضرر نظر الى أدلة الأحكام و بذلك يحكم عليها و هكذا في المقام فان المحتمل في نفسه شمول الحكم بنجاسة البول لبول الطائر لا اختصاصها به، فيكون النفي ظاهرا عرفا في اللسان الاستثنائي المساوق للنظر الى دليل نجاسة البول و هو يقتضي الحكومة.

السادس: تقديم دليل طهارة بول الطير و خرئه على دليل نجاسة بول ما لا يؤكل لحمه

باعتبار أن العكس يؤدي الى إلغاء عنوان الطير المأخوذ موضوعا في دليل الطهارة حيث يتقيد الحكم بما إذا كان الطير حلال اللحم و الطهارة ثابتة على عنوان ما لا يؤكل لحمه في نفسه سواء كان طيرا أم لا.

و توضيح هذا الوجه و تمحيصه ان: هنالك ظهورين لكل عنوان يؤخذ في موضوع حكم.

أحدهما: الظهور في دخالته في الحكم و عدم كونه أجنبيا عنه بالمرة الثاني: ظهوره في كونه دخيلا بنحو تمام الموضوع للحكم و أنه كلما صدق ذلك العنوان صدق الحكم أيضا.

و الظهور الأول ظهور عرفي ناشى‌ء من أخذ عنوان و إيراده في موضوع الكلام و الثاني إطلاق معتمد على مقدمات الحكمة و على هذا الأساس كلما وقع التعارض بين الظهور الأول في دليل مع الظهور الثاني في دليل آخر قدم الأول على الأخير لأن رفع اليد عن إطلاق موضوعية عنوان للحكم أخف مئونة من إلغاء العنوان المأخوذ في موضوع الكلام عن الموضوعية رأسا و مقامنا من هذا القبيل، فان دليل طهارة بول الطير لو قيد بالمأكول كان ذلك إلغاء لعنوان الطير عن الموضوعية رأسا و جعل موضوع الحكم عنوانا‌


20
بحوث في شرح العروة الوثقى3

السادس: تقديم دليل طهارة بول الطير و خرئه على دليل نجاسة بول ما لا يؤكل لحمه ؛ ج‌3، ص : 20

 

..........

______________________________
آخر قد يكون طيرا و قد لا يكون. و هذا بخلاف ما لو قيد دليل نجاسة بول غير المأكول بما إذا لم يكن طيرا، إذ غاية ما يلزم هو رفع اليد عن إطلاق موضوعيته للنجاسة.

و هذا البيان موقوف على أن يكون كل ما يحل أكل لحمه من الحيوان طاهر البول و أما لو قيل باختصاص الطهارة بما إذا كان الحيوان المحلل غير الطير مما يتعارف أكله لا من قبيل الخيل و البغال- كما اختار صاحب الحدائق- قده- فلا يلزم من تخصيص طهارة بول الطير بما إذا كان محلل الأكل إلغاء عنوان الطير عن الموضوعية إذ ليس كل محلل الأكل طاهر البول بل لا بد أما أن يكون مما يتعارف أكله أو طائرا فيحفظ بذلك دخل عنوان الطير في موضوع الحكم.

و على أي حال يرد على هذا الوجه أنه موقوف على أن يكون عنوان ما يؤكل لحمه ملحوظا على نحو الموضوعية لا المعرفية إلى واقع العناوين التي تثبت فيها الحلية. و مقتضى الطبع الاولى في أخذ عنوان و ان كان هو الموضوعية لا المعرفية الا أن المقام خاصة يستظهر فيه العرف بمناسبات الحكم و الموضوع المركوزة لديه أن الطهارة و النجاسة لا تكون بملاك الحرمة التكليفية و حليتها و انما تكون بملاك الطيب و الاستقذار الذي يثبت لواقع تلك العناوين التفصيلية في عرض الحلية و الحرمة. و بناء على هذا الفهم لا يلزم من تخصيص الحكم بطهارة بول الطير بما إذا كان حلالا إلغاء عنوان الطير عن الموضوعية بل لعل طهارة بول الطير الحلال انما كان بلحاظ كونه طيرا كما هو مقتضى دليل طهارة بول الطير و طهارة بول ما يؤكل لحمه ليس الا معرفا الى ما يثبته دليل طهارة بول الطير:

ثم ان هنا رواية أخرى ربما يستدل بها على التفصيل في الطير بين ما يؤكل و ما لا يؤكل، و هي رواية عمار التي نقلها العلامة في المختلف عن‌

 

 

 

21
بحوث في شرح العروة الوثقى3

السادس: تقديم دليل طهارة بول الطير و خرئه على دليل نجاسة بول ما لا يؤكل لحمه ؛ ج‌3، ص : 20

..........

______________________________
كتابه عن الصادق (ع) قال: «خرء الخطاف لا بأس به هو مما يؤكل لحمه و لكن كره أكله لأنه استجار بك و آوى الى منزلك و كل طير يستجير بك فأجره»
«1».

و تقريب الاستدلال بها مبني على ان يكون جملة (هو مما يؤكل لحمه) تعليلا للحكم بطهارة خرء الخطاف لا جملة مستقلة تبرع بها الامام (ع) و قد تقدم ان هذا هو ظاهر السياق حيث لم يأت بما يدل على كون الجملة مستأنفة و منفصلة عن سابقتها و إنما ذكرت في سياق واحد ظاهر في الارتباط و التعليل للحكم بالطهارة. و حينئذ يقال: بأنه لو كان الطير طاهر الخرء من حيث هو طير لم يكن وجه للتعليل المذكور بعد افتراض كون السؤال عن الخطاف الذي هو نوع من الطير لأن العدول عن الأمر الذاتي في مقام التعليل الى الأمر العرضي ليس عرفيا فالتعليل المذكور دليل على أن الميزان في طهارة خرء الطيور و نجاسته أيضا هو حلية الأكل و حرمته، فتقيد بها موثقة أبي بصير الدالة على طهارة بول الطير و خرئه فيحكم بنجاسة خرء الطير غير المأكول بل بنجاسة بوله أيضا. أما لتمامية الملازمة بين نجاسة الخرء و نجاسة البول و ان لم تتمّ الملازمة بين نجاسة البول و نجاسة الخرء. و أما لعدم احتمال الفرق بين الخرء و البول بأن يكون الميزان في نجاسة الأول هو حلية اللحم و حرمته دون نجاسة الثاني مع كون روايات التفصيل واردة في البول. و أما بدعوى أن الطيور تدفع البول و الخرء معا من مخرج واحد و كثيرا ما تكون أبوالها مختلطة مع خرءها فلا يفهم العرف ارادة خصوص الخرء المجرد عن البول في الحكم المذكور بل يفهم أن المراد بخرء الطير الفضلات التي تخرج منه سواء كانت خرءا خالصا أو بولا أو مختلطا و قد يجاب عن ذلك بأن العدول في مقام التعليل عن الأمر الذاتي الى الأمر العرضي انما لا يصح عرفا إذا‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 9 من أبواب النجاسات


22
بحوث في شرح العروة الوثقى3

حكم فضلات الخفاش ؛ ج‌3، ص : 23

 

خصوصا الخفاش و خصوصا بوله (1)

______________________________
كان دخلهما على حد سواء و أما إذا كان دخل الأمر العرضي من باب نفي المقتضي و دخل الأمر الذاتي من باب وجود المانع فلا بأس بالعدول و المقام من هذا القبيل فإن حرمة اللحم هي المقتضي للحكم بالنجاسة و لو بحسب مقام الإثبات و ألسنة الروايات.

و الصحيح في الجواب على الاستدلال المذكور هو التشكيك في سند الرواية و متنها أما الأول فلعدم معلومية طريق العلامة الى كتاب عمار و أما الثاني فلأنها منقولة بطريق الشيخ عن كتاب عمار مع حذف كلمة الخرء مما يجعلها بيانا لحكم الخطاف في نفسه و أنه لا بأس به من حيث الحلية و جواز الأكل فتكون بهذا المتن أجنبية عن محل الكلام و مع هذا التهافت لا يمكن الاعتماد على نقل العلامة بعد استبعاد تعدد المنقول مع التشابه المطلق في فقرأتها من غير ناحية كلمة الخرء و كونها منقولة عن كتاب واحد و هو كتاب عمار.

و هكذا يتلخص أن الصحيح هو طهارة بول الطير و خرئه مطلقا.

[حكم فضلات الخفاش]

(1) البحث عن خرء الخفاش و بوله يقع تارة بلحاظ دليل نجاسة بول ما لا يؤكل لحمه باعتبار كونه من الحيوان محرم الأكل، و اخرى بلحاظ دليل طهارة بول الطير باعتبار كونه طائرا، و ثالثة بلحاظ الروايات الخاصة، فالكلام في مقامات.

أما المقام الأول

فقد يقال فيه ان دليل اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل شامل لبول الخفافيش أيضا فلا بد من الحكم بنجاسته لو لا الدليل المخصص و اما خرءه فشمول الدليل له مبني على الملازمة المتقدمة.

الا ان هذا الإطلاق يمكن منعه بأحد وجهين.

 

 

 

23
بحوث في شرح العروة الوثقى3

و اما المقام الثاني ؛ ج‌3، ص : 24

..........

______________________________
الأول- ما أفاده السيد الأستاذ- دام ظله. من ان الخفاش مما لا نفس سائلة له- على ما شهد بذلك جماعة- فيحكم بطهارة بوله و خرءه من باب انه لا نفس له. و لو فرض الشك في كونه كذلك كفى ذلك أيضا في عدم إمكان التمسك بعموم النجاسة لكون الشبهة مصداقية بالنسبة إليه فتجري أصالة الطهارة أو استصحاب عدم كونه ذا النفس. بناء على جريانه في الاعدام الأزلية
«1».

و هذا الوجه موقوف على تمامية كبرى طهارة بول و خرء ما لا نفس له. و هي غير تامة على ما يأتي إن شاء اللّه تعالى.

الثاني- ان موضوع الإطلاق هو ما لا يؤكل لحمه من الحيوانات فلا يشمل الحيوان غير اللحمي عرفا. و الخفاش لا يكون حيوانا لحميا عند العرف فاسراء الحكم اليه يحتاج إلى إلغاء خصوصية اللحمية و جعل تمام الموضوع حرمة الأكل و هو بلا موجب بعد احتمال الفرق عقلا و عرفا بينهما.

و هذا الوجه صحيح و به يثبت في هذا المقام عدم تمامية مقتضى النجاسة في نفسه لبول الخفاش و خرئه.

و اما المقام الثاني

فلو افترض تمامية الإطلاق في المقام الأول لدليل نجاسة البول لبول الخفاش يقع البحث عن النسبة بينه و بين موثقة أبي بصير الدالة على طهارة بول الطير. حيث قد يقال بأنه في خصوص الخفاش لا بد من تقديم الموثقة و الحكم بطهارة بوله و لو فرض عدم تقدمها على دليل النجاسة في غير الخفاش من الطيور المحرمة. و ذلك بدعوى انحصار البول في دائرة الطيور بالخفاش إذ سائر الطيور لا بول لها بصورة منفصلة عن الخرء، فتكون الموثقة كالنص في طهارة بول الخفاش.

و فيه انه لو سلم انحصار البول في دائرة الطيور بالخفاش، و سلم ان‌

______________________________
(1) التنقيح الجزء الأول ص 409


24
بحوث في شرح العروة الوثقى3

و أما المقام الثالث ؛ ج‌3، ص : 25

..........

______________________________
المائع الخارج مع الخرء ليس بولا عرفا إلا بالعناية. فلا بد من حمل قوله (ع) كل شي‌ء من الطير فلا بأس ببوله، على ارادة هذا المائع نفسه الذي يكون بولا عناية إذ لا يمكن ان يكون مثل هذا الخطاب المشتمل على اداة العموم و الواضح في إعطاء قاعدة عامة في باب الطير. ناظرا الى خصوص بول الخفاش كما هو واضح.

و أما المقام الثالث

فقد استدل على نجاسة بول الخفاش برواية داود الرقي «قال: سألت أبا عبد اللّه (ع) عن بول الخشاشيف يصيب ثوبي فأطلبه فلا أجده. فقال: اغسل ثوبك.» «1»

حيث يستفاد من الأمر بغسل الملاقي في أمثال المقام الإرشاد إلى نجاسة الملاقي و فيه: أن الرواية ضعيفة سندا لا باعتبار داود الرقي فإنه و ان لم يوثق و لكنه ممن روى عنه الأزدي بسند صحيح و لكن باعتبار غيره كيحيى بن عمر الواقع في السند و الإرسال الواقع في طريق السرائر الى داود مضافا الى أنها معارضة مع ما لا يقل عنها شأنا- و ان كان غير نقي السند أيضا- و هي رواية غياث «لا بأس بدم البراغيث و البق و بول الخشاشيف» «2» فتكون قرينة على إرادة مرتبة من التنزه و الاستحباب في الأمر بغسل الثوب بناء على ما هو الصحيح من ثبوت مراتب التنزه و الاستحباب عرفا في مثل النجاسة رغم كونها حكما وضعيا. هذا.

مضافا الى إمكان منع دلالتها على النجاسة حيث لم يسأل فيها عن نجاسة بول الخشاف أو طهارته و انما افترض أصابته للثوب و تصديه لتشخيص موضعه و التنزه عنه و لكنه لم يجده فكأن النظر إلى كيفية الموافقة القطعية و ان الجهل لا يرفع الحكم سواء كان ذلك الحكم لزوميا أو تنزهيا. و معه لا يمكن أن يستظهر من الأمر بالغسل الإرشاد إلى لزومية المحذور.

و هكذا يتضح عدم دليل تام على نجاسة بول الخفاش فضلا عن خرئه‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 10 من النجاسات

(2) وسائل الشيعة باب 10 من النجاسات


25
بحوث في شرح العروة الوثقى3

حكم فضلات ما يحرم أكله بالعرض ؛ ج‌3، ص : 26

[حكم فضلات ما يحرم أكله بالعرض]

و لا فرق في غير المأكول بين ان يكون أصليا كالسباع و نحوها أو عارضيا كالجلال و موطوء، الإنسان و للغنم للذي شرب لبن خنزيرة (1)

______________________________
(1) و ذلك تمسكا بإطلاق الروايات الدالة على نجاسة بول ما لا يؤكل لحمه بعد استظهار ان المراد ما لا يؤكل بحسب نظر الشارع أي ما يحرم أكل لحمه.

و قد يمنع عن هذا الإطلاق بدعوى أن عنوان ما لا يؤكل معرف الى العناوين التفصيلية من الحيوانات التي لا يؤكل لحومها كالسباع و نحوها و التمسك بالإطلاق المذكور مبني على أن يكون عنوان ما لا يؤكل بنحو الموضوعية و هذا خلاف الظاهر كما تقدم فيما سبق أيضا و لهذا لا يتوهم إطلاقه لما إذا حرم أكل الحيوان لجهة طارئة كالغصبية مثلا.

و فيه: ان المستظهر من روايات نجاسة بول ما لا يؤكل لحمه أن موضوع الحكم هو الحيوان حرام اللحم الذي تكون حرمته ثابتة للحمه بما هو لحم لا بما هو غصب أو ضرر أو نحو ذلك، و هذا شامل للحيوان الذي حرم لحمه و لو كانت الحرمة لطرو حالة في اللحم كالجلال. و لا يمنع عنه كون عنوان ما لا يؤكل مشيرا الى العناوين التفصيلية الواقعية من الحيوان فان العناوين الواقعية التفصيلية قد تكون دائمية و قد تكون عارضة كالجلال و الموطوء.

و قد يتوهم أن الإطلاق على تقدير تسليمه معارض بالعموم من وجه مع مثل ما دل على طهارة بول الشاة الشامل بإطلاقه للجلال منها، و بعد التعارض و التساقط و عدم وجود مطلق فوقي للنجاسة يرجع الى أصالة الطهارة.

و يندفع بأن ما دل على طهارة بول الشاة يتكفل حكما ترخيصيا و هو‌


26
بحوث في شرح العروة الوثقى3

حكم فضلات الحمار و البغل و الخيل ؛ ج‌3، ص : 27

 

و اما للبول و للغائط من حلال اللحم فطاهر حتى الحمار و للبغل و الخيل (1)

______________________________
نفي النجاسة و غاية ما يقتضيه عدم كون العنوان المأخوذ موضوعا فيه مقتضيا للنجاسة و هو لا ينافي ثبوت المقتضى لها بعنوان آخر. نعم لو كان يدل على اقتضاء العنوان المأخوذ في موضوعه للنفي لحصلت المعارضة و لكن ارتكازية نشوء الأحكام الترخيصية من عدم المقتضى لا مقتضى العدم تكون قرينة عرفية على تعيين مفاد الدليل في بيان عدم المقتضى من ناحية عنوان بول الشاة لا المقتضى للعدم. و هذه هي النكتة العامة في عدم المعارضة بين أدلة الأحكام الترخيصية و أدلة الأحكام الإلزامية في أمثال المقام.

و على هذا، فالإطلاق تام. و يمكن أن نضيف إليه أيضا ما دل على نجاسة عرق الجلال بضم الملازمة العرفية المتشرعية بين العرق و البول في النجاسة، و لو باعتبار ارتكازية أهونية العرق من البول فما يدل على نجاسة العرق يدل على نجاسة البول بالفحوى العرفية.

ثم ان هذا كله في بول الجلال و أما خرءه فالإطلاق غير تام بالنسبة إليه كما تقدم، فإن أمكن اجراء الفحوى العرفية التي أشرنا إليها أمكن إثبات نجاسة خرء الجلال بلحاظ دليل نجاسة عرقه على القول بتمامية ذلك الدليل.

[حكم فضلات الحمار و البغل و الخيل]

(1) لا إشكال في طهارة بول و خرء الحيوان المحلّل شرعا و المأكول خارجا كالشاة. و انما البحث و الاشكال في بول الحمار و البغل و الخيل من ناحيتين إحداهما من ناحية كونه بول ما لا يعتاد اكله و الأخرى من ناحية كونه بول هذه الأشياء بعناوينها التفصيلية.

أما الناحية الاولى:

فيقع البحث عنها تارة بلحاظ مقتضى النجاسة‌

 

 

 

27
بحوث في شرح العروة الوثقى3

أما مقام المقتضي للنجاسة ؛ ج‌3، ص : 28

..........

______________________________
و اخرى بلحاظ المانع فهنا مقامان.

أما مقام المقتضي للنجاسة

فهو يرتبط بكيفية فهم الروايات الدالة على نجاسة بول ما لا يؤكل.

و تفصيل الكلام في ذلك. ان جملة ما لا يؤكل لحمه تارة تحمل على كون عدم الأكل بلحاظ الذوق العرفي و لو كان من ناحية استعماله في غرض آخر كالركوب مثلا و اخرى تحمل على ما لا يجوز أكل لحمه شرعا و ثالثة تحمل على الجامع بينهما اي مطلق وجود نكتة لعدم الأكل سواء كانت عرفية أو شرعية فعلى الأول و الثالث يتم الإطلاق لدليل النجاسة لبول الحمار و البغل و الخيل لأنها مما لا تؤكل بحسب الذوق العرفي. و على الثاني لا يتم الإطلاق و الاحتمال الأول من هذه الاحتمالات غير وارد في نفسه إذ لا يحتمل ان يكون عنوان (ما لا يؤكل) الوارد في لسان الشارع غير ناظر الى ذوقه هو و لا يبعد دعوى ان مناسبات الحكم و الموضوع العرفية تقتضي أن نكتة الحكم بالنجاسة هي الحزازة في لحم الحيوان التي تكون الحرمة كاشفة عنها لا مجرد عدم المأكولية عرفا و لو من جهة استعماله في غرض آخر كالركوب مثلا. و لا أقل من احتمال ذلك المساوق للإجمال و عدم انعقاد الإطلاق.

لا يقال: مثل رواية عبد الرحمن عن ابي عبد اللّه (ع) «قال:

يغسل بول الحمير و الفرس و البغل فأما الشاة و كل ما يؤكل لحمه فلا بأس ببوله» «1» قرينة على ان المراد من عنوان ما يؤكل لحمه في ألسنة الروايات ما يكون حلالا شرعا و مأكولا عرفا حيث جعل مقابلا للحمير و البغال:

فإنه يقال: غاية ما تدل عليه الرواية إرادة المعنى الأخص من الحلية الشرعية في شخص الاستعمال الواقع في هذه الرواية و لا يمكن ان يستظهر منها اصطلاح عام للشارع يقصده من عنوان ما لا يؤكل دائما، فالصحيح‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 9 من النجاسات


28
بحوث في شرح العروة الوثقى3

و أما المقام الثاني ؛ ج‌3، ص : 29

 

..........

______________________________
عدم تمامية المقتضي لنجاسة غير المأكول الحلال من الحيوان.

و أما المقام الثاني

فلو سلمنا تمامية المقتضي للنجاسة فهنالك ما يمنع عنه و هو رواية عبد اللّه بن بكير التي جاء فيها. «فأخرج (ع) كتابا زعم أنه إملاء رسول اللّه (ص) أن الصلاة في وبر كل شي‌ء حرام أكله فالصلاة في وبره و شعره و جلده و بوله و روثه و كل شي‌ء منه فاسد لا تقبل تلك الصلاة حتى يصلى في غيره مما أحل اللّه أكله، فإن كان مما يؤكل لحمه فالصلاة في وبره و بوله و شعره و روثه و ألبانه و كل شي‌ء منه جائز إذا علمت أنه ذكي و قد ذكاه الذابح، و ان كان غير ذلك مما قد نهيت عن اكله و حرم عليك أكله فالصلاة في كل شي‌ء منه فاسد ذكاه الذبح أو لم يذكه» «1».

فإنها و ان كانت ناظرة إلى حكم المانعية لا النجاسة الا أن تجويزها الصلاة في كل شي‌ء مما أحل اللّه اكله حتى بوله و روثه يدل على عدم نجاستهما أيضا و هي واضحة في الدلالة على ان ما أخذ في موضوع الحكم انما هو حلية الأكل و ان لا يكون مما قد نهينا عن أكله أو حرم علينا اكله، و لو فرض كونه غير متعارف الأكل. و حينئذ يقع التعارض بين إطلاقها و إطلاق ما دل على نجاسة بول ما لا يؤكل و بعد التساقط يرجع الى أصالة الطهارة.

فالصحيح هو طهارة بول و خرء غير المأكول من الحيوان المحلل شرعا.

و أما الناحية الثانية و هي في حكم بول الحمير و البغال و الخيل بلحاظ عناوينها.

فقد وقع الخلاف بين الأصحاب في نجاسة أبوالها بعد التسالم تقريبا على طهارة أرواثها استنادا الى عدة نصوص ادعى دلالتها على نجاسة أبوالها.

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 2 من لباس المصلى

 

 

 

29
بحوث في شرح العروة الوثقى3

و أما الناحية الثانية و هي في حكم بول الحمير و البغال و الخيل بلحاظ عناوينها. ؛ ج‌3، ص : 29

..........

______________________________
و الإنصاف أن هنا لك في الروايات الواردة بهذا الشأن ما لا ينبغي الاستشكال في تماميتها سندا و دلالة على التفصيل بين أبوال الخيل و البغال و الحمير و أرواثها. من قبيل رواية الحلبي قال: «سألت أبا عبد اللّه (ع) عن أبوال الخيل و البغال، فقال: اغسل ما أصابك منه»
«1» و رواية أخرى عنه أيضا «عن أبي عبد اللّه (ع)، قال: لا بأس بروث الحمير و أغسل أبوالها» «2» و رواية عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه قال: «سألت أبا عبد اللّه عن الرجل يمسه بعض أبوال البهائم أ يغسله أم لا. قال:

يغسل بول الحمار و الفرس و البغل فأما الشاة و كل ما يؤكل لحمه فلا بأس ببوله» «3».

نعم مثل رواية أبي مريم ما تقول في أبوال الدواب و أرواثها قال:

أما أبوالها فاغسل ما أصاب ثوبك و أما أرواثها فهي أكثر من ذلك» «4» و نحوها رواية عبد الأعلى «5».

لا يمكن أن يستفاد منها النجاسة و ذلك باعتبار ما جاء في ذيلها من قوله (ع) «و أما أرواثها فهي أكثر من ذلك» فإنه سواء حمل على التفصيل بين البول و الروث بأن يراد من الأكثرية الكثرة في الكم الموجب لعسر التجنب عنه، أو حمل- و لو بعيدا- على أن الروث أولى بالغسل باعتباره أكثر قذارة و أشد، كان شاهدا على عدم المحذور اللزومي في الغسل من البول أما على الأول فلوضوح أن مجرد الأكثرية لا تكون موجبة بحسب المناسبات العرفية لرفع اليد عن الحكم بالنجاسة إلا في الأحكام التنزيهية مما يجعل الأمر بالغسل عن البول ظاهرا في التنزه و أما على الثاني» فبعد البناء المتشرعي و التسالم فتوى و نصا على طهارة الروث من الحيوانات المذكورة لا يبقى للأمر بالغسل من البول الذي هو أقل محذورا من الروث‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 9 من أبواب النجاسات.

(2) وسائل الشيعة باب 9 من أبواب النجاسات.

(3) وسائل الشيعة باب 9 من أبواب النجاسات.

(4) وسائل الشيعة باب 9 من أبواب النجاسات.

(5) وسائل الشيعة باب 9 من أبواب النجاسات.


30
بحوث في شرح العروة الوثقى3

و ما يمكن أن يذكر لتخريج فتوى المشهور أحد طريقين. ؛ ج‌3، ص : 31

 

..........

______________________________
دلالة على غير التنزه و الاستحباب.

و مثلهما أيضا رواية محمد بن مسلم التي جاء فيها «فان لم تعلم مكانه فاغسل الثوب كله و ان شككت فانضحه» «1» حيث قد يقال إن المستفاد من أمره بالنضح في فرض الشك أن المحذور المراد التخلص عنه ليس محذور النجاسة اللزومية فإنها لا ترتفع بالنضح بل تزداد و تتسع و باعتبار وحدة السياق يفهم أن الأمر بالغسل في فرض العلم أيضا ليس لزوميا و لا أقل من صلاحيته للإجمال و عدم ظهوره في اللزوم.

و على أي حال. ففي الروايات الأولى الواضحة في الدلالة على نجاسة البول كفاية.

غير أن المشهور ذهبوا الى القول بالطهارة حيث لم ينقل القول بالنجاسة عن غير ابن جنيد (ره) و الشيخ (ره) في بعض كتبه من المتقدمين و صاحب الحدائق و المحقق الأردبيلي- رهما- من المتأخرين.

و ما يمكن أن يذكر لتخريج فتوى المشهور أحد طريقين.

الأول- ما أفاده السيد الأستاذ- دام ظله

بعد أن ناقش في سند بعض الروايات التي استدل بها لإثبات الطهارة من دعوى قيام السيرة القطعية على معاملة أبوال هذه الحيوانات و أرواثها معاملة الطاهر فلا بد من حمل ما يأمر بالغسل منها على التنزه.

و التحقيق: أن السيرة المدعاة في المقام بالإمكان تقريبها بأحد أنحاء‌

النحو الأول- أن يراد بها السيرة العملية لدى المتشرعة بما هم متشرعة

و يستند في ثبوت هذه السيرة في عصر الأئمة عليهم السلام الى قيامها في في العصور المتأخرة التي تعلم حالها مباشرة فيستكشف من قيامها في هذه العصور أنها كانت قائمة منذ عصر الأئمة، و عمل المتشرعة في ذلك العصر‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 9 من النجاسات

 

 

 

31
بحوث في شرح العروة الوثقى3

النحو الثاني ؛ ج‌3، ص : 32

 

..........

______________________________
يكشف إنا عن الدليل على الطهارة.

و هذا الطريق في إثبات السيرة عهدته على مدعيه. لأن تكون السيرة في زمان متأخر بمجرده و بدون ضم نكتة خاصة لا يكشف عن ذلك إذ قد يكون متأثرا بعوامل حادثة كانتشار الفتوى بالطهارة تدريجا و نحو ذلك لا الى انعقادها منذ عصر الأئمة عليهم السلام. و مما يؤيد ذلك ذهاب بعض العلماء المتقدمين إلى النجاسة- كما أشرنا إليه- فإنه لا يناسب استقرار السيرة القاطعة منذ ذلك الزمان على الطهارة.

النحو الثاني

ان يقال ان مقتضى الطبع العقلائي أو مقتضى شدة ابتلاء الناس بابوال الدواب و صعوبة التحرز عنها هو مساورتها، و كل ما توفرت الدوافع النوعية على الاقدام عليه لو كان ممنوعا شرعا لحصل الردع عنه و حيث لم يحصل ردع عن ذلك في المقام فيستكشف إمضاء ما يقتضيه طبع القضية من مساورة تلك الأبوال.

و هذا استدلال بالسيرة العقلائية، و لهذا يحتاج الى ضم دعوى عدم الردع بينما التقريب السابق استدلال بسيرة المتشرعة التي هي بنفسها دليل إنى على الطهارة.

و الجواب عليه، ان أوامر الغسل الواردة في الروايات صالحة للردع لو سلم اقتضاء طبع القضية للإقدام على مساورة تلك الأبوال.

النحو الثالث- ان يدعى ثبوت سيرة المتشرعة في عصر الأئمة (ع) على الطهارة

و لكن لا يستدل على هذه السيرة بقيامها في العصور المتأخرة كما هو الحال في النحو الأول بل ببيان آخر، و حاصله: ان هذه المسألة حيث انها كانت محل ابتلاء المتشرعة آنذاك كثيرا فلا بد و أن يكون الحكم فيها واضحا عندهم، كما هي العادة في المسائل التي يعم فيها الابتلاء و يكثر التعرض لها. و عليه نتساءل: ما هو الحكم الذي كان واضحا عندهم‌

 

 

 

32
بحوث في شرح العروة الوثقى3

النحو الثالث - ان يدعى ثبوت سيرة المتشرعة في عصر الأئمة(ع) على الطهارة ؛ ج‌3، ص : 32

..........

______________________________
و ثابتا في ارتكازهم؟ فان كان هو الطهارة ثبت المطلوب، و ان كان هو النجاسة فكيف نفسر ذهاب مشهور فقهاء الإمامية إلى الحكم بالطهارة رغم تظافر الروايات الآمرة بالغسل و المطابقة لارتكاز النجاسة المفترض. و بقدر ما يضعف احتمال ذهاب المشهور الى خلاف ارتكاز متشرعي عام متطابق مع روايات عديدة يقوى الظن بان الارتكاز كان منعقدا على الطهارة.

و لكن في قبال ضعف احتمال ذهاب المشهور الى خلاف ارتكاز متشرعي عام مطابق لعدد من الروايات يوجد استبعاد آخر و هو استبعاد قيام ارتكاز متشرعي عام على الطهارة مع ان الارتكازات تعتمد في نشوئها عادة على بيان الأئمة (ع). و ما وصلنا من بياناتهم مما يدل بظاهره على النجاسة لعله أضعاف ما وصل مما يدل على الطهارة.

و لكن هذا على اي حال ان أزال وثوقنا بانعقاد الارتكاز المتشرعي المعاصر للنصوص على الطهارة بنحو يمتنع الاستدلال بالسيرة مباشرة فلا يزيل احتمال ذلك بنحو معتد به. و هذا الاحتمال ينفع حينئذ لا في تتميم الاستدلال بالسيرة، بل في إيجاد الإجمال في البيانات الآمرة بالغسل المروية، لأن الارتكاز المذكور على تقدير ثبوته يصلح ان يكون بمثابة القرينة اللبية المتصلة للحمل على التنزه و الاستحباب فيكون احتماله من احتمال القرينة المتصلة. و احتمال القرينة المتصلة كاحتمال قرينية المتصل يوجب الإجمال عندنا حيث لا يكون المحتمل من سنخ القرائن اللفظية و نحوها مما تدخل في نطاق تعهد الراوي بنقلها و يعتبر عدم نقله لها شهادة بعدمها. و ذلك كما في القرائن اللبية الارتكازية التي لا يوجد من الراوي تعهد بالتعرض لها ليكون سكوته شهادة بعدمها.

اللهم الا أن يقال: ان بعض الروايات الدالة على النجاسة قوية الظهور في ذلك على نحو لا يصلح الارتكاز المفترض ان يكون قرينة على تأويل ظهورها أو إسقاط صراحتها. من قبيل ما يأتي مما دل على ان أبوالها كبول‌


33
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الثاني: تصحيح بعض ما يدل على الطهارة من الروايات. ؛ ج‌3، ص : 34

..........

______________________________
الإنسان، فإن حمل مثل هذا اللسان على التنزه بعيد جدا.

الثاني: تصحيح بعض ما يدل على الطهارة من الروايات.

من قبيل رواية أبي الأغر النحاس قال: «قلت لأبي عبد اللّه (ع) اني أعالج الدواب فربما خرجت بالليل و قد بالت وراثت فيضرب أحدها برجله فينضح على ثيابي فأصبح فأرى أثره فيه. فقال: ليس عليك شي‌ء» «1».

و هي واضحة الدلالة في نفي المحذور عن أبوالها و أرواثها، و الاشكال في سندها بابي الأغر النحاس يمكن دفعه بالتوثيق العام لمن يروى عنه أحد الثلاثة، فإنه قد روى عنه ابن ابى عمير و صفوان و الطريق صحيح. فتتم الرواية سندا و دلالة و بها يحمل الأمر بالغسل في الروايات الأخرى على التنزه و الاستحباب.

و منها رواية عبد اللّه بن ابى يعفور قال: «كنا في جنازة و قدامنا حمار فبال فجاءت الريح ببوله حتى صكت وجوهنا و ثيابنا فدخلنا على ابى عبد اللّه (ع) فأخبرناه، فقال: ليس عليكم بأس» «2».

و هي كسابقتها في الدلالة. كما ان الاشكال في سندها بالحكم بن مسكين يندفع برواية ابن ابى عمير و البزنطي عنه فتصح و تكون قرينة على حمل الأمر بالغسل على الاستحباب.

نعم هنا اشكال. و هو: أن هاتين الروايتين إذا صحتا لا تصلحان قرينة في مقابل رواية سماعة قال: «سألته عن أبوال السنور و الكلب و الحمار و الفرس قال: كأبوال الإنسان» «3».

لقوة ظهورها في النجاسة على نحو يكون حمل تشبيه بول الحمار ببول الإنسان على مجرد التنزه غير عرفي. و حينئذ تحصل المعارضة بين رواية سماعة و ما دل على الطهارة و بعد التساقط يمكن الرجوع الى الأوامر بالغسل في سائر الروايات. لأن تلك الأوامر لا تقع طرفا في هذه المعارضة لصلاحية ما دل على الطهارة للقرينية بالنسبة إليها، فتكون بمثابة العام الفوقي فتثبت النجاسة.

و قد يمكن التخلص عن ذلك بدعوى عدم تسليم التساقط و لزوم ترجيح روايات الطهارة لأنها مخالفة للعامة، و مع وجود المرجح العلاجي لا تصل النوبة إلى التساقط.

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 9 من أبواب النجاسات

(2) وسائل الشيعة باب 9 من أبواب النجاسات

(3) وسائل الشيعة باب 9 من أبواب النجاسات


34
بحوث في شرح العروة الوثقى3

حكم بول ما لا نفس سائلة له ؛ ج‌3، ص : 35

[حكم بول ما لا نفس سائلة له]

و كذا من حرام اللحم للذي ليس له دم سائل كالسمك المحرم و نحوه (1).

______________________________
(1) مما استثنى عن كبرى نجاسة بول ما لا يؤكل، ما لا نفس سائلة له.

و البحث فيه يقع تارة بلحاظ مقتضى النجاسة و إطلاقه له في نفسه، و اخرى بلحاظ ما نخرج به عن ذلك.

أما البحث عن المقتضى.

فالظاهر تمامية الإطلاق في روايات اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل فإنه شامل لكل حيوان لحمي محرم الأكل شرعا.

و لا وجه لدعوى الانصراف عما ليس له نفس سائلة منه. نعم الحيوان غير اللحمي قد أشرنا فيما سبق إلى انه لا يبعد انصراف العنوان المذكور عنه فالمقتضي لنجاسة بول مثل السمك المحرم تام. و اما الخرء منه فنجاسته مبنية على دعوى الملازمة المتقدمة، أو عدم القول بالفصل.

و اما البحث عن المانع الذي نرفع اليد به عن إطلاق دليل النجاسة

فيتمثل في إحدى روايتين.

الأولى: رواية حفص بن غياث

عن جعفر بن محمد عن أبيه- عليهما السلام- قال: «لا يفسد الماء الا ما كانت له نفس سائلة» «1».

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 35 من أبواب النجاسات


35
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الأولى: رواية حفص بن غياث ؛ ج‌3، ص : 35

..........

______________________________
و تقريب الاستدلال بها، هو دعوى إطلاقها لما إذا لاقى الماء مع بول أو خرء ما ليس له نفس سائلة. و فيه بقطع النظر عن الإشكال في سند الرواية الذي سوف يأتي حله في بعض الأبحاث المقبلة أنها لا تدل على المدعى فان تمام النظر فيها إلى حيثية فساد الماء بالحيوان أو بميتته من حيث كونه حيوانا ذا نفس أو ليس ذا نفس، فلا تكون الرواية في مقام بيان فساد الماء بنجاسة حيثيات الحيوان ذي النفس و عدم فساده بشي‌ء من حيثيات الحيوان غير ذي النفس كي يتمسك بالإطلاق فيها.

ثم، لو فرضنا إطلاقها تقع طرفا للمعارضة مع عموم نجاسة بول الحيوان غير المأكول بنحو العموم من وجه، فهل تقدم الرواية أو ذاك العموم؟

الصحيح، ان تقديمها على ذلك العموم موقوف على تمامية أحد وجهين:

الوجه الأول- دعوى حكومتها عليه بملاك النظر المستفاد من ظهور سياقها في الاستثناء بعد الفراغ عن ثبوت النجاسة في الجملة بنحو القضية المهملة.

الوجه الثاني- دعوى ان هذه الرواية أخص مطلقا من مجموع أدلة نجاسة الميتة و أدلة نجاسة بول ما لا يؤكل لحمه، لان تقديم هذا المجموع عليها يوجب إلغاءها. و حينئذ، فتارة نقول بأن أخصية دليل من مجموع دليلين توجب صلاحيته للقرينية عليهما و تقدمه عليهما معا بلحاظ أن الأخص من مجموع الدليلين لو فرض اتصالهما و اتصاله بهما لكان صالحا للقرينية على تقييد كل منهما، و كل ما كان كذلك في فرض الاتصال فهو موجب لهدم الحجية و التقدم بالقرينية في فرض الانفصال. و اخرى، نقول: بان الدليل الأخص من مجموع دليلين يستحق التقدم بملاك الأخصية على المجموع بما هو مجموع لا على الجميع، و بعد التقديم على المجموع يحصل التعارض بين إطلاق الدليلين المكونين للمجموع الأعم.

فعلى الأول تقدم الرواية على كل من دليلي نجاسة الميتة و نجاسة البول‌


36
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الرواية الثانية - موثقة عمار الساباطي ؛ ج‌3، ص : 37

..........

______________________________
ابتداء. و على الثاني تقدم الرواية على مجموع الدليلين لا جميعهما، و تقع المعارضة بعد ذلك بين إطلاق دليل نجاسة الميتة و إطلاق دليل نجاسة البول فيتساقطان و تكون النتيجة هي الطهارة أيضا.

الا أن جعل المعارضة بين الرواية و مجموع دليلي نجاسة الميتة و نجاسة البول يتوقف أولا، على افتراض وجود إطلاق في كل من الدليلين. مع إمكان نفي الإطلاق في أدلة نجاسة الميتة لمثل ميتة السمك و نحوها مما لا نفس له سائلة، كما سيأتي. و ثانيا: بعد فرض تسليم الإطلاق في كل منهما، على ان تكون نسبة الرواية الى كل من الإطلاقين على حد واحد، مع أن الرواية صريحة في نفي نجاسة الميتة، فإطلاق دليل نجاسة الميتة ساقط على كل حال و ليس الأمر دائرا بين سقوطه و سقوط إطلاق دليل نجاسة البول.

الرواية الثانية- موثقة عمار الساباطي

عن أبي عبد اللّه (ع) قال «سئل عن الخنفساء و الذباب و الجراد و النملة و ما أشبه ذلك يموت في البئر و الزيت و السمن و شبهه؟ قال: كل ما ليس له دم فلا بأس» «1» و تقريب دلالتها: أنها نفت البأس عن موت ما ليس له نفس و تفسخه في شبه الزيت و السمن من المائعات فتدل على طهارته و طهارة ما في جوفه من البول أو سائر الفضلات «2».

و يرد عليه: ان المنفي عنه البأس في قوله (كل ما ليس له دم فلا بأس) اما ان يكون هو الميت من الحيوان بمعنى ان كل ما ليس له دم فلا بأس بميتته. و اما ان يكون هو موت الحيوان في الزيت و السمن بمعنى انه لا بأس بموت الحيوان الذي ليس له دم في الزيت و نحوه. فعلى الأول تكون الرواية بمدلولها المطابقي دالة على نفي النجاسة عن الميتة الواقعة في‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 35 من أبواب النجاسات

(2) التنقيح ص 418 ج 1


37
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الرواية الثانية - موثقة عمار الساباطي ؛ ج‌3، ص : 37

..........

______________________________
الزيت التي ليس لها دم، و لا تكون ناظرة إلى نفي النجاسة عن بولها و خرئها.

و لا معنى للتمسك بإطلاقها لصورة تفسخ الميتة و اشتمالها على البول و الخرء لأن الإطلاق انما يقتضي تعميم ما هو المنظور و المقصود بالإفادة في الرواية و هو طهارة الميتة لا طهارة شي‌ء آخر. نعم لو ثبتت الملازمة العادية أو الغالبية بين اشتمال الزيت على الميتة و تفسخها و ظهور مدفوعها بولا و خرءا أمكن جعل الرواية دليلا بالالتزام على طهارة المدفوع لئلا يلزم كون الحكم بالطهارة و نفى البأس جهتيا محضا. و لكن هذه الملازمة غير ثابتة خصوصا ان مورد الرواية هو الذباب، و الجراد و نحوهما.

و أما على الثاني، فمن الواضح ان موت ما ليس له دم في الزيت بما هو ليس مما يحتمل كونه محذورا و انما يحتمل كونه منشأ للمحذور فنفى البأس يعنى نفى نشوء محذور منه. فان ادعى انصراف هذا المحذور المنفي إلى محذور الميتة فالأمر كما تقدم. و ان أنكرنا هذا الانصراف و تمسكنا بالإطلاق أمكن تتميم الاستدلال في المقام.

و هكذا يتضح عدم وجود ما يمكن ان يخرج به عن إطلاق دليل نجاسة بول ما لا يؤكل لحمه من الحيوان غير ذي النفس السائلة، و ان كانت الشهرة منعقدة على الطهارة فيكون الحكم بالنجاسة هو الأحوط.


38
بحوث في شرح العروة الوثقى3

(مسألة - 1) حكم الملاقاة في الداخل ؛ ج‌3، ص : 39

 

(مسألة- 1) [حكم الملاقاة في الداخل]

ملاقاة للغائط في للباطن لا توجب للنجاسة كالنوى الخارج من الإنسان أو الدود الخارج منه إذا لم يكن معه شي‌ء من للغائط، و ان كان ملاقيا له في الباطن. نعم لو ادخل من الخارج شيئا فلاقى للغائط في للباطن كشيشة الاحتقان ان علم ملاقاتها له الأحوط الاجتناب عنه، و اما إذا شك في ملاقاته فلا يحكم عليه بالنجاسة، فلو خرج ماء الاحتقان و لم يعلم خلطه في للغائط و لا ملاقاته له لا يحكم بنجاسته (1).

______________________________
(1) بعد الفراغ عن تنجس الملاقي مع النجس في الخارج يقع البحث عن النجاسة الداخلية و الملاقاة في الداخل. و تحقيق هذه المسألة يقع في جهات:

الاولى: فيما إذا كان النجس الملاقي- بالفتح- داخليا بالمعنى الأخص أي على نحو لا يمكن إدراكه و الوصول إليه عادة، كالبول في المثانة و نحو ذلك. و الظاهر في مثل ذلك عدم انفعال الملاقي- بالكسر- سواء كان داخليا أو خارجيا، و ذلك لعدم ثبوت نجاسة تلك الأعيان في حالة كونها داخلية لكي يترتب على ذلك انفعال الملاقي لها. لأن أدلة نجاسة النجاسات كالبول و الغائط و الدم و غيره لم تدل عليها بعناوينها المطلقة المنطبقة على مصداقها في الداخل أيضا و انما هي روايات خاصة واردة كلها في موارد النجاسات في الخارج و ليس لها إطلاق للمصداق الداخلي المذكور، و لا يقتضي الارتكاز العرفي التعدي و إلغاء الخصوصية لاحتمال الفرق عرفا بين الداخلي و الخارجي على حد الفرق بين ماء الريق و البصاق، و عليه فلا مقتضى لنجاسة الملاقي في مثل ذلك بل مقتضى القاعدة الطهارة سواء كان الملاقي داخليا أو خارجيا.

و قد يستدل على طهارة الملاقي الداخلي بالخصوص بتقريبات اخرى

كما في كلمات السيد الأستاذ- دام ظله.

منها- الاستناد الى ما دل على طهارة المذي أو البلل الخارج من فرج المرأة «1»

فإنه يلاقي مجرى البول و الدم و المنى فلو كانت ملاقاة شي‌ء من ذلك موجبة لنجاسة مواضعها الداخلية لكان البلل الملاقي لتلك المواضع محكوما عليه بالنجاسة لا محالة.

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 55 من أبواب النجاسات

 

 

 

39
بحوث في شرح العروة الوثقى3

و منها - الاستناد الى ما دل على عدم وجوب غسل ما عدا الظاهر في الاستنجاء و في دم الرعاف، ؛ ج‌3، ص : 40

و منها- الاستناد الى ما دل على عدم وجوب غسل ما عدا الظاهر في الاستنجاء و في دم الرعاف،

______________________________
ففي رواية إبراهيم بن ابى محمود «انما عليه ان يغسل ما ظهر منه»
«1» مع ان البواطن ملاقية للدم و الغائط و هذا يدل على عدم انفعالها.

و منها- أن النجاسة تستفاد من الأمر بغسلها

و لم يرد أمر بغسل البواطن فيستكشف من ذلك عدم انفعالها بالملاقاة «2».

أما التقريب الأول، فهو لا يثبت عدم انفعال الملاقي الداخلي و انما يثبت- على أفضل تقدير- إنه على فرض انفعاله ليس مما تبقى نجاسته بعد انفصاله عن عين النجاسة و زوالها عنه. و هذا متيقن على اي حال سواء قيل بالنجاسة أو لا، للفراغ عن ان البواطن إذا لاقت مع النجاسة لا تحتاج الى غسل لكي تطهر فأي محذور في فرض نجاسة المجرى بالملاقاة للبول و ارتفاع النجاسة عنه بزوال عين النجاسة عنه، بل في فرض نجاسة الرطوبة الخارجة نفسها عند ملاقاتها للبول و زوال النجاسة عنها بانفصالها عن البول.

و الحاصل ان تنجس الباطن بالملاقاة شي‌ء و عدم بقاء النجاسة بعد انفصال عين النجاسة شي‌ء آخر، و ما يثبت بالتقريب المذكور الثاني و ما يراد نفيه الأول.

فإن قيل: ان مقتضى إطلاق دليل طهارة البلل الخارج من فرج المرأة طهارته و لو كان المجرى متلوثا بالبول فعلا و هذا يعنى عدم انفعاله بملاقاة البول و هو المراد.

قلنا: ان الإطلاق المذكور لو سلم لا ينفى انفعال البلل عند ملاقاته للبول، غاية الأمر أنه يطهر بانفصاله عن عين النجاسة باعتباره شيئا باطنيا‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 24 من أبواب الماء المطلق

(2) التنقيح الجزء الأول ص 420


40
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الجهة الثانية: فيما إذا كان النجس داخليا بالمعنى الأعم ؛ ج‌3، ص : 41

..........

______________________________
ما لم يخرج فيكون زوال العين عنه من المطهرات، و هذا غير عدم الانفعال رأسا. هذا على أن دليل طهارة البلل المذكور ناظر مطابقة الى نفي النجاسة الذاتية و لا ينفى فرض النجاسة العرضية أحيانا. نعم لو التزم بنجاسته العرضية غالبا للزم حمل دليل الطهارة على أمر جهتي و حيثي غير مفيد في مقام العمل و هو خلاف ظاهر الدليل، فبدلالة الاقتضاء العرفية تنفى النجاسة العرضية أيضا بمقدار يخرج به مفاد الدليل عن كونه مجرد أمر جهتي غير عملي، و يكفي في ذلك الالتزام بعدم النجاسة العرضية في موارد عدم العلم بالملاقاة مع البول في الداخل و ان علم بالملاقاة مع المجرى لان المجرى لو تنجس يطهر بزوال العين.

و اما التقريب الثاني، فيرد عليه: أن نفي الأمر بغسل البواطن كما قد يكون بنكتة طهارة تلك الأشياء الداخلية و عدم تنجس البواطن كذلك قد يكون بنكتة أن نجاسة البواطن غير مضرة بالوظائف العملية الشرعية لأن المطلوب في الصلاة طهارة الظاهر فقط.

و اما التقريب الثالث ففيه ان نجاسة الباطن على تقدير ثبوتها لا إشكال في عدم احتياجها في مقام التطهير الى الغسل لكفاية زوال العين في طهارتها فلا يمكن ان يستكشف من عدم ورود أمر بغسل البواطن انها لا تتنجس أصلا.

فالعمدة في إثبات عدم النجاسة الرجوع الى الأصل بعد قصور أدلة النجاسات عن الشمول للبول و الدم الداخليين و أمثالهما.

الجهة الثانية: فيما إذا كان النجس داخليا بالمعنى الأعم

من قبيل الدم المتكون في فضاء الفم أو في داخل الأنف و كان الملاقي داخليا أيضا كالأسنان الملاقية لذلك الدم. و في مثل ذلك إذا منعنا من إطلاق أدلة نجاسة الدم و نحوه لمثل هذا المصداق الداخلي أيضا فلا إشكال في عدم الانفعال، و إذا سلمنا بالإطلاق المذكور فلا موجب أيضا للحكم بانفعال الملاقي لأن الحكم‌


41
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الجهة الثالثة: فيما إذا كان النجس خارجيا و كان الملاقي باطنيا و لو بالمعنى الأعم، ؛ ج‌3، ص : 42

..........

______________________________
بانفعاله انما يثبت بإطلاقات الأمر بالغسل و حيث ان من المفروغ عنه في البواطن عدم توقف طهارتها على الغسل و كفاية زوال العين في ارتفاع النجاسة عنها على تقدير انفعالها فلا تشملها الإطلاقات المزبورة، و مع عدم الشمول لا يبقى دليل على انفعال البواطن بالملاقاة، فيرجع الى القاعدة المقتضية للطهارة:

الجهة الثالثة: فيما إذا كان النجس خارجيا و كان الملاقي باطنيا و لو بالمعنى الأعم،

و في مثل ذلك لا إشكال في نجاسة الملاقي- بالفتح- لغرض كونه خارجيا، و لكن لا دليل على انفعال الباطن بملاقاته لنفس التقريب السابق حيث ان دليل الانفعال هو إطلاقات الأمر بالغسل و هي غير شاملة للبواطن حتى لو قيل بانفعالها بالملاقاة فلا يبقى دليل على تنجس الباطن بالملاقاة.

الجهة الرابعة: فيما إذا كان النجس داخليا بالمعنى الأعم

كما فرض في الجهة الثانية و كان الملاقي خارجيا، كما إذا أدخل الإنسان إصبعه إلى فمه فلاقى مع الدم في الداخل و لم يعلق به شي‌ء منه عند إخراجه و ثبوت التنجيس هنا موقوف على أمرين:

أحدهما، شمول دليل نجاسة الدم للدم الداخلي بالمعنى الأعم. و الآخر، عدم الفرق في الملاقاة المنجسة بين الملاقاة الواقعة في الخارج و الملاقاة الواقعة في الداخل. و الأمر الثاني تام على ما يأتي، و انما الكلام في الأمر الأول، إذ قد يقال: ان دليل نجاسة الدم كما يكون قاصراً عن الشمول للدم الداخلي بالمعنى الأخص كذلك يقصر عن الشمول للدم الداخلي بالمعنى الأعم. و قد يقال: بأن إطلاقات روايات الأمر بغسل ما اصابه الدم كافية لإثبات نجاسة الدم المفروض في المقام و انفعال الأمر الخارجي بملاقاته، إذ يصح ان يقال حين يدخل الشخص إصبعه في فمه فيلاقى الدم ان إصبعه اصابه الدم فتشمله إطلاقات الأمر بالغسل. و لكن الإنصاف، أن الحصول على إطلاقات تشمل محل الكلام في غاية الإشكال لأن الروايات التي فرض فيها‌


42
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الجهة الخامسة: فيما إذا كان الملاقي و الملاقي معا خارجيين ؛ ج‌3، ص : 43

..........

______________________________
ان الثوب و نحوه اصابه الدم مسوقة على الأكثر لبيان حكم طولي بعد الفراغ عن النجاسة، من قبيل الحكم بوجوب الإعادة على من صلى في ذلك الثوب و عدم وجوبها. و يأتي في بحث نجاسة الدم الاستشكال في أصل وجود إطلاق يدل على نجاسة كل دم فضلا عن أن يشمل الدم الداخلي. و لعل أحسن ما يدعى هناك من إطلاق قوله في موثقة عمار: «الا ان ترى في منقاره دما فلا تتوضأ و لا تشرب»
«1» و من الواضح ان هذا الإطلاق لو تم شموله لكل دم خارجي فلا يشمل محل الكلام.

الجهة الخامسة: فيما إذا كان الملاقي و الملاقي معا خارجيين

غير ان ظرف ملاقاتهما كان في الباطن، كما لو أدخل الإنسان إصبعه النجس الى فمه فلاقى مع إصبعه الآخر داخل فضاء الفم.

و الحكم بعدم التنجيس هنا موقوف على ان تتم دعوى احتمال الفرق عرفا بين الملاقاة بين شيئين في الخارج و الملاقاة بينهما في الداخل، بعد افتراض عدم الإطلاق اللفظي في أوامر الغسل. و كلا المطلبين محل تأمل بل منع. إذ لا وجه للمنع عن إطلاق الأمر بالغسل في رواية عمار لكل ما اصابه ذلك الماء من الأمور الخارجية سواء كانت الإصابة في الخارج أو الداخل. كما ان دعوى إلغاء العرف خصوصية الخارج و كون الملاقاة في هذا المكان أو ذاك لا غبار عليها.

لا يقال: هذا الارتكاز مناقض بارتكاز عدم الفرق بين ملاقاة الخارجيين في الباطن كملاقاة الإصبع مع دم محمول الى جوف الفم من الخارج و بين ملاقاة الخارجي مع الدم الداخلي في جوف الفم التي حكم فيها بعدم الانفعال كالدم الخارج من الأسنان فان كليهما بحسب النظر العرفي من سنخ واحد، و لعله اليه استند من أفتى بالطهارة في هذه الجهة.

فإنه يقال- أولا: انه يوجد احتمال الفرق بينهما، لما تقدم من اختلاف النظر العرفي في باب الاستقذارات بين المادة الخارجة عن موطنها و غير الخارجة.

و ثانيا: لو سلم ارتكاز عدم الفرق فهو يقتضي الحكم بالنجاسة في الصورتين لا الطهارة، لوضوح ان الحكم بالطهارة في المسألة الثانية لم يكن من جهة قيام الدليل عليه و انما كان من جهة عدم الدليل المثبت للنجاسة فلو فرضت الملازمة عرفا بينهما كانت أوامر الغسل دالة على النجاسة في المسألتين معا كما هو واضح.

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 4 من الأسئار


43
بحوث في شرح العروة الوثقى3

(مسألة - 2) لا مانع من بيع البول و الغائط من مأكول اللحم(1) ؛ ج‌3، ص : 44

(مسألة- 2) لا مانع من بيع البول و الغائط من مأكول اللحم (1)

و اما بيعهما من غير المأكول فلا يجوز (2) نعم يجوز الانتفاع بها في للتسميد و نحوه (3).

______________________________
(1) تمسكا بإطلاقات أدلة حلية البيع بعد فرض وجود المالية بلحاظ بعض المنافع المحللة، أو فرض إنكار دخل المالية في مفهوم البيع، أو تمسكا بإطلاقات صحة العقود و التجارات لو سلم تقوّم عنوان البيع بالمالية و عدمها في المقام، و لا مقيد لكل تلك الإطلاقات إلا النبوي المرسل «إذا حرم اللّه أكل شي‌ء حرم ثمنه
«1» و هو ساقط عن الحجية. و تفصيل الكلام في ذلك موكول الى محله.

(2) اما للإجماع، أو لعدم المالية، أو لقيام دليل على عدم جواز بيع النجس بعنوانه، أو للملازمة بين تحريم الشي‌ء و تحريم ثمنه المستفادة من النبوي المرسل، أو للروايات الخاصة المانعة في العذرة المبتلاة بالمعارض.

و كل هذه الوجوه لا يمكن التعويل عليها كما حققناه في محله، فالظاهر جواز بيعهما.

(3) لعدم تمامية ما استدل به المانعون على عدم جواز الانتفاع بالنجس و لو تم الدليل على ذلك لاقتضى سلب المالية عنه و بطلان بيعه و الصحيح عدم وجود دليل يقتضي المنع من سائر الانتفاعات بالنجس على نحو يحتاج جواز الانتفاع الى مخصص بل الأصل جواز الانتفاع الا حيث يقوم دليل على حرمته و لم يقم دليل على ذلك في المقام. و تفاصيل هذه المسائل موكولة إلى محلها.

______________________________
(1) المستدرك باب 6 من أبواب ما يكتسب به


44
بحوث في شرح العروة الوثقى3

(مسألة - 3) حكم الشك في الحيوان ؛ ج‌3، ص : 45

 

(مسألة- 3) [حكم الشك في الحيوان]

إذا لم يعلم كون حيوان معين انه مأكول اللحم أولا لا يحكم بنجاسة بوله و روثه (1).

______________________________
(1) تارة يكون الشك في نجاسة البول و الخرء من جهة الشك في كون الحيوان شاة فيكون مأكول اللحم أو ذئبا فلا يكون مأكولا، و هذه شبهة موضوعية. و اخرى يكون من جهة الشك في ان الحيوان المتولد من أبوين حلال و حرام هل يلحق بالحرام أو الحلال و هذه شبهة حكمية من حيث حلية اللحم و حرمته و ان كانت بلحاظ النجاسة قد يتراءى أنها شبهة موضوعية دائما لدليل نجاسة بول غير المأكول، غير انه سوف يتضح انه ليس بصحيح على إطلاقه.

و تفصيل الكلام في هذا الفرع: أنا تارة نفترض أخذ عنوان غير المأكول في دليل النجاسة بنحو المعرفية إلى العناوين التفصيلية من الحيوان المحرم، و أخرى نفترضه بنحو الموضوعية فالبحث يقع على تقديرين.

الأول: ما لو كان عنوان غير المأكول مأخوذا بنحو المعرفية إلى العناوين التفصيلية للحيوان،

(2) فوقع الشك في حلية لحم حيوان و حرمته بنحو الشبهة الموضوعية أو الحكمية. و البحث على هذا التقدير على مستوى الأصل اللفظي‌

 

 

 

45
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الأول: ما لو كان عنوان غير المأكول مأخوذا بنحو المعرفية إلى العناوين التفصيلية للحيوان، ؛ ج‌3، ص : 45

..........

______________________________
تارة و الأصل العملي اخرى.

اما الأصل اللفظي ففيما إذا كانت الشبهة موضوعية من جهة تردد الحيوان بين الشاة و الذئب مثلا، لا يوجد أصل لفظي يمكن ان يثبت به النجاسة أو الطهارة، لأن الشك في موضوع دليل النجاسة فلا يمكن التمسك به.

و اما إذا كانت الشبهة حكمية من جهة تردد الحيوان بين اللحوق بالحرام أو الحلال من أبويه، فالشبهة تكون حكمية أيضا بلحاظ دليل نجاسة غير المأكول لأن موضوعه واقع الحيوان غير المأكول من الذئب و السبع و نحوه، كما إذا قال اغسل من أبوال الكلب و الذئب و السبع.

و حينئذ إن تم مطلق فوقاني على نجاسة كل بول و خرج عنه بول المأكول، كان المقام من موارد الشك في التخصيص الزائد بعد إجمال المخصص المنفصل. فيتمسك فيه بالعام لإثبات النجاسة.

و إذا منعنا عن وجود مطلق فوقانى و كان المطلق الثابت في حدود غير المأكول من الحيوان أصبح المقام من موارد الشك في شمول العام و إجماله بالنسبة للمشكوك، فلا يمكن التمسك به لإثبات النجاسة.

و اما الأصل العملي فلا يفيد لإثبات الطهارة أو نفي النجاسة إجراء استصحاب عدم الحرمة بنحو العدم الأزلي الثابت قبل وجود الحيوان- على القول به في الاعدام الأزلية- أو إجراء أصالة الحل، إذ المفروض عدم ترتب الحكم على عنوان الحرام أو الحلال.

بل التحقيق ان يقال: ان الشك ان كان من جهة الاشتباه الخارجي و تردد الحيوان بين ان يكون ذئبا أو شاة، أمكن إجراء استصحاب عدم كونه ذئبا لنفي موضوع النجاسة لو كان دليل نجاسة البول موضوعه ما يحرم اكله بالخصوص، أو استصحاب عدم كونه شاة لإثبات موضوع‌


46
بحوث في شرح العروة الوثقى3

التقدير الثاني: أن يكون عنوان غير المأكول مأخوذا بنحو الموضوعية في دليل النجاسة ؛ ج‌3، ص : 47

 

..........

______________________________
النجاسة لو كان موضوعه مطلق البول خرج منه ما يحل اكله.

و قد يتوهم: عدم جريان هذه الاستصحابات للإعدام الأزلية في المقام على أساس أن المشكوك عنوان ذاتي و ليس عرضيا، بناء على التفصيل في جريان استصحاب العدم الأزلي بين العناوين الذاتية و غيرها.

و يندفع هذا التوهم: بأن موضوع الحكم هو العنوان العرفي للذئب و الشاة مثلا، و لا شك في تقومه بجملة من الخصوصيات العرضية القابلة لاستصحاب العدم الأزلي حتى عند من يقول بالتفصيل المذكور.

و اما إذا كانت الشبهة من جهة الشك في حلية الحيوان المتولد من أبوين مختلفين- و المفروض عدم تخصيل دليل اجتهادي على الحلية إثباتا و نفيا- فبالامكان إثبات الحكم بالطهارة باستصحاب عدم نسخها الثابت في أول عصر التشريع حيث امضى ما كان على العرف و العقلاء أولا ثم استثنى عنه شيئا فشيئا. بناء على ان لا يكون هنالك استقذار عرفي لبول الحيوان المتولد على نحو يمنع عن استفادة إمضاء الحكم بالطهارة.

و اما التمسك بأصالة الطهارة فسوف نبحث عن تماميتها في التقدير الآتي.

التقدير الثاني: أن يكون عنوان غير المأكول مأخوذا بنحو الموضوعية في دليل النجاسة

و البحث هنا أيضا فيما تقتضيه الأدلة الاجتهادية تارة، و الأصل العملي اخرى.

اما الدليل الاجتهادي،

فقد يقال فيه بأن التمسك بمطلقات نجاسة البول الفوقانية- بناء على القول بها- متعذر حتى لو كانت الشبهة في حلية الحيوان و حرمته حكمية، لأن الشبهة بلحاظ ما هو موضوع نجاسة البول و طهارته مصداقية بين العام و مخصصة، لأن الحرمة و الحلية موضوعان للنجاسة و الطهارة.

و لكن الصحيح إمكان التمسك بعموم نجاسة البول- لو تم في نفسه-

 

 

 

47
بحوث في شرح العروة الوثقى3

و أما الأصل العملي. ؛ ج‌3، ص : 48

..........

______________________________
إذا كانت الشبهة في حرمة الحيوان و حليته حكمية- كما في المتولد من أبوين مختلفين- و ذلك بناء على ما سلكناه و حققناه في الأصول من جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية لمخصصه فيما إذ كانت شبهة حكمية في نفسها
«1» و في المقام. الشك في حلية الحيوان و حرمته شبهة حكمية في نفسها و ان كانت مصداقية بلحاظ العام المخصص فيجوز التمسك فيها بالعام.

غير أن هذا البيان موقوف على ان يكون دليل نجاسة البول قد دل على ذلك بالعموم لا بالإطلاق فإنا إنما صححنا التمسك بالعام في الشبهة المصداقية لمخصصه في العمومات دون المطلقات. مع انك عرفت عدم تمامية ما يدل على نجاسة البول بالإطلاق فضلا عن العموم. و عليه فلا أصل على مستوى الأدلة الاجتهادية يمكن التمسك به لإثبات النجاسة أو الطهارة في المقام.

و أما الأصل العملي.

فإن كانت الشبهة حكمية كالحيوان المتولد من حلال و حرام، فان فرض وجود عموم يدل على حلية كل حيوان أو حرمته الا ما خرج بالتخصيص كان هو المرجع و به يتنقح موضوع دليل الطهارة أو النجاسة. و ان لم يكن هناك عموم من ذلك القبيل فالمرجع استصحاب عدم الحرمة الثابت و لو في صدر التشريع، بناء على جريان استصحاب عدم النسخ، و به يتنقح موضوع نفي النجاسة أو الحكم بالطهارة، و لو لم على جريان استصحاب عدم النسخ كان المرجع أصالة الحل و حيث أنها أصل تنزيلي فيترتب عليها آثار الحلية الواقعية التي منها طهارة المدفوع.

نعم لو لم نبن على تنزيليتها، أو بنينا على أصالة الاحتياط في اللحوم تعذر تنقيح موضوع الحكم بالطهارة بالأصل و تعين الرجوع الى أصل حكمي كأصالة الطهارة على تقدير جريانها في أمثال المقام على ما سنشير اليه.

______________________________
(1) راجع الجزء الأول من هذا الكتاب هامش ص 45


48
بحوث في شرح العروة الوثقى3

و أما الأصل العملي. ؛ ج‌3، ص : 48

..........

______________________________
و ان كانت الشبهة موضوعية، فإن فرض وجود عموم يدل على حرمة كل حيوان و خرج منه بالتخصيص ما خرج أمكن إجراء استصحاب العدم الأزلي لعنوان المخصص كاستصحاب عدم الغنيمة مثلا، و بذلك يثبت موضوع الحرمة و في طول ذلك يثبت موضوع النجاسة، و إن فرض وجود عموم يدل على حلية كل حيوان، خرج منه بالتخصيص ما خرج أمكن إجراء استصحاب العدم الأزلي لعنوان المخصص كاستصحاب عدم السبعية مثلا و بذلك يثبت موضوع الحلية و في طول ذلك تثبت الطهارة. و ان فرض عدم العموم من الطرفين و انما دل الدليل على حلية بعض الحيوانات و حرمة بعضها فالمرجع حينئذ استصحاب عدم الحرمة بنحو العدم الأزلي أو أصالة الحل، و في كيفية إثبات الطهارة و نفي النجاسة بهما اشكال حتى مع فرض أصالة الحل أصلا تنزيليا، لان اجراءهما في شخص هذا الفرد المشكوك يثبت حليته الواقعية تعبدا، فان كان موضوع نفي النجاسة عدم حرمة الحيوان شخصا ثبت هذا الموضوع و اما إذا كان الموضوع عدم حرمته نوعا اي عدم كونه من نوع محرم فلا يثبت هذا الموضوع بإجراء الأصل في شخص هذا الحيوان، بل لا بد من محاولة إجراءه حينئذ في نوع هذا الفرد المردد على إجماله و تردده بين ما هو معلوم الحلية و ما هو معلوم الحرمة فإن منع عن مثل ذلك في أصالة الحل أيضا كما يمنع عن استصحاب المردد تعين الرجوع الى الأصول الحكمية كاستصحاب عدم النجاسة الأزلي و كأصالة الطهارة في مدفوع الحيوان المشكوك، بناء على جريان القاعدة في موارد الشك في النجاسة الذاتية و في حالة كون المشكوك النجاسة من أول الأمر. و قد مر تحقيق ذلك مفصلا في مباحث قاعدة الطهارة في الجزء الثاني من هذا الشرح
«1».

______________________________
(1) راجع الجزء الثاني ص 199


49
بحوث في شرح العروة الوثقى3

و تحقيق الكلام في حكم أكل لحم الحيوان المشكوك: ؛ ج‌3، ص : 50

و ان كان لا يجوز أكل لحمه بمقتضى الأصل (1)

______________________________
(1) لأن الأصل سواء أريد به أصالة الاحتياط في اللحوم أو استصحاب الحرمة الثابتة قبل الذبح لا يثبت الحرمة الذاتية الواقعية و لو تعبدا لكي يكون منقحا لموضوع الحكم بالنجاسة، اما أصالة الاحتياط فواضح، لان مفادها وجوب الاحتياط و هو لا يثبت الحكم الواقعي و لو تعبدا، و اما الاستصحاب المذكور فلأنه يثبت الحرمة الفعلية بعد ذبح الحيوان و لا يثبت كونها حرمة بعنوانه الذاتي الا من باب الملازمة و الأصل المثبت.

و تحقيق الكلام في حكم أكل لحم الحيوان المشكوك:

أنه لو أحرز قابليته للتذكية و شك في حليته و حرمته الذاتية فالمرجع العملي أصالة الإباحة سواء كانت الشبهة حكمية أو موضوعية. و المرجع الاجتهادي عمومات و إطلاقات الحل إذا كانت الشبهة حكمية من قبيل قوله تعالى قُلْ لٰا أَجِدُ فِي مٰا أُوحِيَ إِلَيَّ. إلخ «1». و لا يوجد في مقابل الرجوع الى أصالة الإباحة إلا دعوى تخصيص أدلتها بأصالة الحرمة في اللحوم أو دعوى حكومة استصحاب الحرمة الثابتة حال الحياة قبل تذكيته فإنه كان محرما قبل التذكية على أي حال و يشك في زوال تلك الحرمة بالتذكية فتستصحب حرمته.

اما الدعوى الاولى

فلا دليل عليها لعدم ثبوت أصالة الحرمة في اللحوم بدليل معتبر ليخصص به عموم أصالة الحل.

و اما الدعوى الثانية، فقد يورد عليها بوجوه.

الأول

ان الحرمة المعلومة حال حياة الحيوان كانت بعنوان عدم التذكية و المفروض قابلية الحيوان لها و وقوعها، و معه يقطع بارتفاع تلك الحرمة بارتفاع موضوعها فيمتنع استصحابها «2».

______________________________
(1) الانعام: 145

(2) التنقيح ج 1 ص 437


50
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الثاني ؛ ج‌3، ص : 51

..........

______________________________
و التحقيق ان حيثية عدم التذكية المأخوذة في موضوع الحرمة المجعولة على هذا العنوان اما ان تكون حيثية تعليلية عرفا غير مكثرة للموضوع و اما ان تكون حيثية تقييدية و موجبة لتعدد الموضوع، فعلى الثاني يمتنع جريان الاستصحاب لأجل عدم وحدة الموضوع. و على الأول يكون الموضوع واحدا و بوحدته تعتبر الحرمة المشكوكة بقاء للحرمة المعلومة و ان كان كل منهما مجعولا بجعل مغاير لجعل الآخر، لأن مناط الحدوث و البقاء في استصحاب المجعول انما هو الموضوع الذي له حدوث و بقاء و يكتسب المجعول بتبعه الحدوث و البقاء فالمجعول إذا لوحظ في عالم وجود الموضوع فلا يتعدد بتعدد الجعل بل بتعدد الموضوع و الجعل يرى عرفا كحيثية تعليلية لوجوده على موضوعه و المفروض وحدة الموضوع في المقام. و إذا لوحظ في عالم الجعل فليس له حدوث و بقاء أصلا في هذا العالم و لا معنى لإجراء استصحابه بلحاظ هذا العالم. و بتعبير آخر: أن المجعول إذا لوحظ وجوده الحقيقي بالذات الثابت بنفس الجعل فلا محالة يتعدد و يتغاير بتعدد الجعل و تغايره و لكنه بهذا اللحاظ لا يتصور له حدوث و بقاء فلا يمكن اجراء الاستصحاب في الشبهات الحكمية بهذا اللحاظ، و إذا لوحظ ما للمجعول من نحو ثبوت تابع لفعلية وجود موضوعه فهذا النحو من الثبوت يتصف بالحدوث و البقاء تبعا لاتصاف الموضوع بذلك و هذا النحو من الثبوت يكون الجعل بالنسبة إليه بمثابة الحيثية التعليلية فلا يتغاير و يتعدد بتعدد الجعل بل بتعدد الموضوع فمع تعدد الجعل تنحفظ الوحدة في الحرمة المجعولة و يجرى استصحابها كما هو الحال فيما إذا كان بياض جسم ثابتا حدوثا بعلة و احتمل بقاؤه بعلة أخرى فيجري استصحابه.

الثاني

ان الاستصحاب المذكور من القسم الثالث من استصحاب الكلي و ذلك لأن الحرمة المحتملة التي يراد تنجيزها بالاستصحاب هي الحرمة‌


51
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الثاني ؛ ج‌3، ص : 51

..........

______________________________
الذاتية، و من الواضح أنها على تقدير ثبوتها تكون موجودة من أول الأمر مع وجود الحرمة الأخرى التي كانت ثابتة بعنوان عدم التذكية و متى كان المشكوك على تقدير وجوده ثابتا من أول الأمر على نحو يكون معاصرا للمتيقن السابق، فيمتنع اجراء استصحاب شخص الحرمة السابقة المتيقنة و يتعين اجراء استصحاب جامع الحرمة و هو من القسم الثالث من استصحاب الكلي لأنه جامع بين فرد معلوم الارتفاع و فرد مشكوك الوجود من أول الأمر. و الفرق بين هذا الوجه و سابقه أن نكتة امتناع استصحاب شخص الحرمة المتيقنة سابقا في ذلك الوجه هو تعدد الجعل بقطع النظر عن المعاصرة بين المجعولين، و النكتة هنا ان المعاصرة بين المشكوك و المتيقن تمنع عن صدق كون أحدهما بقاءا للآخر.

و يرد عليه: ان هذا مبني على ان يكون دليل الحرمة الثابتة بعنوان عدم التذكية شاملا للحيوانات المحرمة ذاتا أيضا، و اما إذا قيل باختصاصه بالحيوان الذي يحل بالتذكية لوروده في ذلك المورد فلا تحتمل المعاصرة بين الحرمتين بل يعلم إجمالا بثبوت احدى حرمتين على الحيوان المشكوك قبل الذبح اما حرمة بملاك العنوان الذاتي و اما حرمة بملاك عنوان عدم التذكية، و هذا المعلوم الإجمالي يحتمل بقاؤه لأنه على تقدير باق و على تقدير مرتفع فيجري استصحابه.

هذا مضافا الى أننا لو التزمنا بشمول دليل الحرمة الثابتة بعنوان عدم التذكية للحيوانات المحرمة ذاتا فهذا لا يقتضي ثبوت الحرمة المتيقنة و الحرمة المشكوكة في وقت واحد قبل الذبح على الحيوان المشكوك لو كان حراما ذاتا في الواقع لكي يمتنع ان يكون المشكوك بقاء للمتيقن بل يلتزم بثبوت حرمة واحدة مؤكدة بناء على التأكد عند اجتماع فردين من حكم واحد و هذا يوجب بطلان النكتة التي كانت تسبب عدم صدق عنوان البقاء على الحرمة‌


52
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الثالث ؛ ج‌3، ص : 53

..........

______________________________
المشكوكة إذ لا يكون في الحيوان المشكوك قبل الذبح الا حرمة واحدة و هي اما حرمة مؤكدة إذا كان الحيوان محرم الأكل ذاتا و اما حرمة غير مؤكدة إذا لم يكن الحيوان كذلك و تعتبر الحرمة المشكوكة بعد الذبح بقاء لها و ان لم يكن لها ذلك التأكد المحتمل في الحرمة المتيقنة فيجري الاستصحاب.

و دعوى استحالة التأكد بين الحرمتين في أمثال المقام لأن الحرمة الناشئة من الخصوصية الذاتية ليست في رتبة الحرمة الناشئة عن الجهة العرضية و هي عدم التذكية فلا يمكن تأكدهما المساوق لوحدتهما مع تعدد الرتبة. مدفوعة، بأنه لا موجب للطولية بين الحرمتين رتبة لمجرد الطولية بين الموضوعين فان كلا من الحرمتين في طول موضوعها و في طول ما يكون موضوعها متأخرا عنه رتبة و ليست في طول الحرمة الأخرى.

الثالث

ان الاستصحاب المذكور انما يجري لو سلم في مقابل أصالة الحل و لا يجري في الشبهة الحكمية في مقابل عمومات الحل و لا في الشبهة الموضوعية في مقابل الاستصحاب الموضوعي المنقح لموضوع الحلية و ذلك لان كل حيوان حكم عليه بالحلية بمقتضى العمومات الا ما خرج فيجري استصحاب العدم الأزلي للعنوان المخصص و يكون هذا الاستصحاب موضوعيا و حاكما على استصحاب الحرمة.

الرابع

ما ذكره السيد الأستاذ- دام ظله- من إنكار الحالة السابقة رأسا لعدم قيام الدليل على حرمة أكل الحيوان الحي، و انما الثابت حرمة أكل الميت الا ما ذكي فالحرمة بملاك عدم التذكية موضوعها ليس مطلق الحيوان بل موضوعها الحيوان الميت غير المذكى فلا علم بالحرمة السابقة لكي تستصحب «1». و هذا اعتراض متين، و معه يسقط الاستصحاب المذكور.

هذا كله فيما إذا كان الشك في حلية الحيوان و حرمته بعد إحراز‌

______________________________
(1) التنقيح ج 1 ص 437


53
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الرابع ؛ ج‌3، ص : 53

..........

______________________________
قابليته للتذكية، فقد اتضح ان المرجع في الشبهة الحكمية عمومات الحل، و في الشبهة الموضوعية أصالة الحل و كذلك يجري أيضا الاستصحاب الموضوعي المثبت للحلية و استصحاب عدم الحرمة، بناء على جريان الاستصحاب في الاعدام الأزلية.

و اما إذا كان أصل قابلية الحيوان للتذكية مشكوكة، فتارة تكون الشبهة موضوعية كما إذا شك في ان الحيوان غنم أو خنزير، و اخرى تكون حكمية، ففيما إذا كانت الشبهة موضوعية، ان قلنا بأن التذكية عبارة عن نفس فعل الذابح بلا قيد فهو خلف الفرض لأن معناه إحراز القابلية للتذكية و الشك في الحرمة من غير تلك الناحية فيدخل في الكلام المتقدم. و ان قلنا بأن التذكية عبارة عن فعل الذابح المقيد بخصوصية في الحيوان، أو عن اعتبار شرعي مترتب على ذلك الفعل مع تلك الخصوصية كان استصحاب عدم تلك الخصوصية- و لو بنحو العدم الأزلي- تام الأركان في نفسه و كذلك استصحاب عدم ذلك الاعتبار الشرعي المسبب، و نسبة الاستصحاب الثاني إلى الاستصحاب الأول نسبة الاستصحاب الحكمي إلى الموضوعي. و لكن الكلام في ان هذا الاستصحاب الموضوعي أو الحكمي النافي للتذكية هل تترتب عليه الحرمة أو لا أثر له فيلغو جريانه؟

و تفصيل ذلك: ان موضوع الحكم بالحرمة ان أخذ مركبا من موت الحيوان و عدم تذكيته أمكن إثبات الحرمة في المقام بإجراء الاستصحاب المذكور، إذ يحرز به الجزء الثاني و الجزء الأول محرز وجدانا، و يكون الاستصحاب الحكمي، أي استصحاب عدم المسبب، جاريا حتى عند من لا يقول بإجراء الاستصحاب في الاعدام الأزلية. نعم الاستصحاب الموضوعي و هو استصحاب عدم الخصوصية الدخلية في التذكية يكون من استصحاب العدم الأزلي إذا كانت الخصوصية المشكوكة من الخصوصيات المحتمل حدوثها‌


54
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الرابع ؛ ج‌3، ص : 53

..........

______________________________
مع الحيوان. و إذا كان موضوع الحرمة عدم تذكية الميت، اي عدم التذكية المضافة إلى الميت بما هو ميت جرى الاستصحاب أيضا و ثبت به الحرمة، غير انه يكون من استصحاب العدم الأزلي على اي حال لان عدم تذكية الميت غير محرز الا بانتفاء الموت. و إذا كان موضوع الحرمة عدم التذكية المضاف الى الميت بما هو ميت اي العدم النعتي للتذكية الملحوظ بما هو وصف للميت فلا يمكن إثبات الحرمة باستصحاب عدم التذكية، لأنه من إثبات العدم النعتي باستصحاب العدم المحمولي و هو متعذر.

و على جميع هذه المحتملات لا يمكن إثبات النجاسة بالاستصحاب المذكور، لان موضوعها في أدلتها عنوان الميتة لا مجرد عدم التذكية، و لا يثبت عنوان الميتة باستصحاب عدم التذكية.

و لا شك ان الأخير من الاحتمالات المذكورة ساقط جدا، لأن لسان (الا ما ذكيتم) لا يقتضي أخذ العدم النعتي للتذكية في موضوع الحكم بالحرمة، بل غاية ما يقتضيه الاستثناء أخذ نقيض المستثنى في موضوع حكم العام فيكون المأخوذ العدم المحمولي للتذكية، و حينئذ ان كانت التذكية المأخوذ عدمها المحمولي في الموضوع قد لوحظت مضافة الى الميت بما هو ميت تعين الاحتمال الثاني، و ان كانت قد لوحظت مضافة الى ذات الحيوان تعين الاحتمال الأول، و هناك تتمة تفصيل و تحقيق سوف تأتي الإشارة إليها في أبحاث الميتة.

و اما إذا كانت الشبهة حكمية كما إذا شك في قابلية نوع مخصوص من الحيوان للتذكية- بناء على أن التذكية ليست مجرد فعل الذابح الذي لا شك في قابلية الحيوان له- فان كانت هناك عمومات دالة على قابلية الحيوان للتذكية إلا ما خرج فهي المرجع، و الا فإن كانت التذكية اعتبارا مسببا عن فعل الذابح جرى استصحاب عدم التذكية مع أخذ الاحتمالات‌


55
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الرابع ؛ ج‌3، ص : 53

..........

______________________________
السابقة في دليل حرمة غير المذكى بعين الاعتبار، و ان كانت التذكية نفس فعل الذابح مع الخصوصية امتنع اجراء استصحاب عدم التذكية، إذ لا شك في خصوصيات الحيوان و انما الشك في تقيد التذكية شرعا بغيرها، فالمتعين حينئذ هو الرجوع الى أصالة الحل.

و اما تحقيق الحال في وجود عمومات دالة على قابلية الحيوانات للتذكية فقد استدل السيد الأستاذ- دام ظله- على وجود عموم كذلك برواية علي ابن يقطين قال: «سألت أبا الحسن (ع) عن لباس الفراء و السّمور و الفنك و الثعالب و جميع الجلود. قال: لا بأس بذلك» «1» بتقريب ان معنى نفي البأس في جميع الجلود أنه لا مانع من لبسها مطلقا و لو في حال الصلاة فتدل بالدلالة الالتزامية على تذكيتها، إذ لو لم تكن كذلك لم يجز لبسها، اما مطلقا لو قلنا بعدم جواز الانتفاع بالميتة، أو في خصوص حال الصلاة.

و كل ما ثبت من الخارج عدم قابليته للتذكية يكون خارجا بالتخصيص عن العموم المذكور «2».

و يرد على ذلك: أولا- انه إذا بنى على عدم حرمة الانتفاع بالميتة في غير حال الصلاة لا يتم هذا الاستدلال، لوضوح ان النظر في السؤال و الجواب الى لبس تلك الأشياء من حيث الجواز التكليفي و الحرمة، و لا نظر الى الجواز الوضعي لاستعمالها في الصلاة. و لهذا حكم الامام (ع) بنفي البأس مع ان جملة من العناوين المأخوذة في مورد السؤال مما لا يؤكل لحمه و هو مما لا تجوز الصلاة فيه على اي حال و لو كان قابلًا للتذكية، فحال الرواية حال ما لو سأل شخص عن شرب الحليب فأجيب بالجواز فإنه لا يستفاد من ذلك جوازه وضعا في الصلاة أيضا، و ان كانت الاستفادة‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 5 من أبواب لباس المصلى

(2) التنقيح ج 1 ص 439


56
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الرابع ؛ ج‌3، ص : 53

و كذا إذا لم يعلم ان له دما سائلا أم لا (1).

______________________________
في المقام أقل غرابة منها في هذا المثال. لأن من يلبس الشي‌ء يصلى فيه عادة فقد يقال على هذا الأساس ان النظر المطابقي و ان كان الى الحكم التكليفي و لكن يدل بالملازمة العرفية على عدم بطلان الصلاة في تلك الملابس أيضا.

و ثانيا- ان الرواية المذكورة تدل على جواز استعمال كل الجلود، و لا شك في ان دليل عدم جواز استعمال غير المذكى يكون مخصصا لذلك العموم فاذا شك في كون حيوان مذكى أو لا للشك في قابليته للتذكية كان شبهة مصداقية لذلك العموم فمن يقول بعدم جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية مطلقا لا يمكنه ان يتمسك في المقام بالعام لنفي عنوان المخصص عن الفرد المشكوك. نعم من يرى جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية فيما إذا كانت الشبهة المصداقية للعام شبهة حكمية في نفسها جاز له التمسك المذكور، لان الشك في قابلية الحيوان للتذكية في المقام شبهة حكمية في نفسها و ان كان شبهة مصداقية بلحاظ العام المخصص.

و الأولى اقتناص عموم دال على قابلية الحيوان للتذكية من مثل موثقة سماعة قال «سألته عن جلود السباع ينتفع بها؟ قال: إذا رميت و سميت فانتفع بجلده، و اما الميتة فلا» «1» غير ان هذا العموم مخصوص بالسباع و يتعدى منه بمقدار ما تساعد عليه القرائن المتصلة أو المنفصلة، فإن ظاهر جواب الامام (ع) بقرينة المقابلة بين الرمي و التسمية و بين الميتة ان الحكم بعدم البأس في الانتفاع بالجلد في فرض الرمي و التسمية انما هو بلحاظ حصول التذكية بذلك و هذا هو المطلوب و لا يؤثر فيه ان يكون النهي عن الانتفاع في غير فرض الرمي و التسمية إلزاميا أو تنزيهيا.

(1) لقاعدة الطهارة إذا قيل بجريانها في أمثال المقام من موارد الشك في النجاسة الذاتية للشي‌ء، أو لاستصحاب عدم النجاسة الأزلي، أو لاستصحاب موضوعي هو استصحاب عدم كون الحيوان ذا نفس سائلة نظرا الى أن موضوع النجاسة أمر وجودي و هو كونه ذا نفس سائلة كما يتحصل من ضم عموم نجاسة البول الى المخصص الذي حصر النجاسة بعنوان وجودي هو عنوان ذي النفس السائلة، فمع الشك يجرى استصحاب عدمه الأزلي و تنفى بذلك النجاسة. و كل ذلك بناء على عدم شمول أدلة النجاسة لمدفوع ما لا نفس له و الا فلا مجال لفرض المسألة.

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 49 من أبواب النجاسات


57
بحوث في شرح العروة الوثقى3

حكم الشك في شي‌ء أنه من فضلة حلال اللحم أو حرامه و أمثاله ؛ ج‌3، ص : 58

[حكم الشك في شي‌ء أنه من فضلة حلال اللحم أو حرامه و أمثاله]

كما أنه إذا شك في شي‌ء انه من فضلة حلال اللحم أو حرامه (1) أو شك في انه من الحيوان الفلاني حتى يكون نجسا أو من الفلاني حتى يكون طاهرا، كما إذا رأى شيئا لا يدري أنه بعرة فأر أو بعرة خنفساء (2) ففي جميع هذه الصور يبنى على طهارته.

______________________________
(1) كما إذا شك في انه من فضلة الغنم أو الهرة فتجري قاعدة الطهارة بناء على شمولها لأمثال المقام. كما يجرى استصحاب عدم النجاسة الأزلي الثابت قبل صيرورة الشي‌ء المشكوك فضلة.

(2) فتجري قاعدة الطهارة أو استصحاب العدم الأزلي للنجاسة و يشكل في المقام الاستصحاب الموضوعي الذي أشرنا إليه فيما إذا شك في كون الحيوان ذا نفس سائلة أم لا، إذ لا شك هنا في كون الفأر ذا نفس و الخنفساء ليست كذلك، و انما الشك في انتساب العذرة إلى أحدهما، فيكون اجراء الاستصحاب المذكور في الحيوان هنا من استصحاب الفرد المردد بخلافه في الفرض الأول من فروض المسألة الذي يتعين فيه انتساب الفضلة إلى حيوان و يشك في حاله.


58
بحوث في شرح العروة الوثقى3

(مسألة - 4) حكم فضلة الحية و الحيوانات البحرية ؛ ج‌3، ص : 59

 

(مسألة- 4) [حكم فضلة الحية و الحيوانات البحرية]

لا يحكم بنجاسة فضلة الحية لعدم العلم بأن دمها سائل (1). نعم حكى عن بعض السادة أن دمها سائل و يمكن اختلاف الحيات في ذلك و كذا لا يحكم بنجاسة فضلة التمساح للشك المذكور و ان حكي عن الشهيد ان جميع الحيوانات البحرية ليس لها دم سائل إلا التمساح، لكنه غير معلوم و الكلية المذكورة أيضا غير معلومة.

الثالث- المنى

من كل حيوان له دم سائل حراما كان أو حلالا، بريا أو بحريا (2)

______________________________
(1) يندرج الشك المذكور في الفرض الأول من الفروض المتقدمة في ذيل المسألة السابقة.

(2) تارة يتكلم في نجاسة المني بنحو القضية المهملة و اخرى يبحث عن حدودها، فهنا مقامان.

المقام الأول: في إثبات نجاسته في الجملة

و هو ما لا اشكال فيه فتوى بين الأصحاب. و قد استدل عليه بعدة روايات. كرواية محمد بن مسلم عن ابي عبد اللّه (ع) قال: «ذكر المنى و شدده و جعله أشد من البول.

ثم قال: إن رأيت المني قبل أو بعد ما تدخل في الصلاة فعليك إعادة الصلاة، و ان نظرت في ثوبك فلم تصبه ثم صليت فيه ثم رأيته بعد فلا اعادة عليك و كذلك البول» «1».

و هي باعتبار تشبيهها للمني بالبول، بل جعله أشد منه تكون واضحة الدلالة على نجاسته.

و في قبال هذه الروايات طائفة أخرى يظهر منها عدم نجاسة المني.

ففي صحيحة زرارة انه قال: «سألته عن الرجل يجنب في ثوبه أ يتجفف‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 16 من أبواب النجاسات

 

 

 

59
بحوث في شرح العروة الوثقى3

المقام الأول: في إثبات نجاسته في الجملة ؛ ج‌3، ص : 59

..........

______________________________
فيه من غسله؟ فقال: نعم لا بأس به الا ان تكون النطفة فيه رطبة، فإن كانت جافة فلا بأس»
«1» فإنه يستفاد من نفى البأس عن التجفيف مع افتراض رطوبة البدن عدم نجاسة الثوب الملاقي مع المنى و اما استثناءه صورة رطوبة النطفة في الثوب فلعله للتنزه عن علوقها، لوضوح عدم الفرق في السراية بين فرضي رطوبة الملاقي أو الملاقي.

و حملها على ما إذا لم يكن التنشف بموضع المنى- كما فعله الشيخ قده- في غاية البعد، إذ يأباه تفصيل الامام (ع) بين صورتي جفاف النطفة و رطوبتها.

و مثلها أيضا رواية أبي أسامة قال: «قلت لأبي عبد اللّه (ع) تصيبني السماء و علىّ ثوب فتبله و أنا جنب فيصيب بعض ما أصاب جسدي من المنى، أ فأصلى فيه؟ قال: نعم» «2».

و هي أيضا واضحة الدلالة على نفي البأس عن الصلاة في ملاقي المني مع الرطوبة فتدل على عدم نجاسته.

و كذلك أيضا روايتا الشحام و ابي أسامة عن ابي عبد اللّه (ع): «عن الثوب يكون فيه الجنابة فتصيبني السماء حتى يبتّل علىّ؟ قال: لا بأس» «3» و حمل قوله- يكون فيه الجنابة على وقوع الجنابة فيه لا وجود أثر الجنابة عليه فعلا فيكون محط النظر فيها الحزازة النفسية في ذلك بعيد، لظهور قوله- يكون فيه الجنابة- في فعلية الجنابة في الثوب لا مجرد حدوثها فيه و ذلك لا يكون الا بان يراد بالجنابة الأثر الذي يتقذر به الثوب لا حدث الجنابة- و كذلك يبعد حملها على أن نفي البأس بملاك تطهير المطر للثوب،

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 27 من أبواب النجاسات.

(2) وسائل الشيعة باب 27 من أبواب النجاسات

(3) وسائل الشيعة باب 16، 27 من أبواب النجاسات


60
بحوث في شرح العروة الوثقى3

المقام الأول: في إثبات نجاسته في الجملة ؛ ج‌3، ص : 59

..........

______________________________
باعتبار ان الجنابة في الثوب من البعيد زوالها بمجرد الابتلال بالمطر من دون فرض شي‌ء من الفرك و العناية في مقام التطهير.

و التحقيق: ان في الروايات المذكورة جميعا توجد قرينة عرفية على ان النظر سؤالا و جوابا ليس الى الحكم بنجاسة أصل المني و طهارته.

و تفصيل ذلك: أن السائل قد فرض المني في ثوبه تارة، كما في الاولى و الثالثة، أو في بدنه اخرى، كما في الثانية، و بعد ذلك فرض ملاقاة الجسد للثوب الذي فيه المني، أو الثوب للجسد الذي عليه المنى، فلو كان نظر السائل إلى الاستفهام عن أصل حكم المنى لما احتاج التعبير عن هذا الاستفهام الى فرض ملاقاة الجسد للثوب أو الثوب للجسد وراء فرض ملاقاة المني لأحدهما مباشرة، بل يكفى للتعبير عن ذلك نفس الفرض الأول لوقوع المنى على أحد الأمرين، لأن المكلف بحاجة إلى طهارة بدنه و ثوبه معا، و انما تصح الاستعانة بفرض ملاقاة أخرى في مقام الاستفهام فيما إذا كانت الملاقاة الاولى مع شي‌ء لا يدخل في محل الابتلاء طهارته و نجاسته، فلو قال السائل: أصاب البول الأرض فوقع ثوبي عليها أمكن ان يكون النظر الى استعلام حال أصل البول من حيث الطهارة و النجاسة، و يفسر افتراضه للملاقاة الثانية و عدم اكتفائه بفرض ملاقاة البول للأرض بأنه يقصد إيصال الملاقاة الى ما يلزم طهارته و هو الثوب و البدن. و اما لو قال: أصاب البول بدني فأصاب بدني الثوب لم يفهم منه عرفا كون النظر الى استعلام حال أصل البول، إذ يكفي في ذلك فرض الملاقاة الاولى، بل يكون ضم فرض الملاقاة الثانية في كلام السائل قرينة على ان المقصود استعلام حيثية كانت تتوقف على فرض الملاقاة الثانية من قبيل حيثية أن المتنجس بالبول ينجس أو لا. و مقامنا من هذا القبيل، فيكون ما ذكرناه قرينة على الفراغ في تلك الروايات عن أصل نجاسة المنى و كون النظر إلى حيثية أخرى كحيثية‌


61
بحوث في شرح العروة الوثقى3

المقام الأول: في إثبات نجاسته في الجملة ؛ ج‌3، ص : 59

..........

______________________________
ان الثوب المتنجس بالمني ينجس أو لا، أو حيثية تشخيص الوظيفة عند الشك في الملاقاة مع فرض الرطوبة و نحو ذلك.

و عليه، فان تمت هذه القرينة و لو بنحو توجب الإجمال على أقل تقدير فلا اشكال، و الا وقعت المعارضة بين روايات النجاسة و روايات الطهارة، و التخلص من مأزق هذه المعارضة يكون بأحد وجوه.

الأول: حمل روايات الطهارة على التقية، باعتبار موافقتها مع فتاوى الشافعية و الحنابلة.

و فيه: أن هذين المذهبين قد نشئا في زمان متأخر عن صدور هذه الروايات، حيث انها صادرة عن الصادق (ع) بينما نشأة المذهبين متأخرة عن زمانه (ع). و اما احتمال كون الفتوى المتأخرة بالطهارة امتدادا لشيوع ذلك بين فقهاء العامة المعاصرين للإمام الصادق على نحو يصح حينئذ معه حمل روايات الطهارة على التقية فيرد عليه أو لا ان الأمر كان على العكس في أيام الامام الصادق فان الحنفي و المالكي معا كانا يفتيان بالنجاسة «1».

و ثانيا: انه لو لم يمكن التأكد من واقع الحال في أيام الامام الصادق لم يكف مجرد احتمال ذلك لإسقاط أخبار الطهارة عن الحجية لإمكان إجراء استصحاب عدم كونها موافقة للعامة و لو بنحو العدم الأزلي.

الثاني: سقوط روايات الطهارة عن الحجية في نفسها، باعتبار حصول الظن الاطمئناني و لو نوعا على خلافها من اتفاق علماء الإمامية في تمام العصور و الأزمنة على النجاسة و لم يشذ عنهم أحد في حدود المنظور من كلماتهم. و كذلك الاتفاق العملي من المتشرعة على الاحتراز من المنى و التجنب عنه حتى عد نجاسة المني من ضروريات المذهب، و قد حققنا في الأصول سقوط الخبر عن الحجية إذا ما حصل الوثوق و لو نوعا بوجود‌

______________________________
(1) راجع المحل لابن حزم


62
بحوث في شرح العروة الوثقى3

المقام الثاني: في تشخيص حدود تلك القضية. ؛ ج‌3، ص : 63

 

..........

______________________________
خلل فيه. و معه تبقى روايات النجاسة بلا معارض، فيعول عليها، و ان كان الاتفاق المذكور قولا و عملا قد يكفى بنفسه للقطع أو الاطمئنان الشخصي بنجاسته أيضا بنحو القضية المهملة.

الثالث: إيقاع المعارضة بين روايات الطهارة الصريحة في نفي النجاسة مع الصريح من روايات النجاسة، كرواية محمد بن سلم التي ورد فيها التشديد على المنى و أنه أشد من البول، فإنها لا تقبل الحمل على التنزه، و يرجع بعد التساقط إلى سائر روايات النجاسة الظاهرة فيها ظهورا قابلًا للحمل على التنزه في نفسه بقرينية روايات الطهارة لو لا ابتلاءها بالمعارض، تطبيقا للقاعدة التي استخلصناها من الرجوع الى العام الفوقاني بعد تساقط الأدلة الخاصة على ما تقدم توضيحها مرارا.

و هكذا يثبت نجاسة المني بنحو القضية المهملة التي قدرها المتيقن مني الإنسان.

المقام الثاني: في تشخيص حدود تلك القضية.

و يقع البحث عنه ضمن جهات.

الجهة الأولى: في شمولها للحيوان ذي النفس غير المأكول.

و لا إشكال في أن أكثر روايات الباب منصرفة إلى المني من الإنسان بقرينة ما ورد فيها من فرض الإصابة للثوب أو البدن أو نحو ذلك مما لا يكون عادة بغير مني الإنسان.

غير أن رواية محمد بن مسلم المتقدمة حيث لم يفرض في صدرها الملاقاة مع الثوب أو البدن و انما ذكر المنى فشدده و جعله أشد من البول، قد يدعى إطلاقها للمني من غير الإنسان أيضا و كون الحكم بالنجاسة المستفاد من قوله ذكر المنى فشدده من شئون طبيعة المنى بما هو.

و قد منع عن الإطلاق المذكور المحقق الهمداني (ره) باعتبار ما ورد‌

 

 

 

63
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الجهة الثانية - في حكم منى ما يؤكل لحمه من الحيوانات ذات النفس السائلة، ؛ ج‌3، ص : 64

 

..........

______________________________
في ذيل الرواية «ان رأيت المني قبل أو بعد ما تدخل في الصلاة فعليك إعادة الصلاة، و إن أنت نظرت في ثوبك فلم تصبه ثم صليت فيه ثم رأيته بعد فلا اعادة عليك و كذلك البول» حيث يكون قرينة على أن النظر فيها أيضا الى منى الإنسان كما هو الحال في سائر الروايات.

و يرد عليه: أنه فرق بين أن يأتي الحكم بالنجاسة على فرض اصابة المنى للثوب و بين ان يأتي على طبيعي المني ثم يفرع عليه انه ان أصاب الثوب فالصلاة فيه حكمها كذا. ففي الأول لا يكون للحكم بالنجاسة إطلاق لغير المني الذي يتعارف اصابته للثوب و هو منى الإنسان، و أما في الثاني فلا يكون فرض الإصابة بلحاظ حكم آخر مترتب على النجاسة و هو البطلان قرينة على اختصاص موضوع الحكم الأول و هو النجاسة بمني الإنسان.

و هكذا يثبت بمثل هذا الإطلاق في الأدلة اللفظية على نجاسة المني الشمول لمني الحيوان غير المأكول إذا كان ذا نفس سائلة.

الجهة الثانية- في حكم منى ما يؤكل لحمه من الحيوانات ذات النفس السائلة،

و البحث فيه تارة يقع بلحاظ المقتضى للحكم بالنجاسة إثباتا، و اخرى بلحاظ المانع عن ذلك.

اما البحث باللحاظ الأول،

فأكثر روايات الباب و ان كان من الممكن دعوى انصرافها عن منى غير الإنسان كما عرفت، الا أن إطلاق رواية محمد ابن مسلم لا بأس به للشمول لمني ما يؤكل لحمه أيضا، لأن موضوع التشديد هو طبيعي المنى الشامل بإطلاقه لذلك. و دعوى اختصاص نجاسة المني المستفادة من هذه الرواية بمنى الحيوان الذي يكون بوله نجسا لان ذلك مقتضى الأشدية. و اما حيث يكون البول طاهرا فاشدية المنى منه لا تقتضي نجاسته.

مدفوعة» بأن الرواية لم تقتصر على الحكم بأشدية المني من البول، بل شددته و جعلته أشد من البول، و النجاسة تستفاد من التشديد المذكور‌

 

 

 

64
بحوث في شرح العروة الوثقى3

و اما البحث عن وجود المانع على تقدير تمامية الإطلاق، ؛ ج‌3، ص : 65

..........

______________________________
أولا و الذي موضوعه طبيعي المنى و الأشدية من البول التي بينت ثانيا و ان كانت لا تقتضي نجاسة مني حيوان طاهر البول و لكنها لا تأبى عن نجاسته أيضا، إذ لا يستفاد منها الملازمة بين النجاستين

و اما البحث عن وجود المانع على تقدير تمامية الإطلاق،

فقد ذكر السيد الأستاذ- دام ظله- في المقام روايتين اعترف بمعارضة إحداهما مع الإطلاق و منعها في الأخرى «1».

اما التي قبل معارضتها، فهي ما تقدم في بحث نجاسة البول مما دل على ان ما يؤكل لحمه لا بأس بما يخرج منه، كرواية عمار عن ابي عبد اللّه (ع) «قال: كل ما أكل لحمه فلا بأس بما يخرج منه» و هي شاملة بإطلاقها للمني الذي يخرج منه أيضا، فيقع التعارض بينها و بين إطلاق رواية محمد ابن مسلم في نجاسة المني بنحو العموم من وجه و يرجع بعد التساقط إلى الأصول العملية.

و فيه: أن هذه الرواية حاكمة بإطلاقها على إطلاق دليل النجاسة، باعتبار ما أشرنا إليه فيما سبق من أن لسانها لسان الاستثناء عن المحذور المفروغ عن ثبوته فيما يخرج من الحيوان بنحو القضية المهملة، و دليل الاستثناء يكون ناظرا الى دليل المستثنى منه فيتقدم عليه بالحكومة.

و اما الرواية التي لم يقبل معارضتها مع دليل النجاسة فصحيحة ابن بكير المتقدمة في «أن ما يؤكل لحمه فالصلاة في وبره و شعره و بوله و كل شي‌ء منه جائز» حيث يشمل عمومها المنى أيضا و انما منع عن إيقاع المعارضة بينها و بين دليل النجاسة بدعوى أنها ناظرة إلى حيثية المانعية و نفيها فلا يستفاد منها نفي النجاسة.

______________________________
(1) التنقيح الجزء الأول ص 244


65
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الجهة الثالثة - في حكم منى ما لا نفس له من الحيوانات. ؛ ج‌3، ص : 66

و اما المذي و الوذي و الودي فطاهر من كل حيوان الا نجس العين (1).

______________________________
و الصحيح أن هذه الرواية أيضا معارضة مع دليل النجاسة، فإن المحذور المنظور إليه في الرواية و ان كان هو المانعية في الصلاة الا ان تجويز الصلاة في كل شي‌ء مما يؤكل لحمه يدل بالالتزام على نفي محذور النجاسة فيها أيضا، إذ لو لا ذلك لكان الحكم بالجواز جهتيا و هو خلاف ظاهر حال المولى و تصديه بنفسه بالعموم لبيان جواز الصلاة في كل شي‌ء منه. نعم لو كان الجواز معلقا على عنوان ما يخرج من المأكول من دون استعمال أدوات العموم لم يكن يستفاد منه ذلك إذ لا يقتضي أكثر من الجواز و عدم المانعية من ناحية ذلك العنوان.

و هكذا يتلخص تمامية المانع إثباتا عن الحكم بنجاسة المني مما يؤكل لحمه على تقدير تمامية المقتضي.

الجهة الثالثة- في حكم منى ما لا نفس له من الحيوانات.

و البحث فيه من ناحية المقتضي هو البحث في الجهة السابقة، إذ لا بأس بالإطلاق في رواية محمد بن مسلم، الا إذا شكك في أصل صدق عنوان المنى حقيقة على ماء الحيوانات التي ليس لها نفس سائلة، و هو تشكيك ليس بالبعيد.

و اما البحث من ناحية المانع فالمقيد للإطلاق اما الإجماع المدعى على الطهارة، و اما مثل قولهم (ع) لا يفسد الماء الا ما كانت له نفس سائلة، حيث يتمسك بإطلاق المستثنى منه للمني من الحيوان غير ذي النفس.

غير أنه قد تقدم النظر في الاستدلال به على طهارة بول ما لا نفس له فراجع:

(1) المعروف بين فقهائنا هو الحكم بطهارة المذي و الوذي و الودي الخارج من حيوان طاهر العين، بل لا يبعد دعوى حصول الاطمئنان‌


66
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الجهة الثالثة - في حكم منى ما لا نفس له من الحيوانات. ؛ ج‌3، ص : 66

..........

______________________________
الشخصي بالطهارة حيث لم نجد مخالفا عدا ما نسب الى ابن الجنيد من الحكم بنجاسة المذي إذا كان عن شهوة، و هو غير ضائر بحصول الوثوق أو الجزم من إجماع فقهاء الطائفة.

و به يحمل بعض الروايات التي قد يستظهر منه نجاسة المذي و لزوم الغسل منه على التنزه و الاستحباب و ذلك من قبيل رواية الحسين بن ابى العلاء قال: «سألت أبا عبد اللّه عن المذي يصيب الثوب؟ قال (ع):

ان عرفت مكانه فاغسله و ان خفي عليك مكانه فاغسل الثوب كله» «1» فإن الأمر بغسل الملاقي دال عرفا على نجاسته و نجاسة الملاقي، و لو قطع النظر عن الإجماع يتعين أيضا حمل الأمر بالغسل على التنزه، بقرينة الروايات الظاهرة في عدم وجوب الغسل و نفي النجاسة، كرواية محمد بن مسلم «عن المذي يصيب الثوب، فقال (ع): ينضحه بالماء ان شاء» «2» و رواية الحسين بن ابى العلاء «سألت أبا عبد اللّه (ع) عن المذي يصيب الثوب؟

قال: لا بأس به، فلما رددنا عليه فقال: ينضحه بالماء» «3».

و اما دعوى حمل الرواية الآمرة بالغسل على فرض خروج المذي بشهوة و الروايات النافية على فرض خروجه بدون شهوة، فمدفوعة: بأن هذا الحمل ان كان بلحاظ تقييد كل من الإطلاقين بالمتيقن من معارضه فهو جمع تبرعي كما حقق في محله، مضافا الى ان التقييد بعدم الشهوة تقييد بالفرد النادر. و ان كان بلحاظ وجود مفصل بين الفرضين و هو يوجب تقييد مطلقات الأمر بالغسل بفرض الشهوة و مطلقات نفيه بفرض عدمها، فيرد عليه: مضافا الى عدم صحة التقييد الثاني لندرة فرض عدم الشهوة، ان ما يتوهم كونه مفصلا كذلك رواية أبي بصير «قال: قلت لأبي عبد اللّه (ع): المذي يخرج من الرجل؟ قال: أحد لك فيه حدا؟

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 17 من أبواب النجاسات

(2) وسائل الشيعة باب 17 من أبواب النجاسات

(3) وسائل الشيعة باب 17 من أبواب النجاسات


67
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الجهة الثالثة - في حكم منى ما لا نفس له من الحيوانات. ؛ ج‌3، ص : 66

و كذا رطوبات الفرج و الدبر ما عدا البول و الغائط (1)

______________________________
قال: قلت نعم جعلت فداك. فقال: ان خرج منك على شهوة فتوضأ، و ان خرج منك على غير ذلك فليس عليك فيه وضوء»
«1» بعد حمل الوضوء فيها على الغسل، و لكنه حمل بلا قرينة، و مع فرض ارادة الوضوء المقابل للغسل منها تكون الرواية أجنبية عن محل الكلام.

و اما الوذي و الودي، فلا يوجد ما يتوهم دلالته على نجاستهما فيكفي في نفي نجاستهما الأصل، مضافا الى ما دل على طهارة البلل المشتبه بالبول الكاشف عن عدم نجاسة البديل المحتمل للبول واقعا. و رواية زرارة «عن ابى عبد اللّه (ع) قال: ان سال من ذكرك شي‌ء من مذي أو ودى أو و ذي و أنت في الصلاة فلا تغسله و لا تقطع له الصلاة و لا تنقض له الوضوء و ان بلغ عقبيك فإنما ذلك بمنزلة النخامة و كل شي‌ء خرج منك بعد الوضوء فإنه من الحبائل أو من البواسير و ليس بشي‌ء فلا تغسله من ثوبك الا ان تقذره» «2».

(1) كما دلت على ذلك رواية زرارة المتقدمة، و رواية إبراهيم بن ابى محمود «سألت أبا الحسن الرضا (ع) عن المرأة عليها قميصها، أو إزارها يصيبه من بلل الفرج و هي جنب أ تصلى فيه؟ قال: إذا اغتسلت صلت فيهما» «3» و قد يدعى الإطلاق في هذه الرواية لمني الرجل الذي يدخل الى فرج المرأة بالجماع ثم يخرج بالتدريج، فتكون الرواية دليلا على طهارة المنى المذكور إذا خرج من فرج المرأة، و قد يؤيد ذلك فرض المرأة جنبا الذي قد يكون إشارة إلى ترقب خروج منى الرجل من فرجها.

و لكن وجود مثل هذا الإطلاق محل اشكال، لاحتمال النظر في الرواية إلى رطوبات الفرج بما هي لا الى ما يدخل اليه من خارج، و فرض المرأة جنبا قد يكون لاحتمال الاختلاف في حكم رطوبات الفرج بين الجنب و غيرها.

و لو سلم الإطلاق فهو معارض بإطلاق ما دل على نجاسة المني لعدم حصول الاستحالة بمجرد مكثه في فرج المرأة أو خروجه منه و مع التساقط يرجع الى استصحاب النجاسة.

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 12 من أبواب نواقض الوضوء

(2) وسائل الشيعة باب 12 من أبواب نواقض الوضوء

(3) وسائل الشيعة باب 55 من أبواب النجاسات


68
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الرابع: - الميتة ؛ ج‌3، ص : 69

 

الرابع:- الميتة

من كل ما له دم سائل حلالا كان أو حراما (1).

______________________________
(1) قد اختلفت كلمات الأصحاب في مدرك الحكم بنجاسة الميتة، بين من يقول باستفاضة الأخبار الدالة عليها، و بين من ينكر وجود دليل واحد لفظي تام الدلالة على النجاسة، كصاحب المدارك و المعالم- قدهما.

حيث ادعيا: انحصار مدرك القول بالنجاسة في الإجماع، و التسالم الفقهي الذي يكون دليلا لبيا.

و نحن نذكر فيما يلي الروايات التي استدل بها على النجاسة، ثم نذكر ما قد يجعل معارضا لها.

فالكلام في مقامين:

(المقام الأول) في الروايات التي يستدل بها على النجاسة،

و هي طوائف:

الأولى:- روايات النزح من البئر إذا وقعت فيه الميتة «1»

و هي لو لاحظناها في نفسها لا ينبغي الارتياب في دلالتها عرفا على نجاسة الميتة التي لاقت الماء، كما يدل الأمر بالغسل على نجاسة ملاقي الغسول.

و لا يصغي الى ما قد يقال: من ان النزح الذي هو مجرد تقليل من الماء المتنجس لا يكون تطهيرا كالغسل، كي يرشد إلى نجاسة الملاقي. فإنا قد أوضحنا في أبحاث ماء البئر: ان نزح البئر غير تقليل الماء، بل هو‌

______________________________
(1) وردت جملة منها في باب (17) من أبواب الماء المطلق من وسائل الشيعة.

 

 

 

69
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الوجه الأول: ؛ ج‌3، ص : 70

..........

______________________________
نوع تطهير للبئر بحسب النظر العرفي، لأن البئر لا يكون مجرد مستودع للماء، و انما هو منبع له بحيث كلما نزح منه نبع فيه الماء النقي ثانيا فيكون بهذا الاعتبار تنظيفا.

غير ان الأشكال على الاستدلال بهذه الطائفة من الروايات، معارضتها بما دل على اعتصام البئر من الروايات التي استعرضناها في أبحاث ماء البئر.

و هذه المعارضة ان فرض استحكامها بدرجة تؤدى الى سقوط روايات النزح عن الحجية سندا، اما وحدها لمرجح في اخبار الاعتصام، أو معها، فلا إشكال حينئذ في عدم إمكان الاستدلال بها في المقام على نجاسة الميتة.

و ان فرض عدم سريان التعارض الى سندها، بل غاية ما يلزم سقوط ظهور الأمر بالنزح فيها و حمله على التنزه و الاستحباب. فينفتح حينذاك بحث في المقام عن إمكان الاستدلال بها على نجاسة الميتة و عدمه.

و تفصيل الكلام في ذلك: ان هناك وجوها ثلاثة لتقريب دلالتها على نجاسة الميتة، بعد سقوط دلالتها على نجاسة ماء البئر.

الوجه الأول:

دعوى كفاية الأمر بنزح ماء البئر و لو تنزها في الإرشاد إلى وجود محذور النجاسة في الملاقي، و ان النزح المذكور كان بملاكه، و ان كان الماء معتصما مما ادى الى عدم لزوم النزح.

و فيه ان الأمر التنزيهي بالنزح لا يدل الا على وجود حزازة تنزهية في الملاقي دون اللزومية، و من هنا لم يستكشف من الأمر بالنزح فيما إذا لاقاه الجنب نجاسة بدنه.

الوجه الثاني:

دعوى ان جهة السؤال في هذه الروايات لم تكن هي الشك في نجاسة الميتة و عدمها، كي يقال بأن الأمر التنزيهي بالنزح لا يستلزم الإرشاد إلى نجاستها، و انما السؤال عن ماء البئر و اعتصامه، و هذا لا يكون الا بعد فراغ السائل عن نجاسة الملاقي معه، لاستكشاف اعتصام‌


70
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الوجه الثالث: ؛ ج‌3، ص : 71

..........

______________________________
الماء و عدمه و الامام عليه السلام قد امضى ما فرغ عنه السائل ارتكازا من نجاسة الميتة الملاقية مع الماء. فيكون ذلك دليلا على النجاسة، و ان لم تكن منجسة للبئر باعتبار اعتصامه. و الحاصل: ان في روايات النزح ظهورين عرضيين: ظهور في إمضاء ما ارتكز في ذهن السائل و فرغ عنه من نجاسة الميتة، و ظهور للأمر بالنزح في انفعال ماء البئر. و الساقط من الظهورين هو الأخير بقرينة روايات الاعتصام دون الأول.

و فيه: ان استظهار كون جهة السؤال في هذه الروايات هو اعتصام البئر و عدمه مع المفروغية عن نجاسة الميتة يتوقف على ثبوت ارتكاز نجاسة الميتة في ذهن المتشرعة، على حد بعض النجاسات الأخرى المعروفة المركوزة لديهم. و مثل هذا الارتكاز المتشرعي و ان لم يكن ببعيد، الا انه لو كان فهو بنفسه كاف للكشف القطعي عن الحكم بالنجاسة، دون حاجة الى استئناف الاستدلال عليه بالروايات. و اما حيث لا يدعى الجزم بثبوته فلا يبقى ما يعين جهة السؤال لروايات النزح فيما ذكر، بل لعل السائل كان يسأل عن حكم الميتة بلسان السؤال عن ملاقياتها التي أحدها ماء البئر، فلا يستفاد من النزح التنزهي عندئذ محذور النجاسة.

الوجه الثالث:

انا نثبت نجاسة الميتة حتى لو فرض أن حيثية السؤال عن الميتة و نجاستها، و ذلك بقانون حجية الدلالة الالتزامية بعد سقوط الدلالة المطابقية. فان روايات النزح تدل بالمطابقة على لزوم النزح، و بالالتزام على نجاسة الميتة. و الذي يسقط بأدلة اعتصام البئر هو حجية المدلول المطابقي مع بقائه ذاتا فيكون المدلول الالتزامي أيضا باقيا ذاتا، فيشمله دليل الحجية بلا مانع.

و فيه: انا أوضحنا في محله من علم الأصول ان الدلالة الالتزامية كما هي تابعة للمطابقية ذاتا كذلك هي تابعة لها حجية.


71
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الطائفة الثانية: - الروايات الدالة على نجاسة البئر بالتغير بالميتة. ؛ ج‌3، ص : 72

..........

______________________________
و هكذا يتلخص ان الاستدلال بروايات نزح البئر من الميتة على نجاستها غير تام.

الطائفة الثانية:- الروايات الدالة على نجاسة البئر بالتغير بالميتة.

و تمتاز هذه الطائفة على سابقتها بعدم معارضتها مع أدلة اعتصام البئر، فتكون حجة في كلا مدلوليها المطابقي و الالتزامي، فتكون سليمة عن الاعتراض السابق.

و ربما يناقش في الاستدلال بهذه الطائفة: بان الأمر بالنزح في هذه الطائفة لم يرد منفصلا عن الطائفة السابقة، و انما الروايات تكفلت بيان حكم صورة الملاقاة من دون تغير و الملاقاة مع التغير معا، مع التفريق بينهما في مقدار النزح، فاذا فرض ان الأمر بالنزح بلحاظ فرض الملاقاة من دون تغير تنزيهي لا لزومي، بقرينة أدلة الاعتصام، لا ينعقد للأمر بالنزح في فرض التغير ظهور في الإلزام، كي يستفاد منه الإرشاد إلى نجاسة الميتة، لاتحاد سياقه مع سياق الأمر بالنزح في صورة عدم التغير.

و فيه عدم انحصار روايات هذه الطائفة فيما يكون ظاهرا في وحدة سياق الأمر بالنزح للصورتين، بل هناك عدة روايات يمكن الأخذ بظاهر الأمر فيها بالنزح لصورة التغير.

منها: ما ورد في فرض التغير فقط، كرواية محمد ابن مسلم «انه سأل أبا جعفر (ع) عن البئر يقع فيها الميتة. فقال ان كان لها ريح نزح منها عشرون دلوا» «1».

إذ هي مختصة بصورة التغير، بناء على رجوع الضمير في (لها ريح) إلى البئر لا إلى الميتة، كما هو الظاهر، و لو بقرينة قوله (نزح منها) الظاهر في عود الضمير إلى البئر لا الميتة.

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 22 من أبواب الماء المطلق


72
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الطائفة الثالثة ما دل على انفعال المائع غير المعتصم بملاقاة الميتة ؛ ج‌3، ص : 73

..........

______________________________
و منها: ما تكفل حكم الصورتين معا، و لكن مع عدم اتحاد السياق فيه، كرواية سماعة «قال: سألت أبا عبد اللّه عن الفأرة تقع في البئر أو الطير. قال: ان أدركته قبل ان ينتن نزحت منها سبع دلاء، و ان كانت سنورا أو أكبر منه نزحت منها ثلاثين دلوا أو أربعين دلوا، و ان أنتن حتى يوجد ريح النتن في الماء نزحت البئر حتى يذهب النتن من الماء»
«1» بناء على انه يستظهر من الترديد و التخيير في النزح بين الثلاثين و الأربعين دلوا ان النزح في صورة عدم التغير تنزهي، بخلاف صورة التغير فإنه لا بد من النزح حتى يذهب النتن الظاهر في اللزوم.

و منها: ما أمر فيها بالنزح فيما إذا وقعت الميتة في البئر من دون تفصيل بين ما إذا تغير الماء بها أم لم يتغير، و هي بعد تخصيصها بصورة التغير- بقرينة أدلة الاعتصام- تكون دالة على النجاسة لا محالة.

الطائفة الثالثة [ما دل على انفعال المائع غير المعتصم بملاقاة الميتة]

و هي أحسن الطوائف الثلاث في مقام الاستدلال على نجاسة الميتة- ما دل على انفعال المائع غير المعتصم بملاقاة الميتة، من قبيل ما ورد من الروايات المتفرقة الآمرة بإراقة المائعات الملاقية مع الميتة، و هي روايات عديدة تامة الدلالة على نجاسة الميتة عرفا «2». لأن الأمر بإراقة مثل السمن و الزيت و المرق لو كان ذائبا يفهم منه عرفا، بقرينة ارتكازية سراية النجاسة في فرض الذوبان، ان الأمر المذكور من جهة النجاسة السارية، لا لجهة تعبدية نفسية، كما هو واضح.

و من جملة روايات هذه الطائفة ما دل على إفساد الميتة للماء، من قبيل:

«لا يفسد الماء الا ما كانت له نفس سائلة». و دليل منجسية شي‌ء يدل‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 17 من أبواب الماء المطلق

(2) وسائل الشيعة باب 6 من أبواب ما يكتسب به و باب 43 من أبواب الأطعمة المحرمة و باب 4 من الماء المطلق


73
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الطائفة الرابعة: - ما دل على تنجيس الميتة أو المائع الملاقي للميتة لما يلاقيه من الجامدات، ؛ ج‌3، ص : 74

..........

______________________________
بالالتزام العرفي على نجاسته.

الطائفة الرابعة:- ما دل على تنجيس الميتة أو المائع الملاقي للميتة لما يلاقيه من الجامدات،

من قبيل ما دل على الأمر بغسل كل ما اصابه الماء الذي وقعت فيه الميتة، و ما دل على النهي عن الأكل في آنية أهل الكتاب إذا كانوا يأكلون فيها الميتة و الدم و لحم الخنزير، كما في رواية محمد ابن مسلم عن أحدهما (ع) «قال: سألتة عن آنية أهل الكتاب فقال:

لا تأكل في آنيتهم، إذا كانوا يأكلون فيه الميتة و الدم و لحم الخنزير» «1» بناء على ظهور النهي- سواء كان إلزاميا أو تنزيهيا- في كونه بلحاظ الصفة المشتركة، المنسبقة الى الذهن من عناوين الميتة و الدم و لحم الخنزير و هي النجاسة.

و هناك طائفة خامسة ربما يستدل بها على النجاسة،

و هي الروايات الناهية عن الصلاة في الميتة، فيؤخذ ذلك إرشادا إلى نجاستها. غير ان الاستدلال المذكور غير وجيه، بعد وضوح احتمال ان يكون النهي المذكور بملاك المانعية النفسية في الصلاة في الميتة، كما هو كذلك فيما لا يؤكل لحمه و لو كان طاهرا. و لذلك ذهب بعض الفقهاء الى المنع عن الصلاة في الميتة و لو كانت طاهرة، كميتة ما لا نفس سائلة له.

و عليه ففيما تقدم من الطوائف الدالة على النجاسة، و غيرها من الروايات المتفرقة التي لم نذكرها، علاوة على التسالم الفقهي و الارتكاز المتشرعي على نجاسة الميتة كفاية لإثبات تمامية المقتضي للنجاسة.

المقام الثاني: في الروايات التي قد يدعى معارضتها لما تقدم

و هي روايتان:

الأولى: مرسلة الصدوق

التي ذكرها الفقهاء في المقام، و هي قوله في الفقيه: «سئل الصادق (ع) عن جلود الميتة، يجعل فيها اللبن و الماء‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 54 من الأطعمة المحومة


74
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الأولى: مرسلة الصدوق ؛ ج‌3، ص : 74

..........

______________________________
و السمن ما ترى فيه؟ قال: لا بأس ان تجعل فيها ما شئت من ماء أو لبن أو سمن، و تتوضأ منه و تشرب، و لكن لا تصل فيها»
«1».

و هي واضحة الدلالة على طهارة الميتة، خصوصا و قد عطف فيها اللبن و السمن على الماء، مما يسد باب احتمال ان يكون الحكم بجواز الوضوء أو الشرب من الماء الملاقي مع الميتة باعتبار عصمة الماء مثلا و عدم انفعاله حتى بعين النجاسة، لو احتمل ذلك في نفسه.

و قد ادعى صاحب المدارك: ان نقل الصدوق لهذه الرواية ثلم للإجماع و التسالم على نجاسة الميتة، إذ قد تعهد في صدر كتابه انه لا يروى إلا ما يعتمد عليه في مقام الإفتاء، فيدل على انه كان يفتي بعدم النجاسة.

و من هنا ينفتح البحث حول هذه المرسلة، تارة: من ناحية الاستدلال بها كرواية معارضة مع الروايات الظاهرة في نجاسة الميتة. و اخرى: من ناحية ثلمها للإجماع و التسالم الفقهي.

أما الاستدلال بها فيرد عليه:- أولا ضعف السند، باعتبار الإرسال. و الصدوق (ره) و ان كان يرويها بنحو الجزم، حيث يقول سئل الصادق (ع)، الا ان ذلك لا يكفي في شمول دليل الحجية له، ما دام لا يحتمل في حق مثل الصدوق أن ينقل الرواية عن الصادق (ع) بالحس، أو ما يكون بحكمه، كأن تكون الرواية المذكورة متواترة النقل الى زمانه، و ان النقل بالنحو المذكور يكشف عن تأكد الصدوق من صدور الرواية، و هذا لا يكفى لحجيتها.

ثانيا:- لو فرض صحة سندها- لا تكون- أيضا- مشمولة لدليل الحجية، باعتبار ما لدينا من الظن القوي و الوثوق بخلاف مضمونها، على ضوء ملاحظة مجموعة الفتاوى و النصوص الدالة على النجاسة.

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 24 من النجاسات


75
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الثانية: رواية علي بن جعفر ؛ ج‌3، ص : 76

..........

______________________________
و اما ثلم نقل الصدوق لها في كتاب من لا يحضره الفقيه للإجماع، فقد أجيب عليه تارة: بعدم قدح مخالفة الواحد، و اخرى: بأن نقل الصدوق له غاية ما يدل عليه انها لم تكن من الروايات الشاذة الضعيفة، فإن المستفاد من تعهده في أول كتابه انه لا يروى إلا ما يكون صحيحا في نفسه، و هذا لا يلزم ان تكون الرواية تامة الجهات في نظره- سنداً و دلالة- مع عدم المعارض لها، و لا قرينة على خلافها، كي يستفاد من ذلك إفتاؤه بمضمونها، فيلزم انثلام الإجماع.

و الواقع: ان كلا هذين الجوابين مما لا تقنع النفس به، بل يبقى لكلام صاحب المدارك شي‌ء من الوجاهة. إذ دعوى عدم قدح مخالفة الواحد ليست صحيحة في كل مقام، بحيث يمكن فرضه قاعدة كلية، بل لا بد من ملاحظة خصوصيات ذلك المخالف و مركزه و موقعه. فمخالفة مثل الصدوق (ره) القائم على رأس حوزة يكثر فيها الفقهاء و المشايخ قد تكشف عن عدم التسالم الارتكازي على النجاسة.

كما ان دعوى: عدم إفتائه بمضمون ما يرويه في كتابه، أيضا خلاف ظاهر تعهده في أول الكتاب: بأنه ينقل فيه ما يعتمد عليه في مقام الإفتاء.

و يدل عليه: انه صنف ذلك الكتاب لمن لا يحضره الفقيه من مقلديه، اللذين يبغون الاطلاع على فتاواه.

نعم ربما يدعى: عدم الجزم باعتماده على إطلاقها، فلعله كان يحملها على فرض كون الميتة مما لا نفس سائلة له، و ان كان يوحى عدم تقييده بذلك اعتماده على إطلاقها.

و على اي حال: فلو فرض قدح مثل هذه العبارة في كتاب الصدوق في التسالم و الإجماع، يكفينا لإثبات النجاسة الأدلة اللفظية المتقدمة.

الثانية: رواية علي بن جعفر

عن أخيه موسى (ع): «قال:


76
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الثانية: رواية علي بن جعفر ؛ ج‌3، ص : 76

..........

______________________________
سألته عن الرجل يقع ثوبه على حمار ميت، هل يصلح له الصلاة فيه قبل ان يغسله؟ قال: ليس عليه غسله، و ليصل فيه و لا بأس
«1»» فان نفي الأمر بالغسل، مع ضم ارتكاز سراية النجاسة بالملاقاة، يدل عرفا على عدم نجاسة الميتة.

و يمكن ان يدفع هذا الاستدلال: بان مورد الرواية مطلق من حيث وجود الرطوبة و عدمها، و نفى الأمر بالغسل انما يدل على عدم النجاسة بإطلاقه لفرض الرطوبة، و عليه يتعين تقييد هذا الإطلاق بما دل على نجاسة الميتة و على انفعال المائعات بها، فتختص هذه الرواية بفرض عدم الرطوبة.

و دعوى: ان هذه الرواية ليست مطلقة بل هي منصرفة إلى فرض وجود الرطوبة، لأن نفس ارتكاز عدم السراية بدون رطوبة، قرينة على ان استشكال السائل في لزوم غسل الثوب الداعي إلى سؤاله انما هو منصب على فرض الرطوبة، و لا أقل من كون ذلك منظورا إليه بصورة اساسية، على نحو لا يمكن تقييد الجواب بفرض الجفاف الذي هو خارج عن معرض استشكال الإنسان العرفي في السراية.

مدفوعة: بأن هذا انما يتم لو استظهر كون نظر الراوي إلى جهة سراية النجاسة بالملاقاة حسب قواعد السراية العرفية، و اما لو افترضنا ان نفس الملاقاة مع الميتة بما هي ملاقاة معها كانت موضوع استشكال لدى المتشرعة، فلا يتجه ما تقدم من دعوى اختصاص الرواية بفرض السراية و هكذا الافتراض يوجد عليه شاهد بلحاظ شخص علي بن جعفر راوي الرواية، حيث جاء في صحيحة أخرى له: «انه سأل عن الرجل وقع ثوبه على كلب ميت. قال: ينضحه بالماء و يصلى فيه و لا بأس» «2» فإنه‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 26 من أبواب النجاسات

(2) وسائل الشيعة باب 26 من النجاسات


77
بحوث في شرح العروة الوثقى3

بقي الكلام في الميتة من الإنسان: ؛ ج‌3، ص : 78

..........

______________________________
بعد استبعاد خفاء نجاسة الكلب على مثل علي بن جعفر يتعين ان يكون السؤال ناظرا الى فرض عدم الرطوبة، لاحتمال ان يكون مجرد الملاقاة مع الميت موضوعا لأثر شرعي، بلحاظ خصوصية في الموت.

بقي الكلام في الميتة من الإنسان:

فهل يحكم بنجاستها مطلقا أيضا، أو بطهارتها كذلك، أو فيهما تفصيل؟.

الحق هو التفصيل بين ميتته قبل الغسل و ميتته بعده، فيحكم بالنجاسة في الأول و الطهارة في الثاني، للروايات الآمرة بغسل ما يلاقي ميتة الإنسان إذا كان قبل الغسل، كرواية إبراهيم بن ميمون، عن ابي عبد اللّه: «عن رجل يقع ثوبه على جسد الميت. قال: ان كان غسل الميت فلا تغسل ما أصاب ثوبك منه، و ان كان لم يغسل فاغسل ما أصاب ثوبك منه يعني إذا برد الميت» «1» و يحمل عليه أيضا ما ورد فيه الأمر بالغسل مطلقا، كرواية الحلبي، عن ابي عبد اللّه: «قال: سألته عن الرجل يصيب ثوبه جسد الميت. فقال: يغسل ما أصاب الثوب» «2».

و قد يشك في دلالة روايات الباب الآمرة بالغسل على النجاسة.

اما بلحاظ ارتكازية إن نجس العين لا يطهر مع وضوح ان الميت ليس بنجس بعد التغسيل، فيكون الارتكاز المذكور قرينة على رفع اليد عن ظهور الأمر بالغسل في نجاسة الميت، و حمله على كونه حكما تعبديا.

و اما باعتبار البناء على ثبوت الأمر بغسل الملاقي لميت الإنسان مطلقا مع الرطوبة أو الجفاف، فيكون ارتكاز عدم سراية النجاسة مع عدم الرطوبة قرينة على ان الأمر بالغسل ليس بلحاظ نجاسة الميت، و الا لاختص بحال الرطوبة.

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 34 من أبواب النجاسات.

(2) وسائل الشيعة باب 34 من أبواب النجاسات.


78
بحوث في شرح العروة الوثقى3

بقي الكلام في الميتة من الإنسان: ؛ ج‌3، ص : 78

..........

______________________________
و اما بدعوى ان المراد بغسل الثوب غسل ما لصق به من رطوبة الميت و قذارته، و لا يدل ذلك على النجاسة الحكمية.

و كل ذلك مدفوع:

اما الأول فيرد عليه: أولا: ان ارتكاز عدم زوال النجاسة عن نجس العين الا بنحو السالبة بانتفاء الموضوع- من قبيل طهارة الكلب بصيرورته ملحا، أو طهارة الكافر بصيرورته مسلما- انما يتم في الموارد التي تكون النجاسة الشرعية فيها بنكتة القذارة، لا بنكات معنوية، كما في المقام و كما في نجاسة الكافر و الخمر، لان زوال تلك النكتة المعنوية بالتطهير ليس على خلاف الارتكاز، بخلاف خروج ما يكون بذاته قذرا عن القذارة.

و ثانيا: انه كما ينافي مع الارتكاز ارتفاع النجاسة عن نجس العين، كذلك ينافي مع الارتكاز حمل الأمر بالغسل على نجاسة الثوب الملاقي مع طهارة الملاقي- بالفتح- لان الارتكاز يقضى بعدم منجسية الطاهر. و كذلك يعتبر إيجاب غسل النظيف و الطاهر تعبدا على خلاف الارتكاز. فاذا كانت كل المحتملات على خلاف الارتكاز فليؤخذ بظهور الأمر بالغسل في النجاسة.

و اما الثاني فيرد عليه: أولا: ان ما تقدم من الروايات مشتمل على ما هو مختص بفرض الرطوبة، إذ قد فرض فيه ان شيئا ما قد أصاب الثوب من الميت، و هذا لا يتصور مع الجفاف. و وجود ما يدل على الأمر بالغسل مطلقا لا يكون مضرا.

و ثانيا: لو سلم الإطلاق فظهور مادة الغسل في ثبوت النجاسة في مورده، مع ارتكاز عدم سراية النجاسة بلا رطوبة، يكون كالقرينة المتصلة على تقييد الإطلاق.

و اما الثالث: فيرد عليه: ان حمل الأمر بغسل الثوب على إرادة إزالة العين التي التصقت به من الميت خلاف الظاهر، لان المفهوم عرفا‌


79
بحوث في شرح العروة الوثقى3

حكم القطعة المبانة ؛ ج‌3، ص : 80

و كذا اجزائها المبانة منها، و ان كانت صغارا (1).

______________________________
من الأمر بالغسل ملاحظة الغسل لا بوصفه مجرد مزيل، بل باعتباره منظفا للمحل. و اعتباره كذلك يساوق النجاسة عرفا.

و من جملة ما يمكن ان يستدل به على النجاسة موثقة عمار: «قال:

سئل أبو عبد اللّه (ع) عن رجل ذبح طيرا فوقع بدمه في البئر فقال:

ينزح منها دلاء، هذا إذا كان ذكيا فهو هكذا. و ما سوى ذلك مما يقع في بئر الماء فيموت فيه: فأكثره الإنسان ينزح منها سبعون دلوا، و أقله العصفور ينزح منها دلو واحد، و ما سوى ذلك فيما بين هذين» «1».

فان هذه الرواية تفرق بين جيفة المذكى و جيفة الميتة، و المنسبق الى الذهن العرفي المتشرعي من هذه التفرقة انها بلحاظ نجاسة الميتة، بعد ان كان أهم فارق مركوز بين الجيفتين نجاسة الميتة و طهارة المذكى. و حيث جعلت ميتة الإنسان معطوفة على ميتة غيره، بل أشد منها، استفيد من ذلك نجاستها سواء كان الأمر بالنزح إلزاميا أو تنزيهيا.

و مثل هذا التقريب لم يكن بالإمكان إجراؤه فيما تقدم عند محاولة الاستدلال بروايات النزح على أصل نجاسة الميتة لأن هذا التقريب يعتمد على افتراض المفروغية عن ارتكاز نجاسة ميتة الحيوان.

[حكم القطعة المبانة]

(1) قد يشك في الحكم بنجاسة الجزء المبان، بدعوى: ان العنوان المأخوذ في موضوع روايات النجاسة هو الميتة، و الجزء من الحيوان الميت لا يصدق عليه هذا العنوان، فلا يشمله دليل النجاسة.

و يمكن دفع هذا التشكيك:

تارة: بأن اتصال بعض الاجزاء ببعض لما كان دخله في النجاسة على‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 21 من أبواب الماء المطلق


80
بحوث في شرح العروة الوثقى3

حكم القطعة المبانة ؛ ج‌3، ص : 80

..........

______________________________
خلاف الارتكاز العرفي و مناسبات الحكم و الموضوع، فتلغى هذه الخصوصية، و يكون للدليل إطلاق لفرض الانفصال.

و اخرى: بالتمسك بمثل رواية قاسم الصيقل- لو تم سندها- «قال:

كتبت الى الرضا (ع): اني اعمل أغماد السيوف من جلود الحمر الميتة، فيصيب ثيابي، أ فأصلى فيها؟ فكتب إليّ: اتخذ ثوبا لصلاتك. إلخ» «1» فإن النظر في الرواية إلى سراية النجاسة الى الثوب بالملاقاة، فهي تدل على ان الجلد المنفصل نجس فكذلك سائر الأجزاء المبانة.

و ثالثة: بالتمسك بظهور ما دل على طهارة الأجزاء التي لا تحلها الحياة، كرواية حريز قال: «قال أبو عبد اللّه لزرارة و محمد بن مسلم:

اللبن، و اللباء، و البيضة، و الشعر، و الصوف، و القرن، و الناب، و الحافر، و كل شي‌ء يفصل من الشاة و الدابة. فهو ذكي و ان أخذته منه بعد ان يموت فاغسله وصل فيه» «2». فان أمره بالغسل على تقدير الأخذ بعد الموت قرينة على النظر إلى الطهارة في قوله: (فهو ذكي). و حينئذ يدل على ان الجزء المبان في الجملة محكوم بالنجاسة، و الا لم يكن هناك معنى للتنصيص. على هذه الاجزاء فقط.

و رابعة: بالاستناد الى ما دل على ان القطعة المبانة من الحيوان الحي ميتة، بدعوى: التعدي عرفا، و كون ذلك الدليل قرينة على ان الميتة عنوان لوحظ موضوعا للحكم الشرعي بنحو ينطبق على الجزء أيضا.

و خامسة: بلحاظ ما دل على نجاسة الميتة، معلقا للحكم على عنوان الجيفة، من قبيل: قوله- في رواية حريز- «كلما غلب الماء على ريح الجيفة فتوضأ من الماء و اشرب، فإذا تغير الماء، و تغير الطعم فلا تتوضأ‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 34 من النجاسات

(2) وسائل الشيعة باب 33 من الأطعمة المحرمة


81
بحوث في شرح العروة الوثقى3

حكم القطعة المبانة ؛ ج‌3، ص : 80

..........

______________________________
منه و لا تشرب»
«1». بدعوى: أن الجيفة كما تصدق على الكل تصدق أيضا على القطعة المبانة من الميت، فيتمسك بإطلاقها.

و سادسة: بصحيحة محمد بن مسلم، الناهية عن الأكل من آنية أهل الكتاب، معللة ذلك بأنهم يأكلون فيها الميتة «2». مع وضوح انهم انما يأكلون فيها جزءا من الميتة بعد اقتطاعه، فلو لم يكن نجسا لما تنجس الإناء.

و سابعة: بالاستناد الى استصحاب النجاسة الثابتة قبل فصل الجزء عن الميتة.

و المهم هو التقريب الأول. و اما التقريبات الأخرى فأكثرها قابلة للمناقشة اما الثاني: فلضعف سند الرواية.

و اما الثالث: فلان قوله: (فهو ذكي) لعله في مقام بيان التذكية في مقابل الميتة و آثارها، فلو التزم بأن القطعة المبانة طاهرة مطلقا لا يلزم من ذلك إلغاء خصوصية العناوين المذكورة في الرواية، إذ يكفي في خصوصيتها جواز الصلاة فيها.

و اما الرابع: فلا مكان منع التعدي عرفا من تنزيل القطعة المبانة من الحي منزلة الميتة إلى تنزيل القطعة المبانة من الميت، لان الموت بالنحو المناسب للجزء عرض على تلك القطعة مستقلا، و عرض على هذه ضمنا، فلا غرابة- بقطع النظر عن الارتكاز الملحوظ في التقريب الأول- في ان تكون النجاسة في القطعة المبانة من الحي استقلالية، و تكون النجاسة في القطعة من الميتة منوطة باتصالها. اللهم الا ان يقال: ان مثل ما جاء عن ابي عبد اللّه (ع) في رواية أبي بصير- لو تم سندها- من انه قال «في أليات الضأن تقطع و هي أحياء: أنها ميته» قد علق فيه الحكم بالميتة‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 3 من الماء المطلق

(2) وسائل الشيعة باب 54 من الأطعمة المحرمة


82
بحوث في شرح العروة الوثقى3

حكم القطعة المبانة ؛ ج‌3، ص : 80

..........

______________________________
و ما تستتبع من نجاسة على عنوان (أليات الضأن تقطع)، و هذا العنوان كما ينطبق على الألية المقطوعة حال اتصالها كذلك ينطبق عليها بعد تقطعتها، فيثبت بالإطلاق انها ميتة و نجسة بعد التقطعة أيضا، و إذا ثبت هذا في الألية المقطوعة يثبت في أصل الميتة أيضا.

و اما الخامس: فلان تلك الروايات ليست في مقام البيان من ناحية أصل نجاسة الجيفة، يتمسك بإطلاقها، بل هي في مقام بيان انفعال الماء و عدم انفعاله.

نعم لا بأس بالتقريب السادس.

و اما السابع، و هو الاستصحاب فقد يستشكل في جريانه فيما إذا حصل الانفصال و الموت في آن واحد، الا ان يتمسك بالاستصحاب التعليقي و يقال: بان هذا لو مات قبل ساعة لكان نجسا، فتستصحب هذه القضية التعليقية إلى حين الانفصال.

و هكذا نعرف: أن أوضح التقريبات في دفع التشكيك هو الأول، أي إلغاء خصوصية الاتصال و الهيئة التركيبية بالارتكاز العرفي. بل يمكن ان يقال في دفع التشكيك: إن ميتة الحيوان إذا قسمت الى اجزاء فكل جزء، و ان كان لا يصدق عليه عنوان الميتة فلا يكون فردا مستقلا من موضوع دليل النجاسة، و لكن مجموع الاجزاء يصدق عليها انها ميتة ذلك الحيوان، لان كونها كذلك غير موقوف على اتصال بعضها ببعض، فيثبت بإطلاق الدليل نجاسة المجموع، من دون حاجة الى الاستعانة بالارتكاز العرفي لإلغاء دخل الهيئة التركيبية في موضوع النجاسة، و انما نحتاج إليه لإلغاء دخل ما يكون دخله أوضح بطلانا، و هو انحفاظ سائر الاجزاء و عدم تلفها، فإنه بعد تجزئة الميتة الى اجزاء تثبت النجاسة للمجموع على تجزئته لكونه ميتة. و لا يحتمل عرفا دخل بقاء جزء و عدم تحلله في بقاء النجاسة في الجزء‌


83
بحوث في شرح العروة الوثقى3

طهارة ما لا تحله الحياة ؛ ج‌3، ص : 84

 

عدا ما لا تحله الحياة منها (1) كالصوف، و الشعر، و الوبر، و العظم، و القرن، و المنقار، و الظفر، و المخلب، و الريش، و الظلف، و البيضة إذا اكتصت القشر الأعلى.

______________________________
الآخر المنفصل عنه، و بذلك يثبت المطلوب.

[طهارة ما لا تحله الحياة]

(1) دراسة حكم ما لا تحله الحياة من اجزاء الميتة تارة: يكون بلحاظ أدلة نجاسة الميتة الأولية. و أخرى: بلحاظ الروايات الخاصة الواردة فيما لا تحله الحياة، فهنا مقامان:

أما المقام الأول [بلحاظ أدلة نجاسة الميتة الأولية]

فقد يقال: بان المستفاد من الأدلة الأولية نجاسة الميتة، و مقتضى ذلك نجاستها بتمام اجزائها، فتثبت النجاسة بالإطلاق للصوف و الشعر و نحوهما أيضا.

و يمكن التشكيك في هذا الإطلاق بدعوى: ان نجاسة الميتة استفيدت من روايات من قبيل: ما فرض فيه وقوع الميتة في الماء، أو تفسخ الفأرة في الإناء، أو سقوط الحيوان و موته في السمن و الزيت و نحو ذلك، و أمر فيه بنزح الماء، أو اراقة المائع، أو غسل ما اصابه ذلك الماء، و نحو هذا.

و من الواضح ان ذلك لا يستكشف منه نجاسة تمام أجزاء الميتة حتى صوفها و شعرها، لأن نجاسة ما عدا ذلك من أجزائها التي تحلها الحياة تكفى لتصحيح الأمر بالنزح أو الإراقة أو الغسل، لان المفروض وقوع الميتة في الماء أو السمن لا وقوع شعرها أو صوفها خاصة.

نعم لو تم ما كان بلسان الفقه الرضوي: «ان مس ثوبك ميتا فاغسل ما أصاب، و ان مسست ميتة فاغسل يديك» «1» فقد يقال بإطلاقه لمس صوف الميتة، لأن مس صوفها مس لها، فيثبت بإطلاق الأمر بالغسل‌

______________________________
(1) مستدرك الوسائل باب 26 من النجاسات

 

 

 

84
بحوث في شرح العروة الوثقى3

المقام الثاني: فيما تقتضيه الروايات الخاصة. ؛ ج‌3، ص : 85

..........

______________________________
نجاسة الصوف أيضا. و كذلك لو قيل بالتوسعة في مفهوم جسد الميت في قوله: «سألته عن الرجل يصيب ثوبه جسد الميت»
«1»، بدعوى:

ان شعر الميت من جسده.

و لكن الرضوي ساقط سندا. و التوسعة المذكورة غير واضحة عرفا.

و الروايات التي ذكرناها في المسألة السابقة لإثبات نجاسة جزء الميتة، و التي أخذ في موضوعها عنوان الجلود أو أليات الغنم المقتطعة من الحي أو الجيفة أو الميتة التي توجد في أواني أهل الكتاب، لا تشمل مثل الصوف و الشعر مما لا تحله الحياة كما هو واضح.

و لا يمكن التعدي من القدر المتيقن لدليل النجاسة و هو ما تحله الحياة الى ما لا تحله الحياة من اجزاء الميتة، بعد فرض عدم وجود الإطلاق اللفظي، لان الارتكاز العرفي و مناسبات الحكم و الموضوع توجب احتمال الفرق وجدانا، بل قد يدعى: انه لو تم دليل على نجاسة الميتة بعنوانها لما اتجه الأخذ بإطلاقه لإثبات نجاسة مثل الصوف و الشعر: إما لخروج مثل ذلك عن العنوان موضوعا بعد عدم شمول الموت له في نظر العرف، و إما لخروجه حكما لو سلم شمول لفظ الميتة اصطلاحا حتى لما لا يشمله الموت للتبعية و ذلك بمناسبات الحكم و الموضوع.

فعلى اي حال للتشكيك في وجود الإطلاق في نفسه- بقطع النظر عن الاخبار الخاصة- مجال، و معه يكون المرجع الأصول النافية للنجاسة.

المقام الثاني: فيما تقتضيه الروايات الخاصة.

و الكلام في ذلك يقع في جهتين: إحداهما: في الروايات التي يستدل بها على طهارة ما لا تحله الحياة من الميتة و الأخرى: في الروايات التي قد يستدل بها على نجاسة تلك الاجزاء، اما على نحو النجاسة العينية المطلقة، أو على نحو النجاسة‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 34 من النجاسات


85
بحوث في شرح العروة الوثقى3

اما الجهة الأولى: ؛ ج‌3، ص : 86

 

..........

______________________________
العينية التي تزول بالغسل، كنجاسة ميت الإنسان.

اما الجهة الأولى:

فروايات الطهارة طائفتان:

الأولى:

ما دلت على طهارة العناوين المذكورة و استثنائها من حكم الميتة بدون إعطاء العنوان الكلي الجامع لها، من قبيل رواية الحسين بن زرارة:

قال: «كنت عند ابي عبد اللّٰه (ع) و ابي يسأل عن اللبن من الميتة، و البيضة من الميتة، و إنفحة الميتة. فقال: كل هذا ذكي» «1» و رواية الصدوق: «قال الصادق (ع) عشرة أشياء من الميتة ذكي: القرن، و الحافر، و العظم، و الانفحة، و اللبن، و الشعر، و الصوف، و الريش، و البيض» «2»:

و هذه الطائفة- و التي فيها ما هو معتبر السند- لا إشكال في دلالتها على الطهارة.

و لكن قد يستشكل في دلالتها على الضابطة الكلية و هي طهارة كل ما لا تحله الحياة، و يقال: بلزوم الاقتصار على العناوين المذكورة فيها غير انه لا يبعد دعوى: استفادة قاعدة كلية منها بحمل ما ورد فيها من العناوين على المثالية، و اقتناص الجامع المنتزع منها بحسب فهم العرف و المناسبات التي يراها للحكم المذكور و جعله هو موضوع الحكم بالطهارة، فمن القريب ان يقال: ان العرف يفهم من العناوين المذكورة انها كلها بنكتة مشتركة قد حكم عليها بالطهارة، و هي كونها مما لا تحلها الحياة و لم تكن مصب الروح الحيوانية، و ان كانت بالنظر العقلي الدقيق فيها شي‌ء من الحياة و بذلك يستفاد من هذه الطائفة ما يستفاد من الطائفة الثانية من الحكم بطهارة كل ما لا تحله الحياة من اجزاء الحيوان.

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 68 من النجاسات

(2) وسائل الشيعة باب 33 من الأطعمة المحرمة

 

 

 

86
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الثانية: ؛ ج‌3، ص : 87

الثانية:

______________________________
ما دلت على الطهارة بعنوان كلي ينطبق على ما ليس فيه روح و لا تحله الحياة من الاجزاء، من قبيل رواية الحلبي عن ابي عبد اللّه (ع) «قال: لا بأس بالصلاة فيما كان من صوف الميتة، ان الصوف ليس فيه روح»
«1».

و دلالتها على القاعدة الكلية واضحة: كما ان المقصود من الروح فيها الحياة الحيوانية، لا مجرد النمو و نحوه كما هو واضح عرفا، فيشمل كل جزء غير لحمي من الحيوان، لأنه ليس فيه روح، إما بالإطلاق اللفظي لو قيل بان ما فيه الروح تعبير عرفي عن اللحم، أو بالإطلاق المقامي باعتبار ان العرف يفهم ان ما فيه الروح و الحياة الحيوانية هو اللحم فقط، و قد أمضى ذلك في الرواية و لم ينبه على خلافه.

و من جملة روايات هذه الطائفة أيضا صحيحة حريز قال: «قال أبو عبد اللّه (ع) لزرارة و محمد بن مسلم: اللبن، و اللباء، و البيضة، و الشعر، و الصوف، و القرن، و الناب، و الحافر، و كل ما يفصل من الشاة و الدابة فهو ذكي. و ان أخذته منه بعد ان يموت فاغسله وصل فيه» «2».

فإنها تدل على طهارة عنوان كلي هو (كل ما يفصل عن الدابة) أي ما يعتاد فصله عنه خارجا أو ما يكون من شأنه ذلك، كناية عن كل ما كان عارية في جسم الحيوان بحسب الفهم العرفي، و هو ضابط قريب عرفا مع عنوان ما لا تحله الحياة من الحيوان، و ان كان يفترقان في صدق الأخير على العظم دون الأول. و لا يقدح في الاستدلال بها اختصاص صدرها بحال الحياة، فإن ذيلها قد دل على عدم النجاسة بعد الموت أيضا، و ان أمر فيها بالغسل بلحاظ النجاسة العرضية، التي سوف يقع الكلام‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 68 من النجاسات.

(2) وسائل الشيعة باب 33 من الأطعمة المحرمة.


87
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الثانية: ؛ ج‌3، ص : 87

..........

______________________________
فيها إن شاء اللّٰه تعالى.

كما ان ورود عنوان الشاة في موردها لا يضر بالاستدلال أيضا، إذ يتعدى منها- عرفا- الى غيرها اما بقرينة عطف الدابة عليها بعد حملها على مطلق ما يدب على الأرض، أو بالفهم العرفي و ارتكازهم عدم الفرق المستوجب لحمل المورد على المثالية.

و لكن قد يستشكل في دلالة هذ الرواية: بأن صدرها وارد فيما أخذ من الحيوان و هو حي، و ما هو محل الكلام- و هو المأخوذ من الميت من الاجزاء التي لا تحلها الحياة- تعرضت له الرواية في الفقرة الأخيرة في قوله: «و ان أخذته منه بعد ان يموت فاغسله وصل فيه» و هذه الفقرة- بقرينة افتراضها للصلاة في المأخوذ- تختص بمثل الصوف و الشعر، فلا يستفاد منها طهارة جميع الأشياء المذكورة.

و هذا الاشكال يمكن دفعه بان ظاهر قوله: (و ان أخذته) كون مرجع الضمير تمام ما ذكر في الفقرة الاولى. و ارادة خصوص الصوف و الشعر مما ذكر قبله و بعده أشياء أخرى في صدر الرواية خلاف المتفاهم العرفي جدا، على نحو لا يصح قوله: (وصل فيه) قرينة عليه، بل يكون ظهور الضمير قرينة على ان المراد بالصلاة المثال للانتفاع به على نحو ما ينتفع بالطاهر، فيتم الاستدلال.

و من جملة روايات هذه الطائفة أيضا: الرواية التي ينقلها الشيخ بإسناده عن صفوان عن حسين بن زرارة عن ابي عبد اللّه (ع): «انه قال: العظم و الشعر و الصوف و الريش و كل ذلك نابت لا يكون ميتا» «1» و قد أرسلها الكليني عن صفوان، غير انه ورد فيها عنوان: «ان كل‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 33 من الأطعمة المحرمة ح 12


88
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الجهة الثانية: في الروايات التي قد يستدل بها على النجاسة، ؛ ج‌3، ص : 89

..........

______________________________
نابت لا يكون ميتة»
«1» و هو أظهر في الدلالة على الضابط العام و هو:

(ان كل نابت ليس بميتة) مما ورد في نقل الشيخ، إذ قد يمنع دلالته على ذلك، حيث لم ينف الميتة عن كل نابت و انما نفى عن العناوين المذكورة.

الا ان الصحيح استفادة العموم منه أيضا بحسب المتفاهم العرفي، حيث يفهم منه ان النابتية هي علة الحكم عليها بأنها ليست بميتة.

الجهة الثانية: في الروايات التي قد يستدل بها على النجاسة،

فمن تلك الروايات رواية الحلبي قال: «سألته (ع) عن الثنية تنفصم و تسقط، أ يصلح ان تجعل مكانها سن شاة؟. قال: ان شاء فليضع مكانها سنا، بعد ان تكون ذكية» «2».

فقد اشترط عدم كون السن من الميتة، فلو كان السن من الميتة طاهرا، لما وجد مبرر لهذا الاشتراط.

و يرد عليه ان الاشتراط ليس له ظهور في كونه ناظرا إلى ناحية النجاسة، فلعله بلحاظ وجود حزازة في الانتفاع بسن الميتة، أو حزازة في الصلاة معه، و لا يكفى ذلك لإثبات النجاسة. و غاية الأمر: ان ذلك يكون مقيدا لعموم التعليل في مثل رواية الحلبي، المتكفلة لتعليل جواز الصلاة في الصوف بأنه ليس فيه روح، بإخراج السن من عموم التعليل فيه، دون ان تثبت النجاسة، بعد قصور أدلة النجاسة في نفسها كما عرفت. هذا مضافا الى ان الناب صرح به في رواية حريز، و معه يتعين حمل الاشتراط في رواية الحلبي على الاستحباب.

و من تلك الروايات رواية مسعدة بن صدقة عن جعفر عن أبيه «قال:

قال: جابر بن عبد اللّه: ان دباغة الصوف و الشعر غسله بالماء، و أي‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 33 من الأطعمة المحرمة ح 8

(2) وسائل الشيعة باب 68 من أبواب النجاسات


89
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الجهة الثانية: في الروايات التي قد يستدل بها على النجاسة، ؛ ج‌3، ص : 89

..........

______________________________
شي‌ء يكون اطهر من الماء»
«1». فان التعبير بالدباغة انما هو انسياق مع ما اشتهر من مطهرية الدباغة للجلود. و مفاد الرواية هو ان الصوف و الشعر يطهر بالغسل بالماء، و حيث لم تفرض نجاسة عرضية للصوف و الشعر كانت الرواية دالة على النجاسة الذاتية، و لكنها سنخ نجاسة ترتفع بالغسل، كنجاسة الميت من الإنسان التي ترتفع بتغسيله.

و يرد عليه- مضافا الى ضعف سند الرواية، حيث لم تثبت وثاقة مسعدة بن صدقة، و غرابة رواية الأئمة عن جابر- ان الرواية في مقام بيان المطهر للصوف و الشعر، و ليست في مقام البيان من ناحية أصل نجاستهما ليتمسك بالإطلاق لفرض عدم الملاقاة مع الرطوبة، فلعل النجاسة الملحوظة هي النجاسة العرضية الحاصلة من الملاقاة بالرطوبة في فرض النتف. و لكن هذا لا يخلو من تأمل: لأن الظاهر من الرواية كونها في مقام دفع استغراب مطهرية الماء، و لهذا تقول: و أي شي‌ء يكون اطهر من الماء، و لا غرابة في مطهرية الماء من النجاسة العرضية، الحاصلة بالملاقاة، فنفس ذلك قد يكون قرينة على ان النظر الى ارتفاع النجاسة الذاتية بالماء، و هو أمر غريب يناسب سياق الرواية الوارد في مقام دفع الاستغراب. غير ان المتعين حينئذ الحمل على المطهرية التنزيهية جمعا بينها و بين روايات الطهارة.

و من تلك الروايات رواية حريز المتقدمة، التي ورد فيها قوله: «و ان أخذته منه بعد ان يموت فاغسله وصل فيه» بدعوى: ان الأمر بالغسل حيث لم يفرض في موضوعه الملاقاة مع الرطوبة يدل على النجاسة الذاتية للصوف و نحوه.

و يرد عليه: ان ارتكازية عدم ارتفاع النجاسة الذاتية بالغسل، تكون بنفسها قرينة على ان الأمر بالغسل انما هو في مورد الملاقاة مع ما تحله الحياة‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 68 من النجاسات


90
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الجهة الثانية: في الروايات التي قد يستدل بها على النجاسة، ؛ ج‌3، ص : 89

..........

______________________________
من اجزاء الميتة بالرطوبة، لا مطلقا. هذا مضافا: الى تعين الحمل على الاستحباب و التنزه في مقام الجمع مع مثل رواية الحلبي، لأبعدية الجمع بينهما بحمل رواية الحلبي على ما بعد الغسل. و ان فرض تساوي الجمعين في نظر العرف كفى ذلك في الحكم بعدم النجاسة، لعدم الدليل.

و هكذا نعرف ان العناوين التي ذكرها السيد الماتن (قده) من اجزاء الميتة التي لا تحلها الحياة كلها محكوم عليها بالطهارة. غير انه ينبغي البحث في خصوص البيضة منها، حيث انهم اشترطوا في الحكم بطهارتها اكتسابها القشر الأعلى، فنقول: اما وجه الحكم بالطهارة فيها.

فأولا: عدم تمامية مقتضى النجاسة، حيث ناقشنا في تمامية الإطلاق في دليل نجاسة الميتة كي يشمل البيضة.

و ثانيا: انه لو سلم الإطلاق لكل جزء من الميتة فالبيضة خارجة عن اجزائها عرفا، خصوصا بعد اكتساب القشرة.

و ثالثا: الروايات التي استثنت البيضة عن الميتة تفصيلا، أو باعتبار اندراجها في الضوابط العامة المستثناة فيها.

و المهم من البحث في البيضة يقع في جهتين:

الاولى: في حكمها قبل اكتساب القشرة.

الثانية: في شمول الحكم المذكور للبيض من الحيوان حرام اللحم.

اما الجهة الاولى: فلا إشكال في نجاسة البيضة قبل اكتساب القشر، و لو من جهة الملاقاة مع النجس من اجزاء الميتة. و اما بعد اكتسابه بنحو يمنع عن السراية فمقتضى ما ذكرناه الآن هو الحكم بطهارتها، دون فرق بين ان تكون قد اكتسبت القشر الأعلى أم لا.

و المشهور بين الفقهاء: اشتراط القشرة الصلبة، مستندين في ذلك الى رواية غياث عن ابي عبد اللّه (ع): «في بيضة خرجت من است‌


91
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الجهة الثانية: في الروايات التي قد يستدل بها على النجاسة، ؛ ج‌3، ص : 89

سواء كانت من الحيوان الحلال أو الحرام (1).

______________________________
دجاجة ميتة. قال (ع): ان كانت اكتست البيضة الجلد الغليظ فلا بأس بها»
«1».

و الاستدلال بها موقوف على تمامية سندها، و ان يكون البأس الملحوظ فيها هو النجاسة، لا حرمة الأكل قبل اكتساب القشر و لو بملاك كونها من الخبائث كالميتة نفسها. و لا قرينة على الملحوظ في البأس هو النجاسة، لأن حرمة الأكل نحو بأس و شدة أيضا. و النجاسة تستتبع حرمة الأكل، و بهذا كانت حرمة الأكل متيقنة، فتنفى النجاسة بالأصل، أو بالفحوى من أدلة طهارة ما ليس فيه روح.

(1) هذه هي الجهة الثانية في شمول الحكم بالطهارة لما إذا كانت من حرام اللحم الطاهر العين في حال الحياة، ذلك انه نسب الى بعض القول باختصاص الحكم بالبيض من حلال اللحم. و يمكن توجيهه بدعوى ان مدرك الحكم بالطهارة هو الروايات المخصصة لأدلة النجاسة الواردة في البيض، أو في مطلق ما لا تحله الحياة و هذه الروايات لا تشمل بيض حرام اللحم، لأنه قد ورد بعضها في أكل بيض الدجاج «2»، و بعضها في جواز الصلاة «3» و ورد في بعضها التعبير بان فيها منافع الخلق «4»، المنصرفة عرفا إلى منفعة الأكل، و عطف في بعضها البيض على اللبن و اللباء «5» مما قد يدعى إيجابه للانصراف الى البيض الذي يكون في معرض الاستعمال و الغذاء.

و لكن الصحيح ان هذا لا يكفى للحكم بنجاسة البيضة من حرام اللحم الطاهر العين و ذلك.

أولا: لعدم تمامية مقتضى النجاسة في نفسه، على ما مضى من عدم‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 33 من الأطعمة المحرمة ح 6

(2) وسائل الشيعة باب 33 من الأطعمة المحرمة

(3) وسائل الشيعة باب 33 من الأطعمة المحرمة

(4) وسائل الشيعة باب 33 من الأطعمة المحرمة

(5) وسائل الشيعة باب 33 من الأطعمة المحرمة


92
بحوث في شرح العروة الوثقى3

يمكن ان يستدل على التفصيل بين النتف و الجز بوجوه: ؛ ج‌3، ص : 93

و سواء أخذ ذلك بجز أو نتف أو غيرهما. نعم يجب غسل المنتوف من رطوبات الميتة (1).

______________________________
تمامية الإطلاق.

و ثانيا لأنه لو فرض تمامية الإطلاق في روايات النجاسة لكل جزء من الميتة، فالبيضة ليست منها عرفا.

و ثالثا:- لتمامية الإطلاق في بعض روايات الاستثناء، كرواية الحسين ابن زرارة المتقدمة، لخلوها من تلك القرائن المدعاة:

يمكن ان يستدل على التفصيل بين النتف و الجز بوجوه:

الأول: أن الأخذ بالنتف يوجب قطع أصول الشعر

(1) و هي مما تحله الحياة، فيتعين الحكم بالنجاسة.

و فيه أولا:- ان غايته الحكم بنجاسة أصول الشعر المنتوف، كما هو واضح.

و ثانيا: ان الصحيح هو الحكم بطهارة أصوله أيضا، إذ لو سلمنا انها مما تحله الحياة في نظر العرف فلا يمكن إثبات نجاستها، لعدم وجود إطلاق في دليل النجاسة على ما تقدم.

الثاني: الاستدلال برواية الجرجاني

عن ابي الحسن (ع) قال:

«كتبت إليه أسأله عن جلود الميتة التي يؤكل لحمها ذكيا. فكتب: لا ينتفع من الميتة بإهاب و لا عصب و كلما كان من السخال الصوف ان جز، و الشعر، و الوبر، و الانفحة، و القرن، و لا يتعدى الى غيرها ان شاء اللّه» «1» و هي المكاتبة التي يدعي وجود السقط فيها حيث انها بعد ان استثنت «كلما كان من السخال. إلخ» لم يصرح بحكمها، و ان كان يفهم من‌

______________________________
(1) فروع الكافي كتاب الأطعمة باب ما ينتفع به من الميتة ج 6 الحديث 6 و قد نقلت في الوسائل عن الكافي بتوسيط أبي إسحاق بين الجرجاني و ابي الحسن (ع)


93
بحوث في شرح العروة الوثقى3

طهارة الإنفحة ؛ ج‌3، ص : 94

 

و يلحق بالمذكورات الانفحة (1)

______________________________
السياق ان حكمها نقيض ما ذكر أولا، أي جواز الانتفاع بها.

و تقريب الاستدلال بها هو: التمسك بمفهوم قوله: «الصوف ان جز» لما إذا نتف الصوف عن جلد الميتة، حيث يكون دالا على المنع من الانتفاع به، فيكون ظاهرا عرفا في نجاسته، بناء على انصراف دليل عدم جواز الانتفاع إلى النجاسة.

و فيه أولا- ضعف سندها.

و ثانيا: انها معارضة برواية حريز المتقدمة التي جاء فيها قوله: «و ان أخذته منه بعد ان يموت فاغسله وصل فيه» إذا فرض ظهور تلك الرواية في النظر إلى النجاسة العرضية الحاصلة بالملاقاة بالرطوبة لما تحله الحياة من الميتة على ما تقدم، لان من الواضح حينئذ كون موردها هو النتف، إذ في حالة الجز لا توجد الملاقاة المزبورة عادة، فيكون الأمر بالغسل بنفسه دليلا على نفي النجاسة الذاتية.

[طهارة الإنفحة]

(1) و ذلك للروايات العديدة التي استثنت الانفحة ضمن ما استثنت من العناوين لو فرض تمامية المقتضي للنجاسة فيها كصحيحة زرارة عن ابي عبد اللّٰه (ع) «قال: سألته عن الانفحة تخرج من الجدي الميت قال:

لا بأس به قلت اللبن يكون في ضرع الشاة و قد ماتت. قال: لا بأس به الحديث» «1» فالحكم باستثناء الانفحة عن الميتة مما لا ينبغي الإشكال فيه.

و مهم البحث في المقام عن جهتين:

الجهة الاولى: في تشخيص الصغرى،

فإن الانفحة قد اختلف في انها اسم الظرف، أو المظروف، أو هما معا.

و قد خرجت الكلمة المذكورة عن مجال المحاورات العرفية اليوم،

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 33 من الأطعمة المحرمة

 

 

 

94
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الجهة الاولى: في تشخيص الصغرى، ؛ ج‌3، ص : 94

..........

______________________________
و تحديدات اللغويين لها أيضا لا تخلو من تشويش و اختلاف، كما يظهر لمن راجع كلماتهم. فالمدلول اللغوي للكلمة في عصر صدور هذه الروايات مجمل لدينا لا يمكن تحديده. و بناء على ذلك ينبغي ان يقال: انه تارة:

يبنى على إنكار وجود إطلاق في دليل النجاسة يشمل كل جزء جزء من الميتة. و اخرى: يفترض تمامية الإطلاق.

فعلى التقدير الأول: يكون الحكم هو طهارة الظرف و المظروف معا، تمسكا بالأصول المؤمنة.

و على الثاني: فاما ان يستفاد من روايات استثناء الإنفحة أن المظروف متيقن الإرادة فيها على كل حال، باعتبار نظرها الى ما فيه منافع الناس، و يستعمل في الجبن و نحو ذلك من التعبيرات الواضحة في النظر الى المظروف.

أو يقال بالإجمال فيها أيضا، و احتمال ان يكون نظرها الى الظرف فقط.

فعلى الأول: يقتصر في الحكم بالطهارة على المظروف فقط، و يبقى الظرف مشمولا لإطلاق أدلة النجاسة.

لا يقال على هذا يمكن التمسك بدليل تنجيس النجس لملاقيه، لإثبات نجاسة المظروف أيضا.

فإنه يقال: دليل استثناء الانفحة و ان كانت ناظرة إلى النجاسة الذاتية الناشئة من الميتة، الا انه لا إشكال في ظهورها بل صراحتها في الطهارة الفعلية المسوغة للانتفاع بها، فلو كانت نجاسة الظرف تسرى الى المظروف لسقط عن الانتفاع الفعلي، بمجرد موت الحيوان عادة.

لا يقال: يقع التعارض بين دليل نجاسة الميتة و دليل تنجيس المتنجس، حيث يكون دليل استثناء الانفحة تخصيصا لأحدهما، و بعد التساقط يحكم بطهارة الظرف أيضا.

فإنه يقال دليل التنجيس نعلم بسقوط إطلاقه في المقام، اما تخصيصا‌


95
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الجهة الاولى: في تشخيص الصغرى، ؛ ج‌3، ص : 94

..........

______________________________
أو تخصصا، فلا يمكن ان يعارض به الإطلاق من دليل نجاسة الميتة، إلا بناء على جواز التمسك بأصالة عدم التخصيص لإثبات التخصص، و هو باطل عندنا.

لا يقال: ارتكازية السراية بين المتلاقيين مع الرطوبة توجب ظهور روايات استثناء الإنفحة في طهارة الظرف و المظروف معا.

فإنه يقال: هذا الارتكاز و ان كان ثابتا في ذهن العرف و المتشرعة، و على أساسه نستفيد طهارة المتلاقيين في سائر الموارد، الا انه في خصوص المقام لا يمكن التعويل عليه، باعتبار أن ارتكازية السراية يقابلها ارتكاز عدم الفرق في نجاسة الميتة بين هذا الجزء و سائر الاجزاء، و كما ان الالتزام بطهارة المظروف دون الظرف يعنى تحديد الارتكاز الأول، كذلك الالتزام بنجاسة الظرف يعنى تحديد الارتكاز الثاني.

و اما على التقدير الثاني و هو إجمال روايات استثناء الانفحة و ترددها بين الظرف و المظروف، و هذا ما لا نقول به فتارة: يفرض ان كلا من الظرف و المظروف جزء من الميتة مشمول الإطلاق دليل النجاسة و اخرى:

يفرض ان الجزء هو الظرف فقط، و اما المظروف فهو كالبيض ليس من اجزاء الميتة.

اما على الفرض الأول فيمكن إثبات طهارة المظروف بدعوى: ان العرف لا يحتمل نجاسة المظروف مع طهارة الظرف، باعتبار أن جزئية الظرف و التصاقه بالميتة، و اقتضاء الموت لنجاسته بحسب المناسبات المركوزة لدى العرف آكد و أشد من المظروف، فتنعقد ببركة هذا الفهم العرفي دلالة عرفية في دليل الاستثناء لشمول المظروف، حتى لو كان النظر فيه الى الظرف خاصة.

و لو أنكرنا هذا الوجه اندرج المقام في موارد دوران أمر المخصص‌


96
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الجهة الثانية من البحث في شمول الحكم بالطهارة لانفحة ما لا يؤكل لحمه ؛ ج‌3، ص : 97

 

..........

______________________________
المنفصل بين المتباينين- و هما الظرف و المظروف- فلو قيل في مثله: بان عموم العام لكل من الفردين يعارض عمومه للآخر فيسقطان معا، حكم بطهارة الظرف و المظروف معا، رجوعا إلى الأصول العملية و ان قيل:

بسقوط أحد الإطلاقين و بقاء الآخر بإجماله على حجيته، لزم الاحتياط لا محالة، باعتبار العلم بالحجية على النجاسة في أحدهما.

و اما على افتراض عدم جزئية المظروف للميتة، فبالامكان إثبات طهارته مع الاستغناء عما سبق بأحد وجهين آخرين:

الأول: التمسك بإطلاق دليل النجاسة في الظرف لرفع إجمال دليل الطهارة و تعيينه في المظروف.

الثاني: التمسك بالأصول المؤمنة بعد عدم شمول دليل النجاسة له، فيحكم بعدم نجاسة المظروف ذاتا و عرضا، و نجاسة الظرف ذاتا. اما عدم نجاسة المظروف ذاتا فللأصل، و اما عدم نجاسته عرضا فلدليل الاستثناء، فإنه سواء كان شاملا للظرف أو المظروف يدل على عدم النجاسة العرضية للمظروف كما هو واضح، و اما نجاسة الظرف فللتمسك بإطلاق دليل النجاسة فيه.

الجهة الثانية من البحث في شمول الحكم بالطهارة لانفحة ما لا يؤكل لحمه

و يمكن تقريب الحكم بطهارتها بأحد وجوه:

الأول: أن الإنفحة بمعنى المظروف ليست جزءا من الميتة،

فلا مقتضى للحكم عليها بالنجاسة، فيرجع فيها إلى أصالة الطهارة.

و فيه: انه لو أريد بهذا الوجه نفي النجاسة الذاتية عن الانفحة من غير المأكول باعتبار قصور مقتضيها عنها فهو صحيح، غير انه لا ينتج الطهارة الفعلية. و ان أريد به نفي النجاسة العرضية أيضا- بدعوى: ان دليل انفعال ملاقي الميتة مخصوص بموارد الملاقاة الخارجية مع الميتة، فلا‌

 

 

 

97
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الثاني: دعوى قصور دليل نجاسة الميتة في نفسه عن الانفحة ؛ ج‌3، ص : 98

..........

______________________________
إطلاق له لمثل الملاقاة الداخلية في محل الكلام فهو فاسد، إذ لو سلم عدم وجود إطلاق لفظي في أدلة انفعال ملاقي الميتة فلا إشكال في ان العرف يلغى خصوصية الملاقاة مع النجس من خارج أو من داخل، و يفهم من الدليل مدلولا أوسع من مورد الملاقاة الخارجية.

الثاني: دعوى قصور دليل نجاسة الميتة في نفسه عن الانفحة

بكلا جزئيها الظرف و المظروف، اما المظروف فلعدم كونه من اجزاء الميتة، و اما الظرف فلانة و ان كان جزءا منها غير انه لا يوجد في دليل النجاسة إطلاق لكل جزء من الميتة، كي يشمل مثل هذا الجزء أيضا.

و هذا الوجه يتوقف تماميته على قصور الإطلاق في أدلة نجاسة الميتة لأجزائها، و عدم كونه من القدر المتيقن بضم ارتكاز عدم الفرق.

الثالث:

بعد افتراض تمامية المقتضي للنجاسة في نفسه يتمسك بعموم الضابط الكلي الذي استثنى من النجاسة في روايات الاستثناء، من قبيل ما ورد في رواية الحلبي المتقدمة «لا بأس بالصلاة في صوف الميتة ان الصوف ليس فيه روح» فإنها مطلقة و غير مختصة بمأكول اللحم.

و فيه: ان روايات الاستثناء لا تنفي إلا النجاسة الذاتية الناشئة من الموت، فهي تدل على ان النجاسة التي تحصل بالموت لا تكون الا فيما له روح من اجزاء الحيوان، و اما النجاسة العرضية الحاصلة بالملاقاة مع الميتة برطوبة فلا نظر الى نفيها، فلا بد في نفي النجاسة العرضية للمظروف من التشبث ببعض ما سبق.

الرابع: التمسك بالإطلاق في بعض روايات استثناء الانفحة

لما إذا كانت من غير المأكول، فإن جملة منها و ان كانت ناظرة إلى الانتفاع بها و وضعها في الجبن مما يعني اختصاصها بالمأكول، غير ان هنالك ما يمكن دعوى الإطلاق فيه، من قبيل: رواية الحسين بن زرارة المتقدمة، حيث‌


98
بحوث في شرح العروة الوثقى3

حكم لبن الميتة ؛ ج‌3، ص : 99

      

و كذا اللبن في الضرع. و لا ينجس بملاقاة الضرع النجس، لكن الأحوط الاجتناب (1).

______________________________
كان السؤال فيها عن الانفحة من الميتة بقول مطلق.

و هذا الوجه يتوقف على أمرين:

الأول: عدم استظهار انصراف عنوان الانفحة الى خصوص ما كان متعارفا وضعه في الجبن، و هو الانفحة من المأكول.

الثاني: ان يكون المراد من الانفحة الظرف أو الظرف و المظروف معا اما لو أريد منها المظروف فقط، فغاية ما يثبت بالإطلاق المذكور هو انتفاء النجاسة الذاتية التي تنشأ من الموت، و لا يثبت به الطهارة الفعلية و الوجه في ذلك هو: انه و ان كان المستظهر دلالتها على الطهارة الفعلية لا الحيثية، الا ان ذلك لم يكن باعتبار ظهور الخطاب لفظا، و انما كان بنكتة دفع اللغوية فيما لو كان الجواب حكما جهتيا حيثيا لا ينفع السائل في وظيفته العملية، و من الواضح ان هذه النكتة لا تقتضي الإطلاق إذ يكفي لدفع اللغوية المذكورة ان يكون الحكم فعليا بلحاظ ما هو المتيقن من الخطاب و محل ابتلاء المكلفين، و هو الانفحة من مأكول اللحم، و عليه فلا بأس بالتمسك بإطلاق أدلة الانفعال في إنفحة غير المأكول.

[حكم لبن الميتة]

(1) يقع البحث أولا عن طهارة اللبن في ضرع الميتة من مأكول اللحم، و بعد الفراغ عن ذلك يبحث عن لبن الميتة من غير المأكول.

و البحث عن لبن الميتة من الحيوان المأكول، تارة: على مستوى القاعدة و الروايات العامة. و أخرى: على مستوى الروايات الواردة في لبن الميتة خاصة.

اما على مقتضى القواعد العامة: فالصحيح هو عدم ثبوت النجاسة‌


99
بحوث في شرح العروة الوثقى3

حكم لبن الميتة ؛ ج‌3، ص : 99

..........

______________________________
الذاتية، اما لعدم الإطلاق في دليل نجاسة الميتة لكل جزء منها، أو لعدم كون اللبن من أجزائها، أو لشمول ضابط ما ليس له روح المستثنى من دليل النجاسة للبن أيضا. و اما النجاسة العرضية- باعتبار الملاقاة مع الضرع- فنفيها مبني على الالتزام بأحد الأمرين: من دعوى قصور دليل الانفعال للملاقاة الداخلية مع الميتة، أو دعوى عدم نجاسة الضرع لقصور دليل نجاسة الميتة عن شمول كل جزء منها. و كلاهما ممنوع.

و اما الروايات الخاصة: فهي متنافية فيما بينها. فمثل رواية الحسين ابن زرارة المتقدمة دلت على طهارة اللبن، و مثلها رواية زرارة المتقدمة و غيرها، و مفادها نفي النجاسة الذاتية و العرضية للبن معا.

و هناك من الروايات الخاصة ما قد يجعل معارضا لذلك، من قبيل رواية وهب: «ان عليا (ع) سئل عن شاة ماتت فحلب منها اللبن.

فقال (ع): ذلك الحرام محضا» «1».

و دلالتها و ان كانت على الحرمة دون النجاسة، غير ان هذا لا يرفع التعارض بينها و بين الطائفة الأولى الدالة على الطهارة، و ذلك باعتبار ان دلالتها على ذكاة اللبن في الضرع و انه لا بأس به بلحاظ الحلية و جواز الانتفاع به، لا مجرد الطهارة المستوجبة لعدم غسل ملاقيه فحسب. و رواية الجرجاني المتقدمة، حيث حصرت المستثنى من الميتة في عناوين ليس اللبن منها، ثم ذيلت بأنه لا يتعدى الى غيرها، و هو مما يأبى عن التخصيص عرفا، فيكون دليلا على عدم الانتفاع بغيرها، فيعارض أخبار الطهارة بالتقريب المتقدم.

و لكن رواية وهب ساقطة سندا بوهب. و كذلك لا اعتبار برواية الجرجاني سندا، لعدم ثبوت وثاقته. و بهذا تبقى روايات الطهارة بلا معارض‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 33 من الأطعمة المحرمة ح 11


100
بحوث في شرح العروة الوثقى3

حكم لبن الميتة ؛ ج‌3، ص : 99

خصوصا إذا كان غير مأكول اللحم (1)

______________________________
فلا تصل النوبة إلى إيقاع التعارض بين الطائفتين من الروايات، ليعالج التعارض تارة: بالالتزام باستحكامه، و ترجيح روايات النجاسة لموافقتها للسنة القطعية الدالة بالإطلاق على نجاسة اللبن باعتباره جزءا من الميتة أو ملاقيا لها بالرطوبة. و أخرى: بالالتزام بالجمع العرفي بحمل روايات المنع على التنزه، و ثالثة: بالالتزام باستحكام التعارض بين دليل الحلية و رواية وهب لصراحتها في الحرمة على نحو يأبى عن الحمل على التنزه، و يرجع بعد ذلك الى إطلاق قوله- في رواية الجرجاني- (و لا يتعدى الى غيرها) بدعوى: ان هذا الإطلاق في نفسه قابل لان يقيد بروايات الطهارة، فيكون كالمرجع الفوقاني بعد تساقط الخاصين.

(1) و الحكم بطهارته على مقتضى القاعدة مبني على نفى النجاسة الذاتية و العرضية فيه. و الأول و ان كان ممكنا باعتبار قصور في دليل النجاسة الذاتية في نفسه، الا ان نفى النجاسة العرضية بحاجة إلى ضم الضميمة المتقدمة في لبن ميتة المأكول، و قد تقدم عدم تماميته.

و اما مقتضى الروايات الواردة في لبن الميتة: فما ورد منها بعنوان جواز الشرب و الانتفاع و ان كان خاصا بميتة المأكول، الا ان مثل رواية حسين بن زرارة المتقدمة- «يسأله عن اللبن من الميتة و البيضة من الميتة و إنفحة الميتة. فقال: كل هذا ذكي»- يمكن دعوى إطلاقها للبن من ميتة غير المأكول أيضا.

غير انه مع ذلك يمكن المنع عن الإطلاق المذكور من جهتين:

الاولى: دعوى انصراف عنوان اللبن فيها الى لبن المأكول، باعتبار ان النظر إلى حيثية الانتفاع باللبن و ليس النظر إلى الطهارة من حيث هي، و من الواضح ان الانتفاع المتعارف باللبن يكون بالشرب و نحوه، و هو‌


101
بحوث في شرح العروة الوثقى3

هل يستثني من نجس العين شي‌ء؟ ؛ ج‌3، ص : 102

 

و لا بد من غسل ظاهر الانفحة الملاقي مع الميتة (1) هذا في غير نجس العين، و اما فيها فلا يستثني شي‌ء (2)

______________________________
مخصوص بالمأكول.

الثانية: ان غاية ما يستفاد من الرواية هو طهارة اللبن في نفسه، اى عدم نجاسته ذاتا، و اما نفي نجاسته العرضية من جهة ملاقاة الضرع فإنما يكون بملاك دفع اللغوية عرفا، و من الواضح ان هذا لا يقتضي العموم، إذ يكفي في دفع ذلك نفي النجاسة العرضية في ما هو القدر المتيقن و هو لبن المأكول، فيبقى دليل انفعال ملاقي النجس شاملا له.

و هكذا يكون الحكم بالطهارة الفعلية في لبن الميتة من غير المأكول محل اشكال.

(1) باعتبار وجود الرطوبة عادة.

[هل يستثني من نجس العين شي‌ء؟]

(2) على ما هو المشهور، بل المتفق عليه بين الأصحاب عدا ما ينسب الى السيد المرتضى (قده): و تفصيل البحث عن وجه عدم الاستثناء يقتضي أن يتكلم في جهتين:

الجهة الاولى:

انه لا إشكال في عدم اقتضاء أدلة النجاسة العينية في الكلب و الخنزير- التي جاءت بلسان الأمر بإراقة ما ولغ فيه الكلب و الخنزير- لنجاسة كل جزء منهما، بحيث يشمل مثل الشعر، لوضوح عدم انطباق ذلك العنوان على الملاقاة مع الشعر. و احتمال الفرق موجود عرفا.

و لكنه مع ذلك يمكن استفادة الإطلاق من مثل ما ورد بلسان الأمر بغسل ما اصابه الكلب أو الخنزير «1»، فإنه صادق أيضا فيما إذا أصابه بشعره و نحوه مع الرطوبة، فيدل على نجاسته أيضا. و يلحق به مثل العظم‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 12 و 13 من النجاسات

 

 

 

102
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الجهة الثانية: ؛ ج‌3، ص : 103

..........

______________________________
أو غيره من الاجزاء الداخلية بالفهم العرفي، و ارتكازية عدم الفرق و ان الملاك كونه من الكلب.

و كذلك يمكن الاستدلال بمثل قوله في الكلب: «رجس نجس» «1» فان مقتضى إطلاق كونه رجسا نجسا كونه كذلك بتمام اجزائه.

و هكذا يثبت نجاسة كل اجزاء الحيوان نجس العين في حال الحياة.

و اما بعد الموت فحيث ثبتت نجاسة جميع اجزائه في حال الحياة بلا استثناء تثبت نجاستها بعد الموت أيضا، لا من جهة شمول عنوان الكلب أو الخنزير له كي يقال: بأنه متقوم بالحياة، بل من جهة ان العرف لا يحتمل ان يكون الموت مطهرا للنجس، و انما العكس هو المركوز عرفا و متشرعيا، مما يجعلنا نفهم من دليل النجاسة العينية ان موضوع الحكم هو جسم الحيوان المذكور من دون دخل حياته فيه، فيكون باقيا بعد الموت أيضا.

الجهة الثانية:

ان روايات استثناء العناوين السابقة انما تنفى النجاسة الثابتة في الميتة بملاك الموت، و اما النجاسة العينية الثابتة للحيوان في نفسه فلا نظر فيها الى نفيها. و عليه فحتى لو تم الإطلاق في روايات الاستثناء للميتة من نجس العين لا يقتضي ذلك الا الحكم بارتفاع النجاسة عن المستثنيات من جهة الميتة مع بقاء نجاستها العينية على حالها.

و هكذا يتضح عدم تمامية الاستثناءات المذكورة في الميتة من نجس العين، غير انه في خصوص شعر الخنزير ربما يستدل بروايتين على الطهارة:

الأولى: صحيحة زرارة عن ابي عبد اللّه (ع) قال «سألته: عن الحبل يكون من شعر الخنزير يستقى به الماء من البئر، هل يتوضأ من ذلك الماء؟ قال: لا بأس» «2».

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 12 و 13 من النجاسات

(2) وسائل الشيعة باب 14 من الماء المطلق.


103
بحوث في شرح العروة الوثقى3

(مسألة - 1) حكم القطعة المبانة من الحي ؛ ج‌3، ص : 104

(مسألة- 1) [حكم القطعة المبانة من الحي]

الاجزاء المبانة من الحي مما تحله الحياة كالمبانة من الميتة (1)

______________________________
و تقريب الاستدلال بها مبني على: أن يكون نظر السائل إلى الماء القليل في الدلو بعد افتراض ان الماء يتقاطر عادة من الحبل فيه، و افتراض ارتكازية سراية النجاسة و عدم اعتصام الماء القليل. و قد تقدمت الاحتمالات المتصورة في هذه الرواية، و ما هو الظاهر منها في مباحث المياه، فراجع.

الثانية: ذيل رواية الحسين بن زرارة المتقدمة، حيث جاء فيها «قلت له: فشعر الخنزير يعمل حبلا و يستقى به من البئر التي يشرب منها أو يتوضأ منها. فقال: لا بأس به» «1».

و هي أظهر في ان حيثية السؤال فيها نجاسة الشعر، باعتبار وقوعه في سياق السؤال عن نجاسة شعر الميتة، فتكون دالة على طهارة شعر الخنزير فإذا أمكن إلغاء خصوصية الخنزير و التعدي منه الى الكلب، بل الى غير الشعر أيضا من الاجزاء غير اللحمية من الحيوان، ثبت الحكم بطهارة المستثنيات من الحيوان نجس العين أيضا.

الا ان مثل هذا التعدي مشكل، بل ممنوع في مثل الانفحة و اللبن و اللباء و نحوها، لوضوح احتمال الفرق بينها و بين الشعر الخارجي للحيوان عرفا.

هذا مضافا الى ان ذهاب الأصحاب- كلا أو جلا- الى عدم استثناء شي‌ء عن نجس العين يمنع عن الرجوع الى هذه الرواية، إذ ربما يوجب الوثوق و الاطمئنان بخلافها، فالاحتياط متعين.

(1) و ذلك لا لصدق عنوان الميتة بنحو تشمله الإطلاقات لو تمت، فان الميتة عرفا هي الحيوان الذي ذهبت عنه روحه فلا تشمل الجزء المبان‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 14 من الماء المطلق


104
بحوث في شرح العروة الوثقى3

(مسألة - 1) حكم القطعة المبانة من الحي ؛ ج‌3، ص : 104

..........

______________________________
منه. بل للتمسك بإطلاق دليل التنزيل المتمثل في عدة روايات:

منها: رواية أبي بصير عن ابي عبد اللّه (ع): «انه قال في أليات الضأن تقطع و هي أحياء: انها ميتة» «1» و رواية محمد بن قيس عن ابي جعفر (ع): «قال: قال أمير المؤمنين (ع): ما أخذت الحبالة من صيد فقطعت منه يدا و رجلا فذروه فإنه ميت» «2».

و قد يستشكل في الاستدلال بهذه الروايات: تارة بدعوى: ان التنزيل منصرف الى كونه بلحاظ الحكم بالحرمة، فلا تثبت به نجاسة المنزل و اخرى بدعوى: ان هذا ليس تنزيلا بل تطبيقا حقيقيا لما يقصده الشارع من عنوان الميتة، و معه يكون كل اثر من آثار الميتة ثابتا له بإطلاق دليله لا بنفس تلك الروايات، و في المقام لا إطلاق في دليل نجاسة الميتة يشمل هذا المصداق من الميتة، فلا موجب لنجاسته.

أما الدعوى الاولى فتندفع: بان ظاهر التعليل في قوله: «ذروة فإنه ميت» المغايرة بين العلة و المعلول، فلو كان مفاد العلة هو التنزيل بلحاظ الحرمة خاصة لما حفظ ظهور التعليل في المغايرة عرفا، بخلاف ما إذا بنى على كلية التنزيل فان المغايرة بالجزئية و الكلية تكون محفوظة بين المعلل و العلة.

هذا مضافا الى ان مجرد كون الحرمة أظهر من النجاسة بالنسبة إلى الميتة لا ينافي إطلاق التنزيل، ما لم تكن الأظهرية بالغة إلى درجة توجب انصراف الذهن عن النجاسة إلى الحرمة رأسا.

و أما الدعوى الثانية فقد أجيب عليها: بان بيان الإفراد الحقيقة لما لم يكن من وظيفة الشارع فتعرضه لذلك انما يكون لأجل تعميم الحكم، و ليس الحال كما لو علم بفردية فرد له لا من قبل الشارع، فإنه لا يعمه‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 62 من النجاسات

(2) وسائل الشيعة باب 24 من الصيد و الذباحة


105
بحوث في شرح العروة الوثقى3

(مسألة - 1) حكم القطعة المبانة من الحي ؛ ج‌3، ص : 104

..........

______________________________
الحكم إلا إذا كان الدليل في نفسه عاما له. فبيان الشارع للفرد الحقيقي كبيانه للفرد التنزيلي يقتضي عموم الحكم له و لو كان الدليل قاصراً عن إثبات ذلك.

و لا يخلو هذا الجواب من تأمل، لأن غاية ما يقتضيه هذا التقريب:

ان بيان الشارع للفرد الحقيقي ظاهر عرفا في كونه استطراقا إلى إثبات الحكم، بنكتة ان بيان الإفراد الحقيقية بما هو ليس من وظيفة الشارع. و لكن هذه الدلالة السياقية الحالية ليس لها إطلاق بلحاظ تمام الأحكام التي يترقب ثبوتها للعنوان الذي تصدى الشارع لبيان مصداقه، فان الظهور في الاستطراقية يكفي في حفظه في المقام ان يكون بيان الفرد الحقيقي بقصد تعميم الحكم بالحرمة، و لا قرينة على كون تعميم النجاسة ملحوظا أيضا. و هذا بخلاف ما إذا حملنا العبارة على التنزيل، لان مفادها حينئذ ان حكم الميتة يجرى عليه، فيتمسك بإطلاقه لإثبات كل ما يصدق عليه انه حكم الميتة للمنزل.

فالأحسن في دفع الدعوى الثانية: إنكار أصلها الموضوعي و استظهار كون التطبيق تنزيليا، فان نفس عدم كون القطعة المبانة مصداقا عرفا لعنوان الميتة يوجب ظهور الدليل الشرعي في التنزيل، لا في التطبيق الحقيقي لمعنى غير عرفي للكلمة على القطعة المبانة.

و مما يؤيد الحكم بالنجاسة رواية الحسن بن علي قال: «سألت أبا الحسن (ع) فقلت: ان أهل الجبل تثقل عندهم أليات الغنم فيقطعونها قال: هي حرام. قلت: فنصطبح بها. فقال: اما تعلم انه يصيب اليد و الثوب و هو حرام» «1» و هي بقرينة ما فرضه من محذور في إصابة اليد و الثوب يعلم انها تتكفل الحكم بالنجاسة.

و انما جعلناها مؤيدة لضعف سندها بالمعلى بن محمد.

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 32 من الأطعمة المحرمة


106
بحوث في شرح العروة الوثقى3

(مسألة - 1) حكم القطعة المبانة من الحي ؛ ج‌3، ص : 104

الا الاجزاء الصغار (1) كالثالول، و البثور، و كالجلدة التي تفصل من الشفة، أو من بدن الأجرب عند الحك، و نحو ذلك

______________________________
(1) و ذلك لقصور دليل النجاسة، و هو الروايات السابقة المتكفلة لتنزيل القطعة المبانة من الحي منزلة الميتة، لورودها في اليد و الرجل و ألية الغنم و نحو ذلك.

و يؤيد ذلك رواية علي بن جعفر: «عن الرجل يكون به الثؤلول أو الجرح هل يصلح ان يقطع الثؤلول و هو في صلاته، أو ينتف بعض لحمه من ذلك الجرح و يطرحه. قال (ع): ان لم يتخوف ان يسيل الدم فلا بأس، و ان تخوف ان يسيل الدم فلا يفعله» «1».

و تقريب الاستدلال بالرواية: إما بدعوى: انها رخصت في قطع الثؤلول مع عدم التخوف من خروج الدم، و قطع الثؤلول يساوق عادة حمله، فلو كان في نظر الشارع ميتة لكان من حمل الميتة في الصلاة، و هو غير جائز. و اما بدعوى: ان قطع الثؤلول يعرض المصلى عادة لمس الثؤلول بيده، فلو كان الثؤلول نجسا عند اقتطاعه لتنجست يده مع الملاقاة بالرطوبة، فإطلاق نفي البأس يدل على عدم النجاسة.

و لا بأس بالاستعانة بهذه الرواية كمؤيد، و اما جعلها كدليل على نحو يصلح لتقييد دليل النجاسة لو تم إطلاقه فهو محل إشكال، لإمكان المناقشة في الدعويين المذكورتين:

اما الدعوى الاولى فيرد عليها أولا: انها تتوقف على الالتزام بقيام دليل على عدم جواز حمل الميتة في الصلاة، و اما إذا قيل بان الممنوع في الدليل الصلاة في الميتة و لو في شسع منها لا ما يشمل الحمل فلا تتجه الدعوى المذكورة. و ثانيا: انه لو سلم قيام دليل لفظي على عدم جواز‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 63 من النجاسات


107
بحوث في شرح العروة الوثقى3

(مسألة - 1) حكم القطعة المبانة من الحي ؛ ج‌3، ص : 104

..........

______________________________
حمل الميتة، فغاية ما تدل عليه الرواية جواز حمل الثؤلول، و هذا لا يعارض دليل النجاسة لو فرض أنه يقتضي بإطلاقه نجاسة هذا الثؤلول، لان الدليل المفترض للنجاسة ان كان هو نفس دليل نجاسة الميتة، بدعوى انطباق عنوان الميتة حقيقة على القطعة المبانة فلا بأس بالالتزام بإطلاقه إذا تمت هذه الدعوى، مع البناء على جواز حمل الثؤلول في الصلاة و استلزام الجمع بين النجاسة و جواز الحمل التخصيص في دليل عدم جواز حمل الميتة، مندفع بان دليل عدم جواز الحمل ان كان موضوعه طبيعي الميتة فالتخصيص معلوم على كل حال بعد فرض ان الثؤلول ميتة، و ان كان موضوعه الميتة النجسة فالأمر فيه بالنسبة إلى الثؤلول يدور بين التخصيص و التخصص، و لا معين حينئذ للتخصص المقتضي للطهارة.

و ان كان دليل النجاسة المفترض إطلاقه للثالول روايات القطعة المبانة، فمن الواضح ان الخروج عن إطلاق التنزيل فيها بلحاظ جواز الحمل في الصلاة لا يبرر رفع اليد عن اقتضائه للحكم بالنجاسة.

و اما الدعوى الثانية فيرد عليها: ان الملاقاة مع الرطوبة ليست امرا ملازما عادة لقطع الثؤلول، و انما هو أمر اتفاقي. و السؤال ليس ناظرا الى ما قد يتفق وقوعه من المحاذير المحتملة، بل الى ما هو ملازم لعملية قطع الثؤلول من إيقاع فعل أجنبي في الصلاة أو أمر غالب الاتفاق كخروج الدم، فنفي البأس لا يكون نافيا للمحذور من ناحية الأمور الاتفاقية التي قد تترتب على قطع الثؤلول، من قبيل سراية النجاسة بسبب الملاقاة مع الرطوبة رغم عدم خروج الدم.


108
بحوث في شرح العروة الوثقى3

(مسألة - 2) حكم فارة المسك ؛ ج‌3، ص : 109

(مسألة- 2) [حكم فارة المسك]

فأرة المسك المبانة من الحي طاهرة على الأقوى (1)

______________________________
(1) المسك: اسم لمادة متجمدة من دم الغزال، يحوطها جلد يسمى بفأرة المسك. و هي تؤخذ من الحيوان- تارة- بعد تذكيته، و اخرى في حياته، و ثالثة حال كونه ميتة.

فإذا أخذت منه بعد التذكية، فلا إشكال في طهارتها و طهارة المسك داخلها أيضا، حتى لو كان دما غير مستحيل باعتباره من الدم المتخلف.

و اما إذا أخذت منه حيا، فقد سبق ان القطعة المبانة من الحي لا يشملها إطلاق أدلة نجاسة الميتة، و انما حكم بنجاستها على أساس الروايات الواردة في أليات الغنم و ما قطعته الحبالة من يد و رجل. و عليه فقد يفصل في المقام بين الفأرة التي يلقيها الغزال بطبعه، و ما ينتزع منه انتزاعا قبل أوان انفصاله، فالأول غير مشمول لمفاد تلك الروايات، لاحتمال الفرق عرفا بينه و بين مواردها التي كانت القطعة المبانة فيها غير متهيئة بطبعها للانفصال، كالفأرة، فلا يبقى فيها دليل على النجاسة. و اما الثاني فلا بأس بدعوى: ان تلك الروايات- بعد إلغاء ما يساعد العرف على إلغائه من خصوصيات المورد فيها- شاملة له. اللهم الا ان يقال: ان تلك الروايات موردها هو الاجزاء التي تحلها الحياة من الحيوان، و ليست فأرة المسك كذلك إما لأنها ليست جزء من الحيوان رأسا، بل نسبتها نسبة البيضة الى الدجاجة. و إما لأنها ليست مما تحلها الحياة من أجزائها، فإنها و ان كانت من قبيل الجلد، و لكن تهيأها بحسب طبعها للسقوط تدريجا يجعل نسبتها إلى الحياة أضعف من نسبة سائر الاجزاء. و بتعبير آخر: ان روايات الحبالة و أليات الغنم ناظرة إلى الجزء الذي لو كان متصلا بالحيوان حين موت ذلك الحيوان يحكم بنجاسته، فتدل على نجاسته بفصله عنه حال الحياة أيضا، فلا بد في المرتبة السابقة من إثبات أن فأرة المسك مما يتنجس إذا مات الغزال و هي متصلة به، فاذا منع من ذلك لعدم الإطلاق في دليل نجاسة الميتة لمثل ذلك، فلا تشملها روايات الحبالة أيضا.


109
بحوث في شرح العروة الوثقى3

و اما طهارة المسك فيها فيمكن تقريبها من وجوه: ؛ ج‌3، ص : 110

و اما طهارة المسك فيها فيمكن تقريبها من وجوه:

الأول: انه ليس بدم عرفا،

______________________________
سواء كان دما بحسب تحليله العلمي، أو مادة مغايرة للدم حقيقة- كما هو كذلك عرفا- على ما نقل عن بعض الخبراء بذلك.

الثاني: قصور مقتضى النجاسة لشمول المسك و لو فرض انه دم،

لما سوف يأتي من عدم تمامية مطلق أو عموم على نجاسة دم الحيوان، و انما الدليل قد دل على نجاسته في موارد مخصوصة لا يمكن التعدي منها الى مثل هذا الدم الذي يحتمل فيه الفرق قويا.

الثالث:

أنه لو فرض تمامية إطلاق على نجاسة كل دم من الحيوان، يقال: بعدم الشمول لهذا الدم، باعتباره متكونا من مواد في داخل الفأرة- نظير الدم المتكون في البيضة- فلا يكون دم الحيوان.

الرابع: التمسك بسيرة المتشرعة على معاملة المسك

بل و فأرته أيضا معاملة الطاهر في استعمالاتهم الكثيرة، مما يكشف عن تجويز الشارع ذلك و إمضائه.

و هذا الوجه باعتباره دليلا لبيا يقتصر فيه على القدر المتيقن، و هو المتخذ من الحي و كان منفصلا بنفسه.

و اما فأرة المسك من ميتة الغزال فقد يتمسك لإثبات نجاستها بإطلاق دليل نجاسة الميتة، باعتبارها جزءا من الميتة.

و يمكن التشكيك في ذلك: إما بتقريب: ان دليل نجاسة الميتة لا إطلاق فيه من ناحية الاجزاء على نحو يشمل فأرة المسك، كما يظهر من مراجعة ما تقدم من الروايات، إلا إذا بنى على ان الفأرة مما تحلها الحياة، و استفيد المفهوم بنحو الموجبة الكلية من اخبار استثناء ما لا تحله الحياة، بحيث كانت تدل على ان غيرها محكوم بالنجاسة مطلقا، و هو في غاية الإشكال،


110
بحوث في شرح العروة الوثقى3

و اما في ضوء الروايات الخاصة: ؛ ج‌3، ص : 111

 

..........

______________________________
لأن استثناء شي‌ء لا ينفى استثناء شي‌ء آخر. و عليه فاحتمال الفرق بين فأرة المسك و غيرها من الاجزاء موجود عرفا، و لو بعناية ان كونها متهيئة بطبعها للانفصال يجعل نسبتها إلى الحياة أضعف من نسبة سائر الأجزاء، بنحو لا يلزم عرفا من نجاسة سائر الأجزاء نجاستها، و لا إطلاق ينفي هذا الاحتمال.

و إما بتقريب: أن فأرة المسك ليست جزء من الميتة أصلا، بل نسبتها الى الحيوان نسبة البيضة الى الدجاجة، فلا تثبت نجاستها و لو تم إطلاق على نجاسة الميتة.

و ربما يستدل على طهارتها: بالمدلول الالتزامي العرفي لما دل على طهارة المسك الملاقي معها من الداخل، بعد ظهوره في إثبات الطهارة الفعلية لا الجهتية، فلو كانت نجسة لتنجس المسك في داخلها بالعرض.

و فيه أولا: ما تقدم في مسألة اللبن في الضرع و إنفحة الميتة، من عدم تمامية مثل هذه الدلالة الالتزامية.

و ثانيا: ان روايات طهارة المسك تثبت طهارته الذاتية فعلا، و اما عدم نجاسته بالسراية فليس مدلولا لها، و انما تدل عليه لو فرض ان المسك كان كاللبن في الضرع مائعا، و اما لو كان منجمدا حين الموت- ان كان مائعا قبل ذلك- فلا تنعقد الدلالة المزبورة لنفي نجاسته العرضية لو لاقى النجس مع الرطوبة.

و اما المسك المتخذ من الميتة فأيضا يحكم بطهارته بالوجوه التي تقدمت في إثبات طهارة المسك المتخذ من الحي، عدا الوجه الأخير كما أشرنا سابقا.

هذا كله على مقتضى القاعدة الأولية.

و اما في ضوء الروايات الخاصة:

فقد وردت عدة روايات أهمها ثلاث:

الأولى: رواية علي بن جعفر

سأل أخاه موسى (ع) «عن فأرة المسك تكون مع من يصلى، و هي في جيبه أو ثيابه؟ فقال: لا بأس‌

 

 

 

111
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الأولى: رواية علي بن جعفر ؛ ج‌3، ص : 111

..........

______________________________
بذلك»
«1» فإنها تدل بالمطابقة على جواز حمل فأرة المسك في الصلاة، و بالملازمة على عدم نجاستها حيث لا يجوز حمل النجس في الصلاة، و حيث أطلق فيها فأرة المسك دون تفصيل بين ما يتخذ من الحي و ما يتخذ من الميتة فيستفاد منها- لو لا دعوى كون المتعارف خارجا أخذها من الحي لا الميتة- طهارتها حتى لو كانت من الميتة.

و هذا الاستدلال في غير محله: ذلك ان الملازمة المذكورة بين جواز حمل شي‌ء في الصلاة و عدم نجاسته، ان أريد بها الملازمة العرفية فهي ممنوعة إذ لم يثبت مركوزية هذا الحكم عند العرف بدرجة ينعقد ببركتها ظهور للفظ في نفي النجاسة.

و ان أريد بها الملازمة الثبوتية شرعا، فاما ان يفترض ثبوتها بدليل قطعي، أو يفترض ثبوتها بإطلاق في دليل لفظي:

فعلى الأول تقع المعارضة بين المدلول الالتزامي المذكور مع دليل نجاسة الميتة المفترض إطلاقه لفأرة المسك. و هذه المعارضة بين الرواية و دليل نجاسة الميتة بنحو العموم من وجه، لان شمول الرواية للمتخذ من الميتة انما كان بالإطلاق و مقدمات الحكمة، و معه ربما يرجح دليل النجاسة، إما لكونه قطعي الصدور إجمالا، أو لكونه أقوى دلالة.

و على الثاني لا يثبت بهذه الرواية سوى جواز الحمل في الصلاة.

و اما إثبات طهارتها فهو موقوف على التمسك بإطلاق دليل عدم جواز حمل النجس في الصلاة للمقام أيضا، كي نثبت به انها ليست من النجس، و هذا من التمسك بالعام في مورد دورانه بين التخصيص و التخصص، حيث يعلم بانتفاء هذا الإطلاق اما تخصيصا أو تخصصا، و إثبات التخصص بأصالة عدم التخصيص غير صحيح عندنا، على ما أشرنا إليه مرارا.

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 41 من لباس المصلي


112
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الرواية الثانية: ما في مكاتبة الحميري الى ابي محمد(ع) ؛ ج‌3، ص : 113

..........

______________________________
إلا ان الصحيح عدم ثبوت الملازمة الشرعية المذكورة في نفسها على ما يأتي تحقيقه في محله.

الرواية الثانية: ما في مكاتبة الحميري الى ابي محمد (ع)

«يجوز للرجل ان يصلى و معه فأرة المسك؟ فكتب (ع): لا بأس به إذا كان ذكيا» «1» و هي تفصل بين فرض التذكية و عدمها. و من هنا وقع الاستدلال بها على نجاسة فأرة المسك من الميتة، بل من الحي أيضا تمسكا بإطلاق المفهوم.

غير ان الإنصاف ان استفادة مثل هذا الإطلاق على خلاف الفهم العرفي بحسب مناسبات الحكم و الموضوع، لأن الذكاة بحسب الفهم العرفي ليست صفة أولية للحيوان في عرض صفة الموت و الحياة، بل صفة ثانوية في طول زهاق روحه، و يقابلها في مرتبتها الميتة التي هي القسم الآخر للحيوان الذي زهقت روحه.

فالتعليق على مثل تلك الصفة الثانوية يكون ظاهرا عرفا في افتراض الصفة الأولية في أصل الموضوع، و اقتناص المفهوم في حق البديل المناسب للصفة الثانوية الواقع في مرتبتها، و هذا يعنى ان مورد مفهوم قوله: «إذا كان ذكيا» هو فرض الموت فلا يشمل الحي.

فالمهم ملاحظة دعوى دلالتها بالمفهوم على نجاسة المتخذ من الميتة بتقريب: انها تدل بالمفهوم على عدم جواز حمل فأرة المسك من الميتة في الصلاة، و لا وجه له الا كونها ميتة نجسة، فتكون الرواية دليلا على النجاسة.

غير ان هذا الاستدلال غير تام. لان المنع عن حمل فأرة المسك من الميتة في الصلاة لا يلزم ان يكون من جهة نجاستها، لاحتمال ان يكون‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 41 من لباس المصلى


113
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الرواية الثانية: ما في مكاتبة الحميري الى ابي محمد(ع) ؛ ج‌3، ص : 113

..........

______________________________
من جهة كونها من غير المذكى و لو كانت طاهرة في نفسها، لإمكان ان يكون موضوع المانعية أوسع من الميتة النجسة. و العنوان الوارد في هذه الرواية أيضا مقتضى الأخذ به اعتبار عنوان التذكية في صحة الصلاة إيجابا و سلبا، لا انه مشير إلى حيثية النجاسة و الطهارة، و بناء على هذا تكون الرواية دالة على عدم جواز حمل غير المذكى في الصلاة و لو لم يصدق عليه عنوان اللبس.

و ربما يناقش في الاستدلال بالرواية بوجه آخر حاصله: دعوى قوة احتمال ان يكون المقصود من قوله: «ان كان ذكيا» ان يكون المسك ذكيا، أي طاهرا، و بناء عليه لا تكون دليلا على نجاسة الفأرة بوجه من الوجوه، و انما تكون من أدلة عدم جواز حمل النجس في الصلاة.

و قد استقرب هذا التفسير في المستمسك، باعتباره أوفق مع التذكير في اسم كان و خبره، دون ان نحتاج إلى تأويل أو تقدير «1».

الا ان هذا الوجه للنقاش في الاستدلال بالرواية غير صحيح. و تفصيل الكلام في ذلك: ان محتملات اسم كان ثلاثة: أن يكون هو الظبي نفسه، فإنه و ان كان غير مصرح بذكر الا انه باعتبار ذكر اثر من آثاره و مستلزماته يمكن إرجاع الضمير اليه. أو فأرة المسك، و تذكير الضمير باعتبار ملاحظة عنوان مذكر ينطبق عليه، كعنوان ما يكون معه في الصلاة، أو المسك:

و محتملات معنى الذكاة ثلاثة أيضا: التذكية الشرعية المقابلة للموت حتف الأنف. و الطهارة الذاتية في قبال النجاسة ذاتا و الطهارة الفعلية:

و المستخلص من ذلك بدوا تسعة احتمالات في تفسير جملة «إذا كان ذكيا». غير ان الاحتمال الأول في اسم كان و هو ارادة الحيوان نفسه لا ينسجم الا مع المعنى الأول للتذكية دون الأخيرين، لأن الظبي طاهر ذاتا‌

______________________________
(1) المستمسك الجزء الأول ص 316 ط 4.


114
بحوث في شرح العروة الوثقى3

البحث في الاحتمالات التي جاء في تفسير جملة«إذا كان ذكيا» ؛ ج‌3، ص : 115

..........

______________________________
و ليس فيه نوعان طاهر و نجس: و النجاسة العرضية و ان كانت قد تعرض على الحيوان بالملاقاة، الا انها لا ربط لها بجواز حمل فأرته في الصلاة كي يعلق ذلك على عدمها. فلا يبقى من الاحتمالات إلا سبعة لا بد من ملاحظة النتيجة على كل منها.

[البحث في الاحتمالات التي جاء في تفسير جملة «إذا كان ذكيا»]

الأول: ان يراد باسم (كان) الظبي و بالذكاة ما يقابل الموت حتف الأنف.

و المعنى: انه لا بأس بحمل فأرة المسك في الصلاة إذا كان الظبي المتخذ منه الفأرة مذكى شرعا.

و لا يبعد ان يكون هذا الاحتمال هو المستظهر عرفا من الرواية، لأن هذا هو المعنى المتبادر من الذكاة في عرف المتشرعة- و ان كان قد يطلق على الطهارة أيضا- و هو من صفات الحيوان حقيقة بحيث يطلق عليه أولا، و ان كان قد يطلق على جزئه أيضا بالعناية، و هي عناية لا يبعد ان تكون أشد عرفا من عناية إرجاع الضمير إلى الظبي مع عدم ذكره صريحا لو سلمت العناية فيه: و بناء على هذا الاحتمال تكون دلالة مفهوم الجملة على عدم جواز حمل فأرة المسك المتخذة من الميتة في الصلاة واضحة.

و حينئذ لو اعترف بالملازمة المدعاة بين ذلك و بين النجاسة لأستفيد من الرواية نجاسة فأرة المسك من الميتة ذاتا لا محالة، فإن التعليق المذكور لا يمكن ان يصح الا بذلك. و دعوى: ان الملحوظ في التفصيل بين ذكاة الحيوان و عدم ذكاته لعله كان تنجس فأرة المسك بالملاقاة مع الميتة في فرض عدم التذكية، و لو فرض طهارتها ذاتا. مدفوعة: بأنها إلغاء لظاهر الجملة في أخذ عدم التذكية بنحو الموضوعية في المحذور، و تحويل له الى عنوان آخر مفارق و هو عنوان النجاسة الحاصلة بالملاقاة، التي قد تحصل في المتخذ من المذكى أيضا.

الثاني: ان يكون اسم (كان) فأرة المسك، و يراد بالذكاة التذكية،


115
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الثالث: ان يكون اسم(كان) فأرة المسك، و يراد بذكاتها طهارتها ذاتا، ؛ ج‌3، ص : 116

..........

______________________________
باعتبار انها و ان كانت صفة للحيوان حقيقة، الا انها تطلق عرفا على اجزائه أيضا باعتبار ما يرى من انها صفة لبدنه و لحمه، فتنحل بلحاظ كل جزء منه.

و بناء على هذا الاحتمال أيضا تكون النتيجة كما في الاحتمال السابق.

الثالث: ان يكون اسم (كان) فأرة المسك، و يراد بذكاتها طهارتها ذاتا،

فيكون معنى الجملة: انه يجوز حملها في الصلاة إذا كانت طاهرة ذاتا. و بناء على هذا الاحتمال و ان لم تكن الرواية ناظرة إلى المتخذ من الميتة الا انه مع ذلك يستفاد منها نجاسته، باعتباره المتيقن لو كان في فأرة المسك ما يكون نجسا ذاتا. بل- لو لا أن هذا الاحتمال خلاف ظاهر الرواية- كان الاستدلال بها على النجاسة سالما عما أوردناه عليه، إذ على هذا لا يكون ثبوت النجاسة من ناحية ملازمتها مع عدم جواز الحمل في الصلاة، و انما يكون بملاك ما يستبطنه تفصيل الامام (ع) من وجود فأرة المسك النجسة ذاتا، بعد وضوح ان القدر المتيقن لذلك هو المتخذ من الميتة، حيث لا يحتمل طهارتها و ان يكون غيرها نجسا.

الرابع: ان يكون الاسم فأرة المسك، و يراد بالذكاة الطهارة الفعلية،

و المعنى: انه يجوز حملها في الصلاة لو كانت طاهرة. و بناء على هذا لا يستفاد من مفهوم الرواية نجاسة المتخذ من الميتة كما هو واضح.

الخامس: ان يكون الاسم المسك نفسه، و يراد بالذكاة التذكية قبال الميتة،

باعتبار ان المسك أيضا يتصف بها لكونه جزءا من الحيوان. و هذا الاحتمال من حيث النتيجة كالاحتمال الثاني من حيث دلالة المفهوم على النجاسة الذاتية في المتخذ من الميتة، غاية الأمر ان ذلك الاحتمال لا يثبت فيه أكثر من نجاسة الفأرة نفسها، بينما الثابت على هذا الاحتمال نجاسة المسك و الفأرة معا، لعدم احتمال طهارة الفأرة مع نجاسة مسكها لكونه غير مذكى، فان عدم التذكية في الفأرة أولى منه في المسك، فالدال على الثاني يدل بالأولوية‌


116
بحوث في شرح العروة الوثقى3

السادس: ان يراد من اسم(كان) المسك، و من الذكاة الطهارة الذاتية. ؛ ج‌3، ص : 117

..........

______________________________
على الأول. الا ان هذا الاحتمال بنفسه بعيد غايته، إذا السؤال عن حمل الفأرة، فالأولى ان يعلق الحكم على ذكاتها مباشرة. مضافا الى ان الذكاة بالمعنى المقابل للميتة انسب عرفا بالفارة منها بالمسك.

السادس: ان يراد من اسم (كان) المسك، و من الذكاة الطهارة الذاتية.

و المعنى: انه يجوز حمل فأرة المسك لو كان مسكها طاهرا ذاتا.

و على هذا الاحتمال تارة: نفترض انحصار المسك في الطبيعي المتخذ مع الفأرة من الحيوان. و اخرى: نفرض اتخاذ المسك أيضا عن طرق اخرى، كغمس الفأرة في دم الظبي و حفظ شي‌ء منه فيه ثم وضعه حتى ينجمد فيصبح مسكا.

فعلى الأول: يكون هذا الاحتمال كالاحتمال الثالث من حيث دلالة التفصيل المذكور في الرواية على وجود النجس الذاتي في المسك، و قدره المتيقن ما يتخذ من الميتة. نعم هذا الاحتمال موهون في نفسه. لما قلنا في الاحتمال السابق من ان المناسب اسناد التذكية إلى الفأرة نفسها بعد ان كان السؤال عنها.

و على الثاني: يمكن ان يكون النظر الى ذلك المسك المصنوع المتخذ من دم الغزال، و يكون المقصود انه لو كان المسك الموجود في الفأرة قد اتخذ من دم الغزال النجس ذاتا فلا يجوز حمله في الصلاة. و حينئذ لا يمكن ان يستفاد من الشرطية المذكورة نجاسة المتخذ من الميتة، الا ان ارادة مثل هذا المعنى من الحديث في نفسه بعيد.

السابع: ان يراد من اسم (كان) المسك، و من الذكاة الطهارة بالفعل.

و بناء عليه لا تثبت نجاسة فأرة المسك المتخذ من الميتة، كما هو الحال مع الاحتمال الرابع المتقدم. الا ان هذا الاحتمال موهون غايته، إذ لا وجه لاعتبار طهارة المسك في حمل فأرته أثناء الصلاة، و الحال ان نفس‌


117
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الرواية الثالثة: رواية عبد الله بن سنان ؛ ج‌3، ص : 118

..........

______________________________
الفأرة قد تبتلى بالنجاسة و لو كان مسكها طاهرا.

الرواية الثالثة: رواية عبد اللّه بن سنان

عن ابي عبد اللّه (ع) «قال: كانت لرسول اللّه (ص) ممسكة، إذا هو توضأ أخذها بيده و هي رطبة، فكان إذا خرج عرفوا انه رسول اللّه (ص) برائحته» «1».

و دلالتها على الطهارة باعتبار حجية عمل النبي، و ظهور استشهاد الامام (ع) و عنايته في نقل عمل النبي (ص) مصرحا بأنه كان يمسه برطوبة في ان نظره الى الطهارة مما لا ينبغي إنكاره. الا ان الكلام في نقطتين فيها:

الاولى: في تشخيص المراد بالممسكة. فإن أريد منها محل المسك الطبيعي، اي الفأرة، كانت الرواية دليلا على طهارتها، فضلا عن طهارة المسك فيها. و ان أريد منها الوعاء الذي يجعل فيه المسك و يحفظ، فلا يكون فيها دلالة على طهارة الفأرة، و انما تدل على طهارة المسك نفسه، باعتبار ان المسك انما يراد من أجل الاستعمال و التطيب به، و هو ملازم عادة مع مساورته. فالرواية تدل على ان النبي (ص) كان يقوم بذلك بعد الوضوء مما يدل على طهارته. مضافا الى ان العناية التي جاءت في الرواية من انه كان يأخذها بيده و هي رطبة دليل على النظر إلى جهة المحذور، و من الواضح ان ما يحتمل فيه المحذور لم يكن هو الممسكة بما هي وعاء، فاذا لم يكن النظر إلى فأرة المسك فيتعين ان يكون النظر الى المسك الملوث به الوعاء.

الثانية: انه هل يستفاد من الرواية طهارة الفأرة أو المسك مطلقا، أم لا بد من الاقتصار فيها على القدر المتيقن، و هو المتخذ من المذكى، باعتبار أن القضية المروية قضية خارجية لا يمكن استظهار الإطلاق منها.

و الصحيح: ان الرواية و ان كانت تنقل عملا خارجيا للنبي (ص)،

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 58 من أبواب النجاسات


118
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الرواية الثالثة: رواية عبد الله بن سنان ؛ ج‌3، ص : 118

و ان كان الأحوط الاجتناب عنها (1) نعم لا إشكال في طهارة ما فيها من المسك. و اما المبانة من الميت ففيها اشكال، و كذا في مسكها (2).

نعم إذا أخذت من يد المسلم يحكم بطهارتها، و لو لم يعلم انها مبانة من الحي أو الميت (3).

______________________________
الا ان كون الراوي لها هو الامام (ع) الذي ظاهر حاله انه في مقام بيان الحكم الشرعي، لا مجرد نقل القصة و التأريخ، و ظهور سياق الرواية أيضا في انه كان بصدد الاستشهاد بعمل النبي (ص)، و اقتناص الحكم الشرعي منها حيث فرض فيها عناية رطوبة يده حين استعماله للممسكة، يكسب الرواية ظهورا- على أقل تقدير- في ان ما كان متعارفا في زمان صدور هذا النص لدى الناس من المسك، أو الممسكة- على تقدير إرادة الفأرة بها- كان طاهرا- فاذا استطعنا ان نثبت من الخارج ان المسك المتخذ من الحي أيضا كان متعارفا في الاستعمالات العرفية آنذاك- كما هو الظاهر- كانت الرواية دليلا على طهارته.

نعم المسك و فأرته المتخذ من الميتة إثبات طهارته بالرواية مشكل.

(1) قد ظهر خلال ما تقدم من الأبحاث ما يمكن ان يكون وجها للاحتياط‌

(2) قد اتضح مما سبق ان فأرة المسك و مسكها طاهرتان مطلقا فالاستشكال المذكور منحل.

(3) لا موضوع للبحث عن فرض الشك في كون الفأرة متخذة من الحي أو الميت، بناء على القول بطهارتها مطلقا و انما يتأتى هذا البحث إذا قيل بالتفصيل و هناك تفصيلان محتملان: أحدهما: التفصيل بين المتخذ من المذكى، و غيره حتى المتخذ من الحي.


119
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الرواية الثالثة: رواية عبد الله بن سنان ؛ ج‌3، ص : 118

..........

______________________________
الثاني: التفصيل بين المتخذ من المذكى أو الحي، و المتخذ من الميت.

فاذا اختير التفصيل الأول و ان موضوع الطهارة هو المتخذ من المذكى تمسكا بظاهر قوله في المكاتبة «إذا كان ذكيا»- فعند الشك و فقدان امارة مثبتة للتذكية من يد أو سوق يكون مقتضى الأصل هو النجاسة، تمسكا باستصحاب عدم التذكية، بناء على ان نجاسة الفأرة مترتبة على عدم تذكيتها، لا على عنوان الميتة الذي هو أمر وجودي لا يثبت باستصحاب عدم التذكية.

و تحقيق ذلك: ان نجاسة فأرة غير المذكى تارة: تثبت بلحاظ أدلة نجاسة الميتة و أدلة نجاسة القطعة المبانة من الحي. و اخرى: بلحاظ مفهوم قوله:

«إذا كان ذكيا» في رواية علي بن جعفر. فعلى الأول: تكون النجاسة مترتبة على عنوان الميتة، فلا تثبت باستصحاب عدم التذكية. و على الثاني:

يكون العنوان المأخوذ في الدليل عدم التذكية، إلا ان المفهوم في الرواية لا يدل بصورة مباشرة على النجاسة ليثبت ترتبها على عنوان عدم التذكية، و انما يدل المفهوم مباشرة على عدم جواز حمل الفأرة المأخوذة من غير المذكى في الصلاة، فإن احتمل عدم الجواز و لو مع الطهارة فلا دلالة على النجاسة، و ان علم من الخارج بانتفاء هذا الاحتمال- كما هو المفروض- دل المفهوم بالالتزام على النجاسة. و لكن الدلالة الالتزامية حينئذ لا تعين ان موضوع النجاسة هل هو نفس العنوان الواقع موضوعا لعدم جواز الصلاة، لأن غاية ما ثبت الملازمة بين ذاتي الحكمين، لا تطابقهما في العنوان، و ما لم يحرز كون النجاسة مترتبة على عدم التذكية لا يمكن إثباتها باستصحاب عدم التذكية.

نعم لو استظهر من رواية علي بن جعفر أنها ناظرة ابتداء- سؤالا و جوابا- إلى النجاسة و الطهارة، و ان الاستفهام عن الصلاة مع الفارة تعبير عرفي في مقام السؤال عن النجاسة، كان نفي البأس المعلق على التذكية‌


120
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الرواية الثالثة: رواية عبد الله بن سنان ؛ ج‌3، ص : 118

..........

______________________________
في منطوق الجواب يعني الطهارة، و يدل المفهوم حينئذ على تعليق النجاسة على عنوان عدم التذكية.

و قد يوقع حينئذ نحو من التعارض بين ظهور رواية علي بن جعفر في موضوعية عدم التذكية للنجاسة المساوق لعدم دخل عنوان الميتة الوجودي فيها، و بين ظهور أدلة نجاسة الميتة في دخل هذا العنوان بعد عدم وجود احتمال عرفي للتفكيك بين نجاسة الفأرة و نجاسة غيرها من اجزاء الميتة من حيث الموضوع، و الفراغ عن وحدة النجاسة المجعولة في سائر تلك الأدلة.

و مع التعارض المذكور يتعذر أيضا اجراء الاستصحاب لإثبات النجاسة.

و إذا اختير التفصيل الثاني- كما هو مختار السيد الماتن قده- فتارة:

يعلم بأن الفأرة متخذة من حيوان زهق روحه، و لكن يشك في كونه مذكى أو ميتة. و اخرى: يشك في كونها من الحي أو من الميتة.

و ثالثة: يشك في كونها من الحي أو المذكى أو الميتة. و على كل واحد من هذه التقادير، تارة: يفترض وجود أمارة في البين، كما لو اشتريت من السوق أو أخذت من يد مسلم. و اخرى: لا يوجد شي‌ء من ذلك.

اما على تقدير وجود يد المسلم أو سوقه فلا بد و ان ينظر الى دليل الحجية، ليرى حدود مفاده، فاذا استفيد منه- و لو بمناسبات الحكم و الموضوع العرفية- ان اليد أو السوق اعتبرت امارة على ان المشكوك مما لا محذور فيه شرعا، لان كونه مما فيه المحذور شرعا خلاف ما يقتضيه إسلام صاحب اليد أو السوق، فلا إشكال في شي‌ء من الصور الثلاث للشك، حيث يكون قيام اليد أو السوق امارة على عدم المحذور في فأرة المسك.

و اما إذا استفدنا من دليل أمارية اليد و السوق اماريتهما في إثبات التذكية في قبال الميتة فقط، فأيضا لا إشكال في صحة الاستناد إليهما لإثبات الطهارة في الصورة الأولى، حيث يدور الأمر بين كون الحيوان المتخذ‌


121
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الرواية الثالثة: رواية عبد الله بن سنان ؛ ج‌3، ص : 118

..........

______________________________
منه الفأرة مذكى أو ميتة. كما لا إشكال في عدم إمكان الاستناد إليهما في الصورة الثانية، حيث يقطع بعدم التذكية فيها، و انما يحتمل أخذها من الحي أو أخذها من الميتة.

و اما الصورة الثالثة: فالصحيح أيضا إمكان الاستناد فيها إلى الامارة لإثبات الطهارة، فإن الأمارية و ان كانت ثابتة بمقدار إثبات التذكية في قبال الميتة، مما يعنى ان موضوعها ما إذا أحرز زهاق الروح و شك في كونها بنحو التذكية أو بغيرها، إلا ان ذلك لا يقدح في المقام لإثبات الطهارة، حيث يقال: ان المشكوك لو كان متخذا من الحي فهو طاهر. و لو فرض انه كان متخذا من حيوان زهق روحه فامارية اليد أو السوق تقتضي ان يكون مذكى، و بذلك يحرز موضوع الطهارة على كل تقدير.

لا يقال: المفروض استظهار اختصاص الأمارية بما إذا كان الشك في التذكية و الموت مع إحراز زهاق روح الحيوان، فالتعدي منه الى مورد دوران الاحتمال بين ثلاثة أطراف- كما في المقام- غير صحيح، حيث لا يحرز فيه أصل زهاق الروح.

فإنه يقال: لا وجه لاستظهار الاختصاص المذكور، و انما غاية ما يثبت من الاختصاص إن الأمارية مجعولة في مورد الشك في التذكية و عدمها لإثبات التذكية، قبال احتمال الموت. و في المقام يوجد شك في التذكية فتثبت التذكية قبال احتمال الموت، و ان لم تثبت التذكية في قبال الحياة، كما هو واضح.

و اما على تقدير عدم وجود أمارة في المقام من قبيل اليد و السوق، فلا بد من الرجوع الى الأصل فنقول: تارة: يفرض ان الحكم بنجاسة المتخذ من الميتة باعتباره بنفسه ميتة، حيث يصدق عنوان الميتة و المذكى على جزء الحيوان أيضا بلحاظ الحياة الضمنية فيه. و اخرى: يفرض ان ذلك‌


122
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الرواية الثالثة: رواية عبد الله بن سنان ؛ ج‌3، ص : 118

..........

______________________________
باعتباره بنفسه غير مذكى، كما لو ارجع الضمير في قوله: إذا كان ذكيا إلى الفأرة نفسها، و ثالثة: باعتبار كون الحيوان المتخذ منه غير مذكى، كما لو ارجع الضمير الى الحيوان لا الفأرة، أو باعتبار كون ذلك الحيوان ميتة.

فعلى الأول: لا إشكال في جريان استصحاب عدم كون المشكوك ميتة، باعتبارها عنوانا وجوديا.

و على الثاني: يجري استصحاب عدم التذكية في المشكوك. بناء على جريانه لإثبات آثار عدم التذكية- و سوف يأتي تحقيق ذلك- فتثبت النجاسة حينئذ. و لا فرق في حكم هذين الفرضين بين ما إذا علم اتخاذه من حيوان و شك في كونه ميتة أم لا، و بين ما إذا شك في أخذه من الحيوان المعلوم كونه ميتة أو من غيره.

و على الثالث: لا بد من إجراء الأصل في الحيوان المتخذ منه الفأرة، لأن تذكيته أو موته موضوع للحكم بطهارة الفأرة أو نجاستها. و عليه فهناك صور:

الاولى: ان يعلم بكون الفأرة مأخوذة من حيوان معين، و يشك في حال هذا الحيوان حين أخذ الفأرة منه فلا يعلم هل كان حيا، أو مذكى، أو ميتا، و لا يزال هذا الشك قائماً بشأن ذلك الحيوان حتى الان فيجري استصحاب حياة الحيوان لنفى نجاسة الفأرة.

الثانية: الصورة السابقة نفسها، و لكن يعلم بان الحيوان ميتة فعلا.

فيجري في نفسه استصحاب بقاء الحيوان حيا الى حين أخذ الفأرة منه، لنفي موضوع النجاسة. و قد يعارض باستصحاب بقاء الفأرة على الحيوان الى حين موته لإثبات النجاسة. و هذا انما يتم إذا كان موضوع النجاسة مركبا من اتصال الفأرة بحيوان، و عدم كونه حيا، و عدم كونه مذكى في ذلك الزمان. فإنه- حينئذ- باستصحاب اتصال الفأرة بالحيوان الى زمان عدم حياته، و استصحاب عدم تذكيته الى ذلك الزمان، يثبت موضوع النجاسة. و بعد التعارض بين الاستصحابين يرجع الى قاعدة الطهارة.

الثالثة: ان يعلم بأخذ الفأرة من حيوان معين بعد موته، و يشك في كونه مذكى. فيجري استصحاب عدم التذكية إذا كانت نجاسة الفأرة مترتبة على عدم تذكية الحيوان، لا على كونه ميتة.

الرابعة: ان تتردد الفأرة بين ان تكون مأخوذة من هذا الحيوان أو من ذاك، و كل من الحيوانين لا يشك في حاله، و انما الشك في أخذ الفأرة من هذا أو ذاك. فلا يجري الاستصحاب في الحيوان الذي اتخذت الفأرة منه، لأنه من استصحاب الفرد المردد، فتجري قاعدة الطهارة.


123
بحوث في شرح العروة الوثقى3

(مسألة - 3) ميتة ما لا نفس له طاهرة(1) ؛ ج‌3، ص : 124

(مسألة- 3) ميتة ما لا نفس له طاهرة (1)

______________________________
(1) المعروف بين الفقهاء استثناء ميتة ما لا نفس له من الحكم بالنجاسة، حتى ادعى الإجماع على ذلك في كثير من كلماتهم. و البحث في ذلك: تارة فيما تقتضيه عمومات النجاسة. و اخرى: فيما تقتضيه الروايات الخاصة.

اما البحث الأول: فروايات نجاسة الميتة،

و ان كان أكثرها واردا في موارد ما له نفس سائلة، غير انه بالإمكان دعوى الإطلاق في مثل روايات النهي عن أكل طعام أهل الكتاب و في أوانيهم، معللة ذلك بان فيه الميتة، مع وضوح انهم لا يقتصرون على أكل ميتة ما له نفس سائلة، بل يأكلون مثل السمك مما لا نفس سائلة له أيضا. و مقتضى إطلاق التعليل ثبوت النهي حتى في مورد أكلهم الميتة التي لا نفس لها، فيستفاد منه الإرشاد إلى نجاستها أيضا. اللهم الا ان يدعى الفراغ في تلك الروايات عن كبرى نجاسة الميتة، بنحو لا تكون في مقام البيان من تلك الناحية، ليتمسك بإطلاقها.

و أما البحث الثاني:

فالروايات الخاصة التي قد تصلح لتقييد الإطلاق في دليل النجاسة- على فرض ثبوته- عدة اخبار.


124
بحوث في شرح العروة الوثقى3

و أما البحث الثاني: ؛ ج‌3، ص : 124

..........

______________________________
الأول: رواية حفص بن غياث عن الصادق (ع) «عن أبيه انه قال: لا يفسد الماء الا ما كان له نفس سائلة»
«1».

و دلالتها على طهارة ميتة ما لا نفس له واضحة، فإنها- بقرينة التفصيل بين ما له نفس و ما ليس له نفس- تكون ناظرة إلى نفى النجاسة مما ليس له نفس، لا الى اعتصام مطلق الماء، و الا لم يكن فرق بين ما ليس له نفس و غيره.

و هذه النجاسة المنفية ليس المراد بها النجاسة الذاتية للحيوان، لان وضوح ان الحيوان الحي ليس نجسا و لا منجسا حتى فيما له نفس يصرف ظهور الرواية عن ذلك: و ليس المراد بها نجاسة ما قد ينضم الى الحيوان من فضلاته، لأن إضافة الإفساد المنفي إلى نفس الحيوان قرينة على كون المنظور بدن الحيوان، أو كونه على الأقل هو القدر المتيقن على نحو لا يمكن حمل الرواية على غيره، فيتعين اتجاه نظر الرواية نحو نجاسة الحيوان باعتبار موته.

و لكن في الرواية اشكالا من ناحية السند، لان الشيخ ينقلها في التهذيب:

عن المفيد، عن أحمد بن محمد، عن أبيه، عن أحمد بن إدريس، عن محمد ابن أحمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن عيسى، عن حفص. و أحمد بن محمد الذي يروى عنه المفيد غير ثابت التوثيق.

و ينقلها الشيخ في الاستبصار: عن الحسين بن عبيد اللّه، عن أحمد ابن محمد بن يحيى، عن محمد بن يحيى، عن محمد بن أحمد بن يحيى. إلخ.

و قد وقع فيه أحمد بن محمد أيضا.

و لكن التحقيق إمكان دفع هذا الإشكال السندي، باعتبار ان الشيخ له ثلاث طرق في الفهرست الى جميع كتب و روايات محمد بن أحمد بن يحيى الواقع بعد الضعف في سلسلة السند» و أحدها صحيح قد اشتمل بدلا عن‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 35 من النجاسات


125
بحوث في شرح العروة الوثقى3

و أما البحث الثاني: ؛ ج‌3، ص : 124

..........

______________________________
أحمد بن محمد على الصدوق، فتصح الرواية. فإن قيل: كيف نثبت ان الشيخ ينقل هذه الرواية بذلك الطريق الصحيح الى محمد بن أحمد بن يحيى ما دام قد صرح في كتابيه بطريق معين إليه في مقام نقل تلك الرواية.

قلنا: ان الظاهر من عبارة الفهرست وحدة المنقول بالطرق الثلاثة، و حيث ان الطريق المصرح به في الاستبصار هو أحد الطرق الثلاثة المذكورة في الفهرست، ثبت ان رواية محمد بن أحمد بن يحيى لخبر حفص واصلة إلى الشيخ بالطرق الثلاثة جميعا. و هذا هو المقدار الذي نقبله من نظرية التعويض.

و من جملة الروايات موثقة عمار: «سئل عن الخنفساء و الذباب و الجراد و النمل، يموت في البئر و الزيت و السمن و شبهه؟ فقال (ع):

كل ما ليس له دم فلا بأس» «1» و قريب من مضمونها رواية أبي بصير:

«كل شي‌ء وقع في البئر ليس له دم مثل العقرب و الخنافس و أشباه ذلك فلا بأس» «2» و دلالتها على طهارة ميتة ما لا دم له أوضح من سابقتها، لصراحة نظرها الى محذور الميتة و نجاستها.

غير انه ربما يقال: بدلالتها- بمقتضى إطلاق المفهوم- على نجاسة ميتة ما له نفس غير سائلة، كالسمك مثلا. فتقع طرفا للمعارضة مع رواية حفص المتقدمة بنحو العموم من وجه، و بعد التساقط يرجع فيما له نفس غير سائلة إلى عموم نجاسة الميتة باعتباره مرجعا فوقانيا.

و فيه: أولا: ان الجملة التي استعملها الامام (ع) غير مشتملة على أدوات المفهوم، و غاية ما يوهم كونه مقتضيا للمفهوم استظهار سياق التحديد منها. و من الواضح: انه يكفى لإشباع الحاجة الى التحديد ان يذكر ما يكون جامعا محددا للامثلة التي سأل عنها السائل، و التي كلها مما لا‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 35 من أبواب النجاسات

(2) وسائل الشيعة باب 17 من أبواب الماء المطلق


126
بحوث في شرح العروة الوثقى3

و أما البحث الثاني: ؛ ج‌3، ص : 124

كالوزغ و العقرب و الخنفساء و السمك (1)

______________________________
نفس له أصلا.

و ثانيا: لو فرض تمامية المفهوم فيها، فلا محيص عن تقديم رواية حفص على إطلاق هذا المفهوم، و ذلك لورود قيد السيلان في رواية حفص بحيث يكون الالتزام بإطلاق المفهوم- المقتضي لنجاسة دم ما له دم غير سائل- إلغاء لخصوصية القيد المذكور المأخوذ في رواية حفص، و هذا ليس تقييدا، و انما هو رفع لليد عن موضوعية قيد مأخوذ في الحكم.

و هناك روايات اخرى وردت في موارد خاصة من ميتة بعض الحيوانات التي لا نفس سائلة لها، و هي تدل على الطهارة. الا ان الاستدلال بها على القضية الكلية بحاجة إلى ضم نكات و مناسبات عرفية، تقتضي إلغاء خصوصية تلك الموارد. و سوف يأتي التعرض لجملة منها، الا ان في رواية حفص المطلقة و التامة سندا و دلالة غنى و كفاية.

(1) تمسكا بإطلاق ما دل على طهارة ميتة ما ليس له نفس سائلة، بعد فرض طهارة هذه الحيوانات في أنفسها، و عدم نجاستها الذاتية بقطع النظر عن الموت.

و قد يدعى نجاسة مثل الوزغ و العقرب، تمسكا ببعض الروايات، الا انها- لو تمت دلالتها- فهي ناظرة إلى النجاسة الذاتية لا الى حدوث النجاسة بالموت، إذ لم يفرض في موضوعها ملاقاة الماء و نحوه لميتة الوزغ و العقرب، بل لنفسها، فيكون ذلك أجنبيا عن محل الكلام، إذ لا يرجع الى تخصيص في دليل طهارة ميتة ما لا نفس له. و سوف يأتي تفصيل الكلام في احتمال النجاسة الذاتية لهذه الحيوانات في آخر بحث النجاسات.

فان قيل ان ما دل على نجاسة الوزغ أو العقرب- مثلا- أو انفعال البئر به، و ان لم يؤخذ في موضوعه فرض الموت، و لكن إذا ضم الى ذلك‌


127
بحوث في شرح العروة الوثقى3

و أما البحث الثاني: ؛ ج‌3، ص : 124

و كذا الحية و التمساح، و ان قيل بكونهما ذا نفس، لعدم معلومية ذلك، مع انه إذا كان بعض الحيات كذلك لا يلزم الاجتناب عن المشكوك كونه كذلك (1)

______________________________
ما دل على طهارته في حال حياته تعين تقييد دليل النجاسة بما بعد الموت، فيكون تخصيصا في دليل طهارة الميتة.

قلنا: ان هذا ليس تقييدا عرفيا لظهور تلك الروايات في ان ملاك الحزازة نفس سقوط الوزغ أو العقرب في الماء، و التقييد يعنى إلغاء هذا الملاك رأسا، و جعل هذا السقوط مقدمة لأمر مطوي و هو موت الحيوان في الماء، و افتراض هذا الأمر المطوي ملاكا للحزازة. و من الواضح ان الحمل على التنزه اولى من هذا التأويل عرفا.

(1) ذهب بعض إلى نجاسة ميتة الحية و التمساح، لا باعتبار ورود دليل خاص على ذلك، فإنه لم يرد ما يدل على نجاستها، بل بدعوى كونهما مما له نفس سائلة.

و الجدير بالبحث الفقهي ان نلاحظ حكم الشك في كون حيوان مما له نفس سائلة أو لا؟ فنقول: قد يشك في ان الحيوان ذو نفس سائلة بنحو الشبهة المفهومية، بأن يشك في صدق العنوان المزبور على درجة معينة من الدم في الحيوان. و قد يشك فيه بنحو الشبهة المصداقية، بان لا يعلم مقدار الدم و سيلانه.

اما الفرض الأول: فحكمه التمسك بعموم نجاسة الميتة على فرض وجوده، بناء على ما هو المقرر في محله من التمسك بالعام في الشبهة المفهومية لمخصصه المنفصل.

و اما الفرض الثاني فتارة: يفرض ان الحيوان المشكوك متعين نوعا،


128
بحوث في شرح العروة الوثقى3

و أما البحث الثاني: ؛ ج‌3، ص : 124

..........

______________________________
كميتة الحية التي يشك بنحو الشبهة الموضوعية في سيلان دمها. و اخرى:

يفرض عدم تعين نوعه، كميتة مرددة بين الحية و الفأرة. فهنا صورتان:

أما الصورة الأولى: فان بنى على عدم جريان الاستصحاب في العدم الأزلي جرت في المقام أصالة الطهارة، حتى إذا افترض وجود العموم في دليل نجاسة الميتة، لوضوح عدم جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، و ان بنى على جريان الاستصحاب في الاعدام الأزلية، فاما ان يلتزم بوجود العموم في دليل نجاسة الميتة، و اما ان يلتزم بعدمه. فان التزم بعدمه كان المتيقن نجاسته هو عنوان ما له دم، فيجري استصحاب العدم الأزلي لهذا العنوان و أصالة الطهارة. و ان التزم بوجود العموم في دليل نجاسة الميتة، فلا بد من ملاحظة ما هو الخارج بالتخصيص. فان كان الخارج موضوعا مركبا من ميتة حيوان و عدم كونه ذا نفس سائلة، أمكن إحراز عنوان الخارج باستصحاب العدم الأزلي، لكونه ذا نفس سائلة. و ان كان الخارج موضوعا مقيدا- و هو ميتة الحيوان المتصف بعدم سيلان الدم- فهذا يعني ان عدم السيلان المأخوذ في العنوان الخارج لوحظ بنحو العدم النعتي، فلا يمكن إثباته باستصحاب العدم الأزلي، بل يمكن نفيه بهذا الاستصحاب بنحو يثبت موضوع العام، فيحكم بالنجاسة. هذه هي تقادير المسألة.

و اما تشخيص الواقع منها: فمن ناحية وجود العموم في دليل نجاسة الميتة و عدمه تقدم الحال في ذلك. و من ناحية تشخيص العنوان الخارج بالتخصيص، قد يقال: ان المخصص هو مثل قوله: «كل ما ليس له دم فلا بأس به» و ظاهره أخذ العدم بنحو العدم النعتي. و يرد عليه- مضافا الى إمكان منع هذا الظهور- ان دليل التخصيص لا ينحصر بذلك بعد ان صح سند رواية حفص، و هي تحصر النجاسة بعنوان وجودي، فتعطي هذا العنوان لنفس العمومات، و يكون المستصحب عدمه الأزلي.

و اما الصورة الثانية فتوضيح الحال فيها ان: موضوع الحكم بالنجاسة، ان كان هو ميتة الحيوان الذي له بشخصه نفس سائلة، فاستصحاب العدم الأزلي يجرى لنفي موضوع النجاسة، كما هو الحال في الصورة السابقة. و ان كان هو ميتة الحيوان الذي يكون نوعه ذا نفس سائلة، بحيث لو اتفق وجود النفس السائلة في فرد من السمك مثلا بنحو الشذوذ، لم يستوجب نجاسة ميتة ذلك الفرد، لأن العبرة بالنوع، فيشكل جريان الاستصحاب لأنه ان أريد إجراؤه في واقع النوع الذي ينتسب اليه هذا الحيوان المردد فهو من استصحاب الفرد المردد، لان واقعة أما الحية التي يعلم بعدم النفس لها أو الفأرة التي يعلم بثبوت النفس السائلة لها. و ان أريد إجراؤه في هذا الشخص الخارجي من الحيوان، فهو لا اثر له، لان المفروض أخذ صفة السيلان للنوع لا للفرد، فيرجع الى أصالة الطهارة.


129
بحوث في شرح العروة الوثقى3

(مسألة - 4) إذا شك في شي‌ء انه من اجزاء الحيوان أم لا؟ ؛ ج‌3، ص : 130

(مسألة- 4) إذا شك في شي‌ء انه من اجزاء الحيوان أم لا؟

فهو محكوم بالطهارة (1). و كذا إذا علم انه من الحيوان لكن شك في انه مما له دم سائل أو لا؟ (2).

(مسألة- 5) المراد من الميتة:

أعم مما مات حتف أنفه، أو قتل أو ذبح على غير الوجه الشرعي (3).

______________________________
(1) لاستصحاب عدم كونه من الحيوان، و لأصالة الطهارة.

(2) لاستصحاب عدم كونه من الحيوان ذي النفس السائلة، و لأصالة الطهارة.

(3) كما هو المتفق عليه فتوى و ارتكازا فما مات بقتل أو ذبح غير شرعي يحكم عليه بالحرمة و النجاسة و يشهد لذلك ما دل من الاخبار على النهي عن أكل ما تقطعه الحبال معللا بأنه ميتة بعناية عدم وقوع التذكية عليه و قد يستشهد لذلك بروايات أخرى أيضا و هذا المقدار لا كلام فيه و انما الكلام في تحقيق ان موضوع الحكم بالحرمة أو النجاسة هل هو عنوان الميتة بهذا المفهوم العام أو ما لا يكون مذكى و قد اخترنا في موضع آخر من هذا الشرح التفصيل بين الحرمة و النجاسة فالأولى موضوعها أمر عدمي و لهذا يمكن إثباته بالاستصحاب و الثانية موضوعها عنوان وجودي فيتعذر إثباتها باستصحاب عدم التذكية فلاحظ.


130
بحوث في شرح العروة الوثقى3

(مسألة - 6) يد المسلم أمارة على التذكية و تفصيل البحث في استصحاب عدم التذكية ؛ ج‌3، ص : 131

(مسألة- 6) [يد المسلم أمارة على التذكية و تفصيل البحث في استصحاب عدم التذكية]

ما يؤخذ من يد المسلم من اللحم أو الشحم أو الجلد محكوم بالطهارة، و ان لم يعلم تذكيته (1)

______________________________
(1) يقع الكلام أولا: في استصحاب عدم التذكية و مقدار ما يمكن ان يثبت به من آثار. و ثانيا: في الأمارات الخاصة الحاكمة عليه.

اما تحقيق حال استصحاب عدم التذكية:

فمحصل ما ينبغي إيراده في المقام، انه تارة: يراد إثبات الحرمة تكليفا أو وضعا في الصلاة بالاستصحاب المذكور. و اخرى: يراد إثبات النجاسة. فالكلام في مقامين:

المقام الأول: في إثبات الحرمة بالاستصحاب المذكور.

و هو موقوف على ملاحظة موضوع الحكم بالحرمة، و هل هو عنوان وجودي أو عدمي بنحو العدم النعتي أو المحمولي؟ فهنا صور لا بد من ذكر كل منها، و ملاحظة ان الاستصحاب فيها هل يكون من استصحاب العدم الأزلي أم لا؟

الصورة الاولى:

ان يكون موضوع الحرمة الميتة بما هي أمر وجودي، مسبب عن الأسباب غير الشرعية للموت. و بناء عليه لا يجري استصحاب عدم التذكية بوجه أصلا، لأنه لا يثبت عنوان الموت الا على القول بالأصول المثبتة، لأن هذا الموضوع الوجودي ملازم عقلا لعدم التذكية.

الصورة الثانية:

ان يكون موضوع الحرمة عنوانا عدميا هو عدم‌


131
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الصورة الثالثة: ؛ ج‌3، ص : 132

..........

______________________________
الموت بسبب شرعي بنحو العدم المحمولي، و قد أضيف إلى ذات الحيوان لا الحيوان الميت، فيكون موضوع الحرمة مركبا من زهاق روح الحيوان و عدم تذكيته.

و هذا يعنى ان القيدين عرضيان في نسبتهما الى ذات الحيوان، دون أخذ تقييد بينهما: و بناء على هذا يجرى استصحاب عدم التذكية لإثبات الحرمة، حتى لو أنكرنا الاستصحاب في الاعدام الأزلية، لأن عدم تذكية الذابح للحيوان له حالة سابقة للموضوع الذي هو ذات الحيوان بحسب الفرض، فيجري استصحابه، و يضم الى القيد الآخر للموضوع المحرز بالوجدان و هو زهاق روحه، و يلتئم به الموضوع المركب.

الصورة الثالثة:

نفس الصورة مع افتراض العدم نعتيا لا محموليا.

و الحكم فيها كما في الصورة السابقة، لأن العدم النعتي أيضا له حالة سابقة حال حياة الحيوان، فيحرز بالاستصحاب، و يضم اليه الجزء الآخر المحرز بالوجدان، فيثبت المركب.

الصورة الرابعة:

ان يكون عدم التذكية مضافا الى الحيوان الزاهق روحه، لا الى نفس الحيوان، مع كونه بنحو العدم المحمولي، و هذا معناه ان قيدي زهاق الروح و عدم التذكية طوليان لا عرضيان، و بناء عليه يجري أيضا استصحاب عدم كون هذا الحيوان الزاهق روحه مذكى.

و لكنه من الاستصحاب في العدم الأزلي، إذ لا حالة سابقة للحيوان الزاهق روحه بما هو كذلك.

الصورة الخامسة:

نفس الصورة من حيث طولية القيدين، و لكن مع افتراض عدم التذكية بنحو النعتية، أي الحيوان الزاهق روحه الموصوف بأنه غير مذكى. و بناء عليه لا يمكن اجراء الاستصحاب، حتى على القول بالأصل في الاعدام الأزلية، لأنه لا يثبت العدم النعتي الأبناء على الأصل‌


132
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الصورة الخامسة: ؛ ج‌3، ص : 132

..........

______________________________
المثبت، فالمرجع حينئذ أصالة الحل و الإباحة لا محالة. هذه هي صور المسألة ثبوتا.

و المترائى من السنة أدلة الحرمة- إثباتا- الصورة الرابعة منها.

ذلك: ان الآية الكريمة قد رتبت الحكم بالحرمة- أولا- على كل حيوان زهقت روحه، ثم استثنت المذكى بقوله تعالى «إِلّٰا مٰا ذَكَّيْتُمْ». و قد حققنا في محله ان القيد الوارد بالتخصيص يؤخذ عدمه المحمولي في موضوع العام. و هذا يعنى جريان استصحاب عدم التذكية عند الشك، بناء على ما هو الصحيح من جريان الاستصحاب في الاعدام الأزلية.

هذا ما تقتضيه القاعدة الأولية العامة عند الشك في التذكية بنحو الشبهة الموضوعية. غير ان في المقام روايات ظاهرة في خلاف ذلك:

كرواية علي بن حمزة التي ورد فيها: «ما علمت أنه ميتة فلا تصل فيه» «1» و رواية ابن مهران: «لا بأس ما لم تعلم أنه ميتة» «2»، حيث رتب فيهما الجواز على فرض عدم العلم بالميتة الذي يعنى إلغاء استصحاب عدم التذكية في مورد الشك. و قد استند صاحب المدارك- قده- الى هذه الروايات في إبطال استصحاب عدم التذكية.

و هناك محاولتان للجواب على ذلك:

الاولى: ان هذه الروايات- كأدلة أصالة الحل و البراءة- تكون محكومة للاستصحاب، باعتباره علما تعبديا بموضوع الحرمة، فتتحقق الغاية في هذه الأدلة.

و فيه: أولا- عدم تمامية كبرى حكومة الاستصحاب على الأصول العملية الأخرى- على ما حققناه في علم الأصول- و انما نقدمه عليها بنكات الجمع العرفي المقتضي لملاحظة النسبة بين دليله و أدلتها.

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 50 من أبواب النجاسات

(2) وسائل الشيعة باب 50 من أبواب النجاسات


133
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الصورة الخامسة: ؛ ج‌3، ص : 132

..........

______________________________
و ثانيا: لو سلمنا حكومة الاستصحاب على أصالة الحل في مطلق الشبهات، فلا نسلم حكومته على هذه الروايات باعتبارها واردة في مورد الشك في التذكية الذي يكون مسبوقا دائما بالحالة السابقة لعدم التذكية، فيكون تقديمه عليها بالحكومة طرحا لها، و الدليل الحاكم انما يتقدم على محكومة فيما إذا لم يستلزم منه الطرح، و الا خصص الحاكم بالمحكوم.

لا يقال: هذه الروايات أعم من دليل الاستصحاب من جهة، حيث انها تشمل موارد العلم الوجداني بالتذكية، فلا يلزم من تحكيم الاستصحاب عليها في مورد الشك إلغائها.

فإنه يقال: صريح الروايات أخذ عدم العلم بموضوع الحرمة موضوعا للحلية، و التحكيم المذكور إلغاء لهذا العنوان، فيكون بحكم الطرح و التأويل عرفا فان قيل: ان الأعمية من جهة محفوظة على اى حال بلحاظ شمول الروايات المذكورة لحالات قيام الامارة على التذكية، و عدم شمول دليل الاستصحاب لها.

قلنا: ان المغيى في تلك الروايات، ان كان مخصوصا بموارد الامارة على التذكية- فلا يعقل حكومة الاستصحاب على الغاية و تحقيقه فردا تعبديا لها، و إلا يلزم حكومته على الامارة المثبتة للتذكية، و هو خلاف المقصود و ان كان المغيى شاملا لموارد الشك المجرد من الامارة، فهذا بنفسه يعني شمول الترخيص لمورد الاستصحاب، و بالتالي عدم تحقق الغاية المجعولة للترخيص في تلك الروايات.

و ثالثا: ان الحرمة أنيطت في الروايات المذكورة بالعلم بأنه ميتة، لا بالعلم بعدم التذكية. فإن استظهر منها كونها بصدد اناطة الجواز بالعلم بما هو موضوع الحرمة و كون ذكر الميتة بما هي موضوع لها كانت بنفسها ظاهرة في موضوعية الميتة للحرمة و هذا يبطل جريان الاستصحاب في‌


134
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الصورة الخامسة: ؛ ج‌3، ص : 132

..........

______________________________
نفسه، فضلا عن حاكميته، لان عنوان الميتة لا يثبت باستصحاب عدم التذكية و ان لم يستظهر منها ذلك و احتمل كونها بصدد اناطة الجواز بالعلم بالميتة، و ان كان موضوع الحرمة أمرا عدميا، فاستصحاب عدم التذكية في نفسه و ان كان يثبت الحرمة، و لكن تمتنع حكومته على تلك الروايات، لان مفاده العلم التعبدي بعدم التذكية لا بعنوان الميتة، و ما جعل غاية، العلم بالميتة.

و المحاولة الثانية التي يفرض فيها الاعتراف بعدم الحكومة المدعاة في المحاولة الاولى ان: هذه الروايات واردة في موارد الامارة الشرعية على التذكية، كما يظهر من ورود السؤال في بعضها عن الجلد يؤخذ من السوق، و لا جريان للاستصحاب في مواردها كي يتعارض مع هذه الروايات، فتبقى موارد الشك و عدم الامارة مجرى للاستصحاب.

و هذه المحاولة، ان أريد بها ان هذه الروايات منصرفة انصرافا كليا الى موارد الامارة على التذكية من سوق أو يد، فهذا الانصراف- إذا ثبت- يصلح ان يكون جوابا، و لكنه في نفسه غير صحيح إذ لا موجب لهذا الانصراف بعد فرض الإطلاق في جواب الامام (ع) لكل ما لا يعلم أنه ميتة. و ان أريد بها ان هذه الروايات أعم من موارد اليد و غيرها، و دليل الاستصحاب انما يقتضي إجراء استصحاب عدم التذكية في غير مورد اليد، فتخصص بدليل الاستصحاب، فيخرج عنها موارد الشك و عدم السوق أو اليد، فيرد عليها:

أولا: ان خروج موارد اليد و السوق عن إطلاق دليل الاستصحاب بدليل منفصل، لا يخرجه عن كونه أعم مطلقا من الروايات المذكورة، بل يكون من قبيل العام الذي ورد في مقابله خاصان: أحدهما دليل أمارية اليد و السوق، و الآخر الروايات المذكورة، فيخصص بهما معا.


135
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الصورة الخامسة: ؛ ج‌3، ص : 132

..........

______________________________
و ثانيا: لو فرض خروج موارد اليد و السوق موضوعا عن دليل الاستصحاب، كما لو كان الخروج بنحو حكومة موجبة لرفع الموضوع حقيقة بالتعبد، فهذا لا يكفي لإنتاج أخصية دليل الاستصحاب، بل تكون النسبة بينه و بين الروايات العموم من وجه، لشموله لسائر الشبهات، و بعد التعارض و التساقط يرجع الى أصالة الحل.

فان قيل: بل يقدم دليل الاستصحاب مع ذلك، للقرينية، كما يقدم على دليل البراءة، و لو لم نقل بالحكومة.

قلنا: ان قرينية دليل الاستصحاب على دليل البراءة متقومة بكون مفاد الاستصحاب مطابقا مع مفاد الغاية، و هذا التطابق غير موجود في المقام، لان مفاد الاستصحاب التعبد بعدم التذكية، و مفاد الغاية إحراز عنوان الميتة، فلا تتم القرينية.

فالصحيح: ان هذه الروايات لو لوحظت وحدها لانتجت أصالة التذكية في موارد الشك. غير ان هناك روايات اخرى دلت على الخلاف من قبيل: موثقة ابن بكير: «فان كان مما يؤكل لحمه فالصلاة في وبره و بوله و شعره و روثه و ألبانه و كل شي‌ء منه، جائز إذا علمت أنه ذكي» «1» فإنها دالة على عدم الجواز في فرض عدم العلم بالتذكية. و هي مطلقة من حيث وجود امارة عليها أم لا. و حينئذ لو قلنا بانقلاب النسبة، كانت الرواية- بعد تخصيصها بإخراج موارد الامارة- أخص مطلقا من الروايات المتقدمة، الدالة على الجواز مطلقا، و الا فالتعارض و التساقط. و على كلا التقديرين تثبت أصالة عدم التذكية في موارد الشك. و مثل رواية ابن بكير، نفس ما دل على أمارية أرض الإسلام و حجيته في إثبات الجواز، فان هذا دال على ان المرجع- لو لا الحجية- سنخ أصل منجز، و الا لم يكن هناك‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 2 من لباس المصلى


136
بحوث في شرح العروة الوثقى3

المقام الثاني: في إثبات النجاسة باستصحاب عدم التذكية ؛ ج‌3، ص : 137

..........

______________________________
معنى عرفا لجعل مثل تلك الأمارية.

المقام الثاني: في إثبات النجاسة باستصحاب عدم التذكية

و قد ذكر ان إثباتها بالاستصحاب مبني على تمامية أحد أمرين: ان يكون موضوعها عدم التذكية، أو ان يكون موضوعها عنوان الميتة مع إرجاعها إلى الموت لا بالسبب الشرعي.

اما الأمر الأول فهو خلاف ظاهر روايات الباب الدالة على النجاسة، حيث أخذ في موضوعها عنوان الميتة.

الا أن المحقق الهمداني (قده) حاول إثباته بمثل رواية الصيقل قال:

«كتبت الى الرضا (ع): اني اعمل أغماد السيوف من جلود الحمر الميتة، فتصيب ثيابي فأصلي فيها؟ فكتب إليّ: اتخذ ثوبا لصلاتك. فكتبت إلى أبي جعفر الثاني (ع): إني كنت كتبت إلى أبيك (ع) بكذا و كذا.

فصعب علي ذلك، فصرت أعملها من جلود الحمر الوحشية الذكية. فكتب إليّ: كل أعمال البر بالصبر يرحمك اللّه، فإن كان ما تعمل وحشيا ذكيا فلا بأس» «1» حيث يمكن ان يستدل بالجملة الأخيرة على ان البأس- و هو النجاسة بحسب فرض السائل المستفاد من قوله: «فتصيب ثيابي فأصلي فيها»- موضوعه ان لا يكون ذكيا.

و فيه: ان الشرطية المذكورة مسوقة في قبال الشق الأول المفروض في كلام السائل، و هو اتخاذه أغماد السيوف من جلود الحمر الميتة، و الذي عدل عنه الى جلود الحمر الوحشية الذكية بعد عدم تجويز الامام الرضا (ع) الصلاة في الثوب الملاقي معها. فالشرطية في المقام في قوة قوله: ان كان ما تعمله هو فرضك الثاني فلا بأس. و مفهومها حينئذ: ان الفرض الأول في كلام السائل و هو جلود الحمر الميتة فيه بأس. و الشاهد على ذلك انه‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 49 من أبواب النجاسات


137
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الكلام في الروايات الدالة على أمارية يد المسلم ؛ ج‌3، ص : 138

 

..........

______________________________
وردت في كلام الامام (ع) كلمة (وحشيا) التي كانت واردة في فرض السائل نفسه دون ان يكون له دخل في الحكم الشرعي، مما يشهد على ان نظر الامام (ع) الى فرض السائل.

فالصحيح: عدم تمامية الأمر الأول، لأن أدلة النجاسة قد رتبتها على عنوان الميتة لا عدم التذكية.

و اما الأمر الثاني، فقد قيل في عدم تماميته: ان الميتة عنوان وجودي عرفا و ليس مجرد عدم التذكية، و لو فرض الشك و الإجمال كفى ذلك في عدم جريان استصحاب عدم التذكية أيضا.

و الصحيح: انا حتى لو جزمنا بكون الميتة عبارة عن الموت لا بالسبب الشرعي الذي هو عنوان عدمي، لم يجد ذلك في جريان استصحاب عدم التذكية، لوضوح ان هذا الوصف العدمي مأخوذ في عنوان الميتة بنحو وحداني نعتي مضاف الى الموت، و هو الصورة الخامسة من الصور المتقدمة، لا بنحو التركيب، و الا لم تكن الميتة عنوانا واحدا. و استصحاب عدم التذكية انما يجدي فيما إذا كان الموضوع مركبا بأحد الأنحاء المتقدمة في الصورة الثانية و الثالثة و الرابعة من الصور الخمس السابقة. فبناء المسألة على الأمر الثاني كما فعله جماعة في غير محله.

و قد اتضح من كل ما تقدم: ان الأصل عند الشك في التذكية هو عدمها بلحاظ حرمة الأكل و عدم جواز الصلاة، و أصالة الطهارة بلحاظ النجاسة.

[الكلام في الروايات الدالة على أمارية يد المسلم]

و اما ما ادعى الخروج به عن الأصل المذكور باعتبار اماريته على التذكية فهي اليد، و السوق، و ارض الإسلام.

و المدرك في أمارية هذه العناوين روايات الباب، و يمكن تصنيفها الى طوائف:

الأولى: ما دل على الحلية حتى يعلم أنه ميتة.

و هذه الطائفة أجنبية‌

 

 

 

138
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الأولى: ما دل على الحلية حتى يعلم أنه ميتة. ؛ ج‌3، ص : 138

..........

______________________________
وردت في كلام الامام (ع) كلمة (وحشيا) التي كانت واردة في فرض السائل نفسه دون ان يكون له دخل في الحكم الشرعي، مما يشهد على ان نظر الامام (ع) الى فرض السائل.

فالصحيح: عدم تمامية الأمر الأول، لأن أدلة النجاسة قد رتبتها على عنوان الميتة لا عدم التذكية.

و اما الأمر الثاني، فقد قيل في عدم تماميته: ان الميتة عنوان وجودي عرفا و ليس مجرد عدم التذكية، و لو فرض الشك و الإجمال كفى ذلك في عدم جريان استصحاب عدم التذكية أيضا.

و الصحيح: انا حتى لو جزمنا بكون الميتة عبارة عن الموت لا بالسبب الشرعي الذي هو عنوان عدمي، لم يجد ذلك في جريان استصحاب عدم التذكية، لوضوح ان هذا الوصف العدمي مأخوذ في عنوان الميتة بنحو وحداني نعتي مضاف الى الموت، و هو الصورة الخامسة من الصور المتقدمة، لا بنحو التركيب، و الا لم تكن الميتة عنوانا واحدا. و استصحاب عدم التذكية انما يجدي فيما إذا كان الموضوع مركبا بأحد الأنحاء المتقدمة في الصورة الثانية و الثالثة و الرابعة من الصور الخمس السابقة. فبناء المسألة على الأمر الثاني كما فعله جماعة في غير محله.

و قد اتضح من كل ما تقدم: ان الأصل عند الشك في التذكية هو عدمها بلحاظ حرمة الأكل و عدم جواز الصلاة، و أصالة الطهارة بلحاظ النجاسة.

[الكلام في الروايات الدالة على أمارية يد المسلم]

و اما ما ادعى الخروج به عن الأصل المذكور باعتبار اماريته على التذكية فهي اليد، و السوق، و ارض الإسلام.

و المدرك في أمارية هذه العناوين روايات الباب، و يمكن تصنيفها الى طوائف:

الأولى: ما دل على الحلية حتى يعلم أنه ميتة.

و هذه الطائفة أجنبية‌


138
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الثانية: ما دل على ترتيب أثر التذكية، ؛ ج‌3، ص : 139

..........

______________________________
عن المقصود، لان مفادها أصالة الحل لا جعل الأمارية.

و قد تقدم انها مبتلاة بالمعارض في رتبتها، مما دل على عدم الجواز حتى يعلم بالتذكية.

الثانية: ما دل على ترتيب أثر التذكية،

و كان مختصا موردا بما يؤخذ من السوق، كرواية الحلبي «سألت أبا عبد اللّه (ع): عن الخفاف التي تباع في السوق. فقال: اشتر وصل فيها، حتى تعلم أنه ميتة بعينه» «1» فان مورد هذه الرواية هو المأخوذ من السوق، و لهذا كان الحكم بجواز ترتيب أثر التذكية عليه قابلًا للتعبير عن جعل الأمارية للسوق، كما انه قابل لان يكون تعبيرا عن أصالة التذكية في المشكوك.

الثالثة: ما كان ظاهرا في جعل الأمارية للسوق،

مثل رواية الفضيل، و زرارة، و محمد بن مسلم: «أنهم سألوا أبا جعفر (ع): عن شراء اللحوم من الأسواق و لا يدري ما صنع القصابون. فقال: كل، إذا كان ذلك في سوق المسلمين، و لا تسأل عنه» «2» فإن إناطة الحلية بالسوق ظاهرة في أنها بملاك أمارية السوق، لا لجعل أصالة التذكية في المشكوك.

الرابعة: ما كان ظاهرا في جعل الأمارية للصنع في أرض الإسلام،

كرواية إسحاق بن عمار عن العبد الصالح: «لا بأس بالصلاة في الفراء اليماني، و فيما صنع في أرض الإسلام. قلت: فان كان فيها غير أهل الإسلام؟ قال: إذا كان الغالب عليها المسلمين فلا بأس» «3».

الخامسة: ما كان ظاهرا في اعتبار إسلام البائع دليلا على التذكية،

و هو خبر إسماعيل بن عيسى: «سألت أبا الحسن (ع): عن الجلود‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 50 من النجاسات

(2) وسائل الشيعة باب 29 من الذبائح

(3) وسائل الشيعة باب 50 من النجاسات


139
بحوث في شرح العروة الوثقى3

السادسة: ما دل على اناطة الجواز ؛ ج‌3، ص : 140

..........

______________________________
و الفراء، يشتريها الرجل في سوق من أسواق الجبل، أ يسأل عن ذكاته إذا كان البائع مسلما غير عارف؟ قال: عليكم ان تسألوا عنه إذا رأيتم المشركين يبيعون ذلك، و إذا رأيتم يصلون فيه فلا تسألوا عنه»
«1».

السادسة: ما دل على اناطة الجواز

بكون التذكية مضمونة و متعهدا بها من قبل البائع، كخبر محمد بن الحسين الأشعري: «كتب بعض أصحابنا الى ابي جعفر الثاني (ع): ما تقول في الفرو يشترى من السوق؟ فقال:

إذا كان مضمونا فلا بأس» «2».

و الطائفة السادسة- مضافا الى الإشكال السندي فيها، لعدم ثبوت وثاقة محمد المذكور- لا بد من حملها على الاستحباب، جمعا بينها و بين ما هو صريح عرفا في عدم وجوب السؤال. و الطائفة الخامسة ساقطة سندا، لعدم ثبوت وثاقة إسماعيل بن عيسى.

و على هذا فالمهم انما هو الطوائف الثانية و الثالثة و الرابعة. و قد تكفلت عنوانين أحدهما: ما صنع في أرض الإسلام. و الآخر: السوق.

و هو مخصوص بسوق المسلمين، و ان ورد مطلقا في بعض الروايات، إما لان ارتكاز مجرد كون المحل سوقا لا يكفي لإثبات التذكية قرينة على حمل مفاد تلك الروايات على القضية الخارجية و الإشارة الى ما هو المعهود و ما هو المعهود خارجا أسواق المسلمين، أو على القضية الحقيقية مع تقييدها بنحو يجعلها غير منافية للارتكاز و ذلك بإرادة سوق المسلمين خاصة. و إما للتقييد الوارد في بعض روايات السوق كما تقدم.

و الكاشفية المجعولة في تلك الروايات للسوق أو للصنع في أرض الإسلام عن التذكية يمكن تصويرها ثبوتا بعدة أنحاء:

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 50 من النجاسات

(2) وسائل الشيعة باب 50 من النجاسات


140
بحوث في شرح العروة الوثقى3

و هنا أمور لا بد من التنبيه إليها: ؛ ج‌3، ص : 141

 

..........

______________________________
الأول: ان يكون ذلك كاشفا عن تذكية المشكوك ابتداء، باعتبار ان المشكوك لو كان في سوق المسلمين أو صنع في بلادهم فالغالب انه يصنع حسب طريقتهم الشرعية المقتضية للتذكية.

الثاني: ان يكون ذلك كاشفا عن إسلام من بيده مشكوك التذكية، باعتبار ان الغالب في السوق أو البلد المسلمون فتكون هذه الغلبة في السوق أو البلد امارة إسلام البائع، و تكون يده هي الامارة على التذكية.

الثالث: ان يكون كاشفا عن مرور المشكوك على يد مسلم، اما صنعا أو بيعا أو غير ذلك، و لو فرض ان من بيده المشكوك في السوق لم يكن بمسلم، و تكون الامارة على التذكية تلك اليد المسلمة التي كشف إجمالا وقوع المشكوك تحت حيازتها.

و تختلف هذه الاحتمالات في نتائجها. فإنه بناء على الأول منها يحكم بتذكية المشكوك في السوق أو أرض المسلمين، و لو فرض كفر صاحب اليد بل و العلم بعدم سبق يد المسلم عليه أيضا. و لا يحكم بذلك على الأخيرين كما انه لو احتمل مرور يد المسلم و سبقها على يد الكافر حكم بالتذكية على الاحتمال الثالث، دون الثاني. و لعل المنصرف إثباتا من الروايات هو النحو الثاني، خصوصا بلحاظ ارتكازية أمارية الغلبة على إلحاق الفرد المشكوك بالأعم الأغلب، و لا أقل من احتمال هذا الانصراف الموجب للزوم الاقتصار على المتيقن.

و عليه: فتكون يد المسلم هي الامارة، و السوق أو أرض الإسلام التي يغلب فيها المسلمون هي الامارة على الامارة.

و هنا أمور لا بد من التنبيه إليها:

الأول:

انه بناء على استظهار جعل الامارة على الامارة من روايات الباب، تكون يد المسلم امارة و لو لم يكن موجودا في ضمن سوق أو في‌

 

 

 

141
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الأمر الثاني: ؛ ج‌3، ص : 142

..........

______________________________
أرض الإسلام. نعم لو بنينا على إجمال الروايات، و عدم استظهار أحد الأنحاء الثلاثة، فيشكل ذلك، لاحتمال كون سوق المسلمين هو الامارة ابتداء.

الأمر الثاني:

أن أمارية اليد على التذكية المستفادة من هذه الروايات لا إطلاق فيها يثبت: ان مجرد وقوع الشي‌ء تحت يد المسلم و في حيازته امارة على التذكية و لو كان مهملا من قبله، بل لا بد من فرض نحو اعتناء لصاحب اليد بالشي‌ء من قبيل ترتيب آثار التذكية عليه أو صنعه أو عرضه للبيع و نحو ذلك، لقصور الروايات عن شمول غير هذه الموارد.

الأمر الثالث:

ان يد المسلم إذا كانت مسبوقة بيد الكافر، فان احتمل ان يكون المسلم قد اعمل عناية في التعرف على كونه مذكى شمله إطلاق الروايات، و الا فلا، لان ظهورها في كون ترتيب الآثار على يد المسلم من باب الأمارية يكون قرينة على تقييد إطلاقها و المنع عن شمولها لهذه الحالة، لوضوح عدم الأمارية فيها ليد المسلم رأسا. و لو جاز ترتيب الآثار على يد المسلم في هذه الحالة، لأمكن لكل شخص ان يتسلم المشكوك تذكيته من الكافر ابتداء، ثم يسلمه الى المسلم، و بعد ذلك يتسلمه منه. أو يكلف المسلم بأن يأخذ المشكوك من الكافر، ثم يتسلمه منه. و من الواضح ان الارتكاز العرفي- المحكم في فهم روايات الباب- يأبى عن التفكيك بين ان يأخذه المسلم مباشرة من الكافر، أو ان يكلف مسلما آخر بأخذه و هو يأخذه منه.

الأمر الرابع:

ان أمارية يد المسلم تشمل غير المؤمن أيضا، ممن يستحل الجلود بالدبغ و يعتبره ذكاة لها أيضا.

و قد يستشكل في ذلك: تارة: بدعوى قصور الروايات عن الشمول، لان المستحل لا كاشفية ليده عن التذكية المطلوبة، و هي ظاهرة في اعتبار اليد من باب الكاشفية. و أخرى بدعوى: وجود المقيد لإطلاقها‌


142
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الأمر الرابع: ؛ ج‌3، ص : 142

..........

______________________________
أما الدعوى الاولى: فيدفعها ان كون الغالب في سوق المسلمين وقتئذ المسلم المستحل و ندرة المؤمن قرينة عرفا على شمول إطلاق الروايات له، و لكن لا بمعنى إسقاط ظهورها في الكاشفية رأسا، بل بمعنى اعمال عناية في مقام تطبيق الكاشف على هذا المورد.

و اما الدعوى الثانية فتتمثل في روايتين:

الأولى: رواية أبي بصير «قال: سألت أبا عبد اللّه عن الصلاة في الفراء فقال: كان علي بن الحسين (ع) رجلا صردا لا يدفئه فراء الحجاز لأن دباغها بالقرظ فكان يبعث الى العراق فيؤتى مما قبلكم بالفرو فيلبسه فاذا حضرت الصلاة ألقاه و القى القميص الذي يليه فكان يسئل عن ذلك فقال ان أهل العراق يستحلون لباس جلود الميتة و يزعمون ان دباغه ذكاته» «1» و قد يناقش في الاستدلال بها بوجهين: أحدهما: أن عمل السجاد (ع) لا يدل على الحرمة بل يلائم مع التنزه. و يندفع بان الاستدلال ليس بعمله مباشرة، بل بنقل الامام الصادق (ع) له في مقام الجواب عن الجواز و عدمه، فيكون ظاهرا في عدم الجواز و الآخر: ان سؤال الراوي انما هو عن جواز لبس الفرو بنحو الشبهة الحكمية لا عن حكم الشبهة الموضوعية، فيتم الظهور المذكور في نقل الامام الصادق (ع) لعمل الامام السجاد (ع) و الجواب: ان حمل السؤال على ذلك خلاف ظاهر الجواب، لان ظاهر الجواب الاهتمام الخاص بنقل تفصيل عمل الامام السجاد (ع) و اجتنابه عن الفرو العراقي حال الصلاة، و المنصرف عرفا من ذلك كونه دخيلا في الجواب لا مجرد استطراد. فلو حمل السؤال على استعلام حال الشبهة الموضوعية كان بيان الإمام في مقام الجواب مطابقا للسؤال، و لو حمل على الشبهة الحكمية لزم كون الجواب مقتنصا من بيان الامام، مع اتجاه بيان‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة كتاب الصلاة باب 61 من أبواب لباس المصلي


143
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الأمر الخامس: ؛ ج‌3، ص : 144

 

..........

______________________________
الإمام إلى جهة استطرادية، و هو خلاف الظاهر عرفا. و الصحيح: بطلان الاستدلال بالرواية، لضعف سندها بغير واحد من رجالها، كمحمد ابن سليمان الديلمي و غيره. مضافا الى تعين حملها على التنزه في مقام الجمع، بعد عدم إمكان إخراج المستحل من إطلاق روايات الجواز على ما تقدم.

الرواية الثانية: ما عن عبد الرحمن بن الحجاج، «قال: قلت لأبي عبد اللّه (ع): انى ادخل سوق المسلمين، اعني هذا الخلق الذين يدعون الإسلام، فاشترى منهم الفراء للتجارة، فأقول لصاحبها أ ليس هي ذكية؟

فيقول: بلى فهل يصلح لي ان أبيعها على انها ذكية؟. فقال: لا، و لكن لا بأس ان تبيعها و تقول قد شرط لي الذي اشتريتها منه انها ذكية.

قلت: و ما أفسد ذلك. قال: استحلال أهل العراق للميتة، و زعموا ان دباغ جلد الميتة ذكاته، ثم لم يرضوا حتى ان كذبوا في ذلك على رسول اللّه (ص)» «1». و هي قد يستدل بها على عدم الاعتبار بيد البائع المستحل حتى مع شهادته بذكاته. الا انه قد يناقش فيها دلالة- بدعوى:

ان ظاهرها عدم جواز التعهد و الشهادة بأن المشكوك مذكى استنادا الى يد المستحل أو قوله، لا الحكم ظاهرا بأنه ليس بمذكى، خصوصا مع ظهور الكلام في جواز البيع، بناء على عدم جواز بيع غير المذكى. فان تمت هذه المناقشة فهو، و الا كفى في سقوط هذه الرواية ضعفها سندا بمحمد بن هلال، و هكذا يتضح تمامية المقتضى و عدم المانع عن شمول الروايات ليد المستحل‌

الأمر الخامس:

ان يد غير المسلم- بعد الفراغ عن عدم أماريتها على التذكية- هل توجب حجية اخبار صاحبها بالتذكية أو لا؟ قد يستدل على الحجية بوجوه:

الأول: خبر الأشعري

قال كتب بعض أصحابنا الى ابى جعفر‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 61 من أبواب النجاسات

 

 

 

144
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الوجه الثاني: التمسك بخبر إسماعيل بن عيسى ؛ ج‌3، ص : 145

..........

______________________________
الثاني (ع): «ما تقول في الفرو يشترى من السوق؟ فقال إذا كان مضمونا فلا بأس»
«1» بناء على ان المراد بالضمان تعهد البائع و اخباره بالتذكية. و لما كان مورد الرواية مطلقا و شاملا للبائع الكافر دلت على حجية خبر البائع الكافر أيضا. و بعد إلغاء الخصوصية عرفا يستفاد حجية خبر صاحب اليد بالتذكية مطلقا و لو لم يكن في مقام البيع، لأن النكتة المركوزة عرفا للحجية كونه صاحب يد لا كونه بائعا.

و قد يقال: ان هذه الرواية مع روايات حجية يد المسلم من قبيل الشرطيتين المتحدتين جزاء المختلفتين شرطا، فلا بد من الجمع بينهما بجعل المجموع شرطا، أو بجعل الجامع بينهما شرطا (التقييد بالواو أو بأو).

و يندفع ذلك: بان التقييد بالواو غير ممكن، لوضوح روايات يد المسلم في ان حجيتها غير منوطة بالأخبار.

و قد يقال: بناء على هذا بان المتعين تخصيص هذه الرواية بروايات حجية يد المسلم، لان هذه الرواية أعم منها.

و يندفع: بان تخصيصها بالكافر مع غلبة المسلمين و ندرة الكافر في أسواقهم ليس عرفيا.

و منه يظهر وقوع التعارض. غير ان هذه الرواية ساقطة سندا بسهل ابن زياد على ان بالإمكان حمل البأس المنوط نفيه فيها بالضمان على البأس التنزيهي، جمعا بين الرواية و روايات أمارية يد المسلم.

الوجه الثاني: التمسك بخبر إسماعيل بن عيسى

«قال: سألت أبا الحسن (ع): عن جلود الفراء يشتريها الرجل في سوق من أسواق الجبل» أ يسأل عن ذكاته إذا كان البائع مسلما غير عارف؟ قال: عليكم أنتم أن تسألوا عنه إذا رأيتم المشركين يبيعون ذلك، و إذا رأيتم يصلون فيه‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 50 من أبواب النجاسات


145
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الوجه الثالث: التمسك بسيرة المتشرعة على الاعتبار و الاعتناء بشهادة صاحب اليد. ؛ ج‌3، ص : 146

 

..........

______________________________
فلا تسألوا عنه»
«1» و الاستدلال به مبني على ان يكون المراد بالسؤال السؤال من البائع، فيدل ذلك على حجية شهادته لا محالة.

و فيه:- مضافا الى سقوط الرواية سندا بإسماعيل بن عيسى و غيره- سقوطها دلالة، لأن الظاهر كون المقصود من السؤال هو الفحص عن كونه مذكى أم لا، و ليس مجرد تحصيل شهادة البائع و اخباره، و لا أقل من قوة احتمال ذلك الموجب للإجمال.

الوجه الثالث: التمسك بسيرة المتشرعة على الاعتبار و الاعتناء بشهادة صاحب اليد.

و هذه السيرة المدعاة و ان كانت مقبولة في الجملة، غير انه لا يمكن الجزم بها بنحو القضية المطلقة الشاملة لصاحب اليد الكافر أيضا. كيف و هناك قرائن في بعض الروايات تدل على تحرج الشيعة من المسلمين غير الشيعة فيما تحت أيديهم من الجلود، بل تقدم في رواية عبد الرحمن بن الحجاج ما قد يدل على عدم حجية اخبار صاحب اليد المسلم المستحل، فضلا عن صاحب اليد الكافر.

الأمر السادس:

قد يدعى أمارية يد الكافر على كون الشي‌ء ميتة.

و يستدل على ذلك بمفهوم قوله: «إذا كان الغالب عليها المسلمين فلا بأس»، الدال على ثبوت البأس و المحذور على تقدير كون صاحب اليد كافرا.

و فيه: ان المفهوم هو انتفاء الحكم بانتفاء الشرط، اي ثبوت نقيضه لا ثبوت ضده. و عليه فلو كان المستفاد من هذه الرواية انها بصدد جعل الأمارية لليد إذا كانت لمسلم، فمفهومها هو عدم الامارة على التذكية في فرض كون صاحب اليد كافرا، بحيث يرجع الى الأصول العملية في المورد، لا أمارية يد الكافر على كونه ميتة،

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 50 من أبواب النجاسات

 

 

 

146
بحوث في شرح العروة الوثقى3

(مسألة - 7): ؛ ج‌3، ص : 147

و كذا ما يوجد في أرض المسلمين مطروحا إذا كان عليه أثر الاستعمال (1) و لكن الأحوط الاجتناب.

(مسألة- 7):

ما يؤخذ من يد الكافر أو يوجد في أرضهم محكوم بالنجاسة (2) إلا إذا علم سبق يد المسلم عليه (3).

(مسألة- 8) [في عدم مطهرية الدبغ لجلد الميتة]

جلد الميتة لا يظهر بالدبغ (4).

______________________________
(1) وجه التقييد هو دفع احتمال ان تكون فريسة حيوان فان مجرد الطرح في أرض المسلمين لا يكون أمارة على التذكية، و انما الامارة هي اليد المستعملة و التي يستكشف إسلام صاحبها بغلبة المسلمين على تلك الأرض.

(2) لا من جهة أمارية ذلك على العدم بل من أجل الأصول العملية، و قد عرفت أن مقتضاها الطهارة و عدم التذكية. فلا بد من التفصيل بين آثار النجاسة فلا ترتب، و آثار عدم التذكية كحرمة الأكل و الصلاة فيه فترتب‌

(3) باعتبار أماريتها على حد أمارية يد المسلم المباشر، و لا معنى لفرض الأمارية في يد الكافر اللاحق كي يدعى تعارض الأمارتين و الرجوع الى استصحاب عدم التذكية.

(4) اختلف الفريقان الإمامية و مشهور العامة في طهارة جلد الميتة بالدبغ، و قد أجمعت الإمامية على عدم طهارته بذلك، عدا ما ينسب الى ابن الجنيد من المتقدمين، و ما استنتج من الفقيه حيث نقل الصدوق رواية تدل على طهارة الميتة و باعتبار وضوح عدمها فسر بالحمل على طهارتها بالدبغ، الا أن مثل هذه النسب لعلها لا تضر بحصول مقدار معتد به من اتفاق الطائفة.

و قد يستدل على مطهرية الدبغ بروايات:

منها: رواية الفقه الرضوي: «دباغة الجلد طهارته» «1» و دلالتها على مطهرية الدبغ واضحة.

______________________________
(1) الفقه الرضوي ص 41.


147
بحوث في شرح العروة الوثقى3

(مسألة - 8) في عدم مطهرية الدبغ لجلد الميتة ؛ ج‌3، ص : 147

..........

______________________________
و منها: خبر الحسين بن زرارة عن أبي عبد اللّٰه (ع) في جلد شاة ميتة يدبغ فيصب فيه اللبن أو الماء فأشرب منه و أتوضأ؟ قال: «نعم، و قال: يدبغ فينتفع به و لا يصلى فيه»
«1» و هي أيضا واضحة الدلالة على الطهارة إذ لو كان نجسا بعد الدبغ لتنجس الماء أو اللبن بملاقاته.

و منها: رواية الصدوق قال: سئل الصادق (ع) عن جلود الميتة يجعل فيها اللبن و الماء و السمن ما ترى فيه؟ فقال: «لا بأس بأن تجعل فيها ما شئت من ماء أو لبن أو سمن، و تتوضأ منه و تشرب و لكن لا تصلى فيها» «2» و هي و ان كانت مطلقة من حيث الدبغ الا أن الوضوح و التسالم على نجاسة الميتة في نفسها يكون قرينة على ارادة المدبوغ، خصوصا و ان الجلد من غير الدبغ لا يتخذ زقا للاستعمال و حفظ اللبن أو السمن فيه، هذه روايات الطهارة، و العمدة منها رواية الحسين بن زرارة لسقوط الباقي سندا و قد عورضت هذه الروايات بطائفة أخرى من الروايات أدعي دلالتها على النجاسة من قبيل رواية محمد بن مسلم، قال: سألته عن جلد الميتة أ يلبس في الصلاة إذا دبغ؟ قال: لا. و ان دبغ سبعين مرة» «3».

و رواية على بن أبي المغيرة قال: قلت لأبي عبد اللّه (ع) جعلت فداك الميتة ينتفع منها بشي‌ء؟ فقال: لا. قلت: بلغنا أن رسول اللّه (ص) مر بشاة ميتة فقال: ما كان على أهل هذه الشاة إذ لم ينتفعوا بلحمها أن ينتفعوا بإهابها (بجلدها)؟ فقال: تلك شاة كانت لسودة بنت زمعة زوجة النبي (ص) و كانت شاة مهزولة لا ينتفع بلحمها فتركوها حتى ماتت فقال رسول اللّه (ص): ما كان على أهلها إذ لم ينتفعوا بلحمها أن ينتفعوا بإهابها أي تذكى «4».

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 34 من أبواب الأطعمة المحرمة

(2) وسائل الشيعة باب 34 من أبواب النجاسات

(3) وسائل الشيعة باب 61 من أبواب النجاسات

(4) وسائل الشيعة باب 61 من أبواب النجاسات


148
بحوث في شرح العروة الوثقى3

في طهارة ميت المسلم بالغسل ؛ ج‌3، ص : 149

و لا يقبل الطهارة شي‌ء من الميتات سوى ميت المسلم فإنه يطهر بالغسل (1).

______________________________
و منها. رواية عبد الرحمن بن الحجاج المتقدمة، و التي جاء فيها:

«ان أهل العراق استحلوا الميتة و زعموا أن دباغه ذكاته ثم لم يرضوا حتى أن كذبوا في ذلك على رسول اللّه (ص)».

غير أن المتيقن ثبوته بمثل هذه الروايات انما هو نفى كون الجلد مذكى بالدبغ بحيث ترتب سائر آثار التذكية عليه بما فيها جواز الصلاة، لا نفى الطهارة عن الجلد المدبوغ، و رواية الحسين بن زرارة لا تثبت كون الجلد المدبوغ مذكى بل تثبت طهارته و جواز الانتفاع به في غير الصلاة فلا تقع طرفا للمعارضة إلا اللهم مع إطلاق المنع عن الانتفاع بالميتة في رواية على بن أبي المغيرة الشامل بإطلاقه للجلد المدبوغ الا أن بالإمكان حمل المنع على الكراهة جمعا ان لم يفرض التقييد، فلو لوحظت الروايات وحدها لكان إثبات نجاسة المدبوغ بها لا يخلو عن اشكال غير أن التسالم على المسألة و ارتكاز موقف الطائفة منها في مقابل موقف الآخرين يوجب تعذر المصير الى الحكم بالطهارة.

[في طهارة ميت المسلم بالغسل]

(1) تمسكا بالروايات المفصلة، كرواية إبراهيم بن ميمون قال:

«سألت أبا عبد اللّه (ع) عن رجل يقع ثوبه على جسد الميت؟ قال:

ان كان غسل الميت فلا تغسل ما أصاب ثوبك منه و ان كان لم يغسل فاغسل ما أصاب ثوبك منه، يعني إذا برد الميت» «1» فان نفى غسل الملاقي يكون إرشادا الى عدم نجاسة الملاقي كما يكون الأمر بغسله إرشادا إلى نجاسته.

و كذلك رواية محمد بن الحسن الصفار قال: «كتبت اليه: رجل‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 34 من أبواب النجاسات


149
بحوث في شرح العروة الوثقى3

في طهارة ميت المسلم بالغسل ؛ ج‌3، ص : 149

..........

______________________________
أصاب يده أو بدنه ثوب الميت الذي يلي جلده قبل أن يغسل هل يجب عليه غسل يديه أو بدنه؟ فوقع إذا أصاب يدك جسد الميت قبل أن يغسل فقد يجب عليك الغسل»
«1».

و قد تضعف الرواية الأولى سندا بإبراهيم بن ميمون الذي لم يثبت توثيقه و يندفع ذلك بثبوت وثاقته لرواية البجلي عنه.

و أما الرواية الثانية فقد يناقش في دلالتها على نفي النجاسة بأحد وجهين.

الأول- إجمال كلمة (الغسل) و ترددها بين الغسل و الغسل بالمعنى الرافع للحدث، و على التقدير الثاني يكون مفهوم الرواية عدم وجوب غسل المس لو كان الميت مغسلا، و هو أجنبي عن محل الكلام.

و هذه المناقشة يمكن دفعها، باستظهار ارادة الغسل الخبثي لا الحدثي من الكلمة، بقرينة أن السائل إنما سأل عن غسل اليدين و البدن، و لا بد من حمل الجواب على معنى يكون معه مطابقا للسؤال.

الثاني- إنكار المفهوم في الرواية، لأن الشرطية مسوقة لتحقق الموضوع و هو أصل الإصابة، فلا دلالة فيها على نفي لزوم الغسل في فرض اصابته بعد الغسل.

و يرد عليه أن الشرط هو الإصابة الخاصة الواقعة قبل تغسيل الميت، و فرض عدمها في طرف المفهوم يلائم مع الإصابة بعد الغسل، فلا يكون النفي بلحاظ ذلك من السالبة بانتفاء الموضوع بل يتم المفهوم، هذا مضافا الى إمكان التمسك بمفهوم القيد و الوصف لقوله «قبل أن يغسل» لأن أخذ القيد و لو بنحو الوصف يدل على الانتفاء عند الانتفاء و لو في الجملة، و حيث لا نحتمل فقهيا الفرق في حالات ما بعد التغسيل يثبت المطلوب.

و اضافة الى كل ذلك يمكن فهم الحكم بطهارة الميت المغسل عرفا من نفس أدلة تغسيل الميت على ما سيأتي في محله ان شاء اللّه تعالى.

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 4 من أبواب غسل المس


150
بحوث في شرح العروة الوثقى3

(مسألة - 9) في حكم السقط و الفرخ في البيض ؛ ج‌3، ص : 151

(مسألة- 9) [في حكم السقط و الفرخ في البيض]

السقط قبل ولوج الروح نجس، و كذا الفرخ في البيض (1).

______________________________
(1) لا إشكال في نجاسة السقط بعد ولوج الروح، و كذا الفرخ في البيض، لكونه ميتة، و انما الكلام فيهما قبل ولوج الروح، و قد أفتى الماتن (قده) بالنجاسة فيهما أيضا. و يمكن أن يقرب ذلك بأحد وجوه:

الأول: التمسك بمطلقات نجاسة الميتة بدعوى صدقها عليهما عرفا و ذلك بتقريب أن الموت هو عبارة عن فقد الحياة بمعناها الأعم الشامل للحياة الشأنية القريبة من الفعل أيضا الموجودة في هذا السقط قبل سقوطه و هذا أحسن من تقريب المقصود بدعوى أن التقابل بين الموت و الحياة تقابل العدم و الملكة فالموت هو عدم الحياة فيما من شأنه الحياة، فلا يشترط في صدق عنوان الموت سبق الحياة، إذ ما لم تعمم الحياة للحياة الشأنية لا يمكن الالتزام بذلك، و الا للزم صدق عنوان الميتة على الجنين قبل أن يكون سقطا أيضا لعدم الحياة الفعلية فيه، و مع تعميم الحياة الشأنية لا يتوقف تتميم المدعى على إنكار دخل الحياة السابقة و ارتفاعها في عنوان الموت كما هو واضح.

و هذا الوجه و ان كان متينا صغرى لكنه ممنوع كبرى، إذ لا يوجد لدينا مطلقات تدل على نجاسة كل ميتة كي يرجع إليها، و انما هي روايات متفرقة في موارد مختلفة كلها من الموت بعد ولوج الروح و فعليتها، و احتمال الفرق بينها و بين المقام موجود عقلا و عرفا.

و دعوى التمسك بإطلاق كلمة الجيفة في رواية حريز عن الصادق‌


151
بحوث في شرح العروة الوثقى3

(مسألة - 9) في حكم السقط و الفرخ في البيض ؛ ج‌3، ص : 151

..........

______________________________
عليه السلام: «كلما غلب الماء على ريح الجيفة فتوضأ من الماء و اشرب فإذا تغير الماء و تغير الطعم فلا توضأ منه و لا تشرب»
«1» حيث دلت بإطلاقها على نجاسة كل جيفة و هو شامل للجنين الذي لم تلجه الروح، مدفوعة: بأن هذه الرواية ليست مسوقة لبيان نجاسة الميتة، و انما هي مسوقة لبيان حكم آخر هو اعتصام الماء و عدم انفعاله الا بالتغير فلا يكون في مقام البيان من ناحية النجاسة ليتمسك بإطلاقها، و لذا عبر بالجيفة و هو عنوان كما ينطبق على الميتة ينطبق على المذكى الطاهر أيضا.

الثاني: التسمك بروايات الحبالة الدالة على نجاسة القطعة المبانة من الحي، بدعوى أن السقط قبل الولوج قطعة مبانة من الحي عرفا فتشمله رواياتها. و فيه:

ان السقط قبل الولوج- فضلا عن الفرخ- نسبته الى أمه نسبة البيض الى الأصل لا نسبة الجزء المفصول من الحي إلى أصله، و روايات القطعة المبانة كلها واردة فيما يكون من قبيل الثاني و التعدي منه الى المقام مما لا يحتمله العقل و لا العرف، و لو سلمت جزئية السقط فلا إطلاق في روايات القطعة المبانة لمثل ذلك الجزء.

الثالث: الاستدلال بالحديث المستفيض «ذكاة الجنين ذكاة أمه» «2» بتقريب أنها تدل على أن الجنين يكتسب من أمه عنوان الذكاة و الميتة فإذا ماتت الأم حتف أنفها كان الجنين ميتة أيضا، و بما أنه لا يحتمل الفرق بين جنين ماتت أمه و بين غيره فقهيا بل و لا عرفا يحكم بنجاسته مطلقا.

و بتقريب آخر أن قوله (ع) «ذكاة الجنين ذكاة أمه» ينحل الى قضيتين إحداهما مقدرة و هي ان الجنين بحاجة إلى التذكية، و الثانية مصرح بها و هي أن تذكيته بتذكية أمة لا بذبحه مستقلا بالنحو المخصوص، فيستدل بالقضية الأولى على أن الجنين ما لم يذك و لو بذكاة أمه يعتبر ميتة.

و يرد على التقريب الأول ان غاية ما تدل عليه الرواية ان ذكاة الجنين إنما تحصل بذكاة أمه، فمع عدم تذكية الام لا يكون الجنين مذكى، لكن ذلك لا يكفي لإثبات كونه ميتة لأن كون شي‌ء ميتة يتقوم بموته و عدم تذكيته معا، و الكلام في المقام انما هو في صدق عنوان الموت و عدمه، لا في حصول التذكية له مع الفراغ عن كونه ميتا.

و يرد على التقريب الثاني ان القضية الأولى المقتنصة لما لم يكن الحديث مسوقا لبيانها فلا يمكن التمسك بإطلاقه من هذه الناحية، فلا يستفاد من الرواية عرفا سوى قضية شرطية و هي أن الجنين كلما احتاج الى تذكية، فذكاته ذكاة أمه، و ليس متعرضا مباشرة لإثبات حاجة الجنين إلى التذكية ليتمسك بإطلاقه من هذه الناحية.

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 3 من أبواب الماء المطلق.

(2) وسائل الشيعة باب 18 من أبواب الذبائح.


152
بحوث في شرح العروة الوثقى3

(مسألة - 10): ملاقاة الميتة بلا رطوبة مسرية لا توجب النجاسة على الأقوى ؛ ج‌3، ص : 153

(مسألة- 10): ملاقاة الميتة بلا رطوبة مسرية لا توجب النجاسة على الأقوى

و ان كان الأحوط غسل الملاقي، خصوصا في ميتة الإنسان قبل الغسل (1).

______________________________
(1) تارة: يتكلم في ملاقاة ميتة غير الإنسان بلا رطوبة مسرية.

و أخرى: في ملاقاة ميتة الإنسان.

إما ميتة غير الإنسان، فقد يدعي إطلاق روايات الغسل منها لصورة الجفاف أيضا من قبيل رواية عمار: «اغسل الإناء الذي تصيب فيه الجرذ» «1» و رواية قاسم الصيقل قال: «كتبت الى الرضا (ع):

أني أعمل أغماد السيوف من جلود الحمر الميتة فتصيب ثيابي، فأصلي فيها؟

فكتب (ع) إلى: اتخذ ثوبا لصلاتك» «2».

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 53 من أبواب النجاسات.

(2) وسائل الشيعة باب 49 من أبواب النجاسات.


153
بحوث في شرح العروة الوثقى3

(مسألة - 10): ملاقاة الميتة بلا رطوبة مسرية لا توجب النجاسة على الأقوى ؛ ج‌3، ص : 153

..........

______________________________
و فيه: ان ارتكازية عدم السراية مع الجفاف عرفا و متشرعيا تصلح أن تكون كالقرينة المتصلة بالخطاب الصارفة له سؤالا و جوابا الى فرض الرطوبة، بعد افتراض أن الأمر بالغسل إرشاد إلى النجاسة و ليس أمرا تعبديا ثم أنه ربما يمنع عن الإطلاق المذكور- على فرض تماميته في نفسه- بمثل صحيحة علي بن جعفر: «عن الرجل يقع ثوبه على حمار ميت، هل يصلح له الصلاة فيه قبل أن يغسله؟. قال: ليس عليه غسله، و ليصل فيه، و لا بأس»
«1»، و موثقة ابن بكير: «كل يابس ذكي» «2».

أما الصحيحة فلو فرض إطلاقها كانت معارضة مع المطلقات السابقة، فأما أن يحكم بتساقطهما و الرجوع بعد ذلك الى ما دل على سراية النجاسة من الميتة في صورة الرطوبة، أو يقال بانقلاب النسبة بينها- بعد إخراج صورة الرطوبة منها- و بين المطلقات المتقدمة، فتقيد بها، و تكون النتيجة هو التفصيل بين صورتي الجفاف و الرطوبة أيضا، بناء على كبرى انقلاب النسبة.

الا أن في النفس من إطلاقها شيئا، فإن ما أشرنا إليه من ارتكازية عدم السراية مع الجفاف عرفا يتحكم فيها أيضا، و يصرف السؤال إلى فرض الرطوبة، بحيث لا يمكن تخصيص نظر السائل فيها بفرض الملاقاة مع الجفاف. و معه تكون الرواية من أدلة طهارة الميتة. و لا بد حينئذ من أعمال قواعد التعارض بينها و بين أدلة نجاستها.

و أما الرواية الثانية، فهي و ان كانت بحسب اللفظ أعم من وجه مع المطلقات المتقدمة، الا أنها تتقدم: إما بنكتة النظر و الحكومة، حيث أنها تفترض الفراغ عن ثبوت النجاسة و السراية بنحو القضية المهملة، و تستثنى منها صورة اليبوسة. أو باعتبارها عموما أداتيا، فيتقدم على‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 26 من أبواب النجاسات.

(2) وسائل الشيعة باب 31 من أحكام الخلوة.


154
بحوث في شرح العروة الوثقى3

(مسألة - 10): ملاقاة الميتة بلا رطوبة مسرية لا توجب النجاسة على الأقوى ؛ ج‌3، ص : 153

..........

______________________________
الإطلاق الحكمي.

غير أن الاستناد الى هذه الرواية للمنع عن تلك المطلقات في غير محله أيضا، لأنه موقوف على أن يكون النظر فيها الى نفي المحذور في صورة الملاقاة مع الجفاف، و هو خلاف الظاهر، فإن الرواية جاءت بالنحو التالي: «قلت لأبي عبد اللّه (ع): الرجل يبول و لا يكون عنده الماء فيمسح ذكره بالحائط؟ قال: كل شي‌ء يابس ذكي». و كما يمكن أن يكون نظر السائل إلى الاستفهام عن سراية النجاسة من اليابس، كذلك يمكن أن يكون نظره الى التعرف على مطهرية المسح بالحائط و كونه استنجاء شرعيا، خصوصا بعد معروفية الفتوى بكفاية المسح بالأحجار إلى حد الإنقاء في موضعي البول و الغائط معا بين العامة، فيكون الجواب ظاهرا في طهارة الموضع، و لا أقل من احتمال ذلك على نحو يوجب الإجمال.

فالأولى الاستناد في الحكم بعدم لزوم غسل الملاقي مع الجفاف الى ما قلناه من عدم تمامية الإطلاق في نفسه.

و أما ملاقي ميتة الإنسان مع الجفاف- فبعد الفراغ عن نجاستها قبل الغسل، و تنجيسها لملاقيها على حد سائر النجاسات- ربما يدعى أشديتها في النجاسة من غيرها، بحيث يجب غسل ملاقيها مع الجفاف أيضا، و ذلك:

إما استنادا إلى إطلاق بعض روايات النجاسة، كرواية الحلبي: «سألته عن الرجل يصيب ثوبه جسد الميت؟ فقال: يغسل ما أصاب الثوب» «1».

أو استظهارا من التوقيعين الواردين فيما إذا مات الإمام أثناء الصلاة و زحزح عن محله، و انه «ليس على من مسه الا غسل اليد» «2» مع وضوح أن الغالب في مثل هذه الفروض الجفاف و عدم الرطوبة، على نحو لا تصلح رواية ابن بكير لتقييدها بصورة الرطوبة بملاك الحكومة، لو سلمت عن المناقشة في نفسها، لأن ندرة فرض الرطوبة تجعل هذا التقييد غير عرفي. كما أنه مع الندرة المذكورة لا يفيد ارتكاز عدم سراية النجاسة مع الجفاف في التقييد، بل يكون ظهور التوقيعين ردعا عن الارتكاز المذكور.

و فيه: أن كلا المستندين غير تام. إذ رواية الحلبي، لو فرض استفادة النجاسة منها لا غسل ما يعلق بالثوب من الميتة- و قد تقدم الكلام عن ذلك في بحث نجاسة ميتة الإنسان- فذلك بملاك استظهار أن الإصابة توجب سراية أثر من النجس إلى ملاقيه بحسب النظر العرفي يتخلص منه بالغسل، و من الواضح ان ذلك لا يكون الا مع فرض الرطوبة دون الجفاف و أما التوقيعان فهما ساقطان سندا، مضافا الى أنه لو تم سندهما، و سلّمنا عدم إمكان تقييدهما بفرض الرطوبة و ظهورهما عرفا في فرض الجفاف باعتباره الفرض المتعارف- يصبح ارتكاز عدم سراية النجاسة مع الجفاف قرينة على كون الأمر بالغسل تعبديا، على نحو يوجب ظهوره في ذلك أو سقوط ظهوره في النجاسة على أقل تقدير.

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 23 من أبواب النجاسات.

(2) وسائل الشيعة باب 3 من أبواب غسل مس الميت.


155
بحوث في شرح العروة الوثقى3

(مسألة - 11) المناط في الموت ؛ ج‌3، ص : 156

(مسألة- 11) [المناط في الموت]

: يشترط في نجاسة الميتة خروج الروح من جميع جسده، فلو مات بعض الجسد و لم تخرج الروح من تمامه لم ينجس (1).

______________________________
(1) إذ مطلقات نجاسة الميتة من الحيوان لا تشمل الجسم الذي مات بعضه، لأنه ليس بحيوان ميت. كما لا تشمل الجزء الفاقد للحياة منه أيضا و انما حكمنا بنجاسة الجزء المبان لروايات خاصة، و هي واردة في صورة الانفصال و لا يمكن التعدي منه الى فرض بقاء الجزء متصلا بما فيه الحياة، فيحكم بطهارته على القاعدة.


156
بحوث في شرح العروة الوثقى3

(مسألة - 12): مجرد خروج الروح يوجب النجاسة، ؛ ج‌3، ص : 157

(مسألة- 12): مجرد خروج الروح يوجب النجاسة،

و ان كان قبل البرد، من غير فرق بين الإنسان و غيره (1).

نعم وجوب غسل المس للميت الإنسان مخصوص بما بعد برده.

______________________________
(1) لا إشكال في وجود الإطلاق في دليل نجاسة الميتة لما قبل البرد، غير أنه توهم دلالة بعض الروايات على عدم نجاسة ميتة الإنسان بالخصوص قبل برده، كصحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر (ع) قال:

«مس الميت عند موته و بعد غسله و القبلة ليس فيها بأس» «1». و الاستدلال بالفقرة الأولى منها بتقريب: أن المقصود من المس عند الموت هو المس في اللحظات الأولى بعد الموت التي هي لحظات ما قبل البرد عادة، و لا يراد منه مسه في لحظات النزع و قبل الموت، لأنه فرض أن المس مس للميت الذي لا يكون الا مع استقرار الموت. و قد نفي الامام (ع) البأس عنه مطلقا غسلا و غسلا، فيدل على عدم النجاسة، و الا كان لا بد من الأمر بالغسل في صورة الرطوبة.

و الغريب أن السيد الأستاذ- دام ظله- أجاب على الاستدلال بهذه الرواية بأنها مطلقة شاملة لصورتي الجفاف و الرطوبة، فنقيدها بصورة الجفاف، بمثل رواية الحلبي المتقدمة في غسل ما أصاب الثوب من الميت المختصة بصورة الرطوبة، انصرافا أو بعد تقييدها بما دل على أن كل يابس ذكي «2» مع أن مثل رواية الحلبي لا تكون أخص مطلقا من الصحيحة، حتى لو اختصت بفرض الرطوبة انصرافا، لأنها مطلقة من ناحية ما قبل البرد و ما بعده، و الصحيحة مخصوصة بفرض ما قبل البرد، فالنسبة عموم من وجه. فلو فرض تمامية دلالة الصحيحة كان لا بد من إيقاع التعارض بينها و بين ما دل على النجاسة، ثم التساقط و الرجوع الى قاعدة الطهارة أو تقديم الصحيحة بملاك النظر و الحكومة المستفادة من لسان الاستثناء فيها الا أن الشأن في أصل دلالتها على نفي النجاسة، لقوة احتمال أن تكون الجهة المنظور فيها هو المحذور في مس الميت بما هو مس، المستوجب لحكم الغسل، و هو الذي كثر السؤال عنه في الروايات، و لذلك لم تفرض الرطوبة فيها أيضا، مع أنها شرط في السراية لو كان الملحوظ حيثية الخبث و النجاسة.

و قد يستدل على الطهارة قبل البرد بما ورد في ذيل رواية إبراهيم ابن ميمون المتقدمة، الآمرة بالغسل من قوله «يعني إذا برد الميت» فان ذلك يدل على عدم لزوم الغسل قبل البرد، و هو دال على الطهارة، و لا يضر عدم ورود الذيل المذكور في أحد طريقي الكليني للرواية، لأن الطريق الذي تجرد فيه متن الرواية عن هذا الذيل ضعيف بسهل بن زياد، بخلاف الطريق المشتمل على الذيل.

الا أن هذا انما يتم لو سلم ان هذا الذيل جزء من الرواية، و ليس من الراوي بلحاظ كلمة: (يعني)، التي توجب على الأقل الاحتمال الموجب للإجمال على نحو يسقط الاستدلال.

فالصحيح: ما عليه المشهور- و افتى به الماتن (قده)- من عدم الفرق في النجاسة بين ما قبل البرد و بعده.

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 3 من أبواب غسل المس.

(2) التنقيح ج 1 ص 495.


157
بحوث في شرح العروة الوثقى3

(مسألة - 13) حكم المضغة و أشباهها ؛ ج‌3، ص : 158

(مسألة- 13) [حكم المضغة و أشباهها]

المضغة نجسة (1) و كذا المشيمة (2)

______________________________
(1) المضغة: مرحلة من مراحل تكوّن الجنين، و هي تدخل تحت مسألة السقط قبل ولوج الروح و الحكم بنجاستها مبني على الحكم بنجاسته.

(2) و هي كيس يدخل فيه الجنين، أو برقع على وجهه، و الحكم بنجاسته مبني: إما على القول بكونه جزء من الأم، فيكون من القطعة المبانة من الحي. أو على القول بكونه جزء من الجنين فينجس أيضا، بناء على القول بصدق الميتة عليه لو مات. و كلا الأمرين محل تأمل. لأن نسبتها إلى الأم كنسبة البيضة الى الدجاجة، و الى الجنين نسبة الظرف الى المظروف، لا الجزء الى الكل، فيشكل التمسك فيها بأدلة النجاسة، لا بروايات نجاسة الميتة لعدم صدقها مستقلا عليه، و لا بروايات القطعة المبانة. نعم لو انفصلت عن الأم قطعة لحم من بدنها مع الطفل، فلا إشكال في شمول روايات القطعة المبانة لها.


158
بحوث في شرح العروة الوثقى3

(مسألة - 14) حكم العضو المعلق ؛ ج‌3، ص : 159

و قطعة اللحم التي تخرج حين الوضع مع الطفل.

(مسألة- 14) [حكم العضو المعلق]

إذا انقطع عضو من الحي و بقي معلقا متصلا به طاهر ما دام الاتصال، و ينجس بعد الانفصال.

نعم لو قطعت يده مثلا و كانت معلقة بجلدة رقيقة فالأحوط الاجتناب (1).

______________________________
(1) الحكم بالطهارة في العضو غير المنفصل إذا اعتبر جزء من الحي واضح، فإنه ليس ميتة مستقلا، و لا تشمله روايات القطعة المبانة و اما العضو المقطوع بنحو لا يعد جزء من الحي فالحكم بنجاسته مبني على القول بعدم الفرق بينه و بين مورد روايات الحبالة و القطعة المبانة، و هو مما لا جزم به في أكثر الفروض، و عليه فلا فرق بين صورتي اعتبار المنقطع جزءا من الحي و عدمه، الا من ناحية إمكان إثبات الطهارة في صورة كوفة جزءا من الحي بالدليل الاجتهادي الدال على طهارة ذلك الحيوان الشامل بإطلاقه لتمام أجزائه. اللهم الا أن يمنع ذلك أيضا بدعوى: أن نظر ذلك الدليل الاجتهادي إلى نفي النجاسة الذاتية للحيوان، لا الى نفي النجاسة المحتملة بملاك خروج الروح.


159
بحوث في شرح العروة الوثقى3

(مسألة - 15) حكم العظم المشكوك في أنه من نجس العين ؛ ج‌3، ص : 160

(مسألة- 15) [حكم العظم المشكوك في أنه من نجس العين]

الجند المعروف كونه خصية كلب الماء، ان لم يعلم ذلك، و احتمل عدم كونه من أجزاء الحيوان فطاهر و حلال. و ان علم كونه كذلك فلا إشكال في حرمته. لكنه محكوم بالطهارة لعدم العلم بأن ذلك الحيوان مما له نفس سائلة (1).

(مسألة- 16) [حكم قطع سنة أو قص ظفره]

إذا قطع سنة أو قص ظفره فانقطع منه شي‌ء من اللحم، فان كان قليلا جدا فهو طاهر (2)، و الا فنجس.

______________________________
(1) الجند: مادة تستعمل في طبخ بعض الحلويات، و لا يعلم أنه الجند الحقيقي الذي هو خصية كلب الماء. و مع الشك يحكم بالطهارة و الحلية تمسكا بالأصول العملية.

و أما إذا علم كونه من كلب الماء فيبني على حرمته و عدم نجاسته.

أما الحرمة فلعدم حلية كلب الماء، بل الجند- باعتباره خصيته- حرام حتى لو كان من مأكول. و أما عدم النجاسة فلعدم المقتضى له، لا من ناحية الكلبية، و لا من ناحية الميتة. إذ الكلب النجس هو البري خاصة، و الميتة انما تكون نجسة لو كانت مما له نفس سائلة، و الحيوانات البحرية ادعى كونها قاطبة مما لا نفس سائلة لها، و الشك كاف في جريان الأصول العملية المؤمنة.

(2) لاختصاص دليل النجاسة بغير الأجزاء الصغار، على ما تقدم شرحه، بل و تقدم أن الجزء الصغير لا يمكن الجزم باندراجه في دليل النجاسة حتى لو كان لحميا، لأنه موقوف على إلغاء خصوصية الحجم في مورد روايات الحبالة و القطعة المبانة من الحي، و هو مما لا جزم بالغاية عرفا.


160
بحوث في شرح العروة الوثقى3

(مسألة 17) حكم العظم المشكوك ؛ ج‌3، ص : 161

(مسألة 17) [حكم العظم المشكوك]

إذا وجد عظما مجردا و شك في انه من نجس العين أو من غيره يحكم عليه بالطهارة (1). حتى لو علم انه من الإنسان، و لم يعلم انه من كافر أو مسلم (2).

______________________________
(1) و ذلك تمسكا بالأصول المؤمنة، و ان كان التمسك بقاعدة الطهارة بالخصوص في المقام مبنيا على القول بجريانها في موارد كون النجاسة المحتملة ذاتية، و قد تقدم الكلام في ذلك.

(2) تمسكا بقاعدة الطهارة و نحوها من الأصول المؤمنة، غير أنه قد يقرب الحكم بالنجاسة بوجوه:

الأول: إجراء استصحاب عدم الإسلام أما بدعوى: أن موضوع النجاسة هو من لم يكن مسلما أو بدعوى: أن موضوع النجاسة هو الكافر، و الكفر أمر عدمي يقابل الإسلام بتقابل التناقض فيمكن إثباته بالاستصحاب. أو بدعوى: أن الكفر مقابل للإسلام تقابل العدم و الملكة، فهو مركب من عدم و ملكة، و الملكة محرزة وجدانا و العدم محرز بالاستصحاب، فيثبت الكفر الذي هو موضوع النجاسة.

و يرد عليه: أن الاستصحاب المذكور لا يثبت النجاسة، إذ لم ترتب النجاسة في أدلتها- على تقدير تماميتها- الا على الكافر، و الكفر عنوان ثبوتي متحصل من العدم و الملكة، فلا يثبت باستصحاب العدم الا بنحو مثبت، كما لا يثبت عنوان العمى باستصحاب عدم البصر. و ليس العدم و الملكة مأخوذين بنحو التركيب لكي يمكن إحراز أحدهما بالوجدان و الآخر بالتعبد، لأن ذلك خلف وحدة المفهوم.

الثاني: إثبات نجاسته من جهة الموت، باستصحاب حكمي أو موضوعي و ذلك: ان الميت نجس قبل غسله، و الدليل انما دل على ارتفاع النجاسة بغسل ميت المسلم، و حيث يشك في كونه من مسلم أو كافر فيجري استصحاب بقاء النجاسة المقطوعة بعد الموت، بل و يجري استصحاب عدم كونه مسلما لنفي طهارته بالغسل أيضا، و بذلك ينقح موضوع النجاسة بملاك الموت بقاء، و ان لم يمكن إثبات النجاسة بملاك الكفر.

و هذا التقريب صحيح لو لا بطلان مبناه، حيث تقدم في أبحاث الميتة طهارة ما لا تحله الحياة من الأجزاء و منها العظم.

الثالث: أن يقال: أن العظم يعلم بأنه لاقى مع الرطوبة الأجزاء التي تحلها الحياة من بدن ذي العظم، و هذا يكفي في الحكم بنجاسته و لو عرضا و لا مطهر الا الغسل الواقع على المسلم، و المفروض نفي إسلام ذي العظم بالاستصحاب، و معه لا مجال لقاعدة الطهارة.

و يرد عليه: أن النجاسة العرضية للعظم معلومة العدم فعلا، لأن ذا العظم أن كان كافرا فالعظم نجس ذاتا، و الا فهو طاهر فعلا لوقوع الغسل المطهر عليه، فلا يمكن إثبات النجاسة العرضية له بالتعبد الاستصحابي‌


161
بحوث في شرح العروة الوثقى3

(مسألة 18) حكم الجلد المطروح ؛ ج‌3، ص : 162

(مسألة 18) [حكم الجلد المطروح]

الجلد المطروح ان لم يعلم انه من الحيوان الذي له نفس أو من غيره كالسمك- مثلا- محكوم بالطهارة (1).

(مسألة 19) [حكم بيع الميتة]

يحرم بيع الميتة (2)، لكن الأقوى جواز الانتفاع فيما لا يشترط فيه الطهارة.

______________________________
(1) قد تقدم البحث عن هذا الفرع في فروض الشك في كون الحيوان مما له نفس أم لا.

(2) الصحيح هو جواز بيعها، حيث تكون لها فائدة محللة عقلائية.

لأن ما يستدل به على الحرمة بين ما يكون ضعيف السند أو الدلالة، و بين ما هو مبتلى بالمعارض: و حتى رواية البزنطي الواردة في أليات الغنم المقطوعة «1»- و التي عبر عنها في بعض الكلمات بالصحيحة- ليست تامة سندا، لأنها‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة الباب 6 من أبواب ما يكتسب به.


162
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الخامس: الدم من كل ما له نفس سائلة ؛ ج‌3، ص : 163

 

الخامس: الدم من كل ما له نفس سائلة

، إنسانا كان أو غيره، كبيرا أو صغيرا (1).

______________________________
مروية بطريقين أحدهما: ابن إدريس في مستطرفات سرائره عن جامع البزنطي و الآخر: الحميري في قرب الاسناد عن عبد اللّٰه بن الحسن عن علي ابن جعفر عن أخيه. و الأول ضعيف بعدم معلومية طريق ابن إدريس الى كتاب الجامع، و الثاني ضعيف بعبد اللّه بن الحسن. و تفصيل الكلام في ذلك موكول الى محله من المكاسب المحرمة.

(1) يقع البحث عن نجاسة الدم في جهتين:

الجهة الأولى: في إثبات نجاسته بنحو القضية المهملة.

و هي رغم كونها من الوضوح الفقهي على مستوى الضروريات قد استدل عليها بالكتاب و السنة و الإجماع.

فمن الكتاب قوله تعالى: «قُلْ لٰا أَجِدُ فِي مٰا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلىٰ طٰاعِمٍ يَطْعَمُهُ، إِلّٰا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً، أَوْ دَماً مَسْفُوحاً، أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ، أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّٰهِ بِهِ «1».

بناء على رجوع التعليل بالرجس الى كل ما سبقه من العناوين لا خصوص لحم الخنزير، و كونه بمعنى النجاسة أو ما يساوقها.

و كلا الأمرين محل منع.

أما الأول: فلأنه لا يمكن الجزم برجوع التعليل الى غير لحم الخنزير من العناوين، لو لم يستقرب من موضعه في السياق ظهوره في ذلك باعتبار إيراده قبل إكمال تمام العناوين، خصوصا و قد كان لحم الخنزير موضع الخلاف بين أصحاب الديانات.

و أما الثاني: فقد يمنع عنه بدعوى: أن الرجس معنى يطلق على‌

______________________________
(1) الانعام 145

 

 

 

163
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الجهة الثانية: في نجاسة الدم بنحو القضية المطلقة ؛ ج‌3، ص : 164

..........

______________________________
الفعل أيضا، كما في قوله تعالى
«إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصٰابُ وَ الْأَزْلٰامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطٰانِ»، و النجاسة لا يوصف بها إلا الأعيان.

غير أن هذا الوجه للمنع غير سديد، إذ مضافا الى أن مجرد استعمال الكلمة في معنى لا يمكن اتخاذه دليلا على معناها الحقيقي، لا شاهد في الآية على إطلاق الرجس على الفعل، لقوة احتمال أن يكون المراد من الميسر و الأنصاب و الأزلام آلاتها و أدواتها، كالأصنام و الكعاب المستعملة في الرهان، و قد فسرت بذلك أيضا في بعض الروايات.

مع أنه لو فرض إطلاق الكلمة بمعنى يصح انطباقه على الفعل فغايته أنها ذات معنى قابل لاتصاف الفعل و العين معا به، و هو الأمر المستقبح و المستنكر، كما فسر به في اللغة. و يكون استفادة الاستقذار منه حينما يطلق على العين، باعتباره المساوق مع ذلك المعنى في العين بحسب المناسبات.

و الصحيح في المنع أن يقال: أن كلمة الرجس لم يثبت لها وقتئذ حقيقة شرعية في النجاسة الشرعية الحكمية، كي تحمل عليه الآية، و إنما غاية ما يمكن افتراضه أنه اخبار عن القذارة التكوينية الثابتة عرفا أيضا في هذه العناوين، فلا يمكن أن يستدل بالآية على النجاسة الشرعية الحكمية و هذا تشكيك قد أبرزناه حتى في كلمة النجس المستعملة في صدر الإسلام كما في قوله تعالى «إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ.».

و اما السنة، فقد ادعى تواترها و استفاضتها على نجاسة الدم. و هي و إن كانت- جلا أو كلا- ليست في مقام بيان أصل النجاسة، و إنما تبين أحكاما طولية متفرعة على النجاسة، إلا أنها تكفي لإثبات القضية المهملة على كل تقدير.

و أما الإجماع فتوى و عملا، فلا إشكال في ثبوته على القضية المهملة أيضا.

الجهة الثانية: في نجاسة الدم بنحو القضية المطلقة

في عموم أو إطلاق‌


164
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الجهة الثانية: في نجاسة الدم بنحو القضية المطلقة ؛ ج‌3، ص : 164

..........

______________________________
يصلح للرجوع إليه في موارد الشك.

و الصحيح في هذه الجهة: هو عدم إمكان إثبات النجاسة للدم بنحو القضية المطلقة، لأن المعتبر من روايات الباب على قسمين:

الأول: ما ورد في موارد خاصة، كدم الرعاف، و الحكة، و القروح و الجروح، و نحوها. و من الواضح عدم الإطلاق فيها الا بمقدار ما يلغى العرف من خصوصيات المورد و يساعد على التعدي.

الثاني: ما ورد الحكم فيه على عنوان الدم بقول مطلق، و لكنه في في سياق بيان ما يتفرع على نجاسته من الآثار، كروايات بطلان الصلاة نسيانا أو جهلا في الدم، أو مع العلم إذا كان أكثر من درهم. و كذلك روايات نزح البئر لو وقع فيه الدم. و كل تلك الروايات لا إطلاق فيها لعدم كونها في مقام البيان من ناحية أصل النجاسة، و انما هي- بعد الفراغ عن أصل النجاسة- في مقام بيان حدود المانعية في الصلاة أو الاعتصام في البئر، أو غيرهما من الأحكام المتفرعة.

و قد حاول السيد الأستاذ (دام ظله): استفادة القضية المطلقة من رواية عمار الساباطي، قال: «سئل عما تشرب منه الحمامة؟ فقال:

كل ما أكل لحمه فتوضأ من سؤره و أشرب. و عن ماء شرب منه باز أو صقر أو عقاب؟ فقال: كل شي‌ء من الطير يتوضأ مما يشرب منه إلا أن ترى في منقاره دما، فإن رأيت في منقاره دما فلا توضأ منه و لا تشرب» «1»، لو رودها في الدم بقول مطلق، فتصلح أن تكون مرجعا في مورد الشك.

و التحقيق: أن السؤال ليس فيه أي ظهور في كون الحيثية المسؤل عنها هي حكم الدم نجاسة و طهارة، إذ لم يذكر الدم في السؤال أصلا‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 4 من أبواب الأسئار


165
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الجهة الثانية: في نجاسة الدم بنحو القضية المطلقة ؛ ج‌3، ص : 164

..........

______________________________
بل الحيثية الملحوظة إما: كون الباز و الصقر في معرض التنجس بالدم و الميتة و نحوهما، بعد الفراغ عن نجاسة هذه الأشياء في نفسها، فاقتضت هذه المعرضية السؤال عن سؤرها، و إما: الشك في جواز استعمال سؤرها في نفسه، لاحتمال وجود حزازة في سؤر هذه الحيوانات، كما يناسب صدر الرواية المتكفل للسؤال و الجواب بشأن سؤر الحمامة. فعلى الأول: يكون أصل نجاسة الدم مفروغا عنها في السؤال، و يكون الجواب متجها الى علاج حكم المعرضية، فلا يصح التمسك بالإطلاق فيه من ناحية نجاسة الدم في نفسه. و على الثاني: يكون الإمام في مقام نفي الحزازة عن سؤر هذه الحيوانات، غير أنه التفت أيضا الى محذور الدم فبين عدم جواز استعمال الماء مع رؤية الدم على منقار الطائر. و الرؤية المذكورة إذا حملناها على الطريقية الصرفة كان موضوع عدم الجواز هو وجود الدم على منقار الطائر و كان عدم الجواز حكما واقعيا. فقد يدعى حينئذ إطلاقه المقتضي لنجاسة كل دم الا ما خرج بالتخصيص. و أما إذا حملناها على الموضوعية، كان موضوع عدم الجواز العلم بالدم، و موضوع الجواز عدم العلم بالدم، لا عدم الدم واقعا، و هذا يناسب مع حمل الجواز- إثباتا و نفيا- على الوظيفة الفعلية، لا الحكم الواقعي. و حيث أن من الواضح أن مجرد إحراز الدم لا يكفي لترتب الوظيفة الفعلية بعدم الجواز، لأن الدم بعضه طاهر كما علمنا من الأدلة الخارجية، فلا بد من الالتزام بتقييد العلم بالدم بالعلم بكونه من القسم النجس أو بأن المولى جعل وجوده على منقار الطائر المفترس أمارة شرعية على كونه من النجس. و الأول يستلزم التقييد بفرد نادر، لأن كون الدم من القسم النجس و إن لم يكن نادرا، و لكن العلم بذلك في مثل مورد الرواية نادر عادة، فيتعين الثاني. و معه يتعذر الاستدلال بإطلاق الرواية على النجاسة الواقعية لكل دم، لأنه يفترض وجود دم طاهر و دم نجس و يكون الكلام‌


166
بحوث في شرح العروة الوثقى3

ما قد يتوهم دلالته من الروايات على طهارة الدم ؛ ج‌3، ص : 167

..........

______________________________
مسوقا لبيان الأمارة على أحدهما، لا لبيان نجاسة الدم واقعا. و يلاحظ بهذا الصدد: ان السيد الأستاذ (دام ظله)- رغم حمله للرواية على النظر إلى أمارية وجود الدم في المنقار على كونه من النجس- استفاد منها الدلالة على نجاسة الدم مطلقا، مع أن النظرين متهافتان.

و قد يدعى: أن مجي‌ء الدم مطلقا في كلام السائلين و الرواة، قرينة على ارتكازية نجاسة الدم بنحو القضية المطلقة في أذهانهم. و يندفع ذلك:

بأن جل الروايات- كما عرفت- متجهة إلى أحكام ثانوية، بعد الفراغ عن أصل نجاسة الدم، و في مثل ذلك لا يريد الراوي بكلمة الدم الا مجرد الإشارة الى ما يعهد نجاسته، فلا يكشف ذكر الكلمة بلا قيد عن الارتكاز المذكور، خصوصا أن طهارة بعض أقسام الدم- كالدم المختلف- من الواضحات، عملا و سيرة، فمن البعيد افتراض ارتكاز خلافه.

و عليه فلا بد من الاقتصار على القدر المتيقن و هو ما دلت عليه الروايات، و ما يمكن التعدي عرفا و إسراء حكم الروايات اليه. و في غير ذلك يكون مقتضى الأصل هو الطهارة.

[ما قد يتوهم دلالته من الروايات على طهارة الدم]

ثم انه ربما يتوهم دلالة بعض الروايات على طهارة الدم، بحيث يخيل معارضتها مع روايات النجاسة. من قبيل رواية جابر عن أبي جعفر عليه السلام قال: «سمعته يقول: لو رعفت دورقا، ما زدت على أن أمسح مني الدم و أصلي» «1» و الدورق: اسم مقدار. حيث أنها بإطلاقها الشامل لما إذا كان الدم أكثر من درهم بحيث يجب التطهير منه، دلت على كفاية مسح الدم، مع العلم بعدم كفاية زوال العين في التطهير، فيكون ذلك دليلا عرفا على طهارة الدم، إذ عدم نجاسة الملاقي دليل على طهارة الملاقي بعد ارتكازية السراية.

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 7 من أبواب نواقض الوضوء


167
بحوث في شرح العروة الوثقى3

ما قد يتوهم دلالته من الروايات على طهارة الدم ؛ ج‌3، ص : 167

..........

______________________________
إلا أن الظاهر- أو المحتمل بنحو يوجب الإجمال على أقل تقدير- أن النظر في هذا الحديث إلى مسألة ناقضية الرعاف للوضوء التي كانت مسألة معنونة في الفقه العام، و كانت هناك فتوى عامية فيها بالناقضية و قد ردع عنها الأئمة (ع) بهذه الرواية و أمثالها. و عليه فلا يكون قيد المسح مذكورا فيها قبال الغسل، بل قبال لزوم الوضوء و الإعادة.

أضف الى ذلك: أن الرواية لو كانت غير ناظرة إلى تلك المسألة فغايته الإطلاق لما إذا كان الدم أكثر من درهم، و هذا لا ينافيه عنوان الدورق، فان دم الرعاف يأتي تدريجا لا دفعة، بحيث يمكن فيه التحفظ عن الإصابة بأكثر من درهم. و معه يمكن التصرف فيها بقرينة الأدلة الصريحة في النجاسة، إما بحمل عنوان المسح فيها على أنه في مقابل الوضوء لا الغسل، أو بتقييدها بما إذا كان الدم أقل من الدرهم و يكون ذكر المسح من أجل التحرز عن التلوث بالدم. الا أن التصرف الأخير مبني على القول بالعفو عن التنجس بالدم الأقل من الدرهم مع زوال العين.

و من هذه الروايات ما نقله علي بن الوشاء قال: «سمعت أبا الحسن عليه السلام يقول: كان أبو عبد اللّه (ع) يقول: في الرجل يدخل يده في أنفه فيصيب خمس أصابعه الدم قال: ينقيه و لا يعيد الوضوء» «1».

حيث لم يؤمر فيها بالغسل من الدم، فيكشف عن عدم نجاسته.

الا أن هذه أوضح من سابقتها في ورود المناقشة الأولى فيها، حيث صرح فيها بعدم إعادة الوضوء، كما أن التنقية بمعنى التنظيف الصادق على الغسل أيضا، فلا يمكن أن يكون في قباله حتى يستفاد منها عدم لزوم الغسل، بل عنوان التنقية و التنظيف بنفسه دال على قذارة ما ينقى عنه كما هو واضح، فهي على النجاسة أدل.

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 7 من أبواب نواقض الوضوء.


168
بحوث في شرح العروة الوثقى3

ما قد يتوهم دلالته من الروايات على طهارة الدم ؛ ج‌3، ص : 167

..........

______________________________
و من هذه الروايات أيضا رواية عبد الأعلى عن أبي عبد اللّه (ع) قال: «سألته: عن الحجامة أ فيها الوضوء؟ قال: لا، و لا يغسل مكانها، لأن الحجام مؤتمن إذا كان ينظفه و لم يكن صبيا صغيرا»
«1» حيث اكتفى فيها بالتنظيف، و لم يلزم بالغسل خاصة.

الا أن هذه الرواية أوضح من السابقة في كونها من روايات النجاسة لا الطهارة، لأن المراد من التنظيف فيها الغسل و المنفي لزومه انما هو غسل نفس الإنسان لموضع حجامته في مقابل غسل الحجام، لا أصل الغسل في مقابل غيره.

و لو فرض أن التنظيف أريد منه ما يعم غير الغسل أيضا، فغايته دلالتها على كفاية غير الغسل في التطهير، مع الدلالة على أصل نجاسة الدم و لزوم التطهير منها.

و من الروايات رواية أبي حمزة قال: «قال أبو جعفر (ع): ان أدخلت يدك في أنفك و أنت تصلي فوجدت دما سائلا ليس برعاف ففته بيدك» «2» فإنها دلت على كفاية ألفت و عدم لزوم الغسل.

الا أن الرواية لا يخلو متنها من تشويش، لأن ألفت الذي أمر به فيها لا يكون إلا في الدم الجامد، مع أنه قيد الدم بأنه وجد سائلا فالمظنون أن الأصل وجدته غير سائل، و معه لا تكون هناك سراية كي يجب الغسل.

مضافا الى أنها واردة بلحاظ حال الصلاة، فتكون من أدلة عدم ناقضيته في الصلاة، فتحمل على الأقل من درهم.

و من جملة الروايات أيضا رواية عمار الساباطي: «سألته عن الدمل‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 56 من أبواب النجاسات

(2) وسائل الشيعة باب 2 من أبواب قواطع الصلاة ح 13 و فيه محمد بن سنان و أبو خالد.


169
بحوث في شرح العروة الوثقى3

ما قد يتوهم دلالته من الروايات على طهارة الدم ؛ ج‌3، ص : 167

..........

______________________________
يكون بالرجل فينفجر و هو في الصلاة؟ قال: يمسحه و يمسح يده بالحائط أو بالأرض، و لا يقطع الصلاة»
«1».

و تقريب دلالتها أنها تشمل بإطلاقها أو ظهورها ما إذا كان في الدمل دم، و قد حكم بكفاية مسح اليد الملاقية معها بالحائط، فيكون كاشفا عن عدم نجاسته.

و الجواب: أن الرواية ناظرة الى حال الصلاة و ناقضية خروج الدم فيها، و معه فلعل إطلاق الحكم المذكور فيها من جهة العفو عن دم الجروح و القروح، و لو مع السراية إلى الأطراف كاليد، كما أفتى به بعض.

و لو فرض عدم ذلك، فيحمل إطلاق الرواية على ما إذا كان الدم أقل من درهم كما تقدم في غيرها.

و من الروايات رواية الحلبي: «سألت أبا عبد اللّه (ع): عن دم البراغيث يكون في الثوب، هل يمنع ذلك من الصلاة؟ فقال: لا و ان كثر، فلا بأس أيضا بشبهه من الرعاف، ينضحه و لا يغسله» «2» حيث نفى لزوم الغسل في دم الرعاف أيضا، فيكون دليلا على طهارة الدم المسفوح.

و فيه: أنه يحتمل رجوع جملة ينضحه و لا يغسله الى دم الرعاف خاصة و بذلك يكون دليلا على نجاسته، و لكن يكتفي في التطهير منه إذا كان ضئيلا بالنضح، كما يحتمل رجوع ذلك الى دم البراغيث.

ثم ان هذه الروايات جميعا واردة في موارد يقطع فيها بالنجاسة لأنها من القدر المتيقن من نجاسة الدم، فيكشف عن خلل فيها، اما سندا أو دلالة، أو جهة، فلا يمكن الاعتماد عليها حتى لو تم ظهورها في نفسها.

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 22 من أبواب النجاسات ح 8.

(2) وسائل الشيعة باب 20 من أبواب النجاسات


170
بحوث في شرح العروة الوثقى3

عدم الفرق في الدم بين القليل و الكثير ؛ ج‌3، ص : 171

[عدم الفرق في الدم بين القليل و الكثير]

قليلا كان أو كثيرا (1)

______________________________
و قد انضح من مجموع ما ذكرناه عدم ثبوت إطلاق يمكن أن يرجع اليه عند الشك في نجاسة الدم في كل مورد.

(1) اما تمسكا بإطلاق رواية عمار لو قيل بالإطلاق فيها لكل دم.

و اما باعتبار عدم الفرق عرفا بين القليل و الكثير من حيث النجاسة و ان كان يحتمل الفرق في الآثار، فالقلة في الكم قلة في النجس لا في النجاسة، و بضم هذا الارتكاز الى ما دل على نجاسة الدم من الروايات التي لا إطلاق لفظي لها، يستفاد إطلاق النجاسة عرفا للقليل أيضا.

و إما باعتبار كون الدم القليل موردا لبعض روايات النجاسة، كما فيما دل على نجاسة الدم على منقار الطير فإنه من القليل عادة أو ما ورد من النزح فيما لو وقع قطرات من الدم في البئر، أو ما أمر فيه بالغسل من الدم أقل من الدرهم مع العفو عنه في الصلاة.

نعم لو فرض الدم قليلا إلى درجة بحيث لا يكاد يرى بالعين المجردة لخرج بذلك عن صدق مفهوم الدم عليه عرفا، فلا يكون نجسا باعتبار عدم انطباق عنوان الدم عليه، فان للكم و المقدار دخلا في صدق المفهوم عرفا.

فالصحيح وفاقا للسيد الماتن (قده) عدم التفصيل فيما يطلق عليه اسم الدم بين قليله و كثيره. غير أن هنا أقوالا تتجه الى التفصيل بين الدم القليل و الدم الكثير لا بد من استعراضها:

القول الأول: ما نسب الى الشيخ (قده) من التفصيل بين ما يدركه الطرف و ما لا يدركه. و عنوان ما لا يدركه الطرف لو أريد به الدم الذي لا يدرك بالطرف لقلته و ضئالته جدا فالحكم بطهارته صحيح، و لكنه ليس تفصيلا في نجاسة الدم، و انما هو من جهة عدم صدق الدم عليه كما عرفت و لذلك يجري في سائر النجاسات أيضا لاطراد النكتة فيها.


171
بحوث في شرح العروة الوثقى3

عدم الفرق في الدم بين القليل و الكثير ؛ ج‌3، ص : 171

..........

______________________________
و أما إذا أريد به ما يدركه الطرف في نفسه الا أنه باعتبار قلته و عروض حالة عليه كوقوعه في الماء و استهلاكه فيه- على ما هو مورد الرواية- عبر عنه بما لا يدركه الطرف، فهو محكوم عليه بالنجاسة بمقتضى الإطلاق اللفظي أو اللبي الذي نقحناه في مستهل البحث، و لا بد في الحكم بطهارته من الماس دليل مقيد. و من هنا وقع الاستدلال على الطهارة برواية على بن جعفر المتقدمة في مسألة انفعال الماء القليل: «سألته: عن رجل رعف فامتخط فصار بعض ذلك الدم قطعا صغارا فأصاب إنائه، هل يصلح له الوضوء منه؟ فقال (ع): ان لم يكن شيئا يستبين في الماء فلا بأس، و ان كان شيئا بينا فلا تتوضأ منه»
«1».

و قد اعترض جملة من الفقهاء على الاستدلال بالرواية، بإبداء احتمال أن يكون السؤال فيها عن الشبهة الموضوعية لملاقاة الدم مع الماء، حيث لم يفرض في سؤال السائل أكثر من اصابة الدم للإناء لا للماء، و عليه فيحمل جواب الامام (ع) على بيان الحكم الظاهري في الشبهة الموضوعية، و تكون الرواية على ذلك أجنبية عن محل الكلام.

و لكن الظاهر عدم وجاهة هذا الجواب، لظهور كلام الامام عليه السلام و كلام السائل معا في الشبهة الحكمية: أما كلام الإمام فلانة أناط الحكم بكون الشي‌ء مما يستبين أو لا يستبين، و هذا ظاهر في ملاحظة الاستنابة بما هي صفة و تقدير للشي‌ء نفسه، لا بما هي صفة للمكلف من حيث أنه قد يعلم أو يشك، فهو من قبيل قوله تعالى «حَتّٰى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ». و أما كلام السائل فهو و ان لم يفرض الا اصابة الدم للإناء، غير أن قوله عقيب ذلك: «هل يصلح الوضوء منه»، مع ظهور السياق في أن مرجع الضمير المجرور هو نفس‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 8 من أبواب الماء المطلق.


172
بحوث في شرح العروة الوثقى3

عدم الفرق في الدم بين القليل و الكثير ؛ ج‌3، ص : 171

..........

______________________________
ما أصاب الدم، يوجب ظهور الإناء في ماء الإناء فيكون السؤال عن اصابة الدم لماء الإناء.

و الصحيح في المناقشة: أن غاية ما يثبت بجواب الامام (ع) هو نفي البأس عن الماء القليل الملاقي مع قدر ضئيل من الدم لا يستبين في الماء.

و النتيجة كما يمكن أن تكون بسبب طهارة الدم القليل، كذلك يمكن أن تكون من جهة عدم تأثيره في انفعال الماء، و لا معين لإحدى الحيثيتين قبال الأخرى، ان لم ندع تعين الثانية، باعتبار ما تقدم من أن الكمية لا دخل لها عرفا في قذارة القذر، و انما يتعقل العرف دخلها في آثاره و أحكامه و قد يقال: بأن احتمال كون الملاك في الرواية عدم انفعال الماء القليل منفي بأدلة انفعال الماء القليل و لكن الصحيح: أن الرواية إذا بنى على حجيتها فهي توجب العلم بسقوط تلك الأدلة في موردها، إما تخصيصا و اما تخصصا، فلا يمكن التمسك بها، و تبقى أدلة نجاسة الدم بلا معارض.

نعم لو كان مدركنا في نجاسة الدم القليل مثل إطلاق موثقة عمار الآمرة بالاجتناب عن الماء الملاقي مع الدم على المنقار، صح أن يقال:

بأن الكاشف عن نجاسة الدم القليل انما هو إطلاق دليل انفعال الماء الملاقي للدم، و رواية علي بن جعفر تدل على كل التقادير على عدم انفعال الماء الملاقي لدم لا يستبين، و بعد سقوط إطلاق الموثقة لا يبقى كاشف عن نجاسة الدم القليل.

الا أن أدلة نجاسة الدم القليل لم تكن منحصرة في الإطلاق اللفظي لهذه الموثقة، بل يكفي في الحكم بالنجاسة الرجوع الى الإطلاقات الحاصلة بقرينة إلغاء خصوصية الكثرة و القلة عرفا في سائر الروايات.

القول الثاني: هو القول بطهارة الدم إذا كان أقل من درهم و ذلك استنادا الى روايات العفو في الصلاة عن الدم الذي يكون أقل من درهم‌


173
بحوث في شرح العروة الوثقى3

عدم الفرق في الدم بين القليل و الكثير ؛ ج‌3، ص : 171

..........

______________________________
إذ كما يكون ترتيب آثار النجاسة على شي‌ء إرشادا إلى نجاسته، كذلك يكون نفيها عنه إرشادا الى عدم نجاسته.

و فيه: ان روايات العفو تتضمن بنفسها قرائن متصلة تدل على أن العفو يعني نفي المانعية لا النجاسة، فقد ورد في بعضها التصريح بالأمر بالغسل الى جانب الحكم بالعفو [1].

هذا مضافا الى نفي أثر النجاسة و الحكم بالعفو في المقام ان لم ندع الظهور في كونه بملاك رفع المانعية لا النجاسة- باعتبار ما قلناه من الارتكاز القاضي بعدم تأثير القلة في قذارة القذر، و انما تؤثر عرفا في التهاون بآثاره- فلا أقل من أنه لا يكون نفي هذا الأثر في خصوص المقام كاشفا عن عدم النجاسة، بل مجملا من هذه الناحية. فان كاشفية نفي أثر النجاسة عن عدمها إنما يصح في المورد الذي لا يتعقل العرف وجها له الا عدم النجاسة، كما هو واضح.

القول الثالث: التفصيل بين ما يكون أقل من الحمصة فيحكم بطهارته و ما يكون بقدرها أو أكثر فيحكم بنجاسته. و ذلك استنادا الى خبر المثنى ابن عبد السلام عن أبي عبد اللّه (ع) قال: «قلت له: اني حككت جلدي فخرج منه دم» قال إذا اجتمع قدر الحمصة فاغسله، و الا فلا» «1» و الاستدلال بها أحسن حالا من الاستدلال بأخبار العفو في التفصيل المتقدم لعدم ورودها في الصلاة كي تحمل على العفو عن المانعية. و لكنه مع ذلك لا يمكن التعويل عليها و ذلك:

______________________________
[1] كرواية ابن أبي يعفور عن أبي عبد اللّه (ع) في حديث «قلت: فالرجل يكون في ثوبه نقط الدم لا يعلم به ثم يعلم فينسى أن يغسله فيصلي، ثم يذكر بعد ما صلى أ يعيد صلاته؟ قال: يغسله و لا يعيد صلاته، الا أن يكون مقدار الدرهم مجتمعا فيغسله و بعيد الصلاة» وسائل الشيعة باب 20 من أبواب النجاسات.

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 20 من أبواب النجاسات.


174
بحوث في شرح العروة الوثقى3

طهارة دم ما لا نفس له ؛ ج‌3، ص : 175

[طهارة دم ما لا نفس له]

و أما دم ما لا نفس له فطاهر (1)، كبيرا كان أو صغيرا كالسمك و البق و البرغوث.

______________________________
أولا: باعتبار ضعفها سندا.

و ثانيا: ان الارتكاز العرفي القاضي: بأن قلة القذر لا تؤثر في ارتفاع قذارته و انما يمكن أن تؤثر في تخفيف أحكامه، بنفسه يشكل قرينة لبية متصلة، ان لم تستوجب ظهور الرواية في كون الحيثية الملحوظة فيها هي المانعية لا النجاسة، فلا أقل من أنها تستوجب إبطال ظهور نفي الغسل في عدم النجاسة.

و مما يؤيد عدم الفرق بين قليل الدم و كثيره في النجاسة: ورود جملة من روايات النجاسة في الدم القليل، كموثقة عمار الواردة في الدم على منقار الطير الذي هو أقل من قدر الحمصة عادة، و روايات العفو عن الدم أقل من الدرهم مع التأكيد على لزوم الغسل منه.

و هكذا اتضح أن الصحيح ما هو المشهور و أفتى به الماتن (قده):

من عدم التفصيل في الحكم بنجاسة الدم بين كثيره و قليله.

(1) لا إشكال في طهارة دم ما لا نفس له بناء على ما حققناه في البحث السابق من عدم وجود مطلق في أدلة نجاسة الدم، و انما هي روايات خاصة وردت كلها في موارد الدم المسفوح مما له نفس سائله و احتمال الفرق بينها و بين المقام موجود، كيف و قد ادعى بعضهم أنه ليس بدم و انما هو رجيع. فيكون الحكم بطهارته على القاعدة الأولية.

و انما الكلام فيما يدل على استثنائه لو فرض الفراغ عن ثبوت الإطلاق و هو أحد وجوه:

الأول: الإجماع المستفيض نقله على الطهارة، و لا يقدح فيه ما ورد‌


175
بحوث في شرح العروة الوثقى3

طهارة دم ما لا نفس له ؛ ج‌3، ص : 175

..........

______________________________
في تعبير الشيخ (قده) في المبسوط من: التمثيل للدم المعفو عنه في الصلاة بدم البق و الجراد، و هما مما لا نفس له. المشعر بأنه كدم الرعاف معفو عنه و ليس بطاهر. و ما ورد في تعبير سلار (ره) من: تقسيم النجاسة إلى ثلاثة أقسام: ما تجوز الصلاة في قليله و كثيره، و ما لا تجوز الصلاة في قليله و كثيره و ما تجوز في قليله و لا تجوز في كثيره و مثل للقسم الأول بدم البق مما يدل على انطباق المقسم و هو النجس عليه أيضا و ما ورد في التعبير المنسوب الى ابن الجنيد (ره) من: أن كل دم نجس، و اما دم السمك فليس بدم و انما هو رجيع. الدال أيضا على عدم استثناء شي‌ء من أقسام الدم من الحكم بالنجاسة.

فإن مثل هذه العبائر لا ينبغي جعلها نقضا على الإجماع- لو تم في نفسه- لقوة احتمال أن تكون من المسامحة في التعبير، و كون تمام النظر إلى النتيجة العملية المؤثرة في حال المكلف. و لذلك نرى الشيخ (قده) بنفسه يصرح في الخلاف- في قبال فتوى العامة بالنجاسة- بإجماع الطائفة على الطهارة- مع أن مثل التعبير الذي ذكره في المبسوط يورده في الخلاف أيضا.

فالمهم إذن: ملاحظة نفس الإجماع ليرى أنه هل يمكن أن يستكشف به حجة على الطهارة أم لا؟ فنقول:

ان الاستدلال بالإجماع على الطهارة، إما أن يكون بلحاظ كاشفيته عن وجود رواية لدى المجمعين واضحة السند و الدلالة على طهارة دم ما لا نفس له، باعتبار عدم كون المسألة عقلية كي يحتمل استنادهم فيها الى وجوه صناعية عقلية. و إما أن يكون بلحاظ كشف الاتفاق عن مركوزية الحكم المذكور في عصر المعصومين (ع).

و كلا التقريبين قابل للمنع. إذ يرد على الأول:

انه يستبعد وجود رواية واردة بعنوان استثناء دم ما لا نفس له اطلع عليها أولئك المجمعون، ثم لم تنقل في شي‌ء من مجاميع الحديث و كتبهم‌


176
بحوث في شرح العروة الوثقى3

طهارة دم ما لا نفس له ؛ ج‌3، ص : 175

..........

______________________________
التي ألفها نفس هؤلاء المجمعين.

أضف الى ذلك عدم انحصار المدرك في أن يكون هناك رواية على الطهارة، بل يكفي أن يكون مدرك بعضهم هو عدم الدليل على نجاسة كل دم، و مدرك بعض آخرين قوله تعالى (أو دما مسفوحا) الذي وقع الاستدلال به على طهارة غير المسفوح، أو الاستفادة من الروايات الخاصة الواردة في بعض الموارد.

و بهذا البيان أيضا يناقش في التقريب الثاني لكاشفية الإجماع، فإنه مع وجود مثل هذه المدارك المحتملة لا ينحصر وجه الاتفاق في ارتكاز موروث من الأئمة (ع) على الطهارة. و عليه فقد لا يحصل من الإجماع المذكور اطمئنان بأن الحكم الواقعي هو طهارة دم ما لا نفس له، كي يرفع اليد به عن إطلاق النجاسة على القول به.

الثاني: الآية المباركة «قُلْ لٰا أَجِدُ فِي مٰا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلىٰ طٰاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلّٰا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً» «1» حيث يستدل بمفهوم الوصف فيها على حلية الدم غير المسفوح، و هي تلازم طهارته لا محالة. و دم ما لا نفس له ليس من المسفوح، إذ المسفوح ما ينصب من العرق انصبابا.

و هذه الآية يستدل بها أيضا على طهارة الدم المتخلف و سوف تأني لدى التعرض لتلك المسألة، المناقشات المشتركة على الاستدلال بها في المسألتين، فنقتصر هنا على الإشارة إلى أمر يختص بالمقام، و هو: أن الاستدلال بالآية موقوف على القول بحلية دم ما لا نفس له. و أما لو أريد الحكم بطهارته فقط مع كونه حراما كما هو المعروف فالاستدلال بالآية غير متجه، لأن المدلول المطابقي لها هو حلية الدم غير المسفوح، فلو سقط عن الاعتبار لم يثبت مدلوله الالتزامي أيضا. نعم لو كان فتواهم بحرمته‌

______________________________
(1) الأنعام 147.


177
بحوث في شرح العروة الوثقى3

طهارة دم ما لا نفس له ؛ ج‌3، ص : 175

..........

______________________________
لا بما هو دم، بل باعتباره من الخبائث صح الاستدلال بالآية، لأنها تنفي الحرمة بحيثية كونه دما، فلا ينافي ثبوت الحرمة بملاك آخر.

لا يقال: حمل الآية على الحكم الحيثي دون الفعلي خلاف الظاهر إذ لا فائدة عرفية فيه.

فإنه يقال: يكفي صيرورتها فعلية في بعض الموارد، كما في الدم المتخلف، ما دام الحكم ثابتا على العنوان، و لم يتصد المولى بنفسه لتطبيقه على هذا الفرد.

الثالث: الروايات المتفرقة التي ادعى استفادة ضابط كلي منها و هو طهارة دم الحيوان الذي ليس له نفس سائلة.

منها رواية عبد اللّه بن أبي يعفور: قال: قلت لأبي عبد اللّه (ع) ما تقول في دم البراغيث؟ قال: ليس به بأس. قلت: انه يكثر و يتفاحش قال: و ان كثر» «1».

و فيه: أن التعدي من موردها و هو البرغوث الى كل الحيوانات التي لا نفس لها مما لا يساعد عليه العرف، بل غاية ما يساعد عليه هو التعدي الى ما يكون كالبرغوث من الحشرات و الحيوانات الصغيرة غير ذات اللحم، لا مثل السمك و التمساح.

و منها: رواية السكوني عن أبي عبد اللّه (ع) قال: «ان عليا (ع) كان لا يرى بأسا بدم ما لم يذك، يكون في الثوب فيصلي فيه الرجل، يعني دم السمك» «2».

و فيه:- مضافا الى ضعف الرواية سندا- أنها تدل على العفو عنه في الصلاة. و هو لا يكشف عن الطهارة في مثل الدم الذي ثبت فيه إجمالا التفكيك بين النجاسة و المانعية. و لو سلم دلالتها على الطهارة فهي‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 23 من أبواب النجاسات.

(2) وسائل الشيعة باب 23 من أبواب النجاسات.


178
بحوث في شرح العروة الوثقى3

طهارة دم ما لا نفس له ؛ ج‌3، ص : 175

..........

______________________________
مخصوصة بما لم يذك من الحيوان، أي دم ما لا يحتاج إلى التذكية كالسمك، فلا يمكن التعدي منه الى دم محرم الأكل.

و منها: رواية محمد بن ريان قال: «كتبت الى الرجل (ع):

هل يجري دم البق مجرى دم البراغيث؟، و هل يجوز لأحد أن يقيس بدم البق على دم البراغيث فيصلي فيه؟، و أن يقيس على نحو هذا فيعمل به؟ فوقع (ع): يجوز الصلاة، و الطهر منه أفضل» «1».

و فيه:- مضافا الى ضعف الرواية سندا- أن مدلولها المطابقي نفي المانعية، و هو لا يكشف عن الطهارة في المقام كما تقدم. و لو سلم فهي كرواية ابن أبي يعفور من حيث عدم إمكان التعدي من موردها الى كل ما لا نفس له.

و منها: رواية الحلبي قال: «سألت أبا عبد اللّه (ع) عن دم البراغيث يكون في الثوب هل يمنعه ذلك من الصلاة فيه؟. قال: لا و ان كثر فلا بأس أيضا بشبهه من الرعاف ينضحه و لا يغسله» «2».

و فيه: وضوح كون النظر فيها إلى المانعية بقرينة عطف دم الرعاف عليه. مضافا الى ورودها في مثل البرغوث فلا يمكن التعدي منه الى كل ما لا نفس له.

و منها رواية غياث عن جعفر عن أبيه (ع) قال: «لا بأس بدم البراغيث و البق و بول الخشاشيف» «3».

و فيه: أنها كرواية ابن أبى يعفور من حيث اختصاصها بالبراغيث و البق و نحوهما.

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 23 من أبواب النجاسات.

(2) وسائل الشيعة باب 20 من أبواب النجاسات.

(3) وسائل الشيعة باب 10 من أبواب النجاسات


179
بحوث في شرح العروة الوثقى3

طهارة دم ما لا نفس له ؛ ج‌3، ص : 175

..........

______________________________
و هكذا يتضح أن هذه الروايات لا يمكن الاستدلال بشي‌ء منها على حكم كلي هو: طهارة دم كل ما لا نفس له من الحيوانات.

بيد أن السيد الأستاذ- دام ظله- حاول الاستناد في إثبات القضية الكلية إلى رواية حفص المتقدمة في أبحاث الميتة عن الصادق عن أبيه (ع) «أنه قال: لا يفسد الماء الا ما كانت له نفس سائلة» «1». و هي- لو صح الاستدلال بها- عامة لكل حيوان لا نفس له، كما هو واضح.

و قد تقدم الكلام عن ضعف سندها و إمكان تصحيحه في أبحاث الميتة فالمهم الآن ملاحظة دلالتها في المقام. و لا ينبغي الريب في أن المتيقن من مدلولها، النظر إلى ميتة الحيوان و إفسادها للماء و عدمه و لكن جملة من الفقهاء حاول استفادة أكثر من ذلك من مدلولها، و لهذا وقع الاستدلال بها على طهارة ما يرتبط بالحيوان غير ذي النفس في عدة مقامات، حيث استدل بها على طهارة بوله و خرئه و دمه. و لا يبعد أن يكون الاستدلال بها على طهارة دمه أحسن حالا من غيره باعتبار أنه يعد جزءا من الميتة فيشمله إطلاق: لا يفسد الماء ميتة ما لا نفس له، و باعتبارها ناظرة إلى أدلة النجاسة يكون إطلاقها مقدما على إطلاق دليل النجاسة.

و لكن الصحيح- مع ذلك- عدم تمامية الاستدلال المذكور: لأن غاية ما يستفاد منها أن ما لا نفس له لا ينفعل الماء بملاقاة ميتته، و هو لا يدل على أكثر من نفي النجاسة الناشئة بملاك الموت عنها، فلو فرض إطلاق الميتة لمثل الدم من الأجزاء كان مقتضاه عدم انفعال الماء بملاقاته من حيث كونه ميتة، و اما من حيثية أخرى ككونه دما فلا دلالة للحديث على نفيه.

و لم يتصد الحديث لتطبيق هذا الحكم على ملاقاة الدم بالخصوص، كي يدعى لغوية كون الحكم فيه حيثيا. كما أنه ليست فريضية وقوع الميتة في الماء‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 35 من أبواب النجاسات


180
بحوث في شرح العروة الوثقى3

طهارة دم ما لا نفس له ؛ ج‌3، ص : 175

..........

______________________________
ملازمة غالبا لملاقاة شي‌ء من دمها كي ينعقد فيها ظهور- بدلالة الاقتضاء و صونا للكلام عن اللغوية العرفية- في الحكم الفعلي.

و دعوى: أن المركوز أشدية قذارة الميتة من الدم فما لا يحكم بنجاسة ميتته أولى بالحكم بطهارة دمه. مدفوعة: بأن ثبوت ارتكاز من هذا القبيل بدرجة تشكل دلالة التزامية في الدليل محل منع، و حصول القطع بأولوية المناط عهدته على مدعيه.

و هكذا يتضح: أن العمدة في المصير إلى طهارة دم ما لا نفس سائلة له قصور المقتضى من أول الأمر، لعدم تمامية الإطلاق في دليل نجاسة الدم غير ان هنا نكتة لا بد من التنبيه عليها و هي: أن عدم تمامية الإطلاق في دليل نجاسة الدم إنما يكفي وحده لعدم البناء على النجاسة في دم حيوان غير ذي نفس كالسمك و نحوه، و أما ما لا نفس له و كان دمه مكتسبا كالبق و البرغوث فقد يقال: انه إذا امتص دم الإنسان أمكن الحكم بنجاسته تمسكا باستصحاب النجاسة حتى لو لم يتم الإطلاق، فلا بد من دليل اجتهادي محكم عليه لإثبات الطهارة. و من هنا يقع الكلام تارة: في جريان هذا الاستصحاب في نفسه، و أخرى: في وجود الدليل الحاكم على الطهارة و اما الكلام في الأول: فقد يشكل تارة: بدعوى تغير الموضوع.

و أخرى: بدعوى نفي الحالة السابقة فيما إذا امتص البق الدم من الإنسان رأسا، بناء على طهارة الدم في الباطن، فإنه لا علم حينئذ بنجاسته لتستصحب و قد يدفع الإشكال الأول بأن اللازم في الاستصحاب انحفاظ ما هو المعروض عرفا و المعروض عرفا للنجاسة، الجسم لا عنوان دم الإنسان و دم البق و قد يتخلص من الإشكال الثاني بتحويل الاستصحاب الى استصحاب تعليقي و ذلك للعلم حدوثا بأن هذا الدم حدوثا كان على نحو لو سفح لكان نجسا لأن ذلك هو المتيقن من دليل نجاسة الدم، فيستصحب ذلك بشأنه. و هذا انما‌


181
بحوث في شرح العروة الوثقى3

طهارة دم ما لا نفس له ؛ ج‌3، ص : 175

..........

______________________________
يتم- بعد البناء على جريان الاستصحاب التعليقي- فيما إذا كان المعلق عليه في القضية المتيقنة المستصحبة ذات السفح، فإنه المتيقن فعلا، لا سفح دم ما له نفس سائلة، و الا فلا يجري الاستصحاب المذكور، لأن المعلق عليه حينئذ غير محرز فعلا.

و أما الكلام في الثاني فقد تقدم ذكر عدة روايات قد تدل على طهارة دم البق و البرغوث، كرواية محمد بن ريان، و رواية الحلبي، و رواية غياث و رواية ابن أبي يعفور و أهمها الرواية الأخيرة، لأن الأولى ضعيفة بسهل بن زياد، و الثانية محل الاشكال سندا بابن سنان لاحتمال ارادة محمد بن سنان منه خصوصا بلحاظ رواية مثل أحمد بن محمد عنه، و دلالة باحتمال أنها في مقام نفي المانعية مستقلا لا نفيها بنفي النجاسة، و يؤيد ذلك عطف الرعاف المعلوم نجاسته عليه و الثالثة قد يستشكل فيها باعتبار ورود محمد يحيى في سندها ناقلا عن غياث، و هو محتمل الانطباق: على محمد بن يحيى الخزاز الثقة الذي ينقل عن أصحاب الإمام الصادق عليه السلام، و على محمد بن يحيى الفارسي الذي يناسب أن ينقل عن الامام الصادق عليه السلام بواسطة و مع التردد تسقط الرواية عن الحجية إذا لم يدع الانصراف إلى الأول.

و اما الرواية الأخيرة فلا إشكال في دلالتها على المطلوب، و اما سندها فقد رواها الشيخ بإسناده إلى الصفار عن أحمد بن محمد عن علي بن الحكم عن زياد بن أبي الحلال عن عبد اللّه بن أبي يعفور و لا إشكال في هذا السند الا من ناحية علي بن الحكم المردد بين أربعة أشخاص بعضهم ثبتت وثاقته دون البعض الآخر فان عين هذا في الثقة أو ثبتت وحدة الكل فهو و الا سقطت الرواية عن الحجية.

و أما أولئك الأربعة فهم كما يلي:

1- علي بن الحكم، بقول مطلق. ذكره الشيخ في رجاله من أصحاب‌


182
بحوث في شرح العروة الوثقى3

طهارة دم ما لا نفس له ؛ ج‌3، ص : 175

..........

______________________________
الجواد، و لم يضف إليه أدنى تعبير، و لم يذكره الشيخ في الفهرست و لا النجاشي و لا الكشي بهذا العنوان المطلق.

2- علي بن الحكم بن زبير النخعي. عده الشيخ في رجاله من أصحاب الرضا (ع) قائلًا «علي بن الحكم بن زبير مولى النخع كوفي». و ذكر هذا الشخص أيضا النجاشي بعنوان: علي بن الحكم بن زبير» بإسقاط كلمة مولى النخع، و ذكر له كتابا كما سوف يأتي ان شاء اللّه تعالى.

3- علي بن الحكم الكوفي لم يترجمه بهذا العنوان الكشي و لا النجاشي و لا الشيخ في رجاله، و ترجمه الشيخ في فهرسته قائلًا: «ثقة جليل القدر له كتاب، أخبرنا جماعة عن محمد بن علي بن الحسين بن بابويه، عن أبيه، عن محمد بن هشام، عن محمد بن سندي، عن علي بن الحكم. و رواه محمد ابن علي، عن أبيه و محمد بن الحسن، عن سعد بن عبد اللّه، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم و أخبرنا ابن ابي جيد، عن ابن الوليد، عن الصفار و أحمد بن إدريس و الحميري و محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد عن علي بن الحكم و عليه فهذا الشخص بهذا العنوان ثقة بشهادة الشيخ.

4- علي بن الحكم الأنباري، لم يذكره بهذا العنوان النجاشي و لا الشيخ في فهرسته و لا في رجاله، و انما ذكره الكشي و نقل عن حمدويه عن محمد بن عيسى: ان علي بن الحكم هو ابن أخت داود بن النعمان بياع الأنماط، و هو نسيب (ينسب إلى) بني الزبير الصيارفة. و علي بن الحكم تلميذ ابن ابي عمير، و لفي من أصحاب ابي عبد اللّه (ع) الكثير، و هو مثل ابن فضال و ابن بكير» و قوله «علي بن الحكم تلميذ ابن ابي عمير إلخ»- سواء كان من كلام الكشي كما هو الأقرب، أو من كلام محمد بن عيسى- معتبر، لوثاقة كليهما، فلا بد من ملاحظة انه هل يستفاد منه توثيق لعلي ابن الحكم أولا؟. قد يقال: بالاستفادة، باعتبار جعله مثل ابن فضال‌


183
بحوث في شرح العروة الوثقى3

طهارة دم ما لا نفس له ؛ ج‌3، ص : 175

..........

______________________________
و ابن بكير المفروغ عن وثاقتهما. و قد يخدش ذلك بإبداء احتمال كون ذلك تمثيلا للكثير، اى لقي كثيرا مثل ابن فضال. و لكن هذا كما ترى لا ينسجم مع ظاهر كلمة (و هو). نعم نقل ابن داود ما مضى من عبارة الكشي مع حذف كلمة (و هو)، فقد يؤدى ذلك الى احتمال تهافت في نسخ كتاب الكشي. الا انه حتى مع حذفها لا يمكن ان يجعل ذلك تمثيلا للكثير، لان ابن فضال ليس من أصحاب الصادق عليه السلام، بل يطلق هذا على شخصين: أحدهما من أصحاب الكاظم (ع)، و الآخر ابنه و هو من أصحاب الهادي. و عليه فيتعين كون التمثيل لعلي بن الحكم و هو يحمل على التشبيه في أهم الصفات الملحوظة رجاليا التي منها الوثاقة.

و دعوى: ان التشبيه كما قد يكون بلحاظ الوثاقة قد يكون باعتبار الاشتراك في ملاقاة الكثير من أصحاب ابي عبد اللّه، فلا تثبت وثاقة المشبه قد تدفع بدعوى: انصراف ابن فضال الى ابن فضال الابن، الذي هو من أصحاب الإمام الهادي عليه السلام و لم يلق أصحاب ابي عبد اللّه عليه السلام، دون ابن فضال الأب الذي هو من أصحاب الكاظم و لقي أصحاب الصادق فينتفى احتمال كون المقصود التشبيه في ملاقاة الكثير من أصحاب ابي عبد اللّه.

هذا مضافا الى ان ظاهر كلمة (و هو) لا يناسب كون المقصود التشبيه في ذلك. و اطباق نسخ الكشي و النقل عن الكشي على حفظ كلمة (و هو) يوجب استبعاد زيادتها و الاطمئنان بوقوع اختصار أو سهو في كتاب ابن داود، خصوصا انه أسقط جملة من العبارات في مقام النقل و نقل المعنى فيرجح انه أسقط كلمة (و هو) أيضا، إذ لم ير أهمية في ذكرها، و عليه فتثبت وثاقة على بن الحكم المذكور.

و على هذا الأساس يقع الكلام في إمكان إثبات وحدة هذه العناوين‌


184
بحوث في شرح العروة الوثقى3

طهارة دم ما لا نفس له ؛ ج‌3، ص : 175

..........

______________________________
المتعددة لعلي بن الحكم، أو على الأقل إرجاع الأوليين إلى الأخيرين أو أحدهما لتكون الرواية حجة.

و قبل الشروع في ذكر أمارات الوحدة لا بد من الإشارة إلى انه لا توجد امارة تمنع عن الحمل على الاتحاد في المقام، لا من ناحية تعدد الطبقات، و لا من ناحية تعدد التوصيفات، و لا من ناحية ذكر الشيخ له مرتين في رجاله.

اما الأول: فلان هذه العناوين الأربعة يمكن افتراضها في طبقة واحدة، لأن الأول ذكره الشيخ في رجاله من أصحاب الجواد (ع) و الرابع قد مضى انه تلميذ ابن ابي عمير، و من يكون تلميذا لابن ابي عمير الذي هو من أصحاب الكاظم الى الجواد يمكن ان يكون من أصحاب الجواد (ع).

و الثاني من أصحاب الرضا (ع) و هو يناسب الصحبة للجواد أيضا و النجاشي نقل كتابه بواسطة أحمد بن محمد بن خالد البرقي، و هو ممن يروى عن أصحاب الجواد. و الثالث روى الشيخ كتابه بواسطة أحمد بن محمد كما مضى و هو البرقي، أو أحمد بن محمد بن عيسى، و كلاهما في طبقة واحدة و قد عرفت حال البرقي. و إذا لاحظنا الرواة عن عناوين علي بن الحكم وجدنا انهم في طبقة واحدة أو متقاربون على نحو يناسب وحدته، و اما الثاني فتوصيف الكشي له بالانبارى و توصيف الشيخ له في رجاله بالنخعي و في فهرسته بالكوفي، ليس قرينة على التعدد. فإن النخعية و الكوفية ليستا متنافيين لان النخعية نسبة الى عشيرة فلا تنافي كون بعضهم كوفيا، بل الشيخ في رجاله جمع بين النخعية و الكوفية. و اما الانبارية فهي أيضا لا تنافي الكوفية إذ يقال: ان الأنبار قرية على شاطئ الفرات فيعتبر الأنباري كوفيا، اما لقرب الأنبار من الكوفة و اندكاكها في جنبها و اما لهجرة الأنباري إلى الكوفة، كما يناسبه كونه تلميذا لابن ابي عمير.


185
بحوث في شرح العروة الوثقى3

طهارة دم ما لا نفس له ؛ ج‌3، ص : 175

..........

______________________________
و اما الثالث: فذكر الشيخ الطوسي له في رجاله تارة من أصحاب الرضا و اخرى من أصحاب الجواد ليس قرينة على التعدد، لان طريقة الشيخ في رجاله هي انه إذا كان شخص من أصحاب إمامين أو ثلاثة ذكره عدة مرات- بترتيب الأئمة (ع)- في أصحاب كل امام هو من أصحابه و يلاحظ ان الشيخ عادة يذكر الشخص لأول مرة بعنوان تفصيلي، و عند التكرار في إمام بعده يذكره إجمالا و هكذا صنع في المقام إذ ذكره في أصحاب الرضا بعنوان علي بن الحكم بن زبير مولى النخع كوفي، و في أصحاب الجواد بعنوان علي بن الحكم.

و نبدأ الآن بذكر قرائن تتجه إلى إبطال تكثر علي بن الحكم على النحو المضر بالاستدلال. و لا يلزم بهذا الصدد إثبات وحدة الجميع، بل من جملة الأساليب النافعة إثبات رجوع الأولين الى أحد الأخيرين الذين ثبتت وثاقتهما.

القرينة الأولى: مجي‌ء علي بن الحكم مطلقا و بلا تقييد في الكثرة من الروايات و الطرق التي وقع فيها، فلو كان متعددا لكان من البعيد ان يلتزم كل أولئك الرواة بالإطلاق في مقام التعبير عنه، فيستقرب فرض الوحدة أو فرض الانصراف غير المحوج الى التقييد مع التعدد أيضا. و من الواضح بعد افتراض الانصراف عن علي بن الحكم الكوفي الثقة الذي له كتاب و رواه جماعة عنه و للشيخ طريق إليه.

القرينة الثانية: ان الثالث و هو علي بن الحكم الكوفي الثقة الذي ذكره الشيخ في فهرسته لو كان غير علي بن الحكم الذي ذكره النجاشي في فهرسته للزم إهمال النجاشي لشخص من المؤلفين المستحقين للدخول في فهرسته و هذا بعيد، خصوصا مع نظر النجاشي إلى فهرست الشيخ و نقله عنه و تبحره في هذا الفن و كونه كوفيا يجعله اولى بمعرفة الكوفيين. و إذا اتحد الثالث مع الثاني بقي الرابع و هو ثقة على اي حال. و الأول و هو و ان لم يكن‌


186
بحوث في شرح العروة الوثقى3

طهارة دم ما لا نفس له ؛ ج‌3، ص : 175

..........

______________________________
راجعا الى غيره فاللفظ منصرف عنه، لأنه لم يذكره النجاشي و لا الكشي و لا الشيخ في فهرسته و لم يذكر له كتاب و لا علاقات، بخلاف الثالث الذي ذكر انه ثقة جليل القدر و له كتاب ينقله جماعة و للشيخ طرق عديدة اليه، و ذكره النجاشي أيضا لما عرفت من اتحاده مع الثاني، و إذا وحدنا الثاني مع الرابع فقد ذكره النجاشي أيضا، و ذكر الكشي انه مثل ابن فضال و ابن بكير و انه لقي من أصحاب ابي عبد اللّه الكثير.

القرينة الثالثة: تتلخص في عدة مراحل: الاولى: في إثبات وحدة الثاني و الرابع. و الثانية: في إثبات وحدة الثاني و الثالث. و الثالثة: في نفى احتمال إرادة الأول بنحو يغاير مع غيره.

اما المرحلة الأولى: فإن النجاشي قد ترجم في كتابه- كما مر بنا- علي بن الحكم بن زبير من دون توصيفه بالانباري أو الكوفي. و ترجم صالح ابن خالد المحاملي تارة في باب الأسماء و اخرى في باب الكنى ففي باب الأسماء قال: «صالح بن خالد المحاملي أبو شعيب مولى علي بن الحكم بن زبير» و في باب الكنى قال: «أبو شعيب المحاملي كوفي ثقة من رجال ابن الحسن موسى (ع)، مولى علي بن الحكم بن الزبير الأنباري». و نلاحظ في هذا المجال: أولا: استبعاد المغايرة بين علي بن الحكم بن الزبير الأنباري الذي ذكره النجاشي في ترجمة أبي شعيب، و علي بن الحكم الأنباري الرابع الذي ذكره الكشي، إذ يلزم من ذلك كون الاتحاد في الاسم و اسم الأب و الانبارية صدفة، و هو بعيد. و ثانيا: استبعاد المغايرة بين علي بن الحكم ابن الزبير الأنباري الذي ذكره النجاشي في ترجمة أبي شعيب، مع علي ابن الحكم بن الزبير الذي ترجمه النجاشي، و ذلك للاشتراك في الاسم و الأب و الزبيرية، و لان نفس علي بن الحكم بن الزبير الأنباري الذي ذكره النجاشي في باب الكنى ان أبا شعيب مولاه، قد ذكره في باب الأسماء‌


187
بحوث في شرح العروة الوثقى3

طهارة دم ما لا نفس له ؛ ج‌3، ص : 175

..........

______________________________
مع حذف كلمة (الأنباري) حيث قال: صالح بن خالد المحاملي أبو شعيب مولى علي بن الحكم بن الزبير و هذا ينصرف لا محالة الى من ترجمة في نفس الكتاب بنفس ذلك العنوان و هو علي بن الحكم بن الزبير و لو قصد شخصا آخر غير من ترجمه لكان عليه التنبيه و بهذا يثبت اتحاد الأنباري الذي ترجمه الكشي مع ابن الزبير الذي ترجمه النجاشي، اي الرابع مع الثاني.

و أما المرحلة الثانية: فحاصل الكلام فيها أن الثالث لو كان غير من تصادق عليه العنوان الثاني و الرابع للزم من ذلك، أن يكون الشيخ قد أغفل ذكر شخص من الرواة في فهرسته- و هو من تصادق عليه العنوانان الثاني و الرابع، مع أنه من البعيد عدم اطلاعه على وجوده مع إثباته في تلخيص رجال الكشي الذي تم على يد الشيخ نفسه. كما أن من البعيد عدم اطلاعه على كتابه الذي شهد النجاشي في الفهرست به مع وجود طريق للنجاشي اليه، و قد وقع فيه من كان للشيخ طريق الى جميع كتبه و رواياته كسعد مثلا.

و اما المرحلة الثالثة: فتتميمها يتم بدعوى أن الأول إن رجع الى أحد الثلاثة فهو المطلوب، و الا فمن تصادقت عليه العناوين الثلاثة أشهر بلا إشكال بمرتبة يصح دعوى انصراف اللفظ إليه.

القرينة الرابعة: ان من لم يوثق من هؤلاء الأربعة شخصان كما تقدم و هما الأول و الثاني، و قد ذكرهما الشيخ في رجاله كما مضى.

فنلاحظ: أولا: أن الظاهر ان هذين الشخصين الذين لم يرد توثيقهما بعنوانهما أحدهما متحد مع من ذكره الشيخ في فهرسته و وثقه و هو علي بن الحكم الكوفي إذ يلزم من فرض التعدد أن يكون الشيخ مهملا في رجاله من ذكره في فهرسته و وثقه و نسب له كتابا، مع أن رجال الشيخ بطبيعته أعم من فهرسته، لأنه موضوع لمطلق الرواة، و الفهرست موضوع لخصوص‌


188
بحوث في شرح العروة الوثقى3

طهارة دم ما لا نفس له ؛ ج‌3، ص : 175

..........

______________________________
المصنفين، و رجاله متأخر عن فهرسته، فمن المستبعد أن يكون قد عدل في الرجال عن ذلك الشخص المعروف الى ذكر شخص آخر مجهول غير معنون و ليس له كتاب.

و نلاحظ ثانيا: ان الظاهر ان أحد هذين الشخصين الذين لم يرد توثيقهما بعنوانهما متحد مع الأنباري الثقة الذي ذكره الكشي، و إلا لزم أن يكون الشيخ قد أهمل في رجاله الأنباري الذي ذكره الكشي، و من المستبعد عدم ذكره في الرجال مع وصف الكشي له بأنه لقي من أصحاب الصادق (ع) الكثير، و هو مثل ابن فضال و ابن بكير، مع أن رجال الشيخ مبناه على الاستقصاء و هو مطلع على هذا الشخص بحكم إحاطته برجال الكشي، و تلخيصه له و اشتمال التلخيص عليه.

و في هذا الضوء ينتج أن الشخصين غير الموثقين بعنوانهما أحدهما متحد ظاهرا مع الكوفي الثقة، و أحدهما متحد ظاهرا مع الأنباري الثقة فإن فرض أن المتحد مع الكوفي مغاير للمتحد مع الأنباري ثبتت وثاقة الكل و ان فرض أن أحدهما متحد مع الكوفي الثقة و الأنباري الثقة و بقي الآخر مغايرا للثقتين، فهنا نحتاج إلى الاستعانة بجزء مما مضى في القرينة الثانية، فإن فرضنا أن المغاير هو علي بن الحكم المطلق ضممنا ما مضى من دعوى الانصراف، و ان فرضناه النخعي ضممنا ما مضى من القرينة على اتحاد النخعي مع الكوفي الثقة، أو على اتحاده مع الأنباري الثقة.

القرينة الخامسة: ان علي بن الحكم الأنباري نفس علي بن الحكم ابن الزبير، لأن الكشي ذكر عن الأول أنه نسيب (أو ينسب إلى) بني الزبير الصيارفة، و الثاني ذكره النجاشي و الشيخ في رجاله بعنوان علي بن الحكم بن الزبير. و هذه القرينة لا تكفي وحدها لإثبات المطلوب بل لا بد من ضم شي‌ء مما سبق كالقرينة على اتحاد من ذكره النجاشي مع‌


189
بحوث في شرح العروة الوثقى3

طهارة دم ما لا نفس له ؛ ج‌3، ص : 175

..........

______________________________
من ترجمه الشيخ في فهرسته، و دعوى الانصراف حينئذ عن علي بن الحكم المطلق على فرض مغايرته لمن تصادقت عليه العناوين الثلاثة.

و قد يستشهد لوحدة علي بن الحكم بن الزبير الذي ذكره النجاشي مع الكوفي الثقة الذي ذكره الشيخ بما ذكره الوحيد في التعليقة: من أن الراوي عمن ذكره الشيخ- رحمه اللّه تعالى- و الراوي عمن ذكره النجاشي شخص واحد، و هو أحمد بن محمد. و يندفع: بأن الراوي عنه في طريق النجاشي هو أحمد بن أبي عبد اللّه البرقي و الراوي عنه في طريق الشيخ أحمد بن محمد، على نحو الإطلاق، و لعله أحمد بن محمد عيسى، بقرينة وقوع الصدوق في طريق الشيخ هذا، و تصريح الصدوق في مشيخته بأحمد ابن محمد بن عيسى في طريقه الى على بن الحكم.

و على أي حال ففيما تقدم كفاية لإثبات حجية روايات علي بن الحكم باعتبار إثبات الوحدة و لو بضم الانصراف.

فان قيل: ان الانصراف لا يكفي، فإنه إذا لم تثبت وحدة الجميع و فرضنا مغايرة الأول لغيره، فهذا يعني كون الأول راويا في الجملة و له روايات، و العمل بظهور اللفظ الموجب للانصراف الى غيره في تمام الموارد يوجب طرح العلم الإجمالي بوجود روايات له في الجملة، فيقع التعارض بين الظهورات الانصرافية.

قلنا: لا تعارض. أما أولا: فلعدم العلم بالتغاير و غاية ما في الأمر احتماله. و اما ثانيا: فلأنه على فرض التغاير لا علم بوجود روايات له في الكتب الأربعة و ما بحكمها بالذات. و اما ثالثا: فلاحتمال أن يكون ما نقل عنه داخلا في ما نقل عن علي بن الحكم بطرق ضعيفة.

و هكذا يتلخص: ان رواية ابن أبي يعفور الدالة على طهارة دم البق معتبرة و تامة سندا و دلالة، فلا إشكال في المسألة.


190
بحوث في شرح العروة الوثقى3

طهارة الدم المتخلف و فروع ذلك ؛ ج‌3، ص : 191

و كذا ما كان من غير الحيوان، كالموجود تحت الأحجار عند قتل سيد الشهداء (ع). (1) و يستثني من دم الحيوان، المتخلف في الذبيحة بعد خروج المتعارف، سواء كان في العروق، أو في اللحم، أو في القلب، أو في الكبد، فإنه طاهر (2).

______________________________
(1) سوف نتكلم في هذا الفرع عند تعرض السيد الماتن (قده) لدم البيضة.

[طهارة الدم المتخلف و فروع ذلك]

(2) و يمكن أن يستدل عليه بعدة وجوه:

الأول: قصور مقتضى النجاسة إثباتا، بناء على ما هو الصحيح من عدم ثبوت دليل على نجاسة الدم بنحو القضية المطلقة، كي يكون مرجعا في حالة الشك.

الثاني: الإجماع، حيث لم ينقل عن أحد الإشكال في هذا الحكم و انما استفاض دعوى الإجماع عليه في كلماتهم.

و هذا الإجماع بصيغته الفتوائية حاله حال الإجماع المتقدم في دم ما لا نفس له، من حيث ورود تلك المناقشات عليه غير أنه بالإمكان صياغته في المقام بإرجاعه إلى الارتكاز و عمل أصحاب الأئمة (ع)، و من بعدهم من المسلمين الى زماننا هذا. فان هذا البناء العملي و القولي الموروث على معاملة الدم المتخلف معاملة الطاهر، مع عدم ورود أسئلة عنه في الروايات، رغم كثرة ابتلاء الناس و الرواة بالمسألة، و كونهم قد سألوا الأئمة (ع) عن أشياء أقل أهمية في حياتهم اليومية فأقول: إن مثل هذا الإجماع القولي و العملي كاشف عن وضوح الطهارة في أذهان المتشرعة من أصحاب الأئمة (ع)، إذ احتمال غفلتهم عنه موضوعا أو حكما ينفيه كون الدم المتخلف محل ابتلائهم في حياتهم اليومية كثيرا، و كون حكم نجاسة الدم‌


191
بحوث في شرح العروة الوثقى3

طهارة الدم المتخلف و فروع ذلك ؛ ج‌3، ص : 191

..........

______________________________
مركوزة في الجملة في أذهانهم. و افتراض أنهم سألوا عنها و أفتاهم المعصوم عليه السلام بالنجاسة، و مع ذلك لم يصل إلينا كلامه، ينفيه أن شيوع الابتلاء بها يستلزم تظافر نقل الحكم بالنجاسة لو كان، و تأكيد الأئمة عليهم السلام و الرواة على ترسيخه في ذهن المتشرعة من أصحابهم. فلا يبقى إلا أن يكون ذلك باعتبار موافقة المعصومين (ع) مع ما هو مقتضى الطبع العقلائي و الأولى من عدم استقذار ما يتخلف في الذبائح بعد خروج المتعارف الكاشف عن طهارته شرعا. و كون الطهارة على وفق الطبع الأولى مع عدم وجود ردع عنها هو الذي يفسر لنا عدم وقوع السؤال من الرواة عن طهارته كثيرا، و عدم توافر الدواعي على نقلها كذلك.

ثم ان المدرك على الطهارة لو كان هذا الوجه فلا بد من الاقتصار فيه على القدر المتيقن، باعتباره دليلا لبيا، فلا يمكن الرجوع اليه كلما شك في طهارة دم متخلف، خلافا للحال على الوجه الأول. و هذا من الفوارق بين الوجهين، و ان كان يغلب على الظن دخول تمام مراتب التخلف في الإجماع، فلا يبقى فرق بين الوجهين على مستوى التطبيق.

الثالث: التمسك بما دل على حلية الحيوان بعد التذكية، أما بتقريب:

أنه شامل بإطلاقه لكل جزء من أجزاء الحيوان بعد التذكية و منها الدم المتخلف، و لازم حليته طهارته. و اما بتقريب: أن اللحوم المذكاة لا تنفك عند استعمالها عادة عن دماء متخلفة فيها، إذ تفكيك اللحم و غسله إلى درجة تخرج منه كل الدماء المتخلفة أمر على خلاف العادة العرفية، فبدلالة الاقتضاء هذه تثبت حلية الدم في اللحم أيضا.

و يرد على التقريب الأول: أن دليل الحلية ينفي الحرمة بملاك الميتة بعد حصول التذكية، فلا يمكن التمسك به لنفي الحرمة الثابتة بملاك الدمية أو البولية أو غيرهما كما هو المطلوب في المقام.


192
بحوث في شرح العروة الوثقى3

طهارة الدم المتخلف و فروع ذلك ؛ ج‌3، ص : 191

..........

______________________________
و أما التقريب الثاني، فيمكن أن يناقش فيه بأحد وجهين:

الأول: ما ذكره المحقق الخوانساري (ره) من أن غاية ما تستدعيه الملازمة الخارجية أن يكون الدم المندك مع اللحم و المغموز بين طياته حلالا و اما الدم المتخلف بعد خروجه فلا، فيرجع فيه الى إطلاق النجاسة.

و هذه المناقشة غير تامة، كما أفاده المحقق الهمداني (ره)، إذ الغالب خروج شي‌ء من الدماء المتخلفة و لو قليلا بعد الطبخ، فلو التزم بنجاسته بعد الخروج لنجس الأطعمة، و لا يمكن أن يقصد من تجويز الأكل تجويزه بشرط عدم الطبخ.

الثاني أن مثل هذه الدلالة لا تشمل أكثر مما يعتاد وجوده من الدم المتخلف مع اللحم، فلا يعم مثل الدم الكثير المتخلف في باطن الذبيحة.

و هذا النقاش لا دافع له الا دعوى: عدم الفرق عرفا في الدماء المتخلفة بين ما يتخلف في الباطن و ما يندك في جوف اللحم الذي يمكن إخراجه عنه بالعصر و نحوه، فلو تم ارتكاز عدم الفرق تم هذا الوجه لإثبات طهارة الدم المتخلف بإطلاقه.

الرابع: قوله تعالى: «قُلْ لٰا أَجِدُ فِي مٰا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلىٰ طٰاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلّٰا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً.».

حيث يستدل به على اختصاص الحرمة بالدم المسفوح، فان فسر ذلك بالدم الخارج حال الذبح فالدم غير المسفوح يشمل المتخلف حتى بعد خروجه و ان فسر بالدم المنصب من العرق فيختص غير المسفوح بالمتخلف غير الخارج من العرق، و على كلا التقديرين تثبت الطهارة بالملازمة.

و هناك اعتراضان على هذا الاستدلال:

الاعتراض الأول- تقديم إطلاق آية التحريم في قوله تعالى «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ وَ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ» عليها، حيث لا يعلم بورودها قبل تلك‌


193
بحوث في شرح العروة الوثقى3

طهارة الدم المتخلف و فروع ذلك ؛ ج‌3، ص : 191

..........

______________________________
الآية كي تخصص بالمسفوح، ان لم يدع الاطمئنان بتأخر آية التحريم لورودها في سورة المائدة التي هي آخر سورة نزلت، و تلك الآية في سورة الانعام المكية، و مع العلم بتأخر آية التحريم أو احتمال ذلك يكون المتبع إطلاقها فإن المورد و ان كان من موارد الدوران بين النسخ و رفع اليد عن الإطلاق الأزماني في آية الأنعام، أو التخصيص و رفع اليد عن الإطلاق الأفرادي في آية التحريم، الا انه في خصوص المقام لا يوجد إطلاق أزماني لآية الانعام المتقدمة جزما أو احتمالا، لأنها لا تنفى وجود حرام في الواقع غير ما ذكر من العناوين، و انما تنفى وجدانه فيما اوحى الى النبي (ص) الى ذلك الحين، فلا ينافي أن يوحى إليه بعد ذلك محرم آخر فلا معارض لإطلاق آية التحريم. هذا على تقدير إحراز تأخرها و اما مع الشك في التقدم و التأخر فيكون من موارد الشك في وجود المخصص لإطلاقه التي يكون الأصل فيها عدم المخصص و حجية العموم.

و بهذا ظهر ان إطلاق الروايات الدالة على نجاسة الدم- لو تم- أيضا يكون مقدما على آية الانعام لأنها لا إطلاق أزماني لها و انما كنا نحكم بمضمون الآية لو لا الدليل بمقتضى الاستصحاب.

غير ان هذا البيان موقوف على ان لا نعمل بصحيحة محمد بن مسلم عن ابى جعفر (ع) إذ قال «ليس الحرام إلا ما حرم اللّه في كتابه.

ثم قرأ هذه الآية قُلْ لٰا أَجِدُ فِي مٰا أُوحِيَ إِلَيَّ «1». و هي صريحة في إمضاء نفي الآية لمحرم أخر غير ما ذكر فيها إلى الأبد، فتكون دالة على نفوذ مدلول الآية و بقائه، الذي يستدعي تخصيص آية التحريم بالدم المسفوح بمقتضى الحصر.

و لكن العمل بهذه الصحيحة مشكل إذ لا يوجد فقيه يفتي بانحصار‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 5 من أبواب الأطعمة المحرمة


194
بحوث في شرح العروة الوثقى3

طهارة الدم المتخلف و فروع ذلك ؛ ج‌3، ص : 191

نعم إذا رجع دم المذبح الى الجوف لرد النفس أو لكون رأس

______________________________
المحرمات فيما ذكرته الآية الشريفة، فلا بد و ان تحمل الرواية على محامل التقية و موافقة العامة بعد إباء سياقها عن التخصيص.

الاعتراض الثاني: دعوى عدم دلالة الآية في نفسها على حلية الدم المتخلف إذ لا موجب له الا توصيف الدم بالمسفوح، و الوصف خال عن المفهوم على ما قرر في محله.

و هذا الاعتراض يمكن ان يجاب عليه: تارة: بأن الوصف يدل على المفهوم الجزئي، و ان الحكم غير ثابت في بعض موارد فقدان الوصف على الأقل، كما حققناه في محله. و عندئذ يمكن دعوى: تعيين ذلك في الدم المتخلف بالارتكاز العرفي، أو لأنه القدر المتيقن.

و اخرى: بانا نتمسك بسياق الحصر في الآية حيث نفى وجود محرم غير ما ذكر.

لا يقال: من المحتمل قويا ان يكون الحصر في الآية إضافي بالنسبة الى ما كان يتخيل في ذلك العصر حرمته و ليس حصرا حقيقيا، إذ ما أكثر المحرمات الثابتة جملة منها بالقطع و اليقين.

فإنه يقال:- هذا لو سلم و لم يعمل برواية محمد بن مسلم المتقدمة- يرد عليه ان الدم غير المسفوح داخل فيما يضاف اليه الحصر بقرينة ذكره الدم مقيدا بالمسفوحية.

و هكذا يتلخص: ان الاستدلال بالآية الكريمة على طهارة المختلف غير مفيد، لأنه لو تم إطلاق يدل على النجاسة قدم عليها بقاء، و الا كفانا عدم تمامية المقتضي للنجاسة.


195
بحوث في شرح العروة الوثقى3

طهارة الدم المتخلف و فروع ذلك ؛ ج‌3، ص : 191

الذبيحة في علو كان نجسا (1).

______________________________
(1) الدم المتخلف بالعناية تارة: يكون برجوعه الى الداخل بعد خروجه، كما لو رد الحيوان نفسه فرجع قسم من الدم الى الجوف. و اخرى بالمنع عن خروجه من أول الأمر، كما لو سد المذبح، أو كان رأس الحيوان عاليا فتخلف مقدار من الدم كان مقتضى الطبع خروجه. و في كلا القسمين تارة: نفترض تمامية المقتضي للنجاسة بحسب مقام الإثبات في نفسه، و انما خرجنا في المتخلف لمقيد. و اخرى: نفترض قصور المقتضى لدليل النجاسة في نفسه.

اما على التقدير الأول: فلا بد و ان ننظر الى المقيد ليرى هل يشمل المتخلف بالعناية أم لا؟. و لا إشكال في عدم شموله للمقام لو كان هو الإجماع، أو دلالة الاقتضاء في روايات جواز أكل الذبيحة، لعدم الإجماع في المقام ان لم يدع الإجماع على العدم، و عدم تمامية دلالة الاقتضاء لغير المتعارف نخلفه و هو المتخلف بالطبع.

و لو كان المدرك هو الآية الكريمة فشمول مفهومها للقسم الأول من التخلف، اعنى الرجوع بعد الخروج واضح العدم، لصدق الدم المسفوح عليه بعد خروجه من الذبيحة و لو رجع بعد ذلك، إذ لا يراد بالمسفوح ما يبقى مسفوحا و خارجا عن الذبيحة إلى الأبد.

و اما شمولها للقسم الثاني و عدمه فمبنى على ان يراد بالمسفوح ما خرج فعلا، و اما لو أريد به ما من شأنه الخروج فأيضا يكون المتخلف بالعناية داخلا في منطوقها لا المفهوم.

و اما على تقدير القول بعدم تمامية الإطلاق في دليل النجاسة في نفسه كما تقدم اختياره، فقد يقال به أيضا في المتخلف بعد الرجوع، فضلا عما لم يخرج أصلا.


196
بحوث في شرح العروة الوثقى3

طهارة الدم المتخلف و فروع ذلك ؛ ج‌3، ص : 191

و يشترط في طهارة المتخلف ان يكون مما يؤكل لحمه على الأحوط فالمتخلف من غير المأكول نجس على الأحوط (1).

______________________________
و فيه: أولا: تمامية المقتضي بالارتكاز القاضي بعدم الفرق بينه و بين الدم الخارج غير الراجع، حيث لا يرى العرف بينهما فرقا الا من ناحية موضع التجمع و مكانه، و هو ليس بمفرق.

و ثانيا: لو أنكرنا الارتكاز المذكور و فرضنا احتمال العرف دخل الرجوع في الطهارة فلا أقل من ارتكاز أن دخالته ليست بنحو الشرط المتأخر لطهارة الراجع من أول الأمر، فإنه لا فرق عرفا في الدم الخارج بالفعل حين خروجه بين ما سوف يرجع و ما لا يرجع جزما، فاحتمال دخالة الرجوع في طهارة المتخلف لو كان فهو من باب كون تخلفه بعد رجوعه موجبا لارتفاع نجاسته و من الواضح أنه على هذا التقدير يكون المرجع هو استصحاب النجاسة الثابتة قبل الرجوع.

نعم هذا البيان مخصوص بالمتخلف بعد الخروج، و لا يجري على المتخلف بالعناية من دون خروج، غير أن الارتكاز الأول كاف للحكم بالنجاسة فيه أيضا.

(1) اختصاص الطهارة بالمتخلف في الذبيحة المأكولة أو شمولها للمتخلف في الذبيحة من غير المأكول فضلا عن المتخلف في العضو غير المأكول كالطحال مبتن على مدارك الحكم بطهارة الدم المتخلف.

فاذا كان المدرك قصور إطلاق دليل النجاسة في نفسه فهو جار في الموردين أيضا. و لو كان المدرك هو الإجماع القولي على الطهارة فمن الواضح اختصاصه بالمتخلف من ذبيحة مأكولة و في عضوها المأكول، لأنه مورد الإجماع. و لو كان المدرك هو الإجماع بصيغته العملية الارتكازية، فلا يبعد دعوى: التفصيل بين المتخلف في عضو غير مأكول من ذبيحة مأكولة فتشمله السيرة، و بين المتخلف في ذبيحة غير مأكولة فلا علم بشمولها.

و لو كان المدرك دلالة الاقتضاء في أدلة تجويز أكل الذبيحة فمن الواضح اختصاصها بما يتخلف في العضو المأكول، لأنه الذي جوز اكله.

و لو كان المدرك هو الآية الكريمة، فلو التزمنا بحرمة شرب الدم من غير المأكول كحرمة نفسه فالحلية الثابتة في الآية مخصصة لا محالة و معه لا يمكن التمسك بلازمها و هي الطهارة، و الا فتشمله الآية و تثبت فيه الطهارة أيضا.

و حيث ان الصحيح عندنا هو المدرك الأول، فالمتجه هو الحكم بالطهارة في الموردين معا، لو لا شبهة الإجماع المدعى من قبل غير واحد من الأصحاب على النجاسة المقتضي للاحتياط.


197
بحوث في شرح العروة الوثقى3

(مسألة - 1): العلقة المستحيلة من المني نجسة ؛ ج‌3، ص : 198

(مسألة- 1): العلقة المستحيلة من المني نجسة

، من إنسان كان أو من غيره، حتى العلقة في البيض، و الأحوط الاجتناب عن النقطة من الدم الذي يوجد في البيض (1).

لكن إذا كانت في الصفار و عليه جلده لا ينجس معه البياض إلا إذا تمزقت الجلدة.

______________________________
(1) الدم تارة: لا يكون منسوبا الى الحيوان بوجه كالدم المصنوع كيمياويا، أو بالاعجاز. و اخرى: ينتسب الى الحيوان بمجرد كونه مظروفا بالواسطة له، كنقطة الدم الموجودة في البيض. و ثالثة: ينتسب اليه مضافا الى هذه الظرفية بكونه مبدأ لنشوء الحيوان، كالعلقة في البيض، و رابعة:

ينتسب اليه مضافا الى المبدئية بكونه مظروفا للحيوان مباشرة، كالعلقة المستحيلة من المني في الإنسان أو الحيوان. و لا شك في ان هذه الأقسام‌


198
بحوث في شرح العروة الوثقى3

(مسألة - 1): العلقة المستحيلة من المني نجسة ؛ ج‌3، ص : 198

..........

______________________________
مترتبة في خفاء الحكم بالنجاسة فيها.

فالقسم الأول أخفى الأقسام، لوضوح ان الحكم بنجاسته يتوقف أولا: على ثبوت مطلق يدل على نجاسة الدم بعنوانه، و قد عرفت عدمه.

و ثانيا: على عدم احتمال تقوم مفهوم الدم عرفا بالإضافة إلى الحيوان، و الا لم ينفع الإطلاق. و ثالثا:- بعد افتراض سعة المفهوم- على عدم الانصراف عن هذا النحو من الدم، لا لمجرد ندرته حتى ينتقض بدم حيوان يخلق بالمعجزة فإنه في الندرة كالدم المخلوق بالاعجاز، بل بضم مناسبات الحكم و الموضوع التي تقتضي ارتكازا تساوي نسبة النجاسة إلى دم الحيوان الطبيعي و دم الحيوان الاعجازي، و لا تقضى مثل ذلك في دم الحيوان مع الدم المخلوق اعجازا.

و اما القسم الثاني: فهو يتوقف على الأمر الأول فقط لوضوح صدق الدم عرفا و انصرافا عليه، فلو تم مطلق يقتضي نجاسة الدم يشمله. و اما لو لم يتم دليل الا على نجاسة دم الحيوان بهذا العنوان، فقد يستظهر من الإضافة الجزئية الفعلية، و قد يستظهر ما يعم الجزئية الشأنية المنطبقة على العلقة، و قد يستظهر عدم اختصاص الإضافة بالجزئية و شمولها لعلاقة الظرفية أيضا، و يتوقف شمول الدليل حينئذ للقسم الثاني على الاستظهار الثالث، مع عناية شمول الظرفية للظرفية بالواسطة.

و اما القسم الثالث: فلا شك في شمول المطلق له لو كان. و اما مع اختصاص دليل النجاسة بدم الحيوان فيتوقف الشمول على نكتة الشمول للقسم الثاني، أو على استظهار ما يعم الجزئية الشأنية.

و اما القسم الرابع: فهو مشمول للمطلق لو كان، و الدليل نجاسة دم الحيوان على غير الاستظهار الأول من الاستظهارات الثلاثة المتقدمة.

و من مجموع ما ذكرناه ظهر ان للمنع عن نجاسة تمام الأقسام الأربعة‌


199
بحوث في شرح العروة الوثقى3

(مسألة - 2): المتخلف في الذبيحة و ان كان طاهرا و لكنه حرام ؛ ج‌3، ص : 200

(مسألة- 2): المتخلف في الذبيحة و ان كان طاهرا و لكنه حرام

، الا ما كان في اللحم مما يعد جزء منه (1).

______________________________
مجالا، خصوصا القسم الأول فإنا لا نسلم بوجود مطلق يدل على نجاسة كل دم أو على نجاسة دم كل حيوان، و لو سلم فلا يشمل تمام الأقسام المذكورة على التفصيل الذي أوضحناه.

(1) لا شك في حلية ما يعتبر من الدم تابعا للحم، و ان لم يكن مستهلكا فيه حقيقة بالنظر العرفي، و ذلك للسيرة القطعية التي يستكشف بها تخصيص أدلة حرمة الدم، و الدلالة الالتزامية العرفية لدليل حلية الذبيحة بالتذكية، مضافا الى مفهوم الوصف في قوله تعالى «دَماً مَسْفُوحاً» بناء على دلالة مفهوم الوصف على انتفاء الحكم بانتفاء الوصف و لو في الجملة، و كون الانتفاء في مثل المقام هو القدر المتيقن من تلك القضية المهملة، و عدم تقديم إطلاق تحريم الدم في الآية الأخرى، على تفصيل تقدم عند البحث عن طهارة الدم المتخلف.

و اما ما لا يعد تابعا كذلك فهو حرام، لشمول إطلاقات الحرمة له، و عدم وجود المخصص، لعدم انعقاد السيرة على حليته، و عدم إمكان إثبات حليته بمفهوم الوصف المشار اليه آنفا، لأنه لو تم فهو قضية مهملة لا إطلاق فيها و المتيقن منها الدم التابع. مضافا الى إمكان دعوى: كونه مسفوحا و عدم اختصاص المسفوح بالمنصب حين الذبح خاصة، كما ان دليل حلية الحيوان بالتذكية لا يقتضي بالالتزام حلية الدم غير التابع كما هو واضح.

و اما دعوى: الاستدلال على حلية الدم المتخلف مطلقا بحصر محرمات الذبيحة في الروايات بأمور ليس الدم منها، كما عن صاحب الحدائق (قدس سره) فغريبة، لاشتمال روايات محرمات الذبيحة على الدم أيضا، كرواية إبراهيم‌


200
بحوث في شرح العروة الوثقى3

(مسألة - 3): الدم الأبيض إذا فرض العلم بكونه دما نجس ؛ ج‌3، ص : 201

(مسألة- 3): الدم الأبيض إذا فرض العلم بكونه دما نجس

، كما في خبر فصد العسكري صلوات اللّه عليه، و كذا إذا صب عليه دواء غير لونه الى البياض (1).

______________________________
ابن عبد الحميد عن ابى الحسن (ع) و غيرها كما يظهر بالمراجعة. و عليه فما في المتن هو الصحيح.

(1) الدم تارة: يصبح أبيض بسبب خارجي عارض كالصبغ، و اخرى يكون أبيض بحسب تكونه. اما الأول فلا إشكال في نجاسته، اما لاستصحاب نجاسته، و اما للتمسك بالإطلاق اللفظي في دليل نجاسة الدم لو كان لوضوح عدم خروجه عن كونه دما بذلك. و اما للتمسك بغير المطلق من أدلة نجاسة الدم بعد مساعدة العرف على التعدي لاقتضاء الارتكاز العرفي إلغاء مثل هذه الخصوصية.

و اما الثاني فإن كان على نحو لا يصدق عليه الدم عرفا، فلا إشكال في عدم شمول دليل النجاسة له. و ان كان مصداقا للدم عرفا، فشمول الدليل له مبني، اما على وجود الإطلاق اللفظي في دليل نجاسة الدم أو على إلغاء الخصوصية بالارتكاز العرفي، و كلاهما غير ثابت. و ان شك في مصداقيته للدم عرفا بنحو الشبهة المفهومية، فلا مجال لإجراء استصحاب الدمية فيه و لو فرضت له حالة سابقة كذلك، اما بناء على إنكار إطلاق في الدليل الاجتهادي للنجاسة فواضح، و اما بناء على ثبوت الإطلاق في مثل رواية عمار فلعدم جريان الاستصحاب في الشبهة المفهومية كما لا يجري حينئذ استصحاب النجاسة لعدم العلم بالنجاسة السابقة لكي تستصحب فان دليل نجاسة الدم لا يشمل الدم في داخل جسم الإنسان فلا بأس بالحكم بطهارته ما لم يقم إجماع تعبدي على النجاسة في مثله.


201
بحوث في شرح العروة الوثقى3

(مسألة - 4) الدم في اللبن و دم الجنين ؛ ج‌3، ص : 202

(مسألة- 4) [الدم في اللبن و دم الجنين]

الدم الذي قد يوجد في اللبن عند الحلب نجس و منجس للبن (1).

(مسألة- 5): الجنين الذي يخرج من بطن المذبوح

و يكون ذكاته بذكاة أمه تمام دمه طاهر و لكنه لا يخلو من اشكال (2).

______________________________
(1) سواء نشأ عن ضغط في الحلب مع ضعف الحيوان، أو عن جرح في الباطن أو غير ذلك، فإنه نجس باعتباره دما مسفوحا عرفا و داخلا في القضية المتيقنة من دليل النجاسة، و لو لم نقل بوجود إطلاق شامل فيه، لوضوح عدم الفرق بحسب الارتكاز العرفي بين الأسباب المؤدية إلى ظهور الدم.

(2) و تحقيق الكلام في ذلك يقع تارة: بعد البناء على وجود إطلاق في دليل نجاسة الدم. و اخرى: مع إنكار ذلك.

فعلى الأول يكون الإطلاق شاملا لمحل الكلام و مقتضيا لنجاسة المسفوح من دم الجنين، فنحتاج للحكم بطهارته الى مقيد. و المقيدات السابقة التي أخرجت الدم المتخلف في الذبيحة عن الإطلاق قاصرة عن إخراج مطلق دم الجنين بما فيه المسفوح منه، اما الإجماع الفتوائي فدليل لبى يقتصر فيه على القدر المتيقن. و اما السيرة من المتشرعة فغير معلومة هنا، إذ يحتمل كون العادة جارية في مقام الاستفادة من الجنين على ذبحه و خروج مقدار من دمه. و اما قوله تعالى «أَوْ دَماً مَسْفُوحاً» بناء على تمامية الاستدلال به فلا يمكن الاستدلال به في المقام، إذ مع ذبح الجنين يصدق عنوان المسفوح على المقدار الذي يخرج فكيف نحكم بطهارة الكل. و اما ما دل على جواز أكل الذبيحة بالتذكية الدال التزاما على طهارة الدم المتخلف فلا يدل‌


202
بحوث في شرح العروة الوثقى3

(مسألة - 6) الدم المتخلف في الصيد ؛ ج‌3، ص : 203

(مسألة- 6) [الدم المتخلف في الصيد]

الصيد الذي ذكاته بآلة الصيد في طهارة، ما تخلف فيه بعد خروج روحه اشكال، و إن كان لا يخلو عن وجه. و اما ما خرج منه فلا إشكال في نجاسته (1).

______________________________
بالالتزام على طهارة تمام دم الجنين في المقام، إذ لا يلزم من نجاسة ما يخرج منه عادة بالذبح تعذر الاستفادة منه الا بعناية غير عرفية، كما كان يلزم ذلك من نجاسة المتخلف.

و قد يقرب الحكم بطهارة مطلق دم الجنين بوجه مختص بالمقام، و بيانه:

ان قوله تعالى: «ذكاة الجنين ذكاة أمه» دل على أن الجنين كأنه ذبح و ذكي فيضم الى دليل أن ما بقي في المذبوح طاهر، فيكون الأول موسعا لموضوع الثاني و حاكما عليه.

و فيه: أولا: ان ذلك يتوقف على أن يكون التنزيل في الدليل الأول الحاكم بلحاظ تمام الآثار، لا منصرفا إلى الحلية فقط. و ثانيا: أن موضوع الدليل المحكوم مركب من الذبح و كون الدم متخلفا، و مجرد تنزيل ذبح الجنين لا يكفي، بل لا بد أن ينزل أيضا دم أمه منزلة دمه على نحو يصدق على دم الجنين أنه دم متخلف بلحاظ ما خرج من دم الأم.

و على الثاني لا بد في التعدي من القدر المتيقن للدليل على النجاسة من الجزم بعدم الفرق فقهيا أو ارتكاز عدمه عرفا، و قد قلنا فيما سبق. ان الدم المتخلف بالقسر حاله حال الدم المسفوح ارتكازا، لكن المقام يختلف الى حد ما عن ذلك، لأن القسر هنا طبيعي لا عنائي فالجزم بالتعدي لا يخلو من اشكال.

(1) لا إشكال في أن المقدار الخارج بآلة الصيد دم مسفوح و داخل في المتيقن من دليل النجاسة. و أما الباقي فهل يحكم بطهارته، أو يقال‌


203
بحوث في شرح العروة الوثقى3

(مسألة - 7) فروع من الشك في الدم ؛ ج‌3، ص : 204

 

(مسألة- 7) [فروع من الشك في الدم]

الدم المشكوك في كونه من الحيوان أولا محكوم بالطهارة. كما ان الشي‌ء الأحمر الذي يشك في انه دم أم لا كذلك. و كذا إذا علم انه من الحيوان الفلاني و لكن لا يعلم انه مما له نفس أولا، كدم الحية و التمساح. و كذا إذا لم يعلم انه دم شاة أو سمك (1).

______________________________
بأن طهارته منوطة بالتخلف عند فتح المجرى الطبيعي بالذبح و لا يكفي التخلف عن الخروج من الفتحة التي توجدها آلة الصيد؟. الظاهر هو الطهارة، أما بناء على عدم الالتزام بوجود إطلاق في دليل النجاسة فواضح و اما بناء على تمامية الإطلاق فللزوم الخروج عنه، لأن لازمه تعين ذبح الصيد في مقام الاستفادة منه، إذ بدون ذلك لا يحكم بطهارة المتخلف فيتعذر أكله إلا بعنايات غير عرفية، و من الواضح قيام السيرة على عدم الذبح، فالمتعين الحكم بطهارة المتخلف.

تتلخص هذه المسألة في فروع أربعة:

الفرع الأول: انه إذا شك في كون شي‌ء دما أم لا، فهو محكوم بالطهارة.

(1) و لا إشكال في عدم ترتيب آثار النجاسة عليه. الا أن الكلام في تخريج ذلك على ضوء الأصول المؤمنة، إذ قد يقرب ذلك بعدة وجوه:

أحدهما: التمسك بأصالة الطهارة. و هو موقوف على تمامية عموم في دليلها يشمل موارد الشك في النجاسة الذاتية. و قد تقدم تفصيل الكلام عن ذلك في موضع سابق من هذا الشرح.

ثانيها: التمسك بالاستصحاب الحكمي، و ذلك: اما بإجراء استصحاب عدم جعل النجاسة له، فيما إذا كانت الشبهة مفهومية، لرجوعها الى الشك في الجعل الزائد. و اما بإجراء استصحاب الطهارة المتيقنة في زمان ما‌

 

 

 

204
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الفرع الأول: انه إذا شك في كون شي‌ء دما أم لا، فهو محكوم بالطهارة. ؛ ج‌3، ص : 204

..........

______________________________
لهذا المائع المشكوك حتى على تقدير كونه دما، لان الدم ما دام في الباطن طاهر، فنستصحب تلك الطهارة. و اما بإجراء استصحاب العدم الأزلي للنجاسة المجعولة الجاري في موارد الشبهة الموضوعية، فيما إذا سلم بان الدم منذ يوجد في الباطن نجس، فان فعلية هذه النجاسة مسبوقة بالعدم الأزلي الثابت قبل وجود الموضوع، فيستصحب.

اما الاستصحاب الأول فلا يتم في الشبهات الموضوعية، لأن الشك فيها انما هو في مرحلة الانحلال و تطبيق الكبرى على صغرياتها، و ليس شكا في سعة الكبرى و حدود جعلها.

و اما الاستصحاب الثاني فلا يتم حتى لو قيل بطهارة الدم في الباطن لان طهارته انما يقال بها لقصور دليل نجاسة الدم لشمول الباطن، فيرجع في الدم الباطن إلى قاعدة الطهارة. فإن أريد بالاستصحاب استصحاب الطهارة الواقعية فهي غير محرزة ثبوتا، و ان أريد استصحاب الطهارة الثابتة و لو بالأصل فلا معنى لذلك مع إمكان الرجوع الى دليل الأصل ابتداء لإثبات الطهارة الظاهرية.

و اما الاستصحاب الثالث، فقد يلاحظ عليه انه مبني على مقايسة نجاسة الدم بالأحكام التكليفية كوجوب الحج على المستطيع، فكما ان فعلية وجوب الحج تابعة لوجود المستطيع خارجا كذلك فعلية النجاسة تابعة لوجود الدم خارجا، فيكون لها عدم أزلي بعدم الدم. مع ان وصف القذارة لشي‌ء في نظر العرف يختلف عن وصف الوجوب على المستطيع، حيث انه لا يتعقل الوجوب على المستطيع الا بعد وجوده، فينحل الجعل إلى قضية شرطية مؤداها: لو وجد مستطيع لوجب عليه الحج، و بذلك تكون فعلية الوجوب تابعة لفعلية وجود الشرط. و لكنه يتعقل كون الشي‌ء قذرا في نفسه بحيث يكون وجوده وجودا للقذر، لا انه بعد الوجود يوصف بالقذارة. فجعل‌


205
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الفرع الأول: انه إذا شك في كون شي‌ء دما أم لا، فهو محكوم بالطهارة. ؛ ج‌3، ص : 204

..........

______________________________
النجاسة للدم لا ينحل إلى قضية شرطية موازية، بمعنى انه إذا وجد الدم كان قذرا، بل إلى قضية مفادها إذا كان الشي‌ء دما فهو قذر، و كون الدم دما لا يتوقف على وجوده، و هذا يعني ان المجعول فعلي بنفس الجعل دون توقف على وجود الموضوع. و يترتب على ذلك: ان المستصحب هو عدم المجعول الثابت بعدم الجعل، لا عدمه الأزلي الثابت بعدم وجود الموضوع.

ثالثها: التمسك بالاستصحاب الموضوعي فيما إذا كانت الشبهة موضوعية لا مفهومية، لعدم جريان الاستصحاب في المفهوم المجمل. و ذلك بإجراء استصحاب العدم الأزلي لدمية المائع المشكوك الثابت قبل وجوده. و قد يقال بإجراء استصحاب عدم كونه دما و لو بني على عدم جريان الاستصحاب في الاعدام الأزلية، لان مادة هذا المائع لم تكن دما في زمان يقينا فيستصحب ذلك. و فيه: ان هذا مبني على جريان الاستصحاب في موارد الشك في الاستعالة، لان المقام منه، حيث ان تحول الغذاء الى دم، يعتبر استحالة عرفا، و هو لا يجرى على ما يأتي ان شاء اللّه تعالى في بحث المطهرات.

و قد يقال: بعدم جريان الاستصحاب لنفي دمية المائع و لو قيل بإجراء الاستصحاب في الاعدام الأزلية، لان الدمية من الخصائص الذاتية لا العرضية و الخصوصيات الذاتية لا يقين بعدمها أصلا، لأن ثبوت الشي‌ء لذاته ضروري بقطع النظر عن وجوده.

و تفصيل الحال في ذلك: ان الحكم بالنجاسة ان كان بحسب الفهم العرفي حكما مترتبا على الوجود الخارجي للدم، فمن الواضح ان هذا الوجود لم يكن قبل تحققه وجودا للدم، فيستصحب العدم الأزلي لذلك.

و ان كانت النجاسة بحسب الفهم العرفي حكما لذات الدم في نفسه بقطع النظر عن وجوده و عدمه، بنحو يرى العرف ان الوجود يطرء على ما هو موصوف بالقذارة، فلا يمكن اجراء استصحاب عدم دمية ذات المائع المشكوك،


206
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الفرع الثاني: انه إذا علم بكونه دما و شك في كونه من الحيوان أو غيره، فهو محكوم بعدم النجاسة، ؛ ج‌3، ص : 207

..........

______________________________
لان المائع إذا كان دما فلا انفكاك بين فرض ذاته و فرض الدمية، كما هو واضح.

الفرع الثاني: انه إذا علم بكونه دما و شك في كونه من الحيوان أو غيره، فهو محكوم بعدم النجاسة،

اما لأصالة الطهارة، أو للاستصحاب الحكمي، أو للاستصحاب الموضوعي. اما الأول: فالكلام فيه كما تقدم في الفرع السابق. و اما الثاني: فهو تام بالبيان المتقدم. و لا يرد عليه:

ان الشبهة إذا كانت مفهومية- كما إذا شك في ان دم البيضة هل يصدق عليها عنوان دم الحيوان- كان المقام من موارد التمسك بعموم دليل نجاسة الدم، إذ يدور أمر المخصص له المخرج لدم غير الحيوان بين الأقل و الأكثر فلا تصل النوبة إلى الاستصحاب. و وجه عدم الورود: ان اختصاص النجاسة بدم الحيوان ليس من باب التخصيص، ليتمسك بالعام في موارد الشك، بل لقصور دليل النجاسة من أول الأمر.

و اما الثالث: اي استصحاب عدم كون الدم من حيوان، فيرد عليه: ان الدم الذي لا يكون من حيوان لم تثبت طهارته بدليل اجتهادي ليتنقح موضوعه بالاستصحاب، و انما ثبتت طهارته بقاعدة الطهارة بعد قصور دليل النجاسة، فلا بد من الرجوع إليها ابتداء، كما أشرنا إلى نظير ذلك في الفرع السابق.

الفرع الثالث: انه إذا علم بكونه دم حيوان معين و شك في ان هذا الحيوان ذو نفس سائلة فهو محكوم بالطهارة.

و تفصيل ذلك: ان الشبهة تارة: مفهومية، و اخرى: مصداقية. فعلى الأول: ان بنى على وجود إطلاق في دليل نجاسة الدم و ان طهارة دم ما لا نفس له مستندة الى التخصيص المنفصل، تعين التمسك بالمطلق لإثبات النجاسة، و لا تصل النوبة إلى الأصول. و ان بنى على عدم وجود إطلاق و ان طهارة ما لا نفس‌


207
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الفرع الرابع: انه إذا علم بكونه دم حيوان مردد بين السمك الذي لا نفس له و الدجاج الذي له نفس. ؛ ج‌3، ص : 208

..........

______________________________
له مستندة الى قصور المقتضى، فلا بأس بإجراء أصالة الطهارة و الاستصحاب الحكمي على ما تقدم، دون الاستصحاب الموضوعي لعدم جريان الاستصحاب في المفهوم المجمل.

و على الثاني: يرجع الى القاعدة و الى الاستصحاب الحكمي. و قد يتمسك بالاستصحاب الموضوعي، اي استصحاب عدم كون الحيوان ذا نفس سائلة بنحو العدم الأزلي و لكنه مشكل، لان دم ما له نفس سائلة ان كان موردا للدليل الاجتهادي على الطهارة فلا بأس بالاستصحاب الموضوعي لتنقيح موضوع هذه الطهارة أو نفي موضوع النجاسة، و اما إذا كان نفي النجاسة عن دم ما له نفس على إطلاقه ناشئا من قصور دليل النجاسة و الرجوع الى الأصل، فلا يفيد الاستصحاب المذكور لنفي الموضوع الواقعي للنجاسة، بل لا بد من الانتهاء مع ذلك الى القاعدة، و معه يلغو اجراء الاستصحاب.

الفرع الرابع: انه إذا علم بكونه دم حيوان مردد بين السمك الذي لا نفس له و الدجاج الذي له نفس.

و الحال فيه: من حيث الرجوع الى القاعدة أو الاستصحاب الحكمي كما تقدم. و اما من حيث الاستصحاب الموضوعي فلا يمكن اجراء استصحاب عدم كون الحيوان المنسوب اليه هذا الدم ذا نفس سائلة، لأنه من استصحاب الفرد المردد، لان ذات ذاك الحيوان اما مقطوع الاتصاف بهذا الوصف أو مقطوع الاتصاف بعدمه.

و قد يتمسك- كما عن السيد الأستاذ- باستصحاب عدم كون الدم دم حيوان ذي نفس سائلة. و لكن يرد عليه: ان الموضوع للحكم بالنجاسة هو دم الحيوان ذي النفس السائلة، فإذا أخذ هذا الموضوع بنحو التقييد أمكن إجراء الاستصحاب المذكور، و إذا أخذ الموضوع بنحو التركيب- كما هو المستظهر في سائر الموارد- كان الموضوع مركبا من دم حيوان و كون الحيوان‌


208
بحوث في شرح العروة الوثقى3

إذا شك في كون الدم المتخلف ؛ ج‌3، ص : 209

فإذا رأى في ثوبه دما لا يدري انه منه أو من البق أو البرغوث يحكم بالطهارة (1).

و اما الدم المتخلف في الذبيحة إذا شك في انه من القسم الطاهر أو النجس، فالظاهر الحكم بنجاسته عملا بالاستصحاب، و ان كان لا يخلو عن اشكال. و يحتمل التفصيل: بين ما إذا كان الشك من جهة احتمال رد النفس فيحكم بالطهارة لأصالة عدم الرد، و بين ما إذا كان لأجل احتمال كون رأسه على علو فيحكم بالنجاسة عملا بأصالة عدم خروج المقدار المتعارف (2).

______________________________
ذا نفس سائلة، و الأصل حينئذ لا بد من إجرائه في ذات الجزء الذي تتم فيه أركانه، لا في المجموع بما هو مجموع، لأنه خلف التركيب، و من الواضح أن الجزء الأول مقطوع الثبوت، و الجزء الثاني لا يمكن استصحاب عدمه لأنه من استصحاب الفرد المردد كما تقدم.

(1) التحقيق هو الفرق بين تردد الدم بين كونه دم إنسان أو دم سمك، و تردده بين كونه دم إنسان أو دم برغوث أو نحوه من الحيوانات التي ليس لها دم بالأصالة. ففي الأول: تجري الأصول المؤمنة كما سبق و اما في الثاني: فيجري الاستصحاب الموضوعي المقتضي للنجاسة، لأن هذا الدم يعلم بأنه دم إنسان و نحوه حدوثا- إذا علم بأنه على تقدير كونه من برغوث فقد انتقل اليه من إنسان أو نحوه مما له نفس سائلة- و يشك في تبدل عنوانه، فيستصحب العنوان المتيقن، و يحكم بنجاسته.

[إذا شك في كون الدم المتخلف]

(2) مفروض المصنف- قدس سره- هو الكلام في الشبهة المصداقية للمتخلف و المسفوح، و قد قسم ذلك الى فرعين:

أحدهما: فيما إذا شك في خروج المقدار المتعارف. و الكلام فيه:


209
بحوث في شرح العروة الوثقى3

إذا شك في كون الدم المتخلف ؛ ج‌3، ص : 209

..........

______________________________
تارة: يقع في الأصل الحكمي. و أخرى: في الأصل الموضوعي. أما الأصل الحكمي: فقد يتمسك باستصحاب النجاسة الثابتة حال الحياة. و لكنه مدفوع بعدم وجود دليل على نجاسة الدم في باطن الحيوان- حتى لو تم إطلاق في مثل موثقة عمار السابقة- لعدم شموله للدم الباطن. و قد يتمسك- بناء على ذلك- باستصحاب الطهارة و لكنه موقوف على قيام دليل اجتهادي على طهارة الباطن، كما لو تم مفهوم قوله تعالى
«دَماً مَسْفُوحاً».

و اما إذا كانت طهارة الباطن بالأصل، فهو المرجع، و لا محصل حينئذ لتوسيط الاستصحاب.

و اما الأصل الموضوعي: فيمكن أن يقرب لإثبات النجاسة بأحد وجهين:

الأول: التمسك باستصحاب عدم خروج المقدار المتعارف. و تحقيق الحال في ذلك: انه تارة: نفرض أن الدليل دل على نجاسة كل دم و خرج بالتخصيص الدم المتخلف. و يترتب على ذلك أنه لو لم يخرج المقدار المتعارف كان الكل نجسا ذاتا. و أخرى: نفرض- كما هو الأقرب- أن الدليل لم يدل على نجاسة كل دم ثم ورد عليه تخصيص، بل دل ابتداء على نجاسة الدم المسفوح و لو بتعميم المسفوح لما سفح بالفعل و للمسفوح شأنا أي ما كان من شأنه الخروج و لم يخرج لمانع. و يترتب على ذلك: انه لو لم يخرج المقدار المتعارف لا يكون الكل نجسا ذاتا، بل بعضه نجس ذاتا و بعضه نجس بالملاقاة. و عليه: فان أخذنا بالفرضية الأولى جرى استصحاب عدم العنوان المحكوم عليه بالطهارة، سواء فرضناه عنوانا بسيطا- كما إذا فرض استثناء المتخلف مثلا فيستصحب عدم التخلف- أو فرضناه مركبا، كما إذا فرض استثناء دم ذبيحة خرج منه المقدار المتعارف بأن يكون الموضوع مركبا من دم ذبيحة و خروج المقدار المتعارف منها فيستصحب عدم الجزء الثاني فتثبت النجاسة.


210
بحوث في شرح العروة الوثقى3

إذا شك في كون الدم المتخلف ؛ ج‌3، ص : 209

..........

______________________________
و أما إذا أخذنا بالفرضية الثانية و كانت النجاسة حكما لدم معين و عنوان وجودي كالمسفوح و لو شأنا، فاستصحاب عدم الخروج أو عدم التخلف لا يثبت هذا العنوان الا بنحو الأصل المثبت، فلا تثبت النجاسة.

الثاني: التمسك بالاستصحاب بوجه آخر. توضيحه: اننا إذا فرضنا مثلا أن المقدار المتعارف خروجه هو أوقية مثلا، و شككنا في خروجها بتمامها و عدمه، فهذا يعني أن تلك الأوقية قد أصبحت نجسة بالسفح و لو سفحا شأنيا، سواء كانت قد خرجت أولا. و يشار حينئذ إلى الدم الموجود في الذبيحة فعلا و يقال: ان لم يكن هذا نجسا ذاتا فقد كان ملاقيا حتما لذاك الدم الذي صار نجسا، فإن الملاقاة معلومة و لو بلحاظ حال الحياة، و نشك في انقطاع الملاقاة و عدمه، إذ لو خرج مجموع الأوقية فقد انقطعت الملاقاة و الا فلا، فتستصحب و تثبت النجاسة. من قبيل ما لو لاقى الثوب مع الخشبة و علمنا بأنها تنجست، و شك في بقاء الملاقاة إلى حين نجاسة الخشبة فتستصحب الملاقاة إلى حين النجاسة.

لا يقال: العبرة بملاقاة النجس بعنوان كونه نجسا، و هذا لا يثبت إلا بالملازمة. فإنه يقال: انه لو تم هذا الاشكال لبطل أيضا استصحاب نجاسة الملاقي- بالفتح- لإثبات نجاسة الملاقي. و الجواب: يكون بالالتفات الى أن هذه الموضوعات ترجع الى التركيب، فموضوع النجاسة هو الملاقاة مع جسم، و ان يكون ذلك الجسم نجسا. فلو علم بالجزء الأول و شك في الثاني جرى استصحابه، كما في استصحاب نجاسة الملاقي- بالفتح- و ان علم بالثاني و شك في الأول جرى أيضا استصحابه، كما في المقام و فيما ذكرناه من مثال الخشبة. و عليه فهذا الاستصحاب فيما نحن فيه يحكم بالنجاسة الا أن هذا الاستصحاب انما يجري فيما إذا شك في خروج المقدار المعلوم تعارف خروجه، لا فيما علم بالمقدار الخارج و شك في مقدار المتعارف‌


211
بحوث في شرح العروة الوثقى3

إذا شك في كون الدم المتخلف ؛ ج‌3، ص : 209

..........

______________________________
لأجل الشك في قدر الدم الذي يشتمل عليه الحيوان، فإنه في مثل ذلك لا يمكن استصحاب الملاقاة مع الدم المتعارف ظهوره، لأنه من استصحاب الفرد المردد، لأننا نعلم بانقطاع الملاقاة مع واقع الدم المتعارف خروجه على تقدير أن يكون المقدار المعلوم خروجه هو المتعارف.

على أن هذا الاستصحاب في المورد الذي يجري لا يثبت النجاسة لابتلائه بالمعارض، إذ لو لوحظ ما هو الموجود في الذبيحة من الدم فيشك في كونه مسفوحا، و النجاسة متعلقة بالمسفوح، فيستصحب عدم كونه دما مسفوحا. و بناء عليه يقال: إنه ليس دما نجسا على أساس كونه مسفوحا لنفي ذلك بالاستصحاب، و ليس نجسا من باب الملاقاة للعلم بعدم ملاقاته لشي‌ء آخر. و بعد تعارض الاستصحابين يرجع الى أصالة الطهارة الفرع الثاني: فيما إذا علم بخروج المقدار المتعارف و شك في الرجوع فالدم المحتمل كونه هو الراجع يحتمل فيه النجاسة الذاتية، و الباقي الملاقي له تحتمل فيه النجاسة العرضية. و قد يتمسك فيه لنفي النجاسة باستصحاب عدم الرجوع أو عدم رد النفس، و هو لا يثبت عدم كون هذا الدم راجعا إلا بالملازمة كما هو واضح. و قد يستبدل- نظرا لذلك- باستصحاب بقاء هذا الدم في الذبيحة.

و التحقيق: ان النجاسة إذا قيل بأنها لم تثبت في دليلها الا على عنوان الدم المفسوح و لو شأنا لم يكن هناك اثر لاستصحاب بقاء الدم، بل يجرى استصحاب عدم كونه مسفوحا. و إذا قيل: بان الدليل دل على نجاسة دم الذبيحة مطلقا و خرج منه بالتخصيص الدم المتخلف، فان كان الخارج خارجا بعنوان ثبوتي بسيط كعنوان المتخلف، جرى استصحاب عدم هذا العنوان لإثبات النجاسة، و لا يفيد استصحاب بقاء الدم في الذبيحة. و ان كان الخارج من إطلاق دليل النجاسة الدم الباقي في الذبيحة، فهنا افتراضان:


212
بحوث في شرح العروة الوثقى3

(مسألة - 8) حكم المردد بين الدم و غيره ؛ ج‌3، ص : 213

(مسألة- 8) [حكم المردد بين الدم و غيره]

إذا خرج من الجرح أو الدمل شي‌ء اصفر يشك في انه دم أم لا، محكوم بالطهارة. و كذا إذا شك من جهة الظلمة انه دم أم قيح، و لا يجب عليه الاستعلام (1).

______________________________
أحدهما: ان يكون موضوع الحكم بالطهارة الدم الباقي مع خروج المقدار المتعارف. و الآخر: ان يكون الموضوع الدم الباقي بعد خروج غيره بالمقدار المتعارف، فعلى الأول يفيد استصحاب بقاء هذا الدم لإثبات الطهارة لأن الموضوع للطهارة يكون مركبا من جزئين: أحدهما يحرز بهذا الاستصحاب و الآخر محرز بالوجدان و هو خروج المقدار المتعارف. و على الثاني لا يفيد الاستصحاب المذكور، لان الجزء الآخر في الموضوع- و هو خروج غيره بالمقدار المتعارف- غير محرز وجدانا، و لا يمكن إثباته بالاستصحاب، كما هو واضح.

(1) إذا شك في النجاسة بنى على الأصول المؤمنة الحكمية و الموضوعية و لم يجب الفحص، إما لعدم وجوب الفحص و لو بمعنى يقابل غمض العين في مطلق الشبهات الموضوعية، و اما لعدم وجوب ذلك في خصوص الشبهات الموضوعية للنجاسة، بقرينة لسان مثل قوله: «ما أبالي أ بول أصابني أو ماء إذا لم أعلم» «1» و نحوه من الألسنة.

و انما الجدير بالبحث هنا احتمال الحكم بنجاسة الشي‌ء الأصفر الخارج و لو لم يكن دما لاشتماله على صفرة الدم. و ما يقرب به الحكم بالنجاسة أحد أمور: إما كونه ملاقيا للدم في الباطن. و إما اشتماله على الدم فعلا بقرينة الصفرة و لا يضر استهلاكه بتنجيسه، كالدم الذي ينجس القدر مع انه يستهلك فيه. و إما كون المائع متغيرا بلون النجس و لو فرض عدم‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 37 من أبواب النجاسات


213
بحوث في شرح العروة الوثقى3

(مسألة - 9): إذا حك جسده فخرجت رطوبة ؛ ج‌3، ص : 214

(مسألة- 9): إذا حك جسده فخرجت رطوبة

يشك في أنها دم أو ماء اصفر يحكم عليها بالطهارة. و كذا إذا شك من جهة الظلمة انه دم أم قيح، و لا يجب عليه الاستعلام (1).

(مسألة- 10): الماء الأصفر الذي ينجمد على الجرح عند البرء طاهر،

إلا إذا علم كونه دما أو مخلوطا به فإنه

______________________________
ملاقاته للنجس في زمان، بناء على ان التغير بالنجس و لو بلا ملاقاة يوجب انفعال المعتصم فضلا عن غيره.

و الكل غير صحيح: اما الأول: فلان الدم في الباطن ليس بنجس مضافا الى ان الملاقاة في الباطن كذلك لا توجب السراية.

و اما الثاني: فلان الانفعال انما يتصور مع الاستهلاك فيما إذا حصلت الملاقاة مع النجس آنا ما ثم استهلك النجس فيما لاقاه، و في المقام الدم حينما لاقى في الباطن لم يكن نجسا و لا منجسا، و بعد الخروج كان مستهلكا.

و دعوى: عدم الاستهلاك لان الالتفات الى التغير حافظ للالتفات عرفا الى وجود الدم، إذ لا يتغير الماء بنفسه، فالدم موجود عرفا فينجس الماء.

مدفوعة: بأن التغير لا ينافي الاستهلاك، فكأن التغير تحول من الذات إلى الصفة عرفا.

و اما الثالث ففيه: ان من يقول بان التغير بوصف النجس منجس و لو بدون ملاقاة، انما يقول به فيما إذا كان هناك نجس موجود سبب التغير و لو بالمجاورة في أوصاف الماء المعتصم، و في المقام حينما كان هناك دم موجود عرفا يسبب التغير لم يكن نجسا لأنه في الباطن، و حينما خرج كان مستهلكا و لا وجود له عرفا. فالظاهر هو الحكم بطهارة المائع المذكور.

(1) ظهر الحال في ذلك مما سبق فلاحظ.


214
بحوث في شرح العروة الوثقى3

(مسألة - 11) في عدم مطهرية الطبخ و النار و فروع أخرى ؛ ج‌3، ص : 215

نجس، إلا إذا استحال جلدا (1).

(مسألة- 11) [في عدم مطهرية الطبخ و النار و فروع أخرى]

الدم المراق في الأمراق حال غليانها نجس منجس و ان كان قليلا مستهلكا و القول بطهارته بالنار- لرواية ضعيفة- ضعيف (2).

______________________________
(1) على ما يأتي في بحث مطهرية الاستحالة ان شاء اللّه تعالى.

(2) لا إشكال في ان مقتضى القاعدة هو النجاسة، لأن الاستهلاك في طول الملاقاة زمانا، فلا يمنع عن منجسية الملاقاة و اما بلحاظ الروايات فتوجد هنا روايات ثلاث قد يستدل بها على طهارة المرق الملقى فيه الدم بالطبخ:

الأولى: رواية زكريا بن آدم قال «سألت أبا الحسن (ع) عن قطرة خمرا و نبيذ مسكر قطرت في قدر فيه لحم كثير و مرق كثير، قال:

يهراق المرق أو يطعمه أهل الذمة أو الكلب، و اللحم اغسله و كله قلت:

فإنه قطر فيه الدم. قال: الدم تأكله النار» «1».

و هذه الرواية ضعيفة سندا بابن المبارك. و اما من حيث الدلالة فقد يقال: بإجمال الرواية، لاحتمال ان يكون النظر فيها الى محذور الحرمة الثابتة في الدم الطاهر، لا إلى نجاسة الدم، فلا تدل على مطهرية النار و قد يدفع هذا الإجمال: بان ارتكازية زوال محذور الحرمة بالاستهلاك- لأنه يوجب انعدام موضوعها- تقتضي صرف ظهور الرواية الى ما لا يكون مفروغا ارتكازا و هو ارتفاع محذور النجاسة بالنار. مضافا الى ان تقييد الدم بالطاهر خاصة بلا موجب. و لكن في مقابل ذلك ارتكاز ان محذور النجاسة لا يزول عن الملاقي بانعدام النجس بعد الملاقاة، و هو يوجب كون التعليل ناظرا الى محذور الحرمة و ارتفاعها، لا إلى مطهرية النار للمرق‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 38 من أبواب النجاسات ح 8.


215
بحوث في شرح العروة الوثقى3

(مسألة - 11) في عدم مطهرية الطبخ و النار و فروع أخرى ؛ ج‌3، ص : 215

..........

______________________________
لان كون النار تأكل الدم لا يناسب علة لنفي محذور النجاسة لو كان فتحمل الرواية على الدم الطاهر.

الثانية: رواية سعيد الأعرج قال: «سألت أبا عبد اللّه (ع): عن قدر فيها جزور وقع فيها قدر أوقية من دم أ يؤكل؟. قال: نعم، فالنار تأكل الدم» «1».

و هذه الرواية من حيث السند تامة، إذ لا تأمل إلا في سعيد الأعرج و هو ثقة. إما لاستظهار كونه عين سعيد بن عبد الرحمن الأعرج المصرح بوثاقته من النجاشي، كما هو الأقرب. أو لأن بعض الثلاثة- كصفوان- يروى عنه على اي حال سواء ثبت تعدده أولا.

و اما من حيث الدلالة: فتأتي هنا نفس القرينة التي جعلناها في الرواية السابقة شاهدة على صرف نظرها إلى الحرمة دون النجاسة.

الثالثة: رواية علي بن جعفر في كتابه- على ما في الوسائل- عن أخيه قال: «سألته: عن قدر فيها الف رطل ماء يطبخ فيها لحم وقع فيها أوقية دم هل يصلح اكله؟ فقال: إذا طبخ فكل، فلا بأس، «2» و هذه الرواية تامة سندا، لصحة سند صاحب الوسائل إلى الشيخ الطوسي و صحة سند الشيخ الى كتاب علي بن جعفر.

و اما دلالتها فقد يستشكل فيها بوجوه:

الأول: ما حاوله السيد الأستاذ- دام ظله- في المقام، من إيراد نفس ما ورد على الروايتين السابقتين من القرينة الصارفة عن النجاسة.

و فيه: أنه فرق بين هذه الرواية و الروايتين السابقتين فإنه فيهما قد عبر بأكل النار للدم، و هذا لا يناسب كونه تعليلا لزوال النجاسة الحاصلة بالملاقاة‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 44 من أبواب الأطعمة المحرمة.

(2) وسائل الشيعة باب 44 من أبواب الأطعمة المحرمة


216
بحوث في شرح العروة الوثقى3

(مسألة - 11) في عدم مطهرية الطبخ و النار و فروع أخرى ؛ ج‌3، ص : 215

..........

______________________________
لأن انعدام المنجس بعد التنجيس ليس مطهرا في الارتكاز العرفي. و اما في هذه الرواية فقد ورد: «إذا طبخ فكل فلا بأس»، و هذا يدل على مطهرية الطبخ و إيجابه ارتفاع النجاسة الحاصلة بالملاقاة، و ليس ذلك على خلاف الارتكاز، إذ لم تعلل مطهرية الطبخ بكونه موجبا لانعدام الدم المنجس.

الثاني: ما ذكره السيد الأستاذ- دام ظله- أيضا من أن هذا الحديث يشمل الدم النجس بالإطلاق، و هو معارض بالعموم من وجه مع إطلاق دليل نجاسة الملاقي للدم الشامل لما بعد الطبخ بالنار، ففي صحيحة علي ابن جعفر عن أخيه قال: «و سألته: عن رجل رعف و هو يتوضأ فتقطر قطرة في إنائه هل يصلح الوضوء منه؟. قال: لا»، فيتعارضان في في مورد الدم النجس المطبوخ. و بعد التساقط يرجع الى استصحاب النجاسة عند من يقول بجريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية.

و نلاحظ: ان إطلاق الحكم بأنه لا يصح الوضوء من الماء المذكور لا يمكن أن يشمل فرض الطبخ، لأن مجرد وضع الماء على النار لا يسمى طبخا، و انما يكون ذلك بإضافة اللحم و نحوه بنحو يكون مرقا، و معه يخرج عن الإطلاق و لا يكون صالحا في نفسه للوضوء منه فليس في الإطلاق المذكور نظر لما بعد الطبخ المساوق للإضافة.

هذا مضافا: الى منع نظر أدلة الانفعال عموما الى نفي مطهرية ما يمكن أن يكون مطهرا، و لو باعتبار أن ارتكازية وجود مطهرات في الجملة تمنع عن انعقاد إطلاق في تلك الأدلة بنحو ينفي المطهرية.

الثالث: ان الرطل في كلام السائل ينصرف إلى المدني، باعتبار مدينة السائل و المسؤول منه، و لا أقل من الإجمال، و من المعلوم أنه إذا حمل الرطل على المدني أو المكي دون العراقي كان ماء القدر كرا و معتصما فلعل الحكم بالطهارة باعتبار ملاقاة الدم له قبل إضافته، أو باعتبار اعتصام‌


217
بحوث في شرح العروة الوثقى3

(مسألة - 11) في عدم مطهرية الطبخ و النار و فروع أخرى ؛ ج‌3، ص : 215

..........

______________________________
المضاف بالكرية أيضا. و فيه:- مضافا الى بعد فرض الملاقاة قبل الإضافة و بطلان فرض اعتصام المضاف بالكرية- ان ظاهر الجواب: اناطة نفي البأس بالطبخ و هو لا يناسب الا مع حمله على مطهرية الطبخ، و الا فإن اندفاع محذور النجاسة يكون بالاعتصام و اندفاع محذور الحرمة بالاستهلاك، نظرا إلى كثرة الماء و لا دخل للطبخ في ذلك.

و على هذا فلو لا عدم وجود قول معتد به بمطهرية الطبخ أو النار في مورد هذه الروايات لأمكن المصير الى ذلك بلحاظها و هنا روايتان وردتا في مطهرية النار في مورد الانفعال بالميتة، و قد يتعدى من موردهما إذا تمت دعوى عدم الفرق قطعا أو ارتكازا.

إحداهما: رواية أحمد بن محمد بن عبد اللّه بن زبير عن جده قال:

«سألت أبا عبد اللّه عليه السلام: عن البئر تقع فيها الفأرة أو غيرها من الدواب فتموت، فيعجن من مائها أ يؤكل ذلك الخبز؟ قال: إذا أصابته النار فلا بأس بأكله» «1».

و هذه الرواية تفترض انفعال ماء البئر، و بعد ثبوت اعتصامه لا بد من حمل البأس فيها على التنزه لا على النجاسة، فلا تكون دالة على مطهرية النار، بل على ارتفاع الحزازة التنزيهية بها، هذا مضافا الى ضعف سندها و عدم ثبوت وثاقة أحمد بن محمد المذكور.

و الأخرى: رواية محمد بن أبي عمير عمن رواه عن أبي عبد اللّه عليه السلام «في عجين عجن و خبز، ثم علم ان الماء كانت فيه ميتة، قال: لا بأس أكلت النار ما فيه» «2».

و هي- مضافا الى سقوطها سندا بالإرسال- يمكن المناقشة في دلالتها:

______________________________
(1) وسائل الشيعة الباب 14 من أبواب الماء المطلق ح 17

(2) وسائل الشيعة الباب 14 من أبواب الماء المطلق ح 18


218
بحوث في شرح العروة الوثقى3

(مسألة - 12): إذا غرز إبرة أو أدخل سكينا في بدنه أو بدن حيوان، ؛ ج‌3، ص : 219

(مسألة- 12): إذا غرز إبرة أو أدخل سكينا في بدنه أو بدن حيوان،

فان لم يعلم ملاقاته للدم في الباطن فطاهر و ان علم ملاقاته لكنه خرج نظيفا فالأحوط الاجتناب عنه (1).

(مسألة- 13): إذا استهلك الدم الخارج من بين الأسنان في ماء الفم فالظاهر طهارته،

بل جواز بلعه. نعم لو دخل من الخارج دم في الفم فاستهلك، فالأحوط الاجتناب عنه.

و الاولى غسل الفم بالمضمضة أو نحوها (2).

______________________________
بأن ظاهر الأكل كون المأكول شيئا عينيا، فلا معنى لحمله على أكل النجاسة الحكمية، و مع الحمل على عينية المأكول يكون مفاد الرواية مساوقا للتعليل الوارد في بعض الروايات المتقدمة، فلا يناسب كونه تعليلا لارتفاع النجاسة بل لارتفاع الحرمة فيختص بالميتة الطاهر في نفسها.

(1) ان لم يعلم الملاقاة للدم في الباطن فهو طاهر بلا إشكال، و لو لاستصحاب عدم ملاقاته للدم. و لا تضر ملاقاته لما هو ملاق للدم لأن الملاقي الداخلي للدم لا يتنجس به كما هو واضح. و أما مع الجزم بالملاقاة للدم، فان خرج الشي‌ء ملوثا فلا إشكال في النجاسة، و إلا فهو من ملاقاة الشي‌ء الخارجي للدم الداخلي في الداخل، و كونها منجسة محل الكلام، و إن كان الأقرب العدم، لعدم الدليل على نجاسة الدم في الداخل، و عدم إطلاق في دليل السراية لمثل هذه الملاقاة لو فرضت نجاسته في نفسه.

(2) ليس وجه الفرق في نظره- قدس سره- طهارة الدم الأول و إلا لما قيد الفرع الأول بالاستهلاك فكأنه يعترف بنجاسة الدم الخارج من الأسنان، إما لإطلاق في دليل نجاسة الدم، أو للدخول في القدر المتيقن و هو المسفوح باعتبار انقطاعه عن أصله. بيد أن هذا الدم لا ينجس ماء‌


219
بحوث في شرح العروة الوثقى3

(مسألة - 14): الدم المنجمد تحت الأظفار أو تحت الجلد من البدن ان لم يستحل و صدق عليه الدم نجس. ؛ ج‌3، ص : 220

 

(مسألة- 14): الدم المنجمد تحت الأظفار أو تحت الجلد من البدن ان لم يستحل و صدق عليه الدم نجس.

فلو انمزق الجلد و وصل الماء اليه تنجس. و يشكل معه الوضوء أو الغسل، فيجب إخراجه ان لم يكن حرج، و معه يجب ان يجعل عليه شيئا مثل الجبيرة، فيتوضأ أو يغتسل (1). هذا إذا علم انه دم منجمد، و ان احتمل كونه لحما صار كالدم من جهة الرض- كما قد يكون ذلك غالبا- فهو طاهر.

السادس و السابع [الكلب و الخنزير]

الكلب (2).

______________________________
الريق، لأن الباطني لا ينجس الباطني، فإذا استهلك فيه لم يبق محذور في بلع ماء الريق. و أما الدم الخارجي المستهلك في ماء الريق، فحيث أن ملاقاته لماء الريق من ملاقاة الخارجي الباطني فقد يكون منجسا له، و معه لا يفيد استهلاكه في ارتفاع المحذور، و لهذا احتاط الماتن في هذا الفرض و الصحيح عدم شمول دليل الانفعال لذلك.

(1) بل قد يقال: بتعين التيمم عليه، لأن دليل الجبيرة لا يشمل جميع موارد تعذر غسل العضو و لو لم يكن جرح أو قرح، على ما يأتي تفصيله و تحقيقه في محله ان شاء اللّه تعالى.

(2) لا إشكال في نجاسته، و قد استفاض نقل الإجماع على ذلك.

و كذلك الروايات، بلسان أنه رجس نجس، أو بلسان اراقة الماء الملاقي له أو بلسان الحكم بتطهير الملاقي له، و نحو ذلك فتلاحظ روايات الفضل أبي العباس و محمد بن مسلم و معاوية بن شريح و غيرها «1».

و إنما الكلام فيما يتوهم كونه معارضا مع دليل النجاسة

و هو أربع روايات:

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 12 من أبواب النجاسات

 

 

 

220
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الأولى: رواية سعيد الأعرج ؛ ج‌3، ص : 221

الأولى: رواية سعيد الأعرج

______________________________
قال: «سألت أبا عبد اللّه عن الفأرة و الكلب يقع في السمن و الزيت ثم يخرج منه حيا. قال: لا بأس بأكله»
«1» و هي تامة سندا لوثاقة سعيد الأعرج كما تقدم. و تقريب الاستدلال بها:

أن الترخيص في أكل السمن و الزيت الملاقي للكلب- مع ضم ارتكاز سراية النجاسة عرفا بملاقاة النجس و ارتكاز حرمة أكل النجس متشرعيا- يدل على عدم نجاسة الكلب، فيعارض دليل النجاسة. نعم لو لا الارتكازين المذكورين لأمكن دعوى: ان الرواية كما تلائم عدم نجاسة الكلب تلائم أيضا عدم انفعال ملاقي النجس أو جواز أكل النجس فيتعارض مجموع أدلة نجاسة الكلب و انفعال الملاقي و حرمة أكل النجس بل قد يقال حينئذ بأن المتيقن من رواية الأعرج جواز أكل السمن الملاقي للكلب إما تخصيصا و إما تخصصا، و معه يسقط إطلاق دليل عدم جواز أكل النجس للعلم بتخصيصه أو تخصصه، و يتمسك عندئذ بدليل نجاسة الكلب بلا معارض. غير أن كل ذلك لا مجال له بعد ملاحظة ظهور الرواية في طهارة الكلب ابتداء بضم الارتكازين المذكورين.

و يرد على الاستدلال بالرواية أمور:

الأول: أنها انما تدل على طهارة الكلب بضم الارتكازين المذكورين بإطلاقها لصورة عدم انجماد الدهن و السمن، فيقيد بصورة الانجماد و عدم الرطوبة، بلحاظ دليل نجاسة الكلب و تكون الرواية حينئذ في مقام دفع احتمال أن الدهن الجامد يتنجس بالكلب و لو مع عدم الرطوبة.

غير أن هذا التقييد بعيد عرفا.

أما أولا فلان ارتكاز عدم السراية بلا رطوبة و عدم انفعال الدهن الجامد يمنع عن صرف سؤال السائل الى ذلك. فان قيل: إن ارتكاز نجاسة الكلب و سراية النجاسة مع الملاقاة بالرطوبة، يمنع أيضا عن الحمل على‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة كتاب الأطعمة و الأشربة الباب 45 من أبواب الأطعمة المحرمة


221
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الأولى: رواية سعيد الأعرج ؛ ج‌3، ص : 221

..........

______________________________
فرض الرطوبة. و مع تصادم الارتكازين يبقى الإطلاق على حاله. يقال:

ان ذهاب فقهاء معاصرين للراوي إلى طهارة الكلب يبرر توجه أسئلة عن ذلك الى الامام عليه السلام. و قد جاء في كتاب الفقه على المذاهب الأربعة:

ان جملة من المذاهب قالت بطهارة الكلب الحي.

و اما ثانيا: فلأن التعبير بالوقوع في السمن و الخروج منه حيا يقتضي انغماسه فيه، و الا كان من الوقوع عليه لا فيه، و الانغماس يناسب الذوبان، لأن الدهن الجامد لا ينغمس فيه الكلب عادة إذا وقع عليه، و لا يعرضه للموت حتى ينبه على خروجه حيا.

الثاني: انه لو فرض إباء الرواية عن التقييد و صراحتها في الطهارة- و لم تكن هناك رواية أخرى دالة على الطهارة إلا بنفس المستوي- سقطت بالمعارضة مع ما هو صريح في النجاسة عرفا كرواية الفضل: انه سأل أبا عبد اللّه (ع) عن الكلب. فقال: رجس نجس، لا يتوضأ بفضله، و أصيب ذلك الماء و اغسله بالتراب أول مرة ثم بالماء» «1».

و نرجع بعد ذلك الى ما هو ظاهر في النجاسة، و هو ما يشتمل من الروايات على الأمر بالغسل «2»، بناء على ما بنينا عليه في الأصول من تعميم فكره الرجوع الى العام الفوقاني عند معارضة الخاصين، الى كل ظاهر مع صريحين.

و ان شئت فامزج هذين الإيرادين في صيغة واحدة و هي: ان الرواية ان كانت دلالتها بالظهور و الإطلاق كان دليل النجاسة مقيدا، و ان كانت صريحة سقطت بالمعارضة مع الصريح في النجاسة، و رجعنا الى الظاهر في النجاسة.

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 12 من أبواب النجاسات

(2) كرواية محمد بن مسلم عن ابي عبد اللّه قال «سألته عن الكلب و شرب من الإناء. قال اغسل الإناء» وسائل الشيعة باب 12 من أبواب النجاسات.


222
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الثانية: رواية علي بن جعفر: ؛ ج‌3، ص : 223

..........

______________________________
الثالث: ان خبر الطهارة معارض بالسنة القطعية، لاستفاضة نصوص النجاسة و قطعية صدور بعضها إجمالا. و خبر الواحد المعارض للدليل القطعي كتابا أو سنة ساقط عن الحجية. و هذا الإيراد انما يتم إذا بنى على أن خبر الطهارة ظاهر في ذلك، أو على أنه صريح مع افتراض الصراحة في كل أخبار النجاسة. و أما إذا افترضت الصراحة في خبر الطهارة و عدمها في أخبار النجاسة أو في بعضها، فلا يتعين كونه مخالفا للسنة القطعية، لإمكان قرينيته حينئذ. و لكنه مع هذا يسقط عن الحجية للوثوق النوعي بل الشخصي بخلل فيه، بسبب الوضوح الارتكازي للنجاسة و التطابق الفتوائي على ذلك، و تظافر ظواهر الروايات عليها، فان كل ذلك يوجب امارة ان لم تفد الاطمئنان الشخصي بالنجاسة، فهي على الأقل امارة اطمئنانية نوعية توجب خروج الخبر عن أدلة الحجية.

الثانية: رواية علي بن جعفر:

«سألته عن الفأرة و الكلب إذا أكلا من الجبن و شبهه، أ يحل أكله؟ قال: يطرح منه ما أكل و يحل الباقي قال: و سألته عن فأرة أو كلب شربا من زيت أو سمن. قال: ان كان جرة أو نحوها فلا تأكله، و لكن ينتفع به كسراج أو نحوه، و ان كان أكثر من ذلك فلا بأس بأكله، إلا أن يكون صاحبه موسرا يحتمل أن يهريق فلا ينتفع به في شي‌ء» «1». و الرواية في طريق قرب الأسناد ضعيفة بعبد اللّه بن الحسن، و لكنها صحيحة بلحاظ نقل صاحب الوسائل- قدس سره- لها عن كتاب علي بن جعفر.

و تقريب الاستدلال بها: ان الامام (ع) فصل بين الفقير و الغني و هو يناسب الطهارة، لأن النجاسة لا تندفع بمجرد الفقر. و كلمة الشرب قرينة على عدم الانجماد و وجود الرطوبة. و عدم الانفعال مع الملاقاة بالرطوبة‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 45 من أبواب الأطعمة المحرمة


223
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الثانية: رواية علي بن جعفر: ؛ ج‌3، ص : 223

..........

______________________________
يدل على طهارة الكلب. و يمكن دفع ذلك على ضوء جملة مما تقدم في مناقشة الرواية السابقة.

الثالثة: رواية ابن مسكان

عن أبي عبد اللّه (ع) قال: «سألته عن الوضوء مما ولغ الكلب فيه و السنور أو شرب منه جمل أو دابة أو غير ذلك، أ يتوضأ منه أو يغتسل؟ قال: نعم الا أن تجد غيره فتتنزه عنه» «1» و تقريب الاستدلال بها واضح و لكنه يندفع بسقوطها سندا و دلالة. أما سندا فلأن من يروي عن ابن مسكان هو ابن سنان المنطبق على محمد بن سنان جزما أو احتمالا و أما دلالة: فلا مكان تقييدها بالماء الكثير. و المقيد ما دل على انفعال الماء القليل بملاقاة الكلب.

و قد يجاب على الاستدلال بالرواية: بأنه لو سلم ورودها في القليل كانت من أدلة اعتصام الماء القليل لا من أدلة طهارة الكلب «2». و يرد عليه: أنها على فرض ورودها في القليل تكون دالة على الجامع بين طهارة الكلب و عصمة الماء القليل، فتعارض مع مجموع دليلي نجاسة الكلب و انفعال الماء القليل.

الرابعة: رواية علي بن جعفر عن أخيه موسى (ع):

قال:

«سألته عن الرجل وقع ثوبه على كلب ميت. قال: ينضحه بالماء و يصلي فيه و لا بأس» «3». إذ يقال: ان هذا يدل على طهارة الكلب، لأنه لو كان نجسا لما كان النضح كافيا للتطهير غير أنه لو سلم ذلك فإنه يدل حينئذ على طهارة الميتة أيضا، فيكون معارضا مع مجموع أدلة نجاسة الكلب و الميتة، و هذا يوجب سقوطه، لو لم يمكن تقييده بصورة الجفاف بدعوى:

أنه مطلق من هذه الناحية فيقيد، و المقيد ما دل على الانفعال بالملاقاة للكلب مع الرطوبة، و يشهد لذلك ما دل من الروايات على التفصيل بين‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 2 من أبواب الأسئار

(2) التنقيح ج‍ 2 ص 33

(3) وسائل الشيعة باب 26 من أبواب النجاسات


224
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الرابعة: رواية علي بن جعفر عن أخيه موسى(ع): ؛ ج‌3، ص : 224

..........

______________________________
فرض الجفاف و الرطوبة، و الأمر بالنضح في الأول و الأمر بالغسل في الثاني.

و يستخلص من ذلك كله: ان دليل النجاسة تام: و مقتضى إطلاقه عدم الفرق بين كلب الصيد و غيره، و ان نسب الى الصدوق- قدس سره- القول بطهارة كلب الصيد. و لا ارى له تقريبا الا دعوى: التمسك بإطلاق قوله تعالى «فَكُلُوا مِمّٰا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ»، فإنه يدل على جواز الأكل بدون غسل، و هذا يعني طهارة الفريسة، و يدل بالالتزام العرفي على طهارة المفترس، لأن سراية النجاسة بالملاقاة ارتكازية و حينئذ يكون هذا الإطلاق معارضا مع إطلاق دليل نجاسة الكلب لكلب الصيد، و التعارض بالعموم من وجه. فاما ان يتساقطا و يرجع الى الأصل، أو يقدم إطلاق الآية باعتباره كتابيا قطعيا، إذا لم يكن دليل إطلاق النجاسة قطعيا من حيث السند.

و تندفع الدعوى المذكورة: بوضوح ان الآية الكريمة ليست في مقام البيان من ناحية النجاسة، و انما هي في مقام بيان نفي محذور كونه ميتة لا الحلية الفعلية للأكل مطلقا هذا مضافا الى ورود بعض الروايات في الكلب السلوقي خاصة الذي تكون كلاب الصيد منه عادة. ففي صحيحة محمد بن مسلم قال: «سألت أبا عبد اللّه (ع) عن الكلب السلوقي فقال:

إذا مسسته فاغسل يدك» «1». فتكون الرواية مقيدة لإطلاق الآية لو كان و ذلك لان الآية و ان وردت فيما هو معد للصيد بالفعل و الكلب السلوقي أعم منه، و لكن الارتكاز العرفي لا يحتمل الفرق بين الكلب السلوقي قبل تعليمه و بعده، بمعنى انه لا يحتمل مطهرية التعليم، فان كان مقصود القائل بطهارة كلب الصيد طهارة النوع الذي تتخذ منه كلاب الصيد عادة و إثبات ذلك بالآية، فهذه الرواية حجة على خلافه، و تكون مقيدة لإطلاق الآية. و ان‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 12 من أبواب النجاسات


225
بحوث في شرح العروة الوثقى3

نجاسة الخنزير و الروايات الدالة عليها ؛ ج‌3، ص : 226

[نجاسة الخنزير و الروايات الدالة عليها]

و الخنزير (1) البريان.

______________________________
كان مقصوده طهارة خصوص ما هو معلم بالفعل و لم تكن الآية تدل عنده على أكثر من ذلك على خلاف الارتكاز الذي أشرنا إليه. فيرد عليه:

ان الرواية تكون حينئذ بحكم الأخص لانصراف كلب الصيد من عنوان الكلب السلوقي على نحو لا يمكن عرفا تقييده بغيره.

(1) كما هو المعروف بين فقهائنا على نحو لم يعرف فيه أدنى خلاف و لعل هذا الاتفاق الفتوائي و الارتكازي كاف في حصول الاطمئنان بنجاسة الخنزير، مع وفاء الروايات بإثبات ذلك، و هي كثيرة:

منها: رواية زرارة عن ابي جعفر (ع) قال: «قلت له: ان رجلا من مواليك يعمل الحمائل بشعر الخنزير. قال: إذا فرغ فليغسل يده» «1».

و هذه الرواية تامة دلالة، لدلالة الأمر بالغسل على ذلك. و سندا لأن جهة الإشكال فيه تنشأ من دخول سيف التمار في السند حيث لم يوثق و تندفع برواية صفوان عنه.

و منها: رواية برد الإسكاف قال: «سألت أبا عبد اللّه (ع):

عن شعر الخنزير يعمل به. فقال: خذ منه فاغسله بالماء حتى يذهب ثلث الماء و يبقى ثلثاه ثم اجعله في فخار جديدة ليلة باردة، فإن جمد فلا تعمل به، و ان لم يجمد فليس عليه دسم فاعمل به، و اغسل يدك إذا مسسته عند كل صلاة. قلت: و وضوء؟ قال: لا، اغسل يدك كما تمس الكلب» «2».

و هذه الرواية تامة سندا بعد إثبات وثاقة برد الإسكاف برواية صفوان عنه في نفس سندها، و تامة دلالة و حاصل مفادها: التفصيل بين فرض دهنية الشعر و عدمها، و النهي عن استعماله في الفرض الأول و لو إرشادا‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 87 من أبواب ما يكتسب به.

(2) وسائل الشيعة باب 87 من أبواب ما يكتسب به


226
بحوث في شرح العروة الوثقى3

نجاسة الخنزير و الروايات الدالة عليها ؛ ج‌3، ص : 226

..........

______________________________
الى صعوبة التخلص منه، و الأمر بالغسل عند مسه في الفرض الثاني، و هو إرشاد إلى النجاسة. و ما في الرواية من بيان عملية مخصوصة انما هو لامتحان شعر الخنزير لتعرف دسومته.

و منها: رواية برد قال: «قلت لأبي عبد اللّه (ع): جعلت فداك انا نعمل بشعر الخنزير فربما نسي الرجل فصلى و في يده شي‌ء منه. قال:

لا ينبغي له ان يصلى و في يده شي‌ء منه. و قال: خذوه فاغسلوه، فما كان له دسم فلا تعملوا به، و ما لم يكن له دسم فاعملوا به و اغسلوا أيديكم منه» «1» و ليس ما يدل على النجاسة في هذه الرواية- قوله: لا ينبغي له ان يصلى و في يده شي‌ء منه، إذ لو لوحظ هذا بمفرده لأمكن ان يكون بلحاظ انه مما لا يؤكل لحمه، بل امره بالغسل الذي يناسب النجاسة لا المانعية، لان المانعية يكفي فيها مجرد الإزالة.

و سند الرواية لا يخلو من اشكال من ناحية برد المردد بين برد الخياط و برد الإسكاف فان لم يثبت أنه الإسكاف سقطت الرواية عن الحجية لعدم ثبوت وثاقة الخياط، و ان ادعى الانصراف إلى الإسكاف- باعتبار ترجمته في فهرستي الشيخ و النجاشي معا، و وجود كتاب له واصل إليهما بطرقهما بخلاف الخياط الذي لم يقع له ذكر الا تسميته في رجال الشيخ- تم سند الرواية لوثاقة الإسكاف كما تقدم. و يؤيد ذلك، الرواية الآتية الدالة على ان برد الإسكاف كان هذا عمله.

و منها: رواية برد الإسكاف قال: «قلت لأبي عبد اللّه (ع) اني رجل خراز لا يستقيم عملنا الا بشعر الخنزير نخرز به. قال: خذ منه و بره فاجعلها في فخارة ثم أوقد تحتها حتى يذهب دسمه ثم اعمل به» «2».

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 58 من أبواب ما يكتسب به

(2) وسائل الشيعة باب 58 من أبواب ما يكتسب به


227
بحوث في شرح العروة الوثقى3

نجاسة الخنزير و الروايات الدالة عليها ؛ ج‌3، ص : 226

..........

______________________________
و هذه الرواية و ان كانت تامة سندا، الا انها لا تدل على المقصود و انما تدل على مركوزية محذور في ذهن السائل، و تقرير الامام له على ذلك و لعل ذلك المحذور هو محذور الصلاة فيما لا يؤكل.

و منها: رواية سليمان الإسكاف قال: «سألت أبا عبد اللّه (ع):

عن شعر الخنزير يخرز به. قال: لا بأس به، و لكن يغسل يده إذا أراد ان يصلى «1»». و هذه الرواية تدل على المقصود بالأمر بالغسل. لكن في سندها سليمان الإسكاف و هو لم يوثق و لم يرو عنه أحد الثلاثة. نعم روى عنه ابن ابي عمير بالواسطة و هذا لا يكفي.

و منها: صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر (ع) قال:

«سألته: عن الرجل يصيب ثوبه خنزير فلم يغسله، فذكر و هو في صلاته كيف يصنع به؟. قال: ان كان دخل في صلاته فليمض، فان لم يكن دخل في صلاته فلينضح ما أصاب من ثوبه، الا ان يكون فيه اثر فيغسله. قال:

و سألته عن خنزير يشرب من إناء كيف يصنع به؟ قال: يغسل سبع مرات» «2» و هي الرواية الوحيدة التي لا غبار على سندها. و قوله فيها «الا ان يكون فيه اثر فيغسله» ظاهر في الحكم بالنجاسة، سواء قيل بشمول الأثر للرطوبة كما هو الظاهر، أو خصص بالأثر العيني كالشعر، فان كون المحذور لا يندفع الا بالغسل، يساوق النجاسة. و هذه الدلالة تامة حتى إذا رجع الاستثناء الى الشق الثاني فقط، و هو ما إذا لم يكن قد دخل في صلاته، غاية الأمر انه على هذا يدل على ان هذه النجاسة التي عرفها المصلى أثناء الصلاة لا تصحح قطعها. كما ان قوله «يغسل سبع مرات» في ذيل الصحيحة واضح جدا في النجاسة.

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 13 من أبواب النجاسات

(2) نفس المصدر.


228
بحوث في شرح العروة الوثقى3

نجاسة الخنزير و الروايات الدالة عليها ؛ ج‌3، ص : 226

..........

______________________________
و منها: رواية خيران الخادم قال: «كتبت الى الرجل عليه السلام أسأله عن الثوب يصيبه الخمر و لحم الخنزير، أ يصلى فيه أم لا؟ فإن أصحابنا قد اختلفوا فيه، فقال بعضهم: صل فيه فان اللّه انما حرم شربها. و قال بعضهم: لا تصل فيه. فكتب (ع): لا تصل فيه فإنه رجس» الحديث
«1».

و المتبادر من الرجس هنا النجاسة، لأن السؤال ينصرف إلى السؤال عن النجاسة لارتكاز مانعية ملاقاة النجاسة عن الصلاة، و عدم ارتكاز مانعية ملاقاة شي‌ء أخر عنها. فان عملنا بهذا الظهور في الخمر- كما هو الصحيح- فنعمل به هنا، و ان لم نعمل به في الخمر جمعا بينه و بين روايات طهارة الخمر أشكل التمسك به هنا، لان الرجس مفهوم واحد. و إذا حمل على الجامع بين النجاسة اللزومية و غيرها لم تبق دلالة على المقصود. و اما السند:

فضعيف و لا أقل بسهل بن زياد.

هذه أهم الروايات الدالة على النجاسة و هناك أيضا روايات أخرى كرواية المعلى بن خنيس «2»، و رواية علي بن رئاب «3»، و رواية علي ابن محمد (جعفر) «4»، و رواية دعائم الإسلام «5» غير انها لا تخلو من مناقشة سندا و دلالة. و فيما ذكرناه كفاية.

و قد يعارض ذلك بروايات يتوهم منها الطهارة:

منها رواية إسماعيل بن جابر قال: «قلت لأبي عبد اللّه (ع):

ما تقول في طعام أهل الكتاب؟ فقال: لا تأكله. ثم سكت هنيّة، ثم قال: لا تأكله. ثم سكت هنيئة ثم قال: لا تأكله، و لا تتركه تقول‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 38 من أبواب النجاسات

(2) وسائل الشيعة باب 32 من أبواب النجاسات

(3) وسائل الشيعة باب 13 من أبواب النجاسات

(4) وسائل الشيعة باب 26 من أبواب النجاسات

(5) المستدرك باب 9 من أبواب النجاسات و الأواني.


229
بحوث في شرح العروة الوثقى3

نجاسة الخنزير و الروايات الدالة عليها ؛ ج‌3، ص : 226

..........

______________________________
انه حرام، و لكن تتركه تتنزه عنه، ان في آنيتهم الخمر و لحم الخنزير»
«1» و هذه الرواية من أدلة طهارة أهل الكتاب. و قد يستدل بها في المقام على طهارة لحم الخنزير، بدعوى: انه لو كان نجسا لكان الاجتناب عن الآنية الملاقية له إلزاميا لا تنزيهيا. و تندفع بان التنزه انما هو بلحاظ معرضية الإناء لذلك، لا مع فرض الفراغ عن الملاقاة خارجا.

و منها: الأخبار الآتية في طهارة شعر الخنزير و نحوه مما لا تحله الحياة بدعوى: التعدي منه الى سائر أجزائه. و لكن التعدي بلا موجب على تقدير تسليمها في موردها، لأن احتمال التفصيل عرفي.

و منها: مرسلة الفقيه: «سئل أبو جعفر و أبو عبد اللّه عليهما السلام فقيل لهما: إنا نشتري ثيابا يصيبها الخمر و ودك الخنزير (أي شحمة) عند حاكتها، أ نصلي فيها قبل أن نغسلها؟ فقالا: نعم لا بأس إنما حرم اللّه أكله و شربه، و لم يحرم لبسه و مسه و الصلاة فيه» «2».

و هذه الرواية و ان كانت في الفقيه مرسلة و لكنها ذكرت في علل الشرائع للصدوق مسندة عن أبيه عن سعد، و ينتهي الإسناد إلى بكير عن أبي جعفر، و الى أبي الصباح و أبي سعيد و الحسن النبال عن أبي عبد اللّه.

و لا يضر بالسند عدم ثبوت وثاقة جملة من هؤلاء بعد فرض ثبوت وثاقة بعضهم مضافا الى أن أربعة من هذا القبيل ممن لم يثبت عدم وثاقة واحد منهم قد يوجب الوثوق.

و اما من حيث الدلالة فلا إشكال في دلالتها على الطهارة بل صراحتها في ذلك. و لكنها ساقطة عن الحجية: أولا: لأنها معارضة بمجموع ما دل على نجاسة الخنزير، و ما دل على عدم جواز الصلاة فيما لا يؤكل لحمه‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 54 من أبواب الأطعمة المحرمة

(2) وسائل الشيعة باب 38 من أبواب النجاسات


230
بحوث في شرح العروة الوثقى3

حكم البحري من الكلب و الخنزير ؛ ج‌3، ص : 231

[حكم البحري من الكلب و الخنزير]

دون البحري منهما (1).

______________________________
و ما دل على نجاسة الميتة لأن الميت من الخنزير ميتة على أي حال لعدم قابليته للتذكية، و ما دل على نجاسة الخمر. و هذا المجموع قطعي إجمالا، و معارض القطعي ساقط. و ثانيا: لأن نفس روايات نجاسة الخنزير في نفسها قطعية و لو بلحاظ الشهرة و الإجماع و الارتكاز، المقتضي للكشف عن صدور روايات بمضمونه من الأئمة عليهم السلام. و بتعبير أصح: ان نجاسة الخنزير ثابتة بالاطمئنان الشخصي على ضوء مجموع تلك القرائن فلا اعتبار بالمعارض و ثالثا: ان هذه الرواية صريحة في الطهارة فلتعارض ما هو صريح عرفا في النجاسة، و يرجع بعد ذلك الى ما هو ظاهر في النجاسة.

(1) الظاهر عدم جواز التمسك بأدلة نجاسة الكلب و الخنزير لإثبات نجاستهما: اما للجزم بأن إطلاق اللفظ عليهما مجازي للمشابهة، بمعنى كونه بالنسبة إلى حيوانات البحر كالكلب و الخنزير بالنسبة إلى حيوانات الأرض. و اما لاحتمال ذلك على نحو يمنع عن الإطلاق، و لو سلم كونه حقيقة فلا يسلم الاشتراك المعنوي، و مع الاشتراك اللفظي لا يمكن التمسك بالإطلاق كما هو واضح.

و قد ذكر المحقق الهمداني- قدس سره- رواية يستدل بها على طهارة الكلب البحري و يستأنس بها لطهارة الخنزير البحري و هي: صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج قال: سأل رجل أبا عبد اللّه (ع) و أنا عنده:

عن جلود الخز. فقال: ليس به بأس. فقال الرجل: جعلت فداك إنها علاجي (في بلادي) و انما هي كلاب تخرج من الماء. فقال أبو عبد اللّه عليه السلام: إذا خرجت من الماء تعيش خارج الماء؟ فقال الرجل: «لا فقال: ليس به بأس» «1».

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 10 من أبواب لباس المصلى


231
بحوث في شرح العروة الوثقى3

حكم ما لا تحله الحياة من الكلب و الخنزير ؛ ج‌3، ص : 232

[حكم ما لا تحله الحياة من الكلب و الخنزير]

و كذا رطوباتهما و أجزائهما، و ان كانت مما لا تحله الحياة كالشعر و العظم و نحوهما (1).

______________________________
و هذه الرواية واضحة في طهارة الكلب البحري، فإنه لا يوجد كلب بحري يعيش في البر، و إنما كان سؤال الإمام (ع) استدراجا لبيان النكتة.

و أما استفادة طهارة الخنزير البحري من الرواية فتتوقف على أحد أمرين:

الأول: دعوى ارتكاز مساواة الكلب و الخنزير متشرعيا. و الثاني: استفادة ضابط كلي من التعليل المقتنص من سؤال الإمام عن قدرة الحيوانات على الحياة خارج الماء. بيان ذلك: انه لا إشكال في أن الطهارة في ظاهر الحديث مفرعة على عدم عيش الحيوان خارج الماء، و هذا فيه احتمالان: أحدهما: أن تكون مفرعة على ذلك ابتداء بأن يكون عدم العيش خارج الماء بنفسه ملاكا للطهارة، و عليه فان استفيد كون ذلك تمام الملاك للطهارة أمكن التعدي إلى الخنزير البحري أيضا.

و الاحتمال الآخر: أن تكون الطهارة مفرعة على عدم الكلبية، و كون الحيوان لا يعيش إلا في الماء ملاك لعدم كونه كلبا لتقوم مفهوم الكلب بكونه حيوانا بريا و التعدي منه الى الخنزير حينئذ يتوقف على الجزم بأن ما هو مقوم لمفهوم الكلب من هذه الناحية مقوم لمفهوم الخنزير أيضا.

و مقتضى الجمود على اللفظ و إن كان قد يعين الأول غير أن مناسبات الحكم و الموضوع قد تجعل الاحتمال الثاني أقرب، لأن المائية لا تناسب أن تكون بمجردها مانعة عن النجاسة و انما المناسب ارتفاع النجاسة بارتفاع الكلبية.

(1) لأن مقتضى القاعدة بلحاظ أدلة النجاسة في المقام هو ذلك حتى إذا قيل بعدم شمول دليل نجاسة الميتة لهذه الأجزاء لعدم شمول الموت لها. و ذلك: لأن الموضوع في المقام عنوان الكلب و الخنزير و هو شامل‌


232
بحوث في شرح العروة الوثقى3

حكم ما لا تحله الحياة من الكلب و الخنزير ؛ ج‌3، ص : 232

..........

______________________________
للاجزاء التي لا تحلها الحياة. و جملة من روايات الباب و ان لم يكن فيها إطلاق، كما ورد في الولوغ فان الولوغ يقتضي ملاقاة ما تحله الحياة عادة و لكن يكفينا روايات أخرى مطلقة تقدم ذكرها كرواية محمد بن مسلم في الكلب السلوقي «إذا مسسته فاغسل يدك». و رواية علي بن جعفر الآمرة بغسل الثوب عند اصابة الخنزير له.

و في الكلب لا يوجد مقيد للإطلاق فيؤخذ به بلا إشكال. و إنما الكلام في الخنزير إذ توجد فيه روايات يمكن الاستدلال بها على طهارة ما لا تحله الحياة منه:

منها: صحيحة زرارة عن أبي عبد اللّه (ع) قال: «سألته عن عن الحبل يكون من شعر الخنزير يستقي به الماء من البئر، هل يتوضأ من ذلك الماء؟ قال لا بأس» «1» و قد يورد على الاستدلال بها تارة:

بإبداء احتمال أن السؤال ليس من جهة النجاسة، بل من جهة جواز الوضوء بماء استخدم في مقدماته استعمال نجس العين، لاحتمال حرمة استعمال نجس العين. و أخرى: بأن هذه الرواية من روايات عدم انفعال الماء القليل بملاقاة النجس، و لا دلالة لها على عدم نجاسة شعر الخنزير بوجه «2» اما الإيراد الأول، فقد تقدم في موضع سابق من هذا الشرح:

ان حمل الرواية على ذلك خلاف الظاهر «3». و أما الإيراد الثاني، ففيه:

انه لو فرض في مورد الرواية الفراغ عن ملاقاة ماء الدلو لشعر الخنزير فالحكم بجواز الوضوء منه يكشف عن الجامع بين طهارة شعر الخنزير و عدم انفعال الماء القليل بملاقاة النجس، و حيث أن الثاني منفي بالدليل‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 14 من أبواب الماء المطلق

(2) التنقيح ج‍ 2 ص 37

(3) راجع مباحث انفعال الماء القليل من الجزء الأول


233
بحوث في شرح العروة الوثقى3

حكم ما لا تحله الحياة من الكلب و الخنزير ؛ ج‌3، ص : 232

..........

______________________________
الخاص فبضم هذا الدليل الخاص الى هذه الرواية يتم الدليل على طهارة شعر الخنزير على نحو يقيد إطلاق دليل النجاسة.

الا أن أصل افتراض ملاقاة الماء في الدلو حال انقطاعه عن البئر للحبل ليس بمعلوم، بل المنصرف من الرواية كون السؤال بلحاظ تقاطر الماء من الحبل في الدلو، كما تقدم عند دراستها في بحث انفعال الماء القليل.

و عليه فتكون دالة على الجامع بين طهارة شعر الخنزير و عدم انفعال الماء بملاقاة المتنجس. و بذلك تحصل المعارضة بالعرض بين إطلاق دليل نجاسة الخنزير لشعره و إطلاق دليل انفعال الماء القليل لملاقاة المتنجس. فإن أنكرنا الإطلاق الثاني اما رأسا، أو لوجود مقيد له، بقي إطلاق دليل النجاسة بلا معارض، و الا سقط الإطلاقان بالمعارضة.

هذا كله بقطع النظر عما دل على نجاسة شعر الخنزير بالخصوص كرواية برد الإسكاف المتقدمة، و الا كان المتعين الرجوع إليه في إثبات النجاسة دون ان تصلح الصحيحة للمعارضة معه، لعدم تعين دلالتها على طهارة شعر الخنزير، و عدم وجود الدليل الخاص على انفعال الماء القليل بملاقاة المتنجس.

و منها: رواية الحسين بن زرارة عن ابي عبد اللّه (ع)- في حديث.

قال: «قلت له: شعر الخنزير بجعل حبلا و يستقى به من البئر التي يشرب منها، أو يتوضأ منها؟ فقال: لا بأس به» «1».

و بعد توثيق الحسين بن زرارة و لو بلحاظ رواية أحد الثلاثة عنه كصفوان، تكون الرواية معتبرة سندا. و اما من الناحية الدلالة: فهناك فرق بين هذه الرواية و سابقتها باعتبار قوة ظهور الرواية السابقة في ان السؤال عن حكم ماء الدلو، بخلاف هذه الرواية حيث جعل فيها (يشرب‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 14 من أبواب الماء المطلق


234
بحوث في شرح العروة الوثقى3

حكم ما لا تحله الحياة من الكلب و الخنزير ؛ ج‌3، ص : 232

 

..........

______________________________
و يتوضأ منها) وصفا للبئر، فبالامكان دعوى: اتجاه السؤال نحو ماء البئر ابتداء و انه هل ينفعل بملاقاة شعر الخنزير، فيكون الجواب دالا على الجامع بين طهارة شعر الخنزير و اعتصام ماء البئر، و الفرد الأول من هذا الجامع منفي بالدليل دون الفرد الثاني، فيتعين تطبيقه على الثاني، و معه لا يتم الاستدلال بالرواية على طهارة شعر الخنزير.

فان قيل: ان الثاني منفي أيضا بروايات انفعال ماء البئر، فإن عملنا بها أنتجت- بضمها إلى رواية الحسين- مقيدا لإطلاق دليل نجاسة الخنزير و معارضا لما دل على نجاسة شعر الخنزير بالخصوص. و ان أسقطنا روايات الانفعال بالمعارضة مع روايات الاعتصام كان المجموع المركب من رواية الحسين بن زرارة و دليل نجاسة شعر الخنزير طرقا آخر للمعارضة مع روايات الانفعال، و يسقط الجميع. قلنا: ان بنى على الجمع العرفي بين روايات انفعال ماء البئر و روايات اعتصامه بحمل الانفعال على التنزه، فلا إشكال في تعين تطبيق الجامع المستفاد من رواية الحسين بن زرارة على اعتصام ماء البئر، فلا يتم الاستدلال بها على طهارة شعر الخنزير. و ان بنى على استحكام التعارض بين روايات الانفعال و روايات الاعتصام في ماء البئر لم يبن على سقوط إطلاق ما دل على نجاسة الخنزير للشعر في نفس المرتبة لان روايات الانفعال لو خليت وحدها لصلحت لتقييده فيرجع اليه بعد تساقط مجموعتي الانفعال و الاعتصام من روايات ماء البئر.

و منها رواية زرارة قال: «سألت أبا عبد اللّه (ع) عن جلد الخنزير يجعل دلوا يستقى به الماء؟ قال: لا بأس» «1».

و لا بأس بسند هذا الحديث و ان كان فيه أبو زياد النهدي، لأنه ممن يروي عنه ابن أبي عمير. و لكنها أضعف دلالة مما سبق، لأن السؤال فيها‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 14 من أبواب الماء المطلق

 

 

 

235
بحوث في شرح العروة الوثقى3

حكم المتولد منهما ؛ ج‌3، ص : 236

[حكم المتولد منهما]

و لو اجتمع أحدهما مع الآخر أو مع آخر فتولد منهما ولد، فان صدق عليه اسم أحدهما تبعه، و ان صدق عليه اسم أحد الحيوانات الأخر أو كان مما ليس له مثل في الخارج كان طاهرا و ان كان الأحوط الاجتناب عن المتولد منهما إذا لم يصدق عليه اسم أحد الحيوانات الطاهرة، بل الأحوط الاجتناب عن المتولد من أحدهما مع طاهر إذا لم يصدق عليه اسم الطاهر فلو نزى كلب على شاة أو خروف على كلبة، و لم يصدق على المتولد منهما اسم الشاة، فالأحوط الاجتناب عنه و ان لم يصدق عليه اسم الكلب (1).

______________________________
اتجه نحو نفس عملية جعل جلد الخنزير دلوا يستقى به. و لا قرينة على كون ذلك ملحوظا بما هو طريق إلى حيثية الانفعال وجودا و عدما، لإمكان أن يكون الملحوظ هو حكم استعمال الميتة و نجس العين في نفسه، فان احتمال حرمة ذلك احتمال معقول في العرف المتشرعي، كما يكشف عنه ذهاب المشهور من العلماء إلى الحرمة.

و تحصل من مجموع ذلك. أن الأجزاء التي لا تحلها الحياة من الخنزير محكومة بالنجاسة أيضا.

(1) المتولد من كلب و خنزير أو من أحدهما من طاهر- لو كان هذا ممكنا- ان صدق عليه اسم الكلب أو الخنزير فلا إشكال في نجاسته، لدخوله تحت إطلاق دليل نجاستهما و ان صدق عليه عنوان أحد الحيوانات الثابت طهارتها بدليل اجتهادي فلا إشكال في طهارته، لدخوله تحت إطلاق ذلك الدليل و ان كان يرى بمجموعه ملفقا من الكلب و الخنزير فقد يبنى على‌


236
بحوث في شرح العروة الوثقى3

حكم المتولد منهما ؛ ج‌3، ص : 236

..........

______________________________
نجاسته أيضا، لأنه و إن لم يمكن الحكم بنجاسته بكل من دليلي نجاسة الكلب و نجاسة الخنزير بمفرده، لعدم كونه مصداقا لموضوعه، و لكن الدلالة الالتزامية العرفية لمجموع الدليلين تقتضي نجاسة الملفق. فان قيل:

بأن الدلالة الالتزامية العرفية الحاصلة من ضم أحد الدليلين الى الآخر معتبرة فهو، و ان استشكل في ذلك بدعوى: ان مرجع هذه الدلالة إلى الظهور العرفي لأن الملازمة عرفية لا عقلية، و الظهور العرفي لا يعقل تصور قيامه بمجموع خطابين منفصلين الا مع قيام دليل على لزوم تنزيل الخطابات المنفصلة منزلة الخطاب الواحد المتصل من هذه الناحية. أمكن إثبات النجاسة في المقام بالدلالة الالتزامية العرفية للدليل الواحد المشتمل على نجاسة الكلب و الخنزير معا، كرواية برد الإسكاف المتقدمة.

و ان كان المتولد حيوانا على غير الوجوه المتقدمة كان مقتضى الأصول المؤمنة الحكم بطهارته أو عدم انفعال ملاقيه. و ما يتصور كونه حاكما عليها إنما هو الاستصحاب، بأحد تقريبات ثلاثة:

الأول: استصحاب نجاسته الثابتة حينما كان دما و علقة في داخل الكلبة أو الخنزيرة أو حينما كان منيا. و يرد عليه أن المقام من موارد الاستحالة فلا يجري الاستصحاب، على ما يأتي في محله ان شاء اللّه تعالى الثاني: استصحاب نجاسته الثابتة عند ما كان جنينا إذا كانت أمه كلبة أو الخنزيرة بوصفه جزء منها. و يرد عليه: ان الجنين ليس جزء من أمه، بل هو كالبيض بالنسبة إلى الدجاجة من قبيل المظروف مع الظرف.

الثالث: استصحاب النجاسة الجامعة بين العرضية و الذاتية، بأن يقال:

ان هذا الحيوان كان ملاقيا مع النجاسات كالدم في بطن الأم و بعد أن يحصل المطهر و هو زوال العين في الحيوان، يشك في ارتفاع النجاسة فيستصحب الجامع بين النجاسة العرضية المعلومة الانتفاء على فرض وجودها‌


237
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الثامن: الكافر بأقسامه ؛ ج‌3، ص : 238

الثامن: الكافر بأقسامه

، حتى المرتد بقسميه و اليهود، و النصارى و المجوس (1).

______________________________
و النجاسة الذاتية المعلومة البقاء على فرض حدوثها. و هذا الاستصحاب يعتبر من القسم الثاني من استصحاب الكلي، ان قلنا: ان النجس الذاتي لا يقبل النجاسة العرضية، و إلا فهو من القسم الثالث، و لكن من النحو الذي يكون الفرد المشكوك فيه على فرض ثبوته معاصرا للمتيقن من أول الأمر. و على كل حال فلو جرى هذا الاستصحاب لا يثبت إلا نجاسة السطح لإتمام الطبقات كما هو المطلوب.

و يرد عليه: لو سلم الاستصحاب و تمامية أركانه في نفسه انه محكوم لأن عدم الكلي في موارد استصحاب الكلي إذا كان حكما شرعيا مترتبا على عدم الفرد الطويل جرى استصحاب عدم الفرد الطويل، و كان حاكما على استصحاب الكلي. و ما نحن فيه من هذا القبيل، لأن كل جسم لم تجعل له نجاسة ذاتية يطهر بالمطهر، و هذا جسم بالوجدان و غير نجس ذاتا بالاستصحاب.

و قد يتوهم الجواب على استصحاب الكلي في المقام: بأن العلم الإجمالي بالنجاسة العرضية أو العينية منحل بإجراء أصالة الطهارة لإثبات طهارته العينية ظاهرا، و مع انحلاله لا يمكن اجراء استصحاب المعلوم الإجمالي.

و يندفع هذا التوهم: أولا: بأن أصالة الطهارة انما يتحقق موضوعها عند عدم العلم بالنجاسة فتثبت الطهارة، لا عند العلم بأصل النجاسة و الشك في عينيتها لان مفادها الطهارة الفعلية لا الحيثية. و ثانيا: بان جريان الأصل المذكور لا يوجب انحلال العلم الإجمالي المذكور بنحو يمتنع جريان الاستصحاب في معلومة إلا بملاحظة النكتة التي ذكرناها.

(1) المعروف بين فقهائنا الحكم بنجاسة الكافر. و قد ينقل القول‌


238
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الاستدلال على نجاسته بالإجماع و تفصيل البحث في ذلك. ؛ ج‌3، ص : 239

 

..........

______________________________
بطهارته- و لو في الجملة- عن بعضهم. و المعروف بين فقهاء العامة الحكم بطهارته، و لكن ذهب بعضهم أيضا الى نجاسة الكافر بنحو يشمل الكتابي أيضا، كابن حزم
«1».

و قد استدل للنجاسة بالإجماع، و الكتاب و السنة.

[الاستدلال على نجاسته بالإجماع و تفصيل البحث في ذلك.]

اما الإجماع فتقريبه: ان دعوى الإجماع على النجاسة قد استفاضت في كلمات عدد كبير من الفقهاء، كالسيد المرتضى، و الشيخ الطوسي و المحقق الحلي، و غيرهم. و إذا انضم الى هذه الاستفاضة الاطلاع المباشر على فتاوى عدد كبير من علمائنا، و عدم العثور على خلاف معتد به، بل على مطلق الخلاف في المشرك و نحوه من أقسام الكفار، و ما هو الملحوظ من ارتكازية الحكم بالنجاسة في أذهان مختلف طبقات الطائفة، استخلصنا من ذلك كله الوثوق بحصول إجماع تعبدي على النجاسة، بنحو يكشف عن تلقى ذلك من الأئمة عليهم السلام.

و من الواضح ان حجية هذا الإجماع- كأي إجماع- تستند الى كونه سببا لليقين أو الاطمئنان بثبوت معقده شرعا على أساس حساب الاحتمالات و كونه تجميعا لقرائن احتمالية يحصل من تراكمها الاطمئنان. و لهذا يجب ان تلحظ مجموع القرائن التي لها دخل في إيجاد هذا الاطمئنان إثباتا و نفيا إذ قد يتفق كون امارة مقتضية لليقين في نفسها و لكنها لا تؤدى الى ذلك عند مزاحمتها ببعض القرائن المنافية. و ليس الإجماع أو نقل الإجماع بعنوانه موضوعا للحجية شرعا، لئلا يتوقف العمل به على ملاحظة تلك القرائن.

و هناك عدة نقاط يمكن إثارتها حول الاستدلال بهذا الإجماع، اما بلحاظ بعض أصناف الكفار أو مطلقا:

النقطة الاولى: التشكيك في وقوع هذا الإجماع

بإبراز القرائن على‌

______________________________
(1) راجع المحل ج 1 ص 129

 

 

 

239
بحوث في شرح العروة الوثقى3

النقطة الاولى: التشكيك في وقوع هذا الإجماع ؛ ج‌3، ص : 239

..........

______________________________
وجود الخلاف. و هذا التشكيك ليس عليه شواهد و أرقام محددة بلحاظ المشرك، و لكن بالإمكان تحصيل بعض الشواهد الباعثة على التشكيك بلحاظ غير المشرك، أو على الأقل بلحاظ الكتابي:

فمنها كلام المحقق الحلي (قدس سره)، إذ قسم الكفار الى قسمين:

المشرك، و أهل الكتاب و ادعى الإجماع على نجاسة المشرك، و اما بالنسبة الى أهل الكتاب فلم يدع مثل ذلك، و انما استعرض أسماء عدد من العلماء القائلين بالنجاسة، فلو كان المحقق قد أحرز الإجماع على النجاسة في كلا القسمين لما ساق التعبير بهذا النحو.

و منها: دعوى ابن زهرة في الغنية الإجماع المركب، إذ قال: التفرقة بين نجاسة المشرك و غيره خلاف الإجماع، فإنه لو كان يرى انعقاد الإجماع على نجاسة الكافر مطلقا لما عدل الى الاستدلال بالإجماع المركب على نجاسة غير المشرك.

و منها: كلام للشيخ الطوسي قدس سره في تفسيره لسورة المائدة في قوله تعالى «وَ طَعٰامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتٰابَ حِلٌّ لَكُمْ وَ طَعٰامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ» إذ ذكر: «ان أكثر أصحابنا قالوا: ان طعام أهل الكتاب الحبوب و اما ذبائحهم و ما ساوروه بالرطوبة فغير جائز» إذ قد يستظهر من هذه العبارة ان جملة من أصحابنا يجوزون- خلافا للأكثر- ما ساوره الكتابي بالرطوبة اللهم الا ان يكون التعبير بالأكثر بلحاظ الفتوى بحرمة ذبيحة الكتابي لا بلحاظ الفتوى بحرمة ما ساوره بالرطوبة.

و منها أيضا كلام للشيخ الطوسي (قدس سره) في النهاية، استظهر منه القول بطهارة أهل الكتاب و هو قوله: «و يكره ان يدعو الإنسان أحدا من الكافر الى طعامه فيأكل معه و ان دعاه فليأمر بغسل يديه ثم يأكل معه ان شاء». و لكن هذا الظهور لا يمكن الأخذ به، لان للشيخ في‌


240
بحوث في شرح العروة الوثقى3

النقطة الاولى: التشكيك في وقوع هذا الإجماع ؛ ج‌3، ص : 239

..........

______________________________
كلام متقدم بأسطر على ما نقلناه نصا يدل بوضوح على فتواه بالنجاسة فلا بد من حمل كلامه هذا على فرض عدم المساورة برطوبة، عملا بما دل من الروايات على إناطة الاذن في مؤاكلة الكتابي على الوضوء المحمول على الغسل. كصحيحة العيص بن القاسم الآتية، بعد تقييدها بكيفية لا تسرى معها النجاسة، فيكون أمر الكافر بغسل يديه أدبا شرعيا صرفا.

و منها: ما نقل عن الشيخ المفيد (قدس سره) في أجوبة بعض مسائله: من الحكم بكراهة سؤر اليهود و النصارى. و هو لا يناسب القول بالنجاسة، لظهور الكراهة في كلام المفيد و أمثاله في المعنى المصطلح المقابل للحرمة.

و يبقى استغراب: ان يكون المفيد قائلًا بالطهارة و لا يؤثر ذلك عنه بل يدعى تلامذته كالمرتضى و الشيخ الطوسي الإجماع على النجاسة، و هم أكثر الناس اطلاعا على رأى أستاذهم. و قد يدفع هذا الاستغراب: بإمكان افتراض عدول المفيد (قدس سره) عن الفتوى بالطهارة، إذ لا نعرف تاريخ صدور الحكم بالكراهة منه، فلعله كان في بداية أمره، و في مرحلة تأثره باستاذه ابن الجنيد و ابن ابي عقيل الذين ينسب إليهما القول بالطهارة.

و منها: ما نسب الى القديمين ابن ابي عقيل و ابن الجنيد من القول بالطهارة. فعن الأول: انه قال بطهارة سؤر الكتابي. و هذا بمجرده انما يدل على قوله بالطهارة إذا لم يفترض اختصاص السؤر اصطلاحا في كلام مثله بالماء المطلق، و الا أمكن ان يكون مبنيا على عدم انفعال الماء القليل.

و عن الثاني: انه قال: «و لو تجنب من أكل ما صنعه أهل الكتاب من ذبائحهم و في آنيتهم، و كل ما صنع في أواني مستحلي الميتة، و مؤاكلتهم ما لم يتيقن طهارة أوانيهم و أيديهم، كان أحوط».

و كلمة «أيديهم» إن رجعت الى الجميع كان كلامه واضحا في نفي‌


241
بحوث في شرح العروة الوثقى3

النقطة الثانية: ؛ ج‌3، ص : 242

..........

______________________________
النجاسة العينية عن الكتابي، و ان رجعت الى خصوص مستحلي الميتة فلا يستفاد من كلامه حينئذ إلا التوقف عن الفتوى بالنجاسة.

النقطة الثانية:

اننا إذا رجعنا الى عصر أقدم من عصور الفقه الإمامي أي عصر الرواة، نجد ان قضية نجاسة الكفار لم تكن امرا مركوزا في أذهان الرواة إلى زمان الغيبة، و لهذا كثر السؤال عن ذلك بين حين و حين و فرض في بعض تلك الأسئلة انهم يأكلون الميتة و لا يغتسلون من الجنابة كما في رواية الحميري الذي هو من فقهاء الإمامية في عصر الغيبة الصغرى إذ كتب الى صاحب الزمان (ع): «عندنا حاكة مجوس يأكلون الميتة و لا يغتسلون من الجنابة و ينسجون لنا ثيابا فهل تجوز الصلاة فيها قبل ان تغسل؟ إلخ».

و حمل جميع الأسئلة على أنها بملاك علمي بحت بعيد جدا. كما ان حمل فرض الحميري لنجاسات عرضية في حياة الكافر، على انه بقصد إبراز قوة احتمال تنجس الثياب التي يحوكها بلا شاهد. بل ان افتراض السائل لعدم الغسل من الجنابة في الكافر واضح الدلالة على انه لم يكن قد ارتكزت في ذهنه نجاسة الكافر العينية، و الا فأي أثر للغسل بالنسبة اليه.

و حيث ان الإجماع انما يكون حجة باعتبار كشفه عن التلقي الارتكازي من عصر الرواة، فيكون ما ذكرناه نقطة ضعف في كاشفية هذا الإجماع.

النقطة الثالثة:

ان ابتلاء المسلمين بالتعايش مع أصناف من الكفار في المدينة و غيرها على عهد النبي (ص) كان على نطاق واسع، و اختلاطهم مع المشركين كان شديدا جدا خصوصا بعد صلح الحديبية، و وجود العلائق الرحمية و غيرها بينهم، فلو كانت نجاستهم مقررة في عصر النبوة لانعكس ذلك و انتشر و أصبح من الواضحات، و لسمعت من النبي (ص) توضيحات كثيرة بهذا الشأن، كما هو الحال في كل مسألة تدخل في محل الابتلاء الى هذه الدرجة. و لا توجد في مثل هذه المسألة دواعي الإخفاء، و اي داع‌


242
بحوث في شرح العروة الوثقى3

النقطة الرابعة: ؛ ج‌3، ص : 243

..........

______________________________
الى ذلك مع ظهور الإسلام، و عدم منافاة هذا الحكم مع أغراض أولياء الأمر بعد النبي (ص). و حتى لو افترضنا ان الحكم بالنجاسة كان في ظرف نزول سورة التوبة التي نزلت بعد الفتح، فإن طبيعة الأشياء كانت تقتضي شيوعه و انتشاره أيضا، فعدم وجدان شي‌ء من هذه اللوازم العادية عند ملاحظة التأريخ العام يشكل عامل تشكيك في مسألتنا.

النقطة الرابعة:

ان اشتهار الاستدلال على نجاسة الكافر بالآية الكريمة بين الأصحاب، و وجود وجوه اجتهادية لتقديم روايات النجاسة على روايات الطهارة على ما يأتي، يوجب- على الأقل- احتمال استناد عدد كبير من المجمعين الى مدرك اجتهادي في الفتوى بالنجاسة، فلا يكون كاشفا مستقلا عن المقصود ما دام إجماعا مدركيا.

و دعوى: ان الإجماع على نجاسة أهل الكتاب يجب ان يكون مستندا إلى جهة فوق الاجتهاد، لان وضوح وجود الجمع العرفي بين روايات الطهارة و روايات النجاسة بحمل الأخيرة على التنزه، يكشف عن استناد المجمعين إلى جهة فوق ذلك في طرح أخبار الطهارة.

مدفوعة: بأن صناعة الجمع العرفي، و كونه متقدما على سائر أنحاء التصرف الأخرى بما فيها الحمل على التقية، ليست بدرجة من الوضوح في فقه جملة من فقهائنا المتقدمين، على النحو الذي لا يصح معه افتراض تطبيقهم للصناعة على وجه آخر.

و في كلماتهم شواهد عديدة على ذلك: فمن هذه الشواهد في كلام الشيخ الطوسي (قدس سره) ما ذكره في مسألة نجاسة الخمر و المسكر الذي وردت فيه اخبار صريحة في الطهارة، و اخبار تأمر بالغسل منه.

إذ حمل أخبار الطهارة على التقية، مع ان العامة لا يقولون بالطهارة:

قال في كتاب التهذيب: «و الذي يدل على ان هذه الاخبار محمولة على‌


243
بحوث في شرح العروة الوثقى3

النقطة الخامسة: التشكيك في ثبوت الإجماع بمناقشة مستندات إثباته ؛ ج‌3، ص : 244

..........

______________________________
التقية ما تقدم ذكره من الآية، و أن اللّه تعالى أطلق اسم الرجاسة على الخمر و لا يجوز ان يرد من جهتهم عليهم السلام ما يضاد القران و ينافيه. و أيضا قد أوردنا من الاخبار ما يعارض هذه، و لا يمكن الجمع بينهما إلا بان نحمل هذه على التقية، لأنا لو عملنا بهذه الاخبار كنا دافعين لأحكام تلك جملة و لم نكن آخذين بها على وجه و إذا عملنا على تلك الاخبار كنا عاملين بما يلائم ظاهر القران فحملنا هذه على التقية، لأن التقية أحد الوجوه التي يصح ورود الأخبار لأجلها من جهتهم فتكون عاملين بجميعها على وجه لا تناقض فيه
«1».

فنراه (قدس سره) يفضل الجمع بالحمل على التقية على الجمع العرفي الذي يقتضي تقديم روايات الطهارة، و يرى ان العمل بهذه الروايات إسقاط للمعارض رأسا، بخلاف الحمل على التقية. و معه فأي استبعاد يبقى في ان يكون الشيخ و أمثاله في فتواهم بالنجاسة و تقديم رواياتها مستندين الى وجوه اجتهادية من هذا القبيل؟! من قبيل: دعوى الجمع بين الطائفتين بحمل أخبار الطهارة على التقية، أو ترجيح أخبار النجاسة بالموافقة للكتاب أو بالأكثرية، أو بالموافقة للأصل لو بنى على أصالة الاحتياط في الشبهة الحكمية، أو بكونها قطعية الصدور إجمالا لتظافرها بخلاف أخبار الطهارة أو إيقاع التعارض بين الطائفتين و اختيار أخبار النجاسة و لو لنكتة الظن الشخصي على طبقها إذا بنى على التخيير، أو افتراض التساقط بين الطائفتين في الكتابي و الرجوع الى الآية كعام فوقي. فهذه وجوه سبعة يمكن افتراض كل واحد منها في بعض من المجمعين، بعد ان لاحظنا امكانية استبعادهم للجمع العرفي بالحمل على التنزه.

النقطة الخامسة: التشكيك في ثبوت الإجماع بمناقشة مستندات إثباته

______________________________
(1) تهذيب الأحكام، الجزء الأول من طبعة النجف عام 1390 ه‍ ق، ص 280- 281


244
بحوث في شرح العروة الوثقى3

النقطة الخامسة: التشكيك في ثبوت الإجماع بمناقشة مستندات إثباته ؛ ج‌3، ص : 244

..........

______________________________
و هذه النقطة تختلف عن النقطة الاولى في أن المقصود في الأولى إبراز المعارض الدال على وجود الخلاف، و المقصود هنا التشكيك في بعض دلائل الإجماع في نفسها. و قد أشرنا سابقا الى أن منشأ الوثوق بإجماع المتقدمين على المحقق (ره) و اتفاقهم على النجاسة مجموع أمور ثلاثة و هي: استفاضة نقل الإجماع، و عدم نقل الخلاف، و العبارات التي يمكننا تحصيلها مباشرة من أقوال المتقدمين مما يدل على الإفتاء بالنجاسة.

أما نقل الإجماع في كلمات العلماء المتقدمين على المحقق الحلي الذي تحفظ في المعتبر من دعوى الإجماع في غير المشرك، فقد وجد في جملة من كلماتهم (قدس اللّه أسرارهم).

فمنها: عبارة السيد المرتضى (قدس سره) في الانتصار، حيث ذكر: «ان مما انفردت به الإمامية القول بنجاسة سؤر اليهودي و النصراني و كل كافر. و خالف جميع الفقهاء في ذلك».

و التتبع في كتاب الانتصار يكشف عن انه لا يقصد بالإجماع- حين يدعيه- ما نريده من الاتفاق. فقد ادعى الإجماع في مسائل تشتمل على خلاف واضح، كدعواه الإجماع على انفعال البئر مع مخالفة العماني و ابن الغضائري و جملة من العلماء، و كدعواه الإجماع على اشتراط إسلام الذابح و غير ذلك.

و منها: عبارته أيضا في شرح الناصريات، و المتن لجده الأمي. قال الماتن: «سؤر المشرك نجس». فذكر في التعليق عليه: «عندنا ان سور كل كافر- بأي ضرب من الكفر كان كافرا- نجس» و كلمة (عندنا) ان أراد بها عند الطائفة لا عند الشارح دل على الإجماع بالمقدار الذي يلحظ ثبوته من الاتفاق في موارد إجماعاته المنقولة عادة.

و كل من العبارتين تعرضتا إلى نجاسة سؤر الكافر، و لم تتضمن‌


245
بحوث في شرح العروة الوثقى3

النقطة الخامسة: التشكيك في ثبوت الإجماع بمناقشة مستندات إثباته ؛ ج‌3، ص : 244

..........

______________________________
دعوى الإجماع على نجاسة الكافر مباشرة. و نجاسة السؤر أعم من نجاسة ذي السؤر عند جملة من فقهائنا الأقدمين، حتى ان صاحب المعالم (قدس سره) عقد بحثا في انه: هل توجد ملازمة بين طهارة ذي السؤر و طهارة سؤره؟، و ذكر: ان المشهور قالوا بالملازمة، و انه خالف جماعة من الفقهاء، كالشيخ في جملة من كتبه، و ابن الجنيد، و ابن إدريس. و ان جملة من الفقهاء قالوا فيما لا يؤكل لحمه مع طهارته بنجاسة سؤره و هذه النكتة تقتضي تعذر استكشاف الإجماع على نجاسة الكافر من نقل الإجماع على نجاسة سؤره في كلام السيد المرتضى و غيره.

و منها: عبارة الشيخ (قدس سره) في التهذيب حيث ذكر: «انه أجمع المسلمون على نجاسة المشركين و الكفار إطلاقا». و العبارة بظاهرها لا يمكن الأخذ بها، لعدم ذهاب المخالفين من المسلمين الى القول بنجاسة الكافر. فلا بد اما من تأويل كلمة المسلمين و ارادة الشيعة بها، و هو أمر بعيد في تلك المرحلة من الفقه الإمامي الذي كان منفتحا فيها على أقوال فقهاء العامة و الفقه السني عموما. أو تأويل النجاسة و ارادة ما يعم النجاسة المعنوية، و معه لا يبقى وثوق بمفاد النقل المذكور.

و منها: كلام ابن زهرة في الغنية، حيث قال: «و الثعلب و الأرنب نجسان، بدليل الإجماع المذكور. و الكافر نجس بدليله أيضا، و بدليل قوله تعالى «إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ». و هذه العبارة- كما ترى- لا تعطى إجماعا على نجاسة الكافر الا مثل الإجماع في الثعلب و الأرنب الذين لا إشكال في طهارتهما، أو على الأقل ليس فيهما ارتكاز عام للنجاسة.

فهذه هي عمدة عبارات نقل الإجماع الواصلة إلينا من فقهاء ما قبل المحقق الحلي (ره).

و اما الثاني- و هو عدم نقل الخلاف، أو نقله في نطاق محدود جدا‌


246
بحوث في شرح العروة الوثقى3

النقطة الخامسة: التشكيك في ثبوت الإجماع بمناقشة مستندات إثباته ؛ ج‌3، ص : 244

..........

______________________________
عن القديمين ابن الجنيد و ابن ابي عقيل، الذي كان خلافه المنقول بلسان الإفتاء بجواز سؤر الكافر، الأمر الذي يمكن تأويله بإرجاعه الى عدم انفعال الماء القليل بالملاقاة. فهناك نكتة بهذا الصدد تجب ملاحظتها و هي:

ان فقه الشيعة كان مبناه قبل مبسوط الشيخ الطوسي- كما أشار إليه في مبسوطه- على ممارسة الفتاوى بمقدار مضامين الروايات، و كانت كتب أصحابنا الفقهية مقتصرة عادة على الفتوى بمتون الاخبار مع حذف الأسانيد و التنسيق. و هذه الحقيقة تجعل دعوى الإجماع على التفصيلات و التفريعات التي لا تستنبط عادة من الروايات بصورة مباشرة، بل بالتفريع و الاجتهاد أقل أهمية من دعوى الإجماع على حكم في مسألة يترقب أخذه بعنوانه من الروايات. و نجاسة الكافر و ان لم تكن من التفريعات و التفصيلات، و لكنها ملحقة بها، لأن نجاسة الكافر لم تكن بهذا العنوان مطرحا للبحث عادة في متون كتبهم قبل الشيخ. و الوجه في ذلك: انه لم يرد في الاخبار الحكم بنجاسة الكافر بهذا العنوان، و لما كانت الروايات الواردة في النجاسات متجهة عادة الى بيان حكم السؤر، و متكفلة للأمر بغسل الثياب و البدن و نحوها مما يلاقي تلك النجاسات، نجد ان جملة من كتب الأقدمين خالية من فصل تحت عنوان النجاسات، كما يذكر في كتب الفقهاء المتأخرين عنهم، و انما يتعرضون الى النجاسات تحت عنوان (الأسئار) في باب المياه، و تحت عنوان (تطهير الثياب و الأواني)، تبعا لمضامين الروايات و لهذا لا نجد تعرضا لنجاسة الكافر بهذا العنوان في جملة مما وصل إلينا من عبائر الأقدمين، كهداية الصدوق، و مقنعه، و فقيهه، و المقنعة للمفيد و نحو ذلك. و ما دام طرح المسألة في الفقه القديم كان مطابقا لمتون الروايات كما رأينا، فما نستطيع ان نفترض الإجماع عليه على أفضل تقدير هو حرمة سؤر الكافر أو نجاسة هذا السؤر. و اما نجاسة نفس الكافر على نحو تسرى‌


247
بحوث في شرح العروة الوثقى3

النقطة الخامسة: التشكيك في ثبوت الإجماع بمناقشة مستندات إثباته ؛ ج‌3، ص : 244

..........

______________________________
النجاسة الى كل ما يلاقيه فقد تكون دعوى الإجماع على ذلك متأثرا بالاجتهاد و استنتاج القول بنجاسة الكافر من القول بحرمة سورة، مع انه لا ملازمة كما تقدم. و قد نقل السيد المرتضى القول بحرمة سؤر الكافر عن جملة من علماء السنة، مع انهم يفتون بطهارة الكافر.

و بهذا يظهر أن بالإمكان افتراض ذهاب عدد من الأقدمين إلى القول بالطهارة، و لا يضر بذلك عدم نقل الخلاف، بعد ان عرفنا ان نجاسة الكافر بهذا العنوان لم يكن مطرحا للحديث و البحث في الفقه القديم، بحكم تبعية الفقه القديم لمتون الروايات. فليس من الضروري أن ينعكس الخلاف في أصل نجاسة الكافر إذا كان هناك خلاف. نعم انعكس خلاف ابن ابي عقيل، لكن لا بصيغة ان الكافر طاهر، بل بصيغة على مستوى الطرح القديم للمسألة، حيث نقل عنه الفتوى بجواز سؤر الكافر و كذلك الشيخ المفيد.

و أما الثالث- أي عبارات الأقدمين الواصلة إلينا، و التي تدل على الفتوى بالنجاسة- فلا إشكال في وجود عبارات من هذا القبيل، و لكن بعضها لا يخلو من اشكال.

فمنها: عبارة الصدوق (قدس سره) في الهداية، إذ قال: «و لا يجوز الوضوء بسؤر اليهودي و النصراني و ولد الزنا و المشرك و كل من خالف الإسلام». و هذا تعبير مطابق للروايات كما هو دأبه. و قد لا يدل على النجاسة، خصوصا بلحاظ عطف ولد الزنا على الكفار، إذا افترضنا ان ان الصدوق يوافق المشهور القائلين بطهارته. و لم نجد في باب التطهير من النجاسات في هذا الكتاب أي تعرض للكافر.

و منها: عبارة الصدوق في المقنع في كتاب الصلاة قال ما حاصله:

(و لا تصل و قدامك الماثيل. و لا تجوز الصلاة في شي‌ء من الحديد.


248
بحوث في شرح العروة الوثقى3

النقطة الخامسة: التشكيك في ثبوت الإجماع بمناقشة مستندات إثباته ؛ ج‌3، ص : 244

..........

______________________________
و إياك أن تصلي في ثوب اصابه خمر. و لا تصل في السواد. و لا تصل على بواري اليهود و النصارى) و لم نجد له تعرضا للكافر في كتاب الطهارة من هذا الكتاب.

و العبارة المذكورة ليسست واضحة في الفتوى بنجاسة الكافر، حيث يلاحظ أنه ذكر مجموعة مما نهى عنه، و بعض تلك النواهي تنزيهية حتى عنده، و هذا يعني كونه بصدد ذكر ما في متون الروايات من أحكام مهما كان نوعها.

و منها: عبائر الصدوق في الفقيه، إذ يقول في باب المياه و طهرها و نجاستها: «و لا يجوز الوضوء بسؤر اليهودي و النصراني و ولد الزنا و المشرك و كل من خالف الإسلام، و أشد من ذلك سؤر الناصب».

و يقول في أبواب الصلاة و حدودها: «و روى أبو جميلة عن أبي عبد اللّه:

أنه سأله عن ثوب المجوسي ألبسه و أصلي فيه؟ قال: نعم. قال: قلت: يشربون (يشترون خ ل) الخمر؟ قال: نعم نحن نشتري السابرية فنلبسها و لا نغسلها».

و ينقل في باب الصيد و الذباحة عدة روايات، بعضها ينهى عن سؤر اليهودي و النصراني، و بعضها يأمر بغسل آنية المجوس.

و استظهار فتوى الصدوق بالنجاسة على أساس ذكر هذه الروايات ذات الألسنة المختلفة المناسبة للنجاسة، و عدم ذكر شي‌ء واضح الدلالة على الطهارة ليس ببعيد، و ان كان ليس بواضح.

و منها: كلام المفيد (قدس سره) و لنا منه أثران: أحدهما المقنعة التي شرحها الشيخ الطوسي. و الآخر: العبارة التي ينقلها المحقق في المعتبر عما كتبه المفيد في أجوبة بعض مسائله أما الثاني فهو قول بالكراهة. و أما الأول فقد ذكر فيه: «و إذا مس ثوب الإنسان كلب أو خنزير و كانا يابسين فليرش موضع مسهما بالماء. و كذلك الحكم في الفأرة و الوزغة يرش الموضع‌


249
بحوث في شرح العروة الوثقى3

النقطة الخامسة: التشكيك في ثبوت الإجماع بمناقشة مستندات إثباته ؛ ج‌3، ص : 244

..........

______________________________
الذي مساه. و كذلك ان مس واحد مما ذكرنا جسد الإنسان أو وقعت يده عليه، و كان رطبا، غسل ما أصاب منه و ان كان يابسا مسحه بالتراب و إذا صافح الكافر المسلم و يده رطبة بالعرق أو غيره غسلها من مسه بالماء و ان لم يكن فيها رطوبة مسحها ببعض الحيطان أو التراب». و هذا في نفسه ظاهر في النجاسة. و لكن هنا شيئا و هو: أن ديدن الأقدمين كان على ذكر المناهي و الأوامر الموجودة في الروايات، بدون أن يكونوا بصدد بيان الحرام من المكروه و الواجب من المستحب و ليس حال تلك النواهي و الأوامر حال ما يرد الآن في الرسائل العملية، فيصعب على هذا الأساس حصول الاطمئنان بان الأمر بالغسل في كلام فقيه من هذا القبيل إلزامي أو تنزيهي، خصوصا إذا لوحظ أن كلام المفيد المتقدم يشتمل على الفأرة و الوزغة، و على مسح اليد ببعض الحيطان إذا مسها الكافر يابسا، فهل كان يرى المسح بالحائط واجبا؟! و الغسل من الفأرة واجبا؟! أو أن هذا انسياق مع التنزيهات الموجودة في الروايات؟

و منها كلام السيد المرتضى في شرحه للناصريات، إذ يقول: «عندنا أن سؤر كل كافر- بأي ضرب من ضروب الكفر كان كافرا- نجس لا يجوز الوضوء به».

و منها: كلام الشيخ الطوسي في النهاية قال. «و لا بأس بأسئار المسلمين. و يكره استعمال سئور الحائض إذا كانت متهمة. و لا يجوز استعمال أسئار من خالف الإسلام من سائر أصناف الكفار.، و لا بأس بسئور كل ما يؤكل لحمه من سائر الحيوان».

و قال فيه أيضا: «فإن علمت فيه نجاسة أو أدخل يده فيه يهودي أو نصراني أو مشرك أو ناصب و من ضارعهم من أصناف الكفار فلا يجوز استعماله على حال».


250
بحوث في شرح العروة الوثقى3

النقطة الخامسة: التشكيك في ثبوت الإجماع بمناقشة مستندات إثباته ؛ ج‌3، ص : 244

..........

______________________________
و هاتان العبارتان تتعرضان لحكم سؤر الكافر، و لا يستفاد منهما نجاسة الكافر الا بناء على الملازمة بين الفتوى بعدم جواز استعمال سؤر الكافر و الفتوى بنجاسة الكافر.

و قال في باب تطهير الثياب من النهاية: «و إذا أصاب ثوب الإنسان كلب أو خنزير أو ثعلب أو أرنب أو فأرة أو وزغة و كان رطبا وجب غسل الموضع الذي أصابه فان لم يتعين الموضع وجب غسل الثوب كله و ان كان يابسا وجب أن يرش الموضع بعينه فان لم يتعين، رش الثوب كله و كذلك إن مس الإنسان بيده أحد ما ذكرناه أو صافح ذميا أو ناصبا معلنا بعداوة آل محمد وجب عليه غسل يده ان كان رطبا، و إن كان يابسا مسحها بالتراب».

و هذه العبارة لم يرد بها الإلزام في تمام الموارد قطعا فلا يمكن إثبات الفتوى بالنجاسة بها و انما تشتمل على متون الاخبار، لأن الشيخ نفسه في نفس النهاية يفتي بالجواز و الطهارة في جملة من الموارد إذ يقول:

«إذا وقعت الفأرة و الحية في الآنية أو شربتا منها ثم خرجا حيا لم يكن به بأس» و يقول أيضا: «و لا تنجس مياه الغدران بولوغ السباع و البهائم و الحشرات و سائر الحيوان فيها الا الكلب خاصة و الخنزير فإنه ينجسها ان كان دون الكر» نعم أقوى عبارة للشيخ الطوسي في النهاية تدل على النجاسة ما ذكره في كتاب الأطعمة و الأشربة إذ قال: «و لا تجوز مؤاكلة الكفار على اختلاف مللهم و لا استعمال أوانيهم إلا بعد غسلها بالماء، و كل طعام تولاه بعض الكفار بأيديهم و باشروه بنفوسهم لم يجز أكله، لأنهم أنجاس ينجس الطعام بمباشرتهم إياه». الا انه (قدس سره) يقول بعد هذا ببضعة أسطر: «و يكره ان يدعو الإنسان أحدا من الكفار الى طعامه فيأكل معه‌


251
بحوث في شرح العروة الوثقى3

النقطة الخامسة: التشكيك في ثبوت الإجماع بمناقشة مستندات إثباته ؛ ج‌3، ص : 244

..........

______________________________
و ان دعاه فليأمره بغسل يديه ثم يأكل معه ان شاء». و من هنا وقع المحقق قدس سره في ضيق لدى الجمع بين عبارتي الشيخ المتقاربتين، فحمل العبارة الثانية على فرض عدم الرطوبة و ان الغسل شي‌ء تعبدي و لعل هذا اولى من حمل النجاسة في العبارة الأولى على النجاسة المعنوية.

و عبارات الشيخ في المبسوط و في التهذيب أوضح في النجاسة، فقد صرح في المبسوط بان الكافر نجس. و استدل في التهذيب بالآية الكريمة التي مفادها- إذا تمت دلالتها- نجاسة نفس الكافر لا حرمة سورة فحسب.

و منها: ما في كتاب المراسم لسلار قال: «و ازالة النجاسة على أربعة أضرب: أحدها: بالمسح على الأرض و التراب. و الآخر: بالشمس و الآخر: برش الماء على ما مسه، كمس الخنزير و الكلب و الفارة و الوزغة و جسد الكافر إذا كان كل ذلك يابسا و الآخر: ما عدا ما ذكرناه من النجاسات، فإنه لا يزول الا بالماء.

و هذه العبارة و ان دلت على فتواه بنجاسة الكافر غير انه ساقه مساق الفارة و الوزغة فلا تكشف الفتوى عن ارتكاز الا بمقدار ما يمكن افتراضه فيها.

و منها: ما في كتاب الوسيلة إذ جاء فيه في أحكام الماء: «و إذا لم يبلغ كرا نجس بوقوع كل نجاسة فيه، و بمباشرة كل نجس العين مثل الكلب و الخنزير و سائر المسوخ، و كل نجس الحكم مثل الكافر و الناصب و بارتماس الجنب فيه. و لا ينجس بولوغ السباع و البهائم و الحشار منه سوى الوزغ و العقرب. إلخ».

و جاء فيه في باب غسل الثياب: «فما تجب إزالة قليله و كثيره أربعة أضرب: أحدها: يجب غسل ما مسه ان كانا رطبين أو كان أحدهما رطبا و الثاني: يجب رش الموضع الذي مسه يابس بالماء ان كان ثوبا.

و الثالث: يجب مسحه بالتراب ان مسه البدن يابسين. و الرابع: يجب‌


252
بحوث في شرح العروة الوثقى3

النقطة الخامسة: التشكيك في ثبوت الإجماع بمناقشة مستندات إثباته ؛ ج‌3، ص : 244

..........

______________________________
غسل ما اصابه بالماء على كل حال. فالأول و الثاني و الثالث: تسعة أشياء الكلب، و الخنزير، و الثعلب، و الأرنب، و الفارة، و الوزغة، و جسد الذمي، و الكافر، و الناصب، و الرابع: أحد و عشرون، و عد منها:

بول ما لا يؤكل لحمه، و ذرق الدجاج، و الخمر، و كل شراب مسكر و لعاب الكافر. إلخ.

و نلاحظ بوضوح: ان الكافر جعل في قائمة النجاسات التي تشتمل على الثعلب و الأرنب و الفارة و ذرق الدجاج، و مثل هذا لا يمكن ان يكشف عن ارتكاز غير قابل للمناقشة بشأن نجاسة الكافر.

و في كتاب جواهر الفقه لابن البراج، لم يقع نظري على ما له تعرض لنجاسة الكافر، نعم طرح هذا السؤال و هو: إذا كان كافرا و تيمم أو توضأ ثم أسلم هل يكون تيممه أو وضوئه صحيحا؟. ثم أجاب بالنفي لأن ذلك عبادة يفتقر في صحتها إلى النية و لا تصح عمن هو كافر. و مثله في الخلاف للشيخ الطوسي. و هذه العبارة لو استشم منها شي‌ء فإنما تستشم الطهارة لا النجاسة، إذ على القول بالنجاسة كان بالإمكان تعليل بطلان العمل بنجاسة الأعضاء و تنجس الماء، و لا أقل من حيادية العبارة المذكورة.

و منها: عبارة الغنية المتقدمة لابن زهرة، و قد افتى فيها بنجاسة الكافر و الثعلب و الأرنب.

و المستخلص من كل هذا العرض: ان كلمات الأقدمين جملة منها غير واضحة في الفتوى بنجاسة الكافر، و بعضها ظاهر في عدم النجاسة و جملة منها اقترنت فيها الفتوى بنجاسة الكافر بالفتوى بنجاسات أشياء أخرى لا يلتزم بنجاستها، الأمر الذي يوجب احتمال كون مدرك النجاسة في الجميع عندهم على نحو واحد، و هو مجرد الاستفادة من ظواهر الروايات على نحو يمكن رفع اليد عنه بظهور أقوى و الخالي من كل نقاط الضعف‌


253
بحوث في شرح العروة الوثقى3

النقطة السادسة: ؛ ج‌3، ص : 254

..........

______________________________
هذه ليس الا بعض تلك الكلمات.

النقطة السادسة:

ان الروايات الدالة على الطهارة تارة: تلحظ بما هي حجة تعبدا على نفي النجاسة، و هذا استدلال بالسنة و سوف يأتي الكلام عنه. و أخرى: تلحظ بما هي قرينة ظنية بقطع النظر عن دليل الحجية و ما يقتضيه على نحو يمكن استخدامها كعامل مزاحم لتأثير الإجماع في حصول العلم بالنجاسة، و هذا هو المقصود في المقام. لأن حجية الإجماع ليست الا بسبب افادته للعلم بحساب الاحتمالات، فيكون كل كاشف ظني على خلافه مؤثرا بدرجة ما في المنع عن تكون العلم على أساسه.

غير أن القرينة الظنية قد لا تكون ذات أهمية معتد بها في المقام و النكتة في ذلك. ان صدور أخبار الطهارة مترقب على كل حال، سواء كان الحكم هو الطهارة أو النجاسة. أما على الأول فلأجل بيان الواقع.

و اما على الثاني. فلأجل توفر ظروف التقية عادة، إذ في المسائل التي يعم الابتلاء بها و يكون اتفاق العامة فيها على خلاف المتبني من قبل أهل البيت يبعد عدم وقوع بعض الحالات التي تفرض التقية فيها بيان الحكم على وفقها و لهذا نلاحظ في مسائل من هذا القبيل وجود روايات على طبق مذهب العامة عادة الى جانب الروايات التي تبين الحكم الواقعي. و عليه فلا تكون لاخبار الطهارة كاشفية تكوينية معتدا بها. و لكن بالرغم من ذلك فان لها كاشفية مزاحمة على أي حال، إذا لاحظنا ان بعض ألسنة تلك الروايات و خصوصياتها لا يناسب التقية، من قبيل ما دل على النهي عن الوضوء بسؤر الكتابي مع استثناء صورة الاضطرار، و من قبيل كون الراوي لبعض الروايات مثل علي بن جعفر، خصوصا مع كثرة روايات الطهارة و صراحتها و عدم وجود شي‌ء من التذبذب و التزلزل في البيان في أكثرها.

و هناك مبعدات متفرقة في الفقه للقول بالنجاسة: من قبيل: جواز‌


254
بحوث في شرح العروة الوثقى3

و أما الكتاب الكريم ؛ ج‌3، ص : 255

..........

______________________________
نكاح الكتابية مع استبعاد إمضاء الحياة الزوجية بين الطاهر بالذات و النجس بالذات، و تشريع تغسيل الكتابي للمسلم في بعض الحالات، و نحو ذلك.

و حيث ان أكثر هذه النقاط نختص بمثل الكتابي من الكفار، فما يمكن أن نستخلصه من مجموع ما تقدم سقوط الإجماع المدعى عن الحجية بالنسبة إلى الكتابي، و من هو من قبيله من الكفار. و أما بالنسبة إلى المشرك و من هو أسوء منه، فان لم يمكن التعويل على الإجماع فيه جزما لضئالة منافذ التشكيك، فلا أقل من التعويل عليه بنحو الاحتياط الوجوبي‌

و أما الكتاب الكريم

فقد استدل على النجاسة بقوله تعالى «إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلٰا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرٰامَ بَعْدَ عٰامِهِمْ هٰذٰا» «1».

و تحقيق الكلام في هذه الآية يقع في ثلاث جهات:

الجهة الأولى: في إمكان استفادة النجاسة بالمعنى المبحوث عنه من كلمة (نجس) في الآية. و توضيحه: ان كلمة نجس- بفتح الجيم- مصدر، و النجاسة اسم مصدر، و أما الوصف فهو نجس بكسر الجيم.

نعم ذكر بعض: ان كلمة نجس بفتح الجيم تأتي أيضا بمعنى الوصف.

و هذا لو سلم فلا شك في أن الظاهر من الآية الكريمة إرادة المعنى الأول أي المصدر، إذ بناء على الوصفية كان مقتضى الطبع المطابقة بين الوصف و الموصوف في الجمع، بخلافه على المصدرية، لأن نفس العناية التي لا بد من إعمالها في الشخص الواحد عند حمل المصدر عليه يمكن إعمالها في مجموع الجماعة.

و عليه يقع الكلام في تعيين المراد من المعنى المصدري في الآية. فإن القذارة تتصور على أنحاء ثلاثة:

الأول: قذارة حسبة قائمة بالجسم خارجا.

______________________________
(1) سورة التوبة الآية 28


255
بحوث في شرح العروة الوثقى3

و أما الكتاب الكريم ؛ ج‌3، ص : 255

..........

______________________________
الثاني: قذارة قائمة بالشخص أو المعنى و قد يعبر عنها بالخبث و سوء السريرة، و يقول الراغب الأصفهاني: «ان هذه قذارة تدرك بالبصيرة لا بالبصر».

الثالث: قذارة قائمة بالجسم غير قابلة للتعدي إلى الآخر. فمثلا الخمر مسكر، و الإسكار صفة لجسم الخمر، فاذا كان الإسكار قذارة واقعية أو اعتبارية فالخمر بجسمه قذر، كما في القسم الأول، الا ان هذه القذارة بناء على هذا التصوير لها لا تقبل السريان، بخلاف القسم الأول و هذا هو الذي يشار إليه في الروايات الدالة على طهارة الخمر بلسان ان الئوب لا يسكر.

ثم ان هذه القذارات الثلاث تارة: تكون حقيقية كما في الأجسام الحاملة عرفا للقذارة المتعدية، و في الإنسان الخبيث، و في الخمر بناء على كون الإسكار قذارة واقعية. و أخرى: تكون اعتبارية، فالقذارة الاعتبارية انما هي اعتبار لنفس هذه القذارات الثلاث. اما اعتبار القذارة الاولى:

فمن قبيل اعتبار الشارع نجاسة الكافر بناءا على نجاسته. و اما اعتبار القذارة الثانية: فهذا مما لا نحتمله في الشريعة، و لكن لو تمت اخبار تنقيص و تخبيث ولد الزنا احتمل حملها على هذا المعنى. و اما اعتبار القذارة الثالثة:

فمن قبيل الجنابة و الحيض و نحوهما من الأحداث.

فالجنابة مثلا ليست قذرا معنويا قائماً بالروح، كما يقال: ان الحدث ظلمة نفسانية، فإن هذا كلام شعري، بل المستفاد من الأخبار كون الجنابة حالة في الجسم، و لهذا ورد أن تحت كل شعرة جنابة و هذه الحالة تعتبر قذارة عند الشارع، بدليل التعبير عن الغسل بالطهارة، كما في قوله:

«وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا». فهي قذارة قائمة بوصف في الجسم و لا تسري الى جسم آخر بالملاقاة، لأن ذلك الوصف لا يسري كذلك. و لهذا جاء‌


256
بحوث في شرح العروة الوثقى3

و أما الكتاب الكريم ؛ ج‌3، ص : 255

..........

______________________________
في روايات طهارة الثوب الملاقي لبدن الجنب: ان الثوب لا يجنب و ورد في عرق الجنب و الحائض: ان الجنابة و الحيض حيث وضعهما اللّه و العجب ان بعضهم- بعد أن ذكر النجاسة الشرعية التي هي قذارة جسمية و القذارة المعنوية- أنكر تصور قسم ثالث من القذارة، و ادعى:

ان فرض قذارة قائمة بالجسم غير القذارة الأولى غير مألوف و لا مقبول عند أهل الشرع، مع أنا لاحظنا أن هذا القسم الثالث هو المستفاد من الشرع في مثل الجنابة و الحيض.

و هكذا يتضح: أن القذارة متى كانت صفة ابتدائية للجسم كانت قذارة جسمية قابلة للسريان بالملاقاة و متى كانت قائمة بصفة ثابتة للجسم و لم تكن تلك الصفة قابلة للسريان بالملاقاة فلا تسري القذارة إلى الملاقي بالرغم من كونها قذارة جسمية.

و تعدد أقسام القذارة لا ينافي أنها ذات معنى واحد معروف. و الأقسام المذكورة انما تختلف في مركز القذارة و النجاسة، فهو تارة الجسم، و أخرى المعنى أو النفس، و ثالثة صفة قائمة بالجسم. و لا انصراف الى أحد الأقسام إلا بضم المناسبات و الملابسات. و النجاسة الشرعية ليست معنى آخر للفظ القذارة، و انما هي اعتبار للنجاسة الحقيقية.

و على هذا الأساس فقد يستشكل على الاستدلال بالآية الكريمة بأن لفظة النجاسة يمكن حملها على معناها الحقيقي اللغوي، أي القذارة فلا تعطى إلا الطعن في المشركين بالقذارة و الوساخة، و لا موجب لحملها على الفرد الاعتباري من القذارة المدعاة في المقام.

و قد يقرب استفادة الفرد الاعتباري من الآية الكريمة بعدة وجوه:

الوجه الأول: دعوى ان هذا المعنى هو الإصلاح الشرعي في زمن النبي (ص)، إما على أساس الحقيقة الشرعية، أو القرينة العامة.

و أورد عليه السيد الأستاذ (دام ظله): بأن هذا يتوقف على تسليم‌


257
بحوث في شرح العروة الوثقى3

و أما الكتاب الكريم ؛ ج‌3، ص : 255

..........

______________________________
أصل تشريع النجاسة في الجملة في زمان نزول الآية، و هذا غير معلوم لما نعلم من أن الأحكام بينت بالتدريج و لكن التحقيق أن المظنون قويا تشريع أصل النجاسة قبل هذه الآية، فإن هذه الآية نزلت في سورة التوبة كما هو معلوم في السنة التاسعة من الهجرة في أواخر أيام النبي (ص) و المظنون قويا تشريع عدة نجاسات الى ذلك الزمان. و يشهد لذلك أمور:

منها: ان تدريجية الأحكام انما كانت لمصلحة تكليف الناس و أعدادهم و من المعلوم ان نجاسة بعض النجاسات على وفق الطبع العقلائي فلا موجب لتأخير تشريعها. و حينما دخل الرسول (ص) المدينة كان متعارفا عند أهل المدينة الاستنجاء بالحجر أو الماء، و كان البراء بن معرور الأنصاري أول من استنجى بالماء من المسلمين فنزلت في حقه «إِنَّ اللّٰهَ يُحِبُّ التَّوّٰابِينَ وَ يُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ» «1».

و منها: ان بعض روايات الاسراء- و هو قبل الهجرة- فيها إشارة إلى النجاسة، إذ يقارن فيها بين هذه الأمة و الأمم السالفة التي قصرت فحملت عليهم تكاليف شاقة في حالة اصابة البول للبدن و نحوه، و اما هذه الأمة فقد جعل الماء لها طهورا.

و منها: ما ورد في بعض روايات حب النبي (ص) للحسن أو للحسين- على اختلاف متونها-: من انه كان في حجر النبي فبال فأريد أخذه أو تأنيبه، فمنع النبي (ص) و دعا بماء فصبه عليه، و في بعضها ان النبي: «بال عليه الحسن و الحسين قبل ان يطعما فكان لا يغسل بولهما من ثوبه».

و منها: قوله تعالى في سورة المائدة «فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً»، بناء على كون الطيب بمعنى الطاهر الشرعي، كما هو مقتضى استدلال الفقهاء‌

______________________________
(1) سورة البقرة الآية 222


258
بحوث في شرح العروة الوثقى3

و أما الكتاب الكريم ؛ ج‌3، ص : 255

..........

______________________________
بالآية على اشتراط طهارة التراب. و افتراض طاهر كذلك يساوق افتراض تشريع النجاسة. و المنقول ان سورة المائدة قبل سورة التوبة فإذا أوجبت هذه الشواهد و غيرها الظن الاطمئناني بسبق تشريع النجاسة لم يتم الجواب المذكور.

غير ان الصحيح مع هذا عدم تمامية أصل الوجه، لأن النجاسة و ان كانت مشرعة إجمالا في ذلك الزمان، و لكن المتتبع يكاد ان يحصل له القطع بان لفظة النجاسة لم تكن قد خصصت للتعبير عن القذارة الشرعية، و انما كان يعبر عنها بتعبيرات مختلفة في الموارد المتفرقة.

و لهذا نلاحظ أن مجي‌ء لفظ (النجاسة) في مجموع الأحاديث المنقولة عن النبي (ص) اما معدوم و اما نادر جدا، لا في طرقنا فقط، بل حتى في روايات العامة التي تشتمل على ستمائة حديث عن النبي (ص) في أحكام النجاسة، و لم أجد فيها التعبير بعنوان النجس إلا في روايتين:

في إحداهما نقل الراوي: ان رسول اللّه (ص) قال: «ان الهر ليس بنجس»، و في الأخرى: نقل ان صحابيا واجه النبي و هو جنب فاستحى و ذهب و اغتسل و اعتذر من النبي فقال (ص) «سبحان اللّه ان المؤمن لا ينجس».

و هذا يكشف عن ضئالة استعمال لفظة النجاسة و دورانها في لسان الشارع، الأمر الذي ينفى استقرار الاصطلاح الشرعي بشأن هذه اللفظة.

الوجه الثاني: دعوى حمل النجاسة على النجاسة الشرعية بقرينة حالية خاصة، و هي ظهور حال المولى في كونه في مقام المولوية، فلو حمل اللفظ على النجاسة غير الشرعية الاعتبارية لكان هذا اخبارا من قبل المولى عن أمر خارجي، و هو خلاف الظهور الحالي المذكور.

و يرد عليه- مضافا الى إمكان منع هذا الظهور في القرآن الكريم الذي له أغراض تربوية شتى- ان نجاسة المشرك ذكرت تعليلا لحكم شرعي و هذا‌


259
بحوث في شرح العروة الوثقى3

و أما الكتاب الكريم ؛ ج‌3، ص : 255

..........

______________________________
مناسب لمقام المولوية، سواء أريد بالعلة النجاسة الشرعية أو النجاسة الواقعية.

الوجه الثالث: دعوى أن الأمر دائر بين القذارة الخارجية و القذارة الاعتبارية، و الأول لا يحتمل كونه علة لمنع المشركين من الاقتراب الى المسجد الحرام، إما لوضوح عدم انطباقها على كثير منهم، و إما لوضوح أن مجرد القذارة الخارجية لا يوجب حرمة الاقتراب، فيتعين الثاني.

و يرد عليه- مضافا الى أن الحمل على الثاني يقتضي أيضا الالتزام بكون النجاسة الشرعية لشي‌ء مناطا لحرمة دخوله و لو لم يلزم سراية أو هتك- انه يوجد فرد معنوي من القذارة الخارجية كما تقدم، و الحمل عليه لا يرد عليه الاشكال المذكور.

ثم انه يوجد مبعد لما تدعيه هذه الوجوه الثلاثة من الحمل على النجاسة الاعتبارية، و هو أن الآية الكريمة سيقت مساق حصر حقيقة المشركين بأنهم نجس بلحاظ أداة الحصر، فكأنه لا حقيقة لهم سوى ذلك، و هذا انما يناسب النجاسة الحقيقية المعنوية لا النجاسة الاعتبارية.

الوجه الرابع: دعوى الإطلاق في كلمة (نجس)، و انه بالإطلاق تدل الآية الكريمة على نجاسة المشرك بتمام شئونه و مراتبه نفسا و بدنا، فتثبت النجاسة المعنوية و الجسمية. و بعد معلومية عدم النجاسة الجسمية الحسية في بدن المشرك تحمل على نجاسة البدن الاعتبارية. فليس الأمر دائرا بين نجاسة النفس و نجاسة البدن، ليدعى عدم تعين الثاني، بل الإطلاق كفيل باثباتهما معا.

و يرد عليه: أن النفس و البدن ليسا فردين من الموضوع في القضية لتثبت بالإطلاق نجاستهما معا، بل مرجعهما الى نحوين من ملاحظة المشرك فقد يلحظ بما هو جسم، و قد يلحظ بما هو شخص معنوي. و لحاظه بما هو جسم و معنى معا و ان كان أمرا معقولا، و لكنه لا يفي به الإطلاق‌


260
بحوث في شرح العروة الوثقى3

و أما الكتاب الكريم ؛ ج‌3، ص : 255

..........

______________________________
لأن الإطلاق ينفي أخذ قيد زائد في الموضوع، و ليس له نظر الى توسعة اللحاظ، و إدخال حيثيات عديدة تحته، بل يحتاج ذلك الى قرينة خاصة:

و عليه فالظاهر عدم تمامية الحمل على المعنى الشرعي فلا يتم الاستدلال بالآية الكريمة.

الجهة الثانية: في أنه بعد افتراض حمل النجاسة على الاعتبار الشرعي قد يقال: أن الأمر يدور بين عنايتين: إحداهما: عناية حمل المبدأ على الذات. و الأخرى: عناية تقدير كلمة (ذو). و لا مرجح للعناية الأولى و مع احتمال العناية الثانية لا تدل الآية الا على كون المشرك ذا نجاسة، و هذا يلائم مع النجاسة العرضية.

و يرد عليه- مضافا الى ان عناية حمل المصدر أخف من عناية التقدير عرفا- ان مقتضى إطلاق كون المشرك ذا نجاسة عينية نجاسته كما هو واضح و حصر حقيقة المشرك بالنجاسة انسب بالنجاسة العينية من النجاسة العرضية كما لا يخفى.

الجهة الثالثة: في انه بعد افتراض تمامية الاستدلال بالآية الكريمة على نجاسة المشرك، هل يمكن ان نثبت بها نجاسة الكتابي و غيره من أقسام الكفار؟. و توضيح ذلك: ان المشرك تارة: يراد به في الآية الكريمة معناه اللغوي، و هو كل من كان متلبسا بالشرك في الواقع سواء دان بعنوان الشرك أولا. و اخرى: يراد به معناه الاصطلاحي، الذي كان المجتمع الإسلامي يسير عليه، تمييزا للمشرك عن الذمي، و هو عبارة: عمن يدين بالشرك بعنوانه، فلا ينطبق على من كان واقع عقيدته شركا و ان لم يقبل عنوان الشرك لنفسه كالنصراني.

فعلى الأول لا إشكال في شمول الآية لأقسام من الكفار الكتابيين‌


261
بحوث في شرح العروة الوثقى3

و أما الكتاب الكريم ؛ ج‌3، ص : 255

..........

______________________________
كالنصارى و المجوس، الا ان نجاسة النصراني حينئذ تكون بوصفه مشركا فلا تشمل نصرانيا لو اتفق ايمانه بالنصرانية دون تورط في شركها و تثليثها.

و قد يناقش على هذا التقدير بدعوى: ان الأخذ بإطلاق كلمة (المشرك) في الآية غير ممكن، لان المشرك عنوان يطبق على كثير من العصاة المسلمين أيضا كالمرائى مثلا، فلا بد ان يكون المقصود نوعا خاصا من المشركين، و معه لا يمكن التمسك بإطلاق الآية للمشرك من الكتابيين «1».

و يندفع ذلك: بان المشرك و ان كان ينطبق على كل من أشرك شخصا مع اللّه تعالى في مقام من المقامات المختصة به من وجوب الوجود، أو الخالقية أو الألوهية، أو الحاكمية و وجوب الطاعة، أو الاستعانة الغيبية، و غير ذلك، الا انه ينصرف إلى الإشراك بلحاظ مرتبة الألوهية و العبادة، لأنها هي المرتبة التي يكون اختصاص اللّه تعالى بها امرا مركوزا. هذا مضافا الى ان ارتكاز طهارة المسلم و لو كان مرائيا و عاصيا يكون بمثابة القرينة المتصلة على تقييد الإطلاق، و معه لا موجب لرفع اليد عن الإطلاق إلا بمقدار اقتضاء هذه القرينة اللبية على التقييد.

و على التقدير الثاني تختص الآية بالمشرك المقابل للكتابي كما هو واضح.

و ليس من المجازفة دعوى ظهور كلمة المشرك عند الإطلاق في الثاني، لكونه اصطلاحا عاما في المجتمع الإسلامي. و مما يؤيد المعنى الثاني جعل الشرك ملاكا لمنع المشركين من الاقتراب الى المسجد الحرام، فان وضوح ان من يقصد بهذا المنع- عمليا- هم المشركون الوثنيون- دون الكتابيين الذين لا يقدسون الكعبة أصلا و ليسوا في معرض الوصول إليها- قد يشكل قرينة على ذلك. و كذلك ما تصدى له النص القرآني عقيب ذلك من تطمئن أهل مكة بقوله «وَ إِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّٰهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شٰاءَ» فان‌

______________________________
(1) التنقيح ج‍ 2 ص 44


262
بحوث في شرح العروة الوثقى3

و اما السنة ؛ ج‌3، ص : 263

 

..........

______________________________
العيلة انما تخاف بسبب تحريم مجي‌ء المشركين الوثنيين الذين اعتادوا المجي‌ء و يكفى على اي حال افتراض تكافئ المعنيين في إجمال الآية الكريمة.

و اما السنة

، فهناك عدة روايات يستدل بها على النجاسة.

و منها: رواية سعيد الأعرج

قال: «سألت أبا عبد اللّه عن سؤر اليهودي و النصراني. فقال: لا» «1».

و هي من حيث السند تامة، إذ لا غبار عليها الا من ناحية سعيد الأعرج الذي لم يوثق بهذا العنوان و التغلب على ذلك يتم بإثبات وثاقته:

اما بلحاظ رواية صفوان عنه بسند صحيح. و إما بإثبات اتحاده مع سعيد ابن عبد الرحمن الأعرج الذي وثقه النجاشي صريحا، بتقريب: ان الشيخ في فهرسته اقتصر على ذكر سعيد بن عبد الرحمن الأعرج السمان. و النجاشي في كتابه اقتصر على ذكر سعيد بن عبد الرحمن الأعرج، و انهى طريقه إليه إلى صفوان. فلو كان سعيد هذا متعددا للزم اقتصار الشيخ في كل من كتابيه على أحدهما، و عدم تعرض النجاشي لمن تعرض له الشيخ في فهرسته بالنحو المذكور. كما نلاحظ أيضا انتهاء طريقي الشيخ و النجاشي معا الى صفوان.

و أما من حيث الدلالة، فتقريب مفادها بنحو يتم الاستدلال ان يقال:

بأن السؤال عن سؤر الكافر قد يكون سؤالا عن حكمه الوضعي من حيث الطهارة و النجاسة، و قد يكون سؤالا عن حكمه التكليفي و جواز استعماله و عدمه و بقرينة كلمة (لا) في الجواب يعرف ان السؤال عن الحكم التكليفي، و لكن حيث لا موجب في المرتكز العام لعدم جواز الاستعمال إلا النجاسة كان الجواب دالا بالالتزام العرفي على النجاسة.

و يرد عليه: ان سؤر الإنسان نمنع فيه وجود ارتكاز يقضى بعدم‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 3 من أبواب الأسئار

 

 

 

263
بحوث في شرح العروة الوثقى3

و منها: رواية أبي بصير ؛ ج‌3، ص : 264

..........

______________________________
تأثر الحكم التكليفي فيه الا بالطهارة و النجاسة، لأن ما ورد في سؤر المؤمن و سؤر الجنب و ولد الزنا و الحائض، يشكل موجبا لافتراض ان المرتكزات المتشرعية كانت لا تأبى عن اكتساب السؤر منقصة أو كمالا بلحاظ الجهات المعنوية لصاحب السؤر، فلا يكون النهي عن سؤر الكافر كاشفا عن النجاسة.

و منها: رواية أبي بصير

عن أحدهما (ع): «في مصافحة المسلم اليهودي و النصراني؟ قال: من وراء الثوب، فان صافحك بيده فاغسل يدك» «1». و سندها لا بأس به، لو لا الاشكال بلحاظ وقوع و هيب بن حفص في طريق الكليني، و القاسم في طريق الشيخ، و كل منهما محتمل الانطباق على غير الثقة. و اما دلالتها على النجاسة فبلحاظ الأمر بغسل اليد، كما هو الحال في سائر موارد الأمر بالغسل.

و لكن قد يعترض على ذلك: أولا: بأن الغالب في مورد المصافحة عدم الرطوبة، و حينئذ يكون ارتكاز عدم سراية النجاسة بدون رطوبة قرينة على ان الأمر بالغسل ليس بلحاظ النجاسة، و انما هو أمر تنزيهي و ثانيا: بان الملحوظ لو كان هو النجاسة لوقع المحذور في المصافحة من وراء الثوب أيضا، إذ يتنجس الثوب حينئذ.

و لا بأس بالاعتراض الأول. و اما الثاني فهو مبني على ما هو مقتضى الطبع من ان الذي لا يريد ان يصافح باليد هو الذي يضطر الى ان يصافح من وراء الثوب. و اما إذا لاحظنا حاق عبارة الحديث و لم نستظهر التسامح فيها، رأينا انه يقول: فان صافحك بيده فاغسل يدك، بدلا عن القول:

ان صافحته بيدك فاغسل يدك و ذلك يناسب مصافحة الكافر من وراء ثوبه فلا يبتلى المسلم بنجاسة لباسه.

و منها: صحيحة محمد بن مسلم

عن ابي جعفر (ع): «في رجل‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 14 من النجاسات


264
بحوث في شرح العروة الوثقى3

و منها: صحيحة علي بن جعفر ؛ ج‌3، ص : 265

..........

______________________________
صافح رجلا مجوسيا. فقال: يغسل يده و لا يتوضأ»
«1» و تقريب الاستدلال بها كما تقدم.

و يرد عليه ان حمل الحديث على سراية النجاسة و لو بدون رطوبة على خلاف الارتكاز العرفي، و حمله على السراية في فرض وجود الرطوبة حمل على فرد نادر، لان الغالب في المصافحة عدمها، فيتعين الحمل على احتمال ثالث، و هو ان نفس المصافحة للمجوس بذاتها قذر يطرأ على اليد من قبيل قذارة الجنابة و الحيض، و هذا أحد الأقسام الثلاثة للقذارة التي تقدمت عند الحديث عن الآية الكريمة. و لا بد في رفع الأوصاف القذرة التي تطرأ على الجسم من استعمال الماء. غاية الأمر ان بعضها يرفع بالغسل كما في قذر الجنابة و الحيض، و بعضها بالوضوء كما في قذر الريح مثلا، و بعضها بالغسل (بالفتح) فقط كما في قذر المصافحة، إذ نلاحظ ان الامام عليه السلام نفى الوضوء و اثبت الغسل. و كم فرق بين قذارة المصافحة و قذارة يد الكافر السارية إلى يد المسلم بسبب المصافحة. و يؤيد حمل الرواية على ما ذكرناه رواية أخرى لخالد القلانسي قال: «قلت لأبي عبد اللّه (ع): ألقى الذمي فيصافحني. قال: امسحها بالتراب و بالحائط. قلت: فالناصب قال:

اغسلها» «2» فكان المصافحة مع الكافر قذارة تشتد كلما كان الكافر أشد كفرا أو عداوة، و لهذا يكتفى في إزالة قذارتها بالمسح أحيانا.

و منها: صحيحة علي بن جعفر

انه سأل أخاه موسى (ع): «عن النصراني يغتسل مع المسلم في الحمام. قال: إذا علم انه نصراني اغتسل بغير ماء الحمام، الا ان يغتسل وحده على الحوض فيغسله ثم يغتسل» «3».

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 14 من النجاسات

(2) وسائل الشيعة باب 14 من النجاسات

(3) وسائل الشيعة نفس الباب المتقدم


265
بحوث في شرح العروة الوثقى3

و منها: ما في الوسائل عن البرقي في المحاسن ؛ ج‌3، ص : 266

..........

______________________________
و مفادها التفصيل بعد فرض العلم باغتسال النصراني بين حضوره و عدم حضوره و من هنا قد يستشكل: بأن النصراني إذا كان نجسا و لم يكن ماء الحوض معتصما بالاتصال بالمادة و تنجس بسببه، فأي فرق بين حضوره و عدمه؟.

و يندفع: بان الاستشكال تارة: يكون بلحاظ انفعال ما في الحوض الصغير. و اخرى: بلحاظ التقاطر على المسلم من المسيحي. و ثالثة: بلحاظ نجاسة نفس جدار الحوض و نحوه بيد النصراني مع احتياج المسلم الى مسه.

و المنظور بالتفصيل في الرواية الجهتان الأخيرتان بعد فرض علاج الجهة الأولى بإيصال الماء بالمادة، و بذلك يتضح الفرق بين فرضي الحضور و عدمه و لا بأس بدلالة الرواية على نجاسة الكافر، إذ لو لا ذلك لم يكن هناك موجب لاشتراط اغتسال المسلم وحده، و امره بغسل الحوض أولا.

و منها: ما في الوسائل عن البرقي في المحاسن

، بسند معتبر إلى زرارة عن ابي عبد اللّه (ع): «في آنية المجوس، قال: إذا اضطررتم إليها فاغسلوها بالماء» «1». و تصحيح نقل الوسائل للرواية من المحاسن يكون بالتركيب بين طريق الشيخ الى المحاسن و طريق صاحب الوسائل إلى الشيخ و دلالتها على النجاسة واضحة، باعتبار ظهور الأمر بالغسل في نجاسة الآنية و حمل النجاسة على النجاسة الحاصلة بسبب النجاسات التي يساورها المجوسي في طعامه و شرابه خلاف الظاهر، لمنافاته للإطلاق، و لظهور العنوان في كون استعمال المجوسي للآنية المصحح لإضافتها إليه هو الميزان في الأمر بالغسل.

و منها: صحيحة محمد بن مسلم

قال: «سألت أبا عبد اللّه عن آنية أهل الذمة و المجوس. قال: لا تأكلوا من آنيتهم، و لا من طعامهم الذي يطبخون، و لا في آنيتهم التي يشربون فيها الخمر» «2». و تقريب الاستدلال‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 14 من أبواب النجاسات

(2) وسائل الشيعة باب 14 من أبواب النجاسات


266
بحوث في شرح العروة الوثقى3

و منها: صحيحة علي بن جعفر عن أخيه(ع) ؛ ج‌3، ص : 267

..........

______________________________
واضح. غير ان قوله في الجملة الأخيرة «و لا في آنيتهم التي يشربون فيها الخمر) ان استفدنا منه كونه تقييدا للنهي عن الأواني الوارد في صدر الرواية دل على عدم نجاسة الكافر، و ان نجاسة أوانيه بسبب أخر. و يكفى لسقوط الاستدلال إجمال الفقرة الأخيرة من هذه الناحية، لأنه يكون من اتصال ما يحتمل قرينيته و هو يوجب الإجمال.

و منها: صحيحة علي بن جعفر عن أخيه (ع)

قال: «سألته عن مؤاكلة المجوسي في قصعة واحدة، و أرقد معه على فراش واحد، و أصافحه قال: لا» «1». و الاستدلال بها على النجاسة يتوقف على استبعاد ان يكون الكلام- سؤالا و جوابا- متجها الى حال هذه العناوين من حيث الحزازة النفسية فيها لا من حيث سراية النجاسة. و اما مع افتراض هذا الاحتمال بنحو لا ظهور في خلافه فلا يمكن الاستدلال بالرواية على النجاسة بل يلتزم بحرمة هذه العناوين، ما لم تقم قرينة من الخارج على الترخيص و يؤيد هذا الاحتمال غلبة انتفاء الرطوبة في الحالات المذكورة كما أشير سابقا.

و منه يظهر الحال في رواية عبد اللّه بن يحيي الكاهلي قال: «سألت أبا عبد اللّه عن قوم مسلمين يأكلون و حضرهم مجوسي أ يدعونه الى طعامهم؟

فقال: اما انا فلا أواكل المجوسي، و اكره ان أحرم عليكم شيئا تصنعون في بلادكم» «2» فإنه لو سلم ان استنكاف الامام (ع) عن مؤاكلة المجوسي كان بسبب التحريم، و ان التحريم عام، و امتناعه عن التحريم على الآخرين كان بمعنى امتناعه عن إخراجهم عما تقتضيه التقية من المساورة، فلا يدل التحريم المذكور على النجاسة بعد عدم انحصار ما يترقب كونه منشأ لذلك في الارتكاز المتشرعي العام في النجاسة.

______________________________
(1) وسائل الشيعة الباب السابق

(2) وسائل الشيعة باب 53 من أبواب الأطعمة المحرمة


267
بحوث في شرح العروة الوثقى3

و منها: صحيحة علي بن جعفر عن أخيه(ع) ؛ ج‌3، ص : 268

و منها: صحيحة علي بن جعفر عن أخيه (ع)

______________________________
قال: «سألته عن فراش اليهودي و النصراني ينام عليه. قال: لا بأس، و لا يصلى في ثيابهما و قال: لا يأكل المسلم مع المجوسي في قصعة واحدة، و لا يقعده على فراشه و لا مسجده، و لا يصافحه. قال: و سألته عن رجل اشترى ثوبا من السوق للبس لا يدري لمن كان، هل تصلح الصلاة فيه؟ قال: ان اشتراه من مسلم فليصل فيه، و ان اشتراه من نصراني فلا يصل فيه حتى يغسله»
«1».

و تفصيل الكلام في هذه الرواية انا إذا لاحظنا السؤال الأول مع جوابه لم نجد فيه دلالة على النجاسة، لعدم اشتمال الجواب على الأمر بالغسل الظاهر في ثبوت النجاسة للمغسول، و عدم كون النجاسة هي النكتة الوحيدة المحتملة ارتكازا لتلك النواهي، لكي ينسبق الذهن العرفي إليها، خصوصا مع عدم توفر الرطوبة السارية غالبا في إقعاد الكافر على الفراش أو مصافحته و يؤيد اتجاه النظر الى غير النجاسة ما ورد في رواية أخرى لعلي بن جعفر «2» عطف فيها على العناوين المذكورة عنوان المصاحبة، الواضح عدم كونها منجسة، فإن هذا يعني ملاحظة حيثيات نفسية للحزازة.

و اما إذا لوحظ جواب السؤال الثاني فهو يقتضي- مضافا الى إفادة نجاسة الكافر- تخصيص قاعدة الطهارة أيضا، و هذا بنفسه مبتلى بالمعارضة بروايات بعضها صحيح السند، على نحو يتعين حمل الجواب المذكور على الاستحباب، حتى لو قيل بنجاسة الكافر ففي صحيحة عبد اللّه بن سنان قال: «سأل أبي أبا عبد اللّه (ع) و انا حاضر: إني أعير الذمي ثوبي و انا اعلم انه يشرب الخمر و يأكل لحم الخنزير فيرده على، فاغسله قبل ان أصلي فيه؟. فقال أبو عبد اللّه (ع): صل فيه و لا تغسله من أجل ذلك‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 14 من أبواب النجاسات

(2) وسائل الشيعة كتاب الأطعمة و الأشربة أبواب الأطعمة المحرمة باب 22


268
بحوث في شرح العروة الوثقى3

و منها: رواية علي بن جعفر عن أخيه موسى(ع): ؛ ج‌3، ص : 269

..........

______________________________
فإنك أعرته إياه و هو طاهر و لم تستيقن أنه نجسه»
«1».

و منها: رواية علي بن جعفر عن أخيه موسى (ع):

«سأله عن اليهودي و النصراني يدخل يده في الماء، أ يتوضأ منه للصلاة؟. قال: لا الا ان يضطر اليه» «2». و تقريب الاستدلال بها: ان النهي عن الوضوء منه بمجرد إدخال الكافر يده ينسبق منه عرفا افادة النجاسة، و الترخيص في حال الاضطرار يعنى الجواز في حالة التقية. و يرد عليه: ان حمل الاضطرار على التقية خلاف ظاهر الكلمة، أو إطلاقها على أقل تقدير بنحو يكون المتيقن منها الاضطرار الطبيعي، و معه تكون الرواية على الطهارة أدل كما هو واضح، بل قد تكون سببا في إبطال دلالة رواية على بن جعفر المتقدمة في ماء الحمام الآمرة بالغسل من النصراني و إجمالها، باعتبار اتصال هذا النص بذاك و تلاحق السؤالين، غير ان الظاهر عدم حصول الإجمال في ذلك النص، لان جواب السؤال الثاني لا يعتبر قرينة متصلة بالنسبة إلى جواب السؤال الأول، و لو كان السؤال الثاني عقيب جواب السؤال الأول مباشرة و سلم كون الجمع من الجمع في المروي لا في الرواية.

و منها: رواية هارون بن خارجة عن الصادق (ع):

«انى أخالط المجوس فآكل من طعامهم؟ قال: لا» «3». و رواية عيص المأخوذة من كتاب المحاسن قال: «سألت أبا عبد اللّه (ع) عن مؤاكلة اليهودي و النصراني و المجوسي أفاء كل من طعامهم؟ قال: لا» «4» و تقريب الاستدلال بهاتين الروايتين ان النهي عن الأكل من طعامهم بعد فرض أصل المخالطة‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 74 من أبواب النجاسات.

(2) وسائل الشيعة باب 14 من أبواب النجاسات

(3) وسائل الشيعة باب 22 من أبواب الأطعمة المحرمة

(4) وسائل الشيعة باب 22 من أبواب الأطعمة المحرمة


269
بحوث في شرح العروة الوثقى3

و منها: رواية هارون بن خارجة عن الصادق(ع): ؛ ج‌3، ص : 269

..........

______________________________
و المؤاكلة ينصرف إلى جهة النجاسة، دون حزازة المعاشرة، لأن هذه الحزازة ثابتة فيما فرض من مخالطة و مؤاكلة، و دون حزازة السؤر، لان وحدة القصعة لم تفرض، و انما فرض كون الطعام طعامهم، و المؤاكلة لا تستلزم وحدتها، فالسؤال عن خصوصية كون الأكل من طعامهم لا بد ان يكون بلحاظ النجاسة.

و قد يستشكل: بان كون النظر إلى نجاسة الكافر لا يناسب الفراغ عن جواز أصل مؤاكلته و لو من طعام المسلم، لأنها تتضمن غالبا الملاقاة بالرطوبة، فكيف اختص محذور نجاسة الكافر بفرض الأكل من طعامهم؟! و هذا شاهد على ان الملحوظ النجاسات و المتنجسات التي تتواجد في طعام الكفار عادة بسبب الميتة و الخمر و غيرهما، فلا دلالة في ذلك على نجاسة الكافر بعنوانه. الا ان هذا مبني على ان يقصد بالمؤاكلة المفروغ منها الاشتراك في قصعة واحدة، و حمل المؤاكلة و المخالطة على ذلك بلا موجب كما ان دعوى: ان غاية ما تدل عليه الروايتان نجاسة طعام الكافر، و هي كما قد تكون بسبب مساورة الكافر، قد تكون بسبب استعماله للنجاسات مدفوعة: بان ذلك خلاف الإطلاق، بل خلاف ظاهر اضافة الطعام الى الكافر بعنوانه في مقام النهي عنه، الظاهر في كون تصديه له هو المنشأ في ذلك.

هذه هي أهم الروايات التي قد يستدل بها على النجاسة. و من ذلك يظهر حال ما لم نتعرض له. و قد اتضح تمامية بعضها سندا و دلالة و عليه فيقع الكلام في مرحلتين: إحداهما: في الروايات المدعى دلالتها على الطهارة. و الأخرى: في كيفية الجمع بين الطائفتين.

اما المرحلة الأولى: فقد استدل على الطهارة بعدة روايات.

منها: صحيحة العيص «سألت أبا عبد اللّه (ع) عن مؤاكلة‌


270
بحوث في شرح العروة الوثقى3

و منها: رواية هارون بن خارجة عن الصادق(ع): ؛ ج‌3، ص : 269

..........

______________________________
اليهودي و النصراني و المجوسي. فقال: ان كان من طعامك و توضأ فلا بأس»
«1».

و تقريب الاستدلال: تارة: بلحاظ نفس فرض غسل الكافر ليديه فان الغسل ظاهر بمادته في المطهرية، و هو لا يناسب النجاسة الذاتية.

و اخرى: بلحاظ الترخيص في مؤاكلة الكافر، فان الترخيص في المؤاكلة و ان كان قد بلحاظ فيه نفي الحرمة النفسية لهذا العنوان، دون تعرض لنفي محذور النجاسة الذي يحصل في بعض حالات المؤاكلة، فيكون الترخيص جهتيا، و لكن التقييد بكونه من طعام المسلم قرينة على انه ترخيص فعلى لوحظ فيه دفع محذور النجاسة أيضا. و لا يمكن ان يقيد الترخيص في المؤاكلة بغير المؤاكلة في قصعة واحدة مع الرطوبة بقرينة دليل نجاسة الكافر لان لازم ذلك ان تكون اناطة جواز المؤاكلة بوضوء الكافر اناطة تعبدية محضة، و هو خلاف المنساق من الدليل عرفا، الظاهر في الحمل على أمر مرتكز عرفي و هو المنع عن محذور السراية.

و قد يستدل بهذه الرواية على أصالة النجاسة العرضية في الكافر بلحاظ اناطة جواز مؤاكلة الكافر بغسل يديه، فان هذا كما يكشف عن الطهارة الذاتية يقتضي بإطلاقه أصالة النجاسة العرضية، و بهذا يمكن ان يقيد إطلاق الروايات السابقة- الدالة على النهي عن سؤر الكافر و الأمر باجتنابه و الغسل منه- بما إذا لم يعلم عدم نجاسته العرضية.

و يرد على هذا أولا: ان ما يدل على النجاسة من الروايات السابقة ظاهر في بيان النجاسة الواقعية بمقتضى عدم أخذ الشك في الموضوع فتقييده بصورة الشك ينافي ظهور الخطاب في الواقعية، فلا موجب لتقديم هذا النحو من الجمع على الجمع بحمل الأمر بالاجتناب و الغسل في روايات‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 23 من أبواب الأطعمة المحرمة


271
بحوث في شرح العروة الوثقى3

و منها: رواية هارون بن خارجة عن الصادق(ع): ؛ ج‌3، ص : 269

..........

______________________________
النجاسة على الاستحباب، مع حفظ واقعية كلا الخطابين.

و ثانيا: ان المنن الموجود في حديث العيص متهافت، لأن الصيغة المتقدمة للمتن هي صيغة كتاب الكافي و قد نقلها صاحب الوسائل في بابي النجاسات و الأطعمة. و هناك صيغة وردت في التهذيب و الفقيه، مع وحدة الراوي و الامام و الناقل عن الراوي، بنحو يبعد تعدد الرواية، و هي هذه «سألته عن مؤاكلة اليهودي و النصراني، قال: إذا كان من طعامك فلا بأس. قال: و سألته عن مؤاكلة المجوسي فقال: إذا توضأ فلا بأس».

و الفارق بين الصيغتين انه في هذه الصيغة جعل كون الطعام للمسلم شرطا لمؤاكلة اليهودي و النصراني، و جعل الغسل شرطا لمؤاكلة المجوسي، بينما جعل مجموع الأمرين معا شرطا لمؤاكلة الجميع في صيغة الكافي و إذا لاحظنا صيغة الفقيه و التهذيب نجد انه لم يؤمر فيها بالغسل بالنسبة إلى اليهودي و النصراني فإن كان احتمال الفرق بينهما و بين المجوسي موجودا لم يكن في الرواية بهذه الصيغة ما يقتضي أصالة النجاسة العرضية فيهما، و ان كان المرتكز عدم الفرق أمكن إسراء الأمر بالغسل المبين بالنسبة إلى المجوسي إليهما أيضا فيتحد مفاد الصيغتين. و لكن مع هذا قد يحمل الأمر بالغسل في صيغة التهذيب و الفقيه على الاستحباب، باعتبار سكوت الامام (ع) عنه في مقام الجواب على السؤال الأول، فإن تأخير مثل هذا البيان لتقية و نحوها و ان كان ممكنا غير ان التعرض لذلك في جواب السؤال الثاني يكشف عادة عن عدم وجود نكتة للتأخير من هذا القبيل، و هذا يناسب كون اشتراط الغسل استحبابيا لتكون استحبابيته هي بنفسها نكتة السكوت عنه في جواب السؤال الأول ثم التعرض له من خلال استمرار الجواب و تكرار السؤال.

و ثالثا: ان بعض روايات الطهارة الآتية تأبى عن الجمع المذكور لصراحتها في نفي أصالة النجاسة العرضية.


272
بحوث في شرح العروة الوثقى3

و منها: رواية هارون بن خارجة عن الصادق(ع): ؛ ج‌3، ص : 269

..........

______________________________
و منها: موثقة عمار الساباطي عن ابي عبد اللّه (ع) قال «سئلته عن الرجل هل يتوضأ من كوز أو إناء غيره إذا شرب منه على انه يهودي؟ فقال:

نعم. فقلت: من ذلك الماء الذي يشرب منه؟ قال: نعم» «1».

و تقريب الاستدلال بها: ان جواز الوضوء من ذلك الماء مع وضوح اشتراط الطهارة في الماء المتوضى به يدل على عدم انفعال الماء باليهودي الكاشف عن عدم نجاسته.

و قد يستشكل في ذلك: بان الجواز المذكور يلائم عدم انفعال الماء القليل بملاقاة النجاسة أيضا. و يندفع بأنه إذا سلمت ملائمة الجواز لكلا الأمرين، فبضم أدلة انفعال الماء القليل- بعد عدم احتمال الفرق بين نجس و نجس- يتحصل الدليل على طهارة الكتابي. هذا مضافا الى إمكان دعوى ظهور السؤال في الرواية في استعلام حال الكتابي، لا حال الماء القليل من حيث الاعتصام و عدمه، لان تعرض الماء القليل في حياة المسلم الاعتيادية لملاقاة نجاسات اخرى أكثر جدا من تعرضه لملاقاة الكتابي، ففرض ملاقاته للكتابي دون تلك النجاسات ينسبق منه النظر الى حال الكتابي، لا حال الماء. اللهم الا ان يحتمل نظر السائل الى حال الماء لا من ناحية الاعتصام و الانفعال، بل من ناحية كونه سؤر الكافر، فينحصر تتميم الاستدلال على المطلوب به حينئذ بضم دليل انفعال الماء القليل.

و منها: ما مضى في اخبار النجاسة من صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى (ع): «انه سأله عن اليهودي و النصراني يدخل يده في الماء أ يتوضأ منه للصلاة؟ قال: لا، الا ان يضطر إليه»، فإن الكتابي لو كان نجسا لتنجس الماء به و لما جاز الوضوء به حتى في فرض الانحصار بل ينتقل الى التيمم و عدم جواز الوضوء بالنجس حتى مع الانحصار ان‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 3 من أبواب الأسئار


273
بحوث في شرح العروة الوثقى3

و منها: رواية هارون بن خارجة عن الصادق(ع): ؛ ج‌3، ص : 269

..........

______________________________
كان امرا ارتكازيا في أذهان المتشرعة، فالترخيص المذكور في الرواية يدل بالدلالة الالتزامية العرفية على طهارة الكتابي، و الا تعين ضم الدليل الخارجي على عدم جواز الوضوء بالنجس حتى مع الانحصار إلى الرواية، ليتحصل من المجموع ما يدل على طهارة الكتابي.

و حمل الاضطرار على التقية، لكي تلائم الرواية مع النجاسة المستفادة من صدر الرواية بلا موجب، لأنه: ان كان بدعوى استظهار ذلك من نفس لفظ الاضطرار، فهو خلاف المفهوم عرفا من اللفظ الشامل للاضطرار الناشي من الانحصار، بل المختص بمثل ذلك في المقام بنكتة انه أضيف الاضطرار الى الماء لا الى الوضوء، و هذا ظاهر عرفا في ان حيثية الاضطرار قائمة بنفس الماء و هو الانحصار، و اما التقية فهي حيثية قائمة بالوضوء و ان كان بقرينة صدر الرواية، بناء على ظهوره في نفسه في النجاسة فالأمر على العكس، فان الصحيح تحكيم ظهور الذيل في الصدر، لان الذيل استثناء من الصدر، و الظواهر التي تحصل في جانب التقييد هي التي تتصرف في ظهورات المقيد.

كما انه قد يستشكل: بأن الرواية- على خلاف الرواية السابقة- مطلقة من ناحية قلة الماء و كثرته، فتكون أدلة نجاسة الكتابي مقيدة لإطلاق الرواية، بنحو تحمل على الكثير خاصة غير ان تقييد الرواية بحملها على الكثير خاصة بعيد جدا، لندرة الكثير في بيئة الراوي، و بعد خفاء اعتصام الماء الكثير على مثل علي بن جعفر.

و منها: رواية إسماعيل بن جابر قال: «قلت لأبي عبد اللّه (ع):

ما تقول في طعام أهل الكتاب؟ قال: لا تأكله. ثم سكت هنيّة. ثم قال: لا تأكله. ثم سكت هنيئة. ثم قال: لا تأكله، و لا تتركه تقول‌


274
بحوث في شرح العروة الوثقى3

و منها: رواية هارون بن خارجة عن الصادق(ع): ؛ ج‌3، ص : 269

..........

______________________________
انه حرام، و لكن تتركه تتنزه (تنزها منه خ ل) عنه ان في آنيتهم الخمر و لحم الخنزير»
«1» و هي معتبرة سندا، و واضحة دلالة على طهارة أهل الكتاب، لان عدم تحريم طعامهم مع انه يلاقي عادة أجسامهم بالرطوبة، باعتبار ان الظاهر من الإضافة كونهم قد طبخوه و هيأوه، و هذا يلازم الملاقاة برطوبة غالبا خصوصا في ذلك العصر، و تعليل التنزه بمعرضية الأواني للخمر و لحم الخنزير دون معرضيتها لملاقاة رطوباتهم، يدل على عدم نجاستهم. و مجرد تكرار النهي في صدر الرواية لا يعنى كونه إلزاميا و كون الذيل تقية، لأن الاهتمام الذي يشعر به التكرار يناسب غير الإلزام أيضا، إذ ما أكثر الموارد التي بين فيها بعض المطلوبات غير الإلزامية بالسنة مشددة، فلعل المقام منها غير ان استشعار الامام (ع) كون هذا التأكيد موجبا لانفهام اللزوم جعله ينصب قرينة على عدم اللزم. و كما تنفى الرواية النجاسة العينية كذلك تنفى أصالة النجاسة العرضية. و لا يمكن عرفا تقييدها بما إذا علم بان صاحب الطعام قد غسل يده عند كل مساورة لطعامه، لكي تكون ملائمة مع أصالة النجاسة العرضية كما هو واضح.

و منها: صحيحة إبراهيم بن ابي محمود. قال: «قلت للرضا (ع):

الخياط أو القصار يكون يهوديا أو نصرانيا، و أنت تعلم انه يبول و لا يتوضأ ما تقول في عمله؟ قال: لا بأس» «2» و من الواضح ان السؤال انما هو عما يمارسه من ملابس المسلمين بلحاظ الطهارة و النجاسة، كما يشهد بذلك قوله: «تعلم انه يبول»، فنفي البأس يدل على طهارة أهل الكتاب بالمعنى المقابل للنجاسة الذاتية، و بالمعنى المقابل لأصالة النجاسة العرضية. و مثل هذه الرواية لا يمكن تقييدها بما إذا علم بغسل يده قبل ممارسة الملابس لكي‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 54 من أبواب الأطعمة المحرمة

(2) التهذيب ج 2 ص 115


275
بحوث في شرح العروة الوثقى3

و منها: رواية هارون بن خارجة عن الصادق(ع): ؛ ج‌3، ص : 269

..........

______________________________
تلائم مع أصالة النجاسة العرضية، لأن السائل قد فرض انه يبول و لا يتوضأ أي لا يغسل، و هذا يعنى انه لا يعلم بغسل يده حين الممارسة، و الا لم يكن هناك اثر لفرض انه يبول و لا يتوضأ.

و منها: صحيحة أخرى لإبراهيم عن الرضا عليه السلام قال: «قلت للرضا: الجارية النصرانية تخدمك و أنت تعلم أنها نصرانية، لا تتوضأ و لا تغتسل من جنابة. قال: لا بأس تغسل يديها» «1» و الكلام فيها تارة:

يقع بلحاظ الطهارة الذاتية و اخرى: بلحاظ أصالة النجاسة العرضية.

اما الأول: فلا إشكال في دلالتها على الطهارة الذاتية. إما بتقريب:

ان نفي البأس عن الخدمة- مع كون الملحوظ للسائل حيثية النجاسة و ملاقاتها للأشياء بالرطوبة، بقرينة فرضه انها لا تتوضأ و لا تغتسل- واضح في نفي النجاسة الذاتية.

أو بتقريب: ان قول الامام (ع) «تغسل يديها» يدل على ذلك لان النجس العيني لا معنى لغسله. و لا فرق في هذين التقريبين بين كون القضية المسئول عنها حقيقية أو خارجية. و استظهار كونها خارجية بقرينة قول الراوي «الجارية النصرانية تخدمك»، و الاستشكال عندئذ بان وجود النصرانية عند الامام (ع) لعله كان بسبب ظروف اضطرارية ناشئة من التقية. مدفوع، بان الاستظهار المذكور لا موجب له، و تعبير الراوي المذكور ليس الا على حد تعبيره شخصيا في الرواية السابقة «و أنت تعلم انه يبول»، فإنه أسلوب في البيان. و لو فرضنا القضية خارجية فإن الرواية تكون حينئذ أدل على الطهارة، لاقتران الفعل بالقول. و احتمال التقية منفي بالأصول العقلائية العامة. و لو ثبت كون وجود النصرانية عند الامام اضطراريا و بسبب التقية فلا يعنى ذلك ان بيانه مبني على التقية‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 14 من أبواب النجاسات


276
بحوث في شرح العروة الوثقى3

و منها: رواية هارون بن خارجة عن الصادق(ع): ؛ ج‌3، ص : 269

..........

______________________________
فأصالة الجد في بيانه جارية على كل حال.

و اما الثاني: فقد يقال: بأن الرواية و ان دلت على الطهارة الذاتية و لكنها تدل أيضا على أصالة النجاسة العرضية، باعتبار إناطتها نفي البأس بغسل اليدين الشامل بإطلاقه لفرض الشك أيضا.

و تحقيق الكلام في ذلك: ان قوله (ع) «تغسل يديها» يمكن حمله على الاخبار، فيناسب مع القضية الخارجية، و يناسب أيضا مع القضية الحقيقية، بأن يكون اخبارا عن لازم عادي عرفي لهذه القضية الحقيقية.

و يمكن حمله على الإنشاء و الأمر بالغسل، فيناسب مع القضية الحقيقية.

فإن حمل على الاخبار فلا يدل على اشتراط غسل اليدين حتى مع عدم العلم بنجاسة يديها، و انما هو اخبار في مقابل اخبار السائل بعدم التطهير بقوله «لا تتوضأ و لا تغتسل»، و مفاده انها تغسل يديها، و هو كاف في تطهير محل الابتلاء منها كخادمة، و ليس المقصود من ذلك تشريع غسل على خلاف القواعد العامة، بل التأكيد على التزامها بتلك القواعد في حدود ما يحتاج اليه. و ان حمل على الإنشاء و الأمر فالمتيقن منه صورة العلم بالنجاسة العرضية، و اما إطلاقه لصورة الشك فهو و ان كان ثابتا في نفسه، الا ان ما هو نص عرفا في نفي أصالة النجاسة العرضية من روايات الطهارة يقيد هذا الإطلاق.

و منها: رواية زكريا بن إبراهيم قال: «دخلت على ابى عبد اللّه (ع) فقلت: انى رجل من أهل الكتاب، و انى أسلمت، و بقي أهلي كلهم على النصرانية، و انا معهم في بيت واحد لم أفارقهم بعد فآكل من طعامهم فقال لي: يأكلون الخنزير؟ فقلت: لا، و لكنهم يشربون الخمر. فقال:

لي كل معهم و اشرب» «1» و لا شك في دلالتها على الطهارة، غير أنها‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 24 من أبواب الأطعمة المحرمة


277
بحوث في شرح العروة الوثقى3

و منها: رواية هارون بن خارجة عن الصادق(ع): ؛ ج‌3، ص : 269

..........

______________________________
غير تامة سندا. و لا تخلو من شي‌ء متنا، بلحاظ انها اناطت بظاهرها الترخيص في الأكل و الشرب باجتناب لحم الخنزير، و لم تعتبر شربهم للخمر مانعا عن ذلك: إما لدعوى طهارته، أو لأنه ليس في معرض تنجيس الطعام بخلاف لحم الخنزير، و كلاهما كما ترى. كما ان ابتلاء الكفار بلحم الميتة من ذبائحهم أشد من الابتلاء بلحم الخنزير، و لم يشر الى ذلك مع وضوح نجاسة الميتة.

و منها: صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما قال: «سألته عن آنية أهل الكتاب. فقال: لا تأكل في آنيتهم إذا كانوا يأكلون فيه الميتة و الدم و لحم الخنزير» «1» و الاستدلال بمفهوم الشرط الثابت خصوصا في مثل المقام الذي أخر فيه الشرط عن الجزاء، فإنه يدل على جواز الأكل في آنيتهم إذا لم يكونوا يأكلون فيها النجاسات، و هذا يدل على طهارتهم، لأن العادة جارية بملاقاتها لهم بالرطوبة. و قد جاء متن مقارب يشتمل على القضية الوصفية بدلا عن الشرطية- على ما تقدم في روايات النجاسة- غير انه لو سلم عدم المفهوم للوصف، و اقتضاء ذلك للتهافت في مقام النقل على تقدير وحدة الرواية، فلا سبيل الى الجزم بوحدة الرواية، و ان اتحد الراوي و الناقل عنه، لوجود عدة اختلافات بين المتنين: و عدم صراحتهما في وحدة الامام المنقول عنه.

و منها: روايات جواز الصلاة في الثوب الذي يرده المستعير الذمي بدون غسل ما لم يعلم أنه نجسه، كما في رواية عبد اللّه بن سنان.

و في الثوب الذي يصنعه المجوسي بدون غسل أيضا، كما في رواية معاوية ابن عمار و رواية المعلى بن خنيس. بدعوى: أن ملاقاة الثوب للكافر بالرطوبة في هذه الحالات أمر معلوم عادة، فيدل الجواز على الطهارة.

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 24 من أبواب الأطعمة المحرمة


278
بحوث في شرح العروة الوثقى3

و منها: رواية هارون بن خارجة عن الصادق(ع): ؛ ج‌3، ص : 269

..........

______________________________
و هي دعوى قابلة للإنكار: اما فيما يصنعه المجوس فواضح، لأن حياكة الثوب لا تلازم الملاقاة برطوبة. و اما في الثوب الذي استعاره الذمي فالأمر كذلك، ما دام فرض الرواية قابلًا للانطباق على الاستعارة القصيرة الأمد التي لا يحصل فيها عادة علم بالملاقاة مع الرطوبة.

هذه أهم الروايات التي يمكن ان يستدل بها على الطهارة.

و هناك روايات أخرى في نفس الباب أو في أبواب اخرى متفرقة يمكن الاستئناس بها للحكم بالطهارة، من قبيل ما دل على جواز نكاح الكتابية و لو في الجملة، و ما دل على أمر الكافر عند الضرورة بأن يغتسل ثم يغسل الميت و نحو ذلك. و أوجه الاستئناس واضحة.

و قد تبين: ان روايات الطهارة هذه تشتمل على عدد تام سندا و دلالة غير انه قد يستشكل في تماميته حجية، بلحاظ تطابق الأصحاب على القول بالنجاسة، الذي لا يمكن تفسيره: بعدم اطلاعهم على تلك الروايات لأنها لم تصلنا الا عن طريقهم، أو بعدم استظهارهم للطهارة منها، مع وضوح ذلك عرفا في جملة منها، أو بتقديم أخبار النجاسة عليها، بوجه مع وضوح الجمع العرفي بالحمل على التنزه. فيتعين تفسير ذلك باطلاعهم على خلل في النقل، أو خلل في المنقول، بمعنى وجود ارتكاز واضح للنجاسة يكشف عن عدم مطابقة المنقول للواقع. و على كلا التقديرين تسقط روايات الطهارة عن الحجية. اما على الأول: فلان اعتقاد الأصحاب بالخلل في النقل امارة مهمة توجب سلب الوثوق بالروايات، المؤدي إلى خروجها عن دليل الحجية. و اما على الثاني: فلان نفس ذلك الارتكاز يكون حجة علينا.

و التحقيق: ان افتراض استناد الأصحاب إلى الاطلاع على الخلل في النقل بعيد جدا، إذ ليس في كلماتهم اي تعرض لذلك و لو إجمالا. فهذا‌


279
بحوث في شرح العروة الوثقى3

و منها: رواية هارون بن خارجة عن الصادق(ع): ؛ ج‌3، ص : 269

..........

______________________________
الشيخ الطوسي (قدس سره) لا يرمى ما يدل على الطهارة بالخلل أو نحو من الشذوذ، الذي رمى به ما دل على جواز الوضوء بماء الورد و نحوه و نلاحظ ان جملة من روايات الطهارة قد أفتى الأصحاب بمضمونها و ان لم يستفيدوا منها الطهارة. فالشيخ الطوسي قدس سره يذكر: «انه يكره ان يدعو الإنسان أحدا من الكفار الى طعامه فيأكل معه، و ان دعاه فيأمره بغسل يده ثم يأكل معه ان شاء»، و قد ذكر المحقق الحلي: «ان هذه الفتوى مبنية على رواية العيص»، و هذا يعني ان الشيخ عمل بها، و ان لم يستفد منها الطهارة لحملها مثلا على فرض عدم الرطوبة. كما ان الشيخ قد تمسك ببعض روايات الطهارة لإثبات النجاسة، فقد استدل على النجاسة برواية علي بن جعفر في ماء الحمام مع ذيلها، الذي عرفت منا انه يدل على الطهارة، و معنى ذلك عدم صحة افتراض الخلل في النقل في تلك الروايات، و الا لما صح الاستدلال بها على شي‌ء.

و مما يؤكد عدم الخلل في النقل تعدد روايات الطهارة و كثرتها بنحو يضعف احتمال الخلل في النقل فيها جميعا. مضافا الى أن جملة منها قد أخذها أصحاب المجاميع من كتب الأصول رأسا، كرواية علي بن جعفر التي نقلها الطوسي من كتابه، و رواية العيص التي نقلها الصدوق من كتابه.

و اما افتراض ارتكاز راسخ دعا الأصحاب إلى اعتقاد الخلل في المنقول و طرحه فقد ناقشناه تفصيلا عند تقييم الإجماع المدعى على النجاسة، و محاولة التعرف على مدى قدرته على إثبات ذلك، و انتهينا الى عدم الاعتقاد بالافتراض المذكور، و احتمال أن يكون موقف الأصحاب السلبي من روايات الطهارة مستندا- و لو في الجملة- إلى عوامل اجتهادية، استعرضناها فيما سبق. و معه لا يبقى مانع عن المصير إلى حجية اخبار الطهارة في نفسها و الجمع بينها و بين أخبار النجاسة، بحمل تلك على التنزه، خصوصا مع‌


280
بحوث في شرح العروة الوثقى3

و منها: رواية هارون بن خارجة عن الصادق(ع): ؛ ج‌3، ص : 269

..........

______________________________
اشتمال المقام على روايات صريحة في النهي التنزيهي، تعتبر شاهدا على هذا الجمع.

و استبعاد: إعراض الأصحاب أو غفلتهم عن الجمع العرفي المذكور بدون افتراض ارتكاز قاهر يقتضي النجاسة، قد مر فيما تقدم من بحث في نقد الإجماع و تقييمه بعض المضعفات له فلاحظ. مضافا الى أنه لو كشف موقف الأصحاب عن وجود عامل وراء صناعة الروايات فالجزم بأن هذا العامل هو مرتبة من الارتكاز الكاشفة كشفا قطعيا لدينا عن النجاسة غير ممكن لما أشرنا إليه سابقا من قرائن عدم وجود مثل هذا الارتكاز في أذهان فقهاء الرواة إلى عصر الغيبة و بعد تزاحم القرائن من الطرفين لا يحصل اليقين بتلك المرتبة من الارتكاز. و يوجد احتمال أن يكون المستند ارتكاز الحزازة و لزوم التجنب في الجملة عن الكافر و الارتكازات قد تتعمق و تتسع على مر الزمن بحيث يكون أصلها الواقعي أضيق دائرة مما انتهت إليه من خلال ملابسات نفسية و فكرية مختلفة.

كما يوجد احتمال حصول الاطمئنان الشخصي لجملة من الأصحاب بالنجاسة استنادا الى روايات النجاسة، و يكون هذا العامل المؤثر في طرح أخبار الطهارة و هذا احتمال معقول في نفسه بالنسبة إلى جملة من الأصحاب على الأقل، إذا لاحظنا أن ما تمت دلالته على النجاسة عندهم أكثر عددا مما تمت دلالته عندنا، كما يظهر بمراجعة الروايات التي استدل بها الشيخ الطوسي على النجاسة، و ان ما كان ملحوظا من أخبار الطهارة لعله أقل مما تجمع متأخرا بعد توفر مجاميع الحديث و النظرة المجموعية إليها و نحن نلاحظ: ان الشيخ في كتاب الطهارة من التهذيب ذكر في بيان عدم جواز الوضوء من سؤر الكفار: الاستدلال بالآية الكريمة، و جملة من الروايات، و اقتصر في مقام نقل المعارض على رواية واحدة و هي رواية‌


281
بحوث في شرح العروة الوثقى3

و منها: رواية هارون بن خارجة عن الصادق(ع): ؛ ج‌3، ص : 269

..........

______________________________
عمار الساباطي، ثم أولها
«1». و ذكر في باب تطهير الثياب و غيرها:

الاستدلال على غسل الملاقي للكافر بالآية، و جملة من الروايات، و لم يذكر معارضا أصلا «2» بينما ذكر جملة من الروايات الدالة على الطهارة في مكاسب التهذيب.

فإذا أضفنا إلى ذلك ما أشرنا إليه سابقا: من أن صدور مقدار من الروايات ذات الدلالة على الطهارة كان أمرا مترقبا، باعتبارها الرأي المتبنى سنيا على العموم، و في كل مسألة من هذا القبيل يوجد عادة بعض البيانات الموافقة للرأي العام و لو تقية، بخلاف روايات النجاسة فإنها على خلاف الرأي العام السني، و تظافرها و كثرتها ينتزع منه نوع من التأكيد و الاهتمام، الذي يوضح إلزامية الحكم. أمكننا على ضوء ذلك كله أن نفهم كيفية حصول الاطمئنان الشخصي لجملة من الأصحاب بالنجاسة استنادا إلى روايات النجاسة نفسها.

و افتراض هذا الاطمئنان بالبيان المذكور يصلح تفسيرا لموقف جملة من الأصحاب، و إبرازا للعامل الخارجي الذي دعي إلى طرح قواعد الجمع العرفي. و إن لم نكن نشارك في هذا الاطمئنان، لأن ما تمت عندنا دلالته على النجاسة أقل عددا، و ما نجمع لدينا من روايات الطهارة فيه من الصراحة و عدم التذبذب في البيان و التظافر و المخالفة للتقية في بعض الخصوصيات، ما لا يسمح بحصول الاطمئنان أو الظن الشخصي ببطلان دلالته على الطهارة. على أنه كما يترقب صدور أخبار الطهارة و لو لم يكن الحكم هو الطهارة من أجل التقية- و بذلك يضعف الكشف التكويني لأخبار الطهارة- كذلك يترقب صدور أخبار الأمر بالغسل و اجتناب، و لو لم يكن‌

______________________________
(1) التهذيب ج 1 ص 223

(2) التهذيب ج 1 ص 262


282
بحوث في شرح العروة الوثقى3

و منها: رواية هارون بن خارجة عن الصادق(ع): ؛ ج‌3، ص : 269

..........

______________________________
الحكم هو النجاسة، لأن التنزه معلوم المطلوبية على أي حال. و عدم نصب القرينة المتصلة على نفي الإلزام في سياق الطلب التنزيهي أمر مألوف و شائع، فيشكل ذلك نقطة ضعف مقابلة في الكشف التكويني لاخبار النجاسة، الأمر الذي يحول دون حصول الاطمئنان الشخصي لدينا بالنجاسة و صفوة القول: أنا إذا كنا لا نحتمل غفلة الأصحاب عن صحة الجمع العرفي بالحمل على التنزه، فيمكن أن نفسر إعراضهم عنه في المقام بأحد الأمرين: إما الارتكاز و لكن بمرتبة لا تتنافى مع القرائن على عدم وجود ارتكاز حاسم على النجاسة في أذهان فقهاء الرواة. و إما الاطمئنان الشخصي الناشئ من مجموعة أمور لا نسلمها، و لكننا لا نستبعد افتراض تسليمها عند جملة من الأصحاب. و إذا كنا نحتمل الغفلة في شأن جملة من الأصحاب عن ضرورة تقديم الجمع العرفي- كما تبرره بعض القرائن كتصريح الشيخ الطوسي بتقديم الجمع بالحمل على التقية على الجمع العرفي- في نص أشرنا إليه سابقا عند مناقشة الإجماع- فيمكن أن نفسر عمل الأصحاب بأخبار النجاسة على أساس اجتهادي يلائم مع الاعتراف بحجية أخبار الطهارة في نفسها. و ذلك من قبيل ترجيح أخبار النجاسة بالأكثرية، أو بمخالفة العامة، أو بموافقة الكتاب، أو جعل العام الكتابي مرجعا بعد التساقط. الى غير ذلك من الوجوه الاجتهادية التي تقدمت الإشارة إليها في بحث الإجماع.

و عليه فلا موجب لسقوط أخبار الطهارة عن الحجية في نفسها.

و على ضوء ذلك كله نلاحظ ان أدلة القول بالنجاسة لم يتم شي‌ء منها في الكتابي. و ان المتيقن من تلك الأدلة- التي عمدتها الإجماع- المشرك و من يوازيه، أو من هو أسوأ منه كالملحد. و على هذا يتجه التفصيل بين هذا المتيقن و غيره، فيحكم بالنجاسة في حدود المتيقن، و يحكم بالطهارة فيما زاد‌


283
بحوث في شرح العروة الوثقى3

بقيت في المقام عدة تنبيهات: ؛ ج‌3، ص : 284

 

..........

______________________________
على ذلك.

بقيت في المقام عدة تنبيهات:

الأول: ان جملة من فقهاء غير الإمامية استدلوا على طهارة أهل الكتاب

بقوله تعالى «الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبٰاتُ، وَ طَعٰامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتٰابَ حِلٌّ لَكُمْ، وَ طَعٰامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ، وَ الْمُحْصَنٰاتُ مِنَ الْمُؤْمِنٰاتِ، وَ الْمُحْصَنٰاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتٰابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذٰا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ «1».

و التحقيق: انه ان أريد الاستدلال بحلية طعام أهل الكتاب على طهارتهم بدعوى: ان هذا التحليل مسوق لنفي النجاسة مباشرة. فهو مندفع بان الظاهر من المقطع القرآني المذكور انه بصدد إلغاء البينونة، و نفي المقاطعة بين الجماعة المسلمة و أهل الكتاب، و ليس ناظرا الى نفي النجاسة بعنوانها. و لهذا فان النص القرآني يحلل طعام المسلمين للكتابي كما يحلل طعامه لهم، و من الواضح ان تحليل طعام المسلمين للكتابي ليس في مقام نفي نجاسة المسلم، بل التحليلان معا يستهدفان غرضا تشريعيا واحدا، و هو ما ذكرناه من إلغاء البينونة، و لهذا عطف على ذلك جواز نكاح الكتابية أيضا فالسياق كله متجه نحو ذلك، فهو يدل على ان اضافة الطعام الى أهل الكتاب و كونه طعامهم ليس ملاكا للاجتناب و المقاطعة.

و ان أريد الاستدلال بالآية على الطهارة بدعوى: انها تفهم ضمنا لأن الكتابي لو كان نجسا و منجسا لكان ارتباط الطعام به و كونه طعامه مما يقتضي الاجتناب عنه لنجاسته. فهو موقوف على ان تكون اضافة الطعام الى أهل الكتاب بمعنى ما يعدونه و يطبخونه من طعام، كالامراق مثلا التي إضافتها إلى الكتابي بهذا المعنى مساوقة عادة لملاقاته لها بنحو موجب للسراية، و اما إذا كانت الإضافة بمعنى ما يكون ملكا لأهل الكتاب و تحت‌

______________________________
(1) سورة المائدة الآية 8

 

 

 

284
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الأول: ان جملة من فقهاء غير الإمامية استدلوا على طهارة أهل الكتاب ؛ ج‌3، ص : 284

..........

______________________________
سلطانهم من الطعام، فمن الواضح ان هذه الإضافة لا تتضمن الملاقاة المسرية دائما، و في هذا الضوء يعلم انا إذا فسرنا الطعام بالبر، أو بما كان كالبر من المواد الاساسية للغذاء، اما لكونه أحد المعنيين للكلمة لغة، أو لورود تفسير بذلك في الروايات، فمن الواضح عندئذ ان الآية الكريمة أجنبية عن إفادة الطهارة، لأن ظاهر اضافة الطعام الى أهل الكتاب بناء على تفسيره بالبر و نحوه إضافة الملكية و السلطنة، و هذا يجعل مفاد الآية الكريمة نفي الحرمة من ناحية كون الطعام ملكا للكتابي و تحت سيطرته في مقابل احتمال حرمته و لو من باب لزوم مقاطعة أهل الكتاب و قطع التعامل معهم.

و ان فسرنا الطعام بما يكون غذاء فعليا، فقد يقال أيضا: بأن الآية لا تدل على الطهارة، لأن نظرها الى نفي الحرمة من ناحية اضافة الطعام إلى الكتابي بإضافة الملكية و السلطنة، و هذا لا ينافي الحرمة في بعض ما يضاف اليه كذلك بسبب الملاقاة المسرية الموجبة للنجاسة.

و لكن الصحيح: ان الطعام إذا كان بمعنى ما هو معد للأكل فعلا فان إضافته الى أهل الكتاب ظاهرة في إضافته بما هو معد للأكل، بحيث تكون حيثية الاعداد مضافة إليهم أيضا، و هذا لا يكفي فيه مجرد كونه ملكا لهم، بل يعنى كونه هو الطعام الذي يعدونه لأكلهم بطبخ و نحوه، و يكون في معرض تناولهم منه. و نفي الحرمة من ناحية مثل هذه الإضافة دال عرفا على عدم النجاسة، لأن العادة جارية في مثل هذه الإضافة على استتباعها للملاقاة بالرطوبة، فنفى الحرمة من ناحيتها يقتضي عدم النجاسة. فينحصر أساس التشكيك في الاستدلال بالآية الكريمة بحمل الطعام على البر و نحوه من المواد، و لو تعبدا بالتفسير الوارد في الروايات، إذ معه تكون الإضافة بمعنى الملكية و الواجدية، و نفي الحرمة من ناحيتها لا يقتضي نفي النجاسة كما هو واضح.


285
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الثاني: ان المنتحل للإسلام المحكوم بكفره يمكن القول بطهارته. ؛ ج‌3، ص : 286

..........

______________________________
و قد يتوهم على هذا الأساس: ان تلك الروايات المفسرة بنفسها تكون من أدلة نجاسة الكافر، باعتبارها كأنها مسوقة لنفي إفادة الآية للطهارة و يندفع: بان الغرض منها لا ينحصر بذلك، بل قد يكون هدفها نفي إفادة الآية لحلية ذبائح أهل الكتاب، كما يظهر من بعضها فلاحظ.

الثاني: ان المنتحل للإسلام المحكوم بكفره يمكن القول بطهارته.

إما بدعوى: استفادة ذلك من روايات طهارة أهل الكتاب، لأن النسبة المزيفة الى الكتب السماوية السابقة إذا كانت تستوجب الطهارة، فكذلك النسبة المزيفة الى القران المجيد بالفحوى أو الأولوية. و اما بتقريب: عدم تمامية دليل على نجاسته، حتى لو قيل بنجاسة أهل الكتاب، لأن الآية الكريمة موضوعها المشرك، فلا تشمل المنتحل للإسلام الخالي انتحاله من الشرك. و الروايات الدالة على النجاسة- لو تمت- فموضوعها الكتابي و المجوسي و نحوه، فلا يمكن التعدي من ذلك الى مدعى الإسلام، لاحتمال الفرق واقعا و ارتكازا.

نعم موثقة عبد اللّه بن ابي يعفور وردت في الناصب و هي «و إياك ان تغتسل من غسالة الحمام، ففيها تجتمع غسالة اليهودي و النصراني و المجوسي و الناصب لنا أهل البيت، فهو شرهم. فان اللّه تبارك و تعالى لم يخلق خلقا أنجس من الكلب، و ان الناصب لنا أهل البيت لأنجس منه» «1» و هذه الرواية قد يستدل بها لنجاسة الناصب خاصة. و قد تلغى خصوصيته فيتعدى الى كل كافر منتحل للإسلام، أو الى الكافر مطلقا و يرد عليه:- مضافا الى عدم إمكان التعدي لوضوح الرواية في الخصوصية- ان النجاسة في الرواية لا ظهور لها في النجاسة الحكمية، بلحاظ التعبير بأنه شرهم، و الشرية تناسب النجاسة المعنوية، و قد جاء الحكم بانجسية الناصب في مقام تعليل‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 11 من أبواب الماء المضاف و المستعمل


286
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الثالث: أن النواهي المذكور في روايات النجاسة، كالنهي عن السؤر و نحوه ؛ ج‌3، ص : 287

..........

______________________________
تلك الشرية، و تقضى مناسبات العلة و المعلول ظهور الانجسية في الحزازة المعنوية أيضا، أو حدوث الإجمال الموجب لسقوط الاستدلال.

و الإجماع يمكن التشكيك في شموله له، حتى لو قبل بشموله للكتابي أيضا، لان من المحتمل ان يكون المراد من الكافر في كلمات المجمعين- أو جملة منهم ممن لا ينعقد الإجماع إلا بلحاظهم- من يدين بملة أخرى غير ملة الإسلام، لا مطلق من يحكم بكفره. و قد يشهد لذلك عطف الناصب على الكافر في جملة من عبائر المتقدمين، مع ان المشهور ان الناصب محكوم بكفره، فلو أريد من كلمة (الكافر) المعنى العام للزم ان يكون هذا من عطف الخاص على العام، و هو خلاف الظاهر. و في بعض عبارات المتقدمين عبر بالكفر بمختلف ملله، و هو يناسب ما ذكرناه أيضا.

و مما يعضد افتراض طهارة مدعى الإسلام، الدليل اللبي. اما بتقريب:

انه لو كان مبني الشيعة في زمن الأئمة عليهم السلام على نجاستهم لاشتهر ذلك و شاع الحكم بالنجاسة، لشدة الكلفة و كثرة الابتلاء، خصوصا مع ما خلقه عهد بني أمية من النصب و العداوة لأهل البيت في جملة من الناس حتى كان بعض الشيعة في أيام الصادقين يتحرجون عن الزواج فحصا عن امرأة سليمة.

و اما بتقريب: انه لو لا ان المرتكز طهارة مدعى الإسلام لكثر السؤال من قبل أصحاب الأئمة عليهم السلام، فان ابتلائهم بالناصب و نحوه من المنحرفين لم يكن بأقل من ابتلائهم بالكتابي، فكما كثر السؤال في الكتابي عن شئون مساورته كان ينبغي أن نجد نظير ذلك في محل الكلام، فعدم ذلك يكشف عن البناء العام على الطهارة.

الثالث: أن النواهي المذكور في روايات النجاسة، كالنهي عن السؤر و نحوه

، إن استظهر منها النجاسة حملت على التنزه بلا إشكال، بعد تمامية‌


287
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الأول: الأكل و الشرب من سؤر الكتابي. ؛ ج‌3، ص : 288

..........

______________________________
دليل الطهارة و الجمع العرفي بينه و بينها. و أما إذا نوقش في ظهور تلك النواهي في النجاسة و بني على أصالتها كما تقدم، فقد يقال حينئذ: بأن مجرد قيام الدليل على الطهارة لا يكفي لرفع اليد عن ظهور تلك النواهي في الإلزام فلا بد حينئذ من قرينة على الترخيص في الأفعال التي تعلق بها النهي، و هي كما يلي:

الأول: الأكل و الشرب من سؤر الكتابي.

فقد ورد النهي عنه صريحا في رواية سعيد الأعرج بنقل الصدوق: إذ سأل عن سؤر اليهودي و النصراني، أ يؤكل أو يشرب؟ قال: لا. و ظاهرا في نفس الرواية بنقل الكليني، إذ لم ترد فيه جملة (أ يؤكل أو يشرب) غير أن الأكل و الشرب هو المنصرف من الانتفاعات المضافة إلى السؤر بما هو سؤر، و يرفع اليد عن ظهور النهي المذكور في الإلزام بقرينة صحيحة العيص المتقدمة التي استظهرنا منها كون الأكل في قصة واحدة مع الكتابي، بقرينة إناطة مؤاكلته بأن يتوضأ.

الثاني: الوضوء بسؤر الكتابي و الاغتسال به.

فقد جاء في رواية علي بن جعفر المتقدمة: النهي عن الوضوء بماء أدخل الكافر يده فيه، إلا إذا أضطر إليه و هذا النهي استظهرنا منه النجاسة سابقا فيحكم فيه دليل الطهارة و مع التنزل تكون القرينة على الترخيص موثقة عمار الساباطي المتقدمة المرخصة في التوضي من ماء شرب منه اليهودي، لأن حمل الموثقة على صورة الاضطرار ليس عرفيا، لأنه تقييد بفرد نادر، فيتعين حمل النهي على التنزه. و يبقى الاشكال من ناحية قيام الإجماع على عدم جواز الوضوء بسؤر الكتابي، و هو إجماع لا ترد عليه جملة من التشكيكات التي أوردناها على دعوى الإجماع على النجاسة لأن عدم جواز الوضوء بالسؤر المذكور مما تعرض له الأصحاب القدماء في متونهم الفقهية مباشرة. فإن جاء تشكيك فهو التشكيك من ناحية كونه‌


288
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الثالث: النهي عن الصلاة في ثياب الكتابي ؛ ج‌3، ص : 289

..........

______________________________
مدركيا، و مستندا إلى النهي في مثل رواية علي بن جعفر، مع عدم تحكيم موثقة عمار الساباطي عليها، إما للغفلة عن الجمع العرفي: أو لعدم العثور على رواية عمار الصريحة في الجواز، بلحاظ أنها مما تفرد الشيخ الطوسي بنقلها من بين المشايخ الثلاث، رغم عقد الكليني في الكافي بابا بعنوان (حكم سؤر اليهودي و النصراني. إلخ). و قد نقلها الشيخ- على الظاهر- من كتاب سعد بن عبد اللّه، لا من الأصول المتقدمة، فلا غرابة في عدم اطلاع الجميع عليه. أو للمناقشة في دلالة الموثقة بحملها على صورة الظن بقرينة كلمة (على)، كما صنع الشيخ الطوسي (قدس سره). أو لغير ذلك من الاحتمالات التي إن استطاعت بمجموعها أن تجعل افتراض مدركية الإجماع معقولا، سقط عن الحجية و مع هذا فان الاحتياط لا ينبغي أن يترك.

الثالث: النهي عن الصلاة في ثياب الكتابي

في صحيحة علي بن جعفر المتقدمة: (و لا يصل في ثيابهما) و يفهم من ذلك المانعية، لا الحكم التكليفي. فإن استظهر منها كونها بلحاظ النجاسة حكم فيها دليل الطهارة و إلا كانت القرينة على الترخيص صحيحة عبد اللّه بن سنان المتقدمة في الثوب الذي يستعيره الذمي، و المرخصة في الصلاة فيه، بعد معلومية أن المستعير إنما يستعير الثوب ليلبسه، و أن مناط النهي في صحيحة علي بن جعفر كون الثوب مورد لبس الكتابي لا تملكه له.

الرابع: النهي عن المصافحة في روايتي علي بن جعفر

و في كل منهما لا يمكن الحمل على الإلزام، إذ في إحداهما: «قال: سألته عن مؤاكلة المجوس في قصعة واحدة، و أرقد معه على فراش واحد، و أصافحه.

قال: لا». و لما كانت المؤاكلة جائزة، بقرينة رواية العيص تعذر حمل (لا) على الإلزام و في الأخرى: «قال: لا يأكل المسلم مع المجوس‌


289
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الرابع: النهي عن المصافحة في روايتي علي بن جعفر ؛ ج‌3، ص : 289

و كذا رطوباته و اجزاؤه، سواء كانت مما تحله الحياة أولا (1)

______________________________
في قصعة واحدة، و لا يقعده على فراشه و لا مسجده، و لا يصافحه».

و بعد ثبوت عدم الحرمة في بعض المذكورات، يمنع السياق عن استفادة حرمة الباقي.

و من مجموع ما ذكرنا ظهر حال غير ما تعرضنا له أيضا فلاحظ.

(1) نجاسة ما لا تحله الحياة من قبيل الشعر من الكافر تتوقف على إطلاق في دليل نجاسته يشمل ذلك. فان كان الدليل الآية الكريمة صح التمسك بالإطلاق، لإثبات نجاسة المشرك بتمام أجزائه. و كذلك إذا كان الدليل مثل موثقة ابن أبي يعفور، لأن مقتضى إطلاقها حمل النجاسة على تمام أجزاء الناصب، بل هذا هو مقتضى أشديته من الكلب عرفا. و أما إذا كان الدليل أخبار الأمر بالغسل عند المصافحة و نحوها، فمن الواضح عدم الإطلاق فيها لمثل الشعر. و كذلك أحبار السؤر، إذ لا يصدق السؤر عرفا بمجرد اصابة الشعر. و ينحصر طريق إثبات نجاسة مثل الشعر- حينئذ- بدعوى: إلغاء الخصوصية، لاستبعاد العرف التفكيك بين اجزاء الكافر من حيث النجاسة مع ان نسبة الكفر الى الجميع على نحو واحد، و ليس من قبيل التفكيك في اجزاء الميتة بلحاظ اختلاف نسبة الموت إليها. أو فرض إطلاق في معقد الإجماع بنحو يصح التمسك به، بان يكون نظر مدعى الإجماع إلى النجاسة على الإطلاق، لا إلى نجاسة الكافر في مقابل ما عليه العامة من الطهارة، بنحو يلائم مع فرض كونها من قبيل نجاسة الميتة و مع فرض كونها من قبيل نجاسة الكلب.

و اما رطوبات الكافر، فواضح ان ماء الريق مثلا ليس من اجزاء الكافر، كما ان الحليب ليس من اجزاء المرضعة، فلو جمدنا على ظاهر دليل نجاسة الاجزاء لم يشمل الرطوبات، فتتوقف دعوى نجاستها العينية على ان‌


290
بحوث في شرح العروة الوثقى3

المراد بالكافر و حكم منكر الضروري ؛ ج‌3، ص : 291

[المراد بالكافر و حكم منكر الضروري]

و المراد بالكافر: من كان منكرا للالوهية، أو التوحيد، أو الرسالة، أو ضروريا من ضروريات الدين مع الالتفات الى كونه ضروريا، بحيث يرجع إنكاره إلى إنكار الرسالة و الأحوط الاجتناب عن منكر الضروري مطلقا، و ان لم يكن ملتفتا الى كونه ضروريا (1).

______________________________
يكون التفكيك بينها و بين الاجزاء في النجاسة العينية غير عرفي. فإن تم ذلك كان الدليل اللفظي الدال على نجاسة الكافر- على تقدير تماميته- دالا على نجاسة هذه الرطوبات، و الا كانت نجاستها بالسراية لا بالذات.

(1) اتضح مما سبق ان النجاسة لا تدور مدار الكفر بعنوانه، لكي تثبت نجاسة كل من حكم بكفره، فالبحث في تحقيق المراد بالكافر ليس مفيدا من ناحية إثبات النجاسة، و انما ينتج بلحاظ الآثار الأخرى الدائرة بحسب لسان أدلتها مدار الكفر و الإسلام.

و تفصيل الكلام في ذلك: ان من آمن بالمرسل و الرسول، و التزم إجمالا بهذه الرسالة فهو مسلم حقيقة. و نريد بالتزامه الإجمالي بالرسالة:

ايمانه بان كل ما يحتمل أو يظن أو يقطع باشتمال الرسالة عليه فهو حق إذا كانت الرسالة مشتملة عليه حقا، أي الإيمان بهذه القضية الشرطية في حدود الأشياء التي يحتمل أو يعتقد باشتمال الرسالة عليها. فمن يرى بطلان شي‌ء ما، و يحتمل أو يعتقد في نفس الوقت باشتمال الرسالة عليه، فهذا يعنى انه على الأقل يحتمل فعلا بطلان الرسالة. و اما من يرى بطلان حسن الظلم حتى لو حسنته الشريعة، و هو قاطع في نفس الوقت بعدم تحسين الشريعة له، فهو مؤمن فعلا بالشريعة.

و اعتبار اي قيد زائد في الإسلام على ما ذكرناه يكون تعبديا، و بحاجة‌


291
بحوث في شرح العروة الوثقى3

المراد بالكافر و حكم منكر الضروري ؛ ج‌3، ص : 291

..........

______________________________
إلى دليل، و قد ذكر بهذا الصدد قيدان:

أحدهما: ما ذكره السيد الأستاذ (دام ظله) و هو الايمان بالمعاد.

إذ ذهب الى ان إنكار المعاد يوجب الكفر بعنوانه، حتى إذا لم يرجع الى الايمان بالرسالة. و تمسك لإثبات ذلك بآيات لا تدل على المقصود كقوله تعالى «يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّٰهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنٰازَعْتُمْ فِي شَيْ‌ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّٰهِ وَ الرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّٰهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ، ذٰلِكَ خَيْرٌ وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلًا» «1»، و قوله تعالى:

«وَ الْمُطَلَّقٰاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلٰاثَةَ قُرُوءٍ، وَ لٰا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مٰا خَلَقَ اللّٰهُ فِي أَرْحٰامِهِنَّ، إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّٰهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ» «2»، و قوله تعالى «ذٰلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كٰانَ يُؤْمِنُ بِاللّٰهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ» «3».

و كأن السيد الأستاذ يستظهر من عطف الايمان باليوم الآخر على الايمان باللّه أنه كالإيمان باللّه في كونه دخيلا في الإسلام و كفر منكره. و لكنا نلاحظ:

إن هذا العطف لا يدل على شي‌ء من ذلك، و إنما يعبر عطف الايمان باليوم الآخر عن التهديد بالنار في مقام التأكيد على ما ذكر في صدر الكلام:

من الرد الى اللّه و الرسول، أو عدم كتمان ما في الأرحام، و نحو ذلك.

و كذلك استدل (مد ظله): بقوله تعالى «لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ، وَ لٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّٰهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ» «4».

و ذلك لعطف الايمان باليوم الآخر على الايمان باللّه. غير أن ذلك لا يعني كونه في حكمه الخاص المبحوث عنه هنا. و يمكن أن يستدل أيضا بقوله‌

______________________________
(1) سورة النساء آية 59

(2) سورة البقرة آية 228

(3) سورة البقرة آية 232

(4) سورة البقرة آية 177


292
بحوث في شرح العروة الوثقى3

المراد بالكافر و حكم منكر الضروري ؛ ج‌3، ص : 291

..........

______________________________
تعالى
«إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لٰا يُؤْمِنُونَ بِاللّٰهِ، وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كٰافِرُونَ» «1» إذ بين خصوصيتين في مقام الانتقاص منهم، و ظاهر ذلك كونهما نقصين عرضيين، فلو كان إنكار الآخرة نقصا على أساس رجوعه الى الكفر باللّه لما تم ذلك.

و يرد عليه: أن كونه نقصا مستقلا شي‌ء، و كون هذا النقص ملاكا مستقلا للكفر شي‌ء آخر و عليه فدخل الايمان بالمعاد في الإسلام إنما هو باعتبار كونه من أوضح و أبده ما اشتملت عليه الرسالة، و ليس قيدا مستقلا في الإسلام.

و القيد الآخر ما ذكره جماعة من الفقهاء، بل ادعى أنه المشهور و هو: أن لا يكون منكرا لضروري من ضروريات الدين. و منكر الضروري تارة: يؤدي إنكاره هذا إلى إنكار الرسالة، لالتفاته إلى الملازمة بينها و بين ما أنكره. و أخرى: يرى عدم هذه الملازمة، فلا يسري الإنكار إلى أصل الرسالة. ففي الأول لا شك في كفره، و إنما الكلام في الثاني الذي يكون كفره مبنيا على أخذ القيد المذكور تعبدا في تحقق الإسلام. و قد استدل على ذلك ببعض الروايات، كرواية عبد اللّه بن سنان، المشتملة على:

أنه من ارتكب كبيرة و زعم أنها حلال أخرجه ذلك من الإسلام «2».

و قد اعترض على ذلك بأمرين:

الأول: ما ذكره السيد الأستاد (دام ظله) من ان الكافر له مراتب و عدة إطلاقات. فقد يطلق الكافر في مقابل المسلم، و قد يطلق في مقابل المؤمن، أو في مقابل المطيع، و الشكور، فلا يتعين الإطلاق بلحاظ الأول و أنت تلاحظ ان الرواية لم يرد فيها التعبير بالكافر، و إنما قالت بخروجه‌

______________________________
(1) سورة يوسف الآية 37

(2) سوف يأتي نص الصحيحة مع مداركها


293
بحوث في شرح العروة الوثقى3

المراد بالكافر و حكم منكر الضروري ؛ ج‌3، ص : 291

..........

______________________________
من الإسلام، فهو واضح في اللحاظ الأول، و لا مجال لدعوى الإجمال فيه.

على ان لفظ الكافر عند الإطلاق ينصرف الى ما يقابل المسلم أيضا.

الثاني: ما ذكره المحقق الهمداني (قدس سره) من ان الأخذ بإطلاق الرواية يقتضي كفر مستحل الحرام، سواء كانت حرمته ضرورية أولا، علم بأنه من الإسلام أولا، فيشمل المجتهد الذي يخطئ في فتواه بالحلية، و هذا غير مقصود جزما. فلا بد من تقييد الرواية: إما بكون الحرمة المدعى نفيها ضرورية، و هذا يناسب الاستدلال بالحديث. و إما بكونها معلومة.

و بين القيدين عموم من وجه، و لا معين للقيد الأول.

و أورد السيد الأستاذ (دام ظله) على ذلك: بأن مقتضى إطلاق الرواية، كفر كل من استحل حراما، و يرفع اليد عن هذا الإطلاق بمقدار ما يقتضيه قطعنا بعدم كفر مستحل الحرام بدون ضرورة و لا علم، و يبقى الباقي تحت إطلاق الرواية، فيتم الاستدلال بها.

و التحقيق: أن الرواية لا تشمل في نفسها المجتهد المستحل باجتهاده للحرام و تختص بالمستحل الذي تنجزت عليه الحرمة بالعلم أو غيره من المنجزات. و مثل هذا الاستحلال يوجب الكفر لتعارضه مع الأيمان الإجمالي بالرسالة، و لا يفي ذلك بمقصود المستدل، و فيما يلي نص الرواية لكي يتضح الحال:

«عبد اللّه بن سنان قال: سألت أبا عبد اللّه (ع) عن الرجل يرتكب الكبيرة فيموت، هل يخرجه ذلك من الإسلام، و إن عذب كان عذابه كعذاب المشركين، أم له مدة و انقطاع؟ فقال: من ارتكب كبيرة من الكبائر فزعم أنها حلال، أخرجه ذلك من الإسلام، و عذب أشد العذاب و إن كان معترفا أنه ذنب و مات عليها، أخرجه من الايمان و لم يخرجه من‌


294
بحوث في شرح العروة الوثقى3

المراد بالكافر و حكم منكر الضروري ؛ ج‌3، ص : 291

..........

______________________________
الإسلام، و كان عذابه أهون من عذاب الأول»
«1» و من الواضح اختصاص الرواية بمن تنجزت عليه الحرمة، بقرينة العقاب و لفظة الارتكاب. و عليه فلا يستفاد من الرواية كفر من أنكر الضروري لشبهة أوجبت غفلته عنه مع إيمانه الإجمالي بالرسالة:

ثم إن الرواية لو تمت دلالتها على كفر المستحل و لو لشبهة. فإثبات تمام المدعى بها يتوقف أولا: على إلغاء خصوصية استحلال الحرام، لكي يتعدى الى إنكار غير الحرمة من الأحكام الضرورية. و ثانيا على إلغاء دخل الارتكاب الفعلي للحرام في الحكم بالكفر، كما هو مقتضى الجمود على عبارة الرواية.

و مثل هذه الرواية بعض الروايات الأخرى، كرواية مسعدة بن صدقة عن ابي عبد اللّه (ع) قال:- في حديث-: «فقيل له أ رأيت المرتكب للكبير يموت عليها، أ نخرجه من الايمان، و ان عذب بها فيكون عذابه كعذاب المشركين، أو له انقطاع؟. قال: يخرج من الإسلام إذا زعم انها حلال، و لذلك يعذب باشد العذاب.» «2».

و في بعض الروايات علق فيها الحكم بالكفر على عنوان الجحود، كما في رواية داود بن كثير الرقي قال: «قلت لأبي عبد اللّه (ع): سنن رسول اللّه (ص) كفرائض اللّه عز و جل؟ فقال: ان اللّه عز و جل فرض فرائض موجبات على العباد، فمن ترك فريضة من الموجبات فلم يعمل بها و جحدها كان كافرا. الحديث» «3». و قد أخذ في هذا الحديث (الجحود)، و هو انما يعلم بصدقه عند العلم، فلا يستفاد من الرواية أكثر‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 2 من أبواب مقدمة العبادات

(2) وسائل الشيعة باب 2 من أبواب مقدمة العبادات

(3) وسائل الشيعة باب 2 من أبواب مقدمة العبادات


295
بحوث في شرح العروة الوثقى3

هل يتبع ولد الكافر أباه في النجاسة و فروع ذلك ؛ ج‌3، ص : 296

[هل يتبع ولد الكافر أباه في النجاسة و فروع ذلك]

و ولد الكافر يتبعه في النجاسة (1).

______________________________
مما تقتضيه القاعدة.

و هناك رواية العجلي عن ابي جعفر (ع) قال: «سألته عن ادنى ما يكون العبد به مشركا. فقال: من قال للنواة انها حصاة و للحصاة انها نواة، ثم دان به» «1».

و توضيح ذلك: ان الإنسان قد يقول للنواة انها حصاة في مقام الكذب، و هذا خارج عن فرض الرواية. و اخرى: يقول ذلك و يجعله دينا، بنحو لا بد من الجري على طبقه اعتقادا أو عملا، و هذا تشريع لدين في مقابل اللّه تعالى، و شرك، بمعنى أنه أشرك مع اللّه غيره في أحد المقامات التي ينفرد بها، و هو مقام تشريع الدين. غير ان الرواية لا تدل على ان هذا الإشراك مع اللّه في مقام التشريع يوجب الكفر، بالمعنى الذي تترتب عليه الآثار المعهودة للكفر.

(1) قد يقرب القول بنجاسة ولد الكافر- كما عليه المشهور- بعدة وجوه:

منها: التمسك باستصحاب النجاسة الثابتة له عند ما كان دما أو منيا و يدفع: بتغير الموضوع بالاستحالة.

و منها: التمسك باستصحاب النجاسة الثابتة له عند ما كان جنينا باعتبار جزئيته للكافر فيما إذا ولد من أم كافرة. و يدفع: بان الجنين ليس جزءا من الام، و لا تشمله نجاستها العينية.

و منها: التمسك بنفس دليل نجاسة الأبوين لإثبات نجاسته بالفهم العرفي، لأن الولد عصارة الأبوين، كما يفهم نجاسة المتولد من كلب و خنزيرة من دليل نجاستهما. و يدفع: بان الولد انما يكون كذلك بلحاظ‌

______________________________
(1) الكافي الجزء الثاني ص 397 من الطبعة الحديثة


296
بحوث في شرح العروة الوثقى3

هل يتبع ولد الكافر أباه في النجاسة و فروع ذلك ؛ ج‌3، ص : 296

..........

______________________________
الصفات الطبيعية للأبوين، فلا يتم هذا البيان في مورد كان ملاك نجاسة الأبوين صفة عرضية كالكفر.

و منها: ما دل على عقاب أولاد الكفار و كفرهم، فيشملهم دليل نجاسة الكافر. و يرد عليه: أولا: ان هذا موقوف على تمامية الإطلاق في دليل نجاسة الكافر بنحو مفيد في المقام. و ثانيا: ان تلك الروايات منافية بظاهرها للعدل الإلهي، و ذلك كرواية عبد اللّه بن سنان: «عن ولد الكفار الذين يموتون قبل البلوغ؟ قال: كفار يحشرون الى جهنم» فلا بد من طرحها. مضافا الى ان بعضها لا يدل على أكثر من تسجيل العقاب و بعضها و ان طبق عنوان (الكافر) كما في الرواية المذكورة، إلا أنه بقرينة سؤال السائل عن حال ما بعد الموت يتجه التطبيق على هذه الحالة، و ينحصر أثره حينئذ بالعقاب.

و منها: ما دل في أحكام الأسر على ان إسلام الأب إسلام ولده «1» و الاستدلال بذلك يتوقف على ان يكون ذلك مقتضيا- عرفا أو عقلا- لتنزيل كفره منزلة كفر ولده أيضا بلحاظ سائر الأحكام بما فيها النجاسة بناء على كونها حكما لطبيعي الكافر. و اقتضاؤه لذلك ممنوع كما هو واضح.

و منها: دعوى: ان ولد الكافر كافر حقيقة و لو لم يكن مميزا، لان التقابل بين الإسلام و الكفر تقابل التناقض، أو تقابل العدم و الملكة مع أخذ القابلية النوعية، فيشمله دليل نجاسة الكافر.

و يرد عليه: أولا: عدم وجود إطلاق لفظي في دليل نجاسة الكافر ليشمله، و لا يكفي مجرد كفره لكي تشمله روايات نجاسة الكتابي كما هو واضح. و ثانيا: ان فرض كون الكفر مقابلا للإسلام بأحد النحوين المذكورين على خلاف المرتكز العرفي و المتشرعي، القاضي بكون الكفر‌

______________________________
(1) لاحظ وسائل الشيعة كتاب الجهاد باب 43


297
بحوث في شرح العروة الوثقى3

هل يتبع ولد الكافر أباه في النجاسة و فروع ذلك ؛ ج‌3، ص : 296

..........

______________________________
مقابلا للإسلام بتقابل العدم و الملكة مع أخذ القابلية الشخصية في طرف العدم أو بتقابل التضاد كما قد يستظهر من رواية زرارة عن ابي عبد اللّه عليه السلام «لو ان العباد إذا جهلوا وقفوا و لم يجحدوا لم يكفروا»
«1»، و رواية محمد بن مسلم قال: «كنت عند ابي عبد اللّه (ع) جالسا عن يساره و زرارة عن يمينه، فدخل عليه أبو بصير فقال: يا أبا عبد اللّه ما تقول فيمن شك في اللّه؟ فقال: كافر يا أبا محمد. قال: فشك في رسول اللّه؟

فقال: كافر. ثم التفت الى زرارة، فقال: انما يكفر إذا جحد» «2».

إذ قد يفهم من الروايتين ان الكفر بمعنى الجحود، و هذا أمر وجودي.

و يقيد صدر الرواية الثانية الدال على كفر الشاك بما إذا جحد و أنكر.

غير أن لازم ذلك الحكم بعدم كفر الشاك في اللّه و النبوة غير المنكر و هو على خلاف الارتكاز. و من هنا قد تحمل الروايتان على مرحلة البقاء و النظر الى من كان مسلما في نفسه، و أنه لا يخرج من الإسلام بمجرد عروض الشك ما لم ينكر، فيدل ذلك على أن الشك الطارئ لا يخرج عن الإسلام. بل قد تكون الرواية الأولى ناظرة إلى الجهل ببعض الفروع و الأحكام بعد افتراض الايمان باللّه و رسوله، و تكون بصدد بيان أن الجاهل بها إذا لم يتسرع بالإنكار و الجحود فهو باق على إسلامه، و هذا معنى ثابت على القاعدة.

و على أي حال فان لم يثبت كون التقابل بين الكفر و الإسلام بنحو التضاد فهو من تقابل العدم و الملكة. و ليس الكلام في تطبيق المصطلح الفلسفي لهذا العنوان، حتى يقال: انه يكفي فيه القابلية النوعية، بل في الاستظهار العرفي القاضي بأخذ القابلية الشخصية في المقام، و عليه فلا يمكن أن يصدق عنوان الكافر على غير المميز من أولاد الكفار.

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 2 من أبواب مقدمة العبادات

(2) وسائل الشيعة باب 6 من أبواب حد المرتد.


298
بحوث في شرح العروة الوثقى3

هل يتبع ولد الكافر أباه في النجاسة و فروع ذلك ؛ ج‌3، ص : 296

إلا إذا أسلم بعد البلوغ أو قبله، مع فرض كونه عاقلا مميزا و كان إسلامه عن بصيرة على الأقوى (1).

______________________________
و منها: الإجماع المدعى في لسان جماعة من تبعية أولاد الكفار لهم في النجاسة: و هذا الإجماع قد يقرب بصيغة: الإجماع البسيط. و قد يقرب بصيغة الإجماع المركب، إذ يقال: إن ولد الكافر المميز المعتنق لدين أبويه نجس بلا إشكال لكفره و يضم الى ذلك، الإجماع على عدم الفصل بينه و بين غيره من أولاد الكفار، فيحكم بنجاسة الجميع. أما التقريب الأول، فيرد عليه: أن التبعية بهذا العنوان ليست موجودة في جملة من كلمات الفقهاء الأقدمين، و إنما الوارد مصاديق التبعية في بعض الموارد، كما في باب الأسر و التغسيل و عدم التوارث. و من المحتمل أن يكون ذلك. منشأ لحدس أو استظهار الإجماع على كبرى التبعية مطلقا حتى في النجاسة، فيكون من الإجماعات المدعاة على أساس الحدس التي لا معول عليها. و يؤيد و هن الإجماع تعبير العلامة ب‍ (الأقرب)، و احتمال كونه مدركيا و مستندا الى بعض الوجوه الأخرى.

و أما التقريب الثاني، فيرد عليه: إن عدم الفصل غير الإجماع على الملازمة، و المفيد هو الثاني، و ما قد يدعى إحرازه هو الأول.

و عليه فلا موجب للحكم بنجاسة أولاد الكفار.

(1) إذا بني على نجاسة ولد الكافر فلا شك في ارتفاع النجاسة العينية بالإسلام بعد البلوغ، على ما سيأتي في بحث المطهرات، إن شاء اللّه تعالى و أما إذا أسلم ولد الكافر قبل بلوغه، فقد يقال: بطهارته لعدم شمول دليل النجاسة له، لأن دليل نجاسة ولد الكافر إن كان هو الإجماع فلا شك في اختصاصه بغير الصبي المسلم، و إن كان نفس دليل نجاسة الكافر- لأن‌


299
بحوث في شرح العروة الوثقى3

هل يتبع ولد الكافر أباه في النجاسة و فروع ذلك ؛ ج‌3، ص : 296

و لا فرق في نجاسته بين كونه من حلال أو من الزنا (1) و لو في مذهبه.

______________________________
كل من هو غير مسلم كافر- فمن الواضح عدم شموله لمورد الكلام.

و لكن التحقيق: أن هذا لا يكفي للحكم بطهارته، إذ يجري استصحاب النجاسة العينية، مع عدم قيام دليل اجتهادي على الطهارة، لأن الموضوع العرفي للقضية المتيقنة محفوظ في مرحلة البقاء، و ذلك لأن الموضوع العرفي للنجاسة هو الجسم دائما، و سائر الجهات الأخرى حيثيات تعليلية، فمتى شك في بقاء النجاسة مع انخفاظ ذات الجسم جرى استصحابها. و لو سلم أن العنوان مقوم للموضوع عرفا فالعنوان النجس حدوثا ليس عنوان الكافر ليقال بعدم انحفاظه بعد تبدل الكفر بالإسلام، بل هو عنوان ولد الكافر و هذا محفوظ بنفسه في مرحلة البقاء، غاية الأمر يشك في بقاء النجاسة للشك في دخل عدم الإسلام في موضوع الحكم بالنجاسة، و هذا لا ينافي انحفاظ الموضوع العرفي، فإن العرف لا يرى نجاسة من أسلم من صبيان الكفار على تقدير ثبوتها نجاسة حادثة، بل يراها استمرار النجاسة السابقة و عليه يشكل الحكم بطهارة أولاد الكفار إذا أسلموا قبل البلوغ ما لم يقم دليل اجتهادي على طهارتهم، و لا يوجد مثل هذا الدليل حتى مع البناء على قبول إسلامهم، لعدم وجود دليل اجتهادي لفظي على طهارة كل مسلم ليتمسك بإطلاقه للصبي المذكور، فالاستصحاب محكم.

(1) قد يقال: ان المسألة مبنية على انه هل يستفاد من أدلة نفي إرث ولد الزنا نفي الولدية شرعا أولا؟ فعلى الأول لا موجب للحكم بنجاسة ابن الكافر من الزنا. و على الثاني يكون ولد الكافر حقيقة و شرعا، فيشمله دليل نجاسة أولاد الكفار.


300
بحوث في شرح العروة الوثقى3

(مسألة - 1): الأقوى طهارة ولد الزنا من المسلمين(3) ؛ ج‌3، ص : 301

و لو كان أحد الأبوين مسلما فالولد تابع له إذا لم يكن عن زنا (1)، بل مطلقا على وجه (2) مطابق لأصل الطهارة.

(مسألة- 1): الأقوى طهارة ولد الزنا من المسلمين (3)

______________________________
و لكن التحقيق: ان المسألة غير مبنية على ذلك، بل قد يقال:

بالطهارة حتى على التقدير الثاني، لعدم وجود إطلاق لفظي في دليل نجاسة ولد الكافر ليتمسك به. و قد يقال: بالنجاسة حتى على التقدير الأول بدعوى: انه إذا تم دليل لفظي على نجاسة ولد الكافر فهو يدل بالفحوى العرفية على نجاسة ولد الزنا، إذ لا يحتمل عرفا كون طيب المولد دخيلا في إيجاد النجاسة، فهذه نكتة لا نفهم نجاسة ولد الزنا من الدليل المذكور بالفحوى العرفية.

(1) لقصور دليل النجاسة عن الشمول لهذه الحالة. و لتحقيق ذلك لا بد من ملاحظة نوع الدليل، فان كان مدرك نجاسة ولد الكافر التمسك باستصحاب النجاسة الثابتة عند كون الولد منيا أو جنينا جرى هذا المدرك في المقام أيضا، و ان كان مدرك النجاسة نفس دليل نجاسة الوالدين باعتبار كون الولد عصارة لهما فلا يشمل صورة إسلام أحدهما، و إذا كان المدرك مثل رواية ابن سنان الحاكمة: بأن ولد الكفار يدخلون مداخل آبائهم، أو رواية حفص الحاكمة: بأن إسلام الأب إسلام لولده، فهو منطبق في حالة كون الأب كافرا و لو كانت الأم مسلمة.

(2) لان قصور مدرك النجاسة على بعض التقادير ثابت في فرض كون التولد من المسلم بسبب الزنا أيضا فلاحظ.

(3) لأن الأصل طهارته. و ما قد يستدل به على نجاسته إما نفس دليل نجاسة الكافر، بدعوى كونه كافرا، و إما الروايات الخاصة الواردة‌


301
بحوث في شرح العروة الوثقى3

(مسألة - 1): الأقوى طهارة ولد الزنا من المسلمين(3) ؛ ج‌3، ص : 301

سواء كان من طرف أو من طرفين، بل و ان كان أحد الأبوين مسلما كما مر.

______________________________
في سؤره.

أما الأول، فيرد عليه: أولا: إنه لا إطلاق في دليل نجاسة الكافر ليتمسك به لإثبات نجاسة ولد الزنا، و لو ثبت كون هذا الوصف سببا في كفره تعبدا.

و ثانيا: إنه لا دليل على كفر ولد الزنا، سوى ما قد يتوهم من استفادة ذلك مما دل على عدم قبول شهادته و عدم جواز الائتمام به و عدم كون ديته دية المسلم و دخوله النار، بدعوى: أن نفي تلك الآثار عن ولد الزنا مع ضم أصالة عدم التخصيص في أدلتها، ينتج خروجها تخصصا المساوق لكفره. و يندفع: بأنه لا تجري أصالة عدم التخصيص لإثبات التخصص مضافا الى أن جملة من الآثار المنفية آثار لما هو أخص من الإسلام. و دعوى:

أن المستظهر من الروايات المذكورة تنزيل ولد الزنا منزلة الكافر بلحاظ جميع الآثار، مدفوعة: بأن ألسنتها خالية من التنزيل، أو غير وافية بإطلاقها فلا دليل إذن على كفر ولد الزنا، بل ان الكفر الحقيقي غير محتمل وجدانا إذ يرى خلافه في الخارج.

و أما الثاني: فقد استدل بجملة من الروايات على نجاسته، منها:

رواية ابن أبي يعفور عن أبي عبد اللّه (ع)، قال: «لا تغتسل من البئر التي يجتمع فيها غسالة الحمام، فان فيها غسالة ولد الزنا، و هو لا يطهر إلى سبعة آباء، و فيها غسالة الناصب و هو شرهما، ان اللّه لم يخلق خلقا شرا من الكلب، و ان الناصب أهون على اللّه من الكلب» «1».

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 11 من أبواب الماء المضاف و المستعمل


302
بحوث في شرح العروة الوثقى3

(مسألة - 1): الأقوى طهارة ولد الزنا من المسلمين(3) ؛ ج‌3، ص : 301

..........

______________________________
و يرد على التمسك بالرواية: ان الاستدلال على النجاسة ان كان بالنهي عن غسالة ولد الزنا، فهو انما يكون إرشادا إلى النجاسة فيما إذا لم يكن المورد معرضا عرفا و متشرعيا لاحتمال حزازة معنوية، و الا كان مجملا من هذه الناحية، و المقام من هذا القبيل. و ان كان بقوله «لا يطهر» فهو انما يدل إذا كانت الطهارة في مقابل النجاسة، لا في مقابل طيب المولد الذي هو نحو طهارة يقابلها نحو مناسب لها من القذارة، و هذا النحو من الطهارة ان لم يكن هو المنصرف في المقام فلا أقل من احتماله بنحو يوجب الإجمال، بل يشهد له قوله «لا يطهر» إلى سبعة آباء، مع وضوح عدم النجاسة بالمعني المصطلح في الولد الشرعي لابن الزنا. و مما يعزز حمل الحزازة على جهة معنوية: التعبير بالشر و الهوان في مقام المقايسة بين الناصب و ولد الزنا، أو بينه و بين الكلب.

و قد ذكر السيد الأستاذ (دام ظله): أن الأخبار الناهية عن الاغتسال من البئر التي تجتمع فيها غسالة ماء الحمام، معللا بأن فيها غسالة ولد الزنا، لا دلالة لها على نجاسة ولد الزنا، و ذكره مقارنا للنصارى و اليهود لا يقتضي نجاسته، لأن النهي بالإضافة إليهم ليس من باب النجاسة.

غير انا لم نجد عطف اليهودي و النصاراني على ولد الزنا في أي رواية من الروايات الناهية عن الاغتسال من بئر ماء الحمام، حتى تتوهم قرينيته على النجاسة، و إنما ذكر الناصب كما في هذه الرواية، أو الجنب أو الزاني كما في بعض الروايات الآتية. اللهم الا أن يريد مرسل الوشاء الآتي، غير أنه لم يذكر فيه ماء الحمام أصلا.

و منها: رواية حمزة بن أحمد: «سألته- أو سأله غيري- عن الحمام. قال:

أدخله بمئزر، و غض بصرك، و لا تغتسل من البئر التي يجتمع فيها ماء الحمام فإنه يسيل فيها ما يغتسل به الجنب، و ولد الزنا، و الناصب لنا أهل البيت‌


303
بحوث في شرح العروة الوثقى3

(مسألة - 1): الأقوى طهارة ولد الزنا من المسلمين(3) ؛ ج‌3، ص : 301

..........

______________________________
و هو شرهم»
«1» و يظهر الحال في رد الاستدلال بها مما تقدم.

و منها: ما رواه علي بن الحكم عن رجل عن أبي الحسن (ع)- في حديث- إنه قال: «لا تغتسل من غسالة ماء الحمام، فإنه يغتسل فيه من الزنا، و يغتسل فيه ولد الزنا، و الناصب لنا أهل البيت و هو شرهم «2» و يتضح الإيراد عليه مما تقدم. مضافا الى إدراج الاغتسال من الزنا في نفس السياق، فإنه قرينة على ملاحظة الحزازة المعنوية، و إلا فلا فرق بين الاغتسال من الزنا و الاغتسال من جنابة أخرى من ناحية النجاسة و الطهارة بقطع النظر عن فرض اتفاق العرق أحيانا، بناء على نجاسة عرق الجنب من الحرام.

و منها: مرسل الوشاء عمن ذكره عن ابي عبد اللّه «انه كره سؤر ولد الزنا، و سؤر اليهودي، و النصراني، و المشرك، و كل من خالف الإسلام، و كان أشد ذلك عنده سؤر الناصب» «3» و يرد عليه: ان الكراهة تلائم مع الكراهة المصطلحة. و السياق كما يشتمل على ما هو مفروض النجاسة كالمشرك كذلك يشتمل على ما ثبتت طهارته كالكتابي. هذا مضافا الى ان النهي عن سؤر إنسان لا يدل على النجاسة، كما تقدم.

و هناك رواية لزرارة «لا خير في ولد الزنا. الحديث» «4» و اخرى لمحمد بن مسلم «لبن اليهودية و النصرانية و المجوسية أحب إلى من ولد الزنا. الحديث» «5» و كونهما غير دالتين على النجاسة في غاية‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 11 من أبواب الماء المضاف و المستعمل

(2) المصدر السابق نفسه

(3) وسائل الشيعة باب 3 من أبواب الأسئار

(4) ثواب الأعمال الصدوق ص 254

(5) وسائل الشيعة باب 75 من أبواب أحكام الأولاد


304
بحوث في شرح العروة الوثقى3

حكم الغلاة و الخوارج و النواصب و غيرهم ؛ ج‌3، ص : 305

[حكم الغلاة و الخوارج و النواصب و غيرهم]

(مسألة- 2): لا إشكال في نجاسة الغلاة (1).

______________________________
الوضوح، و عليه فولد الزنا محكوم بالطهارة.

(1) لمحاولة إثبات النجاسة للغلاة طريقان:

الأول: إثبات نجاستهم ابتداء بقطع النظر عن كفرهم و يستدل لذلك: بما عن الكشي بسنده عن أبي الحسن (ع)- في أمر فارس بن حاتم- من قوله: «و لكن صونوا أنفسكم عن الخوض و الكلام في ذلك و تجنبوا مساورته. الحديث»، فيستفاد من النهي عن مساورته كونه نجسا. و لكن الرواية غير تامة سندا، و لا متنا، و لا دلالة. أما السند:

فلضعفه بعدة أشخاص منهم: جبرئيل بن أحمد الذي يروي عنه الكشي و علي ابن محمد و أما المنن، فلو قرع الاختلاف فيه، إذ رويت فقرة الاستدلال بعبارة (و توقوا مشاورته) «1» و أما الدلالة فلأن المساورة المنهي عنها لم يعلم كونها من السؤر بمعنى النهي عن سؤره، ليتوهم دلالة ذلك على النجاسة، بل لعلها بمعنى المواثبة و المنازعة، لأن ساوره لغة بمعنى حافزه و زاحمه و واثبه، فيرجع الى النهي عن الدخول معه في الجدال و القيل و القال. هذا مضافا الى عدم وجود إطلاق في الرواية يمكن التمسك به لتمام أصناف الغلاة، لورودها في شخص خاص.

الثاني: إثبات نجاستهم من حيث الكفر. و هذا مركب من مقدمتين:

إحداهما: ان الكافر نجس. و الأخرى: أن الغلو يستوجب الكفر أما المقدمة الأولى، فقد تقدم الإشكال في إطلاقها لمنتحلي الإسلام، و عليه فالغلاة الناسبون أنفسهم إلى الإسلام ليسوا مشمولين لدليل النجاسة و لو ثبت كفرهم.

و أما المقدمة الثانية، فتوضيح الحال فيها: ان الغلو تارة: يكون‌

______________________________
(1) اختيار معرفة الرجال المعروف برجال الكشي الحديث 1004 و 1010


305
بحوث في شرح العروة الوثقى3

حكم الغلاة و الخوارج و النواصب و غيرهم ؛ ج‌3، ص : 305

..........

______________________________
بلحاظ مرتبة الألوهية، و أخرى: بلحاظ مرتبة النبوة، و ثالثة: بلحاظ شئون أخرى من الشؤون المتصلة بصفات الخالق تعالى و أفعاله.

أما الغلو بلحاظ مرتبة الألوهية، فيتمثل تارة: في اعتقاد الشخص بأن من غلا في حقه هو اللّه تعالى. و أخرى: في اعتقاده بأنه غير اللّه الواجب الوجود، إلا أنه شريكه في الألوهية و استحقاق العبادة، إما بنحو عرضي أو بنحو طولي و ثالثة: في اعتقاده بحلول اللّه أو اتحاده مع ذلك الغير و كل ذلك كفر: أما الأول، فلأنه إنكار للّه.

و أما الثاني، فلأنه إنكار للتوحيد و أما الثالث، فلأن الحلول و الاتحاد مرجعهما الى دعوى ألوهية غير اللّه، لأنهما بالنظر العرفي واسطتان في الثبوت فينافي مع عقد المستثنى منه بحسب المدلول العرفي لشهادة أن «لا إله إلا اللّه» بل ينافي مع عقد المستثنى أيضا، لأن كلمة «اللّه» في عقد المستثنى بحسب مدلولها الارتكازي تشتمل على كثير من الصفات المنافية لأحوال من غلا في حقه كالمشي في الأسواق و الأكل و الشرب.

و أما الغلو بلحاظ مرتبة النبوة، فيتمثل في اعتقاد المغالي بأن من غلا في حقه أفضل من النبي و أنه همزة الوصل بين النبي و اللّه أو أنه مساو له على نحو لا تكون رسالة النبي بين اللّه و العباد شاملة له. و كل ذلك يوجب الكفر، لمنافاته للشهادة الثانية بمدلولها الارتكازي في ذهن المتشرعة المشتمل على التسليم بأن النبي (ص) رسول اللّه الى جميع المكلفين من دون استثناء.

و اما الغلو بلحاظ الصفات و الأفعال بمعنى نسبة صفة أو فعل لشخص ليس على مستواهما، فان كان اختصاص تلك الصفة أو الفعل باللّه تعالى من ضروريات الدين دخل في إنكار الضروري على الخلاف المتقدم فيه و الا لم يكن كفرا. و يدخل في الأول: ادعاء تفويض الأمر من اللّه تعالى‌


306
بحوث في شرح العروة الوثقى3

حكم الغلاة و الخوارج و النواصب و غيرهم ؛ ج‌3، ص : 305

و الخوارج، و النواصب (1).

______________________________
لأحد من عباده، و نسبة الخلق، و الأحياء، و الإماتة، و نحو ذلك من أنحاء التدبير الغيبي لهذا العالم الى أحد من الناس.

و قد يستدل على استتباع الغلو للكفر مطلقا و لو تعبدا برواية مرازم قال: قال أبو عبد اللّه (ع): «قل للغالية توبوا الى اللّه، فإنكم فساق كفار مشركون» «1». و هذا الاستدلال غير تام. أما أولا: فلضعف سند الرواية بعلي بن محمد. و اما ثانيا: فلضعف الدلالة باعتبار تكفل الرواية لقضية خارجية، حيث يأمر الإمام الراوي أن يقول للغالية ذلك الكلام فلا بد ان يكون المنظور جماعة معينين، و ليس الغلو بعنوانه مذهبا معينا محددا، و انما هو درجات و ألوان، فتكفير جماعة منهم لا يثبت كفر الغلاة على الإطلاق. و الجمع بين الفسق و الكفر و الشرك في سياق واحد مما يوهن أيضا دلالة الكفر على المعنى المساوق للمروق من دين الإسلام.

(1) لإثبات نجاسة النواصب طريقان، كما تقدم في الغلاة.

الأول- محاولة الاستدلال على نجاستهم ابتداء بعدة روايات:

منها- روايات حمزة بن أحمد، و علي بن الحكم عن رجل، و ابن ابي يعفور، المتقدمة في بحث نجاسة ولد الزنا مع المناقشة في دلالتها على النجاسة مضافا الى ضعف أسانيدها جميعا.

و منها- موثقة عبد اللّه بن أبي يعفور عن أبي عبد اللّه المتقدمة في أدلة نجاسة الكافر، و التي جاء فيها: «و إياك أن تغتسل من غسالة الحمام ففيها تجتمع غسالة: اليهودي، و النصراني، و المجوسي، و الناصب لنا أهل البيت فهو شرهم، فان اللّه تبارك و تعالى لم يخلق خلقا أنجس من الكلب و ان الناصب لنا أهل البيت لأنجس منه».

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 10 من أبواب أحكام حد المرتد ح 41


307
بحوث في شرح العروة الوثقى3

حكم الغلاة و الخوارج و النواصب و غيرهم ؛ ج‌3، ص : 305

..........

______________________________
و يرد على الاستدلال بها: ان أنجسية الناصب من الكلب ذكرت تعليلا لقوله «فهو شرهم»، و شرية الناصب ظاهرة في الحيثية المعنوية و هذا إن لم يوجب- للزوم التناسب بين العلة و المعلول- حمل النجاسة على جهة معنوية أيضا، فلا أقل من اقتضائه لإجمال كلمة النجاسة في جانب التعليل و منها: رواية خالد القلانسي المتقدمة في أخبار نجاسة أهل الكتاب قال: «قلت لأبي عبد اللّه: ألقى الذمي فيصافحني. قال: امسحها بالتراب و بالحائط. قلت: فالناصب. قال: اغسلها». و الرواية ساقطة دلالة، لأن غلبة عدم الرطوبة المسرية عند المصافحة، مع ارتكاز عدم التنجيس بدونها، قرينة على ان الأمر بالغسل تنزيهي أو لجهة معنوية و ساقطة سندا، لعدم ثبوت وثاقة أكثر من واحد من رجال السند، كعلي بن معمر و كذلك خالد القلانسي، بناء على عدم ثبوت وحدته مع خالد بن ماد القلانسي الذي وثقه النجاشي و الشيخ، لتعدد خالد القلانسي، بشهادة ذكر الشيخ الطوسي في رجاله لثلاثة بهذا الاسم في أصحاب الإمام الصادق و اقتصار فهرستي الشيخ و النجاشي على خالد بن ماد القلانسي. و توثيقه ليس قرينة على وحدة العناوين الثلاثة، لاختصاص الفهرستين بالمصنفين خاصة، اللهم الا ان يدعى انصراف خالد القلانسي المطلق الى المصنف و على اي حال يكفى عدم ثبوت وثاقة علي بن معمر في سقوط الرواية.

ثم لو ثبتت نجاسة النواصب بدليل مباشر، فقد يدعى ان ذلك يكون بنفسه دليلا على كفرهم، لان المسلم لا يحكم بنجاسته. و يرد على ذلك:

أولا: انه لم يدل دليل اجتهادي لفظي على ان كل مسلم طاهر، ليتمسك به لإثبات عدم الإسلام عند قيام الدليل على عدم الطهارة. و ثانيا: انه من التمسك بالإطلاق أو العموم في موارد دوران الأمر بين التخصيص و التخصص.

الثاني- إثبات نجاستهم بملاك الكفر، و قد تقدم الإشكال في الكبرى‌


308
بحوث في شرح العروة الوثقى3

حكم الغلاة و الخوارج و النواصب و غيرهم ؛ ج‌3، ص : 305

..........

______________________________
لعدم شمول دليل نجاسة الكافر لمنتحلي الإسلام.

و اما الصغرى: فان بلغ بغض الناصبي لأهل البيت إلى درجة يحمل معها ما يقطع أو يحتمل صدوره من النبي في حقهم على الخطأ و الهوى فهذا خلاف التصديق الإجمالي بالرسالة المقوم للإسلام، فيوجب الكفر و اما إذا كان بغضه سببا في جزمه بعدم صدور شي‌ء من المدح و التكريم من النبي (ص) في حق أهل بيته، فينكر على هذا الأساس ورود أمر من الشريعة بالولاء لهم و لو بالمعنى الأعم، فهذا يوجب الكفر إذا قلنا بان منكر الضروري بما هو منكر لذلك، كافر لأن إنكار لزوم ولايتهم بالمعنى الأعم إنكار لما هو ثابت بالضرورة من الدين. و لو تشكك أحد في بلوغ وضوح هذه الولاية إلى درجة الضرورة بسبب عوامل الضغط و الإخفاء و التحريف، لم يكن ذلك مهما، لان مدرك كفر منكر الضروري لو قيل به انما هو رواية عبد اللّه بن سنان المتقدمة و لم يؤخذ فيها عنوان إنكار الضروري، بل أخذ عنوان من يرتكب الكبيرة و هو يرى انها حلال، و هذا العنوان منطبق في محل الكلام جزما، و المتيقن خروجه بالتخصيص من إطلاق الرواية لا يشمل الناصبي المذكور. و اما إذا لم نقل بموضوعية إنكار الضروري بعنوانه للكفر، فلا يثبت الكفر في الحالة المذكورة، الا انه يمكن ان يتمسك حينئذ لإثبات الكفر في مطلق الناصب و المبغض لأهل البيت بالروايات الواردة بمضمون: حبنا ايمان و بغضنا كفر، و بعضها صحيح السند «1» فيدل على ان عدم بغضهم شرط تعبدي في الإسلام، لأن الظاهر من الكفر المعنى المقابل للإسلام. و توصيف الحب بأنه إيمان لا يعني ارادة المرتبة المقابلة للايمان من الكفر، لان كون حبهم ايمانا يقتضي ثبوت ما يقابل الايمان بمجرد عدم حبهم و لو لم يكن هناك بغض و هذا يناسب مع كون بغضهم كفرا. و سوف يأتي تتمة تحقيق و نقد لهذا الاستدلال‌

______________________________
(1) الوسائل باب 10 من أبواب حد المرتد.


309
بحوث في شرح العروة الوثقى3

حكم الغلاة و الخوارج و النواصب و غيرهم ؛ ج‌3، ص : 305

..........

______________________________
عند الحديث عن المجسمة.

هذا حكم الناصب عموما.

و أما الخوارج، فقد يقال: ان الخوارج بمعنى الفرقة الخاصة المكفرة لأمير المؤمنين عليه السلام يندرجون في النواصب، فيحكم بكفرهم، و بنجاستهم إذا بنى على كفر النواصب و نجاستهم و الخوارج بمعنى الخارجين على امام زمانهم المحاربين لحجة اللّه في خلقه لا يتعين أن يكونوا نصابا، إذ قد تكون محاربتهم للإمام بسبب إغراءات المقام و شهوة الجاه مع عدم بغض الامام و التحقيق: ان نجاسة الناصبي أو كفره، إن كان المدرك لإثبات ذلك ما دل على أن بغضهم كفر، لم يشمل هذا الدليل بلفظه الخارج على الامام بدون بغض، و تبقى حينئذ دعوى: إمكان الشمول بالفحوى العرفية و إن كان المدرك روايات النهي عن سؤر الناصب لأهل البيت، فمن الواضح أن من يحاربهم و يعتدي عليهم من أوضح مصاديق الناصب، لأنه ينصب لهم العداوة، فينطبق عليه العنوان و إن لم يكن مبغضا بقلبه. و إن كان المدرك ما دل على كفر منكر الضروري، فقد لا يكون المبغض منكرا للضروري، و قد يكون المحارب غير المبغض منكرا للضروري إذا ادعى وجوب محاربة أهل البيت و قتالهم مع ضرورة عدم ثبوت ذلك في الشريعة و قد يستدل على كفر الخوارج بالخصوص، تارة: بالنبوي الدال على مروقهم من الدين كمروق السهم و أخرى. برواية الفضيل قال: دخلت على أبي جعفر (ع) و عنده رجل، فلما قعدت قام الرجل فخرج، فقال عليه السلام لي: يا فضيل ما هذا عندك؟ فقلت: و ما هو؟ قال: حروري قلت: كافر. قال: اي و اللّه مشرك «1».

أما الأول، فالاستدلال به موقوف على أن يكون المراد بالدين الإسلام‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 10 من أبواب أحكام حد المرتد ح 55


310
بحوث في شرح العروة الوثقى3

حكم الغلاة و الخوارج و النواصب و غيرهم ؛ ج‌3، ص : 305

و اما المجسمة (1).

______________________________
لا الطاعة، و هو ساقط سندا على أي حال. و أما الثاني، فلا ينبغي أن يحمل على التطبيق الحقيقي للعنوان على الخارجي، لوضوح أنه ليس مشركا بالمعنى المنصرف من اللفظ. و لا على التطبيق التنزيلي بلحاظ الآثار الشرعية لأنه لا يناسب اختيار الامام لعنوان المشرك في مقام التنزيل، مع أن الآثار الشرعية مترتبة عادة على عنوان الكافر بما فيها النجاسة، بناء على نجاسة طبيعي الكافر، و ليس للمشرك بعنوانه أحكام شرعية داخلة في محل ابتلاء الأفراد لكي يحمل على التنزيل بلحاظها. و هذا يوجب ظهور سياق الكلام في كونه متجها نحو إدانة الحروري، و كونه كالكافر و المشرك من حيث البعد عن الحقيقة و رضا اللّه تعالى.

(1) المجسم: تارة: يعتقد بالجسمية الاعتيادية بلوازمها، من النقص و الحاجة و الاضمحلال. و أخرى: يعتقد بها بدون لوازمها. و ثالثة:

يعتقد بسنخ آخر من الجسمية على نحو تدعى مناسبته لعالم الربوبية و الأول كافر بلا إشكال، لأدائه إلى إنكار اللّه تعالى بمعناه الارتكازي المستبطن لصفات الكمال، المأخوذ في عقد المستثنى من كلمة (التوحيد). و أما الثاني فكفره يتوقف إما على كون عدم التجسيم بعنوانه مأخوذا ضمنا في موضوع عقد المستثنى من الكلمة الشريفة، أو على كونه من ضروريات الدين مع الالتزام بكفر منكر الضروري و كلا الأمرين محل منع. و كفر الثالث أبعد احتمالا من الثاني هذا على مقتضى القاعدة.

و أما بلحاظ الروايات الخاصة، فقد ورد تكفير المجسمة أو المشبهة في عدة روايات فقد جاء في رواية الصدوق عن أحمد بن زياد بن جعفر الهمداني عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن عبد السلام بن صالح الهروي عن الرضا- في‌


311
بحوث في شرح العروة الوثقى3

حكم الغلاة و الخوارج و النواصب و غيرهم ؛ ج‌3، ص : 305

و المجبرة (1).

______________________________
حديث- «قال: من وصف اللّه بوجه كالوجوه فقد كفر»
«1». و مثل هذا الحديث مطلق لفرض الالتزام بلوازم ذلك و عدمه، فتقع المعارضة بنحو العموم من وجه بينه و بين ما دل بإطلاقه على أن ضابط الإسلام هو الشهادتان، و مادة الاجتماع المجسم غير المعتقد بلوازم التجسيم، فيبني على إسلامه، إما تقديما للدليل الثاني، أو للرجوع الى المعنى العرفي لعنوان المسلم و الكافر المأخوذين في موضوعات الأدلة بعد تساقط العامين من وجه و لا يتوهم أن روايات تكفير المشبه و المجسم مقيدة لدليل إسلام من آمن بالشهادتين، لأنها بمثابة دليل الشرطية. لأن هذا التوهم مبني على استظهار كونها في مقام جعل شرط في الإسلام تعبدا، لا في مقام بيان ما يؤدي الى الكفر من الاعتقادات، مع أنه محتمل إن لم يكن الأظهر فإن قيل:

ان تقييد تلك الروايات بمن التزم بلوازم التجسيم يلزم منه إلغاء عنوان التشبيه و التجسيم و كون المناط إنكار اللّه تعالى، كان الجواب على ذلك:

أنه بعد كون الروايات في مقام بيان ما يكون سببا للكفر، فلا يلزم مما ذكرناه إلغاء العنوان، لأنه هو السبب نعم لو أستفيد من الروايات أنها في مقام إنشاء الكفر تعبدا على هذا العنوان لزم من التقييد المذكور إلغاؤه عن الموضوعية‌

(1) المجبر: إذا كان يعتقد بما يستتبعه الجبر من إنكار التكليف و العقاب فهو كافر بلا إشكال. و إن لم يعتقد بذلك ايمانا منه بإمكان صدور الظلم و القبيح من اللّه تعالى فهو كافر أيضا، لدخول العدل في المدلول الارتكازي للموضوع في عقد المستثنى من كلمة التوحيد. و إن أنكر لوازم الجبر لإنكار الحسن و القبح العقليين فليس بكافر، لتوافر أركان الإسلام‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 10 من أبواب أحكام حد المرتد ح 3


312
بحوث في شرح العروة الوثقى3

حكم الغلاة و الخوارج و النواصب و غيرهم ؛ ج‌3، ص : 305

و القائلون بوحدة الوجود من الصوفية إذا التزموا بأحكام الإسلام فالأقوى عدم نجاستهم، الا مع العلم بالتزامهم بلوازم مذهبهم من المفاسد (1).

______________________________
فيه. و دعوى: إثبات كفره، إما أن يكون بلحاظ كونه منكرا للضروري بناء على كون عدم الجبر من المعطيات الإسلامية بالضرورة، و إما بلحاظ الروايات الخاصة المكفرة للمجبر. و كلاهما غير تام: أما الأول، فللمنع عن كون المسألة ضرورية، مع كل ما وقع من إجمال و تضارب في النصوص و الأقوال، و منع كون منكر الضروري كافرا خصوصا في مثل المقام، لأن عمدة المدرك لذلك رواية عبد اللّه بن سنان الواردة فيمن زعم أن الكبيرة حلال و هي لا تشمل الضروريات الاعتقادية البحتة، لأن موردها إنكار الضروري من الأحكام العملية. و أما الثاني، فلأن حالها حال الروايات الواردة في تكفير المشبه و قد تقدم حالها. مضافا الى الضعف في أسانيدها كما يظهر بالمراجعة.

(1) لا شك في أن الاعتقاد بمرتبة من الثنائية التي توجب تعقل فكره الخالق و المخلوق مقوم للإسلام، إذ بدون ذلك لا معنى لكلمة التوحيد. فالقول بوحدة الوجود إن كان بنحو يوجب عند القائل بها رفض تلك الثنائية فهو كفر، و اما إذا لم ير القائل تنافيا بين وحدة الوجود و مرتبة معقولة من الثنائية المذكورة فلا كفر في قوله، و لو فرض ثبوت التنافي واقعا. و توضيح الحال في ذلك: أن مفهوم الوجود المنتزع من الخارج، تارة: يقال بأن منشأ انتزاعه نفس ما يقع موضوعا في القضية الحملية التي يكون مفهوم الوجود محمولا فيها، و هذا معناه القول بأصالة الماهية. و أخرى: يقال بأن منشأ انتزاعه حقيقة وراء ذلك، و تكون الماهية بدورها منتزعة من تلك‌


313
بحوث في شرح العروة الوثقى3

طهارة غير الإمامية من المسلمين ؛ ج‌3، ص : 314

[طهارة غير الإمامية من المسلمين]

(مسألة 3): غير الاثنا عشرية من الشيعة إذا لم يكونوا ناصبين و معادين لسائر الأئمة و لا سابين لهم طاهرون (1).

______________________________
الحقيقة أيضا، و هي سنخ حقيقة لو أمكن تصورها مباشرة لكان ذلك مساوقا للتصديق بوجودها، طارديتها للعدم، و هذا قول بأصالة الوجود و على الأول لا إشكال في التكثر لتعدد الماهيات. و أما على الثاني فتارة:

يقال إن نسبة مفهوم الوجود الى تلك الحقيقة، نسبة الكلي إلى الفرد بنحو تتكثر الأفراد، أو نسبة العنوان الى المعنون مع وحدته. فعلى الأول يكون مفهوم الوجود ذا مناشى‌ء انتزاع متعددة بعدد أفراده. و على الثاني تثبت وحدة حقيقة الوجود. و عليه فتارة: يقال بأن هذه الحقيقة مختصة باللّه تعالى، و ان موجودية غيره بالانتساب إليه لا بوجدانه للحقيقة نفسها، و هذا قول بوحدة الوجود و تعدد الموجود. و أخرى: يقال بأن تلك الحقيقة لا تختص بالواجب تعالى، بل كل الموجودات ذاقت طعمها، فهذا قول بوحدة الوجود و الموجود. و عليه فتارة: يقال بفارق بين الخالق و المخلوق في صقع الوجود، نظير الفارق بين المعنى الاسمي و المعنى الحرفي في صقع الماهيات. و أخرى: يرفض هذا الفارق و يدعي أنه لا فرق بينهما إلا بالاعتبار و اللحاظ، لأن الحقيقة إن لوحظت مطلقة كانت هي الواجب، و إن لوحظت مقيدة كانت هي الممكن. و الاحتمال الأخير في تسلسل هذه التشقيقات هو الموجب للكفر، دون الاحتمالات السابقة لتحفظها على المرتبة اللازمة من الثنائية‌

(1) المعروف بين فقهائنا طهارة المخالفين، لانخفاض أركان الإسلام فيهم، و انطباق الضابط المبين للإسلام في الروايات عليهم، كما رواية سماعة عن أبي عبد اللّه (ع): «قال: الإسلام شهادة أن لا إله إلا اللّه، و التصديق برسول اللّه (ص) به حقنت الدماء، و عليه جرت المناكح و المواريث‌


314
بحوث في شرح العروة الوثقى3

طهارة غير الإمامية من المسلمين ؛ ج‌3، ص : 314

..........

______________________________
و على ظاهره جماعة الناس
«1»». هذا مضافا: الى أنه لم يقم دليل على نجاسة من ينتحل الإسلام من الكفار، فضلا عن المخالفين.

و أما محاولة إثبات نجاستهم فهي بدعوى: كونهم كفارا و قيام الدليل على نجاسة الكافر مطلقا. و الكبرى ممنوعة كما تقدم. و اما الصغرى فقد تقرب بثلاثة أوجه:

الأول: كون المخالف منكرا للضروري، بناء على كفر منكر الضروري و يرد عليه:- مضافا الى عدم الالتزام بكفر منكر الضروري- أن المراد بالضروري الذي ينكره المخالف، إن كان هو نفس إمامة أهل البيت فمن الجلي أن هذه القضية لم تبلغ في وضوحها إلى درجة الضرورة، و لو سلم بلوغها حدوثا تلك الدرجة فلا شك في عدم استمرار وضوحها بتلك المثابة لما اكتنفها من عوامل الغموض. و إن كان هو تدبير النبي و حكمة الشريعة على أساس أن افتراض إهمال النبي و الشريعة للمسلمين بدون تعيين قائد أو شكل يتم بموجبه تعيين القائد يساوق عدم تدبير الرسول و عدم حكمة الشريعة، فإن هذه المساوقة حيث أنها تقوم على أساس فهم معمق للموقف فلا يمكن تحميل إنكار مثل هذا الضروري على المخالف، لعدم التفاته الى هذه المساوقة أو عدم إيمانه بها.

الثاني: الروايات التي تطبق عنوان الكافر على المخالف.

و يرد على ذلك: ان الكفر فيها يتعين حمله على ما لا يقابل الإسلام فيكون مساقها مساق ما طبق فيه عنوان الكفر على العاصي للإمام كما في رواية مفضل عن الكاظم (ع) إذ ورد فيها: «و من عصاه فقد كفر»، مع وضوح أن المعصية لا توجب الكفر المقابل للإسلام. و هذا الحمل يبرره أولا: ما دل على كون الضابط في الإسلام التصديق باللّه‌

______________________________
(1) الكافي ج 2 ص 25.


315
بحوث في شرح العروة الوثقى3

طهارة غير الإمامية من المسلمين ؛ ج‌3، ص : 314

..........

______________________________
و بالرسول، المحفوظ في المخالف أيضا. فإن قيل: ان الروايات المذكورة مقيدة لدليل ذلك الضابط أو حاكمة عليه. يقال: ان ذلك ممتنع، لأنه من قبيل تخصيص الأكثر المستهجن عرفا مضافا إلى ما يشتمل عليه من إشارة واضحة الى تطبيق الضابط على ما عليه الناس خارجا. و ثانيا: الارتكاز و السيرة. و ذلك إما بتقريب: أن السيرة و البناء العملي منعقد على التعامل مع المخالف معاملة المسلم، و هو كاشف عن إسلامه. أو بتقريب: إن تعايش الموالين لأهل البيت مع عموم المسلمين و شدة احتياجهم إلى معرفة حكمهم من هذه الناحية و مدى الحرج الذي يترتب على افتراض كفر المخالفين، كل ذلك يجعل من المؤكد أن يكون حكم المخالفين من هذه الناحية أمرا واضحا مركوزا في أذهان الموالين، و هذا يعني أنه كان أحد الأمرين مركوزا في الذهن المتشرعي العام نظرا إلى طبيعة المسألة و أهميتها. و عليه فان لم ندع القطع بأن المركوز كان هو إسلام المخالفين و طهارتهم، فلا أقل من احتمال ذلك بنحو معتد به، و هو يوجب احتمال القرينة المتصلة الموجب لإجمال الروايات المذكورة، لأن الارتكاز من قبيل القرائن المتصلة. و قد حققنا في الأصول ان احتمال القرينة المتصلة المعتد به يوجب الإجمال.

الثالث: ما دل من الروايات على أن المخالف مطلقا ناصب. و هي- سواء كان مفادها التعبد و تنزيل المخالف منزلة الناصب بالحكومة أو شرح كلمة الناصب، و أن مرادهم من الكلمة مطلق المخالف تثبت أن حكم الناصب ثابت للمخالف. فاذا ثبت كفر الناصب و نجاسته ثبت ذلك في مطلق المخالف و قد يعترض على ذلك: بأن هذه الروايات غاية ما يستفاد منها كون المخالف ناصبا، و هذا لا يقتضي الحكم بنجاسته، لأن النجاسة ليست مترتبة على طبيعي الناصب، بل الناصب لأهل البيت دون الناصب لشيعتهم. و يندفع هذا الاعتراض بأن الروايات لا إشكال في ظهورها في الاتجاه الى عنوان الناصب‌


316
بحوث في شرح العروة الوثقى3

حكم مشكوك الإسلام ؛ ج‌3، ص : 317

[حكم مشكوك الإسلام]

(مسألة 4): من شك في إسلامه و كفره، طاهر و ان لم يجر عليه سائر أحكام الإسلام (1).

______________________________
المأخوذ في ألسنتهم عليهم السلام، و توسعته إما تنزيلا أو اصطلاحا فتكون لها حكومة على الأدلة التي أخذت في موضوعها عنوان الناصب.

فالتحقيق في رد هذه الروايات:- مضافا الى ضعف السند في كلها أو جلها- ما تقدم من مناقشة للروايات السابقة.

(1) إذا لم تكن له حالة سابقة و لو بالتبعية فهذا واضح. فإنه تجري فيه أصالة الطهارة، لتعذر إحراز موضوع النجاسة بالاستصحاب، لأن موضوعها ليس مجرد عدم الإسلام ليدعى استصحابه و لو بنحو العدم الأزلي بل الكفر، و هو أما أمر وجودي في مقابل الإسلام، أو عدم خاص بنحو العدم الملحوظ في تقابل العدم و الملكة، و مثل ذلك لا يمكن إثباته بمجرد استصحاب العدم البحت، كما هو واضح. بل قد يجري الاستصحاب النافي للموضوع. الا ان ذلك كله لا يجوز ترتيب الأحكام المعلقة في لسان أدلتها على عنوان الإسلام، لعدم إحرازه أو إحراز عدمه البحت بالاستصحاب الذي يترتب عليه نفي تلك الآثار و إن لم تثبت به النجاسة.

و اما إذا كان مسلما بالتبعية فقد يقال: بجريان الاستصحاب المثبت لإسلامه. إما بتقريب: إجراء الاستصحاب في نفس الإسلام.

و إما بدعوى: أن المستفاد من مثل رواية محمد بن مسلم المتقدمة- بعد حملها على من كان ناشيا في الإسلام حدوثا- ان الكفر منوط بالجحود و ان الإسلام منوط بعدمه، فيكون موضوع الحكم بالإسلام مركبا من كونه ناشئا في الإسلام و عدم جحوده. و الجزء الأول محرز وجدانا بحسب الفرض، و الثاني محرز بالاستصحاب فيحكم بإسلامه.


317
بحوث في شرح العروة الوثقى3

حكم مشكوك الإسلام ؛ ج‌3، ص : 317

..........

______________________________
أما التقريب الأول فيرد عليه: ان الإسلام المتيقن حدوثا إسلام تنزيلي و هو مقطوع الارتفاع و ما هو المشكوك بقاءا لا يقين بحدوثه. و اما التقريب الثاني، فهو مبني على استفادة ما ذكرناه من كون الحكم بالإسلام في حق الناشئ في ظله لا يتوقف على أكثر من أمر عدمي.

و قد يستدل على ذلك تارة: بالسيرة على عدم مطالبة أولاد المسلمين بالشهادتين. و أخرى: برواية زرارة المتقدمة: «لو أن العباد إذا جهلوا وقفوا و لم يجحدوا لم يكفروا». و ثالثة: برواية محمد بن مسلم التي أشرنا إليها آنفا، إذ قال في حق الشاك في النبي و اللّه «إنما يكفر إذا جحد» اما السيرة، فهي ممنوعة، لأن الواضح منها عدم الإلزام بالتلفظ بالشهادتين. و هذا كما يلائم المدعي المذكور، يلائم الاكتفاء بمطلق إبراز التصديق بالرسالة و لو بظهور الحال و هو أمر ثابت غالبا في أولاد المسلمين فلا يمكن الاستدلال بها على كفاية الأمر العدمي في الإسلام. و أما رواية زرارة، فهي- مضافا الى ضعف سندها بمحمد بن سنان- مطلقة من حيث كون المجهول غير المجحود من قبيل النبوة و التوحيد أو من الأحكام فتعارض ما دل على دخل التصديق بالنبوة و التوحيد في الإسلام، الشامل بإطلاقه لأولاد المسلمين أيضا و مثل هذا الاعتراض لا يتجه على رواية محمد ابن مسلم لأنها واردة في مورد كون المجهول من أصول الدين، فتكون أخص مطلقا من الدليل المعارض. و هي سليمة السند بناء على وثاقة خلف ابن حماد الواقع في طريقها، بإرجاعه إلى خلف بن حماد بن ناشر، المشهور بوثاقته من النجاشي فلاحظ.

و اما إذا كان كافرا بالتبعية فقد يستدل على نجاسته بوجهين:

أحدهما: الاستصحاب الموضوعي، أي استصحاب كفره المقتضى لنجاسته، بناء على نجاسة الكافر. إما بتقريب: استصحاب الكفر الثابت حدوثا بلحاظ التبعية. أو بدعوى: أن ابن الكافر يناط كفره شرعا بمجرد‌


318
بحوث في شرح العروة الوثقى3

التاسع الخمر(1). ؛ ج‌3، ص : 319

 

التاسع الخمر (1).

______________________________
عدم إظهار الشهادتين، فمع الشك يجري استصحاب العدم لإثبات الحكم بكفره شرعا.

أما الأول، فيرد عليه: ما أشرنا إليه من أن الوجود التنزيلي للكفر معلوم الارتفاع، و الوجود الحقيقي مشكوك الحدوث.

و أما الثاني، ففيه: أن الكفر الحقيقي ليس مجرد عدم بحت، بل هو عدم متضمن للقابلية و الملكة، كالعمى بالنسبة إلى البصر، فكما لا يثبت العمى باستصحاب العدم البحت للبصر كذلك لا يثبت الكفر باستصحاب العدم المذكور. و لم يثبت أن الشارع حكم بالكفر تعبدا على موضوع عدمي لنحرز باستصحاب ذلك العدم موضوع هذا الكفر الحكمي.

و الوجه الآخر: الاستصحاب الحكمي، أي استصحاب نجاسة ولد الكافر الثابتة حال صغره، لانحفاظ الموضوع العرفي للنجاسة. و هذا الاستصحاب انما يجري فيما إذا لم يكن بالإمكان نفي موضوع النجاسة بالاستصحاب و الا كان حاكما عليه و ذلك بأن يقال: ان الكفر إما أمر وجودي أو أمر عدمي متضمن لمعنى ثبوتي كالعمى، و على كلا التقديرين يجري استصحاب عدمه. و يترتب على ذلك نفي النجاسة، لأن أحد موضوعي النجاسة و هو الولد الصغير للكافر منتف وجدانا، و الموضوع الآخر و هو الكافر منفي بالاستصحاب، فلا مجال لإجراء استصحاب النجاسة.

(1) لا شبهة في أن المعروف بين فقهائنا- بل فقهاء المسلمين عموما- نجاسة الخمر. و قد استدل على ذلك: بالإجماع، و الكتاب، و السنة.

[في نجاسة الخمر و الاستدلال عليها بالإجماع مع تحقيق ذلك]

اما الإجماع، فقد استدل به جملة الفقهاء. و لعل أولهم ابن زهرة في الغنية، و تبعه ابن إدريس، و شاع الاستدلال به بعد ذلك في كلمات طبقات: المحقق، و العلامة، و الشهيد، و المتأخرين.

 

 

 

319
بحوث في شرح العروة الوثقى3

النقطة الأول: في مدارك الإجماع و مناقشتها. ؛ ج‌3، ص : 320

..........

______________________________
و الأصل في دعوى الإجماع كلام للسيد المرتضى، و آخر للشيخ رحمهما اللّه. فلقد قال المرتضى في كتاب الناصريات: «و الخمر نجس و كذلك كل شراب يسكر كثيره. و لا خلاف بين المسلمين في نجاسة الخمر الا ما يحكى عن شذاذ لا اعتبار بقولهم. و الذي يدل على نجاستها قوله تعالى
«إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ. الآية».

و قال الشيخ الطوسي في المبسوط: «و الخمر نجسة بلا خلاف و كل مسكر عندنا حكمه حكم الخمر».

و أما ادعاء الإجماع عند المتأخرين فإنه يرجع الى مثل هاتين الشهادتين و قد ذكرنا مرارا: ان الإجماع امارة عقلائية بحساب الاحتمال، فلا بد من ملاحظة ما يتدخل في الكشف عن الحكم الواقعي إثباتا و نفيا، ليقدر مدى إمكان حصول الاطمئنان على أساس الإجماع المذكور. و بهذا الصدد نستعرض عدة نقاط:

النقطة الأول: في مدارك الإجماع و مناقشتها.

و توضيح ذلك: انه إما أن يدعي إحراز المذكور بالإجماع بالوجدان، أو يدعي ثبوته بالنقل:

فان كان الأول- كما يظهر من كلام الشيخ صاحب الجواهر قدس سره- فالجواب: إن هذا الوجدان غير موجود، لا عندنا فحسب، بل حتى عند من استدل بالإجماع ممن هو قبل صاحب الجواهر، و أقرب بمئات السنين الى عصر الفقهاء الأقدمين الذين هم المعيار في قيمة الإجماع و كاشفيته فهذا هو العلامة الحلي الذي استدل بالإجماع يقول في المختلف: «الخمر» و كل مسكر، و الفقاع، و العصير إذا غلى قبل ذهاب ثلثيه بالنار أو من نفسه، نجس. ذهب الى ذلك أكثر علمائنا، كالشيخ المفيد، و الشيخ أبي جعفر، و السيد المرتضى و أبي الصلاح، و سلار، و ابن إدريس. و قال أبو علي بن أبي عقيل: من أصاب ثوبه أو جسده خمر أو مسكر لم يكن‌


320
بحوث في شرح العروة الوثقى3

النقطة الأول: في مدارك الإجماع و مناقشتها. ؛ ج‌3، ص : 320

..........

______________________________
عليه غسلهما، لأن اللّه إنما حرمهما تعبدا لا لأنهما نجسان. و قال أبو جعفر ابن بابويه: لا بأس بالصلاة في ثوب أصابه خمر. لنا: أولا: الإجماع على ذلك. فان السيد المرتضى قال «لا خلاف بين المسلمين في نجاسة الخمر إلا ما يحكى عن شذاذ» و قال الشيخ: «الخمر نجس بلا خلاف».

و قول السيد المرتضى و الشيخ حجة في ذلك، فإنه إجماع منقول بقولهما و هما صادقان، فيغلب على الظن ثبوته و الإجماع كما يكون حجة إذا نقل متواترا فكذا إذا نقل آحادا».

و هذا الكلام- كما ترى- يدل على أن العلامة مع سعة اطلاعه و شموله الفقهي لم يحصل لديه إحراز مباشر للإجماع، و لا نقل مستفيض له، و انما أعتمد على نقله بأخبار الآحاد الثقات.

و ليس مراد العلامة بالإجماع الذي لم يدع إحرازه مباشرة الإجماع المطلق ليقال: بأن ذلك لا يضر بكون مرتبة معتد بها من الإجماع محصلة لأن وجود الاختلاف الجزئي لا يضر بتحصيل المقدار الحجة من الإجماع و ذلك لأن الإجماع الذي نقله عن السيد إجماع مقرون بشي‌ء من الخلاف أيضا، و ليس إجماعا مطلقا، و مع هذا عول في إثبات هذا المعنى من الإجماع على أخبار الآحاد.

و هذا المحقق أستاذ العلامة يقول في المعتبر: «الخمر نجس العين. و قال محمد بن بابويه، و ابن أبي عقيل منا: ليست نجسة، و تصح الصلاة مع حصولها في الثوب، و إن كانت محرمة. ثم ان الأخبار المشار إليها من الطرفين ضعيفة و الاستدلال بالآية فيه إشكالات. لكن مع اختلاف الأصحاب و الأحاديث يؤخذ بالأحوط في الدين».

و هكذا نجد أن المحقق أيضا لم يتبين دعوى الإجماع، و إنما التجاء الى الاحتياط في الدين بعد الاعتراف بوجود الاختلاف.


321
بحوث في شرح العروة الوثقى3

النقطة الثانية: في إثبات وجود الخلاف. ؛ ج‌3، ص : 322

..........

______________________________
و إن كان المدعى ثبوت الإجماع بالنقل، فلا بد أن يكون النقل و أصلا إلى درجة الاستفاضة بنحو يوجب الاطمئنان، و إلا دخل في الإجماع المنقول الذي لا نقول بحجيته، خصوصا مع وجود نحو من الوهن في دعوى السيد و الشيخ. أما السيد، فلأن مسلكه في دعوى الإجماع- الذي يؤدي به الى دعواه على فتاوى يكاد أن يتفرد بها- يزيل الوثوق بظاهر كلامه عند ادعاء الإجماع. و أما الشيخ، فقوله: «بلا خلاف» مبني على ضرب من التسامح، إذ كيف يخفى عليه خلاف مثل الصدوق الذي هو على رأس مدرسة فقهية كبيرة.

النقطة الثانية: في إثبات وجود الخلاف.

و قد أشرنا مرارا الى أن الجانب الكيفي مهم في تقييم الخلاف المضر بانعقاد الإجماع، و ليست الأهمية للجانب الكمي فقط، لأن دلالة الإجماع على الحكم ليست تعبدية، و انما هي على أساس تجميع القرائن التي تقتضي كشفه عن ارتكاز مسلم و تلق واضح للحكم من أيدي الأئمة و الرواة. فإذا وجد مخالفون قلائل فلا بد أن تدرس نوعيتهم، فاذا كانوا من القدماء الواقعين في خط التسلسل العلمي و المتفاعلين درسا و تدريسا و أخذا و إعطاء مع الوسط الفقهي الإمامي عموما كان خلافهم مضرا، أو مساعدا على الإضرار بكشف الإجماع، لأن ما يترقب أن يكشف عنه من ارتكاز و تلق مسلم انما يفترض في ذلك الوسط و أما إذا كانوا بعيدين عن ذلك الوسط غير متغلغلين فيه بتلك الدرجة فلا تكون لخلافهم قيمة معتد بها. و في هذا الضوء ندرس مدى وجود الخلاف مع الالتفات إلى نوعية المخالفين:

ان الخلاف قد نسب الى الصدوق و والده. و هما من كبار الوسط الفقهي الإمامي في قم و الى ابن أبي عقيل و الجعفي و هما من شيوخ أصحابنا‌


322
بحوث في شرح العروة الوثقى3

النقطة الثانية: في إثبات وجود الخلاف. ؛ ج‌3، ص : 322

..........

______________________________
في العراق، و كلهم من المقاربين لعصر الأئمة أو المعاصرين لمقدار منه.

اما الصدوق رحمه اللّه، فهناك مدركان لافتائه بالطهارة:

أحدهما: في المقنع في باب شارب الخمر و الغناء إذ يقول: «و لا تجالس شارب الخمر، و لا تأكل على مائدة يشرب عليها خمر، و لا تصل في بيت فيه خمر محصور في آنية. و قد روى فيه رخصة. و لا بأس أن تصلي في ثوب أصابه خمر، لأن اللّه حرم شربها، و لم يحرم الصلاة في ثوب أصابته».

و الآخر في الفقيه و ذلك في موضعين: الأول: ما نقله من الرواية الدالة على جواز الصلاة في الثوب الملاقي للخمر، بدون إشارة إلى معارض لها، و ذلك في باب ما يصلى فيه، إذ ورد في هذا الباب قوله: «و سئل أبو جعفر و أبو عبد اللّه انا نشتري ثيابا يصيبها الخمر و ودك الخنزير عند حاكتها، أ نصلي فيها قبل أن نغسلها؟ فقال: نعم لا بأس، إنما حرم اللّه أكله و شربه، و لم يحرم لبسه و مسه و الصلاة فيه». فاذا ضم الى ذلك تعهده في مقدمة الفقيه بأن لا يذكر الا الروايات التي يفتي على طبقها تم الاستشهاد و ان كان الإفتاء على طبق هذه الرواية غريبا، لاقتضائها طهارة و دك الخنزير أيضا. الثاني: في باب ما ينجس الثوب و الجسد قال:

«و لا بأس بالصلاة في ثوب أصابه الخمر، لأن اللّه عز و جل حرم شربها و لم يحرم الصلاة في ثوب أصابته فأما في بيت فيه خمر فلا تجوز الصلاة فيه» و هذه العبارة واضحة الدلالة في الطهارة، خصوصا بلحاظ التعليل بحصر المحذور في الحرمة.

و هناك عبائر للصدوق ربما يستظهر منها فتواه بالنجاسة: منها:

ما في المقنع في باب ما يصلى فيه و ما لا يصلى، قال: «لا يجوز أن يصلى في بيت فيه خمر محصور في آنية. و روى أنه يجوز. و إياك أن تصلي في‌


323
بحوث في شرح العروة الوثقى3

النقطة الثانية: في إثبات وجود الخلاف. ؛ ج‌3، ص : 322

..........

______________________________
ثوب أصابه خمر».

الا أن هذا لا ينبغي جعله معارضا لما تقدم، لأن الصدوق من شأنه في المقنع الإفتاء بمضامين الروايات و على أسلوبها، فلو ورد نهي عن شي‌ء و ترخيص فيه في روايتين أفتى بالنهي و أفتى بالترخيص معا، و ينتزع من مجموع الفتويين الحكم بالكراهة، كما هو الحال في الروايات. و هذا يظهر لمن يلاحظ كتاب المقنع.

و منها: ما في الفقيه في باب أحكام المياه، قال: (إن وقع في البئر بعير أو صب فيها خمر فانزح الماء كله. و قال: ان وقع في البئر قطرة دم أو خمر أو ميتة أو لحم خنزير فانزح منها عشرين دلوا».

و منها: ما في الفقيه في باب المياه: «و إن قطر خمر أو نبيذ في عجين فقد فسد، فلا بأس ببيعه من اليهود و النصارى بعد أن يبين لهم و الفقاع مثل ذلك» و الإنصاف عدم صلاحية هذه العبائر للمعارضة مع صريح ما تقدم، فيحتمل حمل النزح على التعبد أو التنزيه، و حمل الفساد على حرمة الأكل. و على أي حال فالظاهر من مجموع كلمات الصدوق الإفتاء بالطهارة، و إن كان في النفس من واقعية هذا الظهور شي‌ء.

و اما والد الصدوق، فقد نسب اليه القول بالطهارة، و لعل الأصل في هذه النسبة شهادة ابن إدريس في السرائر، إذ قال: «و الخمر نجس بلا خلاف، و لا تجوز الصلاة في ثوب و لا بدن أصابه منها قليل أو كثير الا بعد إزالتها مع العلم بها و قد ذهب بعض أصحابنا في كتاب له- و هو ابن بابويه- الى أن الصلاة تجوز في ثوب أصابه الخمر. قال: لأن اللّه حرم شربها و لم يحرم الصلاة في ثوب أصابته، معتمدا على خبر روى، و هذا اعتماد منه على أخبار آحاد لا توجب علما و لا عملا، و هو مخالف للإجماع من المسلمين فضلا عن الطائفة، من أن الخمر نجسة. و قد أجمع أصحابنا‌


324
بحوث في شرح العروة الوثقى3

النقطة الثالثة: أننا نستدل بالإجماع على الأغلب باعتبار كشفه بصورة متسلسلة عن وضوح الحكم المجمع عليه بين الأصحاب في زمن الأئمة، ؛ ج‌3، ص : 325

..........

______________________________
على أن الصلاة لا تجوز في ثوب أصابته نجاسة إلا بعد إزالتها».

و هذا مبني على حمل عنوان ابن بابويه على الأب، باعتباره الأقرب الى بابويه. و لكن من المحتمل ارادة الصدوق به، لأن العبارة التي نسبها اليه متحدة مع عبارة الصدوق المتقدمة. و قد يؤيد ذلك حصر المخالفين في بعض كلمات الأصحاب بالثلاثة: الصدوق، و الجعفي، و ابن أبي عقيل و قد نقل خلاف بعض هؤلاء العلامة في المختلف حيث قال: «و قال أبو علي ابن أبي عقيل: من أصاب ثوبه أو جسده خمر أو مسكر لم يكن عليه غسلهما لأن اللّه انما حرمهما تعبدا لا لأنهما نجسان».

و نقل الشهيد في الذكرى خلاف الصدوق و الجعفي، و الحسن، و لعل كلام المحقق المتقدم نقله مشعر بوجود اختلاف أوسع في المسألة فلاحظ.

النقطة الثالثة: أننا نستدل بالإجماع على الأغلب باعتبار كشفه بصورة متسلسلة عن وضوح الحكم المجمع عليه بين الأصحاب في زمن الأئمة،

بينما توجد بعض الروايات تدل على أن المسألة كانت خلافية بينهم، فيستكشف ان الارتكاز تكون أخيرا على أساس استنباط الفقهاء. ففي رواية خيران الخادم انه: «كتب الى الرجل يسأله عن الثوب يصيبه الخمر و لحم الخنزير يصلى فيه أم لا؟ فإن أصحابنا اختلفوا فيه، فقال بعضهم: صل فيه فان اللّه إنما حرم شربها و قال بعضهم: لا تصل فيه فكتب (ع): لا تصل فيه فإنه رجس» «1».

و الرواية و إن كانت غير صحيحة السند، إلا أنه يحتمل صدورها. و بقدر الاحتمال الوجداني لصدورها تكون عاملا مضادا للكاشفية التكوينية للإجماع. الا ان مما يوهن أمر الرواية عطف لحم الخنزير على الخمر أيضا. و هناك رواية أخرى لكليب بن معاوية: «قال: كان أبو بصير و أصحابه يشربون النبيذ‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 38 من أبواب النجاسات.


325
بحوث في شرح العروة الوثقى3

النقطة الرابعة: ان من المحتمل مدركية الإجماع و استناده الى الوجوه الصناعية. ؛ ج‌3، ص : 326

..........

______________________________
يكسرونه بالماء، فحدثت أبا عبد اللّه (ع)، فقال لي: و كيف صار الماء يحل المسكر؟! مرهم لا يشربون منه قليلا و لا كثيرا، ففعلت، فأمسكوا عن شربه، فاجتمعنا عند أبي عبد اللّه (ع)، فقال له أبو بصير: ان ذا جاءنا عنك بكذا و كذا. فقال: صدق يا أبا محمد، ان الماء لا يحل المسكر فلا تشربوا منه قليلا و لا كثيرا»
«1».

و من المعلوم: انه لو كان المرتكز في ذهنهم النجاسة لكان من البعيد أن يتوهموا كسر محذور النجاسة بالماء، لأن من الواضح أن النجس إذا زيد ماءا تنجس ما يلقى فيه و لا يطهر، و إنما ينشأ هذا التوهم عند قصر النظر على محذور الحرمة، فيكشف عن عدم ارتكاز النجاسة في ذهن ثلة من فقهاء أصحاب الأئمة. و الرواية و إن وردت في النبيذ المسكر، الا أنه تنفع للغرض المطلوب على أي حال.

النقطة الرابعة: ان من المحتمل مدركية الإجماع و استناده الى الوجوه الصناعية.

و هذا الاحتمال هنا أوجه منه في مسألة نجاسة الكافر، لأن افتراض عدم اعتقاد ثلة من الأصحاب في المقام بالجمع العرفي، و بصلاحية أخبار النجاسة للحمل على التنزه، أقرب من افتراض مثل ذلك في تلك المسألة. و كلما كان الوجه الصناعي للفتوى المجمع عليها أقرب الى الوجاهة كان احتمال المدركية أكبر. و قد تقدم في مسألة نجاسة الكافر: نقل نص عن الشيخ الطوسي يبرر به الفتوى بتقديم أخبار النجاسة على أخبار الطهارة بوجوه اجتهادية، دون ان يستعين في طرح روايات الطهارة بدعوى:

الشذوذ، أو مخالفة الضرورة، و نحو ذلك.

النقطة الخامسة: ان روايات الطهارة إذا لوحظت بقدر كشفها الاحتمالي التكويني

- بقطع النظر عن حجيتها التعبدية- تشكل امارة احتمالية‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 18 من أبواب الأشربة المحرمة.


326
بحوث في شرح العروة الوثقى3

و أما الكتاب الكريم ؛ ج‌3، ص : 327

..........

______________________________
توهن الإجماع، و أماريتها أقوى من أمارية روايات الطهارة في مسألة نجاسة الكافر، لأننا ذكرنا هناك: ان الرأي السائد بين علماء المسلمين من السنة في عصر الأئمة كان هو طهارة الكافر، و في مثل ذلك يحصل ظن قوى بصدور روايات تدل على الطهارة على أي حال، اما جدا أو تقية، و هذا يعني أن صدور روايات الطهارة على فرض النجاسة ليس بأبعد من فرض صدورها على فرض الطهارة، لأن دوافع التقية متوفرة، و هذا الكلام لو تم هناك لا يأتي في هذه المسألة، لأن المشهور بين فقهاء السنة في عصر الأئمة هو الفتوى بالنجاسة، فيكون صدور روايات الطهارة على فرض عدم الطهارة واقعا في غاية البعد، و هذا يقوى أماريتها الوجدانية على ما ينافي الإجماع، خصوصا مع وثاقة الرواة و معروفيتهم.

و لا يبعد مع أخذ مجموع هذه النقاط الخمس بعين الاعتبار سقوط الإجماع في هذه المسألة عن الصلاحية لإيجاد اليقين أو الاطمئنان الشخصي بالحكم الشرعي.

و أما الكتاب الكريم

فقد استدل منه بالآية الكريمة «إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصٰابُ وَ الْأَزْلٰامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطٰانِ فَاجْتَنِبُوهُ». بدعوى ان كلمة (رجس) تدل على النجاسة، و لو من ناحية دعوى الشيخ الطوسي الإجماع على كون الرجس بمعنى النجس.

و يمكن أن يورد على هذا الاستدلال بالوجوه الآتية:

أولا: انه عطف على الخمر، الميسر بمعنى القمار، و هو عمل لا تعقل نجاسته، فلا بد ان يراد بالرجس معنى يناسب جعله وصفا للعين و العمل معا، و هو الحزازة و الخبائة. و يمكن أن يقال: ان الميسر يطلق على ما يلعب به، و قد جاءت عدة روايات تفسر الآية بذلك. ففي رواية جابر عن أبي جعفر (ع): «قال: لما أنزل اللّه على رسوله «إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ


327
بحوث في شرح العروة الوثقى3

و اما السنة، ؛ ج‌3، ص : 328

 

..........

______________________________
وَ الْأَنْصٰابُ وَ الْأَزْلٰامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطٰانِ فَاجْتَنِبُوهُ» قيل: يا رسول اللّه ما الميسر؟ فقال: كلما تقومر به، حتى الكعاب و الجوز قيل: فما الأنصاب؟ قال: ما ذبحوا لآلهتهم. قيل: فما الأزلام؟ قال: قداحهم التي يستقسمون بها» «1». و مثلها رواية العياشي في تفسيره.

و ثانيا: ان الرجس لم يحمل على نفس الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصٰابُ و الأزلام، بقرينة قوله «مِنْ عَمَلِ الشَّيْطٰانِ»، بما حمل عليه الرجس إنما هو عمل من الأعمال، فلا بد من تقدير الشرب و اللعب و نحو ذلك.

و يمكن أن يقال: انه لم ينظر الى هذه الأعيان من الخمر و الميسر بما هي أعيان، بل بما هي أشياء مصنوعة، و بهذا عبر عنها بالعمل. فكأن المقصود بيان ان فكره إيجاد الخمر و الميسر فكره شيطانية، فنفس الخمر من عمل الشيطان و صنعه، و لا حاجة الى تقدير، و معه يكون الرجس محمولا على نفس الخمر.

و ثالثا: ان كلمة (رجس) لم يثبت وضعها لخصوص النجس الاعتباري أو انصرافها الى ذلك في عصر نزول الآية، و إنما هي بمعنى الحزازة و الاستخباث، و هذا المفهوم كما له فرد اعتباري و هو النجاسة الشرعية له أفراد معنوية أيضا. و لا معنى للتمسك بإطلاقه لإثبات تمام تلك الأفراد لأنه وقع محمولا في القضية، و الإطلاق للأفراد إنما يتم في جانب الموضوع و رابعا: يوجد في الآية الكريمة ما يكون عدم نجاسته من الواضحات كالميسر و الأزلام، حتى بعد حملها على ما يلعب به و على القداح.

و اما السنة،

فالكلام فيها يقع في مقامات:

المقام الأول: في الروايات التي يمكن أن يستدل بها على النجاسة

و هي عديدة:

منها: رواية يونس عن بعض من رواه عن أبي عبد اللّه (ع):

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 35 من أبواب ما يكتسب به.

 

 

 

328
بحوث في شرح العروة الوثقى3

و منها: رواية زكريا بن آدم. ؛ ج‌3، ص : 329

..........

______________________________
«قال: إذا أصاب ثوبك خمر أو نبيذ مسكر فاغسله ان عرفت موضعه و إن لم تعرف موضعه فاغسله كله. و ان صليت فيه فأعد صلاتك»
«1».

و هذه الرواية تدل على النجاسة، بلحاظ الأمر بالغسل الظاهر في النجاسة كما مر ملاكه. و بلحاظ الأمر بالإعادة، فإن ظاهره فرض الصلاة في الثوب الذي أصابه الخمر لا في الخمر، و هذا يعني مانعية الثوب عن الصلاة و لو مع زوال عين الخمر، و المنصرف ارتكازا من ذلك كون المانعية بملاك النجاسة الا أن الرواية ضعيفة سندا بالإرسال.

و منها: رواية زكريا بن آدم.

قال: «سألت أبا الحسن (ع):

عن قطرة خمر أو نبيذ مسكر قطرت في قدر فيه لحم كثير و مرق كثير؟

قال: يهراق المرق أو يطعمه أهل الذمة، أو الكلب، و اللحم اغسله و كله. قلت فإنه قطر فيه الدم. قال: الدم تأكله النار إن شاء اللّه.

قلت: فخمر أو نبيذ قطر في عجين أو دم. قال: فقال: فسد، قلت:

أبيعه من اليهودي و النصارى و أبين لهم؟ قال: نعم فإنهم يستحلون شربه قلت: و الفقاع هو بتلك المنزلة إذا قطر في شي‌ء من ذلك قال؟: فقال: أكره أنا أن آكله إذا قطر في شي‌ء من طعامي» «2».

و تقريب الاستدلال بها: اما بلحاظ الأمر بإراقة المرق الذي قطرت فيه قطرة خمر أو نبيذ، بدعوى: ان المحذور لو كان منحصرا بالحرمة لحصل الاستهلاك و لارتفعت الحرمة أو بلحاظ الأمر بغسل اللحم الدال على النجاسة كما تقدم ملاكه أو بلحاظ الحكم بفساد العجين الذي قطرت فيه قطرة مسكر، بدعوى: ظهور الفساد في النجاسة. و المهم هو الوسط من هذه التقريبات. اما الأول، فيمكن التأمل فيه: بأنه موقوف على فرض ارتكازية زوال محذور حرمة الخمر بالاستهلاك، مع إن ارتكاز ذلك‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 38 من أبواب النجاسات.

(2) وسائل الشيعة باب 38 من أبواب النجاسات.


329
بحوث في شرح العروة الوثقى3

و منها: رواية عمار بن موسى عن أبي عبد الله(ع) ؛ ج‌3، ص : 330

..........

______________________________
في أذهان المتشرعة غير معلوم، مع ما يلاحظ من شدة اهتمام الشارع بلزوم التجنب عن المسكر، فلعل الأمر بالإراقة كان بلحاظ عدم كفاية الاستهلاك في رفع محذور الحرمة، في مقابل الدم الذي حكم فيه بكفاية ذلك بقوله:

«الدم تأكله النار». و كما يكون النظر في هذه الجملة إلى محذور الحرمة فقط، كذلك في الجملة الأولى. و اما الثالث، فهو لا يخلو عن تهافت مع ما سبق، إذ فرض أن قطرة الدم تفسد العجين، بينما لم تكن تفسد المرق فيما تقدم بلحاظ أن النار تأكل الدم. و على أي حال لا يتعين حمل الفساد على النجاسة، لإمكان أن يكون بلحاظ الحرمة و عدم كفاية الاستهلاك في زوال الحرمة، و طرو حرمة الأكل على شي‌ء معد للأكل، فساد له.

و اما سند الرواية فضعيف، لأن الراوي عن زكريا بن آدم في نقل الشيخ هو: الحسن بن مبارك، و في نقل الكليني: الحسين بن مبارك.

و الأول غير معروف بنحو يظن رجوعه الى الثاني. و الثاني غير موثق.

و منها: رواية عمار بن موسى عن أبي عبد اللّه (ع)

قال: «سألته عن الدن يكون فيه الخمر، هل يصلح أن يكون فيه خل، أو ماء، أو كامخ. أو زيتون؟ قال: إذا غسل فلا بأس. و قال: في قدح أو إناء يشرب فيه الخمر. قال: تغسله ثلاث مرات. و سئل أ يجزيه أن يصب فيه الماء؟ قال: لا يجزيه حتى يدلكه بيده و يغسله ثلاث مرات» «1».

و دلالة الرواية على النجاسة تامة بلحاظ الأمر بالغسل و تعليق نفي البأس عليه و وضوح كون الغسل مقصودا بعنوانه كما هو ظاهره. لا لأجل الإزالة بقرينة الأمر بتثليث الغسلات مع الدلك. و السند تام أيضا.

و منها: رواية الكليني،

عن محمد بن يحيى، عن بعض أصحابنا، عن أبي جميل البصري عن يونس بن عبد الرحمن عن هشام بن الحكم: «أنه‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 51 من أبواب النجاسات.


330
بحوث في شرح العروة الوثقى3

و منها: نفس رواية عمار السابقة، ؛ ج‌3، ص : 331

..........

______________________________
سأل أبا عبد اللّه (ع) عن الفقاع فقال: لا تشربه فإنه خمر مجهول، فإذا أصاب ثوبك فاغسله
«1».

و الأمر بالغسل ظاهر في النجاسة بالملاكات المتقدمة، و هو تفريع على خمرية الفقاع فيكون ظاهرا في نجاسة كل خمر، فالدلالة تامة. و أما السند فطريق الكليني المذكور، فيه إرسال، و الشيخ الطوسي نقله بلا إرسال «2» مع أن صاحب الوسائل (قدس سره) لم يشر الى هذا الفرق بين الطريقين في الموضع الأول و هناك نقطة ضعف مشتركة بين الطريقين، و هي ورود أبي جميلة أو أبي جميل في السند فالرواية ساقطة سندا.

و منها: نفس رواية عمار السابقة،

بلحاظ زيادة جاءت في طريق الشيخ و لم ينقلها الكليني، و هذه الزيادة بنفسها تدل على النجاسة، و هي انه: «سأله عن الإناء يشرب فيه النبيذ. فقال: تغسله سبع مرات و كذلك الكلب». و الأمر بالغسل سبعا و إن كان لا بد من حمله على الاستحباب، لكفاية الثلاث في التطهير من الخمر و عدم تقبل الارتكاز احتمال أشدية النبيذ من الخمر و لكنه على أي حال يستأنس به للحكم بالنجاسة، لأن النجاسات الخفيفة لم يرد بشأنها الأمر بالغسل سبعا و لو استحبابا، فما يرد فيه ذلك يفهم كونه نجاسة حقيقية لا تنزيهية، و إن كان تسبيع الغسل تنزيهيا.

و منها: رواية عمار عن أبي عبد اللّه (ع):

«قال: لا تصل في بيت فيه خمر و لا مسكر، لأن الملائكة لا تدخله. و لا تصل في ثوب قد أصابه خمر أو مسكر حتى تغسله» «3».

و هي تدل على النجاسة: أولا: بلحاظ النهي عن الصلاة في ثوب‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة- الباب- 38- من أبواب النجاسات.

(2) وسائل الشيعة- الباب 27 من أبواب الأشربة المحرمة

(3) وسائل الشيعة- الباب- 38 من أبواب النجاسات.


331
بحوث في شرح العروة الوثقى3

و منها: رواية عمار عن أبي عبد الله(ع): ؛ ج‌3، ص : 331

..........

______________________________
أصابه خمر، فإن إطلاقه لغرض عدم بقاء عين الخمر يدل عرفا على كون المانعية بسبب النجاسة، لا بسبب عين الخمر بعنوانه. و ثانيا: بلحاظ جعل الغاية للنهي، الغسل، فان ذلك يؤكد كون أساس المانعية هو النجاسة لظهور مادة الغسل في كونها تنظيفا و إزالة للقذر.

و قد يستشكل: بناءا على كون النهي الأول في الرواية تنزيهيا، و لو بمناسبة نوع التعليل فان ذلك يوجب- سياقيا- ثلم ظهور النهي الثاني في الإلزام و أما من ناحية السند فالرواية صحيحة، و لو بلحاظ سندها في التهذيب على الأقل، إن لم يتم سندها في الاستبصار.

و منها: صحيحة الحلبي قال: «سألت أبا عبد اللّه (ع): عن دواء عجن بالخمر. فقال لا و اللّه ما أحب أن أنظر اليه، فكيف أتداوى به؟! انه بمنزلة شحم الخنزير أو لحم الخنزير، و ترون أناسا يتداوون به، «1» و الرواية تامة سندا. و الاستدلال مبني على التمسك بإطلاق ما في الحديث من التنزيل، المقتضى لترتب أحكام لحم الخنزير على الخمر، و لحم الخنزير له حكمان: أحدهما: ثابت بالضرورة من الدين و هو الحرمة و الآخر: ثابت بالضرورة من الفقه و هو النجاسة. فيحكم على الخمر بالحرمة و النجاسة. و كون الملحوظ في السؤال جواز الاستعمال و حرمته لا يوجب هدم إطلاق التنزيل المؤكد للحرمة بضم النجاسة إليها.

و هنا إشكال عام في التمسك بإطلاقات أدلة التنزيل في حالة وجود القدر المتيقن من ناحية نفس الكلام، و حاصله: ان الإطلاق ان كان ناشئا من مقدمات الحكمة المعروفة فلا يضر به وجود القدر المتيقن، و أما إذا كان ناشئا من نكتة خاصة مبنية على عدم وجود القدر المتيقن من ناحية الكلام فينثلم بوجودها. و الإطلاق في دليل التنزيل ليس من قبيل الأول، لوضوح ان مقدمات الحكمة إنما تجري دائما في طرف الموضوع‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة- الباب- 20- من أبواب الأشربة المحرمة.


332
بحوث في شرح العروة الوثقى3

و منها: رواية أبي بصير عن أبي عبد الله(ع) في حديث النبيذ: ؛ ج‌3، ص : 333

..........

______________________________
للقضية الحملية لا في طرف محمولها، فاذا قيل: الفقيه عالم، يثبت بمقدمات الحكمة ان كل فقيه عالم، لا ان الفقيه عالم بكل علم، بل يكفي أن يكون عالما بعلم واحد لأن المحمول يلحظ بنحو صرف الوجود. و في دليل التنزيل قد وقع التنزيل محمولا فقيل مثلا: الخمر كلحم الخنزير أو الطواف صلاة فيكفي صرف التنزيل و لو بلحاظ أثر لإشباع حاجة القضية إلى محمول، فيثبت بالإطلاق: ان كل طواف صلاة لا أن الطواف بمنزلة الصلاة في كل منازلها و شئونها. و إنما ينعقد الإطلاق في دليل التنزيل بدلالة الاقتضاء العرفية في حالة عدم وجود قدر متيقن في البين، لأن ظهور الكلام في إفادة أمر عملي مع عدم التعيين، و عدم التعيين يوجب فهم الإطلاق.

و اما مع وجود المتيقن بقرينة خاصة أو بالانسياق الارتكازي لأثر مخصوص لأظهريته و وضوحه فلا موجب للتمسك بإطلاق دليل التنزيل لإثبات سائر الآثار.

و الجواب على هذا الاشكال: ان العناية التي تصحح جعل الطواف صلاة- مثلا- لها مراتب، و كلما كان الطواف واجدا لمرتبة أكبر من خصوصيات الصلاة كانت العناية المذكورة أخف، و بهذه النكتة يثبت الإطلاق في أدلة التنزيل، أو على الأقل فيما كان بلسان حمل المنزل عليه على المنزّل فتدبر جيدا.

و منها: رواية أبي بصير عن أبي عبد اللّه (ع) في حديث النبيذ:

«قال: ما يبل الميل ينجس حبا من ماء، يقولها ثلاثا» «1». و لا شك في وضوح دلالتها، إلا أنها ساقطة سندا لوقوع إرسال فيه قبل أبي بصير‌

و منها: رواية عمر بن حنظلة قال:

«قلت لأبي عبد اللّه (ع):

ما ترى في قدح من مسكر يصب عليه الماء حتى تذهب عاديته و يذهب سكره؟ فقال: لا و اللّه و لا قطرة قطرت في حب إلا أهريق ذلك‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 38 من أبواب النجاسات و باب 20 من أبواب الأشربة المحرمة


333
بحوث في شرح العروة الوثقى3

و منها: رواية هارون بن حمزة الغنوي عن أبي عبد الله(ع): ؛ ج‌3، ص : 334

..........

______________________________
الحب»
«1».

و الاستدلال بها: ان كان بلحاظ الأمر بالإراقة فهذا إنما يدل على النجاسة في غير ما ينحصر عرفا الانتفاع الملحوظ فيه بالأكل و الشرب كما في المقام. و إن كان بلحاظ ان المحذور لو كان منحصرا في الحرمة لما وجد في مفروض الرواية لأجل الاستهلاك فقد تقدم الاشكال على ذلك. و أما سند الرواية فالإشكال فيه بلحاظ عمر بن حنظلة الذي لم يشهد بتوثيقه صريحا الا أنه يمكن توثيقه بما صح من رواية ابن أبي عمير عنه، أو بشهادة الإمام له بأنه لا يكذب في رواية رواها يزيد بن خليفة في مواقيت الصلاة بعد ضم توثيق يزيد بن خليفة بما صح من رواية صفوان عنه الى ذلك.

و منها: رواية هارون بن حمزة الغنوي عن أبي عبد اللّه (ع):

«في رجل اشتكى عينيه فنعت له بكحل يعجن بالخمر. فقال: هو خبيث بمنزلة الميتة، فإن كان مضطرا فليكتحل به» «2» و يتمسك بإطلاق التنزيل لإثبات النجاسة. و لكن لا يبعد أن يكون النظر في الرواية إلى الحرمة فقط بقرينة الترخيص في حال الاضطرار، مع أن النظر في المنع لو كان الى النجاسة أيضا لكان اللازم التنبيه على لزوم غسل الظاهر من الموضع و يضاف الى ذلك ضعف سند الرواية بيزيد بن إسحاق.

و منها: رواية علي بن جعفر عن أخيه.

قال: «سألته عن طعام يوضع على سفرة أو خوان قد أصابه الخمر أ يؤكل عليه؟ قال: إن كان الخوان يابسا فلا بأس» «3» إذ يدعى أن التفصيل بين حالة الرطوبة و عدمها يوجب انسباق الذهن العرفي إلى محذور سراية النجاسة. و احتمال: إن يكون‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 18 من أبواب الأشربة المحرمة

(2) وسائل الشيعة باب 21 من أبواب الأشربة المحرمة

(3) وسائل الشيعة باب 62 من أبواب الأطعمة المحرمة


334
بحوث في شرح العروة الوثقى3

و منها: رواية يونس في الميتة، عنهم عليهم السلام: ؛ ج‌3، ص : 335

..........

______________________________
المحذور هو الحرمة التكليفية للأكل من سفرة عليها خمر و في حالة عدم اليبوسة يصدق هذا العنوان فيحرم. مدفوع: بأن السؤال إنما هو عن وضع الطعام على السفرة لا الأكل، اللهم إلا أن يكون أخذ ذلك موردا للسؤال باعتباره مؤديا عادة الى الأكل من تلك السفرة، أو يكون من المحتمل في ارتكاز المتشرعة حرمة نفس وضع الطعام على سفرة عليها خمر.

و منها: رواية يونس في الميتة، عنهم عليهم السلام:

«قالوا: خمسة أشياء ذكية مما فيه منافع الخلق.، و إنما كره أن يؤكل سوى الأنفحة مما في آنية المجوس و أهل الكتاب لأنهم لا يتوقون الميتة و الخمر» «1».

و لو لا نجاسة الخمر لم يكن وجه للاجتناب عن الأواني التي يشرب بها.

غير أن الكراهة في الرواية ليس لها ظهور في حكم إلزامي. و الرواية ساقطة سندا بإسماعيل بن مرار.

و منها: رواية محمد بن مسلم

قال: «سألت أبا جعفر عن آنية أهل الذمة و المجوس. فقال: لا تأكلوا في آنيتهم، و لا من طعامهم الذي يطبخون، و لا في آنيتهم التي يشربون فيها الخمر» «2»، و إطلاق النهي لفرض عدم وجود شي‌ء من العين ينسبق منه عرفا النجاسة. و الرواية تامة سندا.

و منها: رواية عبد اللّه بن سنان

قال: «سأل أبي أبا عبد اللّه (ع) و أنا حاضر: إني أعير الذمي ثوبي و أنا أعلم أنه يشرب الخمر و يأكل لحم الخنزير فيرده علي، فأغسله قبل أن أصلي فيه؟ فقال أبو عبد اللّه: صل فيه و لا تغسله من أجل ذلك، فإنك أعرته إياه و هو طاهر و لم تستيقن‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة الباب 32 أبواب الأطعمة المحرمة

(2) وسائل الشيعة باب 72 من أبواب النجاسات


335
بحوث في شرح العروة الوثقى3

و منها: ما رواه الشيخ بسند صحيح عن عبد الله بن سنان ؛ ج‌3، ص : 336

..........

______________________________
أنه نجسه.»
«1»، فان قول السائل واضح في ارتكاز نجاسة الخمر و لحم الخنزير في ذهنه. و الامام (ع) و إن لم يكن في مقام البيان من هذه الناحية، و إنما كان في مقام بيان جريان الاستصحاب، غير أن سكوته إمضاء عرفا لما ظهر من كلام السائل من ارتكاز النجاسة، و الرواية تامة سندا.

و منها: ما رواه الشيخ بسند صحيح عن عبد اللّه بن سنان

قال:

«سأل أبي أبا عبد اللّه: عن الرجل بعير ثوبه لمن يعلم أنه يأكل الحبري (الجري ظ) و يشرب الخمر فيرده، أ يصلى فيه قبل أن يغسله؟ قال:

لا يصلي فيه حتى يغسله» «2».

و قد ذكر صاحب الوسائل أن الكليني روى الخبر عن خيران الخادم قال: سألت أبا عبد اللّه.» و ذكر مثله. و نقل في موضع آخر عن الكليني الرواية نفسها عن عبد اللّه بن سنان «3» و نقل خيران عن الامام الصادق (ع) مباشرة لا يناسب طبقته.

و تقريب الاستدلال بالرواية كما تقدم في الرواية السابقة و الأمر بالغسل فيها محمول على الاستحباب بقرينة الرواية السابقة، غير أن عطف الخمر على الجري مع عدم نجاسته يوجب ضعف استفادة الإمضاء من سكوت الامام عليه السلام.

و منها روايات البئر من قبيل رواية كردويه

قال: «سألت أبا الحسن عليه السلام عن البئر يقع فيه قطرة دم أو نبيذ مسكر أو بول أو خمر.

قال ينزح منها ثلاثون دلوا» «4».

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 74 من أبواب النجاسات.

(2) وسائل الشيعة باب 74 من أبواب النجاسات.

(3) وسائل الشيعة باب 38 من أبواب النجاسات.

(4) وسائل الشيعة باب 15 و 16 من أبواب الماء المطلق.


336
بحوث في شرح العروة الوثقى3

و منها: رواية علي بن جعفر في كتابه عن أخيه ؛ ج‌3، ص : 337

..........

______________________________
و قد تقدمت بعض المناقشات بشأن استفادة النجاسة من روايات النزح في بحث الميتة فلاحظ.

و منها: رواية علي بن جعفر في كتابه عن أخيه

قال: «سألته عن النضوح يجعل فيه النبيذ، أ يصلح للمرأة أن تصلي و هو على رأسها؟ قال:

لا حتى تغتسل منه» «1». و دلالتها واضحة، و سندها معتبر بلحاظ نقل صاحب الوسائل لها عن كتاب علي بن جعفر، لا بلحاظ ورودها في قرب الاسناد المشتمل على عبد اللّه بن الحسن.

و منها: رواية علي بن جعفر أيضا عن أخيه موسى بن جعفر (ع)

قال:

«سألته عن رجل يمر بمكان قد رش فيه خمر قد شربته الأرض و بقي نداوته، أ يصلي فيه؟ قال: إن أصاب مكانا غيره فليصل فيه، و ان لم يصب فليصل، و لا بأس» «2». إذ يستدل بالنهي عن الصلاة على نجاسة المكان بالخمر و تنجيسه. إلا أن هذا غير متعين في النهي، فلعله باعتبار المانعية المستقلة لنداوة الخمر، كالنهي عن الصلاة في بيت فيه خمر و يؤيده الترخيص في حال الانحصار دون الإشارة إلى الابتلاء بمحذور النجاسة‌

هذه أهم الروايات التي يمكن الاستشهاد بها للنجاسة. و هناك روايات أخرى واضحة السقوط سندا أو دلالة، يظهر الحال فيها مما ذكرناه.

المقام الثاني: فيما قد يجعل معارضا لتلك الروايات،

و هو عدد من الروايات أيضا:

منها: رواية حفص الأعور

قال: «قلت لأبي عبد اللّه (ع):

الدن يكون فيه الخمر ثم يجفف يجعل فيه الخل قال: نعم» «3» فإنه سواء‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 37 من أبواب الأشربة المحرمة

(2) وسائل الشيعة باب 30 من أبواب النجاسات

(3) وسائل الشيعة باب 51 من أبواب النجاسات


337
بحوث في شرح العروة الوثقى3

و منها: رواية الحسين بن أبي سارة ؛ ج‌3، ص : 338

..........

______________________________
كان السؤال بلحاظ احتمال النجاسة أو بلحاظ احتمال الحزازة التكليفية في استعمال ظروف الخمر يدل الجواب على عدم النجاسة. اما على الأول فواضح، و اما على الثاني فلأن الخل لو كان ينجس فليس عرفيا أن يبين جواز وضعه في دن الخمر تكليفا مع السكوت عما يستتبع ذلك من نجاسة الخل و حرمة استعماله، لأن من يضع يريد أن يستعمل ما وضعه عادة. كما أن تقييد الجواب بالغسل- و لو بلحاظ أخبار النجاسة- ليس عرفيا، لأن ظاهر السؤال النظر إلى كفاية التجفيف بعنوانه في دفع المحذور المحتمل فالجواب يدل على كفاية ذلك، فلو كان دفع المحذور متوقفا على الغسل على أي حال لم يكن للتجفيف دخل في ذلك. و لكن غاية ما تدل عليه الرواية عدم تنجيس الدن للخل، و هذا كما يلائم مع طهارة الخمر يلائم أيضا مع عدم تنجيس المتنجس الأول الخالي من عين النجاسة للمايع، إذا فرضنا أن التجفيف مساوق لذلك. و الرواية ساقطة سندا بحفص الأعور الذي لم يثبت توثيقه.

و منها: رواية الحسين بن أبي سارة

قال: «قلت لأبي عبد اللّه (ع) إن أصاب ثوبي شي‌ء من الخمر أصلي فيه قبل أن أغسله؟ قال: لا بأس أن الثوب لا يسكر» «1» و الاستدلال بها على الطهارة بلحاظ ترخيص الإمام في الصلاة في الثوب بدون غسل، فان قيل: ان هذا إنما يدل على عدم المانعية لا على طهارة الخمر. قيل: انا نضم الى ذلك ارتكاز مانعية النجس الموجب لدلالته بالالتزام على طهارة الثوب، أو نستفيد الطهارة من التعليل بأن الثوب لا يسكر، الواضح في أن محذور الخمر منحصر بالأسكار و هو لا يسري الى الثوب ليكون فيه محذور.

و دعوى: ان التعليل أدل على نجاسة الخمر، لأنه يدل على أن‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 38 من أبواب النجاسات


338
بحوث في شرح العروة الوثقى3

و منها: رواية الحسين بن أبي سارة أيضا ؛ ج‌3، ص : 339

..........

______________________________
الثوب لو كان يسكر لما جازت الصلاة فيه و ليس ذلك إلا لنجاسة المسكر و يتحصل من ذلك أن الخمر نجس و لكنه غير منجس للثوب.

مدفوعة: بأنا لا نريد بنفي النجاسة عن الخمر إلا المعنى الذي يساوق عدم انفعال الملاقي به، إذ لا يترتب حينئذ أثر عملي على نجاسة الخمر المأخوذة بنحو لا تسرى بالملاقاة.

هذا مضافا الى أن قوله: «الثوب لا يسكر» لا يعنى ما ذكر سواء أريد أنه لا يكون مسكرا للألبسة كما يسكر الخمر شاربه أو أن الثوب لا يسكر بإصابة الخمر له كما يسكر الإنسان بشربه للخمر أما على الأول، فيكون مفاد التعليل عرفا أن الثوب الذي أصابه الخمر لا يسكر المصلي الذي يلبسه فلا محذور فيه، و هذا يدل على أن محذور الخمر بالنسبة إلى الصلاة إنما هو مانعية الإسكار، و ما دام لبس الثوب المذكور لا يوجب إسكار المصلي فلا بأس به، فيكون دليلا على نفي المانعية بملاك النجاسة. و اما على الثاني فلا معنى لدعوى دلالة التعليل على عدم جواز الصلاة في الثوب لو كان يسكر لنجاسته، لأن النجس هو المسكر لا السكران، و العبارة التي وردت تعليلا إنما تقال عرفا في العادة لبيان أنه لا محذور سوى الإسكار في الخمر، من دون نظر الى ما هو الحكم لو فرض محالا ان الثوب كان مسكرا أو كان يسكر.

و سند الرواية تام، لأن الحسين بن أبي سارة ثقة. إما لأنه الحسن ابن أبي سارة الموثق عند النجاشي، باعتبار أنه لم يذكر حسين بن أبي سارة بالتصغير في كتب الرجال. و إما لرواية ابن أبي عمير عنه.

و منها: رواية الحسين بن أبي سارة أيضا

قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: إنا نخالط اليهود و النصارى و المجوس، و ندخل عليهم و هم يأكلون و يشربون فيمر ساقيهم و يصب على ثيابي الخمر. فقال:


339
بحوث في شرح العروة الوثقى3

و منها: رواية عبد الله بن بكير ؛ ج‌3، ص : 340

..........

______________________________
لا بأس به، الا أن تشتهي أن تغسله لأثره»
«1» و الدلالة واضحة، غير أن السند ليس تاما لاشتماله على صالح بن سيابة الذي لم يثبت توثيقه.

و منها: رواية عبد اللّه بن بكير

قال: «سأل رجل أبا عبد اللّه (ع) و أنا عنده عن المسكر و النبيذ يصيب الثوب، قال: لا بأس» «2». و هي تامة دلالة و سندا‌

و منها رواية الحسن بن موسى الحناط

قال: «سألت أبا عبد اللّه (ع) عن الرجل يشرب الخمر ثم يمجه من فيه فيصيب ثوبي. فقال: لا بأس» «3». و هي في الدلالة كسابقتها و أما السند فان كان الراوي هو الحسن كما ذكرناه نقلا عن الوسائل فهو ثقة، لرواية ابن أبي عمير عنه، غير أن الوارد في التهذيب و الاستبصار (الطبعة الجديدة) عنوان الحسين بن موسى الحناط، و نفس الحناط له نسخة بدل و هي (الخياط) كما في جامع أحاديث الشيعة، فإن حصل الوثوق بأن أحدهما عين الآخر- و لو بلحاظ اقتصار كل من الفهرستين على أحدهما، حيث اقتصر الشيخ في فهرسته على الحسن بن موسى الحناط و اقتصر النجاشي علي الحسين بن موسى الخياط، و وقوع ابن أبي عمير في الطريق في كل منهما، و إن كان طريق النجاشي ضعيفا- فهو، و إن لم يثبت ذلك- و لو بلحاظ ذكر الشيخ في رجاله لكلا العنوانين في أصحاب الصادق عليه السلام- لم يتم سند الرواية.

و منها: رواية على الواسطي

قال: «دخلت الجويرية و كانت تحت عيسى بن موسى على أبي عبد اللّه (ع) و كانت صالحة، فقالت: إني أتطيب لزوجي فيجعل في المشطة التي أمتشط بها الخمر و أجعله في رأسي قال: لا بأس» «4». و الدلالة واضحة، لأن الخمر لو كان نجسا ففي‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 38 من أبواب النجاسات

(2) وسائل الشيعة باب 38 من أبواب النجاسات

(3) وسائل الشيعة باب 39 من أبواب النجاسات

(4) وسائل الشيعة باب 37 من أبواب الأشربة المحرمة.


340
بحوث في شرح العروة الوثقى3

و منها: رواية حريز عن بكير ؛ ج‌3، ص : 341

..........

______________________________
ذلك بأس كما هو واضح. و الاشكال في الدلالة: بأن السؤال إنما هو عن نفس العمل، لاحتمال حرمة استعمال الخمر بأي نحو، فلا يدل نفي البأس إلا على عدم حرمة ذلك تكليفا. مدفوع: بأنه لو سلم عدم انسباق حيثية النجاسة من السؤال فلا أقل من التمسك بإطلاق نفي البأس، لأن التنجيس بنفسه بأس. و لو سلم أن البأس المنفي هو البأس في العمل بمعنى حرمته خاصة لا البأس من ناحيته بنحو يشمل سراية النجاسة، فلا أقل من كون سكوت الامام عن محذور السراية مع أهميته و دخوله في محل الابتلاء ظاهرا عرفا في عدم وجود محذور من هذا القبيل. غير أن سند الرواية ساقط بعلي الواسطي.

و منها: رواية حريز عن بكير

عن أبي جعفر (ع) قيل له: «انا نشتري ثيابا يصيبها الخمر و ودك الخنزير عند حاكتها، أ نصلي فيها قبل أن نغسلها؟ فقال: نعم لا بأس، ان اللّه انما حرم أكله و شربه و لم يحرم لبسه و مسه و الصلاة فيه» «1». و رواها حريز عن أبي الصباح، و أبي سعيد و الحسن النبال عن أبي عبد اللّه (ع).

و هذه الرواية تامة في نفسها دلالة، غير أن الذي يضعف أمرها ما تدل عليه ضمنا من جواز الصلاة في جزء من الخنزير، و هذا يجعل الرواية معارضة لا مع روايات نجاسة الخمر فقط، بل مع روايات نجاسة الخنزير أيضا، و مع روايات مانعية ما لا يؤكل لحمه الثابتة في الخنزير بقطع النظر عن نجاسته. و لا يمكن القول: بأن مورد الرواية ليس نصا في بقاء و دك الخنزير في الثوب الى حين الصلاة، بل و لا في وجود الرطوبة السارية عند الملاقاة معه. لأن التعليل واضح في جواز الصلاة فيه، فتكون الرواية بلحاظ جزء من مدلولها ساقطة وجدانا أو بالمعارضة‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 38 من أبواب النجاسات.


341
بحوث في شرح العروة الوثقى3

و منها: رواية علي بن رئاب في قرب الأسناد ؛ ج‌3، ص : 342

..........

______________________________
للدليل القطعي، و هذا يقتضي سقوط الرواية في تمام المدلول عن الحجية اما لعدم تعقل التبعيض في الحجية في أمثال المقام عرفا، أو لكون ذلك أمارة نوعية على وجود خلل في الرواية بنحو يسلب الوثوق بها و يخرجها عن دليل الحجية. و أما من حيث السند فالرواية معتبرة لا سيما أن الأربعة الذين يروون الرواية عن الامام فيهم الثقة، مضافا الى ما في اتفاق أربعة لم يثبت ضعف أي واحد منهم من تعزير لسند الرواية.

و منها: رواية علي بن رئاب في قرب الأسناد

قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السلام (ع) عن الخمر و النبيذ المسكر يصيب ثوبي فاغسله أو أصلي فيه؟

قال: صلّ فيه إلا أن تقذره فتغسل منه موضع الأثر، ان اللّه تعالى إنما حرم شربها» «1» (1). و الرواية واضحة الدلالة على الطهارة، و صحيحة السند.

و منها: رواية علي بن جعفر

قال: «و سألته عن الرجل يمر في ماء المطر و قد صب فيه خمر فأصاب ثوبه، هل يصلي فيه قبل أن يغسله؟ فقال:

لا يغسل ثوبه و لا رجله و يصلي فيه و لا بأس» «2» و الاستدلال بها- بعد ظهور أن الذي أصاب ثوبه هو الماء الذي صب فيه الخمر لا نفس الخمر- موقوف على أن يراد بماء المطر الماء الناشئ من التقاطر، لا ما هو مطر بالفعل، فإنه عندئذ يشمل بإطلاقه صورة الانقطاع و القلة، فيدل على عدم انفعال الماء القليل بملاقاة الخمر، و هو كاشف عن طهارته. و اما سند الرواية فهو تام.

و منها: رواية علي بن جعفر الواردة في الصلاة على مكان رش بالخمر

و قد تقدم نصها في روايات النجاسة. و التمسك بها لإثبات الطهارة أما بتقريب: التمسك بإطلاق قوله «و إن لم يصب فليصل»، فان مقتضى‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 38 من أبواب النجاسات

(2) وسائل الشيعة باب 6 من أبواب الماء المطلق.


342
بحوث في شرح العروة الوثقى3

و منها: رواية حفص الأعور ؛ ج‌3، ص : 343

..........

______________________________
إطلاقه صحة الصلاة بمجرد عدم اصابة مكان آخر جاف، سواء كان الوقت وسيعا بنحو يجف قبل خروجه أولا، و سواء كان بالإمكان تجفيفه بالعناية أو وضع شي‌ء يمنع عن السراية أولا، بل لعل الغالب إمكان التحفظ بنحو من الأنحاء، فلو كان المكان نجسا و منجسا للزم التحفظ و لما ارتفع المحذور بمجرد عدم اصابة مكان آخر في حال إرادة الصلاة كما هو ظاهر الرواية.

و إما بتقريب: استفادة ذلك من قوله: و لا بأس»، لظهوره في نفي البأس الملحوظ للسائل في مقام الاستعلام، لو تم استظهار أن البأس المحتمل للسائل هو النجاسة لا مانعية نداوة الخمر عن الصلاة بالأصالة.

و إما بتقريب: استظهار أن قوله: «و ان لم يصب فليصل و لا بأس» ناظر بجملة «فليصل» الى الأذن في الصلاة، و ب‍ «لا بأس» الى عدم نشوء محذور و تبعة من ناحية الصلاة، لأن نفي البأس لو كان بمعنى نفي البأس في إيقاع الصلاة لكان تأكيدا بحتا، بخلاف ما إذا فرض نظره الى نفي البأس بلحاظ ما بعد وقوع الصلاة، و حينئذ يدل على نفي النجاسة كما هو واضح. غير أن هذا مبني على أن يكون الحمل على مثل ذلك التأكيد خلاف الظاهر، مع أنه عرفي في أساليب المحاورة.

و إما بتقريب الإطلاق المقامي و عدم التنبيه على ما يترتب على الصلاة في ذلك المكان عند الانحصار من النجاسة و لزوم غسل الأعضاء بعد ذلك.

الا أن افتراض هذا الإطلاق بلا موجب، لأنه لم يحرز كون الإمام في مقام البيان من سائر الجهات، فلعله اعتمد في توضيح ذلك على ما تقتضيه القاعدة. و الرواية على أي حال ضعيفة سندا بعبد اللّه بن الحسن.

و منها: رواية حفص الأعور

التي جاء فيها: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: اني آخذ الركوة فيقال: إنه إذا جعل فيها الخمر و غسلت‌


343
بحوث في شرح العروة الوثقى3

المقام الثالث: في تشخيص الوظيفة الفقهية تجاه الطائفتين المتعارضتين من الروايات، ؛ ج‌3، ص : 344

..........

______________________________
ثم جعل فيها البختج كان أطيب له، فنأخذ الركوة فنجعل فيها الخمر فنخضخضه ثم نصبه فنجعل فيها البختج، قال: لا بأس به»
«1» و هذه الرواية قد يستدل بها على النجاسة باعتبار ورود غسل الركوة فيها، و قد يستدل بها على الطهارة اما بدعوى: عدم وجود كلمة «و غسلت» في الرواية كما يلاحظ في الطبعة الجديدة من الكافي، و اما مع التسليم بوجودها- كما هو الظاهر لاشتمال الرواية عليها في الطبعات القديمة للكافي و في نقل صاحب الوسائل عن الكليني- بدعوى: ان الظاهر من الغسل غسل الركوة بالخمر لا غسلها منه، لأنه ذكر في سياق ما يكون دخيلا في طيب البختج و الغسل الشرعي لأجل التطهير لا دخل له في ذلك، و لأن الراوي حينما شرح العملية مرة ثانية بقوله: «فنجعل فيها الخمر فنخضخضه» لم يشر الى غسل الركوة بغير الخمر. و لكن التعويل على هذه الرواية متعذر حتى لو تمت هذه الدعوى، لكونها مرفوعة.

و من هذا الاستعراض يتضح انه ليس لدينا ما تم سندا و دلالة و حجية على الطهارة في خصوص الخمر الا روايتين، إحداهما لابن أبي سارة و الثانية لعلي بن رئاب.

و هناك روايتان تامتان سندا و دلالة إحداهما: تدل على طهارة مطلق المسكر و تشمل الخمر بالإطلاق، و هي رواية ابن بكير. و الأخرى: تدل بالإطلاق على طهارة الخمر، و هي رواية علي بن جعفر في ماء المطر الذي صب فيه الخمر، و قد يكون مثلها رواية علي بن جعفر الأخرى الواردة في الصلاة على مكان رش فيه الخمر.

المقام الثالث: في تشخيص الوظيفة الفقهية تجاه الطائفتين المتعارضتين من الروايات،

و ذلك من خلال اقتراح عدة مواقف:

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 30 من أبواب الأشربة المحرمة.


344
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الموقف الأول: طرح الروايات الدالة على الطهارة ؛ ج‌3، ص : 345

الموقف الأول: طرح الروايات الدالة على الطهارة

،

______________________________
بدعوى سقوطها عن الحجية في نفسها، فيكون التعارض بين روايات النجاسة و بينها من التعارض بين الحجة و اللاحجة. و تقريب ذلك بأحد وجوه:

أولها: أن إعراض المشهور عن العمل بها مع وضوحها و انتشارها في كتب الحديث يكشف كشفا نوعيا أو شخصيا عن خلل في بعض جهاتها على نحو تخرج عن إطلاق دليل الحجية.

و يرد عليه: ان هذا إنما يتم إذا لم يكن ترك المشهور للعمل بها قائماً على أساس الاجتهاد و الصناعة، و اعتقاد اقتضائها لتقديم أخبار النجاسة، كما يظهر من الشيخ الطوسي قدس سره، إذ رأينا في نص نقلناه عنه سابقا أنه يقدم أخبار النجاسة على أخبار الطهارة لمخالفة الأخيرة للكتاب أو لموافقتها للعامة، و ابن إدريس حينما تعرض لأخبار الطهارة رماها بأنها أخبار آحاد و لم يشر في كلمات المتقدمين الى وجود خلل خاص فيها.

ثانيها: أن أخبار الطهارة مخالفة للكتاب الكريم كما أشار إليه الشيخ الطوسي قدس سره، بلحاظ دلالة كلمة «رجس» في الآية الشريفة على النجاسة، و الأخبار المخالفة بظهورها للكتاب خارجة عن دليل الحجية.

و يرد عليه ما تقدم من عدم دلالة الآية الكريمة على النجاسة.

ثالثها: ان أخبار النجاسة في نفسها قطعية إجمالا لاستفاضتها فتكون روايات الطهارة مخالفة للسنة القطعية، و هي كالمخالفة للكتاب الكريم توجب الخروج عن إطلاق دليل الحجية.

و يرد عليه: ان جملة من روايات النجاسة قابلة للحمل على التنزه بالجمع العرفي، أو قابلة للتقييد حيث تستفاد النجاسة من إطلاقها، فإن أريد الاستفاضة بضم هذه الجملة لم يفد لإثبات عنوان المخالفة الموجبة للسقوط عن الحجية، و إن أريد ادعاء الاستفاضة بدونها فهو واضح البطلان.


345
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الموقف الثاني: إعمال الجمع العرفي بتقديم ظهور أخبار الطهارة على ظهور أخبار النجاسة في مقام التوفيق بينهما عرفا ؛ ج‌3، ص : 346

 

الموقف الثاني: إعمال الجمع العرفي بتقديم ظهور أخبار الطهارة على ظهور أخبار النجاسة في مقام التوفيق بينهما عرفا

،

______________________________
و ذلك بأحد تقريبين:

أولهما: دعوى اشتمال أخبار النجاسة على ما يصلح للحكومة على روايات الطهارة،

و هو صحيح علي بن مهزيار قال: «قرأت في كتاب عبد اللّه بن محمد الى أبي الحسن (ع): جعلت فداك روى زرارة عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه (ع): في الخمر يصيب ثوب الرجل، انهما قالا: لا بأس بأن تصلي فيه إنما حرم شربها.

و روى عن (غير) زرارة عن أبي عبد اللّه (ع): أنه قال: إذا أصاب ثوبك خمر أو نبيذ يعني المسكر فاغسله ان عرفت موضعه، و إن لم تعرف موضعه فاغسله كله، و ان صليت فيه فأعد صلاتك. فأعلمني ما آخذ به؟ فوقع بخطه و قرأته: خذ بقول أبي عبد اللّه (ع)» «1»، فان المراد بقول أبي عبد اللّه الذي أمر بالأخذ به القول الذي اختص بالنقل عنه، دون ما كان قولا لكلا الإمامين، لأنه هو الذي يصلح أن يميز عن القول المشترك بهذا العنوان عرفا، دون العكس، كما هو واضح و باعتبار النظر في هذه الروايات الى دليل الطهارة تكون حاكمة عليه.

و تحقيق الكلام في ذلك: ان قول أبي الحسن (ع) خذ بقول أبي عبد اللّه يمكن تصويره بثلاثة أنحاء:

الأول: أن يكون المقصود جعل الحجية للخبر الثاني بعد قصور دليل الحجية العام عن شمول الخبرين لتعارضهما، فتكون الرواية من الأخبار العلاجية و لكن في فرض شخصي للتعارض، و لا شك في لزوم الأخذ بمقتضاه حينئذ و لو خالف مقتضى الأخبار العلاجية، لأنه أخص منها، و ان لم يكن ذلك من الحكومة المصطلحة.

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 38 من أبواب النجاسات

 

 

 

346
بحوث في شرح العروة الوثقى3

أولهما: دعوى اشتمال أخبار النجاسة على ما يصلح للحكومة على روايات الطهارة، ؛ ج‌3، ص : 346

..........

______________________________
الثاني: أن يكون المقصود الكشف عن وجود قصور في كشف الكلام المشترك للامامين عن الواقع، و ان هذا القصور غير موجود في كشف الكلام المختص بأبي عبد اللّه، و لهذا تعين الأخذ به. و على هذا يكون بمثابة ما لو صرح الإمام بأن كلامي الفلاني لا تأخذ به لأنه كان تقية أو لظروف غير طبيعية، و لا شك عندئذ في تقدمه بالحكومة لأجل النظر و التفسير، و لو في مرحلة الكشف عن المراد الجدي.

الثالث: أن يكون المقصود بذلك تكذيب النقل الأول و تصويب النقل الثاني. و بناء عليه لا يكون هذا من الحكومة بشي‌ء، لأن الحاكم ما كان مفسرا للمحكوم مع الاعتراف بأصل وجوده، و اما نفي رواية لصدور ما يناقضها المنقول في رواية أخرى فلا يحقق الحاكمية بل التكاذب و بتعبير آخر: أن النظر الموجب للتقدم بالحكومة هو النظر التفسيري لا النظر التكذيبي.

اما النحو الأول فهو خلاف الظاهر جدا، لوجود فرق واضح بين الرواية في محل الكلام و الأخبار العلاجية التي لم يشخص فيها مورد معين للتعارض، الأمر الذي يعين نظر السائل إلى استعلام الحكم الظاهري و حال الحجية، بخلاف الرواية في المقام التي شخص فيها مورد التعارض بنحو يمكن طلب العلم بالحكم الواقعي للمسألة، و في مثل ذلك يكون ظاهر السؤال و المراجعة استعلام حكم المسألة واقعا، و معه يكون حمل جواب الامام على علاج مرحلة الحجية خلاف الظاهر.

و اما النحو الثاني فلا قرينة عليه في مقابل النحو الثالث، سوى ما يمكن أن يستظهر من جواب الإمام الذي أضاف فيه القول الى أبي عبد اللّه لا إلى الراوي من الفراغ عن صدور كلا القولين من الأئمة. و لكنه.

مدفوع بأن التعبير في جواب الامام عن النص المتكفل للنجاسة بقول أبي عبد اللّه- لو سلم كونه يعني تصويب هذه الإضافة و ليس مجرد عنوان‌


347
بحوث في شرح العروة الوثقى3

و التقريب الآخر للجمع العرفي: هو حمل أخبار النجاسة على التنزه ؛ ج‌3، ص : 348

..........

______________________________
معرف و مشير الى أحد الخبرين- فغاية ما يقتضيه كون هذا النص صادرا من أبي عبد اللّه، لا الفراغ عن صدور كلا النصين. و مما يبعد النحو الثاني:

ما سوف يأتي ان شاء اللّه من ان احتمال صدور نصوص الطهارة تقية موهون جدا. و عليه فان لم نجزم بالنحو الثالث فلا أقل من احتماله بنحو معتد به، و معه لا يثبت في الرواية ظهور يقتضي التقدم بالحكومة.

و مما ذكرناه ظهر الحال في رواية خيران الخادم أيضا قال: «كتبت الى الرجل (ع) أسأله عن الثوب يصيب الخمر و لحم الخنزير أ يصلى فيه أم لا؟، فإن أصحابنا قد اختلفوا فيه فقال بعضهم: صل فيه فان اللّه انما حرم شربها. و قال بعضهم: لا تصل فيه. فكتب عليه السلام: لا تصل فيه فإنه رجس» «1». و هذه الرواية أوضح من الرواية السابقة في النظر الى الحكم الواقعي ابتداء بنحو تعد من إحدى الطائفتين المتعارضتين، و هي ضعيفة السند بسهل.

و التقريب الآخر للجمع العرفي: هو حمل أخبار النجاسة على التنزه

لصراحة أخبار الطهارة في نفي النجاسة اللزومية، فيرفع اليد عن الظاهر بقرينة الصريح، و ينتج حينئذ عكس ما أنتجه التقريب السابق للجمع العرفي. و قد تقدم منا مرارا ان مجرد كون أحد المتعارضين صريحا بنحو لا يقبل التأويل بخلاف الآخر لا يكفي للجمع العرفي، بل لا بد من فارق معتد به بين فحوى الدلالة على وجه لا يتحير العرف في مقام فهم المراد من مجموعهما، و سوف نشير فيما يأتي الى أن في بعض روايات النجاسة من الظهور ما لا يصلح صريح أخبار الطهارة للقرينية عليه في النظر العرفي و ان أمكن التأويل عقلا، خصوصا أن نفس استفاضة أحد المضمونين و وروده بكثرة قد لا يساعد عرفا على حمل كل ذلك على مجرد التنزه و الاستحباب‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 38 من أبواب النجاسات.


348
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الموقف الثالث - بعد فرض حجية كل من الطائفتين في نفسها و تعذر الجمع العرفي -: ؛ ج‌3، ص : 349

الموقف الثالث- بعد فرض حجية كل من الطائفتين في نفسها و تعذر الجمع العرفي-:

______________________________
يدعى تقديم أخبار النجاسة بحمل أخبار الطهارة على التقية، إعمالا للمرجح العلاجي في مقام التعارض.

و التقية تدعى بأحد وجهين:

أولهما: ان أخبار الطهارة موافقة لمذهب بعض العامة، كما أشار الشيخ الطوسي قدس سره.

و التحقيق: ان المشهور في الفقه السني بمختلف مذاهبه هو الحكم بالنجاسة، حتى ذكر السيد المرتضى قدس سره انه: «لا خلاف بين المسلمين في نجاسة الخمر الا ما يحكى عن شذاذ لا اعتبار بقولهم»، و أكثر من نسب إليهم القول بالطهارة من فقهاء السنة ممن لا يمكن افتراض اتقاء الامام الصادق عليه السلام منهم، فضلا عن الباقر (ع).

فقد قيل: ان الطهارة أحد القولين للشافعي أو قول بعض الشافعية و من الواضح ان ولادة الشافعي بعد وفاة الامام الصادق، فلا معنى لاتقائه منه. و نسب القول بالطهارة إلى ليث بن سعد، و هو و إن كان معاصرا للإمام الصادق (ع) غير أنه كان يسكن في مصر، فهل يحتمل عادة ان الامام و هو في الحجاز أو العراق يتقى من فقيه في مصر، و لا يعتنى بما ذهب اليه فقهاء الحجاز و العراق؟! و إذا افتراضنا صدور بعض نصوص الطهارة من الامام الباقر المتوفى سنة 114 ه‍- كان عدم تعقل اتقائه من ليث في غاية الوضوح، لأن ليث ولد سنة 93 ه‍- فيكون عمره حين وفاة الباقر عليه السلام حوالي عشرين عاما. و نسب القول بالطهارة الى داود المولود سنة 202، و هو متأخر ولادة عن وفاة الامام الصادق، فكيف يفرض الاتقاء منه؟! و نسب هذا القول أيضا الى ربيعة، و هو و إن كان معاصرا للإمام الصادق (ع) و لكنه كان فقيها منعزلا، و لم يتحقق له في حياته‌


349
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الموقف الثالث - بعد فرض حجية كل من الطائفتين في نفسها و تعذر الجمع العرفي -: ؛ ج‌3، ص : 349

..........

______________________________
من المقام الرسمي أو الاجتماعي ما يناسب الاتقاء منه، خصوصا إذا قبلنا صدور بعض النصوص السابقة في الطهارة من الامام الباقر الذي كان ربيعة شابا عند وفاته. و عليه فافتراض التقية بهذا المعنى غير محتمل عادة في نفسه، فضلا عن دعوى صدق عنوان ما وافق العامة على أخبار الطهارة و الوجه الثاني: الذي ذكر في تصوير التقية: هو أن تكون روايات الطهارة تقية من الحكام و السلاطين الذين كانوا يشربون الخمور و لا يتجنبون مساورته.

و هذا الوجه في غاية الغرابة و الانحراف عن التفكير السليم إلى درجة لم أكن أرضى بأن يتفوه به فقيه، و ذلك:

أما أولا فلأن ما دل على ترجيح المخالف للعامة على الموافق ناظر إلى الموافقة و المخالفة بلحاظ ما عليه تدين العامة و شرعهم، لا ما عليه عمل فساقهم و فجارهم.

و أما ثانيا: فلأنه كيف يمكن أن نحتمل في الأئمة عليهم السلام انهم ينزلون الى مستوى الإفتاء بغير الواقع تبريرا لفسق الحكام، فان مثل هذا لم يكن يصدر من المتعففين من فقهاء السنة أنفسهم، فكيف يصدر من أئمة أهل البيت؟! و ما كان الأئمة يمارسونه من تقية مع الحكام انما يرجع الى التعامل معهم كحكام و عدم التجاهر بعدم صلاحيتهم للحاكمية لا تبريك فسقهم و فجورهم.

و أما ثالثا: فلأن الخلفاء المعاصرين للإمام الصادق لم ينقل في التأريخ أنهم شربوا خمرا بل لم ينقل ذلك الا عن شواذ من الخلفاء و أشباه الخلفاء في عصور أخرى، و لم يتفق في زمان من تلك الأزمنة أن يكون قد بلغ استهتار الخليفة إلى درجة التجاهر بمساورة الخمر و شربه و التصدي للتنكيل بمن يفتي بنجاسته، و أي فائدة لشاربي الخمر في تطهيره مع التأكيد على حرمته؟! و نحن نلاحظ على عكس‌


350
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الموقف الثالث - بعد فرض حجية كل من الطائفتين في نفسها و تعذر الجمع العرفي -: ؛ ج‌3، ص : 349

..........

______________________________
ما ادعى ان الأئمة عليهم السلام شنوا حملة شديدة ضد الفكرة القائلة بإباحة غير الخمر من أنواع الأنبذة التي بسكر كثيرها دون قليلها، و لم يؤثر عنهم أي تساهل في ذلك، فلو كان هناك اتجاه نحو مجاملة فسق السلاطين لاقتضى خلاف تلك الحملة، حتى روي عن الامام الصادق (ع) في شأن النبيذ المسكر: و اللّه انه لشي‌ء ما اتقيت فيه سلطانا و لا غيره
«1».

ثم ان روايات الطهارة بحسب ألسنتها لا تناسب الحمل على التقية لوضوحها و صراحة بعضها و اشتمالها على التعليل بأن اللّه إنما حرم شربها لا الصلاة فيها، مع ان لسان التقية عادة لسان الإجمال و الاضطراب لا التفصيل و التعليل و التأكيد. و شاهد آخر: إذا لاحظنا رواية حريز و هو عطف و دك الخنزير على الخمر، مع أنه لم يفت أحد من فقهاء السنة بطهارة شحم الخنزير و لحمه و لم يؤثر عن أحد من الخلفاء انه أكل لحم الخنزير.

و مما تقدم ربما تنقدح صيغة ثالثة للحمل على التقية معاكسة للوجهين السابقين، و هي حمل أخبار النجاسة على التقية، لما عرفت من موافقتها للرأي الفقهي العام عند السنة. و هذا حمل معقول في نفسه، و أوجه من الوجهين السابقين للتقية، و لكنه أيضا لا يناسب أخبار النجاسة، لأننا نلاحظ فيها نوعا من التأكيد البالغ و الحث الشديد على التجنب، و الأمر بغسل الملاقي ثلاث مرات كما في رواية عمار، و عطف النبيذ و المسكر على الخمر، فلو كان الحكم الواقعي هو الطهارة فلما ذا هذا الإلحاح و التأكيد على الغسل و التجنب؟!، خصوصا مع عدم وجوب تعدد الغسل عند العامة و عدم نجاسة الأنبذة، بل حلية شرب القليل منها عند جملة منهم إذا كان المسكر كثيرها فقط، فمع ملاحظة جملة من هذه الخصوصيات التي لا تقتضيها التقية يحصل الوثوق بعدم صدور روايات النجاسة تقية.

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 22 من أبواب الأشربة المحرمة


351
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الموقف الرابع: بعد افتراض عدم وجود المرجح العلاجي يبنى على التساقط، ؛ ج‌3، ص : 352

الموقف الرابع: بعد افتراض عدم وجود المرجح العلاجي يبنى على التساقط،

______________________________
و يرجع في الخمر أو في ملاقيه إلى أصالة الطهارة و نحوها من الأصول المؤمنة. و هذا الموقف إنما يصح فيما إذا لم يكن في داخل إحدى الطائفتين ما يكون بمثابة العام الفوقي، بحيث لا يصلح أن يكون طرفا للمعارضة في المرتبة الأولى، و إنما يصلح أن يكون مرجعا بعد تساقط المتعارضين. و أما في حالة اشتمال إحدى الطائفتين على شي‌ء من هذا القبيل فلا بد من الرجوع إليه، و لا يجوز البناء على التساقط المطلق من الجانبين.

الموقف الخامس: في تحقيق تلك الحالة و إثبات اشتمال إحدى الطائفتين على ما يكون مرجعا بعد التساقط.

و لنمهد لذلك بتوضيح الفكرة كبرويا، فنقول: ان الأصحاب جروا في مورد تعارض الخاصين المطابق أحدهما لعام فوقي على الالتزام بتساقط الخاصين و الرجوع الى العام، بنكتة ان العام لا يصلح لمعارضة الخاص المقابل فيكون مرجعا بعد تساقط الخاصين، و لكنهم دأبوا في نفس الوقت حينما توجد طائفتان متعارضتان في مسألة بدون جمع أو مرجح على إيقاع التعارض و التساقط بينها جميعا دون تصنيف لروايات كل من الطائفتين من ناحية درجة دلالتها على الحكم مع أنه قد تشتمل إحدى الطائفتين على درجتين من الدلالة على الحكم، و تكون الطائفة الثانية كلها صالحة للقرينية على الدرجة الثانية دون الأولى، ففي مثل ذلك تكون الروايات ذات الدرجة الثانية من الطائفة الأولى بمثابة العام الفوقاني، و إن كان الموضوع واحدا في جميع الروايات، غير أن نكتة سلامة العام الفوقي عن المعارضة و تعينه للمرجعية جارية فيها أيضا و على هذا الأساس لا بد من إدخال هذا التصنيف في الحساب.

و بناءا على ذلك نقول: إن أخبار النجاسة على مراتب:

المرتبة الأولى: ما كان منها كالصريح في الدلالة على النجاسة بحيث‌


352
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الموقف الخامس: في تحقيق تلك الحالة و إثبات اشتمال إحدى الطائفتين على ما يكون مرجعا بعد التساقط. ؛ ج‌3، ص : 352

..........

______________________________
لا يصح عرفا حمله على التنزه، من قبيل موثقة عمار قال: «لا يجزيه حتى يدلكه بيده و يغسله ثلاث مرات».

المرتبة الثانية: ما كان ظاهرا في النجاسة مع إمكان الحمل على التنزه عرفا في مقام الجمع، كالروايات المشتملة على مجرد الأمر بالغسل.

المرتبة الثالثة: ما كان دالا على النجاسة بالإطلاق و مقدمات الحكمة و هو أضعف من سابقيه دلالة، و ذلك من قبيل ما اشتمل على التنزيل الذي يشمل إطلاقه النجاسة.

المرتبة الرابعة: ما كان دالا على النجاسة بالإمضاء السكوتي عما كشف عنه سؤال السائل من ارتكاز نجاسة الخمر في ذهنه. و قد يتصور أن هذا نحو إطلاق أيضا فيدخل في المرتبة الثالثة، و لكن الصحيح أنه مرتبة رابعة لأن مثل هذا الإمضاء السكوتي يرتفع لو كان في كلام الامام عليه السلام ما يدل على نفي الأمر المرتكز و لو بالإطلاق و مقدمات الحكمة، إذ لا يصدق السكوت حينئذ، و إذا كان الإطلاق الحكمي هادما لهذه الدلالة عند الاتصال فهو مقدم عليها في الحجية عند الانفصال لو وقع التعارض بينهما.

و أما أخبار طهارة الخمر فهي على مرتبتين:

الأولى: ما دل بالصراحة العرفية على ذلك، كرواية علي بن رئاب و رواية ابن أبي سارة.

الثانية: ما دل على طهارة الخمر بالإطلاق، كرواية علي بن جعفر الواردة في ماء المطر الذي أصابه الخمر، و رواية ابن بكير الواردة في مطلق المسكر. و اما رواية علي بن جعفر الأخرى الواردة في الصلاة في مكان رش بالخمر إذا لم يوجد غيره: فان قيل بأن دلالتها على الطهارة بلحاظ إطلاق الترخيص فيها لفرض سعة الوقت أو إمكان التجفيف كان حالها حال روايته في ماء المطر. و إن قيل بأن دلالتها بظهور نفي البأس‌


353
بحوث في شرح العروة الوثقى3

اما المقام الأول، فيشتمل على ثلاث جهات: ؛ ج‌3، ص : 354

 

[في إلحاق المسكر بالخمر حكما من ناحية النجاسة]

و كل مسكر مائع بالأصالة (1)

______________________________
في نفي النجاسة كانت مرتبة برأسها بين المرتبتين المذكورتين.

فعلى الأول يتساقط الصريحان من الطائفتين و يقيد ما دل بالإطلاق على الطهارة بما يكون ظاهرا في النجاسة. و على الثاني يتساقط الصريحان بالمعارضة و كذلك الظاهران من الطائفتين و المطلقان منهما و تنتهي النوبة إلى المرتبة الرابعة من مراتب أخبار النجاسة بوصفها بمثابة المرجع الفوقاني لعدم سقوطها بالمعارضة مع أخبار الطهارة بسبب عدم صلاحيتها لمعارضة أخبار الطهارة، و بذلك تثبت نجاسة الخمر.

(1) الكلام في غير الخمر من المسكرات يقع في مقامين:

أحدهما: في نجاسته كالخمر بعد الاعتراف بعدم كونه خمرا.

و الآخر: في إلحاقه موضوعا بالخمر لكي يشمله نفس دليل نجاسة الخمر.

اما المقام الأول، فيشتمل على ثلاث جهات:

الجهة الأولى: في نجاسة المسكر من النبيذ.

و حاصل الكلام في ذلك:

باسترجاع المواقف السابقة التي ذكرناها في بحث نجاسة الخمر، لنلاحظ بعض جهات الامتياز في المقام.

اما الموقف الأول فهو لو تم هناك لجرى في المقام بلحاظ أعراض المشهور طابق النعل بالنعل، و لكن لا يجري بلحاظ المخالفة للكتاب أو للسنة القطعية، لأن الكتاب إنما يتعرض للخمر خاصة، و السنة ليست قطعية إلا بضم ما هو وارد في الخمر خاصة.

و اما الموقف الثاني، فالجمع بالحمل على التنزه كما لا يتم هناك لا يتم هنا أيضا، لإباء بعض روايات النجاسة عن الحمل على التنزه كرواية عمار. و اما الحكومة فهي على تقدير تماميتها تجري في المقام أيضا،

 

 

 

354
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الجهة الأولى: في نجاسة المسكر من النبيذ. ؛ ج‌3، ص : 354

..........

______________________________
لأن قول أبي عبد اللّه الذي أمر بالأخذ به في صحيحة علي بن مهزيار يشتمل على نجاسة النبيذ أيضا، و إن كان معارضه المصرح به في تلك الصحيحة مختصا بالخمر، الا أن المناط في سريان الحكومة شمول ما ثبتت حجيته بوجه خاص لغير الخمر. و دعوى: ان غاية ما يثبت بالصحيحة تقديم قول أبي عبد اللّه على القول الآخر المتضمن لنجاسة الخمر و ما يتحد معه في المضمون، و لا تدل على تقديمه على ما يعارضه بلحاظ مضمون آخر. مدفوعة: بأنا إذا حملنا الأمر بالأخذ بقول أبي عبد اللّه على جعل حجية خاصة لرواية هذا القول، فمن الواضح أن هذه الحجية تثبت تمام مضمونه حينئذ، و لا يعارضه بلحاظ هذه الحجية ما دل على طهارة النبيذ لأن هذه الحجية تختص بالقول المذكور. و إذا حملنا الأمر المذكور على تشخيص ما هو الصادر جدا من غيره فهو أيضا يعني ان كل ما يعارضه فهو ليس جديا، فتتم الحكومة على روايات طهارة النبيذ أيضا.

و اما الموقف الثالث: فهو و ان كان غير تام في الموردين، كما هو واضح و لكنه هنا أقل سخفا لعدم استبعاد وجود قول معتد به بطهارة بعض الأنبذة التي يسكر كثيرها بل حليتها، و لكنه على أي حال ليس على نحو يصدق معه عنوان الموافق للعامة على أخبار الطهارة.

و أما الموقف الرابع: فيظهر حاله مما يأتي.

و اما الموقف الخامس، فتحقيق الحال فيه: ان روايات النجاسة من المرتبة الثالثة و الرابعة كانت مخصوصة بالخمر، و عليه فروايات نجاسة النبيذ المسكر ذات مرتبتين. فمن المرتبة الأولى رواية عمار و رواية علي بن مهزيار إذ ورد فيهما عنوان النبيذ، و لا يمكن عرفا حملهما على التنزه. و من المرتبة الثانية رواية عمار التي ورد فيها عنوان المسكر في مقابل الخمر و المتيقن منه النبيذ، و رواية علي بن جعفر الواردة في النبيذ، و لا يكون‌


355
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الجهة الأولى: في نجاسة المسكر من النبيذ. ؛ ج‌3، ص : 354

..........

______________________________
دليلا على طهارة الخمر. و من هنا يمكن تصنيف الروايات الدالة على طهارة النبيذ الى عدة رتب:

الأولى: ما دل بالصراحة العرفية على الطهارة، و هو كل ما كان صريحا في طهارة الخمر، و رواية عبد اللّه بن بكير التي وردت في النبيذ الثانية: ما دل بالظهور، و هو ما كان دالا بالظهور على طهارة الخمر على تقدير وجوده، و يضاف إليه رواية أبي بكر الحضرمي قال:

«قلت لأبي عبد اللّه أصاب ثوبي نبيذ أصلي فيه؟ قال: نعم. قلت:

قطرة من نبيذ قطر في حب أشرب منه؟ قال: نعم. إن أصل النبيذ حلال و إن أصل الخمر حرام «1» بناء على ظهوره في طهارة النبيذ المسكر، إما لانصراف السؤال إلى خصوص المسكر لوضوح عدم نجاسة النبيذ بمجرد النبذ، و إما لاستظهار أن المقصود من التعليل بيان أنه حيث كان النبيذ بعنوانه ليس حراما كالخمر و إنما يحرم إذا كان مسكرا فلم يحكم بنجاسته أصلا، لا بيان أن النبيذ ليس دائما حراما كالخمر فلا يكون دائما نجسا و الرواية صحيحة سندا لثبوت وثاقة أبي بكر الحضرمي برواية الأزدي و البجلي عنه.

الثالثة: ما دل بالإمضاء السكوتي على طهارة النبيذ و هو خبر كليب ابن معاوية المتقدم، و قد تقدم ان ظاهره ارتكاز الطهارة لدى أبي بصير و لم يردع الامام (ع) عن هذا الارتكاز. و الخبر معتبر سندا لرواية صفوان عن كليب.

و على هذا الأساس يتساقط الصريحان و الظهوران و يتشكل من المرتبة الثالثة من أخبار الطهارة ما يكون بمثابة المرجع الفوقي. و لو قطع النظر عن هذه المرتبة تم الموقف الرابع حينئذ من التساقط المطلق و الرجوع الى‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 38 من أبواب النجاسات


356
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الجهة الثانية: في نجاسة المسكر من غير النبيذ مما هو معد للشرب ؛ ج‌3، ص : 357

..........

______________________________
الأصول النافية.

الجهة الثانية: في نجاسة المسكر من غير النبيذ مما هو معد للشرب

و توضيح حكمه: انا إذا قلنا بطهارة النبيذ المسكر فغيره طاهر أيضا كما هو واضح، و ان قلنا بنجاسته فقد يقال: بأنه لا موجب لاسراء النجاسة الى غير النبيذ، إما بتقريب: ان روايات النجاسة أخذ في موضوعها عنوان الخمر و النبيذ و لم يؤخذ المسكر على إطلاقه، إلا في رواية لعمار: «لا تصل في بيت فيه خمر و لا مسكر. و لا تصل في ثوب قد أصابه خمر أو مسكر» و هي غير تامة دلالة، لأن السياق يقتضي الحمل على التنزه بقرينة تنزيهية النهي الأول.

و إما بتقريب: ان ما دل على طهارة الخمر أو النبيذ المسكر إنما سقط عن الحجية في مقابل معارضه، بلحاظ صحيحة علي بن مهزيار الآمرة بالأخذ بقول أبي عبد اللّه، و الوارد في هذا القول عنوان «خمر أو نبيذ يعني المسكر»، و كلمة «يعني المسكر» بمعنى ارادة النبيذ المسكر لا تفسير النبيذ بطبيعي المسكر، و لا أقل من احتمال ذلك، فلا يبقى موجب لإسقاط ما دل على طهارة غير النبيذ من المسكرات عن الحجية في مقابل معارضه.

و يرد على التقريب الأول: أولا: ان رواية عمار المذكورة تامة دلالة كما تقدم، فتكفي دليلا لإثبات المدعى. و ثانيا: ان خصوصية النبذ في عنوان النبيذ المسكر ملغية بالارتكاز العرفي، و مع إلغائها تدل نفس نصوص النجاسة في النبيذ المسكر على النجاسة فيما كان من قبيله من المسكرات و يرد على التقريب الثاني: انه لا يوجد هناك فيما تم من روايات الطهارة ما يدل على طهارة المسكر بصورة مستقلة، ليدعى التمسك به لإثبات طهارة غير النبيذ من المسكرات، بل نصوص الطهارة بين ما هو وارد في الخمر، أو في النبيذ، أو في النبيذ و المسكر كرواية عبد اللّه بن‌


357
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الجهة الثالثة: في المسكر المائع غير المتعارف شربه خارجا، ؛ ج‌3، ص : 358

..........

______________________________
بكير، و الأول و الثاني لا يمكن التمسك بهما لإثبات طهارة غير الخمر و النبيذ بعد البناء على نجاستهما كما هو واضح، و الثالث لا يمكن التفكيك فيه عرفا بين النبيذ و غيره لصراحته في عدم الفرق.

الجهة الثالثة: في المسكر المائع غير المتعارف شربه خارجا،

و هذا عنوان ذكره السيد الأستاذ لتطهير (الاسبرتو). و قد يستفاد من كلماته عدة نكات في مقام إثبات طهارته:

الاولى: ان الحكم بالنجاسة ينشأ من صحيحة علي بن مهزيار، و هي غير مشتملة على محل الكلام لاختصاصها بالخمر و النبيذ.

الثانية: دعوى الانصراف في المطلقات الى المتعارف.

الثالثة: لو سلم عدم الانصراف يقع التعارض بين أخبار الطهارة و أخبار النجاسة، و لا موجب لترجيح أخبار النجاسة بلحاظ موافقة أخبار الطهارة لعمل العامة كما كان يقال في الخمر، لأن المسكرات غير المعتاد شربها لم تكن موجودة وقتئذ ليعرف موقف العامة منها.

و التحقيق: انا إذا بنينا على طهارة غير الخمر من المسكرات قلنا بالطهارة في المقام أيضا و الا كان مقتضى إطلاق عنوان المسكر في مثل موثقة عمار النجاسة في محل الكلام، و لا تفيد النكات المذكورة.

اما الأولى، فلأن ما يكون دليلا على طهارة غير المعتاد من المسكر نفس الروايات الواردة في طهارة الخمر و النبيذ بلحاظ إطلاقها فاذا استفدنا من صحيحة ابن مهزيار أنها في مقام إسقاط هذه الروايات عن الحجية بوجه و إثبات الحجية لأخبار النجاسة فلا يمكن التمسك بإطلاق روايات الطهارة حينئذ، إذ لا معنى لدعوى بقائها على الحجية أو الجدية بلحاظ فرد نادر و هو المسكر غير المتعارف فقط، مع سقوطها عن الحجية أو الجدية في جل مدلولها. نعم لو كان هناك خبر وارد في خصوص ذلك‌


358
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الجهة الثالثة: في المسكر المائع غير المتعارف شربه خارجا، ؛ ج‌3، ص : 358

..........

______________________________
الفرد النادر لم يكن موجب لإسقاطه عن الحجية أو الجدية.

و أما الثانية: فلأن انصراف المسكر الى ما هو المتعارف شربه إن كان بلحاظ ان القسم الآخر نادر و لا وجود له عادة في عصر صدور النصوص، فيرد عليه: ان مجرد ندرة الوجود في عصر صدور النص لا توجب الانصراف ما دامت نسبة انطباق جامع المسكر بما هو مفهوم على الفرد النادر و غيره بنحو واحد. و ان كان بلحاظ ان مناسبات الحكم و الموضوع عرفا تقتضي اختصاص الموضوع بما يكون معدا للشرب، ففيه:

انا لا نسلم وجود مثل هذه المناسبات في الارتكاز العرفي، لأن العرف لا يأبى بارتكازه عن كون الإسكار بنفسه نكتة للنجاسة سواء تعارف الشرب أولا، و معه لا موجب لتقييد الإطلاق.

و أما الثالثة: فيرد عليها أولا: أنه لو كانت طهارة المسكر غير المعتاد مفاد رواية خاصة مبتلاة بالمعارض لأمكن أن يدعى انه لا موجب لترجيح معارضها عليها، إذ لم يثبت موافقتها للعامة، و لكن الواقع ان دليل طهارة مطلق المسكر دليل واحد و كذلك دليل نجاسته، و بعد التعارض بينهما و اعمال المرجح العلاجي في إسقاط دليل الطهارة لموافقته لعمل العامة بحسب الفرض في جل مدلوله و هو المسكر المتعارف و تقديم دليل النجاسة عليه لا معنى للاحتفاظ لدليل الطهارة بالحجية على نحو التكافؤ مع معارضته بلحاظ الفرد النادر خاصة و هو المسكر غير المتعارف، لأن السند واحد و المفروض سقوطه بأعمال المرجح العلاجي.

و ثانيا: انا لو افترضنا ان المسكر غير المتعارف بنفسه مورد لروايتين متعارضتين، فكيف يتصور أن التقية تقتضي الإفتاء بطهارة الخمر و لا تقتضي الإفتاء بطهارة سائر المسكرات؟! إذ من الواضح ان الإفتاء بنجاسة أي مسكر إفتاء بنجاسة الخمر، لعدم احتمال أسوئية غير الخمر، و عليه فنفس‌


359
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الجهة الثالثة: في المسكر المائع غير المتعارف شربه خارجا، ؛ ج‌3، ص : 358

..........

______________________________
النكتة التي يفترض اقتضاؤها لحمل نصوص نفي النجاسة عن الخمر على التقية تقتضي أيضا حمل نصوص نفي النجاسة عن غيره من المسكرات على التقية أيضا.

ثم ان السيد الأستاذ فرع على طهارة المسكر غير المتعارف الحكم بطهارة (الاسبرتو) المتخذ من الأخشاب، أو المتخذ من الخمر المعبر عنه بجوهر الخمر المتحصل بتبخير الخمر و أخذ عرقها، لأنه من المسكر غير المتعارف شربه و لا يصدق عليه عنوان الخمر. أما ما كان منه متخذا من الأخشاب فعدم خمريته واضح، و اما ما أخذ من الخمر بالتبخير فلأن التبخير يوجب الاستحالة كما في تبخير البول و غيره.

و الصحيح: ان ما يتخذ من الأخشاب ليس مسكرا، بل هو سم قاتل. و توضيح ذلك: ان مادة المسكر و هي الكحول من مشتقات الفحوم الهيدروجينية التي هي من مشتقات الكيمياء العضوية، و يراد بالكيمياء العضوية: العلم الذي يبحث في تركيبات الفحم و الهيدروجين و الأوكسجين و أحد المركبات التي اكتشفت في هذا العلم مركب من الفحم و الهيدروجين و تسمى بمركبات الفحم الهيدروجينية و يكثر وجودها في البترول و غيره و هي سم قاتل. إلا أنه يمكن إجراء تعديل كيمياوي عليها بأن تستبدل ذرة من الهيدروجين منها بمركب كيمياوي يشتمل على الهيدروجين و الأوكسجين بنسبة تختلف عن نسبتها في الماء، و بذلك تتحول إلى مادة أخرى تسمى بالكحول فاذا استبدلت منه ذرة واحدة يسمى بالكحول الآحادي، و إذا استبدلت ذرتان يسمى بالكحول الثنائي و هكذا. و أخذ هذه الذرات منه يخفف سميته أو يزيلها. فالكحول الثنائي و ما بعده ليس فيه سم و تظهر فيه حلاوة كحلاوة السكر، و ليس فيه إسكار أصلا. و الكحول الآحادي خفيف السمية و هو الذي ينشأ منه الإسكار و يشتمل على الفحم، و كلما‌


360
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الجهة الثالثة: في المسكر المائع غير المتعارف شربه خارجا، ؛ ج‌3، ص : 358

..........

______________________________
ازداد الفحم فيه ازدادت سميته. و كما أن زيادة الفحم عامل موجب لزيادة السمية كذلك قلة الفحم توجب زيادة السمية أيضا، باعتبار أنها توجب سيولته الشديدة المساعدة على انتشاره في الجسم و تسميمه له، و هذا يعني أن ما يشتمل على فحم أكثر في حد ما سم، و ما يشتمل على فحم أقل من حد ما سم أيضا، و المرتبة الوسطى تكون مرتبة ضعيفة من السمية غير قاتلة و هي الإسكار. و الكحول في هذه الحالة الوسطى لا تقتل بما هي سم و إنما يحدث الموت عند الإفراط في استعمالها باعتبار أنها تسد منافذ الدماغ فتمنعه عن أخذ بقية الموارد الضرورية للحياة فيتوقف الدماغ و يموت الإنسان، حيث أن مادة الكحول بتمام مراتبها تتجه نحو الدماغ فاذا ما نزلت إلى المعدة شقت طريقها مباشرة إلى الدماغ، و بذلك تختلف عن سائر المخدرات الأخرى كالأفيون و البنج التي تجري في المجاري الطبيعية في المعدة و تنتشر في تمام الجسم.

ثم إن مادة الكحول تارة: لا تخلط بمائع آخر و هي التي يطلق عليها اسم الكحول كيميائيا، و أخرى: تخلط بمائع آخر يخففه و هو الاسبرتو و هذا على قسمين: كامل و هو ما كانت نسبة الكحول فيه تقارب ثلاثة أرباع، و ناقص و هو ما كانت نسبة الكحول فيه حوالي النصف و هو المتعارف المستعمل طبيا، و هذا لا يقتل و ليس سما، و إنما اعتاد المحضرون لهذه المادة على أن يضيفوا اليه مادة خارجية سامة لأجل صيانته من الاستثمار في مجال اللهو، و ضمان استعماله في الأغراض الطبية و الصحية.

و على هذا الضوء نقول: ان الاسبرتو المتخذ من الأخشاب ليس هو المتعارف في المجال الطبي، و إنما يستعمل عادة لتحليل بعض المواد و العناصر و هو سم محض، لان عنصر الفحم فيه أقل من الحد الذي يكوّن نسبة الفحم في المسكر، و قد يسمى في لغة العلم بالكحول الميترية. و هذا يعني‌


361
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الجهة الثالثة: في المسكر المائع غير المتعارف شربه خارجا، ؛ ج‌3، ص : 358

..........

______________________________
انه ليس مسكرا ليكون الحكم بطهارته استثناء من حرمة المسكرات، لأن الإسكار ليس الا تلك المرتبة الضعيفة من السمية التي تحصل في الكحول الآحادية عند توازن معين بين السيولة و مقدار الفحم، فاذا زادت السمية و أصبحت قاتلة نتيجة اختلال هذا التوازن لم تكن المادة من المسكر بشي‌ء بل من السموم.

و اما الاسبرتو المتخذ من الخمر فهو أيضا ليس الاسبرتو المتعارف طبيا، فان المتعارف لا يتخذ من الخمر، و انما تتخذ من الخمر الطبيعي الخمور المركزة التي يعتادها أهل الفسوق و الفجور، و التي يؤدي التركيز الى كون نسبة الكحول فيها أكبر. فهي الثلث أحيانا و النصف أحيانا أخرى و بالتقطير يتناقص باستمرار المائع المختلط بالكحول و تكبر نسبة الكحول و لا يؤدي ذلك الى الاستحالة و خروجه عن كونه خمرا بل هو خمر مركز و أقسام الخمور التي استحدثها الشيطان الأوربي الحديث كلها من هذا القبيل و قياس ذلك على تبخير البول حيث يستحيل المائع الحاصل بتبخيره و يخرج عن كونه بولا قياس مع الفارق، لأن التبخير يوجب تصاعد الأجزاء المائية من البول و انفصالها عن بقية الاجزاء و معه لا يصدق عنوان البول على تلك الأجزاء المائية المنفصلة، و اما تبخير الخمر فهو لا يوجب تجريد المائع عن مادة الكحول بل جعل نسبة هذه المادة فيه أكبر، و من الواضح ان خمرية الخمر عرفا بهذه المادة.

و اما ما هو المتعارف في المجال الطبي خارجا فلا يؤخذ من الخمر بل من مواد أخرى، و لا شك في كونه مسكرا، و في أن سميته أحيانا ليست الا بسبب اضافة بعض السموم اليه، و ان عدم تعارف شربه عند الفساق نشأ من ذلك. و طهارته مبنية على دعوى: اختصاص النجاسة بالخمر أي المسكر المتخذ من العصير العنبي. و قد اتضح حتى الآن ان أدلة النجاسة‌


362
بحوث في شرح العروة الوثقى3

المقام الثاني: في إلحاق المسكرات عموما بالخمر إلحاقا موضوعيا، ؛ ج‌3، ص : 363

 

..........

______________________________
في المقام لا تكون حجة إلا في إثبات نجاسة الخمر خاصة، و بذلك نصل الى الحديث عن الإلحاق الموضوعي.

المقام الثاني: في إلحاق المسكرات عموما بالخمر إلحاقا موضوعيا،

لكي يكفي نفس دليل نجاسة الخمر للحكم بنجاستها.

و الإلحاق الموضوعي تارة: يكون إلحاقا لغويا و أخرى: إلحاقا تعبديا بدليل حاكم شرعي، فهنا بحثان:

البحث الأول: في الإلحاق اللغوي،

و توضيحه: انه لا إشكال في كون المسكر المتخذ من العصير العنبي خمرا، كما لا شك في أن الخمر يطلق تارة عليه و أخرى على طبيعي المسكر المائع. و هذا الأخير اما أن يكون معنى مجازيا للمشابهة، و إما أن يكون بنحو الاشتراك اللفظي بين الخاص و العام، و اما أن يكون هو المعنى الحقيقي الوحيد و يكون المسكر العنبي موردا للاستعمال بلحاظ كونه فردا منه. فعلى الثالث تثبت نجاسة المسكرات المائعة بنفس دليل نجاسة الخمر، و بذلك يختل بعض ما تقدم من افتراضات كافتراض كون رواية عبد اللّه بن بكير مثلا دالة على طهارة الخمر بالإطلاق و نحو ذلك. و اما على الأولين فلا يمكن إثبات نجاسة مطلق المسكر بدليل نجاسة الخمر، اما على الأول فواضح، و اما على الثاني فلأن حمل المشترك اللفظي على أعم معنييه يحتاج إلى قرينة.

و الظاهر ان الاحتمال الثالث ساقط، إذ مضافا الى تنصيص بعض اللغويين على اختصاص الخمر بالمسكر العنبي، و مساعدة الفهم العرفي على ذلك، توجد عدة طرائف من الروايات تؤيد الثنائية بين الخمر و المسكرات غير المتخذة من العصير العنبي، لعلها تبلغ بمجموعها حد الاستفاضة و التواتر، و هي كما يلي:

أولا: روايات النجاسة التي عطف فيها المسكر أو النبيذ على الخمر‌

 

 

 

363
بحوث في شرح العروة الوثقى3

البحث الأول: في الإلحاق اللغوي، ؛ ج‌3، ص : 363

..........

______________________________
كقوله في موثقة عمار: «لا تصل في ثوب قد أصابه خمر أو مسكر» و رواية علي بن مهزيار: «إذا أصاب ثوبك خمر أو نبيذ يعني المسكر فاغسله»، فجعل النبيذ أو المسكر قسيما للخمر شاهد على اختصاص كلمة الخمر بالمسكر العنبي.

ثانيا: ما ورد في المقارنة من حيث الحرمة بين الخمر و النبيذ، فعن محمد بن عبدة النيسابوري قال: «قلت لأبي عبد اللّه (ع): القدح من النبيذ و القدح من الخمر سواء؟ قال: نعم سواء. قلت: الحد فيهما سواء؟ قال: سواء» «1».

ثالثا: ما دل على: ان الخمر لم تحرم لاسمها و لكنها حرمت لعاقبتها فما فعل فعل الخمر فهو خمر «2» فان هذا يدل على أن الخمر اسما لكل مسكر و الا لم تكن هناك حاجة في تعميم الحرمة إلى القول بأن الحرمة تدور مدار العاقبة لا الاسم.

رابعا: ما دل من الأخبار و فيها الصحاح على: أن اللّه تعالى حرم في كتابه الخمر، و رسول اللّه (ص) حرم غير الخمر من المسكرات و اللّه أمضى ذلك «3».

و هذا الذي استقربناه من اختصاص الخمر بالمسكر العنبي لغة يطابق نكتة واقعية أيضا، و هي: أن الكحول- التي هي مادة الإسكار- الأصل فيها هو سكر العنب، و حينما يراد اتخاذ المسكر من غير العنب يتعين تحويل سكره الى سكر عنبى، ثم يحول الى الخمر. و لعل هذا الاكتشاف يبرز السر في أن العنب خصص من بين سائر المواد التي يصنع المسكر منها‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 24 من أبواب الأشربة المحرمة

(2) وسائل الشيعة باب 19 من أبواب الأشربة المحرمة

(3) وسائل الشيعة باب 15 من أبواب الأشربة المحرمة


364
بحوث في شرح العروة الوثقى3

البحث الثاني: في الإلحاق بدليل حاكم. ؛ ج‌3، ص : 365

..........

______________________________
بالروايات الدالة على: أن حصة من العنب للشيطان.

البحث الثاني: في الإلحاق بدليل حاكم.

و هذا ما قد يستشهد له بعدة روايات، من قبيل صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «قال: قال رسول اللّه (ص): الخمر من خمسة: العصير من الكرم و النقيع من الزبيب، و البتع من العسل، و المرز من الشعير، و النبيذ من التمر» «1».

و التحقيق: أن هذه الرواية و أمثالها كما قد تحمل على عناية الحكومة و توسعة الموضوع ادعاء بافتراض استعمال كلمة الخمر في معناه الخاص و تطبيقه بالعناية على غير أفراده، كذلك يمكن أن يكون التطبيق حقيقيا بافتراض استعمال كلمة الخمر في المعنى الأعم و هو طبيعي المسكر، و تكون العناية في استعمال الكلمة لا في التطبيق. و لان تم الاستدلال عن النجاسة بالرواية على التقدير الأول- تمسكا بإطلاق دليل التنزيل مثلا- فلا يتم على التقدير كما هو واضح. و التقدير الثاني إن لم يكن هو الأظهر إذ جعل المسكر العنبي في مقابل سائر أنواع المسكر و هو لا يناسب ادعاء كونها منه، فلا أقل من عدم أظهرية التقدير الأول: و دعوى: أن التقدير الثاني يقتضي تفريغ الجملة من المولوية و هو خلاف الظاهر، مدفوعة:

بأن الإسكار لما كان ذا مراتب، و كانت بعض مراتبه الخفية محل الكلام في استتباعها للحرمة كان من شأن الامام أن ينبه على أن المسكر المحرم يشمل تمام تلك المراتب.

و قد يقال: انه لو دل دليل على أن المسكر خمر استبعد فيه التقدير الثاني، إذ لو أريد بالخمر المعنى الأعم لكان مرجعه الى أن المسكر مسكر و هو لا محصل له، فيتعين حينئذ حمله على التنزيل و تطبيق المعنى الأخص‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة الباب 1 من أبواب الأشربة المحرمة


365
بحوث في شرح العروة الوثقى3

البحث الثاني: في الإلحاق بدليل حاكم. ؛ ج‌3، ص : 365

و إن صار جامدا بالعرض (1).

______________________________
للخمر على طبيعي المسكر بالحكومة، فيستدل بإطلاقه على إثبات النجاسة و لكن هذا الاستدلال غير تام أيضا.

أما أولا: فلأن كلمة الخمر حتى مع استعمالها في المعنى الأعم تحمل ضمنا على الإشارة إلى الحرمة المعهودة المرتكز ثبوتها للمسكر في الجملة، فيكون مفاد «كل مسكر خمر»: الإشارة الى أن ما هو المسكر الحرام ينطبق على كل مسكر، و لا يتعين عندئذ الحمل على الحكومة و التنزيل.

و أما ثانيا: فلأن مثل هذا اللسان لم يرو في رواية صحية، إلا في رواية علي بن يقطين عن أبي الحسن الماضي (ع) «قال: إن اللّه عز و جل لم يحرم الخمر لاسمها، و لكن حرمها لعاقبتها فما كان عاقتبه عاقبة الخمر فهو خمر» «1»، و حيث ان التنزيل هنا فرع على الحرمة، فلا إطلاق فيه يقتضي ثبوت غير الحرمة من الآثار.

و قد تلخص من مجموع ما ذكرناه: أن الصحيح هو التفصيل بين الخمر و غيره من المسكرات، فالأول يحكم بنجاسته إضافة الى حرمته، و الثاني يحكم عليه بالحرمة فقط دون النجاسة.

(1) قد يقال في مقام تقريب نجاسته بعد الانجماد: و أنه كان نجسا و لم يطرأ عليه مطهر «2». غير أن منهج البحث في المقام باعتباره شبهة حكمية يقتضي الفحص عن أن دليل نجاسة الخمر هل يمكنه أن يشمله بعد الانجماد اما بإطلاق أو بضم الاستصحاب أولا؟، فإن تعذر ذلك كان الأصل عدم النجاسة الذاتية، و لا يلزم في ارتفاع النجاسة الذاتية ورود المطهر بل يكفي في ارتفاعها ارتفاع موضوعها بنحو لا يجري الاستصحاب‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة- الباب- 19 من أبواب الأشربة المحرمة.

(2) التنقيح ج 2 ص 101.


366
بحوث في شرح العروة الوثقى3

البحث الثاني: في الإلحاق بدليل حاكم. ؛ ج‌3، ص : 365

لا الجامد كالبنج (1) و إن صار مائعا بالعرض.

______________________________
و لا إشكال في عدم إمكان التمسك بإطلاق دليل نجاسة الخمر لعدم خمرية العين المنجمدة، و أما استصحاب النجاسة العينية فلا بأس بجريانه بناءا على عدم كون الخمر مقوما لموضوع النجاسة عرفا، و كون الموضوع العرفي ذات الجسم المحفوظ في حالتي الميعان و الانجماد، هذا كله بقطع النظر عما يستفاد من روايات انقلاب الخمر خلا، من كفاية ذهاب اسم الخمر في ارتفاع المحذور، فان ذلك يدل على مطهرية ذهاب اسم الخمر مطلقا و لو لم يصدق عنوان الخل. فان قيل: بأن انجماد الخمر يؤدي الى خروجه عن كونه خمرا و لو لزوال مادة الكحول لسرعة فنائها و كون المنجمد خصوص العنصر المائي منه، حكم بطهارته. و قد يأتي لهذا الكلام مزيد تتميم في بحث المطهرات‌

(1) الكلام تارة: يقع في الصغرى أي في مسكرية الجامد، و أخرى في نجاسة الجامد على تقدير مسكريته، اما الصغرى: فالظاهر ان البنج و نحوه من المخدرات ليس من المسكرات بحسب الفهم العلمي و العرفي معا اما الفهم العلمي: فهو يرى تقوّم المسكر بمادة الكحول التي من خصائصها اختراق المعدة و الاتجاه رأسا إلى الدماغ، بينما كل المخدرات- عدا الحشيشة- لا تنتشر في الجسم الا بالطريق الطبيعي، و لهذا يتصور البنج الموضعي دون المسكر الموضعي و أما الفهم العرفي: فهو يفرق بين الإسكار و التخدير كما يفرق بين الحار و البارد فليس كل حالة تقابل الصحو سكرا عرفا، بل إن ما يقابل الصحو إن كان حالة تقتضي غالبا التهيج فهي السكر، و إن كانت تقتضي عادة الانكماش فهي الحذر. و على هذا الأساس لا تكون المخدرات غير الحشيشة محرمة بعنوانها الأولي، و إنما هي محرمة بعنوان كونها مضرة و الفرق العملي بين الحرمتين يظهر في الاستعمالات الضئيلة التي لا يترتب عليها ضرر، فإنها‌


367
بحوث في شرح العروة الوثقى3

البحث الثاني: في الإلحاق بدليل حاكم. ؛ ج‌3، ص : 365

..........

______________________________
ليست بمحرمة على هذا التقدير بينما تكون محرمة على تقدير كون المخدر مسكرا و اما نجاسة المسكر الجامد فهي على مسلكنا بلا موجب، لأننا اخترنا اختصاص النجاسة بالخمر، و لا شك في عدم صدقه على المسكر الجامد.

و اما إذا بني على تعميم النجاسة، فإن كان بلحاظ الإجماع فلا شك في عدم شموله للمسكر الجامد.

و إن كان بلحاظ تطبيق عنوان الخمر على سائر المسكرات في رواية «الخمر من خمسة» فقد يقال بشموله للمسكر الجامد أيضا. و دعوى:

عدم المناسبة بين المسكر الجامد و الخمر لكي يطبق أحدهما على الآخر، مدفوعة:

بأنه يكفي للمناسبة اشتراكهما في الإسكار. و لكن للمنع عن الشمول وجها و ذلك لأن أبرز آثار الخمر حرمة الشرب، فيكون تطبيق الخمر على المسكر تنزيلا ظاهرا في إثبات حرمة الشرب للمسكر، و هذا بنفسه قرينة على اختصاص المنزل بالمسكر المائع خاصة لأنه الذي يتعقل شربه، و لا يمكن التحفظ على إطلاق المنزل للجامد إلا بجعل الأثر الثابت بالتنزيل حرمة التناول بدلا عن حرمة الشرب ليناسب المائع و الجامد معا، مع أن المركوز من أحكام الخمر حرمة الشرب بهذا العنوان.

و إن كان بلحاظ تقديم روايات النجاسة على أخبار الطهارة، لسقوط الأخيرة عن الحجية عند المعارضة بسبب حكومة الصحيحة أو موافقتها للعامة، فقد يدعى: أن جملة من نصوص النجاسة و إن كانت مختصة بالمائع لاشتمالها على التعبير بالقطرة و نحو ذلك و لكن موثقة عمار: «لا تصل في ثوب قد أصابه خمر أو مسكر حتى تغسله»، يمكن التمسك بإطلاق‌


368
بحوث في شرح العروة الوثقى3

في حرمة العصير العنبي ؛ ج‌3، ص : 369

 

[في حرمة العصير العنبي]

(مسألة): الحق المشهور بالخمر العصير العنبي إذا غلى قبل أن يذهب ثلثاه و هو الأحوط و إن كان الأقوى طهارته نعم لا إشكال في حرمته (1).

______________________________
المسكر فيها للجامد أيضا. اللهم الا ان يقال: ان المنصرف من إناطة النهي بمجرد اصابة المسكر للثوب انه مفروض الميعان، لأن الجامد لا تكون اصابته للثوب بمجردها موجبة للنجاسة.

(1) الكلام في العصير المطلق المغلي تارة يقع في حرمته، و اخرى في نجاسته. فهنا مقامان:

اما المقام الأول فيشتمل على ثلاث جهات

، باعتبار انقسام العصير المحتمل حرمته إلى العنبي، و الزبيبي، و التمري.

الجهة الاولى: في حرمة العصير العنبي بالغليان.

و لا إشكال في أنه إذا لم يحصل في عصير العنب إسكار و لا غليان فلا يحرم عند كل المسلمين. كما لا اشكال عند فقهاء الشيعة في الحرمة إذا حصل فيه الإسكار سواء حصل في العنب غير المطبوخ أو بعد الطبخ، لأن المسكر من غير المطبوخ خمر بلا اشكال، و الخمر محرم بالكتاب و السنة، و المسكر من المطبوخ اما خمر فيحرم كذلك و اما لا يكون خمرا لفرض أخذ عدم الطبخ السابق في مفهوم الخمر فهو مسكر على أي حال، و كل ما أسكر كثيره فقليله حرام.

و اما في الفقه السني فلا إشكال في خمرية المسكر من غير المطبوخ و حرمته مطلقا. و اما المطبوخ إذا أصبح مسكرا فقد وقع الخلاف في خمريته، و نقل عن أبي حنيفة عدم كونه خمرا بدعوى: تقوم الخمر بعدم الطبخ السابق، و من هنا ذهب البعض من فقهاء السنة إلى جواز القليل منه لأنه غير مسكر، على أساس عدم قبولهم لقاعدة ان ما أسكر كثيره فقليله حرام.

و اما إذا غلى العصير العنبي و لم يسكر فالمستفاد من كلمات فقهائنا:

 

 

 

369
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الاحتمال الأول: عدم كونها مخصصا جديدا لأدلة الحل، ؛ ج‌3، ص : 370

..........

______________________________
جعل العصير العنبي المغلي بعنوانه من المائعات المحرمة إلى جانب الخمر و الفقاع و المسكر، كما يظهر بمراجعة كلمات المتقدمين و المتأخرين التي أطلق فيها القول بحرمة العصير العنبي المغلي، سوى ما قد يبدو من بعض عبائر الشهيد في الدروس، و العلامة في الإرشاد و المختلف. فان الشهيد (قدس سره) ذكر: ان العصير العنبي إذا غلى و اشتد حرم، و كذلك العلامة، و هذا ظاهره الخلاف مع المطلقين من الفقهاء كالصدوق و من بعده. اللهم إلا إذا فسر الاشتداد بالغلظة الحاصلة بمجرد الغليان لا على الشدة في الطعم و الريح و الفساد مما هو مساوق للإسكار، الا ان الحمل على تلك الغلظة خلاف ظاهر عطف الاشتداد على الغليان المقتضى للتغاير بينهما، على ان الغلظة بالنحو المفهوم عرفا انما تحصل بعد الغليان بمدة.

و تحقيق الحال في حرمة العصير العنبي: أنه بعد الفراغ عن وجود أدلة اجتهادية- فضلا عن الأصول العملية- تدل على حلية كل شراب و الفراغ عن وجود مخصص أخرج المسكر، يقع الكلام: في ان دليل حرمة العصير العنبي بالغليان هل هو مخصص ثان يوجب حرمته و ان لم يكن مسكرا أولا؟ و صفوة القول في ذلك: ان الروايات الدالة على حرمة العصير العنبي المغلي يحتمل فيها احتمالات:

الاحتمال الأول: عدم كونها مخصصا جديدا لأدلة الحل،

بدعوى:

ان العصير العنبي المغلي مسكر مطلقا، سواء كان غليانه بنفسه على أساس حرارة الشمس أو بالنار. و لم نلاحظ من ادعى هذه الدعوى الى أيام الوحيد البهبهاني، فقد ادعى (قدس سره): مساوقة مطلق الغليان للإسكار، و وافقه على ذلك تلميذه السيد بحر العلوم (قدس سره). و قد نفى مشهور المتأخرين هذه الدعوى، و ذكر المحقق الهمداني و السيد الأستاذ أنه لو كان مجرد الغليان موجبا للإسكار لكان تحصيل المسكر في غاية‌


370
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الاحتمال الأول: عدم كونها مخصصا جديدا لأدلة الحل، ؛ ج‌3، ص : 370

..........

______________________________
السهولة، فلما ذا نرى الفسقة العاشقين للخمر يبذلون الكثير في سبيل تحصيل الخمر؟!. و ذكر بعض الأصحاب: اننا لا ندري هل مجرد الغليان يوجب السكر أولا؟، و لا يمكننا معرفة ذلك لتعذر التجربة علينا، و لا موجب لتحقيق الواقع، لأن الشبهة موضوعية و ليس من وظيفة الفقيه حلها، و بغض النظر عن الأخبار الخاصة تجري الأصول المؤمنة.

و الحقيقة: أن التعرف على ذلك له دخل في فهم روايات العصير العنبي، و معرفة كونها مسوقة لتخصيص مستقل أولا، كما أن ما يلاحظ من بذل الفسقة للكثير في سبيل إعداد شرابهم الفاجر فلعله لأجل الحصول على الخمر الجيد، فإنه كلما كان أعتق كان أجود و أكثر إسكارا، و قد قيل:

كلما زاد بالترك جودة فهو مسكر.

و فصل بعض فقهائنا المتأخرين- كشيخ الشريعة الأصفهاني (قده)-:

بين الغليان بالنار فلا يسكر، و الغليان بنفسه فيسكر، و استظهر من كلمات جملة من الفقهاء المتقدمين أن هذا كان مسلما عندهم. و هذا التفصيل هو الصحيح، و بذلك يبطل الاحتمال المذكور النافي لاستفادة التخصيص الزائد بدعوى أن كل عصير عنبي مغلي مسكر. و يشهد لهذا التفصيل عدة قرائن:

القرينة الأولى: ما يشهد به الخبراء في تجاربهم العلمية، من أن الكحول الذي هو مادة الإسكار لا يسمح الغليان بالنار لظهوره، و إنما يظهر من خلال تصاعد تدريجي بطي‌ء لدرجة الحرارة، كما يحصل في العصير الذي ينش من قبل نفسه.

القرينة الثانية: أن غير فقهاء الإمامية من سائر المسلمين لا يوجد فيهم من يحرم العصير العنبي بالغليان بالنار، و هذا معناه أنهم يتناولونه عادة، فلو كان مسكرا مع شيوع استعماله عندهم لانعكس و أصبح واضحا القرينة الثالثة: و هي مستفادة من روايات أهل البيت عليهم السلام‌


371
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الاحتمال الأول: عدم كونها مخصصا جديدا لأدلة الحل، ؛ ج‌3، ص : 370

..........

______________________________
أفضل الصلاة و السلام، و تدل على نصف المدعي أي على أن الغليان من نفسه يوجب الإسكار. و جملة من الروايات و إن كانت واردة في العصير التمري و الزبيبي إلا أنه لا يحتمل الفرق في ذلك بينهما و بين العصير العنبي لأن الميزان كل عصير يحتوي على مادة سكرية تتحول الى كحول. و هذه الروايات لا تصرح بالمقصود و إلا لانقطع الكلام في ذلك، و إنما تدل على أمرين: أحدهما: أن حرمة العصير منوطة بالاسكار، و الآخر: ان العصير إذا غلى من نفسه حرم، و بضم أحدهما إلى الآخر يثبت المطلوب و بعض الروايات يمكن أن يستفاد منها كلا الأمرين، و بعضها يستفاد منها أحدهما فمنها: رواية حنان بن سدير قال: «سمعت رجلا يقول لأبي عبد اللّه عليه السلام: ما تقول في النبيذ، فإن أبا مريم يشربه و بزعم أنك أمرته بشربه فقال: صدق أبو مريم، سألني عن النبيذ فأخبرته أنه حلال و لم يسألني عن المسكر، ثم قال: إن المسكر ما اتقيت فيه أحدا سلطانا و لا غيره. الى أن قال: فقال: له الرجل هذا النبيذ الذي أذنت لأبي مريم في شربه أي شي‌ء هو؟ فقال: أما أبي فكان يأمر الخادم فيجي‌ء بقدح فيجعل فيه زبيبا، و يغسله غسلا نقيا، و يجعله في إناء، ثم يصب عليه ثلاثة مثله أو أربعة ماء، ثم يجعله بالليل و يشربه بالنهار و يجعله بالغداة و يشربه بالعشي، و كان يأمر الخادم بغسل الإناء كل ثلاث أيام لئلا يغتلم فان كنتم تريدون النبيذ فهذا النبيذ»
«1». فان صدر الحديث يدل على أن الميزان في الحرمة هو السكر، و أن ما يترتب المنع منه على تقدير السؤال عنه إنما هو المسكر و ذيله يدل على أن الحلية في النبيذ منوطة بقصر المدة و هذا يعنى أنه مع مرور عدة أيام ينشأ محذور الإسكار بسبب غليانه في نفسه و منها: رواية صفوان الجمال قال: «كنت مبتلى بالنبيذ معجبا به‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 22 من أبواب الأشربة المحرمة.


372
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الاحتمال الأول: عدم كونها مخصصا جديدا لأدلة الحل، ؛ ج‌3، ص : 370

..........

______________________________
فقلت لأبي عبد اللّه (ع): أصف لك النبيذ. فقال: بل أنا أصفه لك قال رسول اللّه (ص). كل مسكر حرام و ما أسكر كثيره فقليله حرام فقلت له: هذا نبيذ السقاية بفناء الكعبة. فقال: ليس هكذا كانت السقاية إنما السقاية زمزم، أ فتدري أول من غيرها؟ قلت: لا. قال:

العباس بن عبد المطلب كانت له حبلة، أ فتدري ما الحبلة؟ قلت: لا.

قال: الكرم، فكان ينقع الزبيب غدوة و يشربونه بالعشي و ينقعه بالعشي و يشربونه غدوة يريد به أن يكسر غلظ الماء على الناس، و أن هؤلاء قد تعدوا، فلا تقرنه و لا تشربه» «1».

و هذا الحديث واضح في أن مناط الحرمة هو الإسكار، إذ يلاحظ أن السائل حينما أراد أن يصف النبيذ للإمام في مقام السؤال عن حكمه لم يسمح له بالشرح، بل قال: بل أنا أصفه لك «كل مسكر حرام» كما دل على أن البقاء مدة أطول من مثل العشي الى الغدوة يعرض للحرمة، و لا وجه لذلك إلا ما بتعرض له العصير حينئذ من النشيش و الغليان.

و منها: رواية معاوية بن وهب قال: «قلت لأبي عبد اللّه (ع) إن رجلا من بنى عمي و هو من صلحاء مواليك يأمرني أن أسألك عن النبيذ و أصفه لك. فقال: أنا أصف لك: قال رسول اللّه (ص) كل مسكر حرام و ما أسكر كثيره فقليله حرام»- الحديث- «2» و يستفاد من جواب الامام و الضابط الذي استغنى بإعطائه عن الاستماع الى مواصفات النبيذ المسؤول عنه: ان المناط في الحرمة هو الإسكار فقط. فاذا ضم ذلك الى ما في سائر الروايات من وجود محذور فيما يدخر من نبيذ إذا مرت عليه أيام، أنتج أن العصير إذا نش بنفسه كان مسكرا. و يلاحظ في هذا المجال روايات: محمد بن مسلم، و إبراهيم بن أبي البلاد، و أيوب بن راشد، و يزيد ابن خليفة، و الفضيل بن يسار، في أبواب الأشربة المحرمة.

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 17 من أبواب الأشربة المحرمة.

(2) وسائل الشيعة باب 17 من أبواب الأشربة المحرمة.


373
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الاحتمال الثاني: عدم كونها مخصصا جديدا لأدلة الحل، ؛ ج‌3، ص : 374

الاحتمال الثاني: عدم كونها مخصصا جديدا لأدلة الحل،

______________________________
لا بدعوى:

إن كل عصير مغلي مسكر، بل بدعوى: أن الحرمة الواقعية للعصير العنبي المغلي بالنار المستفادة من روايات الباب مخصوصة بما عرض له الإسكار و ذلك إما بأن يقال: ان روايات الباب مفادها الحكم الظاهري بالحرمة لكون العصير العنبي المغلي بالنار عرضة للإسكار غالبا ببقاء أدنى مدة، فحكم بحرمته ظاهرا على الإطلاق لأجل شيوع احتمال الإسكار فيه مع اختصاص الحرام الواقعي بالمسكر. أو يقال: بأن مفادها الحكم الواقعي بالحرمة، إلا أنه يوجد ما يقيدها بخصوص فرض الإسكار.

و ما يمكن أن يفرض قرينة على تقييد روايات الباب بخصوص المسكر بأحد هذين النحوين أمور:

أحدها: رواية عمر بن يزيد قال: «قلت لأبي عبد اللّه (ع): الرجل يهدي اليه البختج من غير أصحابنا. فقال: إن كان ممن يستحل المسكر فلا تشربه، و إن كان ممن لا يستحل فاشربه» «1». و البختج: هو عصير عنبي مطبوخ، و الامام (ع) قد جعل استحلال صاحب الهدية للمسكر إثباتا و نفيا ميزانا لحرمة الشرب و حليته، و لو كان المغلي حراما في عرض حرمة المسكر لما كان هذا الميزان صحيحا، لأن عدم استحلاله للمسكر ليس قرينة على حلية هذا البختج، بل هو كعدم استحلاله لسائر المحرمات المتيقنة، و هذا بخلاف ما إذا كانت الحرمة المترتبة في البختج بنفس نكتة الإسكار، فان القرينة حينئذ واضحة و لكن هذه القرينة قابلة للمناقشة و ذلك بأن يقال: لعل جعل الميزان المذكور لا لدخل ذلك بنفسه بل لأماريته بلحاظ لازمه النوعي، فإن من لا يستحل المسكر عادته غالبا أن يطبخ العصير على الثلث حتى لا يكون معرضا للإسكار بالبقاء مدة فيخسره، و من‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 7 من أبواب الأشربة المحرمة


374
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الاحتمال الثاني: عدم كونها مخصصا جديدا لأدلة الحل، ؛ ج‌3، ص : 374

..........

______________________________
يستحل المسكر كثيرا ما يطبخه على ما هو أكثر من الثلث إذ لو طبخه على الثلث لما أمكن أن يسكر بعد ذلك بالادخار، فكأن الامام (ع) يجعل الميزان المذكور أمارة على أنه طبخ على الثلث.

ثانيها: رواية معاوية بن عمار قال: سألت أبا عبد اللّه (ع): عن الرجل من أهل المعرفة بالحق يأتيني بالبختج و يقول قد طبخ على الثلث و أنا أعرف أنه يشربه على النصف أ فأشربه بقوله و هو يشربه على النصف؟

فقال: (خمر) لا تشربه. الحديث «1». و سيأتي الكلام في هذه الرواية سندا و متنا و دلالة في بحث طهارة العصير إن شاء اللّه تعالى. و محل الشاهد فيها في المقام قوله: «خمر لا تشربه»، فإن الأمر يدور في هذه الجملة بين كون حمل عنوان الخمر على العصير المذكور ادعائيا و عنائيا بلحاظ الآثار، أو تقييد إطلاق الحديث بما هو الغالب في البختج المطبوخ على النصف من أنه يدخر و يشتد و يسكر بالتدريج، فاذا قلنا بأن الثاني أخف عناية من الأول كان ذلك شاهدا على اختصاص الحرمة بفرض الإسكار إلا أن هذا الكلام لا يتم بناءا على أخذ عدم سبق الطبخ في مفهوم الخمر و إلا كان الحمل عنائيا على أي حال. و كذلك بناءا على التشكيك في ورود كلمة: (خمر) في الحديث، على ما يأتي إن شاء اللّه تعالى.

ثالثها: الروايات الدالة على: أن اللّه حرم الخمر و رسول اللّه (ص) حرم من الأشربة كل مسكر، من قبيل رواية الفضيل بن يسار: «حرم اللّه الخمر بعينها، و حرم رسول اللّه (ص) المسكر من كل شراب» «2» بناءا على استفادة الحصر منها و كون الحرام من الأشربة المتعارفة هو المسكر فحسب، بدعوى: كونها في مقام بيان تمام ما حرم من الأشربة المتعارفة‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 7 من أبواب الأشربة المحرمة

(2) وسائل الشيعة باب 15 من أبواب الأشربة المحرمة.


375
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الاحتمال الثاني: عدم كونها مخصصا جديدا لأدلة الحل، ؛ ج‌3، ص : 374

..........

______________________________
فتدل بمفهومها على أن غير المسكر من الشراب حلال، فتعارض بالعموم من وجه مع روايات الباب الدالة بإطلاقها على حرمة العصير المغلي و لو لم يسكر، و بعد التساقط نرجع إلى أصالة الحل، فيثبت اختصاص الحرمة في العصير المغلي بالمسكر. إلا أنه لم يعلم بأن الرواية و نظائرها بصدد الحصر و بيان تمام المحرمات من الأشربة، بل هي في مقام توزيع العمل بين اللّه و رسوله من حيث التحريم في خصوص المسكرات. غير أن بالإمكان أن نعوض عن الاستدلال بهذه الروايات بالاستدلال بآية حلية الطيبات التي يقتضي إطلاقها المقامي حلية كل ما هو طيب في النظر النوعي. و باعتبار و رودها في سورة المائدة بصورة متأخرة عن تشريع حرمة الخمر و إشباع الأذهان بخباثته فلا تشمل المسكرات، غير أنها تشمل العصير المغلي غير المسكر، فتعارض بالعموم من وجه مع روايات الباب، و تقدم الآية في مادة الاجتماع. و لكن هذا إذا لم نستظهر تقديم روايات الباب بملاك دلالي على أساس دعوى ظهورها في موضوعية عنوان العصير المغلي للحرمة، و مع تقديم المعارض عليها و تقييدها بالمسكر من المغلي يلزم إلغاء العنوان رأسا رابعها: رواية محمد بن الهيثم عن رجل عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «سألته عن العصير يطبخ بالنار حتى يغلي من ساعته، أ يشربه به صاحبه؟ فقال: إذا تغير عن حاله و غلا فلا خير فيه حتى يذهب ثلثاه و يبقى ثلثه»
«1».

و هذه الرواية فيها احتمالات تأتي إن شاء اللّه في بحث محللية ذهاب الثلثين. و الشاهد هنا قوله: «إذا تغير عن حاله و غلا فلا خير فيه» فإنه لا ينبغي حمل تغير الحال على الغليان، إذ- مضافا إلى أن المتفاهم عرفا من الحال الطعم و الرائحة و نحوهما من الخواص- أن الطعن ظاهره‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 2 من أبواب الأشربة المحرمة


376
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الاحتمال الثالث: ان ننكر الإطلاق في روايات حرمة العصير العنبي المغلي في نفسه، بلا حاجة الى التفتيش عن مقيد. ؛ ج‌3، ص : 377

..........

______________________________
التغاير، و كثيرا ما يستعمل التغير في الاشتداد و الإسكار، و حيث ان تغير الحال له مراتب، و الغليان مساوق لمرتبته المستبطنة للإسكار، أنيطت الحرمة في العصير المطبوخ على النار بحصول التغير بدرجة يحصل معها الغليان و هو مساوق للإسكار، فتدل الرواية على عدم حرمة العصير المطبوخ بدون ذلك و لكن الرواية ساقطة سندا لإرسالها.

الاحتمال الثالث: ان ننكر الإطلاق في روايات حرمة العصير العنبي المغلي في نفسه، بلا حاجة الى التفتيش عن مقيد.

و هذا و ان كان يبدو غريبا في بادئ النظر، و لكن يمكن تقريبه بما يلي و هو:

ان الروايات التي حكمت بحرمة العصير العنبي المغلي طائفتان: إحداهما ما ورد في المطبوخ و البختج و الطلا. و الأخرى: ما ورد من الروايات التي لم يؤخذ في لسانها الطبخ، بل علقت الحرمة فيها على نفس العصير منوطا بالغليان. و هناك مسألتان كانتا مطروحتين للبحث على الصعيد الفقهي العام بين المسلمين، و حصل بشأنهما نقاش و أخذ ورد واسع من عصر الصحابة الى أيام الامام الصادق عليه السلام.

و المسألة الأولى تتعلق بالطلا، و ذلك ان العصير العنبي غير المطبوخ لا اشكال عند المسلمين في حرمته كثيرة و قليله إذا غلا و أسكر، و انما وقع الكلام بينهم في العصير العنبي المطبوخ على النار، و الأصل في ذلك قصة عمر بن الخطاب مع أهل الشام، إذ لا يظهر تعارف الطلا قبل هذه القصة حيث راجع أهل الشام عمر شاكين له فساد بطونهم لتعودهم على الأغذية الثقيلة و حرمة المسكر عليهم، فجاء نصراني و قال: إننا تعودنا على شراب نشربه في موسم الصوم ليقوينا على العبادة، فجاء بشرابه و هو عصير عنبي مطبوخ و كان غليظا كالرب، فوضع عمر إصبعه فيه فقال: لكأنه طلاء الإبل‌


377
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الاحتمال الثالث: ان ننكر الإطلاق في روايات حرمة العصير العنبي المغلي في نفسه، بلا حاجة الى التفتيش عن مقيد. ؛ ج‌3، ص : 377

..........

______________________________
(و هو النفط الذي يطلى به الإبل)، ثم التفت عمر الى عبادة بن الصامت الصحابي الجليل و كان جالسا الى جانبه فقال: ما ترى في هذا؟

فقال: انا لا أرى ان النار تحلل الخرام. فانزجر منه عمر و نسبه الى الحمق و أفتى بالحلية، فلما أباح لهم ذلك سكر بعض المسلمين، فأقام الحد عليه، و نهاهم عن التجاوز في الشرب الى حد الإسكار. و يبدو من هذه القصة ان عمر أراد تحليل الشرب من المسكر بالمقدار الذي لا يسكر إذا طبخ على النار ثم أسكر، و لذا قال له عبادة: انا لا أرى ان النار تحلل الحرام.

و قد بدأ النزاع منذ ذلك الوقت حول هذه النقطة، و امتد في عصور الصحابة و التابعين و الفقهاء فهناك من رأى رأي عمر، و هناك من اتفق مع عبادة في موقفه غير ان الطرفين معا كانا متسالمين على ان الطبخ بالنار بنفسه ليس من موجبات الحرمة، و انما الكلام بينهم في انه هل يوجب تعطيل الغليان الحاصل بعد الطبخ عن إيجاد الحرمة أولا؟

و كلمات الفقه السني مشحونة بتحرير النزاع على هذا الوجه و بالاختلاف بين المحللين في مقدار الطبخ الموجب لسلخ الغليان عن السببية للحرمة، فقد ذهب البعض: إلى ان الطبخ الموجب لذلك هو الطبخ المذهب للنصف و ذهب آخرون. إلى أنه الطبخ المذهب للثلثين، و بعض ثالث قال: بكفاية مطلق الطبخ، و اما اتباع عبادة بن الصامت فقالوا: ان الطبخ إلى ذهاب الثلثين يوجب التحليل لعدم الإسكار خارجا حينئذ.

فإذا عرفنا ان الاستفهام المركوز في الذهن العام من أيام عمر إلى أيام أصحاب المذاهب هو ان الطبخ بالنار هل يحلل ما كان حراما لو لا الطبخ أولا- لا أنه هل يكون محرما بنفسه أولا؟- كان من الطبيعي أن يوجه الى الامام هذا الاستفهام، و ان يتصدى عليه السلام لإبداء رأيه بهذا الشأن فقال ما قال من الروايات بشأن الطلا التي حاصلها: انه إذا زاد الطلا‌


378
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الاحتمال الثالث: ان ننكر الإطلاق في روايات حرمة العصير العنبي المغلي في نفسه، بلا حاجة الى التفتيش عن مقيد. ؛ ج‌3، ص : 377

..........

______________________________
على الثلث فهو حرام، و إذا طبخ على الثلث فهو حلال. فيكون معنى هذا الكلام في ضوء الارتكاز المذكور انه إذا لم يطبخ علي الثلث صار حراما بعد ذلك بالسكر. و هذا الارتكازان لم يوجب ظهور روايات الطلا في كونها تعقيبا على النزاع المعروف المركوز بنحو يناسبه، فلا أقل من اقتضائه للإجمال، بمعنى اننا نحتمل ان الارتكاز المعاصر كان بنحو يوجب ظهور روايات الطلا في ذلك عند السامع، و احتمال القرينة المتصلة موجب للإجمال.

و توجد عندنا مؤيدات لما احتملناه في معنى روايات الطلا:

منها: نفس استثناء ذهاب الثلثين، فان القيد المأخوذ في كلام المولى ان لم يكن له نكتة مركوزة في ذهن العرف حمل على التعبد، و ان كان له نكتة مركوزة عرفا انعقد له ظهور بملاك الانسباق العرفي للنكتة المركوزة في ان القيد بلحاظها. و ذهاب الثلثين من هذا القبيل، فان فيه نكتة مركوزة عرفا و هي إخراج المائع عن القابلية للإسكار، و كان العمل على ذلك خارجا، بمعنى ان من كان يتحاشى عن شرب المسكر في المطبوخ يطبخ العصير على الثلث، و من كان لا يتحاشى عن ذلك يطبخ العصير على النصف أو نحوه، فينصرف الكلام إلى ان الملحوظ في التحريم إثباتا و نفيا هو الإسكار، بعد فرض عدم عرفية افتراض حرمة واقعية للأعم من المسكر و غيره، بملاك احتياط المولى نفسه خوفا من ان يقع العبد في الاشتباه.

و منها: ما مضى من رواية معاوية بن عمار حيث قال فيها: «رجل من غير أهل المعرفة ممن لا نعرفه يشربه على الثلث و لا يستحله على النصف» و نحن لم نجد شخصا من المخالفين في حدود ما لاحظناه ابدى احتمال الحرمة في العصير العنبي المطبوخ على النار مع كونه مسكرا، و انما اختلفوا في‌


379
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الاحتمال الثالث: ان ننكر الإطلاق في روايات حرمة العصير العنبي المغلي في نفسه، بلا حاجة الى التفتيش عن مقيد. ؛ ج‌3، ص : 377

..........

______________________________
انه إذا طبخ ثم أسكر فهل قليله حلال أو حرام؟، فأكبر الظن ان هذا المخالف المشار إليه في الرواية كان ممن لا يستحل المسكر، لا انه لا يستحل المطبوخ على النصف بما هو، و مع ذلك عبر عنه بأنه لا يستحل المطبوخ على النصف و هي عبارة مشابهة جدا لعبارة: ان الطلا إذا زاد على الثلث فهو حرام. و هذا يؤيد أن أمثال هذه العبارات كان يراد بها الإشارة الى ما ذكرناه، من أن الطلا لا ترفع حرمته الاسكارية بمجرد الطبخ، لا فرض حرمة جديدة تحصل بنفس الطبخ على النار. و بهذا تسقط دلالة الطائفة الاولى من الروايات على حرمة مستقلة.

و المسألة الثانية هي: ان العصير العنبي الذي لا إشكال في حرمته إذا غلا و أسكر ما هو ميزان التحريم فيه؟ فهناك من يقول: ان الميزان هو الغليان. و أخر يقول: ان الميزان هو ان يغلي و يزيد. و ثالث يقول بالبقاء ثلاثة أيام. و رابع: يجعل الميزان البقاء عشرة أيام. و هذا نزاع تضمن جهات نظر و كلمات كثيرة من الصحابة و التابعين و الفقهاء.

و هذا يجعل من المحتمل قويا في الروايات الدالة على ان العصير العنبي إذا غلى و نش حرم، و التي لم يؤخذ فيها عنوان الطبخ بالنار، ان تكون ناظرة الى هذا المعنى، و مسوقة لبيان ان الميزان في التخمير و ثبوت حكم الخمر الغليان و النشيش دون سائر العناوين المذكورة في كلمات المتنازعين و ليست مسوقة لبيان حكم ما إذا غلى بالنار و لم يسكر. فمئلا في رواية جاء: «لا بأس بشرب العصير ستة أيام. و قال ابن أبي عمير: معناه ما لم يغل»، فهذا ردع عن كون الميزان عدد الأيام. و في رواية أخرى جاء: «إذا نش العصير أو غلى حرم»، فهذا ردع عن اشتراط الازباد مثلا. و الحاصل: فرق بين ان تساق مثل هذه القضية لإنشاء حرمة بها، و بين ان تساق لتحديد الميزان في حرمة مفروغ عنها. و ارتكازية‌


380
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الاحتمال الثالث: ان ننكر الإطلاق في روايات حرمة العصير العنبي المغلي في نفسه، بلا حاجة الى التفتيش عن مقيد. ؛ ج‌3، ص : 377

..........

______________________________
النزاع المذكور و شيوع الكلام فيه في عصر النصوص ان لم يوجب انصراف الروايات الى المعنى الثاني، فلا أقل من الاحتمال بنحو موجب للإجمال فيتعذر التمسك بالإطلاق.

و الإنصاف: أن المصير الى القول بحلية العصير المطبوخ ما لم يسكر في ضوء ما قلناه ليس مجازفة، لو لا دعوى الإجماع على الحرمة في كلام شخص كالمحقق قدس سره في المعتبر إذ تساءل: ان العصير العنبي المغلي هل يحكم بنجاسته مطلقا أو لا يحكم بذلك الا على تقدير الاشتداد؟، و ذكر ان فيه كلاما، و اما الحرمة مطلقا فعليها إجماع فقهائنا. و هذا واضح في نفي مطلق الخلاف في الحرمة، خصوصا إذا التفتنا الى ان القول بالنجاسة في الطبقات المنظورة للمحقق من الفقهاء محدود جدا، و مع ذلك فرض خلافا في ذلك، بينما ادعى الاتفاق في جانب الحرمة. فالعبارة ظاهرة في دعوى الإجماع بمعنى يقابل حتى الخلاف الجزئي المحدود.

و قد يناقش هذا الإجماع بوجوه: فأولا: هو إجماع منقول. و ثانيا مدركي جزما أو احتمالا لقوة افتراض الاستناد الى روايات المسألة. و ثالثا:

ان الشهيد في الدروس و العلامة في المختلف قد يبدو منهما المخالفة، و هذا يكشف عن عدم كون الإجماع الذي ذكره المحقق مفيدا لليقين بالنسبة إليهما فإذا لم يفدهما ذلك مع قرب عهدهما بمدعيه فكيف يفيدنا؟! و رابعا:

ان السيد المرتضى قدس سره في كتاب الانتصار المعد لنقل موارد الخلاف بين الشيعة و السنة لم يذكر العصير العنبي و ذكر الفقاع و غيره، مع ان أحدا من فقهاء السنة فيما لاحظنا لم يقل بحرمة العصير العنبي المغلي.

و هذه الموهنات تؤدى الى عدم الجزم بالحرمة الواقعية، و لكنها لا تسقط الإجماع المذكور عن الصلاحية للإلزام بالاحتياط. اما كونه إجماعا منقولا: فواضح ان الإجماع المنقول في بعض الموارد قد يوجب ثبوت‌


381
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الاحتمال الثالث: ان ننكر الإطلاق في روايات حرمة العصير العنبي المغلي في نفسه، بلا حاجة الى التفتيش عن مقيد. ؛ ج‌3، ص : 377

..........

______________________________
المطلب فيما إذا انضمت اليه خصوصيات و قرائن تعززه. فاذا كان الناقل مثل المحقق في سعة اطلاعه، مع وضوح عبارته، و قيام القرينة فيها على عدم المسامحة و غض النظر عن الخلافات الجزئية، و أضيف الى ذلك التتبع من الخارج. و عدم وجدان فقيه قبل المحقق يتراءى منه القول بالحلية و لا وجدان كلام يدل على نقل الخلاف، ففي ذلك كله ما يعزز الإجماع المنقول و اما احتمال المدركية: فاذا فرضنا ان الفقهاء قبل المحقق قد أجمعوا على فهم الحرمة المطلقة من روايات الباب، فهذا بنفسه شاهد قوي على ان سلفهم من أصحاب الأئمة عليهم السلام لم يكونوا قد فهموا من الأئمة عليهم السلام اناطة حرمة العصير المغلي بالاسكار، و الا لأصبحت الحلية بعد ذلك من الواضحات، لأن المسألة على ما ببدو من الروايات كانت واسعة الانتشار، و كانت الأنبذة و أقسام العصير محل ابتلاء العموم بدرجة كبيرة، و كل مسألة بهذه الدرجة من ابتلاء الناس بها و اهتمامهم بالتعرف على حكمها و شغفهم باستعمالها لو كان حكمها عدم الحرمة لكان مقتضى العادة انتشار ذلك و شيوعه، خصوصا مع مطابقته مع موقف العامة، و لو كان عدم الحرمة منتشرا و شائعا بين أصحاب الأئمة لكان ذلك بنفسه مفسرا لروايات الباب، و لما أمكن للفقهاء المتصلين بعصرهم ان يجمعوا على فهم الحرمة المطلقة من آثار الأئمة عليهم السلام.

و اما خلاف العلامة و الشهيد فغير واضح، لان عبارتهما كما تقدم و ان كانت قريبة من القول بإناطة الحرمة بالسكر، الا ان كون ذلك مخالفا للمشهور فقهيا على أقل تقدير يوجب على تقدير إرادتهما أن يصرحا بذلك القول و يركزا عليه تنبيها على خلافهما في المسألة للمشهور.

و اما عدم تعرض السيد المرتضى قدس سره للعصير العنبي في عداد موارد الخلاف بين الشيعة و السنة، فلعله لأجل ان السنة لم يكونوا يقبلون‌


382
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الاحتمال الرابع: هو الالتزام بان روايات الباب متكفلة لتخصيص زائد لعموم دليل الحل ؛ ج‌3، ص : 383

 

..........

______________________________
حرمة المسكر من المطبوخ رأسا، و انه كان يرى ان حلية العصير العنبي المغلي غير المسكر من فروع حلية المسكر من المطبوخ و عدم حرمة قليله فناقش الأصل دون الفرع.

الاحتمال الرابع: هو الالتزام بان روايات الباب متكفلة لتخصيص زائد لعموم دليل الحل

باقتضائها حرمة العصير العنبي المغلي و لو لم يكن مسكرا. و هذا هو المتعين و لو احتياطا، بلحاظ ما تقدم في مناقشة الاحتمالات الثلاثة السابقة.

و بعد افتراض الفراغ عن حرمة العصير العنبي المغلي مطلقا يقع الكلام في مسائل:

المسألة الاولى:

و هي ان الأصحاب بعد اتفاقهم على ارتفاع الحرمة عن المطبوخ على النار بذهاب الثلثين وقع الكلام بينهم في المغلي بنفسه بسبب حرارة الشمس، و انه إذا طبخ حتى ذهب ثلثاه هل يحل أولا؟

فذهب المشهور الى حليته بذلك، و ذهب شيخ الشريعة قدس سره- الى ان ذهاب الثلثين انما يحلل المغلي بالنار و اما المغلي بنفسه فلا يحل الا بالتخليل و نسب هذا القول الى بعض المتقدمين.

و لشيخ الشريعة- قدس سره- في إثبات مذهبه ثلاثة أساليب:

الأسلوب الأول: هو التمسك بمجموع روايات الباب، و بيان ذلك:

انها تنقسم إلى طائفتين: الأولى: ما دلت على حرمة العصير المغلي من دون ان تقيد الحرمة فيها بعدم ذهاب الثلثين. و الثانية: الروايات التي تقيد الحرمة بما قبل ذهاب الثلثين و هي روايات الطلا و البختج و الطائفة الثانية مختصة بالمغلى بالنار لان الطبخ بالنار هو المفروض في موضوعها و الطائفة الأولى مختصة بالمغلى بنفسه و ذلك لأنه و ان لم يذكر فيها هذا القيد للغليان و لكن عدم ذكر سبب الغليان يوجب الانصراف الى الغليان‌

 

 

 

383
بحوث في شرح العروة الوثقى3

المسألة الاولى: ؛ ج‌3، ص : 383

..........

______________________________
بنفسه، لأنه لو كان الغليان بسبب خارجي لكان ذلك مئونة زائدة تحتاج إلى القرينة. و عليه يلاحظ ان تمام الروايات التي وردت فيها الحرمة مطلقة جاءت في المغلي بنفسه، و تمام الروايات التي وردت فيها الحرمة مقيدة بعدم ذهاب الثلثين وردت في المغلي بالنار، و ليس هذا صدفة و انما هو للكشف عن مطلب واقعي و هو إطلاق حرمة المغلي بنفسه و تقييد حرمة المغلي بالنار بما قبل ذهاب الثلثين، و لا تعارض بين الطائفتين لاختلاف الموضوع فيهما فنأخذ بكل منهما في موضوعها.

و تحقيق الكلام في هاتين الطائفتين: هو ان المحتملات فيهما ستة فنذكر كل واحد منها لنرى انه هل هو في صالح القول الذي ذهب اليه شيخ الشريعة، أو في صالح القول المشهور؟، و نرى أن أيا من المحتملات هو الصحيح واحدة.

الاحتمال الأول: ما اختاره شيخ الشريعة من ان الطائفة الأولى مختصة بالمغلى بنفسه و الثانية مختصة بالمغلى بالنار. و الكلام في هذا الاحتمال، تارة يقع في مناقشته، و اخرى في انه على تقدير تسليمه هل هو في صالح شيخ الشريعة أولا؟.

أما مناقشة هذا الاحتمال، فهذا الاحتمال- كما ترى- يتركب من دعويين إحداهما: دعوى اختصاص الطائفة الأولى بالمغلى بنفسه، لان فرض السبب الخارجي مئونة زائدة ينصرف عنها الكلام. و الأخرى: دعوى اختصاص الطائفة الثانية بالمغلى بالنار. و سوف يأتي الكلام عن الدعوى الثانية في دراسة الاحتمال الثاني من احتمالات الطائفتين. و اما الدعوى الاولى فقد يناقش فيها تارة: بأن الطائفة الأولى- خلافا لما ادعاه شيخ الشريعة- مختصة بالمغلى بالنار، بدعوى ان رواية حماد: «قلت: اي‌


384
بحوث في شرح العروة الوثقى3

المسألة الاولى: ؛ ج‌3، ص : 383

..........

______________________________
شي‌ء الغليان. قال: القلب»
«1» تحكم على سائر روايات الطائفة الاولى و تفسر الغليان فيها بالقلب، و من الواضح ان انقلاب العالي سافلا و بالعكس لا يكون عادة إلا في موارد الغليان بالنار. و اخرى: بأنه ما معنى دعوى العناية الزائدة في فرض السبب الخارجي للغليان مع ان كل غليان له سبب خارجي لا محالة. و ثالثة: بان النار لما كانت هي الأداة المتعارفة لا غلاء العصير و نحوه و بها تطبخ الأشياء فينصرف الغليان الى ما كان بسببها.

و رابعة: بان الطائفة الأولى مطلقة شاملة للمغلى بنفسه و بالنار. و دعوى:

الانصراف الى الغليان بنفسه لكون السبب الخارجي مؤنة زائدة، مدفوعة بأن المولى ليس في مقام بيان السبب إذ لا دخل للسبب في غرض المولى فلا معنى لهذا الانصراف.

اما الاعتراض الأول، فيندفع بان القلب و لو ببعض مراتبه محفوظ في موارد الغليان بنفسه أيضا و ان كان في موارد الغليان بالنار أشد. و اما الثاني، ففيه ان المقصود ليس كون غليان العصير بدون نار غليانا بدون سبب خارجي حقيقة بل كونه كذلك عرفا. و اما الثالث، ففيه ان غليان العصير ليس كغليان المرق، فان تم ما ذكر من الانصراف في غليان المرق لا يتم في غليان العصير، لان غليانه بنفسه أمر ملحوظ شائع أيضا باعتبار ما يترتب عليه من الفوائد الشيطانية و ظهور الإسكار. و اما الرابع، فتحقيق الحال فيه بنحو يظهر حال أصل الاحتمال أيضا: انا تارة: نقول بان الغليان بنفسه لا يساوق الخمرية و الإسكار، و اخرى: نقول بان غليان العصير بنفسه يساوق خمريته و إسكاره كما هو الصحيح وفاقا لشيخ الشريعة قدس سره. فعلى الأول يتعين الإطلاق في روايات الطائفة الاولى و شمولها للمغلى بنفسه و المغلي بالنار معا، لعدم الموجب للانصراف كما أشرنا في‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 3 من أبواب الأشربة المحرمة


385
بحوث في شرح العروة الوثقى3

المسألة الاولى: ؛ ج‌3، ص : 383

..........

______________________________
الاعتراض الرابع. و اما على الثاني فقد يقال: ان ظاهر الدليل كون المغلي بهذا العنوان موضوعا للحرمة لا بما هو طريق للإسكار و الخمرية، لأن حمل العنوان المأخوذ في موضوع الحرمة على المعرفية و الطريقية خلاف الظاهر و معه يتعين حمل روايات الطائفة الأولى على المغلي بالنار خاصة لأنه هو القابل لجعل الحرمة عليه بهذا العنوان دون المغلي بنفسه، لان فرض ثبوت حرمة عليه بهذا العنوان يلزمه الالتزام بحرمتين عليه إحداهما بعنوان المغلي و الأخرى بعنوان الخمر، و هو غير محتمل فقهيا، فإذا أريد الحفاظ على دخل الغليان بعنوانه في موضوع الحرمة المنشأة في روايات الطائفة الاولى فلا بد من تجاوز احتمال اختصاصها بالمغلى بنفسه، بل و احتمال شمولها له بالإطلاق أيضا.

و اما ان هذا الاحتمال هل هو في صالح مدعى شيخ الشريعة فتحقيقه:

انا إذا قلنا بان الغليان بنفسه لا يساوق الإسكار فلا شك في ان هذا الاحتمال في صالحه، و اما إذا قلنا بان العصير المغلي بنفسه هو المسكر و الخمر بعينه كما تقدم فلا يتم ما رامه شيخ الشريعة من التمسك بإطلاق الطائفة الأولى لإثبات حرمة المغلي بنفسه حتى بعد ذهاب الثلثين، إذ لا يمكن المصير على هذا التقدير الى تكفل هذه الطائفة لإنشاء حرمة على عنوان المغلي بما هو لكي نتمسك بإطلاقها لما بعد ذهاب الثلثين، لاستلزامه كونه محرما بحرمتين بما هو مغلي و بما هو مسكر، و هو غير محتمل فقهيا. فلأب من الالتزام اما بان هذه الروايات ليست في مقام بيان حرمة المغلي بل في مقام تحديد الميزان في اتصاف العصير بالحرمة الثابتة لعنوان المسكر، و اما بان هذه الروايات و ان كانت في مقام بيان الحرمة الا ان الغليان لم يؤخذ- بما هو- موضوعا لهذه الحرمة بل أخذ بنحو يناسب مع المعرفية، لكي تكون الحرمة في فرض الإسكار عين الحرمة المجعولة على المسكر لا حرمة اخرى. فعلى الأول لا يكون للروايات إطلاق يقتضي حرمة العصير المغلي مطلقا حتى بعد‌


386
بحوث في شرح العروة الوثقى3

المسألة الاولى: ؛ ج‌3، ص : 383

..........

______________________________
ذهاب الثلثين، لان مرجعها حينئذ إلى حرمة المسكر، و من الواضح اننا نتكلم في ذهاب الثلثين المساوق لعدم الإسكار. و على الثاني يمكن تصوير الإطلاق في الحرمة المستفادة من تلك الروايات لفرض ذهاب الثلثين، غاية الأمر ان الحرمة في حالات الإسكار يكون الغليان معرفا لموضوعها و هو الإسكار و في الحالات الأخرى يكون الغليان بعنوانه موضوعا لها، غير ان هذا الإطلاق يقع طرفا للمعارضة مع إطلاق دليل حلية الطيبات بنحو العموم من وجه، لان العصير المغلي بعد ذهاب الثلثين و ارتفاع سكره يشمله عنوان الطيبات في دليل الحلية، و لا يمكن تقديم إطلاق الحرمة بدعوى: ان العكس يوجب إلغاء عنوان الغليان و عدم دخله بنحو الموضوعية لاندفاعها: بان رفع اليد عن ظهور العنوان المذكور في الموضوعية مفروض في المقام فلا يكون محذورا جديدا، و عليه فقد يقدم دليل الحلية في مادة الاجتماع باعتباره كتابيا، و لا يتم حينئذ ما اختاره شيخ الشريعة قدس سره.

الاحتمال الثاني: ان تكون الطائفة الأولى مطلقة تشمل المغلي بالنار و المغلي بنفسه، و الطائفة الثانية المغياة بذهاب الثلثين مختصة بالمغلى بالنار و الكلام يقع تارة: في تقييم الاحتمال، و اخرى: في كونه لصالح مختار شيخ الشريعة.

اما تقييم الاحتمال، فالجزء الأول منه و هو دعوى الإطلاق في الطائفة الأولى تقدم حاله، و اتضح انه يتم بناءا على عدم كون الغليان بنفسه مساوقا للإسكار و يشكل بناء على المساوقة. و اما الجزء الثاني منه و هو دعوى اختصاص الطائفة الثانية بالمغلى بالنار فقد يناقش فيه بلحاظ روايتين:

الأولى: رواية محمد بن الهيثم عن رجل عن ابي عبد اللّه (ع) قال:

«سألته عن العصير يطبخ بالنار حتى يغلي من ساعته أ يشربه به صاحبه؟،


387
بحوث في شرح العروة الوثقى3

المسألة الاولى: ؛ ج‌3، ص : 383

..........

______________________________
قال: إذا تغير عن حاله و غلا فلا خير فيه حتى يذهب ثلثاه و يبقى ثلثه»
«1».

و هذه الرواية قد يقال- في البداية-: ان موضوعها هو المطبوخ بالنار لأن السؤال عنه. و يمكن ان يقال في مقابل ذلك: ان الرواية مطلقة، لأن السؤال إذا كان عن خصوص المطبوخ بالنار فالجواب يبين قاعدة عامة و المورد لا يخصص الوارد، و القرينة على عمومية الجواب قوله «إذا تغير عن حاله و غلا»، إذ يعرف بذلك ان مرجع الضمير ليس الواقعة المسؤل عنها بالخصوص و الا فالمفروض فيها الغليان، فلم يكن من المناسب تكرار قيد الغليان لو لم يكن الجواب قاعدة عامة. و يمكن ان يقال ان هذه الرواية مختصة بالمغلى بنفسه، و توضيح ذلك: ان كلمة (حتى) في الحديث يحتمل فيها انها للغاية أي إلى ان يغلي، و يحتمل ان تكون بمعنى التعليل اى لكي يغلي من ساعته، فان الخمارين كان من شأنهم ان يطبخوا العصير لكي يتهيأ للتخمر بصورة أسرع، و يكون مفاد الرواية على هذا الاحتمال: ان العصير طبخ حتى يغلي بعد ذلك من نفسه في وقت قريب. و بناءا عليه يكون مورد السؤال هو المغلي بنفسه و يكون الجواب نصا فيه. و هذا الاحتمال هو الظاهر في مقابل احتمال كون حتى للغاية و ذلك لعدة قرائن:

منها: قوله: «من ساعته»، فإنه لو كانت حتى للغاية لم يتضح وجه لهذه الكلمة لأن الغاية مفادة بقوله: «حتى يغلي»، و اما إذا كانت للتعليل فقد تكون للكلمة دخل في الغرض بان يكون الغرض هو جعله بنحو يسرع اليه الغليان من نفسه بسبب الطبخ.

و منها: قوله: «يطبخ بالنار حتى يغلي» فان الطبخ لا يصدق الا حين الغليان فلا معنى لفرض الغليان غاية له و حمل الطبخ على مجرد‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 2 من أبواب الأشربة المحرمة


388
بحوث في شرح العروة الوثقى3

المسألة الاولى: ؛ ج‌3، ص : 383

..........

______________________________
الوضع على النار خلاف الظاهر.

و منها قوله (إذا تغير عن حاله و غلا) فان تغير الحال بمعنى تغير الطعم و ميلة الى الاشتداد في الغليان بالنار يكون بعد الغليان و نزول درجة الحرارة و في الغليان من نفسه يكون قبل الغليان فلو قصد بالغليان الغليان بالنار لكان التعبير المذكور المشعر بان التغير يكون قبل الغليان أو معه في غير محله.

و الإنصاف ان الرواية ظاهرة و لو لبعض هذه القرائن في مدعى المشهور من ان المغلي بنفسه يحل بذهاب ثلثيه الا انها ضعيفة سندا.

الثانية رواية عبد اللّه بن سنان التي تمسك بها السيد الأستاد دام ظله في مقابل شيخ الشريعة قدس سره قال ذكر أبو عبد اللّه ان العصير إذا طبخ حتى يذهب ثلثاه و يبقى ثلثه فهو حلال «1» و هذه الرواية على ما ذكر دام ظله موضوعها مطلق العصير فيشمل المغلي بنفسه و يدل على حليته إذا ذهب ثلثاه بالطبخ.

و التحقيق ان قوله (إذا طبخ حتى يذهب ثلثاه) لو تصورناه بنحو مفاد كان التامة فكأنه قال: العصير إذا وجد فيه طبخ مستمر الى ذهاب الثلثين فهو حلال كان لما ذكره دام ظله مجال و لكن الظاهر من الحديث انه أريد ذلك بنحو مفاد كان الناقصة فكأنه قال: العصير إذا كان طبخه بنحو يذهب الثلثين فهو حلال فالطبخ داخل في موضوع القضية و يكون مفروض الوجود و الشرط هو الخصوصية القائمة بالطبخ و هي ذهاب الثلثين و من المعلوم انه بناءا على هذا الاحتمال لا يمكن التمسك بإطلاق الرواية لأن موضوع القضية ليس هو ذات العصير بل العصير المطبوخ و إطلاقها لما غلى بنفسه ثم طبخ يشبه إطلاقها لما غصب ثم طبخ فإنها بصدد علاج الحرمة الناشئة من الطبخ لا بصدد علاج كل حرمة.

______________________________
(1) وسائل الشيعة الباب 5 من أبواب الأشربة المحرمة


389
بحوث في شرح العروة الوثقى3

المسألة الاولى: ؛ ج‌3، ص : 383

..........

______________________________
و النكتة في استظهار مفاد كان الناقصة من الجملة المذكورة أنه لو جعل الطبخ داخلا في الشرط لا في الموضوع كان المستفاد منه أن الطبخ شروع في سبب الحلية بينما الأمر ليس كذلك فان العصير بالطبخ يحرم ثم استمراره في الطبخ يحلله و هذا يناسب كون الطبخ مأخوذا في طرف الموضوع و كون الشرط في الحلية استمرار الطبخ المفروغ و لا يصح جعل الطبخ بنفسه دخيلا في الشرط إلا مع افتراض غليان سابق في العصير و هو عناية زائدة و قد يقال: إن هذه العناية الزائدة يوجد ما يصلح للدلالة عليها و هو كون الرواية ناظرة إلى دليل حرمة العصير و دليل الحرمة موضوعه العصير المغلي لا مطلق العصير.

إلا أن ظاهر الرواية بناءا على كونها ناظرة إلى دليل حرمة العصير أنها ناظرة إلى الحرمة الثابتة في لسان دليلها للعصير بما هو عصير و هي ليست إلا حرمة العصير المغلي بالنار بناءا على ما تقدم في تحقيق حال الطائفة الاولى و اما العصير المغلي بنفسه فهو حرام بما هو مسكر لا بما هو عصير.

هذا حال تقييم الاحتمال الثاني و اما ان هذا الاحتمال هل يثبت قول شيخ الشريعة أولا؟ فالذي يبدو في أول النظر انه يكفى لإثباته إذ قد افترض فيه ان روايات الحرمة التي لم تقيد بعدم ذهاب الثلثين مطلقة تشمل المغلي بنفسه و روايات التقييد بما قبل ذهاب الثلثين تختص بالمغلى بالنار فتقيد الطائفة الأولى بالطائفة الثانية في خصوص المغلي بالنار و تبقى على إطلاقها بالنسبة للمغلى بنفسه.

و من الغريب ما ذكره بعض من ان روايات الطائفة الأولى المطلقة موضوعها طبيعي المغلي و محمولها الحرمة و الروايات المقيدة بعدم ذهاب الثلثين اما ان تقيد موضوع الطائفة الأولى بالمغلى بنفسه أو تقيد محمولها بعدم ذهاب الثلثين فان فرض الأول صح كلام شيخ الشريعة إذ لا يبقى دليل على‌


390
بحوث في شرح العروة الوثقى3

المسألة الاولى: ؛ ج‌3، ص : 383

..........

______________________________
ارتفاع حرمة المغلي بنفسه إذا ذهب ثلثاه و ان فرض الثاني كان الحق مع المشهور لان مطلق العصير المغلي تصبح حرمته مقيدة بما قبل ذهاب الثلثين و ليس تقييد الموضوع مقدما على تقييد المحمول و وجه الغرابة انه لا وجه لتقييد الموضوع و لا وجه أيضا لتقييد المحمول الا بلحاظ بعض حصص الموضوع و هو خصوص المغلي بالنار لان التقييد ضرورة تقدر بقدرها.

و التحقيق ان هذا الاحتمال و ان كان في صالح شيخ الشريعة بلحاظ روايات الباب و لكن قد توقع المعارضة بالعموم من وجه بين إطلاق الطائفة الأولى لفرض ذهاب الثلثين في المغلي بنفسه المساوق لارتفاع الإسكار و إطلاق دليل حلية الطيبات الشامل لغير المسكر من الأشربة.

الاحتمال الثالث ان يكون موضوع الطائفة الأولى مطلق المغلي و موضوع الطائفة الثانية و لو بلحاظ بعض رواياتها ذلك أيضا و هذا الاحتمال في صالح المشهور كما هو واضح و قد تقدم ما يعرف به حال هذا الاحتمال.

الاحتمال الرابع ان تكون الطائفة الأولى مختصة بالغليان بنفسه على النحو الذي ادعاه شيخ الشريعة و الطائفة الثانية مطلقة و لو بلحاظ بعض رواياتها و قد عرفت حال كل من هاتين الدعويين و هذا الاحتمال قد يقال بأنه يقتضي على فرض ثبوته إيقاع المعارضة بالعموم من وجه بين الطائفتين لان الطائفة الأولى موضوعها خصوص المغلي بنفسه سواء ذهب ثلثاه أولا و الطائفة الثانية موضوعها مطلق المغلي الذاهب ثلثاه و مادة الاجتماع هي المغلي بنفسه إذا ذهب ثلثاه و قد يقال ان الطائفة الثانية حاكمة على الاولى بملاك النظر لأنها تنظر إلى حرمة العصير و تفترضها ثم تحكم بارتفاعها بذهاب الثلثين و هذا يتوقف أولا على ان تكون الروايات المدعى حكومتها في مقام بيان المحلل فقط لا في مقام بيان الحرمة و تقييدها و الا لم يكن هناك موجب لافتراض نظرها الى دليل للحرمة وراءها حتى تكون حاكمة عليه‌


391
بحوث في شرح العروة الوثقى3

المسألة الاولى: ؛ ج‌3، ص : 383

..........

______________________________
و ثانيا على عدم اختصاص نظرها- لقرينة- بخصوص الحرمة الثابتة للعصير المغلي بالنار كما مرت الإشارة الى ذلك سابقا.

الاحتمال الخامس ان يبنى على ورود كلتا الطائفتين في خصوص المغلي بالنار و قد ظهر حال هذا الاحتمال مما تقدم و قد يقال بناءا عليه انه يتم ما ذكره شيخ الشريعة لأن ورود الطائفتين معا في المغلي بالنار لا يعني حلية المغلي بنفسه بل هو حرام على اي حال و لو لم نقل بان الغليان بنفسه يساوق الإسكار بلحاظ الإجماع و معه فيجري استصحاب بقاء الحرمة بعد ذهاب الثلثين و لكن قد يتمسك حينئذ بعموم حلية الطيبات الحاكم على الاستصحاب المذكور.

الاحتمال السادس ان يفترض عكس الاحتمال الأول و هو في صالح المشهور و قد عرفت حاله مما تقدم.

هذا كله في الأسلوب الأول لشيخ الشريعة في إثبات مدعاه.

اما الأسلوب الثاني فهو التمسك ببعض الروايات الخاصة و هو روايتان الأولى رواية عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه (ع) قال كل عصير اصابته النار فهو حرام حتى يذهب ثلثاه و يبقى ثلثه «1» و تقريب الاستدلال بها ان هذه الرواية تشتمل على شرط و هو اصابة النار للعصير و جزاء و هو الحرمة المقيدة بعدم ذهاب الثلثين و مقتضى قانون الشرطية انتفاء الجزاء و هو هنا الحرمة المقيدة بانتفاء الشرط و يكون انتفاء الشرط في المقام تارة بعدم الغليان رأسا و حينئذ لا إشكال في عدم الحرمة فالجزاء منتف و اخرى بالغليان بنفسه من دون اصابة النار و حينئذ لا إشكال في ثبوت أصل الحرمة فيجب ان يكون انتفاء الجزاء و هو الحرمة المقيدة بانتفاء قيدها و معنى ذلك ثبوت الحرمة المطلقة المغلي بنفسه على نحو لا ترتفع الا بالتخليل.

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 2 من أبواب الأشربة المحرمة


392
بحوث في شرح العروة الوثقى3

المسألة الاولى: ؛ ج‌3، ص : 383

..........

______________________________
و تحقيق الكلام في ذلك يقع في ثلاث نقاط:

إحداها في ان هذه الجملة هل لها مفهوم أولا؟ و الثانية في انه على فرض المفهوم هل يدل المفهوم على انتفاء الحرمة المقيدة؟ و الثالثة في انه لو فرض وجود مفهوم يدل على انتفاء الحرمة المقيدة فهل يثبت بذلك حرمة العصير العنبي المغلي بنفسه و ان ذهب ثلثاه ما لم يخلل؟

إما النقطة الاولى فمن الواضح انه لم تستعمل في هذه الجملة أداة شرط فدعوى المفهوم قد تكون على أساس الالتزام بالمفهوم في الوصف و اللقب و هذا غير تام كبرى إذ لا نقول بالمفهوم لهما نعم لا بد من تصور فائدة في القيد حتى لا يكون لغوا و يكفي فائدة لذكر اصابة النار انه لو لم يذكرها لكان الموضوع أوسع من الحرام إذ ليس كل عصير حراما قبل ذهاب الثلثين فالقيد احترازي في الجملة و قد تكون دعوى المفهوم على أساس مفهوم الشرط الثابت في الجملة و ان لم يوجد فيها اداة الشرط صريحا و ذلك بقرينة الفاء فإنه قرينة على ملاحظة نحو من الشرطية و الترتب و هذا يمكن الإيراد عليه بأمرين أحدهما مبني على ان ملاك مفهوم الشرط استفادة التعليق و الفاء لا يفيده و ان أفاد نحوا من الترتب اللزومي و الآخر أن الفاء ليست أحسن حالا من أدوات الشرط و قد بينا في علم الأصول ان القضية الشرطية انما تدل على المفهوم إذا لم يكن الشرط فيه مخصصا لموضوع القضية و المرجع الضمير في الجزاء و الا سقطت دلالته على المفهوم نظير قولنا من يجيئك فأكرمه و الرواية من هذا القبيل.

و اما النقطة الثانية فإن قيل فيها بان المفهوم هو انتفاء مطلق الحرمة فالرواية لا تدل على مقصود شيخ الشريعة و حينئذ يخصص المفهوم بإخراج المغلي بنفسه عنه لثبوت حرمته قطعا و ان قيل ان المفهوم هو انتفاء الحرمة المقيدة كان ذلك في صالحه و تحقيق الكلام في المقام ان كلمة حتى في‌


393
بحوث في شرح العروة الوثقى3

المسألة الاولى: ؛ ج‌3، ص : 383

..........

______________________________
الرواية فيها احتمالان:

الأول: ان يقصد بها نسبة تامة و تجعل غاية لمفاد الجزاء فكأنه قال كل عصير غلا بالنار فهو حرام و هذه الحرمة مستمرة الى ان يذهب الثلثان و هذا يعني انه قد طرأ على الحرمة أمران نسبة التعليق و نسبة الغاية في عرض واحد فمفاد المفهوم ارتفاع ذات الحرمة و بعد حصول الغاية ترتفع الحرمة بمفهوم الغاية.

الثاني: ان يقصد بها الغاية بنحو مفاد النسبة الناقصة فكأنه قال كل عصير غلا بالنار فهو حرام مستمرا الى ان يذهب الثلثان فالاستمرار لوحظ بنحو الوصفية و الموصوف به اما ان يكون مادة الجزاء و هي الحرمة فكأنه قال فهو حرام بحرمة مستمرة و اما ان يكون هيئة (فهو حرام) فعلى الأول يكون المفهوم انتفاء الحرمة المقيدة و ذلك لان المعلق في القضية الشرطية هو هيئة الجزاء و الغاية صارت قيدا في مادة الجزاء أي في موضوع الهيئة فالتعليق تعليق لما قد قيد بالغاية في المرتبة السابقة و على الثاني هيئة الجزاء طرفا لنسبتين إحداهما تامة و هي التعليق المفترض استفادته من القضية الشرطية و الأخرى ناقصة و هي النسبة الغائية و حينئذ يمكن ان يفرض تقدم اي واحد من النسبتين في مقام اللحاظ على الأخرى و ذلك بان يفترض تارة ان المقصود جعل المعلق مغيا بذهاب الثلثين و يمكن ان يفترض ان المقصود جعل المغيى بذهاب الثلثين معلقا و هذا الأخير هو الذي يثبت اقتضاء المفهوم انتفاء الحرمة المقيدة دون سابقه.

و الرواية على هذا الأساس اما مجملة و اما ظاهرة في غير ما يكون المفهوم معه مقتضيا لانتفاء الحرمة المقيدة بنحو يلائم مع ثبوت الحرمة المطلقة باعتبار ان المتفاهم عرفا من الرواية ان المفهوم لا يجعل الحرمة أشد مما هو مجعول في المنطوق.


394
بحوث في شرح العروة الوثقى3

المسألة الاولى: ؛ ج‌3، ص : 383

..........

______________________________
و اما النقطة الثالثة فلو سلم ان المفهوم يقتضي انتفاء الحرمة المقيدة فهل يثبت بذلك ان المغلي بنفسه يحرم بنحو لا يحل الا بالتخليل؟ التحقيق انه لا يثبت هذا المعنى و ذلك اما أولا فلأن موضوع القضية هو العصير و هذا منصرف عن العصير المغلي بنفسه المساوق للخمر لان العصير في الارتكاز العرفي عنوان مقابل للخمر نعم لو قيل بان الغليان بنفسه لا يساوق الخمرية لما كان هناك موجب للانصراف المذكور. و ثانيا ان انتفاء الحرمة المقيدة كما يكون بثبوت حرمة مطلقة لا ترتفع الا بالتخليل كذلك يكون بثبوت حرمة مطلقة من ناحية ذهاب الثلثين و مغياة بزوال صفة الإسكار سواء حصل ذلك قبل ذهاب الثلثين أو بعده قبل التخليل أو بعده.

و ثالثا لو سلم اقتضاء المفهوم بإطلاقه ثبوت الحرمة في العصير المغلي بنفسه بعد ذهاب الثلثين و لو زالت عنه صفة الإسكار فهذا الإطلاق في المفهوم معارض مع إطلاق آية حلية الطيبات التي تشمل كل عصير غير مسكر و المعارضة بالعموم من وجه نعم لو ادعى شخص ان المعلق في الرواية ليس هو الحرمة المقيدة بل نفس التقييد و كون الحرمة منوطة بعدم ذهاب الثلثين كان المفهوم عنده أخص لأنه يختص مورده حينئذ بالعصير المغلي بنفسه لان غير المغلي لا حرمة فيه أصلا.

ثم انه لو تم في المفهوم إطلاق يقتضي بقاء الحرمة في المغلي بنفسه بعد ذهاب الثلثين فان قيل بان روايات محللية ذهاب الثلثين مختصة بالمغلي بالنار فهو و ان قيل بالإطلاق في بعضها للمغلي بنفسه وقع التعارض بالعموم من وجه و تعين على شيخ الشريعة حينئذ ان يتمسك بمطلقات حرمة العصير إذا غلا.

الرواية الثانية لعمار الساباطي قال وصف لي أبو عبد اللّه (ع) المطبوخ كيف يطبخ حتى يصير حلالا فقال لي تأخذ ربعا من زبيب و تنقيه‌


395
بحوث في شرح العروة الوثقى3

المسألة الاولى: ؛ ج‌3، ص : 383

..........

______________________________
بان تصب عليه اثنى عشر رطلا من ماء ثم تنقعه ليلة فاذا كانت أيام الصيف و خشيت ان ينش جعلته في تنور سخن قليلا حتى لا ينش.

الحديث «1».

و هذه الرواية تارة يستدل بها على حرمة العصير الزبيبي بالغليان حتى يذهب ثلثاه و هذا بحث يأتي ان شاء اللّه تعالى، و اخرى يستدل بها على المدعى في المقام كما صنعه شيخ الشريعة قدس سره و مورد استدلاله قوله (فاذا كان أيام الصيف و خشيت ان ينش) و تقريبه انه لو كان ذهاب الثلثين محللا لما نش بنفسه فلا معنى للخشية من النشيش إذ المفروض انه سوف يطبخه الى ذهاب الثلثين. و يرد عليه انه لم يذكر وجه الخشية و انما بين علاجها بعد الفراغ عن افتراضها في ذهن عمار و لا ينحصر هذا الوجه المفترض في ثبوت حرمة مطلقة للمغلي بنفسه لا ترفع الا بالتخليل و توضيح ذلك انه إذا بني على نجاسة كل مسكر كما هو المشهور و مختار شيخ الشريعة فمن الواضح بعد البناء على ان المغلي بنفسه مسكر كما هو مختاره أيضا ان العصير ينجس عندئذ بالنشيش الحاصل بنفسه و يكون الطابخ معرضا للنجاسة خلال عملية الطبخ بسبب ترشح شي‌ء من العصير و يكفي ذلك تفسيرا للخشية و اما إذا بنينا على عدم نجاسة غير الخمر من المسكرات فيمكن ان نفسر الخشية بأن الحرمة التي تحصل بالنشيش في نفسه المساوق للإسكار لا ترتفع الا بزوال الإسكار و هو أمر لا بد من إحرازه و قد لا يتأتى إحرازه إلا بعد ذهاب الثلثين مع ان الامام (ع) يريد ان يصف له المطبوخ بنحو يحل بمجرد ذهاب الثلثين و هذا شي‌ء غير دعوى الحرمة التي لا ترتفع الا بالتخليل.

الأسلوب الثالث الاستدلال بروايات التخليل و توضيح ذلك ان‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة- الباب- 5 من أبواب الأشربة المحرمة


396
بحوث في شرح العروة الوثقى3

المسألة الاولى: ؛ ج‌3، ص : 383

..........

______________________________
العصير العنبي إذا غلا بنفسه أصبح مسكرا و المسكر محكوم عليه بالحرمة الى ان يتخلل بمقتضى روايات التخليل و هذا الأسلوب لا مجال له عند من ينكر مساوقة الغليان بنفسه للإسكار و اما بناءا على صحة ذلك كما هو المختار كان مقتضى روايات التخليل المدعى دلالتها على انحصار المحلل بالتخليل ان الحرمة في المغلي بنفسه تبقى بعد ذهاب الثلثين أيضا فان لم يوجد في روايات محللية ذهاب الثلثين ما يشمل بالإطلاق العصير المغلي بنفسه فهو و الا وقع التعارض بالعموم من وجه و تعين الرجوع الى مطلقات حرمة العصير العنبي بالغليان على فرض وجودها و لكن التحقيق ان روايات التخليل لا تدل على حصر المحلل بالتخليل بل على إناطته بزوال الإسكار و لو لم يصبح العصير خلا فان روايات التخليل بعضها من قبيل رواية زرارة عن ابي عبد اللّه عليه السلام سألته عن الخمر العتيقة تجعل خلا قال لا بأس
«1».

و هذا المضمون لا يستفاد منه حصر المحلل بالتخليل كما هو واضح و بعضها يستفاد منه كون المناط زوال الخمرية و الإسكار لا حصول صفة الخلية و هو رواية عبيد بن زرارة عن ابي عبد اللّه (ع) انه قال في الرجل إذا باع عصيرا فحبسه السلطان حتى صار خمرا فجعله صاحبه خلا فقال إذا تحول عن اسم الخمر فلا بأس «2» و بعضها قد يتمسك به لإثبات حصر المحلل بالتخليل و هو ما رواه محمد بن ابي عمير و علي بن حديد جميعا عن جميل قال قلت لأبي عبد اللّه (ع) يكون لي على الرجل الدراهم فيعطيني بها خمرا فقال خذها ثم أفسدها قال علي و اجعلها خلا «3» فان قوله (ثم أفسدها) و ان كان لا يدل على أكثر من تحويلها عن الخمر و الإسكار لان إفساد‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 31 من أبواب الأشربة المحرمة

(2) وسائل الشيعة باب 31 من أبواب الأشربة المحرمة

(3) وسائل الشيعة باب 31 من أبواب الأشربة المحرمة


397
بحوث في شرح العروة الوثقى3

المسألة الثانية في انه هل يكفي ذهاب الثلثين بغير النار أو لا؟ ؛ ج‌3، ص : 398

..........

______________________________
كل شي‌ء بحسبه الا ان قوله (و اجعلها خلا) قد يقال انه يدل على الحصر المدعى لأنه إرشاد إلى المحلل و قد أرشده إلى التخليل و لكن يرد على ذلك ان هذه الجملة اختص علي بن حديد ينقلها دون محمد بن ابي عمير فلا يتم سندها بناءا على عدم ثبوت توثيقه على ان من المحتمل ان تكون من كلام علي بن حديد هذا مضافا الى ان الامام (ع) لعله كان في مقام بيان محلل يتحفظ فيه على المائع المذكور و ذهاب الثلثين يذهب فيه ثلثا المائع و على ضوء مجموع ما ذكرناه اتضح ان الصحيح في العصير العنبي المغلي بنفسه انه يحل بزوال اسم الخمرية و صفة الإسكار عنه لا بذهاب الثلثين كما يقول المشهور و لا بخصوص التخليل كما يقول شيخ الشريعة قدس سره.

المسألة الثانية في انه هل يكفي ذهاب الثلثين بغير النار أو لا؟

و المشهور هو الكفاية تمسكا بإطلاق دليل محلليته و ذهب السيد الأستاذ دام ظله الى اختصاص المحلل بالغليان بالنار و اعترض على الاستدلال بالإطلاق بأمرين الأول: عدم وجود رواية من روايات التحليل بذهاب الثلثين ذات إطلاق من هذه الناحية بل هي جميعا مختصة بالغليان بالنار.

الثاني: انه لو وجد الإطلاق ففي مقابله ما يدل بمفهومه على عدم كفاية ذهاب الثلثين بغير النار.

اما الأمر الأول فمقصوده بذلك انه بعد فرض وجود دليل يدل على حرمة العصير العنبي المغلي يكون مقتضى إطلاقه انه يحرم سواء ذهب ثلثاه بالنار أو بغيرها أو لم يذهب و المقيد ورد في الطلا و البختج و نحوهما من العناوين المختصة بالذهاب بالنار فيبقى غيره تحت إطلاق الحرمة.

و لكن توجد روايتان يستفاد الإطلاق منهما.

الأولى: رواية عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه (ع) كل عصير‌


398
بحوث في شرح العروة الوثقى3

المسألة الثانية في انه هل يكفي ذهاب الثلثين بغير النار أو لا؟ ؛ ج‌3، ص : 398

..........

______________________________
اصابته النار فهو حرام حتى يذهب ثلثاه و يبقى ثلثه
«1».

و المظنون ان نظر المشهور في دعواهم للإطلاق إلى مثل هذه الرواية فإن قوله (حتى يذهب ثلثاه) ظاهر عرفا في كونه غاية للحرمة فيكون مفاد الرواية ان كل عصير اصابته النار فهو حرام و الحرمة تستمر الى ذهاب الثلثين و هذا مطلق يشمل فرض كون ذهاب الثلثين بسبب تلك الإصابة للنار أو بإصابة أخرى لها أو بغير النار و قد تحمل الغاية في المقام على كونها غاية للإصابة فيكون مفاد الرواية ان كل عصير اصابته النار فهو حرام و إذا استمرت الإصابة إلى ان يذهب ثلثاه فهو حلال و عليه لا إطلاق في الرواية غير ان هذا الحمل خلاف الظاهر فإنه مهما كان عندنا شرط و جزاء أو ما يشبههما و ذكر في الجزاء غاية فالمستفاد عرفا أنه غاية للجزاء لا للشرط.

و الرواية الثانية رواية محمد بن الهيثم عن رجل عن أبي عبد اللّه (ع) قال سألته عن العصير يطبخ بالنار حتى يغلي من ساعته أ يشربه صاحبه؟

فقال: إذا تغير عن حاله و غلا فلا خير فيه حتى يذهب ثلثاه و يبقى ثلثه «2» و هذه الرواية مطلقة إلا انها ضعيفة سندا فيكتفي بإطلاق الرواية الأولى.

نعم هنا كلام آخر و هو أنه يبقى للسيد الأستاذ دام ظله ان يقول ان المغلي بغير النار لم تثبت حليته إذا ذهب ثلثاه بغير النار فان موضوع الروايتين انما هو المغلي بالنار و اما المغلي بنفسه فدليل السيد الأستاذ على حليته بذهاب الثلثين انما هو رواية عبد اللّه بن سنان قال ذكر أبو عبد اللّه ان العصير إذا طبخ حتى يذهب ثلثاه و يبقى ثلثه فهو حلال «3» و هذه‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 2 من أبواب الأشربة المحرمة

(2) وسائل الشيعة باب 2 من أبواب الأشربة المحرمة

(3) وسائل الشيعة باب 5 من أبواب الأشربة المحرمة


399
بحوث في شرح العروة الوثقى3

المسألة الثانية في انه هل يكفي ذهاب الثلثين بغير النار أو لا؟ ؛ ج‌3، ص : 398

..........

______________________________
الرواية تختص بذهاب الثلثين بالنار فبناء على تصوراته دام ظله من حقه التفصيل بين المغلي بالنار و المغلي بنفسه لانحصار دليل حلية المغلي بنفسه بذهاب الثلثين عنده في تلك الرواية و لكننا في فسحة من الالتزام بهذا التفصيل الذي لم يلتزم به المشهور لما قلنا من ان الميزان في الحلية هو زوال الإسكار و ذلك يوجب الحلية على القاعدة سواء كان بالنار أو بغيرها بلا حاجة إلى التمسك بإطلاق الروايات.

و اما الأمر الثاني و هو وجود الدليل على عدم الكفاية فيدعي أنه رواية أبي بصير قال سمعت أبا عبد اللّه (ع) و سئل عن الطلا فقال ان طبخ حتى يذهب منه اثنان و يبقى واحد فهو حلال و ما كان دون ذلك فليس فيه خير «1» و استشهاد السيد الأستاذ بصدر الرواية بلحاظ المفهوم بتقريب ان مقتضى مفهوم الصدر أنه ان لم يطبخ إلى ذهاب الثلثين فليس بحلال و هو مطلق يشمل فرض ذهاب الثلثين بغير النار و عدمه. و تحقيق الكلام حول ذلك يتلخص في عدة كلمات.

الاولى: انه بعد افتراض وجود الإطلاق الموافق لمذهب المشهور لا ينبغي ان يدعى ان المفهوم المذكور مقيد له بل ينبغي ان يقال انه معارض له بنحو العموم من وجه و بعد التساقط يرجع إلى إطلاق (إذا غلا حرم) الثانية: انه دام ظله تمسك بمفهوم صدر الحديث و لم يتمسك بمنطوق ذيله و هو قوله (و ما كان دون ذلك فليس فيه خير) فان كانت هذه الجملة الثانية تشمل تمام ما يدعى من مفهوم للجملة الاولى فلما ذا عدل عن التمسك بالمنطوق إلى المفهوم و الا بطلت سعة المفهوم إذ الظاهر عرفا ان الجملة الثانية في مقام توضيح مفهوم الجملة الأولى فتوجب تضيق دائرة المفهوم و لا أقل من صلاحيتها لذلك بنحو توجب الإجمال.

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 2 من أبواب الأشربة المحرمة


400
بحوث في شرح العروة الوثقى3

المسألة الثالثة - ان الحرمة في العصير المغلي هل تبدئ عند الغليان ؛ ج‌3، ص : 401

..........

______________________________
الثالثة: كما يمكن ان يستدل برواية أبي بصير كذلك يمكن ان يستدل بالمفهوم في رواية عبد اللّه بن سنان فان كان مقصود السيد الأستاذ دام ظله ذكر رواية أبي بصير من باب المثال فلا كلام و ان كان مقصوده حصر الاستدلال بها فلا بد من إبراز مميز لها عن رواية عبد اللّه بن سنان و مجرد ان الموضوع في رواية أبي بصير الطلا و في رواية عبد اللّه بن سنان العصير لا يوجب فارقا بعد وضوح كون العصير إشارة إلى العصير المعهود حرمته و هو المغلي.

الرابعة: ان انتزاع المفهوم المذكور من رواية أبي بصير فرع ان يكون الموضوع هو الطلا و يكون الطبخ الى ان يذهب الثلثان شرطا للحلية غير ان لازم ذلك اشتراط ذهاب ثلثي الطلا في حليته مع انه يكفي ذهاب ثلثي العصير كما هو واضح و هذا يصلح قرينة على ان الموضوع ليس هو الطلا بل طبخ الطلا أي الطبخ الذي يصير به العصير طلا فكأنه قال: طبخ العصير طلا إذا استمر إلى ذهاب الثلثين كان حلالا و مفهومه على هذا عدم الحلية بالطبخ غير المذهب للثلثين لا عدم الحلية بغير الطبخ مما يذهب الثلثين و مما يعزز فهم ذلك من الرواية الجملة الثانية و هي قوله (و ما كان دون ذلك فليس فيه خير) فان هذا تصريح بالمفهوم و نلاحظ انه قد فرض فيه الطبخ محفوظا لكنه دون ذهاب الثلثين و هذا يعني ان الطبخ مفروغ عنه في موضوع القضية منطوقا و مفهوما. و بما ذكرناه ظهر حال التمسك برواية عبد اللّه ابن سنان بعد الالتفات إلى ان موضوعها الطبخ و ان الشرط فيها أخذ بنحو مفاد كان الناقصة كما تقدم.

المسألة الثالثة- ان الحرمة في العصير المغلي هل تبدئ عند الغليان

كما كنا نعبر حتى الآن أو قبله حين حصول النشيش و هو الصوت الذي يسبق هيجان الاجزاء و غليانها و قد اختار الماتن قدس سره في المتن كفاية النشيش‌


401
بحوث في شرح العروة الوثقى3

المسألة الثالثة - ان الحرمة في العصير المغلي هل تبدئ عند الغليان ؛ ج‌3، ص : 401

..........

______________________________
في الحرمة و لعله نظر في ذلك إلى رواية ذريح قال: «سمعت أبا عبد اللّه (ع) يقول إذا نش العصير أو غلا حرم»
«1» لظهورها في كفاية النشيش في حصول الحرمة و قد اعترض على الاستدلال بها بأمور:

الأول: ما ذكره السيد الأستاذ دام ظله و غيره من انه لا بد من الالتزام بأن الحرمة لا تحصل الا بالغليان لأن هذه الرواية معارضة بروايات تدل على أنه لا حرمة قبل الغليان من قبيل رواية حماد بن عثمان «لا يحرم العصير حتى يغلي» «2» و روايته الأخرى «تشرب ما لم يغل فاذا غلا فلا تشربه قلت: أي شي‌ء الغليان قال: القلب» «3» و لا يمكن تقييد هذه الروايات برواية النشيش إذ يلزم من ذلك إلغاء مبدئية الغليان للحرمة و كونها حاصلة بسبب سابق و هو غير تقييد هذه المبدئية بحال دون حال أقول: لم ينقح في هذا الوجه المرجع بعد التعارض و التساقط فكأنه بنى على ان رواية النشيش تعارضت مع كل روايات الباب و تعين الرجوع بعد التساقط إلى الأصول المرخصة أو عمومات الحل في حين انه يوجد عندنا مرجع فوقاني من نفس روايات الباب و هو ما علق فيه الحرمة على اصابة النار كرواية عبد اللّه بن سنان (كل عصير اصابته النار فهو حرام) و لو خلينا و هذا اللسان لقلنا بكفاية الإصابة و هي مجرد وصول حرارة النار الى الماء و تأثيرها فيه و هذا أعم من النشيش و الغليان معا و مثلها رواية أخرى ورد فيها (و قد روي عنهم (ع) في العصير أنه إذا جعل على النار لم يشرب حتى يذهب ثلثاه) «4» و هكذا نحصل على عام فوقي يدل‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 3 من أبواب الأشربة المحرمة.

(2) وسائل الشيعة باب 3 من أبواب الأشربة المحرمة.

(3) وسائل الشيعة باب 3 من أبواب الأشربة المحرمة.

(4) وسائل الشيعة باب 4 من أبواب الأشربة المحرمة.


402
بحوث في شرح العروة الوثقى3

المسألة الثالثة - ان الحرمة في العصير المغلي هل تبدئ عند الغليان ؛ ج‌3، ص : 401

..........

______________________________
على كفاية مطلق اصابة النار في حصول الحرمة و قد ورد عليه مخصص و هو ما دل على عدم الحرمة قبل الغليان و هذا المخصص ابتلي بالمعارض في النشيش فبعد التساقط بتعين الرجوع إلى ذلك العام الفوقي التام سندا و دلالة فتثبت الحرمة.

الثاني ما ذكره السيد الأستاذ دام ظله أيضا من انه لم يثبت كون الغليان معطوفا على النشيش في الرواية ب‍ (أو) بل ثبت ان العطف بالواو و ذلك لان شيخ الشريعة قدس سره ينقل ان في بعض نسخ الكافي الصحيحة وقع العطف بالواو و هو ثقة أمين يشمل دليل الحجية خبره و قد أخبرنا بصحة النسخة المشتملة على الواو و عليه لا تدل الرواية على كون النشيش موضوعا للحرمة. و لنا ثلاث كلمات بصدد التعليق على هذا الكلام:

الكلمة الأولى- اننا لا نحتمل عقلائيا أن شيخ الشريعة يقصد بشهادته بصحة نسخة الواو وجود سند متصل له إلى الكليني ينقل الرواية بالواو إذ نقطع عادة بأنه لا طريق له الى الكتب الا نفس طرقنا و انما حكم بصحة نسخة الواو على أساس النظر و التخمين و لذا يقول: انا لو حملنا الرواية على (أو) فلا بد من إرجاع ذلك في المعنى إلى الواو فالأولى الالتزام بنسخة الواو و عليه فكلامه في مقام تصحيح نسخة الواو نظري و لا يكون حجة. يبقى ان نثبت بشهادة شيخ الشريعة قدس سره وجود نسخة للكافي بالواو فيثبت التهافت بين النسخ و عدم حجية شي‌ء منها و بذلك لا تثبت الحرمة بمجرد النشيش الا ان إجمال الحديث باعتبار تهافت النسخ بشهادة شيخ الشريعة أيضا غير صحيح إذ يرد عليه- أولا: انه إذا سقطت نسخ الكافي عن الحجية رجعنا إلى نسخ التهذيب و هي ب‍ (أو) إذ حجية نسخة الكافي مستندة اما إلى الاطمئنان- إذا رأينا نسخا عديدة متفقة- أو إلى أصالة عدم الخطأ و بعد التهافت‌


403
بحوث في شرح العروة الوثقى3

المسألة الثالثة - ان الحرمة في العصير المغلي هل تبدئ عند الغليان ؛ ج‌3، ص : 401

..........

______________________________
لا يحصل الاطمئنان و لا تجري أصالة عدم الخطأ فلا يتعين عندنا ما هو نقل صاحب الكافي و لكن ثبت عندنا نقل الشيخ الطوسي و لا يعارضه نقل الكليني لعدم تعين منقوله و لا نقل نساخ الكافي لأننا لا نعرف وثاقتهم.

و ثانيا: اننا لا نسلم تساوي النسخ بل نقدم نسخه (أو) و ذلك لان مدرك حجية كل من النسختين إذا كان هو الاطمئنان أو أصالة عدم الخطأ بعد عدم احتمال التعمد في الكذب فالنسختان متعارضتان بنحو متكافى‌ء و لكن يوجد هناك مدرك آخر لحجية نسخه (أو) و هو ثبوتها بسند معتبر بحكم نقل صاحب الوسائل و صاحب الوافي لها لان نسخ الوافي و الوسائل متفقة على تسجيل «أو» و اما النسخة المعارضة فلم يثبت لها سند معتبر فدليل الحجية يشمل نسخه (أو) بلا معارض.

الكلمة الثانية- أنّا لو سلمنا وجود سند متصل لشيخ الشريعة ينقل بموجبه نسخة الواو غير انه لا يصلح لمعارضة السند المتصل لصاحب الوسائل الذي ينقل بموجبه (أو) لأن السند المفترض تسليما غير معلوم و سند الوسائل معلوم واضح الصحة.

الكلمة الثالثة- ان تهافت النسخ يمكن إثباته بنحو أتقن قبل ولادة شيخ الشريعة قدس سره و توضيح ذلك اننا لو لاحظنا الوسائل و الوافي و البحار لرأينا أن الأولين نقلا (أو) عن التهذيب و الكافي و الأخير نقل أولا الواو ثم قال و اما ما في التهذيب من (أو) فكذا و هذا واضح في ان المجلسي أخذ الواو من الكافي إذ ليس له مدرك آخر غير التهذيب و الكافي فاذا افترضنا ان لكل من المجلسي و صاحبي الوسائل و الوافي سندا متصلا وقع التعارض بين النقلين بلحاظ دليل الحجية و ينبغي الكلام حينئذ في ان التعارض هل يختص بطريقي النسختين الواردتين في مقام تعيين عبارة الكافي و يبقى نقل التهذيب ب‍ (أو) سليما عن التعارض أو ان نقل‌


404
بحوث في شرح العروة الوثقى3

المسألة الثالثة - ان الحرمة في العصير المغلي هل تبدئ عند الغليان ؛ ج‌3، ص : 401

..........

______________________________
التهذيب يدخل طرفا للمعارضة أيضا و يسقط الجميع في عرض واحد و التحقيق ان الأمر يختلف باختلاف المبنى في كيفية تصور حجية الخبر مع الواسطة فالتصور المتعارف لحجيته هو ان يقال ان المخبر المباشر لنا يخبرنا عن خبر من قبله فيثبت لنا خبر من قبله على أساس حجية المخبر المباشر و من قبله يخبر عن خبر من قبله فيثبت لنا ذلك الخبر و هكذا فبناء على هذا التصور لا معارض لنقل التهذيب لان كتاب البحار يثبت خبر من قبله و هكذا الى ان يصل الى الكافي و كذلك كتاب الوسائل فيتعارضان في تعيين خبر الكافي قبل ان يصلا إلى إثبات خبر ذريح فنقل التهذيب عن ذريح يبقى بلا معارض إذ لا يوجد ما يصح لمعارضته اما نقل الكليني فلأنه لم يثبت اشتماله على الواو مع تهافت نسخ الكافي و اما نقل البحار للواو عن الكافي فلانة لا تكاذب بين نقل التهذيب و نقل البحار فان التهذيب ينقل عن ذريح انه نطق ب‍ (أو) و البحار ينقل عن الكافي انه قال ان ذريحا نطق بالواو و لعل كلا هذين الكلامين صادقان. لكن المختار في تصوير حجية الخبر مع الواسطة هو ان الناقل المباشر عن الامام ينقل حكما واقعيا و نقله له موضوع لحكم ظاهري منجز للواقع و هو الحجية فالناقل عنه ناقل لموضوع ذلك الحكم الظاهري و هذا النقل الجديد يشمله دليل الحجية بهذا اللحاظ و يكون بنفسه موضوعا لحكم ظاهري منجز لذلك الحكم الظاهري المنجز للواقع و هكذا إلى ان نصل إلى الناقل المباشر لنا الذي يكون نقله موضوعا لحكم ظاهري عاشري مثلا و يكون حجة لأنه نقل موضوع حكم الشارع فيثبت ذلك الحكم و بناء على هذا التصور يقع التعارض لا محالة بين خبر التهذيب و خبر البحار و خبر الوسائل و الوافي في عرض واحد و يسقط الكل فان نقل التهذيب موضوع لحكم ظاهري ينجز الحرمة عند النشيش و نقل البحار موضوع لحكم ظاهري يعذر عن الحرمة عند النشيش فلا محالة يتعارضان‌


405
بحوث في شرح العروة الوثقى3

المسألة الثالثة - ان الحرمة في العصير المغلي هل تبدئ عند الغليان ؛ ج‌3، ص : 401

..........

______________________________
و يتساقطان غاية الأمر ان نقل البحار له معارض آخر و هو نقل الوسائل و الوافي فيسقط الكل في عرض واحد.

الثالث ان يقال: ان هذه الرواية في نفسها متهافتة معنى فلا ينبغي التعويل عليها و جعلها طرفا للمعارضة مع الروايات الأخرى أو تقديمها عليها إذ لا يتحصل منها معنى معلوم فلا بد من تأويلها و معه لا يعلم المعنى المقصود حتى نتمسك به و الوجه في ذلك هو ان عطف الغليان على النشيش ب‍ (أو) لا يناسب الواقع لان الغليان متأخر عن النشيش دائما و هذا بخلاف عطفه عليه بالواو إذ قد يكون الأثر مترتبا على مرتبة غير ان بعض المراتب السابقة تذكر مقدمة على سبيل التمهيد و الترقي. و قد يجاب بأن النسبة بين النشيش و الغليان عموم من وجه لإمكان حصول الغليان رأسا و ذلك عند غلبة النار أو قلة الماء جدا بنحو لا يظهر الصوت و يحصل الغليان غير أن هذه الفروض نادرة قد يمنع عن كونها مصححة عرفا للعطف ب‍ (أو).

الرابع ما ذكره السيد الأستاذ دام ظله من إنكار كون النشيش شيئا آخر غير الغليان و يحصل قبله و انما هو نفسه و استشهد لذلك بما في أقرب الموارد من تفسير النشيش بالغليان نعم يتجه حينئذ سؤال و هو أنه إذا كان النشيش بمعنى الغليان فما معنى عطف الغليان عليه ب‍ (أو) و أجاب دام ظله بان الفرق بينهما هو ان النشيش يطلق في الغليان بنفسه و الغليان يطلق في الغليان بالنار و استشهد لذلك بأنه لم ير إطلاق الغليان في الروايات الا على الغليان بنفسه كما ان النشيش لم يطلق فيها إلا على الغليان بنفسه كما في رواية عمار الساباطي (و خشيت ان ينش).

أقول: اما ان النشيش هو الغليان فبعيد عن المتبادر العرفي و عما جاء في معاجم اللغة من تفسير الأول بالصوت و الثاني بالقلب فليلاحظ لسان العرب و الصحاح و القاموس و تاج العروس و فقه اللغة للثعالبي فإنها متطابقة‌


406
بحوث في شرح العروة الوثقى3

المسألة الرابعة - فيما إذا غلا العنب بدون عصير ؛ ج‌3، ص : 407

..........

______________________________
على ذلك و معه لا عبرة بكلام صاحب كتاب أقرب الموارد الذي هو ابن الأمس و طريقه إلى معرفة اللغة أمثال ما ذكرناه.

نعم يمكن ان يقال ان النشيش و ان كان هو الصوت إلا ان الصوت له مراتب و لعله عبارة عن الصوت بمرتبة مساوقة للغليان و يحتمل ذلك قولهم (النشيش صوت الماء إذا غلا) إذا حملنا الشرط على الموضوعية لا المعرفية و يشهد لتطرق هذا الاحتمال ما جاء في لسان العرب من قوله (و قيل ان النشيش من حين يبدأ الماء بالغليان) و إذا قام هذا الاحتمال تعذر الاستدلال بالرواية على أسبقية الحرمة على الغليان و اما الترديد بين النشيش و الغليان مع تلازمهما بناء على هذا الاحتمال فيمكن ان يكون بلحاظ مقام الإثبات لا الثبوت لأن أحدهما يرى و الآخر يسمع و إمكان الافتراق بينهما إثباتا يصبح العطف ب‍ (أو) عرفا كإمكان الافتراق ثبوتا و عليه فلا تتم دلالة الرواية على الحرمة قبل الغليان.

و مما ذكرناه ظهر حال التمسك لإثبات كفاية مطلق الصوت في الحرمة برواية عمار الساباطي المتقدمة حيث جاء فيها (و خشيت ان ينش)

المسألة الرابعة- فيما إذا غلا العنب بدون عصير

و توضيحه: ان ماء العنب تارة يخرج بالعصير و يغلي و هذا هو المتيقن من النصوص و اخرى يخرج من العنب بالتشقيق و نحوه من دون عصر و يغلي و هذا أيضا يحرم لأن خصوصية العصر المأخوذة في موضوع النصوص ملغية بالارتكاز العرفي فإطلاق الروايات يشمل هذا الفرد و انما الكلام فيما إذا لم يخرج ماء العنب و انما غلا و هو في موضعه و تفصيل ذلك ان ماء العنب في داخله له حالة طبيعية و هي انه ليس بماء و انما هو جسم مصمد مشبع بالرطوبات و هذه الرطوبات لو تجمعت لصارت ماءا و له حالة بالعناية و هي ان نفرض انّا أمسكنا العنب و ضغطنا عليه بحيث كونا في داخله سائلا من دون ان يخرج إلى الخارج ثم عرضناه للحرارة‌


407
بحوث في شرح العروة الوثقى3

المسألة الخامسة - ان العصير المحرمة بالغليان لا الإسكار ؛ ج‌3، ص : 408

 

..........

______________________________
الى ان غلا من دون ان يتشقق و هذا مجرد فرض غير عملي خارجا فان كان موضوع الكلام هو الأول كما هو الظاهر فلا معنى لفرض الغليان عندئذ إذ ليس هناك ماء للعنب بالفعل و غليان نفس الحبات ليس هو موضوع الحرمة و ان كان المراد الثاني على فرض إمكانه ففرض غليان الماء العنبي عندئذ معقول غير ان روايات الباب أخذ فيها قيدان خروج الماء و كونه بالعصر و الثاني الغي بالارتكاز العرفي و اما الأول فلا ارتكاز يقضي بالغاية فلا يشمل دليل الحرمة الماء المغلي في داخل العنب ما لم يصبح مسكرا‌

المسألة الخامسة- ان العصير المحرمة بالغليان لا الإسكار

إذا طبخ فصار دبسا قبل ذهاب الثلثين و ان كان الفرض بعيدا فهل يحل بذلك مع وضوح تعذر الاستمرار بطبخه لاحتراقه حينئذ و إذا لم يحصل التخليل بذلك مما هو المحلل و هذا يفرض الكلام في مقامين:

المقام الأول- في كفاية صيرورته دبسا في الحلية

و الكلام في ذلك يقع في جهتين: إحداهما في مقتضى الحرمة إثباتا و الأخرى في المانع عن الأخذ بالمقتضي على تقدير ثبوته.

اما الجهة الأولى فما يتصور مقتضيا لحرمة الدبس المذكور اما إطلاق الدليل و اما استصحاب الحرمة و هناك عدة وجوه لإثبات عدم الإطلاق فإن تم أحدهما و ثبت معه عدم جريان استصحاب الحرمة أصبح المقتضي قاصراً الوجه الأول ان لفظ الرواية و ان كان مقتضى الجمود عليه الشمول الدبس المذكور إلا انه منصرف عنه و لو لندرته بمعنى ان استلزامه الدبسية لذهاب الثلثين عادة يصلح ان يكون قرينة عرفية يعتمد عليها المولى في منع إطلاق خطابه لفرض الدبسية قبل ذهاب الثلثين النادر الوقوع.

و هذا الكلام لا بد من تكميله ببيان عدم جريان استصحاب الحرمة إذ قد يتمسك بالاستصحاب لإثبات الحرمة ما دام موضوع الدليل محفوظا‌

 

 

 

408
بحوث في شرح العروة الوثقى3

المقام الأول - في كفاية صيرورته دبسا في الحلية ؛ ج‌3، ص : 408

..........

______________________________
فان انصراف الدليل لا ينافي انحفاظ الموضوع و دفع الاستصحاب يمكن ان يتم بالتمسك بعمومات حلية الطيبات لان التمسك بالعام مقدم على استصحاب حكم المخصص و العام هنا يقتضي بإطلاقه المقامي إمضاء النظر العرفي في الطيب المساوق للطهارة و الحلية كما هو واضح فلا يجري استصحاب الحرمة و لا استصحاب النجاسة لو قيل بها حدوثا.

الوجه الثاني- ان الدليل دل على حرمة الشرب و الدبس لا يشرب و احتمال حرمة أكل الدبس المذكور احتمال بدوي لا يثبت بالإطلاق و لا بالاستصحاب، و أجاب السيد الأستاذ دام ظله على ذلك بان روايات الباب أخذ في بعضها الشرب و لكن بعضها الآخر جعل فيه نفس العصير موضوعا للحرمة من دون ذكر عنوان الشرب كما في رواية عبد اللّه بن سنان و يرد عليه بان الحرمة بعد احتياجها إلى فعل مقدر لعدم تعلقها بالعين ابتداء على ما هو المعروف بينهم يتعين كون المتعلق امرا محذوفا يقدر حسب ما تقتضيه المناسبات العرفية و من الواضح ان المناسب عرفا لعنوان العصير هو الشرب فيكون هو المقدر و لو سلم ان كلا من الشرب و الازدراد الشامل للأكل أيضا مناسب فلا معين للمفهوم الأعم و ليس المورد من موارد التمسك بالإطلاق و مقدمات الحكمة لأنها انما تجري فيما إذا علم بالكلمة الصادرة فعلا أو الصادرة و لو تقديرا و شك في ان المراد مطلقها أو مقيدها لا فيما إذا ترددت الكلمة بين كلمة لها مفهوم أعم و كلمة لها مفهوم أخص.

و إذا تم هذا الوجه امتنع اجراء استصحاب الحرمة لتغاير الموضوع باعتبار مباينة الأكل للشرب نعم لو بنى على نجاسة العصير العنبي المغلي حدوثا تمت أركان استصحاب النجاسة و يترتب عليه حينئذ حرمة الأكل و ينحصر دفعه بالتمسك بعموم حلية الطيبات الحاكم كما عرفت في الوجه السابق لان هذا العموم المقتضي بإطلاقه المقامي لإمضاء النظر العرفي في‌


409
بحوث في شرح العروة الوثقى3

المقام الأول - في كفاية صيرورته دبسا في الحلية ؛ ج‌3، ص : 408

..........

______________________________
تشخيص الطيب يدل على الطهارة لأن الطيب يستبطن ذلك فهذا الوجه لا يخلو من وجاهة اللهم الا ان يقال ان الدبس ببعض مراتبه البدائية التي يصدق معها الميعان يتصور عرفا بشأنه الشرب فيشمله إطلاق الدليل و يتعدى الى المراتب الأخرى المجردة عن الميعان بالدلالة الالتزامية للجزم بعدم الفرق.

الوجه الثالث- ما ذكره جماعة من الفقهاء من ان ذهاب الثلثين و ان جعل غاية للحرمة في الروايات إلا ان النكتة المطلوبة من هذه الغاية موجودة في المقام و قد اعترض السيد الأستاذ دام ظله على ذلك بأنه رجم بالغيب إذ لا ندري بكنه تلك النكتة إلا أن الإنصاف ان هذا الوجه قريب من النفس إذا ضم إلى ما ذكر استظهار النكتة بقرينة الارتكازات العرفية إذ يوجد ارتكازان لا إشكال في ثبوتهما.

أحدهما ارتكاز أن الطبخ للعصير العنبي يوجب كونه عرضة للإسكار و الآخر انه بذهاب ثلثيه يغلظ و يفقد تلك الأجزاء التي بها يصير مسكرا و يسقط عن المعرضية للإسكار و عليه فينسبق بسبب هذين الارتكازين من دليل اشتراط ذهاب الثلثين في التحليل أنه لهذه النكتة و هذا الانسباق نوع من التبادر الذي يعطي للدليل ظهورا عرفيا في ذلك فيكون الميزان في التحليل هو الإخراج عن المعرضية للإسكار و هو يحصل بصيرورة العصير دبسا و لا مجال حينئذ لاستصحاب الحرمة لحكومة الظهور العرفي المدعى في الدليل عليه.

الوجه الرابع ما ذكره الشهيد الثاني قدس سره في المسالك من ان روايات الحرمة أخذ في موضوعها العصير و هذا ليس عصيرا بل هو دبس و اعترض عليه السيد الأستاذ دام ظله بأن مطهرية الانقلاب تحتاج إلى نص خاص و ان ما ذكره الشهيد خلط بين الانقلاب و الاستحالة فالاستحالة مطهرة على القاعدة لتبدل الصورة النوعية فيها بخلاف الانقلاب. و التحقيق ان نظر الشهيد قدس سره إلى حرمة العصير لا إلى نجاسته التي وصفها في‌


410
بحوث في شرح العروة الوثقى3

المقام الأول - في كفاية صيرورته دبسا في الحلية ؛ ج‌3، ص : 408

..........

______________________________
المسالك بأنها من المشهورات التي لا أصل لها و لا شك في ان الدليل الدال على حرمة عنوان لا يقتضي ثبوت الحرمة بعد زواله و لهذا قلنا في بحث مطهرية انقلاب الخمر خلا ان عدم شمول دليل نجاسة الخمر للخل المنقلب عن الخمر لا يحتاج إلى روايات خاصة و قد أكد السيد الأستاذ في بحث الانقلاب ان الحكم بارتفاع الذاتية بزوال العنوان على القاعدة فلا ادري لماذا اعترض بهذه الصورة على الشهيد في المقام و قد كان الأنسب أن يعترض عليه بان الانقلاب لا يرفع محذور النجاسة العرضية الحاصلة بسبب ملاقاة الظرف هذا بناءا على افتراض النجاسة حدوثا و اما على ما عرفت من ان نظر الشهيد إلى الحرمة فلا يرد الاعتراض المذكور أيضا نعم قد يرد عليه ان العصيرية بعد ان كانت من الخصوصيات التي لا يتغير الموضوع العرفي للحرمة بزوالها فيجري استصحاب الحرمة بناءا على جريان الاستصحاب في الشبهة الحكمية و يمكن دفع ذلك حينئذ بالتمسك بعموم حلية الطيبات.

و هذه الوجوه الأربعة لإثبات قصور المقتضي لو لم تتم جميعا لكفى تمامية بعضها في البناء على عدم حرمة الدبس المذكور.

و اما الجهة الثانية و هي في وجود المانع بعد فرض تمامية الإطلاق في دليل الحرمة فالذي ينبغي البحث عن مانعيته في نظري هو رواية عمر بن يزيد قال قال أبو عبد اللّه عليه السلام: إذا كان يخضب الإناء فاشربه «1» و الخضاب بمعنى إعطاء اللون الخاص المساوق للكثافة و القدر المتيقن من ذلك صيرورته دبسا فيتمسك بإطلاق هذه الرواية لإثبات جواز الشرب قبل ذهاب ثلثيه إذا صار دبسا بمرتبة يصدق معها الشرب. و يمكن المناقشة في هذا الاستدلال بعدة تقريبات:

الأول: ان هذه الرواية تارة تفسر بمعنى إعطاء الحكم الواقعي فحينئذ‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 7 من أبواب الأشربة المحرمة


411
بحوث في شرح العروة الوثقى3

المقام الأول - في كفاية صيرورته دبسا في الحلية ؛ ج‌3، ص : 408

..........

______________________________
تتم دلالتها على المقصود و اخرى تفسر بمعنى إعطاء الحكم الظاهري في مورد الشك في ذهاب الثلثين فلا تدل على المقصود و انما تفيد جعل الخضاب امارة على ذهاب الثلثين و مقتضى طبع الدليل و ان كان هو الحكم الواقعي ما لم يؤخذ الشك في موضوعه إلا ان الرواية في خصوص المقام مجملة لأن اسم كان غير مذكور في الجواب و انما يرجع إلى ما ذكره السائل و السؤال محذوف و كما يحتمل ان يكون قد سأل عن الحكم الواقعي كذلك يحتمل ان يكون قد سأل عن فرض الشك كما هو الحال في روايات اخرى تعرضت لحال الشك، منها- رواية لنفس عمر بن يزيد قلت لأبي عبد اللّه الرجل يهدى اليه البختج من غير أصحابنا. إلخ
«1».

الثاني انه مع تسليم دلالتها على الحكم الواقعي لا بد من ملاحظة نسبتها مع روايات محللية ذهاب الثلثين و توضيح ذلك ان هذه الرواية تدل بمنطوقها على قضية موجبة و هي جواز الشرب مع خضاب الإناء و بمفهومها على قضية سالبة و هي عدم جواز الشرب عند عدم الخضاب و روايات محللية ذهاب الثلثين تدل بالمنطوق على قضية موجبة و هي جواز الشرب مع ذهاب الثلثين و تدل بالمنطوق و بالمفهوم على قضية سالبة و هي عدم الجواز مع عدم ذهاب الثلثين و القضية الموجبة من كل منهما تعارض القضية السالبة من الأخرى بالعموم من وجه و حينئذ ان احتملنا ثبوتا كون ذهاب الثلثين بلا خضاب غير كاف في الحلية بأن لم يقم إجماع و نحوه على كون ذهابهما علة تامة للحلية قلنا ان الأمر دائر بين تقييد القضية الموجبة في كل منهما بالسالبة في الأخرى و تقييد السالبة بالموجبة فعلى الأول يكون المحلل مجموع ذهاب الثلثين و الخضاب و لا يكفي أحدهما و على الثاني يكون أحدهما كافيا و حيث لا مرجح لأحد التقييدين على الآخر فيتساقطان و نرجع في مادة الاجتماع إلى‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 7 من أبواب الأشربة المحرمة


412
بحوث في شرح العروة الوثقى3

المقام الأول - في كفاية صيرورته دبسا في الحلية ؛ ج‌3، ص : 408

..........

______________________________
مرجع فوقي و هو عموم حرمة العصير المغلي فإن القدر المتيقن خروجه منه هو فرض اجتماع الخضاب مع ذهاب الثلثين.

و ان لم نحتمل- بقرينة الإجماع- ان يكون ذهاب الثلثين محتاجا إلى قيد آخر أصبح منطوق قوله: إذا كان يخضب الإناء فاشربه هو المخصص لما دل على عدم جواز الشرب قبل ذهاب الثلثين و ذلك لان العكس غير ممكن إذ لو قيدنا خضاب الإناء بذهاب الثلثين- و قد افترضنا كفاية ذهابهما- لزمت لغوية أخذ الخضاب فهذا إلغاء للدليل لا تقييد له فالأمر يدور بين إلغاء دليل و تقييد دليل آخر و متى دار الأمر بينهما تعين التقييد فيثبت كون الخضاب كافيا هذا كله إذا افترضنا ان فرض ذهاب الثلثين بدون خضاب أمر عادي و اما إذا قلنا بان خضاب الإناء يحصل عادة قبل ذهاب الثلثين لأنه ليس بمعنى الدبسية فيكون ذهاب الثلثين أخص أو بحكم الأخص مطلقا من خضاب الإناء فتقيد رواية الخضاب بروايات اناطة الحلية بذهاب الثلثين.

الثالث انه بعد الغض عن كل ما مضى يقال ان هذه الرواية تعارض رواية معاوية بن وهب قال: سألت أبا عبد اللّه (ع) عن البختج فقال: إذا كان حلوا يخضب الإناء و قال صاحبه قد ذهب ثلثاه و بقي الثلث فاشربه «1» و هذه الرواية واردة في مورد الشك في ذهاب الثلثين بقرينة قوله (و قال صاحبه قد ذهب ثلثاه) فقيد الامام الجواب بأمرين أحدهما الخضاب و الثاني شهادة صاحبه بذهاب الثلثين فلو كان الخضاب يكفي وحده في الحلية الواقعية لم يكن هناك حاجة إلى ضم شهادة صاحب العصير بذهاب الثلثين اليه بخلاف ما إذا لم يكن الخضاب محللا فقد يكون المجموع منه و من اخبار صاحب العصير قد اعتبر امارة على ذهاب الثلثين. و المستخلص من مجموع ما تقدم عدم حرمة الدبس المذكور.

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 7 من أبواب الأشربة المحرمة


413
بحوث في شرح العروة الوثقى3

المقام الثاني - فيما يكون محللا للدبس إذا لم نقل بحليته في المقام الأول ؛ ج‌3، ص : 414

 

المقام الثاني- فيما يكون محللا للدبس إذا لم نقل بحليته في المقام الأول

______________________________
و قد قيل بأنه يلقى عليه الماء ثم يغلي حتى يكتمل ذهاب الثلثين و هذا لا يخلو من إشكال مطلقا أو على بعض التقادير على الأقل فإنه إذا قيل بعدم صدق عنوان العصير على الدبس المذكور و التزم بحرمته إما للاستصحاب التنجيزي للحرمة بدعوى ان زوال هذا العنوان لا يوجب تغير الموضوع و إما لأجل النجاسة لأن مجرد انقلاب العنوان لا يدفع محذور النجاسة فيشكل عندئذ إثبات محللية و مطهرية ذهاب الثلثين بالنحو المذكور لعدم شمول دليل المحللية له بعد زوال عنوان العصير عنه لأن الدليل إنما يقتضي كون ذهاب الثلثين محللا و مطهرا للعصير العنبي لا لكل محرم و نجس هذا تمام الكلام في مسائل حرمة العصير العنبي.

الجهة الثانية- في حرمة العصير الزبيبي و عدمها.

و لا شك في حرمته بالغليان إذا أصبح مسكرا كما هو الحال في المغلي بنفسه و أما بقطع النظر عن الإسكار‌

فقد يستدل على حرمة المغلي من العصير الزبيبي بوجوه:

منها- التمسك بإطلاق كلمة العصير أو عمومها

في روايات تحريم العصير العنبي إذ لم يقيد فيها بكونه عنبيا كما في رواية ابن سنان (كل عصير أصابته النار فهو حرام) و الصحيح في الجواب على هذا الوجه ان العصير قد يطلق بلحاظ معناه الاستقلالي أي شي‌ء يعصر و يضغط بغض النظر عن منشئه و أخرى يلحظ بالمعنى الإضافي أي عصير العنب و السفرجل و نحو ذلك فإن أريد الأول فقد يتوهم وجود الإطلاق في الروايات و إن أريد الثاني فهذا يعني أن المقصود منه ملحوظ ضمنا و مقدر ذهنا و المتيقن من هذا المقدر هو العنب و لا مجال لإجراء مقدمات الحكمة لإثبات الأعم في موارد تردد المقدر بين مفهومين أحدهما أعم من الآخر كما أشرنا الى ذلك سابقا فلا يمكن التمسك بإطلاق العصير في الروايات و المتعين بحسب المتفاهم العرفي‌

 

 

 

414
بحوث في شرح العروة الوثقى3

منها - التمسك بإطلاق كلمة العصير أو عمومها ؛ ج‌3، ص : 414

..........

______________________________
هو الثاني لوضوح أن مجرد كون الشي‌ء يعصر ليس ملاكا للحرمة بالارتكاز العرفي و لهذا ألغيت بالارتكاز خصوصية العصر رأسا كما تقدم و التزم بشمول الحكم بالحرمة لما إذا غلا ماء العنب الخارج بدون عصر فارتكازية أن نفس العصر بما هو لا دخل له في الحرمة يكون قرينة عرفا على ملاحظة المعنى الإضافي المستبطن للتقدير و معه يبطل الإطلاق لعدم الدليل على كون المقدر هو الأعم و قد يؤيد القرينة المذكورة استلزام الحمل على المعنى الأول لتخصيص الأكثر و هو مستهجن إذا لم نفرض احتفاف الكلام بارتكازات لبية عرفية توجب إخراج ذلك الأكثر و إلا لم يكن مستهجنا لأن المستهجن تخصيص الأكثر بالمنفصل لا بالمتصل.

و قد يجاب عن التمسك بالإطلاق بما نقله شيخ الشريعة قدس سره عن النراقي من أن استعمال كلمة العصير في الروايات لو كان جاريا حسب الأوضاع النوعية لهيئة فعيل أمكن التمسك بإطلاقها إذ لم يؤخذ في هيئة فعيل خصوصية شي‌ء و لكنه ليس كذلك بل هو استعمال مجازي لأن فعيل تدل بطبعها على اسم الفاعل تارة و على اسم المفعول أخرى و في المقام لا يصح استعمال كلمة العصير لا بمعنى اسم الفاعل من قبيل الخطيب و البشير لأن فاعل العصر إنما هو الإنسان و لا بمعنى اسم المفعول من قبيل الجريح و الكسير لأن المعصور إنما هو العنب فاستعمال العصير في ماء العنب مجاز و معه فقد يكون مستعملا في الخاص ابتداء.

و قد اعترض شيخ الشريعة قدس سره على كلام النراقي أن كلمة فعيل كما تطلق على المفعول الذي يتعدى الفعل إليه بلا واسطة كما في جريح كذلك تطلق على ما يتعدى الفعل إليه بالحرف كما في نقيع إذ تطلق على الماء و ليس هو المنقع بل المنقع فيه و عليه فإطلاق عصير على الماء حقيقي لأنه و إن لم يكن هو المعصور لكنه المعصور منه. و هذا الكلام غريب فان المعصور منه يعني‌


415
بحوث في شرح العروة الوثقى3

منها - التمسك بإطلاق كلمة العصير أو عمومها ؛ ج‌3، ص : 414

..........

______________________________
المعصور من العنب و هذا يعني ان الفعل تعدى بمن الى العنب و اما ماء العنب فقد تعدى الفعل إليه مباشرة و ليس الماء بالنسبة إلى العصير كالماء المنقع فيه بالنسبة إلى النقيع.

و الصحيح في دفع كلام النراقي قدس سره إنكار المجازية لأن الماء جزء العنب فهو يعصر بعصير العنب حقيقة و لو سلمت المجازية فهي ذات نكتة عرفية نسبتهما الى كل أقسام العصير على نحو واحد فينعقد ظهور في الإطلاق أيضا لو لا ما تقدم منا.

و يظهر من صاحب الحدائق قدس سره دعوى وجود المقيد لو سلم الإطلاق في كلمة العصير الواردة في الروايات و المقيد ما دل من الروايات على ان العصير من الكرم كما في رواية عبد الرحمن بن الحجاج المتقدمة (الخمر من خمسة العصير من الكرم و النقيع من الزبيب. الحديث) فكأنه يستفيد من قوله العصير من الكرم حصر العصير بما يؤخذ من العنب و يرد عليه ان هذا انما يتصور فيما إذا كان القول المذكور مشتملا على نسبة تامة فقد يستظهر منه الحصر حينئذ لكن الأمر ليس كذلك فان هذا الكلام وقع اخبارا عن أقسام الخمر و جملة العصير من الكرم جملة ناقصة ذكرت كقسم من أقسام الخمر فلا تدل على حصر العصير بالعنب بوجه.

ثم انه قد ينفى انطباق عنوان العصير على ماء الزبيب رأسا بدعوى ان العصير هو الماء المستخرج لا الملقى على الشي‌ء من الخارج فلا تشمل الروايات ماء الزبيب و لو تم الإطلاق فيها، و هذا الكلام ان أريد به نفي عنوان العصير على الماء بمجرد إلقائه على الزبيب فهذا واضح و لكننا نتكلم حينئذ عما امتصه الزبيب من هذا الماء و ان أريد به ان العصير متقوم بكون الماء المعصور موجودا بالأصالة في ما يعصر منه فعهدة هذه الدعوى على مدعيها بل الظاهر ان العصير إذا لوحظ بمعناه الاستقلالي و بما هو شي‌ء‌


416
بحوث في شرح العروة الوثقى3

و منها - الاستدلال برواية زيد النرسي ؛ ج‌3، ص : 417

 

..........

______________________________
يعصر فهو ينطبق على ما يخرج بالضغط من الماء و لو كان امتصاص المضغوط له عرضيا و على أي حال فما ذكرناه أولا كاف في دفع التمسك بالإطلاق‌

و منها- الاستدلال برواية زيد النرسي

حيث ورد في كتاب منسوب إليه أنه قال: سئل أبو عبد اللّه (ع) عن الزبيب يدق و يلقى في القدر ثم يصب عليه الماء و يوقد تحته فقال: لا تأكله حتى يذهب الثلثان و يبقى ثلثه فان النار قد اصابته قلت: فالزبيب كما هو في القدر و يصب عليه الماء ثم يطبخ و يصفي عنه الماء فقال: كذلك هو سواء إذا أدت الحلاوة إلى الماء فصار حلوا بمنزلة العصير ثم نش من غير ان تصيبه النار فقد حرم و كذلك إذا أصابته النار فأغلاه فقد فسد «1» و هذه الرواية بهذا المتن نقلها في البحار عن أصل زيد النرسي إلا ان جملة من الفقهاء نقلوا هذه الرواية عن أصل زيد النرسي بمتن آخر يختلف بمقدار ما عن هذا المتن إلا انه يتفق في إثبات أصل الحرمة و لا شك في ظهور الرواية في الحرمة و الاشكال في ذلك بدعوى ان التعبير ب‍ (حرم) في فرض الغليان في نفسه و العدول عن ذلك إلى (فسد) في فرض الغليان بالنار يقتضي اختلاف المقصود و كون المراد في الأخير غير الحرمة مدفوع بان الفساد ظاهر عرفا في الحرمة و العدول لا يقتضي اختلاف المقصود خصوصا مع التعبير ب‍ (و كذلك) فإنه واضح عرفا في المساواة في الحكم فلا إشكال في الدلالة و انما الكلام في سندها فقد نقلت الرواية عن أصل زيد النرسي و هو من أصحاب الصادق و الكاظم و لم تنقل في الكتب الأربعة و انما وجدت الرواية في نسخة مخطوطة منسوبة لمنصور بن الحسن الابي عثر عليها المجلسي و ذكرها في البحار و شاع الاستدلال بها. و الكلام في هذا السند يتلخص في أربع نقاط:

النقطة الاولى: في تحقيق حال زيد النرسي

فإن هذا الرجل لم يصرح‌

______________________________
(1) مستدرك الوسائل باب 2 من أبواب الأشربة المحرمة.

 

 

 

417
بحوث في شرح العروة الوثقى3

النقطة الثانية: في تحقيق ان زيدا هل له أصل بالنحو الذي تفترضه الرواية المذكورة أو لا؟ ؛ ج‌3، ص : 418

..........

______________________________
بتوثيقه غير أنه يمكن إثبات وثاقته اما عن طريق رواية ابن أبي عمير عنه بسند صحيح في جملة من الروايات بناء على الكبرى المقبولة لنا و هي: ان الثلاثة- ابن أبي عمير و صفوان بن يحيى و ابن أبي نصر البزنطي- لا يروون إلا عن ثقة أو عن طريق وقوعه في أسانيد كامل الزيارات بناءا على كبرى غير مقبولة تقتضي بشمول توثيق صاحب الكتاب لجميع من دخل في أسانيده‌

النقطة الثانية: في تحقيق ان زيدا هل له أصل بالنحو الذي تفترضه الرواية المذكورة أو لا؟

فالشيخ الطوسي و النجاشي ذكرا أنه كان له كتاب و نقلاه عن ابن أبي عمير و صرح النجاشي بطريقه اليه و يعارض ذلك ما نقله الشيخ في الفهرست عن الصدوق و شيخه إذ قال: زيد النرسي و زيد الزراد لهما أصلان لم يروهما محمد بن علي بن الحسين.

و قال في فهرسته: لم يروهما محمد بن الحسن الوليد و كان يقول: هما موضوعان و كذلك كتاب خالد بن عبد اللّه بن سدير و كان يقول وضع هذه الأصول محمد بن موسى الهمداني و يمكن ان نضعف هذه الشهادة النافية بأمور:

منها- ما نقل عن ابن الغضائري- على تقدير ثبوت كلماته- من تخطئة الصدوق و شيخه في ذلك قائلًا: قال أبو جعفر: ان كتبهما موضوع وضعه محمد بن موسى السمان و غلط أبو جعفر في هذا القول فإني رأيت كتبهما مسموعة من محمد بن أبي عمير.

غير ان ظاهر كلام ابن الغضائري على تقدير ثبوته الاعتماد في معارضة أبي جعفر على قرينة حدسية و هي أنه لو كان محمد بن موسى هو الواضع لوقع في طريق نقل الموضوع و هذه القرينة ندركها أيضا فلا يزيدنا كلام ابن الغضائري شيئا.

و منها- انتشار النقل في كتب الأصحاب عن محمد بن أبي عمير عن زيد النرسي كما في كتب الصدوق نفسه و كتاب كامل الزيارات و الكافي حتى قال بعضهم ان الصدوق لعله أيضا عدل عن إنكاره للأصل لأنه نقل‌


418
بحوث في شرح العروة الوثقى3

النقطة الثالثة - هي أنه كيف نثبت وجود هذه الرواية في أصل زيد النرسي ؛ ج‌3، ص : 419

..........

______________________________
عن محمد بن أبي عمير عن زيد النرسي في كتاب ثواب الأعمال إلا ان هذه القرينة لا يمكن الاعتماد عليها إذا لم يعلم كون النقل عن أصل النرسي و ليس في المنقول ما يدل على ذلك.

و منها- ان الروايات المنقولة عن زيد النرسي في الكتب المعتبرة موجودة في الأصل المنسوب اليه و من البعيد بحساب الاحتمالات وضع كتاب مزور على شخص و تقع فيه من باب الصدفة تمام الروايات التي نقلت في الواقع عنه و لكن هذا انما يستبعد إذا لم يكن الواضع بصيرا و احتمل اعماله للعناية في التلبيس و التقاط الصحيح و دسه في غيره للتمويه.

و منها- انه يغلب على الظن ان يكون كلام الصدوق و شيخه مبنيا على الحدس لا على حس واضح إذ يبعد ذلك ان الرجال الذين وقعوا في طريق النجاشي إلى النرسي و الزراد كلهم تقريبا من كبار القميين أي من كبار الحوزة التي عاش فيها محمد بن الحسن الوليد و الصدوق ففي ترجمة زيد الزراد قال النجاشي له كتاب أخبرنا به محمد بن محمد (يعني المفيد و هو ليس قميا) قال حدثنا جعفر بن محمد (يعني ابن قولويه القمي من كبار القميين) قال حدثني أبي و علي بن الحسين (يعني أبا الصدوق الذي ضعف الكتاب) قال حدثنا علي بن إبراهيم بن هاشم القمي. إلخ فهؤلاء معاصرون للصدوق و لشيخه أو متقدمون عليهما حسب اختلاف رتبهم فكيف يفرض ان تزوير تلك الأصول كان واضحا عند الصدوق و شيخه على مستوى الحس و اختفى مع ذلك على هؤلاء الذين عاشوا نفس ظروفه هذا مضافا إلى ما أشار إليه ابن الغضائري من قرينة خلوا الطريق من محمد ابن موسى على عدم صحة التهمة فلا يبعد اذن وجود أصل لزيد في الجملة،

النقطة الثالثة- هي أنه كيف نثبت وجود هذه الرواية في أصل زيد النرسي

فقد وجدت نسخة عتيقة قال عنها المجلسي بأنها بخط الشيخ منصور بن الحسن الآبي و لنفرض الآن العلم بان تلك النسخة كانت بخط‌


419
بحوث في شرح العروة الوثقى3

النقطة الرابعة - لو سلمنا تمامية سند الابي الى زيد ؛ ج‌3، ص : 420

..........

______________________________
الشيخ منصور و لكن من الواضح ان كتاب زيد النرسي ليس من المتواترات التي لا تحتاج إلى سند فلا بد من معرفة سند الابي الذي هو من تلامذة الطوسي إلى زيد النرسي الذي هو من أصحاب الصادق و الكاظم بعد الفراغ عن وثاقة الابي نفسه و قد جاء في أول هذه النسخة على ما في البحار:

حدثنا الشيخ أبو محمد هارون موسى بن أحمد التلعكبري أيده اللّه قال حدثنا أبو العباس أحمد بن محمد سعيد الهمداني قال حدثنا جعفر بن عبد اللّه العلوي أبو عبد اللية المحمدي قال حدثنا محمد بن أبي عمير عن زيد النرسي و هذا السند بتمامه لا بأس به إلا ان هذا ليس هو كلام الابي و انما استنسخ الآبي هذه النسخة عن شخص آخر و هو محمد بن الحسن القمي و هذا ينقل عن التلعكبري و لا يمكن للآبي أن ينقل عن التلعكبري مباشرة و قد قال المجلسي قدس سره أخذناها من نسخة عتيقة مصححة بخط الشيخ منصور بن الحسن الآبي و هو نقله من خط الشيخ الجليل محمد بن الحسن القمي و كان تاريخ كتابتها (يعني عند القمي) سنة 374 و ذكر (يعني القمي) انه أخذها و سائر الأصول المذكورة بعد ذلك من خط الشيخ الأجل هارون بن موسى التلعكبري و هنا يوجد إشكالان في هذا السند أحدهما أن الشيخ الابى لم يعاصر محمد بن الحسن القمي و الموثوق به انه لم يكن مولودا بعد في تاريخ كتابة النسخة فلا بد له من طريق اليه و هو مجهول عندنا، و قد يعالج هذا الاشكال بلحاظ كان الابي حصل على النسخة بخط القمي فلعل خط القمي لقرب العهد كان معروفا مشهورا على نحو ترجع شهادة الآبي معه إلى الحسن. و الاشكال الآخر ان محمد بن الحسن القمي لم تثبت وثاقته لا من كان بهذا العنوان الذي ورد في كلام المجلسي و لا بعنوان أبي الحسن محمد بن الحسين بن أيوب القمي الذي نقل المحدث المحقق النوري وجدان اسمه على نسخة من أصل زيد الزراد و بذلك يسقط السند.

النقطة الرابعة- لو سلمنا تمامية سند الابي الى زيد

يبقى انه كيف‌


420
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الوجه الثالث - رواية علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليهما السلام ؛ ج‌3، ص : 421

..........

______________________________
نثبت أن النسخة التي وجدها المجلسي هي بخط الآبي و ليس هناك شاهد على ذلك إلا وجود اسمه عليها و ليس للمجلسي طريق متصل في مقام نقلها و مجرد أن الروايات المنقولة في الكتب عن زيد موجودة في هذه النسخة لا يوجب الاطمئنان بعدم وقوع التحريف على الأقل بزيادة أو نقيصة خصوصا مع اشتمال النسخة على روايات غريبة و معان مستنكرة من قبيل رؤية اللّه تعالى و مخاصرة المؤمن له يوم القيامة و قال هكذا: يخاصره (تعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا) و هذا يوجب احتمال أن هذه النسخة هي التي زورها محمد بن موسى و لعلها غير النسخة التي كان للنجاشي طريق صحيح لها الى محمد بن أبي عمير. و نستخلص من كل ذلك عدم تمامية الرواية.

الوجه الثالث- رواية علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليهما السلام

قال: سألته عن الزبيب هل يصلح أن يطبخ حتى يخرج طعمه ثم يؤخذ الماء فيطبخ حتى يذهب ثلثه ثم يرفع فيشرب منه السنة؟ فقال: لا بأس به «1» فيقال: لو فرض حليته حتى قبل ذهاب الثلثين فأي وجه للتقييد بذهاب الثلثين و بقاء الثلث في هذه الرواية.

إلا أن هذه الرواية غير تامة سندا و لا دلالة:

أما من حيث السند فلأنه رواها الكليني بسند فيه سهل بن زياد و هو غير ثابت الوثاقة عندنا و رواها الحميري في قرب الأسناد عن عبد اللّه بن الحسن عن علي بن جعفر و لا لبني على وثاقة عبد اللّه بن الحسن.

و أما من حيث الدلالة فلأن غاية ما تدل عليه هذه الرواية هي أنه كان من المركوز في ذهن السائل وجود محذور فارق بين ما قبل ذهاب الثلثين و ما بعده و الامام (ع) أمضاه بالسكوت و كما يحتمل أن يكون ذلك المحذور المركوز في ذهنه هو الحرمة الفعلية كذلك يحتمل أن يكون هو‌

______________________________
(1) الوسائل ج 17 ب 8 من أبواب الأشربة المحرمة، ح 2 ص 236.


421
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الوجه الرابع - رواية إسماعيل بن الفضل الهاشمي ؛ ج‌3، ص : 422

..........

______________________________
المعرضية للإسكار.

و مما يشهد أو يؤيد الثاني قوله: فيشرب منه السنة، فهذا مؤيد لكون نظره الى الحرمة التي تحصل من امتداد الزمان و هي حرمة النش من نفسه و الإسكار فيرجع جواب الإمام إلى أنه بعد ذهاب الثلثين ترتفع المعرضية و الحرمة الاسكارية.

الوجه الرابع- رواية إسماعيل بن الفضل الهاشمي

قال: شكوت الى أبي عبد اللّه عليه السلام قراقر تصيبني في معدتي و قلة استمرائي الطعام فقال لي: لم لا تتخذ نبيذا نشربه نحن و هو يمرئ الطعام و يذهب بالقراقر و الرياح من البطن، قال: فقلت له: صفه لي جعلت فداك قال: تأخذ صاعا من زبيب فتنقيه من حبه و ما فيه ثم تغسل بالماء غسلا جيدا ثم تنقعه في مثله من الماء أو ما يغمره ثم تتركه في الشتاء ثلاثة أيام بلياليها و في الصيف يوما و ليلة فاذا أتى عليه ذلك القدر صفيته و أخذت صفوته و جعلته في إناء و أخذت مقداره بعود ثم طبخته طبخا رقيقا حتى يذهب ثلثاه و يبقى ثلثه ثم تجعل عليه نصف رطل عسل و تأخذ مقدار العسل ثم تطبخه حتى تذهب الزيادة ثم تأخذ زنجبيلا و خولنجان و دار صينى و زعفران و قرنفلا و مصطكى و تدقه و تجعله في خرقة رقيقة و تطرحه فيه و تغليه معه غلية ثم تنزله فاذا برد صفيت و أخذت منه على غدائك و عشائك قال: ففعلت فذهب عنى ما كنت أجده و هو شراب طيب لا يتغير إذا بقي إن شاء اللّه «1».

و قد يناقش في دلالة الحديث بحمله على أن السائل راجع الامام هنا كطبيب و الامام أعطاه و صفة فيدل على أن ذهاب الثلثين دخيل في الدواء و يؤيد ذلك بأن في بعض الروايات نقل الأمر بإذهاب الثلثين عن الأطباء كما عن السياري عمن ذكره عن إسحاق بن عمار قال: شكوت الى‌

______________________________
(1) الوسائل ج 17 ب 5 من أبواب الأشربة المحرمة ح 4 ص 231 و 232.


422
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الوجه الرابع - رواية إسماعيل بن الفضل الهاشمي ؛ ج‌3، ص : 422

..........

______________________________
أبي عبد اللّه (ع) بعض الوجه و قلت له ان الطبيب وصف لي شرابا آخذ الزبيب و أصب عليه الماء الواحد اثنين ثم أصب عليه العسل ثم أطبخه حتى يذهب ثلثاه و يبقى الثلث قال: أ ليس حلوا؟ قلت: بلى، قال: أشربه و لم أخبره كم العسل
«1».

إلا أن حمل الحديث على مراجعة الإمام بوصفه طبيبا بعيد في نفسه و الذي يظهر من ملاحظة مجموع الروايات الواردة في هذا الباب أن الناس وقتئذ وقعوا في مشكلة حينما حرم عليهم الخمر و المسكر لأنهم كانوا معتادين على أن يستعينوا على هضم غذائهم باستعمال المسكر حتى أفتى بعض علمائهم بجواز استعمال المسكر الكأس و الكأسين و الثلاثة و الأربعة ما لم يبلغ درجة توجب فقد وعيه و صيرورته إنسانا غير متوازن و هذا الشخص يشتكي من هذه الناحية الى الامام بما هو إمام أي بما هو محرم للمسكر فيقول: أنت نحرم المسكر و أنا مبتلى بالقراقر فما ذا أصنع فيقول: اشرب ما نحن نشربه أي اشرب شرابا ليس مسكرا أو محرما.

و الحاصل أن ظهور الرواية في أن الامام بصدد بيان شراب خال من المحذور الشرعي و الاطمئنان بذلك و لو بلحاظ مجموع الروايات مما لا ينبغي الإشكال فيه.

لكن لعل هذا المحذور هو المعرضية للإسكار لا الحرمة الفعلية فالشارع اعطى قاعدة عامة و هي أنه بعد التثليث لا يكون مسكرا و يكون حلالا ما لم يثبت صدفة إسكاره فالرواية مجملة ان لم نقل بان ظاهرها هو ذلك أي النظر إلى المعرضية للإسكار بقرينة قوله: و هو شراب طيب لا يتغير إذا بقي إن شاء اللّه فهذا يناسب النظر إلى المحذور الذي ينشأ من طول الزمان و هو الإسكار.

______________________________
(1) المصدر ح 5 ص 232


423
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الوجه الخامس - رواية عمار ؛ ج‌3، ص : 424

..........

______________________________
مضافا إلى أن الحديث غير معتبر سندا لما فيه من الإرسال بغض النظر عن ملاحظة حال نفس المذكورين في السند.

الوجه الخامس- رواية عمار

و له روايتان و المطمئن به أنهما واقعة واحدة باعتبار أن كلا منهما تتعرض إلى سنخ سؤال واحد و جواب واحد بتمام تفاصيله مع وحدة الراوي عنه و الراوي عن الراوي عنه فيحصل الاطمئنان بحساب الاحتمالات بأنه واقعة واحدة و لكن نقل بالمعنى فاختلف النقل واحد السندين غير معتبر و الآخر معتبر و ان أطلق في بعض الكتب على كلتا الروايتين انهما موثقتان.

اما الطريق غير المعتبر فهو هذا: محمد بن يعقوب عن محمد بن يحيى عن علي بن الحسن (يعنى ابن فضال) أو رجل عن على بن الحسن عن عمرو بن سعيد عن مصدق بن صدقة عن عمار بن موسى الساباطي «1» فهنا كأن محمد بن يحيى متردد لا يدري هل سمع الحديث ابتداء من علي بن الحسن أو سمعه من رجل عن علي بن الحسن و بهذا يسقط عن الحجية.

و اما الطريق الآخر المعتبر فهو هذا: محمد بن يعقوب عن محمد بن يحيى عن محمد بن أحمد عن أحمد بن الحسن عن عمرو بن سعيد عن مصدق عن عمار عن أبي عبد اللّه (ع) قال سئل عن الزبيب كيف يحل طبخه حتى يشرب حلالا قال تأخذ ربعا من زبيب فتنقيه ثم تطرح عليه اثنى عشر رطلا من ماء ثم تنقعه ليلة فاذا كان من غد نزعت سلافته ثم تنزع مائه فتصبه على الأول ثم تطرحه في إناء واحد ثم توقد تحته النار حتى يذهب ثلثاه و يبقى ثلثه و تحته النار ثم تأخذ رطل عسل فتغليه بالنار غلية و تنزع رغوته ثم تطرحه على المطبوخ ثم اضربه حتى يختلط به و اطرح فيه ان شئت زعفرانا و طيبته إن شئت بزنجبيل قليل قال فإن أردت أن تقسمه أثلاثا لتطبخه‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة ج 17 باب 5 من أبواب الأشربة المحرمة ح 2 ص 230


424
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الوجه السادس - التمسك بإطلاق الشراب في بعض الروايات ؛ ج‌3، ص : 425

..........

______________________________
فكله بشي‌ء واحد حتى تعلم كم هو ثم اطرح عليه الأول في الإناء الذي تغليه فيه ثم تضع فيه مقدارا و حدّه حيث يبلغ الماء ثم اطرح الثلث الآخر وحده حيث يبلغ الماء ثم اطرح الثلث الآخر وحده حيث يبلغ الماء ثم توقد تحته بنار لينة حتى يذهب ثلثاه و يبقى ثلثه
«1».

و تقريب الاستدلال بهذه الرواية هو ان عمارا يسئل انه كيف يحل طبخه بحيث يشرب حلالا فبين الامام (ع) انه لا بد من إذهاب الثلثين و مقتضى ذلك الحرمة قبل ذهاب الثلثين.

و الإنصاف عدم تمامية الدلالة إذ أنا لو نظرنا إلى السؤال وحده فإنما يدل على ارتكاز محذور في نظر الراوي يبتلى به العصير الزبيبي أحيانا فأراد أن يعرف طريقا يتخلص به عنه و لعل ذاك المحذور عبارة عن مشكلة الإسكار لا الحرمة بالغليان و لو لم يسكر و اما الجواب فان كان الامام (ع) في مقام حصر الطريقة المحللة دل على ان المحلل منحصر في إذهاب الثلثين و لا يكفى التعجيل بالشرب قبل ان يتخمر و لكن لم يثبت كونه (ع) بصدد الحصر فلعله بصدد بيان مصداق حلال لا محذور فيه و لو كان بصدد الحصر للزم انتفاء الحل بانتفاء أي قيد من هذه القيود الكثيرة المذكورة في الكلام في حين انه ليس كذلك حتما.

الوجه السادس- التمسك بإطلاق الشراب في بعض الروايات

من قبيل رواية عمار في حديث انه سئل عن الرجل يأتي بالشراب فيقول هذا مطبوخ على الثلث قال ان كان مسلما و ورعا مؤمنا (مأمونا) فلا بأس بأن يشرب «2».

و هذا من أسخف الاستدلالات و هو أسخف من الاستدلال بإطلاق‌

______________________________
(1) الوسائل ج 17 الباب 5 من أبواب الأشربة المحرمة ح 3 ص 231.

(2) وسائل ج 17 الباب- 7- من أبواب الأشربة المحرمة ح 6 ص 235.


425
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الوجه السابع - هو التمسك بالاستصحاب التعليقي ؛ ج‌3، ص : 426

 

..........

______________________________
العصير فإنه يرد عليه كلما ورد هناك مضافا إلى انه ليس بصدد بيان حرمة الشراب و انما هو- بعد الفراغ عن حرمة الشراب- بصدد بيان الوظيفة الظاهرية عند الشك في ذهاب الثلثين من ذلك الشراب المحرم في نفسه.

الوجه السابع- هو التمسك بالاستصحاب التعليقي

بأن يقال: ان هذا حيثما كان عنبا كان عصيره يحرم بالغليان فكذلك الآن و البحث عن كبرى الاستصحاب التطبيقي في محله في الأصول و بينا هناك جريانه في أمثال هذه الموارد على تفصيل لا يسعه المقام هنا و الحاصل ان الكبرى عندنا تامة و انما الكلام في الصغرى فهنا اشكال قوي ذكره عدة من الفقهاء و هو انه يشترط في الاستصحاب وحدة الموضوع تنجيزيا كان أو تعليقيا و الموضوع هنا ليس واحدا لا بدعوى ان الزبيب و العنب اثنان عرفا و انه كصيرورة الكلب ملحا فإنه بالإمكان ان يقال ان صيرورة العنب زبيبا انما هو عبارة عن جفافه و جفاف الشي‌ء المرطوب لا يوجب عرفا صيرورته موضوعا جديدا مغايرا للأول بل بلحاظ ان العصير في القضية المتيقنة أريد به الماء الأصلي للعنب و في القضية المشكوكة أريد به ماء خارجي ممزوج معه فقد تعدد الموضوع فلا يجرى الاستصحاب هذا تمام الكلام في أدلة حرمة العصير الزبيبي إذا غلا و لم يكن مسكرا و قد اتضح عدم تمامية شي‌ء منها.

و هناك أدلة على عدم حرمة العصير الزبيبي في مقابل أدلة الحرمة

ننظر فيها لكي نرى هل يتم شي‌ء منها أولا و تظهر فائدتها على تقدير البناء على تمامية بعض الأدلة السابقة على الحرمة فيعارض بما دل على الحلية فقد يتوصل الى تقييد دليل الحرمة بصورة الإسكار مثلا و قبل الخوض في أدلة عدم الحرمة نذكر نكتة و هي أن ما يعقل من أدلة الحرمة تقييده بصورة الإسكار بمقتضى أدلة الحلبة إنما هو ما يكون من قبيل رواية عمار الساباطي:

سئل عن الزبيب كيف يحل طبخه حتى يشرب حلالا إلخ، و قد جاء في‌

 

 

 

426
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الدليل الأول - عمومات الحل ؛ ج‌3، ص : 427

..........

______________________________
الجواب قيد ذهاب الثلثين بناءا على استفادة الحصر من ذلك فتدل بمفهوم الحصر على الحرمة قبل ذهاب الثلثين و هذا مطلق يشمل فرض الإسكار و عدمه فيمكن تقييده بفرض الإسكار و اما ما يكون بلسان أن العصير الزبيبي إذا غلا يحرم من قبيل رواية زيد النرسي فلا يمكن عرفا تقييده بخصوص حالة الإسكار لأن المستفاد من كون الحرمة لعنوان العصير الزبيبي المغلي و تقييده بالأسكار يرجع الى إلغاء هذا العنوان و الرجوع الى عنوان آخر و هو المسكر الذي هو حرام سواء كان زبيبا مغليا أولا إذا عرفت ذلك فلنشرع في أدلة حلية العصير الزبيبي و هي ستة:

الدليل الأول- عمومات الحل

من قبيل آية خَلَقَ لَكُمْ مٰا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً، فإنها تدل على حلية كل شي‌ء للإنسان إلا ما خرج بالدليل.

و هذا الدليل و إن كان تاما في نفسه لكنه لا يقاوم شيئا من أدلة الحرمة لو تمت عدا الاستصحاب فيقدم عليه بناءا على ما هو الصحيح من تقدم العام عند دوران الأمر بين عموم العام و استصحاب حكم المخصص و اما الأدلة الأخرى فتقدم عليه لو تمت لكونها أخص منه.

الدليل الثاني- الأدلة الاجتهادية للحل التي موضوعها غير المسكر

و هذا هو فرقه عن الأول إذ الأول يشمل المسكر و أنواعه ثلاثة:

الأول- ما دل كتابا و سنة على حصر الحرام من الطعام بالميتة و الدم و الخمر و المسكر و نحو ذلك من قبيل رواية محمد بن عذافر عن أبيه عن أبي جعفر (ع) قال: قلت له: لم حرم اللّه الخمر و الميتة و لحم الخنزير و الدم فقال: ان اللّه تبارك و تعالى لم يحرم ذلك على عباده و أحل لهم ما وراء ذلك من رغبة فيما أحل لهم و لا زهد فيما حرمه عليهم و لكنه خلق الخلق فعلم ما تقوم به أبدانهم و ما يصلحهم فأحله لهم و اباحه لهم و علم ما يضرهم‌


427
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الدليل الثالث - ما دل من الروايات على ان مناط التحريم في النبيذ هو الإسكار ؛ ج‌3، ص : 428

..........

______________________________
فنهاهم عنه- الحديث-
«1» بناءا على ان يكون هذا في مقام البيان من هذه الناحية فيدل على حلية ما عدا ذلك.

الثاني- ما دل على حصر الحرام من الشراب بالمسكر من قبيل رواية تحت العقول التي جاء فيها: و ما يجوز من الأشربة من جميع صنوفها فما لم يغير العقل كثيره فلا بأس بشربه «2» و هناك روايات بمضمون حرم: اللّه الخمر بعينها و حرم رسول اللّه (ص) من الأشربة كل مسكر من قبيل رواية الفضيل «3» و سبق الكلام في انه هل يستفاد منها الحصر أولا؟.

الثالث- ما دل على تحليل الطيبات و هو الآية الشريفة إذ الطيبات لا تشتمل المسكر بحسب الارتكاز المتشرعي.

فهذه الأدلة تعارض بالعموم من وجه مع ما دل على حرمة العصير الزبيبي إذا كان قابلًا للتقييد بغير المسكر من قبيل موثقة عمار فان هذه الأدلة تدل على حلية ما عدا المسكر سواء كان عصيرا زبيبيا أو لم يكن و ذاك يدل على حرمة العصير الزبيبي سواء كان مسكرا أولا و بعد التعارض يبنى على الحلية إما لترجيح جانب أدلة الحل لان بعضها من الكتاب الكريم و اما للتساقط و الرجوع إلى ما أشير إليه في الدليل الأول من عمومات الحل،

الدليل الثالث- ما دل من الروايات على ان مناط التحريم في النبيذ هو الإسكار

و هذا يدل بظهوره على أنه بلا إسكار لا يوجد تحريم فيقع طرفا للمعارضة مع موثقة عمار التي دلت- حسب الفرض- على حرمة العصير الزبيبي المطبوخ سواء أسكر أو لا و هذه الروايات بعضها ورد في العصير التمري و هذا لا ينفعنا إذ كلامنا في العصير الزبيبي و بعضها ورد‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة ج 17 باب 1 من أبواب الأطعمة المحرمة ح 1 ص 2

(2) وسائل الشيعة ج 17 باب 42 من أبواب الأطعمة المباحة الحديث الوحيد في الباب ص 62.

(3) وسائل الشيعة ج 17 باب 15 من أبواب الأطعمة المحرمة ح 6.


428
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الدليل الثالث - ما دل من الروايات على ان مناط التحريم في النبيذ هو الإسكار ؛ ج‌3، ص : 428

..........

______________________________
في العصير الزبيبي أو مطلق يشمل الزبيبي و التمري معا كما ان الذي ينفعنا في المقام لإيقاع المعارضة بينه و بين موثقة عمار انما هو ما ورد في العصير المطبوخ أو على الأقل يشمل بإطلاقه المطبوخ و اما ما يختص بما قبل الطبخ فليس له أي تعارض مع موثقة عمار و قبل الشروع في ذكر هذه الروايات نذكر صناعة المطلب على التقادير المنصورة في الروايات ثم نشرع في التكلم في كل واحدة من تلك الروايات لنرى انها داخلة في أي تقدير من تلك التقادير و هي تقادير ستة اثنان منها لا يفيدنا في مقام إيقاع المعارضة بينها و بين موثقة عمار و هما كما ظهر مما قلناه عبارة عن تقدير كون الرواية مخصوصة بالعصير التمري و تقدير كونها مخصوصة بما قبل الطبخ و أربعة منها تفيدنا:

التقدير الأول- ان تكون الرواية الدالة على أن المناط في التحريم هو الإسكار مطلقة من حيث كون النبيذ زبيبيا أو تمريا و من حيث ما قبل الطبخ و ما بعد الطبخ.

الثاني- أن تكون مطلقة من حيث الزبيبية و التمرية و مختصة بما بعد الطبخ.

الثالث- أن تكون بعكس الثاني أي مطلقة من حيث الطبخ و عدمه و مختصة بالزبيب.

الرابع- أن تكون واردة في خصوص الزبيب و فيما بعد الطبخ.

و هذه الروايات على أي تقدير من هذه التقادير الأربعة تنفع في المقام مقابل موثقة عمار لكنه على اختلاف الدرجات فأحسن هذه التقادير الرابع فإن الرواية تصبح أخص مطلقا من موثقة عمار و تقيدها بصورة الإسكار فإن موثقة عمار تدل على حرمة التصير الزبيبي المطبوخ مطلقا و هذه الرواية المعارضة تدل- حسب الفرض- على حلية العصير الزبيبي المطبوخ إذا‌


429
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الدليل الثالث - ما دل من الروايات على ان مناط التحريم في النبيذ هو الإسكار ؛ ج‌3، ص : 428

..........

______________________________
لم يكن مسكرا.

و أما على التقادير الثلاثة الأخرى فتعارض الرواية مع موثقة عمار بالعموم من وجه:

أما التقدير الأول فالمفروض ان هذه الرواية تدل على حلية النبيذ غير المسكر سواء كان زبيبيا أو تمريا و سواء كان مطبوخا أو غير مطبوخ و موثقة عمار تدل على حرمة النبيذ الزبيبي المطبوخ سواء كان مسكرا أولا مادة الاجتماع هي النبيذ الزبيبي المطبوخ غير المسكر و مادة الافتراق التي يشملها دليل الحلية هو النبيذ غير المسكر الذي يكون تمريا أو يكون غير مطبوخ و مادة الافتراق التي يشملها دليل الحرمة هو النبيذ الزبيبي المطبوخ المسكر.

و إذا ضممنا إلى موثقة عمار رواية أخرى يفرض دلالتها على الحرمة كموثقة عمار الا أنّها في التمر لا في الزبيب كانت نسبة رواية الحل الى مجموع روايتي التحريم العموم من وجه أيضا إلا ان مادة الاجتماع حينئذ عنوان النبيذ المطبوخ غير المسكر زبيبا كان أو تمرا و مادة الافتراق التي يشملها دليل الحلية هي النبيذ قبل الطبخ غير المسكر و مادة الافتراق التي يشملها دليل الحرمة هي النبيذ المطبوخ المسكر.

و اما على التقدير الثاني فالمفروض ان الرواية تدل على حلية النبيذ المطبوخ غير المسكر سواء كان زبيبا أو تمريا فأيضا نسبتها إلى موثقة عمار عموم من وجه فمادة الاجتماع هي النبيذ الزبيبي المطبوخ غير المسكر و مادة الافتراق لدليل الحلية هي النبيذ التمري المطبوخ بلا إسكار و لدليل الحرمة هي الزبيبي المطبوخ المسكر.

لكن إذا ضممنا إلى موثقة عمار رواية أخرى دلالتها كالموثقة إلا انها في التمر تبين الفرق بين هذا التقدير و التقدير الأول لأن رواية الحل حينئذ تصبح أخص من مجموع روايتي الحرمة فلا يمكن تقديم مجموعهما‌


430
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الدليل الثالث - ما دل من الروايات على ان مناط التحريم في النبيذ هو الإسكار ؛ ج‌3، ص : 428

..........

______________________________
عليها و إلا كان معناه إلغاء عنوان الإسكار التي جعل في رواية الحل هو المناط للحرمة فتتقدم رواية الحل على مجموعهما و يقع التعارض بينهما على ما هي القاعدة العامة في أخصية دليل من مجموع دليلين.

و اما على التقدير الثالث فالمفروض ان الرواية تدل على حلية النبيذ الزبيبي غير المسكر سواء كان مطبوخا أو لا و النسبة بينها و بين موثقة عمار عموم من وجه فمادة الاجتماع هي الزبيبي المطبوخ غير المسكر و مادتا الافتراق هما الزبيبي غير المسكر قبل الطبخ و الزبيبي المطبوخ المسكر و الآن بعد ما عرفنا صناعة المطلب نشرع في ذكر الروايات.

و نبدأ بالقسم الذي يمكن دعوى ان الملحوظ فيه خصوص المطبوخ فنقول: ان هنا ثلاث روايات يمكن ان يتوهم دخولها في هذا العنوان:

الرواية الأولى- رواية سماعة قال: سألته عن التمر و الزبيب يطبخان للنبيذ؟ فقال: لا و قال: كل مسكر حرام و قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: كل ما أسكر كثيره فقليله حرام و قال: لا يصلح في النبيذ الخميرة و هي العكرة «1».

و المسؤل مضمر لكنه الامام بقرينة عامة ذكرناها في موارد منها في الأصول في بحث الاستصحاب.

فيقال: ان قوله: كل مسكر حرام يكون بصدد إعطاء الضابط فيكون له ظهور في الحصر و هو بالطبخ ينضج و يكون متهيئا للسكر فذكر الامام عليه السلام أولا النهي ثم اعطى الضابط و هو السكر فقبل السكر ليس حراما.

و أما سند الرواية ففيه عثمان بن عيسى و في وثاقته كلام إلا أن المختار اعتباره.

______________________________
(1) وسائل الشيعة 5- 17 من أبواب الأشربة المحرمة ج 17 ص 269.


431
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الدليل الثالث - ما دل من الروايات على ان مناط التحريم في النبيذ هو الإسكار ؛ ج‌3، ص : 428

..........

______________________________
و الوجه في اختصاص هذه الرواية بما بعد الطبخ هو قوله في السؤال [يطبخان للنبيذ] و هي على تقدير تمامية دلالتها تكون صريحة في النبيذ الزبيبي.

الا ان هذه النسخة بهذا الشكل الذي ذكرناه جاءت في الحدائق و لا أدري هل كل نسخ الحدائق هكذا أولا؟ إلا أنه في الوسائل لا توجد جملة- يطبخان للنبيذ- و إنما يوجد بدلا عنها (يخلطان للنبيذ) و قد وردت نواهي عديدة عن النبيذ المخلوط و النبيذ المخلوط على ما ذكره بعض علماء السنة يكون أكثر سكرا و هذه النواهي تكفى لاسترعاء الانتباه إلى المخلوط بالخصوص و السؤال عنه.

الرواية الثانية- رواية يونس بن عبد الرحمن عن مولى جرير بن يزيد قال: سألت أبا الحسن عليه السلام فقلت له اني أصنع الأشربة من العسل و غيره فإنهم يكلفوني صنعتها فأصنعها لهم فقال: أصنعها و أدفعها إليهم و هي حلال من قبل أن تصير مسكرا «1».

و كلمة الصنع و إن لم يكن معناها الطبخ لكن من أظهر أفرادها أو المتيقن منها (مثلا) الطبخ ففي كل زمان يوجد من يكون صانعا للأشربة و هو طبعا يطبخ في أكثر الأحيان و هذا الشخص منهم فالرواية تقول: إن المطبوخ حلال ما لم يسكر نعم هي مطلقة من حيث الزبيبة إلا أن الرواية ساقطة سندا بمولى جرير (حر خ ل) لأنه مهمل في كتب الرجال و لم يثبت توثيقه.

الرواية الثالثة- ما عن عبد اللّه بن حماد عن محمد بن جعفر عن أبيه في حديث أن وفد اليمن بعثوا وفدا لهم يسألون عن النبيذ فقال لهم رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: و ما النبيذ؟ صفوه لي قال يؤخذ التمر فينبذ في إناء ثم يصب عليه الماء حتى يمتلى‌ء ثم يوقد تحته حتى ينطبخ فإذا‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة ج 17 ح 3 ب 38 من أبواب الأشربة المحرمة.


432
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الدليل الثالث - ما دل من الروايات على ان مناط التحريم في النبيذ هو الإسكار ؛ ج‌3، ص : 428

..........

______________________________
انطبخ أخرجوه فألقوه في إناء آخر ثم صبوا عليه ماءا ثم مرس ثم صفوه بثوب ثم ألقى في إناء ثم صب عليه من عكر ما كان قبله ثم هدر و غلا ثم سكن على عكرة فقال رسول اللّه (ص): يا هذا قد أكثرت على أ فيسكر؟ قال نعم فقال: كل مسكر حرام فرجع القوم فقالوا يا رسول اللّه (ص) إن أرضنا أرض دوية و نحن قوم نعمل الزرع و لا نقوى على ذلك العمل إلا بالنبيذ فقال صفوه لي فوصفوه كما وصفه أصحابهم فقال رسول اللّه (ص) فيسكر؟

قالوا: نعم، قال: كل مسكر حرام و حق على اللّه أن يسقي كل شارب مسكر من طينة خبال أ تدرون ما طينة خبال؟ قالوا: لا. قال: صديد أهل النار «1».

و هذه أحسن الروايات من حيث وضوحها في المطبوخ فالسائل يبين بأصرح بيان أنه مطبوخ و مع هذا يسأل النبي (ص) هل يسكر أولا؟ فهي كالصريح في حلية المطبوخ غير المسكر إلا أنها في خصوص التمر في المقام ثم أنها ضعيفة سندا بإبراهيم بن إسحاق.

و هناك روايات أخرى لا تختص بالمطبوخ بل ليس لها إطلاق يستفاد منه شمول المطبوخ فلا تفيد في مقام المعارضة مع موثقة عمار.

فمنها- رواية حنان بن سدير قال: سمعت رجلا يقول لأبي عبد اللّه عليه السلام ما تقول في النبيذ فإن أبا مريم يشربه و يزعم أنك أمرته بشربه فقال صدق أبو مريم سألني عن النبيذ فأخبرته أنه حلال و لم يسألني عن المسكر ثم قال إن المسكر ما اتقيت فيه أحدا سلطانا و لا غيره قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله كل مسكر حرام و ما أسكر كثيره فقليله حرام فقال له الرجل هذا النبيذ الذي أذنت لأبي مريم في شربه أي شي‌ء هو؟ فقال: اما أبي فكان يأمر الخادم فيجي‌ء بقدح فيجعل فيه زبيبا و يغسله غسلا نقيا‌

______________________________
(1) الوسائل ج 17 ب 24 من أبواب الأشربة المحرمة ح 6 ص 284.


433
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الدليل الثالث - ما دل من الروايات على ان مناط التحريم في النبيذ هو الإسكار ؛ ج‌3، ص : 428

..........

______________________________
و يجعله في إناء ثم يصب عليه ثلاثا مثله أو أربعة ماءا ثم يجعله بالليل و يشربه بالنهار و يجعله بالغداة و يشربه بالعشي و كان يأمر الخادم بغسل الإناء في كل ثلاث أيام لئلا يغتلم فان كنتم تريدون النبيذ فهذا النبيذ
«1».

فبقرينة ذيل الحديث المفسر لما أراد من النبيذ نعرف ان النظر إلى النبيذ غير المطبوخ فمناط الحرمة هو الإسكار في النبيذ غير المطبوخ فلا تدل على المقصود من أن المناط في حرمة المطبوخ هو الإسكار و ان كان صاحب الحدائق (قده) ساق جميع الروايات مساقا واحدا و جعلها دالة على المقصود من دون ان يشقق.

و منها- رواية الكلبي النسابة أنه سئل أبا عبد اللّه عليه السلام عن النبيذ فقال: حلال فقال: إنا ننبذه فنطرح فيه العكر و ما سوى ذلك فقال:

شه شه تلك الخمرة المنتنة قلت: جعلت فداك فأي نبيذ تعنى فقال: ان أهل المدينة شكوا إلى رسول اللّه (ص) تغير الماء و فساد طبائعهم فأمرهم أن ينبذوا فكان الرجل يأمر خادمه ان ينبذ له فيعمد إلى كف من تمر فيقذف (فيلقيه خ ل) به في الشن فمنه شربه و منه طهوره فقلت و كم كان عدد التمر الذي في الكف قال ما حمل الكف فقلت واحدة أو اثنتين فقال ربما كانت واحدة و ربما كانت اثنتين فقلت و كم كان يسع الشن ماءا فقال ما بين الأربعين إلى الثمانين إلى ما فوق ذلك فقلت بأي الأرطال فقال: أرطال مكيال العراق «2».

فالإمام (ع) يحكم أولا بحلية النبيذ ثم يقول: اننا نضع فيه الخميرة فيحكم بالحرمة لأنه مسكر فيستفاد ان المناط هو الإسكار بناءا على ان النبيذ يشمل الزبيبي لكن بقرينة ذيل الحديث يعرف ان النظر إلى غير المطبوخ.

______________________________
(1) وسائل الشيعة ب 22 من أبواب الأشربة المحرمة ح 5 ص 281.

(2) الوسائل ج 1 ب 2 من أبواب الماء المضاف ح 2 ص 147 و 148.


434
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الدليل الثالث - ما دل من الروايات على ان مناط التحريم في النبيذ هو الإسكار ؛ ج‌3، ص : 428

..........

______________________________
و منها- رواية أيوب بن راشد قال: سمعت أبا البلاد يسأل أبا عبد اللّه عليه السلام عن النبيذ فقال: لا بأس به فقال: انه يصنع (يوضع) فيه العكر فقال أبو عبد اللّه (ع) بئس الشراب و لكن انتبذه غدوة و اشربه بالعشي فقلت: هذا يفسد بطوننا فقال أبو عبد اللّه (ع) أفسد لبطنك ان تشرب ما لا يحل لك
«1».

فهذه الرواية أيضا بقرينة قوله: أنبذه غدوة و اشربه في العشي ظاهر في إرادة خصوص غير المطبوخ و ان النظر إلى مسألة طول الزمان لا الطبخ.

و منها- رواية عبد الرحمن بن الحجاج قال: استأذنت لبعض أصحابنا على أبي عبد اللّه (ع) فسأله عن النبيذ فقال حلال فقال: أصلحك اللّه انما سئلتك عن النبيذ الذي يجعل فيه العكر فيغلي حتى يسكر فقال أبو عبد اللّه (ع) قال رسول اللّه (ص) كل ما أسكر حرام، إلى آخر الحديث «2».

و هذه الرواية أحسن من سوابقها باعتبار أنه كان فيها قرينة على ان النظر منصب على غير المطبوخ و اما في هذه الرواية فلا قرينة على ذلك فيمكن دعوى الإطلاق إلا انه يمكن ان يقال في مناقشة الإطلاق أنه عندنا عمليتان: النبيذ. الطبخ، و كل منهما يحتمل كونه منشأ للحرمة و حينما يسئل عن النبيذ فالسؤال مرجعه إلى السؤال عن النبيذ بما هو نبيذ أي عن ان النبيذ هل يوجب الحرمة أولا و لا ينظر إلى السؤال عن العملية الثانية و لا أقل من إجمال العبارة.

و منها- رواية كليب الأسدي قال: سألت أبا عبد اللّه (ع) عن النبيذ فقال ان رسول اللّه (ص) خطب الناس فقال: ايها الناس ألا إن كل مسكر حرام و ما أسكر كثيره فقليله حرام «3» و هذه الرواية كسابقتها.

______________________________
(1) وسائل الشيعة ج 17 ب 30 من أبواب الأشربة المباحة، ص 218.

(2) الوسائل ج 17 ب 17 من أبواب الأشربة المحرمة ح 7 ص 269 و ص 270.

(3) الوسائل ج 17 ب 17 من أبواب الأشربة المحرمة ح 2 ص 268.


435
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الدليل الثالث - ما دل من الروايات على ان مناط التحريم في النبيذ هو الإسكار ؛ ج‌3، ص : 428

..........

______________________________
و هناك قسم ثالث من الروايات و هي ما بكون فيها إطلاق من حيث الطبخ و عدمه فتدل على ان مناط الحرمة هو الإسكار مطلقا.

فمنها- رواية حنان بن سدير عن يزيد بن خليفة و هو رجل من بني الحارث بن كعب قال: سمعته يقول: أتيت المدينة و زياد بن عبيد اللّه الحارثي عليها فاستأذنت على أبي عبد اللّه عليه السلام فدخلت عليه و سلمت عليه و تمكنت من مجلسي قال فقلت لأبي عبد اللّه عليه السلام اني رجل من بني الحارث بن كعب و قد هداني اللّه عز و جل إلى محبتكم و مودتكم أهل البيت قال: فقال لي: و كيف اهتديت إلى مودتنا أهل البيت فواللّه ان محبتنا في بني الحارث بن كعب لقليل قال فقلت له جعلت فداك ان لي غلاما خراسانيا و هو يعمل القصارة و له همشهريجون أربعة و هم يتداعون كل جمعة لتقع الدعوة على رجل منهم فيصيب غلامي كل خمس جمعة فيجعل لهم النبيذ و اللحم قال ثم إذا فرغوا من الطعام و اللحم جاء باجانة فملأها نبيذا ثم جاء بمطهرة فاذا ناول إنسانا منهم قال: لا تشرب حتى تصلي على محمد و آل محمد فاهتديت إلى مودتكم بهذا الغلام قال فقال لي استوص به خيرا و اقرأه مني السلام و قل له يقول لك جعفر بن محمد انظر شرابك هذا الذي تشربه فان كان يسكر كثيره فلا تقربن قليله فان رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله قال: كل مسكر حرام و ما أسكر كثيره فقليله حرام قال: فجئت إلى الكوفة و أقرأت الغلام السلام من جعفر بن محمد قال:

فبكى ثم قال لي: اهتم بي جعفر بن محمد (ع) حتى يقرئني السلام؟ قال قلت نعم و قد قال لي قل له انظر شرابك هذا الذي تشربه فان كان يسكر كثيره فلا تقربن قليله فان رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله قال: كل مسكر حرام و ما أسكر كثيره فقليله حرام و قد أوصاني بك فاذهب فأنت حر‌


436
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الدليل الثالث - ما دل من الروايات على ان مناط التحريم في النبيذ هو الإسكار ؛ ج‌3، ص : 428

..........

______________________________
لوجه اللّه انه لشراب ما يدخل جوفي ما بقيت في الدنيا
«1».

و ليس في هذا الحديث نقطة ضعف سندا الا من حيث يزيد بن خليفة الذي نصححه برواية صفوان عنه و الإنصاف أنه لا بأس بدعوى ان هذه الرواية تجعل الضابط للحرمة هو الإسكار في طبيعي النبيذ إذ الراوي لم يكن في مقام السؤال عن حكم النبيذ حتى يقال انه ظاهر في النظر إلى جانب النبيذ فقط و انما كان في مقام نقل القصة و لم يبين أنه كان مطبوخا أولا فيتم الإطلاق بملاك ترك الاستفصال و الامام صار في مقام الشفقة على الغلام و تنبيهه على الحرام الموجود في النبيذ و لم يذكر إلا المسكر و لو كان المطبوخ أيضا حراما لنبه عليه و النبيذ- على ما سوف يأتي إن شاء اللّه.

يشمل التمري و الزبيبي فلا بأس بهذه الرواية سندا و دلالة.

و منها- رواية صفوان الجمال قال: كنت مبتلى بالنبيذ معجبا به فقلت لأبي عبد اللّه عليه السلام أصف لك النبيذ؟ فقال: بل أنا أصفه لك قال رسول اللّه (ص): كل مسكر حرام و ما أسكر كثيره فقليله حرام فقلت له: هذا نبيذ السقاية بفناء الكعبة، فقال: ليس هكذا كانت السقاية إنما السقاية زمزم أ فتدري أول من غيرها؟ قلت: لا قال العباس بن عبد المطلب كانت له حبلة، أ فتدري ما الحبلة؟ قلت لا قال الكرم فكان ينقع الزبيب غدوة و يشربونه بالعشي و ينقعه بالعشي و يشربونه غدوة يريد به ان يكسر غلظ الماء على الناس و أن هؤلاء قد تعدوا فلا تقربه و لا تشربه «2».

فقوله: أنا أصفه لك إلخ معناه أنه لا داعي إلى ان تصف لي النبيذ‌

______________________________
(1) فروع الكافي يأب أن رسول اللّه (ص) حرم كل مسكر قليله و كثيره ح 16 من كتاب الأشربة و الوسائل في ذيل 9- 17 من أبواب الأشربة المحرمة.

(2) الوسائل ج 17 ب 17 من أبواب الأشربة المحرمة ح 3 ص 268.


437
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الدليل الثالث - ما دل من الروايات على ان مناط التحريم في النبيذ هو الإسكار ؛ ج‌3، ص : 428

..........

______________________________
و انما أعطيك القاعدة العامة و هي: ان كان كثيره مسكرا حرم كثيره و قليله و الا فلا، و هذه الرواية فيها خصوصية تدعونا إلى القول بإطلاقها من حيث الطبخ و عدمه و هي: ان صفوانا لو كان يقول: ما تقول في النبيذ فكان الامام عليه السلام يقول: كل مسكر حرام، لورد عليه ما مضى من ان النظر إلى النبيذ لا إلى الطبخ لكنه لم يقل هكذا و انما أصبح بصدد ذكر الخصوصيات في نبيذ خاص فالإمام عليه السلام قال: لا داعي إلى ذلك و الضابط العام هو الإسكار و عدمه فالرواية واضحة في جعل مناط الحرمة الإسكار في طبيعي النبيذ و الرواية تامة سندا أيضا و اما موضوعها فالنبيذ مطلق يشمل الزبيبي بل ذيل الرواية قرينة على تيقن الزبيبي.

و منها- رواية معاوية بن وهب قال قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام ان رجلا من بنى عمي و هو من صلحاء مواليك يأمرني أن أسألك عن النبيذ و أصفه لك فقال: انا أصفه لك قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: كل مسكر حرام و ما أسكر كثيره فقليله حرام، فقلت فقليل الحرام يحله كثير من الماء؟ فرد بكفه مرتين: لا لا «1».

و تقريب الاستدلال بها كالرواية السابقة و سندها تام أيضا إلا ان النبيذ في هذه الرواية يشمل الزبيبي بالإطلاق لا بالصراحة كالرواية السابقة.

بقي هنا إشكالان عامان قد يوردان على كثير من الروايات:

أحدهما- ان يقال: ان الروايات التي موضوعها عنوان النبيذ بإطلاقه لا تشمل الزبيبي بدعوى ان النبيذ مخصوص بالتمري مستشهدا لذلك برواية عن أبي عبد اللّه (ع) قال: قال رسول اللّه (ص): الخمر من خمسة: العصير من الكرم و النقيع من الزبيب و البتع من العسل و المزر‌

______________________________
(1) الوسائل ج 17 ب 17 من أبواب الأشربة المحرمة ح 1 ص 267 و ص 268.


438
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الدليل الثالث - ما دل من الروايات على ان مناط التحريم في النبيذ هو الإسكار ؛ ج‌3، ص : 428

 

..........

______________________________
من الشعير و النبيذ من التمر
«1» فالعصير الزبيبي سماه باسم النقيع و انما أطلق النبيذ على العصير التمري.

و فيه: ان هذا لا يدل على ان كلمة النبيذ مخصوصة بالتمر و انما هذا مجرد اتخاذ تعبير لكل قسم نعم لعله يدل على الأنسبية أو أكثرية الشيوع و هذا لا يوجب الاختصاص.

و اما دعوى الحقيقة الشرعية أو المتشرعية بنحو تختص كلمة النبيذ حين تطلق في الروايات بالتمري ففيها أنه يبعد هذا الاستقرار في بناء الشرع و المتشرعة ما ورد في الروايات العديدة من إطلاق الكلمة فيها على الزبيبي بل في أكثرها (كلمة أكثرها تكون لإخراج الرواية الأولى فإنها داخلة فيما قبل بل دون ما بعد بل) استعملت الكلمة في الزبيبي بلا قرينة ثم يعلم صدفة من ذيل الحديث أنه أريد به الزبيبي ففي رواية إسماعيل بن الفضل الهاشمي قال شكوت إلى أبي عبد اللّه (ع) قراقر تصيبني في معدتي و قلة استمرائي الطعام فقال لي لم لا تتخذ نبيذا نشربه نحن و هو يمرئ الطعام و يذهب بالقراقر و الرياح من البطن قال فقلت له صفه لي جعلت فداك قال تأخذ صاعا من زبيب فتنقيه من حبه و ما فيه، إلى آخر الحديث «2».

فقد أطلق في هذه الرواية النبيذ على المتخذ من الزبيب و في رواية حنان بن سدير قال: سمعت رجلا يقول لأبي عبد اللّه (ع): ما تقول في النبيذ؟ فإن أبا مريم يشربه و يزعم أنك أمرته بشربه فقال: صدق أبو مريم سألني عن النبيذ فأخبرته أنه حلال و ما يسئلني عن المسكر ثم قال ان المسكر ما اتقيت فيه أحدا سلطانا و لا غيره قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله كل مسكر حرام و ما أسكر كثيره فقليله حرام فقال له الرجل: هذا‌

______________________________
(1) الوسائل ج 17 ب 1 من أبواب الأشربة المحرمة ح 1 ص 221.

(2) الوسائل ج 17 ب 5 من أبواب الأشربة المحرمة ح 4 ص 231 و ص 232.

 

 

 

439
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الدليل الرابع - رواية أبي بصير ؛ ج‌3، ص : 440

..........

______________________________
النبيذ الذي أذنت لأبي مريم في شربه أي شي‌ء هو؟ فقال: اما أبي فكان يأمر الخادم فيجي‌ء بقدح فيجعل فيه زبيبا إلخ
«1».

فهذه الرواية كما ترى يؤيد إطلاق كلمة النبيذ على الزبيبي فإن فيه الحكم بحلية النبيذ و أن أبا مريم سئله عن النبيذ فأخبره أنه حلال و له ينصب في حدود ما جاء في هذا الحديث قرينة على ان المقصود هو الزبيبي أو ما يشمل الزبيبي و مع ذلك تراه في آخر الحديث حينما يريد ان يصف النبيذ يصف المتخذ من الزبيب. و مثلهما رواية صفوان الجمال المتقدمة فلاحظ.

و الذي يطالع مجموع الروايات يشرف على القطع ببطلان دعوى اختصاص من هذا القبيل.

و ثانيهما أن يقال أن دوران النزاع الفقهي و الديني الواسع النطاق في أوساط العامة حول حرمة القليل من النبيذ المسكر يوجب انصراف الأسئلة الموجهة إلى الأئمة من الرواة عن النبيذ إلى الاستفهام عن هذه النقطة فيكون السؤال عن النبيذ المسكر و يكون الجواب تأكيدا على حرمة كل مسكر و لا يكون للسائل نظر إلى النبيذ غير المسكر الذي لم يكن موضعا للخلاف بين المخالفين و لكن يظهر بملاحظة الروايات بطلان دعوى الانصراف المذكور و لهذا كان الامام يجيب حينما يسأل عن النبيذ بالحلية فلو كان السؤال ظاهرا في استعلام حال النبيذ المسكر لما أجاب عليه الامام بذلك فلاحظ رواية عبد الرحمن بن الحجاج و رواية حنان بن سدير و رواية الكلبي النسابة و رواية أيوب بن راشد.

الدليل الرابع- رواية أبي بصير

قال كان أبو عبد اللّه (ع) تعجبه الزبيبة فقد استدل الشهيد الثاني بها و كذلك المقدس الأردبيلي على ما في الحدائق و تقريب الاستدلال أن الزبيبة طعام يطبخ و يجعل فيه الزبيب و الغالب‌

______________________________
(1) الوسائل ج 17 ب 22 من أبواب الأشربة المحرمة ح 5 ص 281.


440
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الدليل الخامس - رواية إسحاق بن عمار ؛ ج‌3، ص : 441

..........

______________________________
في مثل ذلك عدم ذهاب الثلثين و يرد عليه ما أفاده في الحدائق من أننا لا نعرف الزبيبة فلعلها ما يعمل بتلك الطريقة المبينة في موثقة عمار المتقدمة أو نحو ذلك و اما انتزاع شهادة من استدلال الشهيد و المقدس بالرواية على نوع الزبيبة فهو في غير محله لأن الاستدلال قد يكون مبنيا على تشخيص اجتهادي لمعنى الزبيبة فلا يكون من باب الشهادة.

الدليل الخامس- رواية إسحاق بن عمار

قال: شكوت الى أبي عبد اللّه (ع) بعض الوجع و قلت له إن الطبيب وصف لي شرابا آخذ الزبيب و أصب عليه الماء للواحد اثنين ثم أصب عليه العسل ثم أطبخه حتى يذهب ثلثاه و يبقى الثلث قال أ ليس حلوا قلت بلى قال أشربه و لم أخبره كم العسل «1» و قوله أ ليس حلوا كناية عن عدم التغير المؤدي إلى الإسكار فإن حمل ذلك على الشرطية لم يدل إلا على أن الحلية في مورد السؤال المفترض فيه ذهاب الثلثين منوطة بعدم الإسكار و إن حمل على التعليل كما لا يبعد دل على كون المناط في الحرمة الإسكار ثبوتا و عدما فيكون من قبيل روايات الدليل الثالث إلا من حيث أن هذه الرواية وردت في مورد ذهاب الثلثين و على أي حال ففي سند الحديث إرسال يوجب سقوطه.

الدليل السادس- ما ذكره الشهيد قدس سره من التمسك بروايات محللية ذهاب الثلثين

لأن الزبيب عنب ذهب ثلثاه بل أكثر و يرد عليه أولا ان روايات الحرمة و الحلية موضوعها العصير أي الماء السائل و العنب ليس فيه الا رطوبات لو تجمعت لأصبحت ماءا سائلا فهو لا يحرم بالطبخ و لا يحل بذهاب الثلثين.

و ثانيا: لو سلم أن دليل الحرمة بالطبخ و التحليل بذهاب الثلثين يشمل العنب لكن إن قصد بما ذكر رفع الحرمة الثابتة بدليل حرمة العصير‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة الباب 5 من أبواب الأشربة المحرمة


441
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الجهة الثالثة في حرمة العصير التمري ؛ ج‌3، ص : 442

..........

______________________________
العنبي فهذه الحرمة لم تكن مدعاة في المقام أصلا و إن قصد رفع الحرمة الثابت بدليل حرمة العصير الزبيبي فمن الواضح أن دليل محللية ذهاب الثلثين للعصير العنبي لا ربط له بحرمة العصير الزبيبي و قد تحصل من كل ما تقدم حلية العصير الزبيبي إذا غلا بالنار و اما إذا غلا بنفسه فهو حرام بملاك الإسكار‌

الجهة الثالثة في حرمة العصير التمري

و مع قصر النظر على ما يختص به العصير التمري نلاحظ روايتين.

الأولى رواية عمار بن موسى عن أبي عبد اللّه (ع) في حديث أنه سئل عن النضوح المعتق كيف يصنع به حتى يحل قال خذ ماء التمر حتى يذهب ثلثا ماء التمر «1» و النضوح طيب كان يجعل فيه عدة عناصر منها نبيذ التمر و قوله (حتى يذهب ثلثا ماء التمر) الصادر جوابا عن قول السائل (كيف يصنع به حتى يحل) يدعى أنه ظاهر في توقف الحل على ذهاب الثلثين.

الثانية رواية عمار أيضا عن أبي عبد اللّه (ع) قال سألته عن النضوح قال يطبخ التمر حتى يذهب ثلثاه و يبقى ثلثه ثم يمتشطن «2» فلو لا توقف الحل على ذهاب الثلثين لم يكن وجه للأمر باذهابهما.

و الروايتان تامتان سندا و من المحتمل احتمالا معتدا به كونهما رواية واحدة لتقارب المضمون جدا أو الاشتراك في الرواة الأربعة الأوائل فبحساب الاحتمالات يقرب الى الذهن وحدتهما و لا يترتب أثر عملي على وحدتهما أو تعددهما إلا فيما إذا تمت دلالة إحدى الروايتين بصيغتها الخاصة دون الأخرى إذ مع فرض التعدد حينئذ تكفى الرواية التامة دلالة و مع فرض الوحدة لا يكفي ذلك لعدم ثبوت احدى الصيغتين بعينها.

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 32 من أبواب الأشربة المحرمة

(2) وسائل الشيعة باب 37 من أبواب الأشربة المحرمة


442
بحوث في شرح العروة الوثقى3

الجهة الثالثة في حرمة العصير التمري ؛ ج‌3، ص : 442

..........

______________________________
و الظاهر عدم تمامية الدلالة في الروايتين معا إذ يرد على الاستدلال بأية واحدة منهما اعتراضان متعاكسان في الخفاء و الظهور بمعنى ان ورود الاعتراض الأول على الاستدلال بالرواية الأولى أظهر في ورود الثاني و الرواية الثانية على العكس.

الاعتراض الأول ان النظر في هذه الرواية إلى فرض التعتيق كما صرح به في الرواية الاولى و قد نقل في الحدائق عن جملة من أرباب اللغة ان النضوح كان يشتمل على ماء التمر و كان يعتق حتى يتفاعل و يستند و يغلي و هذا يعنى ان مورد السؤال هو ما إذا غلا من نفسه و قد مضى ان ذلك يساوق الإسكار و لا إشكال في حرمة المسكر و هذا الاعتراض وروده على الاستدلال بالرواية الأولى واضح لوجود كلمة المعتق فيها فهو يسأل عن انه كيف يعتق بنحو لا يحرم و يكون الجواب ناظرا إلى الحرمة الناشئة من التعتيق لا من الطبخ و اما وروده على الاستدلال بالرواية الثانية فلا يخلو من خفاء لعدم التصريح فيها بالتعتيق إلا أنه وارد مع ذلك و ذلك لاحتمال أخذ العتق في مفهوم النضوح كما فسر بذلك.

الاعتراض الثاني ان الرواية إذا دلت على الحرمة فهي دالة على حرمة التمشط و التطيب بهذا الطيب كما صرح بذلك في الرواية الثانية بقوله ثم يتمشطن مع انه لا يحتمل فقهيا حرمة التطيب به في نفسه تعبدا بلا إسكار و انما المحتمل المبحوث عنه حرمة الشرب و عليه فلا بد من حمل الرواية على فرض الإسكار فلا يتم الاستدلال بها و هذا الاعتراض بالنسبة إلى الرواية الثانية واضح لمكان قوله يتمشطن و اما بالنسبة إلى الرواية الاولى فلا يخلو من خفاء لعدم التصريح بالتمشط و ان كان الظاهر وروده لأن الحلية أضيفت فيها الى نفس النضوح و حينما تضاف الحلية أو الحرمة إلى الأعيان يعين متعلقها بمناسبات الحكم و الموضوع و المناسب مع النضوح‌


443
بحوث في شرح العروة الوثقى3

و اما المقام الثاني فيقع البحث فيه عن النجاسة ؛ ج‌3، ص : 444

..........

______________________________
التطيب لا الأكل و الشرب.

و عليه فالصحيح ان العصير التمري المغلي بالنار محكوم بالحلية كسابقه ما لم يصبح مسكرا.

هذا كله فيما يتصل بالمقام الأول و هو البحث عن حرمة العصير المغلي بأقسامه الثلاثة.

و اما المقام الثاني فيقع البحث فيه عن النجاسة

و نتكلم فيه عن نجاسة العصير العنبي خاصة لأن احتمالها في غيره لا موجب فقهي له.

و توضيح الكلام في العصير أن هذا العصير إذا غلا من نفسه و قلنا بان الغليان بهذا النحو يساوق الإسكار كما هو الصحيح فهو نجس اما بناءا على نجاسة كل مسكر فواضح و اما بناءا على المختار من اختصاص النجاسة بالخمر فكذلك لان هذا خمر حقيقة كما تقدم و اما إذا غلا بالنار أو غلا بنفسه و لم يصبح مسكرا بناءا على عدم مساوقة هذا الغليان للإسكار فالظاهر عدم نجاسته و ذهب بعض الفقهاء إلى النجاسة و ما ينبغي ان يبحث عن دلالته على النجاسة رواية معاوية بن عمار قال سألت أبا عبد اللّه (ع) عن الرجل من أهل المعرفة بالحق يأتيني بالبختج و يقول قد طبخ على الثلث و انا أعرف أنه يشربه على النصف أ فأشربه بقوله و هو يشربه على النصف فقال: خمر لا تشربه «1» و وجه الاستدلال أن البختج المطبوخ على النصف و إن لم يكن خمرا حقيقة إلا أنه أطلق عليه الخمر بنحو الحكومة و تقتضي ذلك إثبات آثار الخمر له و منها النجاسة.

و يقع الكلام حول هذه الرواية في المتن تارة و في الدلالة أخرى فهنا جهتان.

أما الجهة الأولى و هي المتن فالصيغة الآنفة الذكر هي صيغة التهذيب‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 7 من أبواب الأشربة المحرمة


444
بحوث في شرح العروة الوثقى3

و اما المقام الثاني فيقع البحث فيه عن النجاسة ؛ ج‌3، ص : 444

..........

______________________________
و أما الكافي فلا يشتمل على كلمة خمر التي هي محور الاستدلال و عليه فصحة الاستدلال تتوقف على إثبات صيغة التهذيب و يمكن المناقشة في ذلك بعدة تقريبات.

التقريب الأول- ان الكليني أضبط من الشيخ في النقل كما يظهر تتبع نتاجهما فتقدم أصالة عدم النقيصة على أصالة عدم الزيادة حتى مع البناء في حالة تساوى الراويين في الضبط على تقديم أصالة عدم الزيادة لأن احتمال الزيادة أغرب لأن البناء العقلائي على تقديم أصالة عدم الزيادة يختص بفرض التساوي و الأقدم الأضبط.

و فيه انا إذا سلمنا وجود المعارضة بين المتنين و ان مقتضى البناء العقلائي تقديم من يعلم بكونه أضبط من الآخر فلم يثبت كون طرف المعارضة مع الشيخ هو الكليني المعلوم كونه أضبط إذ لعل من أنقص هو محمد بن يحيى فإن هذه الرواية رواها الشيخ الطوسي يسنده إلى أحمد بن محمد و ظاهره النقل عن كتاب أحمد بن محمد الذي بدأ به السند في التهذيب و اما الكليني فقد رواها عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد و لا ندري انه نقلها عن كتاب أحمد بن محمد أو تلقاها مشافهة أو استنساخا من محمد بن يحيى عنه فعلى تقدير التلقي يتوسط محمد بن يحيى يأتي احتمال الحذف من قبل محمد بن يحيى و لم يثبت لنا باستقراء ان محمد بن يحيى أضبط من الشيخ الطوسي هذا كله لو سلمنا وحدة أحمد بن محمد و اما إذا احتملنا كون أحدهما أحمد بن محمد بن خالد و الآخر أحمد بن محمد بن عيسى جاء احتمال الخطأ في الأعلى أيضا.

التقريب الثاني ان الشيخ الطوسي نقل الرواية عن كتاب أحمد بن محمد و طريقه إلى أحمد بن محمد هو الكليني سواء كان ذاك هو أحمد بن محمد بن خالد أو أحمد بن محمد بن عيسى فاذا فرض ان هذا الواسطة بنفسه أخبر بعدم كلمة الخمر قدم قوله.


445
بحوث في شرح العروة الوثقى3

و اما المقام الثاني فيقع البحث فيه عن النجاسة ؛ ج‌3، ص : 444

..........

______________________________
و فيه انه لو سلم التعارض و ان البناء العقلائي يقرر ان نقل الأسبق رتبه في سند الرواية مقدم على نقل من ينقل عنه إذا تعارضا فيكفي في رد هذا التقريب ان الشيخ الطوسي لم يثبت كونه روى ذلك بتوسط الكليني لأن بعض طرقه إلى أحمد بن محمد بن عيسى لا تشتمل على الكليني فلاحظ.

التقريب الثالث انه يبنى على التعارض و التساقط بعد التسليم بعدم المرجح و معه لا يبقى دليل على تنزيل العصير العنبي منزلة الخمر.

و يرد عليه ان التعارض في أمثال المقام موقوف على انتزاع شهادة من المنقص بعدم وجود الزيادة و هذه الشهادة فرع كون زيادة على نحو يوجب فصلها عما نقله المنقص تغييرا في معنى ما اقتصر المنقص على نقله و ليس كذلك في المقام فإن الزيادة هنا غاية ما يدعى لها أنها تعطى معنى جديدا الا ان معنى غيرها يتحدد على أساسها و في مثل ذلك لا يتم انتزاع الشهادة المذكورة.

التقريب الرابع ان كتاب التهذيب و ان كان متواترا إلا ان كل كلمة منه لم يثبت تواترها بالخصوص و انما يبنى على وجودها بلحاظ الشهادة العملية من النساخ المعتبرة لا بلحاظ دليل الحجية لتوقفه على معروفيتهم و إحراز وثاقتهم بل بلحاظ الاطمئنان الخارجي و من الواضح أن هذا الاطمئنان يزول مع الاطلاع على اختلاف المنقول من متن الرواية في كتابي الكافي و التهذيب و يرد عليه ان المدعى ان كان زوال الاطمئنان بعدم تعمد الناسخ للكذب و التدليس فعهدة ذلك على مدعيه مع وضوح عدم الداعي للكذب في أمثال المقام و ان كان زوال الاطمئنان بعدم الغفلة و الخطأ فلا يضر ذلك لجريان أصالة عدم الغفلة و كون الناسخ غير محرز الوثاقة لا يضر بجريان هذا الأصل لوضوح عدم اختصاصه عقلائيا بالثقات.

التقريب الخامس ان أصل وجود الزيادة المذكورة في كتاب التهذيب لم يثبت لان النسخ التي بأيدينا فعلا منه و ان كانت مشتملة عليها إلا ان‌


446
بحوث في شرح العروة الوثقى3

و اما المقام الثاني فيقع البحث فيه عن النجاسة ؛ ج‌3، ص : 444

..........

______________________________
صاحب الوافي و صاحب البحار و صاحب الوسائل اتفقوا على نقل الرواية عن التهذيب مع إسقاط كلمة خمر و هذا يكشف على الأقل عن اختلاف نسخ التهذيب فتسقط هذه الكلمة عن الحجية بل قد يتعين ترجيح النسخة المنظورة لأصحاب الوافي و البحار و الوسائل لوجود طرق معتبر لهم إلى التهذيب بينما لا يوجد لما يتوفر فعلا من نسخ التهذيب طريق معتبر يضمن ثبوت كل كلمة فيها. و كلما تعارضت نسختان لإحداهما طريق معتبر قدمت على الأخرى.

و دعوى ان أصحاب تلك المجاميع حيث انهم كانوا في مقام نقل الرواية عن الكافي و التهذيب معا فقد غفلوا عن الفراق بين النسختين بشهادة اشتهار تثبيت كلمة الخمر في الرواية عند نقلها عن التهذيب و الاستدلال بها على النجاسة.

مدفوعة بأن الحمل على الغفلة خلاف الظاهر خصوصا في صاحبي الوافي و البحار حيث نقلا الرواية عن الكليني و الشيخ في عرض واحد بينما نقلها الشيخ الحر عن الكليني ثم أشار إلى رواية الشيخ لها و اما الاشتهار المذكور فهو غير واضح لان هذه الرواية لم يستدل بكلمة الخمر فيها على النجاسة إلا من قبل الملا محمد أمين الأسترآبادي من فقهائنا المتقدمين على الثلاثة أصحاب المجاميع و قد اشتبه قدس سره في نقلها إذ ذكر انها رواية محمد بن عمار و لم يسندها إلى كتاب التهذيب بالخصوص و لم أجد في كتب أصحابنا السابقين عليه الاستدلال بالرواية على النجاسة على أساس تثبيت كلمة الخمر فيها بل صرح جملة منهم كالشهيد الأول بأنه لم ير دليلا على نجاسة العصير العنبي بينما ذكر بعد سطرين من ذلك ان الفقاع نجس لأنه أطلق عليه الخمر في كلام الامام فلو كان واقفا على كلمة الخمر في رواية التهذيب لكان من المترقب ان يشير إلى إمكان استفادة النجاسة من ذلك.


447
بحوث في شرح العروة الوثقى3

و اما المقام الثاني فيقع البحث فيه عن النجاسة ؛ ج‌3، ص : 444

سواء غلى بالنار أو بنفسه (1) و إذا ذهب ثلثاه صار حلالا (2) سواء كان بالنار أو بالشمس أو بالهواء (3) بل الأقوى حرمته

______________________________
و اما الجهة الثانية و هي الكلام في دلالة الرواية فيمكن ان يورد عليها بأمرين الأول ان تطبيق كلمة الخمر على العصير المذكور كما يمكن ان يكون بعناية الحاكمية ادعاء و كذلك يمكن ان يكون تطبيقا حقيقا مع إعمال عناية في التقييد بخصوص ما صار مسكرا من البختج و مع التساوي بين أعمال العناية في نفس التطبيق و الحمل و اعمال العناية في تقييد المحمول عليه لا يتم الاستدلال.

الثاني ان كلمة لا تشربه قد تكون تفريعا على تطبيق الخمر على العصير و قد تكون تفسيرا للمراد من ذلك التطبيق إذا كان مرجع التطبيق إلى التنزيل.

فعلى الأول يصح التمسك بإطلاق التنزيل بخلافه على الثاني و مع عدم ظهور الكلام في أحد الوجهين يسرى الإجمال إلى التنزيل فلا يمكن التمسك بإطلاقه.

و هكذا يتضح عدم وجود دليل على نجاسة العصير و ان الأقرب طهارته.

(1) تقدم في الجهة الاولى من المقام الأول في التعليقة السابقة ان المغلي بنفسه بقطع النظر عن الروايات الخاصة لإسكاره و اما المغلي بالنار فيتوقف إثبات الحرمة له على تمامية دلالة الروايات الخاصة و قد فصلنا الكلام في ذلك.

(2) تقدم الكلام عن ذلك في المسألة الاولى من مسائل الجهة الاولى في المقام الأول و اتضح أن المغلي بالنار لا خلاف في أنه يحل بذهاب الثلثين و اما المغلي بغير النار ففي حليته بذلك خلاف و قد مر بحث ذلك مفصلا هناك.

(3) هذه هي المسألة الثانية من مسائل الجهة الأولى المتقدمة.


448
بحوث في شرح العروة الوثقى3

(مسألة 2): إذا صار العصير دبسا بعد الغليان ؛ ج‌3، ص : 449

بمجرد النشيش و إن لم يصل إلى حد الغليان (1) و لا فرق بين العصير و نفس العنب فاذا غلى نفس العنب من غير أن يعصر كان حراما (2).

و اما التمر و الزبيب و عصيرهما فالأقوى عدم حرمتهما أيضا بالغليان و ان كان الأحوط الاجتناب عنهما أكلا (3) بل من حيث النجاسة أيضا.

(مسألة 2): إذا صار العصير دبسا بعد الغليان

قبل أن يذهب ثلثاه فالأحوط حرمته (4) و إن كان لحليته وجه و على هذا فاذا استلزم ذهاب ثلثيه احتراقه فالأولى أن يصب عليه مقدار من الماء فاذا ذهب ثلثاه حل بلا إشكال.

(مسألة 3): يجوز أكل الزبيب و الكشمش و التمر في الأمراق

و الطبيخ و إن غلت (5) فيجوز أكلها بأي كيفية كانت

______________________________
(1) تقدم تحقيق ذلك في المسألة الثالثة من مسائل الجهة الأولى.

(2) هذه هي المسألة الرابعة من مسائل الجهة الأولى.

(3) تقدم تفصيل الكلام في ذلك في الجهتين الثانية و الثالثة من المقام الأول كما تقدم الكلام عن النجاسة في المقام الثاني و قد اتضح ان ما في المتن من عدم الحرمة و عدم النجاسة هو الصحيح.

(4) و ان كان الظاهر عدم الحرمة و قد مر تحقيق الكلام في ذلك في المسألة الخامسة من مسائل الجهة الأولى فلاحظ.

(5) اما بناءا على عدم حرمة العصير الزبيبي و التمري فواضح و اما بناءا على الحرمة مع عدم الالتزام بالنجاسة فإن كان موضوع الحرمة هو‌


449
بحوث في شرح العروة الوثقى3

العاشر الفقاع(1) ؛ ج‌3، ص : 450

على الأقوى.

العاشر الفقاع (1)

و هو شراب متخذ من الشعير على وجه مخصوص و يقال: إن فيه سكرا خفيا و إذا كان متخذا من غير الشعير فلا حرمة و لا نجاسة إلا إذا كان مسكرا.

______________________________
العصير الزبيبي فمن الواضح جواز الاستعمال في المقام لان نفس الزبيب ليس عصيرا و المرق مجموعه لا يصدق عليه العصير و انما يصدق هذا العنوان- لو سلم- على القطرات التي امتصها الزبيب من المرق و هي مستهلكة في مجموعه و ان كان موضوع الحرمة من قبيل ما ورد في بعض الروايات من عنوان ماء وضع فيه الزبيب فطبخ فهو يصدق على المرق و يكون حراما و اما بناءا على النجاسة فيحرم مجموع المرق و ينجس و لا ينافي ذلك الاستهلاك المشار إليه لأنه من استهلاك النجس بعد الملاقاة.

(1) المعروف بين فقهائنا نجاسة الفقاع بل جعله نجسا بعنوانه في مقابل المسكر و ما يمكن ان يستدل به على ذلك أحد وجوه.

الأول- دعوى الإجماع غير أنه تقدم ان هذه الدعوى لم تكن كافية لإثبات النجاسة في الخمر فكيف بالفقاع.

الثاني- ما دل على نجاسة الفقاع بعنوانه و هو رواية هشام بن الحكم أنه سأل أبا عبد اللّه عن الفقاع فقال لا تشربه فإنه خمر مجهول و إذا أصاب ثوبك فاغسله «1».

و الرواية تامة دلالة بلحاظ الأمر بالغسل إلا انها ساقطة سندا بالإرسال.

الثالث- دليل الحكومة و هو ما دل من الروايات على تطبيق عنوان الخمر على الفقاع فيستفاد منه اجراء تمام الأحكام بما فيها النجاسة تمسكا بإطلاق التنزيل فلاحظ روايات الوشاء و ابن فضال و عمار و محمد بن سنان‌

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 27 من أبواب الأشربة المحرمة


450
بحوث في شرح العروة الوثقى3

العاشر الفقاع(1) ؛ ج‌3، ص : 450

..........

______________________________
و الحسن بن الجهم و زاذان
«1».

و قد ورد في بعضها: هي الخمر بعينها و في بعضها التعبير بالخميرة و في بعضها هو خمر مجهول أو خمرة استصغرها الناس.

و التحقيق: انا إذا بنينا على نجاسة كل مسكر تعين القول بنجاسة الفقاع باعتباره مسكرا بلا حاجة إلى التمسك بإطلاق التنزيل في هذه الروايات لان الفقاع مختص لغة بالمغلى بنفسه و انما سمي فقاعا لما يظهر عليه من الزبد و التفقع و هذا مسكر فيكون نجسا بناءا على ذلك.

و إذا بنينا بلحاظ سائر الأدلة على اختصاص النجاسة بالخمر بالمعنى الأخص فلا يمكن ان نثبت بهذه الروايات نجاسة الفقاع لأنه بني على ان يراد بالخمر فيها الخمر بالمعنى الأخص و يكون التطبيق على الفقاع عنائيا من باب التنزيل مع أنه يمكن ان يراد بالخمر المعنى الأعم و هو المسكر و يكون التطبيق حقيقيا و العناية في الكلمة لا في التطبيق و المقصود من الروايات عندئذ علاج الشبهة المفهومية للإسكار بتوضيح ان مفهومه يشمل المراتب الضعيفة من التأثير الموجودة في الفقاع أو علاج الشبهة الموضوعية بالكشف عن وجود الإسكار و لا تستفاد منه نجاسة الفقاع عندئذ لأن النجاسة على هذا المبنى ليست من أحكام طبيعي المسكر و لا معين للاحتمال الأول في مقابل الثاني بل هناك ما يشهد للثاني و يعززه فان التعبير بأنه خمر مجهول يناسب التطبيق الحقيقي لا العنائي الإنشائي و كذلك التصغير في قوله: «خميرة» فإنه لا يناسب التطبيق الإنشائي و يناسب التطبيق الحقيقي و مما يشهد أيضا للتطبيق الحقيقي التأكيد في مثل قوله: «هي الخمر بعينها» فإنه يناسب القضية التي لها صدق و كذب و كذلك التعبير باستصغار الناس لخمرية الفقاع فان التطبيق لو كان إنشائيا لا يعبر عن شي‌ء خارج نطاق الإنشاء فما معنى فرض استصغار الناس له.

و قد تلخص مما تقدم ان الفقاع مسكر و نجاسته تتوقف على إثبات نجاسة كل مسكر.

______________________________
(1) وسائل الشيعة باب 25 من أبواب الأشربة المحرمة


451
بحوث في شرح العروة الوثقى3

ماء الشعير الطبي و حكمه ؛ ج‌3، ص : 452

[ماء الشعير الطبي و حكمه]

(مسألة): ماء الشعير الذي يستعمله الأطباء في معالجاتهم ليس من الفقاع (1) فهو طاهر حلال.

______________________________
(1) لان الفقاع ما اتخذ من الشعير على وجه مخصوص كما عبر الماتن في المسألة السابقة فليس كل ماء شعير فقاعا و الظاهر ان ما يميز الفقاع عن ماء الشعير الطبي هو الغليان بنفسه المساوق لصيرورته مسكرا و هذا هو الضابط فاذا لم يكن ماء الشعير مسكرا فلا يوجب للحكم بنجاسته لا بلحاظ أدلة نجاسة طبيعي المسكر و لا بلحاظ الروايات الخاصة المتقدمة في الفقاع.

اما الأول فواضح و اما الثاني فلما عرفت من اختصاص الفقاع بالمغلى بنفسه المساوق للإسكار.

ثم لو قيل بان الفقاع يشمل حقيقة غير المسكر أيضا فقد يتوهم حينئذ إمكان إثبات نجاسته بالروايات المتقدمة التي تطبق عنوان الخمر على الفقاع بدعوى التمسك بإطلاقها للفقاع غير المسكر أيضا.

و لكن يندفع ذلك بان الخمر المطبق في تلك الروايات على الفقاع:

ان كان بالمعنى الأعم و هو طبيعي المسكر فيلزم من شمول الفقاع المطبق عليه للمسكر و غيره الجمع بين التطبيق الحقيقي و التنزيل العنائي في حمل واحد لان حمل العنوان على المسكر من الفقاع حقيقي و على غيره عنائي و هذا الجمع حتى لو كان معقولا لا يمكن إثباته بالإطلاق لما فيه من العناية و إن كان الخمر المطبق في تلك الروايات على الفقاع بالمعنى الأخص و هو المسكر العنبي فالحمل عنائي على كل حال حتى بالنسبة إلى المسكر من الفقاع فلا يلزم من إطلاق الفقاع للمسكر و غيره الجمع بين الحقيقة و العناية في حمل واحد غير ان العناية المقدمة لحمل الخمر على المسكر من الفقاع عناية عرفية و هي مشابهة للخمر في أظهر الخصائص و اما عناية حمل الخمر على غير المسكر فهي غير عرفية و ترجع إلى مجرد الادعاء و التنزيل التعبدي و حينئذ تكون عرفية العناية الاولى بنفسها مانعة عن انعقاد الإطلاق بنحو يشمل الفقاع غير المسكر أيضا و في بعض الروايات ما يدل على الحلية و الطهارة في فقاع غير مسكر.

452