×
☰ فهرست و مشخصات
الوافية في أصول الفقه

مقدمة التحقيق: ص : 7

مقدمة التحقيق:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏ و الصلاة و السلام على سيّدنا، حبيب إله العالمين، أبي القاسم محمّد، و على آله الطيبين الطاهرين.

و بعد، فإنّ اللّه تعالى لمّا اختار لوليّه الغيبة، منّ على الأمّة بطائفة نفرت للتفقّه في الدّين، لتنوب منابه، و لتكون نجوما يهتدى بها.

فقد حفظ هؤلاء شرع سيّد المرسلين، و حملوا أعباء الرسالة، و شيّدوا علوم الدين، فهم حقّا حصون الإسلام و جنوده.

و لقد وفقهم اللّه تعالى- لما لهم من الإخلاص في النيّة- غاية التوفيق، فقاموا بهذه المهمّة خير قيام.

و قد تمخّضت جهودهم العلميّة و العمليّة عن مصنّفات قيّمة، لا يدرك غورها، و لا تبلغ أطرافها. فقد خلّفوا لنا تراثا ضخما واسعا رغم قساوة الظروف المحيطة بهم و قلّة الإمكانات المتاحة لهم.

و شمل نشاطهم مختلف العلوم الدينية، و لم يقتصر على معرفة الحلال و الحرام، بل أعطوا كلّ علم من علوم الشريعة حقّه بما تركوه من آثار خالدة فصنّفوا في الكلام‏

7
الوافية في أصول الفقه

مقدمة التحقيق: ص : 7

و التفسير و الحديث و رجاله و الفقه إلى غير ذلك، فكانوا حقا فقهاء في (الدين) لا في بعضه.

ثم لما كانت مسائل الفقه- من الطهارة إلى الدّيات- بحاجة إلى مبان موحّدة تقع كبرى في قياس استنباط الحكم الشرعي، عكفوا على هذه المباني فأسدوها عناية فائقة، و اهتماما كبيرا، فبذلوا فيها ما يناسبها من التدقيق و التأمل، و ما تستحقها من التوسّع و التعمّق، فعقدوا لكل منها مبحثا خاصّا.

و لعمري فإنّها جديرة بذلك، إذ أنّ النتائج المأخوذة من هذه المباحث لهي قانون كليّ تبنى عليه فروع فقهيّة متكثرة، فقد تترتب على المبنى الواحد مئات المسائل الفقهية بأقسامها المتباينة و أبوابها المختلفة. فكون الأمر حقيقة في الوجوب مثلا، قانون ينطبق على كلّ أبواب الفقه من الطهارة إلى الدّيات، و من قال بدلالة النهي على الفساد فإنّه يبني عليه في شتّى مسائل الفقه.

و نظرا لهذه الأهميّة: جمعوا هذه المباحث في علم مستقل، أسموه (أصول الفقه) و أفردوا له مصنّفات على حدة.

و لقد كان جهدهم في هذا المجال جبّارا و موفّقا، حيث قد تمخضّ عن مصنّفات رائعة و مؤلّفات فائقة، فكانت (الذريعة) للسيد الأجلّ المرتضى، و (العدّة) لشيخ الطائفة الطوسي، و (المعارج) للمحقّق، و (النهاية) و (التهذيب) و (المبادئ) للعلاّمة، و مقدّمة (المعالم) للشيخ أبي منصور، علاوة على ما فقد منها و أتلف فيما أتلف من التراث الإسلاميّ نتيجة تسلّط الجهلاء و الطائفيين، و حكومتهم على رقاب المسلمين.

و في طليعة المصنّفات الأصولية يأتي كتابنا هذا فهو من خيرة التراث الإماميّ الزاهر، الباعث على الفخر و الاعتزاز. و سنأتي فيما بعد على بيان ميزاته و خصائصه و قيمته العلميّة، بما يجعله حريّا بالتحقيق و البحث، جديرا بالدراسة و التحليل.

8
الوافية في أصول الفقه

مع المصنف ص : 9

مع المصنّف‏

9
الوافية في أصول الفقه

مع المصنف ص : 9

لسنا بصدد وضع ترجمة مطوّلة للمصنّف، فإنّ لهذا الفن أهله و رجاله، و إنّما نعرض بإيجاز إلى ملامح من حياته و مكانته العلميّة، مع حصر مؤلّفاته، لنفرغ للكلام عن (الوافية) نفسها.

و قد ترجم للمصنّف كلّ من عني بتراجم علماء الشيعة الإماميّة و فقهائهم، و في طليعتهم:

1- معاصره، المحدّث، صاحب الوسائل، الشيخ محمّد بن الحسن الحرّ العامليّ (ت 1104 ه) في كتابه: أمل الآمل- القسم الثاني- برقم 477- ص 163.

2- و معاصره الآخر، الميرزا عبد اللّه الأفندي الأصبهانيّ (من أعلام القرن الثاني عشر ه) في كتابه: رياض العلماء و حياض الفضلاء: 3- 237- 238.

3- و الميرزا محمّد التنكابني (ت 1302 ه) في كتابه: قصص العلماء- ص 269- 270 (فارسي).

4- و المولوي الميرزا محمّد علي الكشميري (ت 1309 ه) في كتابه: نجوم السماء في تراجم العلماء- ص 193.

5- و الميرزا السيد محمّد باقر الموسوي الخوانساري الأصبهاني (ت 1313 ه) في كتابه: روضات الجنّات في أحوال العلماء و السادات: 4- 244- 246.

6- و المحدّث الشيخ عباس القمّي (ت 1359 ه) في كتابيه: الكنى و الألقاب: 2- 113 و: الفوائد الرضويّة في أحوال علماء مذهب الجعفريّة- ص 255.

7- و السيد محسن الأمين العامليّ (ت 1371 ه) في كتابه: أعيان الشيعة:

8- 70.

8- و الميرزا محمّد علي المدرّس (ت 1373 ه) في كتابه: ريحانة الأدب في تراجم المعروفين بالكنية أو اللقب: 1- 356 (فارسي).

11
الوافية في أصول الفقه

عنوانه في كتب التراجم و الأصول: ص : 12

9- و الشيخ آقا بزرگ الطهراني (ت 1389 ه) في كتابه: طبقات أعلام الشيعة- القرن الحادي عشر- ص 342.

10- و عمر رضا كحالة (ت 1408 ه) في كتابه: معجم المؤلّفين: 6- 113.

و نجمل ما جاء عنه، تحت العناوين التالية:

عنوانه في كتب التراجم و الأصول:

عنونه الشيخ الحرّ العامليّ ب: «مولانا عبد اللّه بن محمّد التوني البشرويّ».

و ذكره بهذا العنوان أيضا: الميرزا عبد اللّه الأفنديّ، و السيّد الخوانساري، و زاد الأفنديّ: «المعروف بملاّ عبد اللّه التونيّ».

و ذكره السيّد الأمين بعنوان: «المولى عبد اللّه بن الحاج محمّد التوني البشرويّ الخراسانيّ».

و عرّفه التنكابني- بالفارسيّة- ب: «آخوند ملاّ عبد اللّه توني».

و سمّاه الشيخ الطهراني ب: «عبد اللّه البشروي بن محمّد التوني الخراسانيّ، صاحب الوافية».

و قال المحدّث القمّي في كتابه الكنى و الألقاب: «التونيّ: إذا وصف به الفاضل، فهو: المولى عبد اللّه بن محمد التونيّ البشرويّ».

و بهذا العنوان- أي: الفاضل التوني- ينعت في كتب الأصول، كما سيمرّ عليك.

عصره:

لم يسجّل مترجموه تاريخ ولادته. أما وفاته: فقد قال السيّد الخوانساري: «نقل عن خطّ الشيخ أحمد- أخي المصنّف- أنه كتب على ظهر بعض نسخ (الوافية) ما هذا صورته: قد وقع فراغ المصنّف، قدّس اللّه روحه و أسكنه حضيرة القدس مع أوليائه و أحبّائه، من تسويد الرسالة- التي جمعت بدائع التحقيق و ودائع التدقيق- ثاني عشر أوّل الربيعين من شهور سنة تسع و خمسين و ألف من الهجرة، و روّح اللّه‏

12
الوافية في أصول الفقه

موطنه و مدفنه: ص : 13

روحه في سادس عشر ذلك الشهر بعينه من شهور سنة إحدى و سبعين و ألف ...».

و قال العلاّمة الطهراني: «توفي في سنة 1071 ه كما يظهر ذلك من النسخة التي كتبها علي أصغر بن محمد حسين السبزواريّ 1111 ه الموجودة في (مكتبة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام العامّة)- في النجف الأشرف- و هي منقولة عن خط أخيه أحمد بن محمد».

و سيأتي أنه فرغ من تصنيف هذا الكتاب سنة (1059 ه).

و قد نصّ الشيخ الحرّ العاملي (ت 1104 ه) على معاصرته له.

موطنه و مدفنه:

قال الميرزا الأفنديّ: «كان قدّس سره أولا بأصبهان مدّة، في المدرسة المشهورة بمدرسة المولى عبد اللّه التستري المرحوم، ثم سافر إلى مشهد الرضا عليه السلام، و توطّن فيه مدّة، ثم أراد التوجّه إلى العراق لزيارة الأئمة عليهم السلام بها من طريق قزوين، و أقام مدّة في قزوين مع أخيه المولى أحمد، في أيام حياة المولى الفاضل مولانا خليل القزويني بالتماسه، و كان بينهما صحبة و مودّة، ثم توجّه إلى الزيارة فأدركه الموت في الطريق بكرمانشاه، و دفن بها، و لعلّ وفاته بعد المراجعة فلاحظ.

و التونيّ:- بضمّ التاء المثنّاة، ثم الواو الساكنة، و آخرها نون- نسبة إلى تون، و هي بلدة من بلاد قهستان بخراسان‏ «1»، و بها قلعة الملاحدة الإسماعيلية، و أنا دخلت تلك البلدة، و كان أهلها يقولون إنّ هذه القلعة هي القلعة التي حبس بها الخواجة نصير الطوسي بأمر سلطان الملاحدة فلاحظ قصته.

و البشرويّ:- بضم الباء الموحّدة، و الشين المعجمة الساكنة، ثم الراء المهملة المفتوحة و آخرها الواو ثم الياء- نسبة إلى (بشرويه)- بضم الباء الموحّدة، ثم الشين المعجمة الساكنة، ثم الراء المهملة المضمومة ثم الياء المثنّاة المفتوحة، ثم الهاء أخيرا

______________________________

 (1) و تعرف اليوم بفردوس على ما في بعض معاجم اللغة الفارسية.

13
الوافية في أصول الفقه

زهده و تقواه، و دوره في تهذيب المجتمع: ص : 14

- و هي قرية كبيرة من أعمال بلدة (تون) ...».

قال الشيخ الطهراني [الذريعة: 6- 230]: «و عقبه في بشرويه- من محالّ خراسان- معروفون إلى اليوم».

و قال السيد الخوانساري: «و نقل عن خطّ الشيخ أحمد- أخي المصنف- انه كتب على ظهر بعض نسخ الوافية ما هذه صورته: قد وقع فراغ المصنف .......

و روّح اللّه روحه في سادس عشر ذلك الشهر بعينه من شهور سنة إحدى و سبعين و ألف في بلدة كرمانشاهان حين توجهه إلى زيارة ساداته سلام اللّه عليهم أجمعين. و دفن عند القنطرة المشهورة ب (بل شاه) عند منتهى القبور، عن يمين الطريق، و بني على قبره قبّة ليعرف بذلك. و قد أمر بتلك القبّة الحاكم العامل العادل قدوة أمراء الزمان و أسوة خوانين الدوران الشيخ علي خان أيده اللّه سبحانه. و كتب أخوه الوحيد المنتظر لأمر اللَّه أحمد بن حاجي محمد البشروي الخراسانيّ حامدا مصليا مسلما. انتهى».

و وصفه الشيخ الحرّ العاملي بأنّه «ساكن المشهد» و المراد بها مدينة مشهد الإمام الرضا عليه السلام المعروفة باسم (خراسان) التي ينسب إليها المصنّف أيضا.

زهده و تقواه، و دوره في تهذيب المجتمع:

قال عنه الشيخ الحرّ العاملي: «صالح زاهد عابد».

و أكّد ذلك سائر من ترجم له.

و أضاف الميرزا الأفندي: «و هذا المولى- على ما سمعناه ممّن رآه- كان من أورع أهل زمانه و أتقاهم، بل كان ثاني المولى أحمد الأردبيلي رضوان اللّه عليه. و كذلك كان أخوه المولى أحمد التوني».

ثمّ قال في معرض حديثه عن بلدة بشرويه: «و قد دخلتها و كان أهلها ببركة هذا المولى و أخيه المولى أحمد كلّهم صلحاء أتقياء عبّاد على أحسن ما يكون».

مع الشاه عباس الصفوي:

يحكي لنا التنكابني قصة للمصنّف مع سلطان عصره الشاه عباس الصفوي،

14
الوافية في أصول الفقه

مع الشاه عباس الصفوي: ص : 14

يبدو لنا من خلالها عدّة أمور هامّة:

أولا: المكانة العلمية و الاجتماعية للمصنّف، و الّتي أهلته لأن يقصده بالزيارة سلطان الوقت بنفسه. و هذا مؤشر واضح على سموّ مرتبته العلمية و الاجتماعية، فانّ من المعلوم ان سلاطين العصر يزارون و لا يزورون. و لكن تنتقض هذه القاعدة و تخصّص بالعلماء الكبار الذين يحتلّون المرتبة الدينية العليا و يختصون بلقب المرجع و المقلّد و المفتي، فهؤلاء يركع السلاطين على أبوابهم كرامة من اللّه تعالى لمن يبلّغ رسالته و يقوم بأعباء حمل شريعة سيد المرسلين.

و ثانيا: تعفف المصنّف عن طلب أيّ أمر دنيوي، ممّا يعكس لنا إخلاصه التام للّه تعالى، و الصفاء في النيّة إليه، و هذا هو شأن علماء الإمامية و الطابع العام لهم قاطبة، فقد سجل التأريخ لهم سيرة منزّهة عن كل أنواع التقرّب و التودد إلى ملوك العصر إلاّ ما كان من ذلك لمصلحة الدين و حفظ بيضة الإسلام و المسلمين.

و ثالثا: اهتمام المصنف بحثّ المجتمع على تعلّم العلوم الإلهية و التفقه في الدين الموصل إلى معرفة اللّه و طاعته.

يقول التنكابني‏ «1»: «ذكر أنّ الشاه عباس جاء يوما إلى زيارة الآخوند الملاّ عبد اللّه التوني، و كان الآخوند التوني قد شيّد مدرسة دينية و لكن لم يكن قد التحق بها أحد من الطلاب بعد.

و بعد أن اطّلع السلطان على تلك المدرسة و تجوّل فيها، سأل الملاّ عبد اللّه عن السبب في عدم التحاق الطلاب بها و عدم توجه الناس إلى التلمّذ فيها، فقال له الملاّ عبد اللّه سأجيبك على هذا السؤال فيما بعد.

ثمّ قام الآخوند بعد ذلك بمدّة بزيارة الشاه عباس- ردّا له على زيارته- و بعد انتهاء التشريفات و المحادثات، طلب الشاه عباس إلى الآخوند الملا عبد اللّه بأن يأمره بما يشاء. فردّ عليه الآخوند بان ليس له من حاجة. فألحّ الشاه عباس عليه بذلك. فقال الآخوند إذا كان و لا بدّ فحاجتي أن أركب و أن تسير ماشيا بين يديّ في‏

______________________________

 (1) النصّ مترجم عن الفارسيّة.

15
الوافية في أصول الفقه

مكانته العلمية و إطراء العلماء إياه: ص : 16

الملأ العام بقلب المدينة. فسأله الشاه عباس عن الغرض من ذلك. فقال الآخوند:

سأجيبك على هذا بعد مضيّ مدّة من الزمان.

لذا فان الشاه عباس امتثل هذا الأمر و لبّى له هذا الطلب. فركب الآخوند التونيّ و مشى الشاه عباس بين يديه مسافة في وسط المدينة بمرأى من الملأ العام، ثم ودّعه الآخوند و انصرف.

و بعد مرور مدّة من الزمان قام السلطان الشاه عباس ثانية بزيارة الآخوند الملاّ عبد اللّه في مدرسته المذكورة فرآها حاشدة بالتلاميذ. فاستفسر عن امتلائها بذلك العدد الكبير و عن خلوّها قبل ذلك فأجابه الآخوند بان السبب في خلوها من الطلاب فيما سبق يعود إلى ما كانوا عليه من الجهل بفضيلة العلم و منزلة العالم، لذا لم يتوجه أحد إلى مدرستي لطلب العلم، و بعد أن رأوا منك ذلك الاحترام و التقدير للعلماء حين مشيت بين يدي و أنا راكب في الملأ العام عرفوا ذلك فانثالوا على المدرسة لنيل شرف العلم، و هذا هو الّذي دعاني أن أطلب منك ذلك، و هذه هي غايتي منه، فلمّا أن فعلت ذلك علموا أنّ للعلم منزلة كبيرة في الدنيا حتى أن السلطان يترجّل بين يدي العالم.

لذا فانهم جاءوا طلبا للعزّة الدنيوية و المكانة الاجتماعية، و لكنهم بعد أن سيطوون بعض مراحل العلم و يستضيئون بنوره، ستخلص نواياهم للّه تعالى، و تحصل لهم نيّة القربة له، التي هي الغاية الأخيرة للعلم و لجميع العبادات، كما ورد في الخبر: «اطلبوا العلم و لو لغير اللّه فإنّه يجرّ إلى اللّه»، و يكونون مصداقا لمقولة:

 «المجاز قنطرة الحقيقة».

مكانته العلميّة و إطراء العلماء إيّاه:

نعته الشيخ الحرّ العاملي بقوله: «عالم، فاضل، ماهر، فقيه».

و وصفه الفقيه المتبحّر، المحدّث الشيخ يوسف البحراني (صاحب الحدائق) عند التعرض لبعض آرائه في كتابه (الدرر النجفيّة) في درّة

16
الوافية في أصول الفقه

مصنفاته: ص : 17

الاستصحاب ص 34 بعنوان «بعض أصحابنا المحقّقين من متأخري المتأخرين».

و يذكره مجدّد علم الأصول الشيخ الأنصاري- الّذي لم نعهد منه السخاء في الإطراء و إطلاق السمات العلمية إلاّ على آحاد العلماء- بعنوان (الفاضل التوني) عند نقل آرائه في موارد مختلفة من فرائده، كما سيأتي.

و بهذا اللقب يذكره أساتذة الحوزات العلمية في مجالس تدريسهم و في تقريرات أبحاثهم.

و سيأتي مزيد من الحديث عن مكانته العلمية.

مصنّفاته:

1- شرح الإرشاد، في الفقه.

ذكره له الشيخ الحرّ العاملي.

قال السيد الخوانساري: «و لم يتيسر لنا إلى الآن الوقوف على شرح إرشاده».

و أصل الكتاب: (إرشاد الأذهان) للعلاّمة الحلّي.

2- رسالة في الأصول.

ذكرها له أيضا، الشيخ الحرّ العامليّ.

قال السيد الخوانساري: «و أمّا رسالته الأصولية فهي كتابه الموسوم بالوافية في أصول الفقه، و نسخه متداولة بين الطلاّب». و لكن السيد الأمين عدّ الرسالة كتابا آخر غير الوافية.

و هو كتابنا هذا و هو الأثر الوحيد الباقي له، و سيأتي الكلام عنه.

3- رسالة في الجمعة.

ذكرها له الشيخ الحرّ العاملي أيضا.

قال الميرزا الأفندي: «هذا المولى أحد القائلين بالمنع من صلاة الجمعة في زمن الغيبة، و رسالته المذكورة مؤلّفة في هذا المعنى». و مثله ذكر السيد الخوانساري.

4- حاشية على معالم الأصول.

17
الوافية في أصول الفقه

مصنفاته: ص : 17

ذكرها له الميرزا الأفندي، و وصفها بأنّها: «حسنة».

و قال السيد الخوانساري عنها بأنّها: «جيّدة جدّاً».

و الأصل: معالم الدين و ملاذ المجتهدين. المحتوي في مقدّمته على أبحاث علم الأصول، و تعرف ب (أصول المعالم) و ب: (معالم الأصول)، للمحقق الشيخ حسن الجبعي العاملي نجل الشهيد الثاني.

5- تعليقات على المدارك.

ذكرها له الميرزا الأفندي، و السيد الخوانساري، و وصفها الأخير بأنّها كحاشيته على المعالم في الجودة.

و الأصل: مدارك الأحكام. للسيد محمد بن علي الموسوي العاملي، في شرح شرائع الإسلام للمحقق الحلّي.

6- حاشية على إرشاد العلاّمة.

ذكرها له الميرزا الأفندي، ثم قال: «و الظاهر أنّها بعينها شرحه المذكور» المتقدم برقم (1). و تابعه في ذلك السيد الخوانساري.

7- فهرست لتهذيب الأحكام لشيخ الطائفة الطوسي.

ذكره هو لنفسه في الوافية- كتابنا هذا- في آخر البحث الثاني من المقصد الثاني من الباب الثاني، و هو مبحث جواز التمسك بالعامّ قبل الفحص عن مخصصه، حيث قال: «و ينبغي في فحص مخصص العام المتعلق بشي‏ء من مسائل الطهارة ملاحظة كل واحد من أبوابها في التهذيب، و كذا الصلاة و الزكاة و الصوم و الحج و غيرها، سيّما باب الزيادات و النوادر في كل منها، و الأحسن ملاحظة الأبواب المناسبة في الكتب الأخر أيضا- إلى أن قال:- و قد تكفّل بجميع ذلك و غيره، الفهرست الّذي جعلته على التهذيب، و هو من أهمّ الأشياء لمن يريد الفقه و الترجيح، و لم يسبقني إليه أحد، و الحمد للّه» فلاحظ كلّ كلامه.

و علّق على هذا السيد الخوانساري بقوله: «و هو كما قال، و فوق ما نقول».

18
الوافية في أصول الفقه

ابتكاراته العلمية: ص : 19

ابتكاراته العلميّة:

الملفت للنظر في شخصية المؤلف هو روح الابتكار لديه، و هي صفة حريّة بالتقدير و الدراسة، فإنّ الكثير من أهل العلم و المعرفة يخوض غمار المسائل الّتي طرحت قبله من دون أن يستطيع الخروج من الدائرة التي رسمها من تقدم عليه و يبقى نطاق تفكيره و أفق أبحاثه محصورا في نفس تلك الخطوط العريضة المقررة عليه.

و يبقى عدد المبتكرين و النوابغ نزرا.

و نعتقد أنّ المصنف رحمه اللّه من أولئك الآحاد، و إنّما خفي ذكره و لم يشتهر أمره لعدّة عوامل أحدها ضياع جلّ مؤلفاته، لأسباب لا نعرفها، و قد تكون عامّة، و هي التي أودت بالكثير من تراث المذهب الإمامي الضخم على ما نقرؤه في تراجم أعلامنا، فما من علم من الأعلام إلاّ و قد ضاع له أكثر من كتاب.

هذا أحد العوامل، و نطوي كشحا عن سائرها.

و ممّا يحدو بنا إلى هذا الاعتقاد هو صنعته الفهرس على التهذيب، فهو عمل جديد من نوعه بالقياس إلى المرحلة الزمنية، و الثقافية التي عاشها، فقد وجدنا الكثير من المصنّفين و المؤلّفين على مرور أدوار علوم الفقه و الأصول و الحديث و غيرها، و لكن يأتي هذا المصنف أو ذاك و يصنّف على غرار من قبله حتى ليضع عناوين الأبواب و الفصول، بل حتى نصّ المسألة، و كأنه ينسخها ممن تقدم عليه نسخا. في هذا الجو، و في هذه الروح التقليدية نطالع اسم الفاضل التوني و هو يقوم بوضع (الفهرس) على التهذيب و يجمع شوارده، ليرجعها إلى مقرّها المناسب، و هو بذلك يقوم بعمل جديد من نوعه، فهو عمل تكميلي و إصلاحي للموسوعة الحديثية البارعة لشيخ الطائفة و عمادها الشيخ الطوسي قدس سره.

و لهذا الفهرس دلالة أخرى، فهو يعكس سعة باعه في كل من الفقه و الحديث، إذ من الواضح لأهل هذا الفن ما يتطلبه هذا العمل من مؤهّلات.

و المؤشر الآخر على عقليته الابتكارية هي المنهجية الجديدة التي مشى عليها

19
الوافية في أصول الفقه

اهتمام المتأخرين بآرائه: ص : 20

في كتابه (الوافية) حيث وضع للمباحث الأصولية تبويبا لم نعهده عند المتقدمين عليه، كما سيمر عليك.

و انفرد بعدّة آراء لم يسبقه إليها أحد.

و قد أشار السيد الخوانساري إلى ذلك حيث قال: «و له في الاستصحاب و مباحث التعادل و التراجيح تفريعات و فوائد نادرة و تصرفات كثيرة لم يسبقه إليها أحد من الأصوليين».

و سنذكر طرفا آخر من إبداعاته في الفكر الأصولي عند حديثنا عن كتابه (الوافية).

اهتمام المتأخرين بآرائه:

ليس لديّ الآن الفرصة الكافية لإعطاء هذا البحث حقّه، و إنما أدوّن هاهنا ما استحضره، و ما سبق لي أن أعددته:

ينحصر طريق تقييم الفاضل التوني بكتابه الوافية بعد أن كانت بقيّة مصنفاته في قائمة الكتب المفقودة.

مع أنه ليس بالأثر القليل رغم حجمه القليل.

فلقد أفرغ في كتابه هذا ثقلا علميّا كبيرا، و خصّه بامتيازات هامّة. حتى أصبحت آراؤه المطروحة فيه مدارا للبحث و المناقشة لدى الرعيل الأول من علماء الأصول إلى وقتنا الحاضر.

فقد اهتم الشيخ الأنصاري بأفكاره و تحقيقاته متعرّضا لآرائه بالمناقشة و البحث، ناقلا نصّ عبارته في بعض الموارد، و إليك التفصيل:

1- تعرّض إلى ما استظهره من مذهب المتقدمين في حجيّة خبر الواحد، فقد نقل عبارته في الوافية، ثم علّق عليها بالتعجب.

قال قدّس سرّه في الفرائد: 109: «بل في الوافية أنه: لم يجد القول بالحجيّة صريحا ممّن تقدم على العلاّمة، و هو عجيب».

2- حكى استدلاله بالدليل العقلي على حجيّة خبر الواحد، و جعله الوجه‏

20
الوافية في أصول الفقه

اهتمام المتأخرين بآرائه: ص : 20

الثاني من الوجوه العقليّة المقررة لإثبات حجيّة الخبر الموجود في الكتب المعتمدة للشيعة، و نقل عبارته في ذلك، ثم تناول هذا الدليل بالبحث و المناقشة.

انظر فرائد الأصول: 171- 172.

3- تعرّض رحمه اللّه إلى ما أفاده من اشتراطه لجريان أصالة البراءة شرطين آخرين- علاوة على الشروط التي ذكرها الأصوليون- الأول: أن لا يكون إعمال الأصل موجبا لثبوت حكم شرعي من جهة أخرى مثل أن يقال في أحد الإناءين المشتبهين: الأصل عدم وجوب الاجتناب عنه، فانه يوجب الحكم بوجوب الاجتناب عن الآخر، أو عدم بلوغ الملاقي للنجاسة كرّا، أو عدم تقدم الكريّة حيث يعلم بحدوثها على ملاقاة النجاسة، فان إعمال الأصول يوجب الاجتناب عن الإناء الآخر أو الملاقي أو الماء. الثاني: أن لا يتضرر بإعمالها مسلم كما لو فتح إنسان قفص طائر فطار، أو حبس شاة فمات ولدها، أو أمسك رجلا فهربت دابته، فإن إعمال البراءة فيها يوجب تضرر المالك، فيحتمل اندراجه في قاعدة الإتلاف، و عموم قوله: «لا ضرر و لا ضرار» إلى آخر كلامه. فقد حكى الشيخ الأنصاري نصّ كلامه و أشبعه تدقيقا و تحليلا و مناقشة إذ قد عقد تذنيبا خاصا بهذا الرّأي.

انظر فرائد الأصول: 529- 532.

و بمناسبة استدلال الفاضل التوني بقاعدة نفي الضرر، دخل الشيخ في هذه المسألة ليخوض غمارها و يحقق القول فيها، فجاء هذا البحث و كأنّه رسالة مستقلة قاده إلى وضعها ما ذكره التوني في الشرط الثاني بل أخذ جميع الأصوليين بالبحث عنها في هذا المورد.

و نشير إلى ان للفاضل التوني رأيه الخاصّ بمفاد هذه القاعدة، كما سنذكر ذلك بعد قليل.

4- ناقش رحمه اللّه مذهبه بتخصيص مجرى أصل البراءة بما إذا لم يكن جزء عبادة.

انظر فرائد الأصول: 532.

5- تعرّض لما استظهره صاحب الوافية من عبارة شارح المختصر (العضدي)

21
الوافية في أصول الفقه

اهتمام المتأخرين بآرائه: ص : 20

في تعريف الاستصحاب و موافقته له.

فرائد الأصول: 542.

6- تعرض لاستدلاله بصحيحة زرارة الواردة في باب الشك في عدد ركعات الصلاة و المصطلح عليها بصحيحة زرارة الثالثة- على حجيّة الاستصحاب. ثم تأمّل في ذلك و ناقش فيه.

فرائد الأصول: 567.

7- تعرض رحمه اللّه للتفصيل الّذي ابتكره و انفرد به في باب حجيّة الاستصحاب، و هو رأي نال اهتمام كلّ الأصوليين إلى يومنا الحاضر، فقد ذهب إلى التفصيل بين الأحكام الوضعيّة يعني نفس الأسباب و الشروط و الموانع، و الأحكام التكليفية التابعة لها، و بين غيرها من الأحكام الشرعية، فيجري في الأول دون الثاني [1]. فقد فصّل الشيخ الأنصاري القول في هذا الرّأي و استعرض استدلال الفاضل التوني عليه، ناقلا نصّ عبارته بطولها، ثم انهال عليه بالمناقشة فقرة فقرة مما اضطرّه إلى عقد بحث عن الحكم الوضعي و بسط الكلام فيه و تحقيق ما إذا كان مستقلا بالجعل، أو انه تابع بالجعل للحكم التكليفي.

فرائد الأصول: 598- 612.

و بهذا ألجأ الفاضل التوني الأصوليين إلى بسط الكلام عن الحكم الوضعي، و تفصيل القول فيه من بيان حقيقته و كيفيّة تعلّق الجعل به و تحديد مصاديقه‏

______________________________

 [1] أفاد بعض أساتذة العصر في مجلس درسه عند استعراض هذا الرّأي للفاضل التوني و توضيحه: أنّ إطلاقه (الأحكام الوضعيّة) على الأسباب و الشروط و الموانع، مسامحة منه، فان (الأحكام الوضعيّة) باصطلاح القوم هي الشرطية و السببيّة و المانعيّة.

و حاصل مسلكه هو: أنّ الاستصحاب حجّة في موضوعات الأحكام الوضعيّة، و الأحكام التكليفية المسبّبة عنها.

و بعبارة أخرى: انّ الاستصحاب يجري في الأسباب و الشروط و الموانع، و في الحكم الشرعي المترتب عليها، دون السببيّة و الشرطيّة و المانعيّة. أما غير هذه الموارد من الأحكام التكليفية و مطلق الأحكام الوضعيّة فالاستصحاب غير جار فيها.

22
الوافية في أصول الفقه

اهتمام المتأخرين بآرائه: ص : 20

و صغرياته، بما لم نعهده منهم قبل إحداث هذا التفصيل في الاستصحاب. و لذا ترى الأصوليين يخوضون هذا البحث في فصل الاستصحاب.

8- أيّد الشيخ الأنصاري رحمه اللّه دعواه اشتراط بقاء الموضوع في جريان الاستصحاب، بكلام الفاضل التوني الّذي أورده لردّ تمسك المشهور في نجاسة الجلد المطروح باستصحاب عدم التذكية.

فرائد الأصول: 641.

9- دعم رحمه اللّه دعواه عدم جواز إثبات عمرو باستصحاب الضاحك المحقق في ضمن زيد. ثم ناقشه في قياسه (عدم المذبوحية) على المثال المذكور.

فرائد الأصول: 643.

10- استشهد رحمه اللّه على دعواه عدم جريان الأصل في المسبب و تقدم الأصل في السبب عليه و عدم إمكان جريانهما معا. بكلام الفاضل التوني و نقل نصّ عبارته الصريحة في ذلك.

فرائد الأصول: 742.

و كذا وقعت آراؤه موقع الاهتمام و المناقشة لدى الآخوند الخراسانيّ، فقد تطرّق في الكفاية إلى مناقشة آرائه التالية:

1- إضافته الشرطين المتقدمين لجريان أصل البراءة. و فعل الآخوند ما فعله الشيخ الأنصاري قبله.

كفاية الأصول: 379 2- تفسيره الضرر المنفي بقوله صلّى اللّه عليه و آله «لا ضرر و لا ضرار» ب: الضرر غير المتدارك.

كفاية الأصول: 381.

3- الدليل العقلي الّذي أفاده لإثبات حجيّة خبر الواحد الموجود في الكتب المعتمدة للشيعة.

كفاية الأصول: 305.

4- بسط الآخوند الكلام في تحقيق حال الأحكام الوضعيّة تبعا للشيخ‏

23
الوافية في أصول الفقه

اهتمام المتأخرين بآرائه: ص : 20

الأنصاري، توطئة للقول بجريان الاستصحاب فيها ردّا على التفصيل المتقدم الّذي أفاده الفاضل التوني في ذلك.

كفاية الأصول: 399- 404 و ما زالت آراؤه محلّ اعتناء الأصوليين في تصنيفاتهم، و أساتذة الدروس العالية في مجالس تدريسهم.

و إن دلّ ذلك على شي‏ء فانما يدل على أنّه أحد أعلام هذا العلم، و أحد المبتكرين للنظريات الأصولية.

24
الوافية في أصول الفقه

مع الكتاب ص : 25

مع الكتاب‏

25
الوافية في أصول الفقه

أهميته و امتيازاته: ص : 27

أهميته و امتيازاته:

الوافية: من خيرة المتون الأصولية التي خلّفها لنا فطاحل علماء الإماميّة فلقد ترك لنا أولئك مصنفات في مختلف علوم الشريعة، من الكلام و التفسير و الفقه و الأصول و الحديث و الرّجال، يمثّل كل منها المرحلة التي وصل إليها ذلك العلم في تلك البرهة.

و فيما يخصّ علم الأصول:

إن كانت (الذريعة) معبّرة عن قمّة ما وصل إليه هذا العلم في عصر السيد المرتضى، و (العدة) في عصر شيخ الطائفة الطوسي، و (المعارج) في عصر المحقق الحلّي، و (النهاية) و (التهذيب) و (المبادئ) في عصر العلاّمة الحلّي، و مقدمة (المعالم) في عصر المحقق الشيخ حسن، فإن (الوافية) تمثّل القمة في التطور الأصولي الّذي ارتقى إليه في القرن الحادي عشر الهجري لدى الأصوليين من الإمامية. فقد حباها مؤلّفها الّذي يصفه الشيخ الحرّ العاملي بالفقيه العالم الفاضل (الماهر)، حباها بمزايا أفردتها عما صنّف قبلها. فإنّ مقارنة سريعة بينها و بين ما تقدمها ليكشف عن ذلك بوضوح.

فمن ينتقل من مراجعة (المعالم) إلى (الوافية) يشعر بتحوّل و تطور، و يلاحظ نقلة في المستوى و الأفق الّذي يدفع بالقلم لرسم تلك السطور، و ليس مجرّد تبدّل في الرّأي، أو تغيير في المبنى. و بكلمة مختصرة: يلاحظ المقارن بين الكتابين اختلافا في المنهجية، و في نمط التفكير، و صياغة المطالب، و الدخول إلى البحث من مسلك لم يعهد من قبل، و اعتمادا على معايير لم يلتفت إليها من سالف.

و ترى المصنف في (الوافية) قويّ الحجّة، بعيد النّظر، يختار الرّأي الصائب في المسألة، دون أن يتقيّد بما ذكروه دليلا عليه بل قد لا يكتفي بما أورده الأصوليون على‏

27
الوافية في أصول الفقه

أهميته و امتيازاته: ص : 27

المدّعى من الأدلة إن رآها سليمة بل يبتكر دليلا خاصا، كما فعل في حجية خبر الواحد، و قد يوافق الآخرين في الرّأي و لكن لا يرتضي ما أقاموه حجة عليه، فيردها، و يسوق لذلك الرّأي برهانا آخر.

و بهذا يخرج عن طور التبعيّة و التقليد، و يسلك مسلك التحقيق و التأسيس.

و نراه الحاذق في المناقشة، فهو يجيد تشخيص نقاط الضعف في أدلّة خصمه، فيسدد إليها الرمية، و ينقض عليها بالنقض و الحلّ لتعود واهية سقيمة.

و تراه يحسن الأخذ بزمام المسائل الأصوليّة بعد ان ينتزعه من يد خصمه انتزاعا فنيّا و يردّها إلى بابها كما فعل مع المحقق و العلامة و صاحب المعالم، في مسألة دلالة النهي على الفساد في المعاملات، فقد عرّض بهم في استدلالهم على عدم الدلالة بالدليل اللفظي، منبّها على محور النزاع، و انّ المتنازع فيه هو حكم العقل بالفساد أو عدمه، لا استفادة الفساد و عدمها من الدليل النقلي بإحدى الدلالات اللفظية الثلاث. و نجده يعرض الأفكار المستحدثة، و التحقيقات المبتكرة، فتراه يعترض على حصر سقوط التكليف بالإطاعة و العصيان، و يقول بوجود مسقط ثالث و هو حصول غرض المولى، موضحا فكرته هذه بالمثال المقنع و ها هو يستعرض فكرة الترتّب عرضا واضحا على دقّتها و استعصائها.

و من التفاتاته و تدقيقاته القيّمة توضيحه و إبانته لمعنى بعض المصطلحات التي أدّى الخلط فيها إلى وقوع المخاصمات و المشاجرات الفارغة لدى كثير من السطحيين، و هو بهذا يفرّق بدقّة و يميّز بجدارة بين النزاعات اللفظيّة و المشاحاة الاصطلاحية و بين المناقشات العلميّة، فلاحظ ذلك في توضيحه لمصطلح (الاجتهاد) و إزالة الملابسات التي أحيطت به، و تحديد المعنى المقصود به لدى القدماء و المتأخرين.

ليجلي بذلك عن وجه الحقيقة و ينفض الغبار عنها. لتصبح المسألة مسلّمة واضحة لدى الطرفين.

و تراه يؤسس الرّأي و ينفرد به كما فعل ذلك في تفصيله في حجية الاستصحاب. و اشتراطه جريان البراءة بشروط مبتكرة و من خلال استعراض الكتاب يبدو للقارئ تسلط المصنف و إلمامه بالمعقول و هو ما يتطلبه الخوض في غمار

28
الوافية في أصول الفقه

1 - قسمة العلم ص : 29

المسائل الأصولية و كشف المغالطات عنها، و إبداء الرّأي الصائب فيها. فلاحظ ما سبرته يراعته في بحث اجتماع الأمر و النهي من هذا الكتاب.

و مع كل هذا الثقل العلمي الّذي أفرغه في كتابه هذا، جاء هذا الكتاب حسن الأسلوب سلس العبارة، تقرؤه و يراودك الشعور بالارتياح لحسن العبارة و جزالة الألفاظ، و طراوة البيان. ممّا يجذب القارئ إليه و يملكه بما لا يدع له خيار مباعدة الكتاب.

و قد اتّصف هذا الكتاب- علاوة على هذا كلّه- بالمزايا و الخصائص التالية:

1- قسمة العلم.

أولى المصنف اهتماما كبيرا بالقسمة، و هي أحد الرءوس الثمانية، المذكورة في علم المنطق، التي يستعملها المؤلّفون، ليكون الداخل إلى العلم على بصيرة من أمره.

فقد قسّم المصنّف- عمليّا- مسائل الأصول إلى: لفظية، و عقلية، و استعمل هذا التعبير بكثرة، خاصة فيما يرتبط بالأصول العملية، و هذا هو المتداول فيما انتهت إليه تحقيقات هذا العلم.

و أظهر المصنّف ذلك بصراحة عند ما تعرّض لبحث (مقدمة الواجب) و (مسألة الضد) موضحا ضرورة إيرادهما في البحوث العقليّة، إذ أنّهما ليسا من باب دلالة اللفظ، مشيرا إلى عدم استقامة ما هو المألوف عند الأصوليين من إيرادهما في مباحث الألفاظ، بعد أن كان واقع البحث فيهما إنما هو عن (الملازمة) و هي عقلية، و قد أشرنا إلى هذا فيما تقدم.

و كذلك فعل المصنف في مباحث المفاهيم حيث أوردها في فصل التلازم بين الحكمين.

و استعمل المصنف مصطلح الحكم الواقعي و ما يقابله، و هو مبتن على هذه القسمة كما لا يخفى.

أضف إلى كل هذا، استناده إلى الأدلّة العقلية في مناقشاته و استدلالاته بما

29
الوافية في أصول الفقه

2 - الموضوعية في البحث ص : 30

يدل على قدرة فائقة و تسلّط على فن المعقول.

2- الموضوعيّة في البحث.

لقد اتّسم كتاب (الوافية) بالموضوعيّة التامّة في علم الأصول، إذ قلّما يلاحظ فيه الشرود إلى مسائل و أبحاث من علوم أخرى.

و قد أدّى حقّ التمييز بين المسائل الأصوليّة و ما يقع في دائرة البحث في الكتاب منها، و بين غيرها، بدقّة فائقة في بداية الكتاب، بنحو يحدد مسار البحث فيه، فلاحظ ما ذكره في نهاية المقصد الأوّل من الباب الأوّل، و ما ذكره في آخر البحث الثالث من المقصد الثاني من الباب الأوّل.

و من حيث المصادر التي اعتمدها:

فإنّا نفاجأ في هذا الكتاب بسعة مراجعته لكل مصنفات الأصول حتى شملت كتب الأصول للمذاهب المختلفة، فهو ينقل أحيانا عنها جملا و نصوصا ممّا يدلّ على مراجعته لها مباشرة، فقد حكى عن (التمهيد) و (الكوكب الدرّي) للأسنوي، و (المحصول) للفخر الرازي، و (شرح مختصر ابن الحاجب) لعضد الدين، و (الإحكام) للآمدي، و (شرح جمع الجوامع) للفاضل الزركشي، و غيرها.

و هذا إنما يدلّ على سعة أفق تفكيره، و حرّية الرّأي عنده، و حسن اختياره، فإن تأليفا مثل الوافية- جامعا مانعا- لا يتكوّن إلا بمثل هذا الإقدام الجري‏ء.

مضافا إلى دلالته على الموضوعيّة العلميّة في البحث، حيث ان هذا العلم يقع في عداد العلوم الآليّة، فهو منطق الفقه، فكما ان المنطق يعتبر ميزانا لأصل التفكير، يحدّد مسار الاستدلال و يقوّمه، فكذلك علم الأصول بالنسبة إلى الفقه، لأنه يحدد العناصر المؤثّرة في صحّة الاستدلال الفقهي.

و لذا فإن التصنيفات الأصوليّة لا تتفاوت في العرض و الاستدلال و المنهج من مذهب لآخر، إلاّ بمقدار الاختلاف بين اللغات من حضارة إلى أخرى، و هذا لا يؤثّر في أصل الهدف المرسوم لعلم الأصول.

30
الوافية في أصول الفقه

3 - المنهج التربوي ص : 31

3- المنهج التربوي.

اهتم المصنف في هذا الكتاب بجانب تربية المتعلّمين بنحو لم يسبق له مثيل في الكتب الأصوليّة، فإنّ أكثر المؤلّفين لتلك الكتب إنما يهدفون لإيداع آرائهم فيها و تسجيلها حرصا عليها.

و اما هذا الكتاب، فان سيرة مؤلّفه فيه، تدلّ على أنّه ألّفه قاصدا به- إضافة إلى ذلك- استفادة الطلاب منه، ليكون كتابا دراسيّا و منهجا تعليميا لمادة علم الأصول.

فتراه يقول في آخر مبحث أصالة النفي (القسم الثالث من الباب الرابع).

 «و الغرض من نقل جملة من مواضع استعمال (الأصل) أن تمتحن نفسك في المعرفة، لتشحذ ذهنك. و تحقيق (الأصل) على هذا الوجه ممّا لا تجده في غير هذه الرسالة».

و نراه في كل مسألة يوضح البحث بأمثلة موجّهة إلى الطالب، ليعطيه قدرة المقارنة و التطبيق بسهولة تامّة.

حتى أنّه يواكب مستوى الطالب فيحاول معه أمورا أوّليّة، كما فعله في إرشاد الطالب إلى كيفيّة الاستفادة من كتب الحديث فلاحظ ما ذكره في نهاية مبحث التمسّك بالعامّ قبل الفحص عن المخصّص (البحث الثاني من المقصد الثاني من الباب الثاني).

و كل هذا إنما يدلّ على مدى اهتمام المصنّف بهذا العلم، و بالجانب التربوي فيه، و على شفقته على الطلاّب و المحصّلين‏ «1».

و لعلّ هذا الجانب التربوي و التعليمي في هذا الكتاب هو السبب في اهتمام‏

______________________________

 (1) لاحظ في هذا المجال ما تقدم في هذه المقدمة تحت عنوان (مع الشاه عباس الصفوي)

31
الوافية في أصول الفقه

4 - تأثيره في حيوية العلم ص : 32

العلماء به، و كثرة تداوله بين المحصّلين، و صيرورته متنا دراسيّا لطلاب الحوزات العلمية لفترة طويلة، و اعتناء العلماء به حتى أكثروا من الشروح و التعليقات عليه، كما سيمرّ عليك ذكرها.

4- تأثيره في حيويّة العلم.

تمّ تأليف هذا الكتاب في سنة (1059 ه) و هي الفترة التي مني فيها علم الأصول بحركة مضادّة، فكان للمصنّف بكتابه هذا دور عظيم في الإبقاء على حيويّة هذا العلم، و بصورة أدق و أسلم مما سبقه من المصنّفات الأصوليّة بحيث تنقشع- بأسلوبه و متانته- السحب التي أثارها معارضو علم الأصول، و النقود التي أوردوها على المصنّفات الأصوليّة السابقة.

فقد أجاد المصنف في هذا الكتاب الردّ على أهم الآراء المضادّة للأصول، و أكثرها تطرّفا، كالقول بقطعيّة أخبار الكتب الأربعة، و القول بعدم الحاجة إلى علم الأصول، فكان سدّا منيعا أمام استفحال تلك الآراء في منطقة خراسان و حوزتها العلميّة.

و تصدّى للمحدّث الأمين الأسترآبادي، الّذي أثار تلك الآراء، و ناقشه في هذا الكتاب بمتانة و دقّة و موضوعيّة تامّة.

و بالتالي فهو يشكك في حجيّة مطلق الخبر الواحد، و يلتزم بتقسيم الحديث إلى الأقسام المعروفة من الصحيح و الحسن و الموثّق و الضعيف، إلاّ أنّه ينتهي بالرأي إلى جواز العمل بأخبار الكتب الأربعة و القول بحجيّتها مشترطا ذلك بشرطين دون أن يلتزم بقطعيّة صدورها.

و يتمسّك بأصالة البراءة، و يستشهد بها في عدّة مواضع.

و قد أدّى حقّ كلّ ذلك بعيدا عن التطرّق إلى فئة معيّنة، و لذلك نراه يذهب إلى جواز تقليد الميّت و لا يقول بجواز التقليد مطلقا، كما لا يبتّ بالذهاب إلى حجيّة مطلق ظواهر الكتاب، مما يدلّ على حريّة في التفكير، و اتباع مطلق للدليل، فهو حقا (من أبناء الدليل، حيثما مال يميل).

32
الوافية في أصول الفقه

تاريخ تصنيفه: ص : 33

و كتابه هذا لوحده، دليل على أثره البارز في إرساء قواعد علم الأصول في الحواضر العلميّة، سيّما حاضرة خراسان، على مدى بعيد، و منذ تأليفه حتى عصرنا الحاضر.

تاريخ تصنيفه:

لم يعلم بالتحديد التاريخ الّذي بدأ فيه الفاضل التوني تدوين هذا الكتاب.

أما انتهاؤه منه: فقد جاء في آخره- على ما في نسخة الأصل و أ و ط-:

 «و قد وقع الفراغ منه يوم الإثنين، ثاني عشر أوّل الربيعين في تاريخ سنة 1059 ه».

و يعضده ما ذكره السيد الخوانساري، حيث قال: «نقل عن خط الشيخ أحمد- أخي المصنف- أنّه كتب على ظهر بعض نسخ الوافية ما هذه صورته: قد وقع فراغ المصنف قدس اللّه روحه و أسكنه حضيرة القدس مع أوليائه و أحبائه من تسويد الرسالة التي جمعت بدائع التحقيق و ودائع التدقيق، ثاني عشر أوّل الربيعين، من شهور سنة تسع و خمسين و ألف من الهجرة ...».

و ذكر الطهراني كما تقدم: أنّ تلك النسخة موجودة في مكتبة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام العامّة بالنجف الأشرف، و هي بخط علي أصغر بن محمد حسين السبزواري، و تاريخها 1111 ه.

تبويبه:

مهارة المصنّف- كما نصّ عليها الشيخ الحرّ العامليّ- و كونه من المحقّقين- كما شهد له بذلك الشيخ يوسف البحراني- أمليا على المصنف أن يضع لكتابه هذا تبويبا فنيّا دقيقا، و هو أول سمات هذا الكتاب و امتيازاته. فقد وضع خارطة لمباحث الأصول، تنبئ عن تضلّعه فيه، فلم يعد يستعرض مسائل الأصول دون الالتفات إلى ترابطها، بل جعل كل طائفة منها تحت عنوان يجمعها و يميّزها عن المجموعة

33
الوافية في أصول الفقه

الباب الأول: في الأمر و النهي: ص : 34

الأخرى. و كذا نراه يضع كل مسألة في الموضع المناسب لها، و يخرجها عن الموضع الّذي كانت عليه في التأليفات الأصولية التي تقدّمته، و إن دلّ ذلك على شي‏ء فانما يدل على عقليته الرافضة للتقليد و على عمق نظره و التفاته إلى أطراف المسألة و مردّ النزاع فيها. فقد صنّف مسائل الأصول تصنيفا رائدا، و وزعها توزيعا دقيقا لم نعهده عند من قبله، جاعلا كلّ صنف تحت عنوانه اللائق له. فجاء كتابه هذا محتويا على:

المقدمة، و تشمل أربعة مباحث، أولها: في تعريف أصول الفقه، ثانيها: في الحقيقة و المجاز، ثالثها: في دوران اللفظ بين الحقيقة و المجاز و النقل و التخصيص و الاشتراك و الإضمار. رابعها: في الاسم المشتق.

الباب الأول: في الأمر و النهي:

و جعله في مقصدين، يتضمن الأول مباحث الأمر، و الثاني مباحث النهي.

الباب الثاني: في العام و الخاصّ.

و جعله في مقصدين أيضا، اشتمل الأوّل على مباحث العام، و الثاني على مباحث الخاصّ.

الباب الثالث: في الأدلّة الشرعيّة.

و جعله في فصول:

الفصل الأول: في الكتاب.

الفصل الثاني: في الإجماع.

الفصل الثالث: في السنّة.

34
الوافية في أصول الفقه

الباب الرابع: في الأدلة العقلية ص : 35

الباب الرابع: في الأدلة العقليّة.

و جعلها أقساما:

القسم الأول: فيما يستقلّ بحكمه العقل.

القسم الثاني: استصحاب حال العقل.

القسم الثالث: أصالة النفي أو البراءة الأصلية.

القسم الرابع: الأخذ بالقدر المتيقّن.

القسم الخامس: التمسك بعدم الدليل.

القسم السادس: استصحاب حال الشرع.

القسم السابع: التلازم بين الحكمين، و أدرج فيه خمسة أمور:

أ- مقدمة الواجب.

ب- اقتضاء الأمر بالشي‏ء النهي عن ضده.

ج- المنطوق غير الصريح.

د- المفاهيم.

ه- القياس.

الباب الخامس: في الاجتهاد و التقليد.

و جعله في مباحث:

المبحث الأول: في تعريف الاجتهاد.

المبحث الثاني: في تجزئة الاجتهاد.

المبحث الثالث: في العلوم التي يتوقف عليها الاجتهاد.

المبحث الرابع: في التقليد.

35
الوافية في أصول الفقه

الباب السادس: في التعادل و التراجيح ص : 36

الباب السادس: في التعادل و التراجيح.

و هو آخر الكتاب.

و إنّ مقارنة سريعة بين هذا التبويب و التوزيع للمسائل، و بين ما نجده في المصنفات الأصولية المتقدمة عليه، لتدلّ على ما أسلفناه، و كمثال على ذلك: مسألة مقدمة الواجب، فلاحظ موقعها عنده ثم موضعها عندهم.

و أهمّ من ذلك فرزه بين الأدلّة و الحجج مقسّما لها إلى الشرعيّة و العقليّة مدرجا كلّ حجّة و دليل في قائمته الخاصّة به.

نسخه:

لما كان هذا الكتاب أحد المتون الأصولية البارزة و الهامة كما أسلفنا كان من الطبيعي أن يتتابع طلاب هذا العلم و رجاله على نسخه و اقتنائه، لذا كثرت نسخه و انتشرت بينهم.

قال السيد الخوانساري و هو يتحدث عنه: «و نسخه متداولة بين الطلاّب».

و قد حفظت المكتبات العامّة و الخاصّة في كل من العراق و إيران الكثير من تلك النسخ.

و قد نال الكتاب حظ الطبع و النشر في بومباي من حاضرة الهند عام 1309 ه و لم تعد طباعته بعد ذلك. فعاد نادر الوجود، بعيد المتناول.

شروحه و التعاليق عليه:

عاجل المصنّف الأجل.

فتوفي بكرمانشاه و لمّا يصل إلى المراقد المقدسة و مراكز العلم و العلماء، و هو في طريقه إليها.

36
الوافية في أصول الفقه

1 - شرح الوافية ص : 37

و لكن سارت الركبان بسفره القيّم هذا فأوصلته إليها، ليكون خير نائب عنه.

فاستقبله عطاشى التبحّر و التحقيق، و عكفوا عليه مطالعة و مدارسة و مناقشة.

ثم رسموا ما خلصوا إليه من أفكار على صحائف من نور، فكانت الشروح و الحواشي التالية:

1- شرح الوافية.

للسيد جواد العاملي، صاحب مفتاح الكرامة. المتوفى سنة 1226 ه.

قال العلاّمة الشيخ الطهراني: «و هو مبسوط في مجلّدين، كما ذكره سيدنا- السيد حسن الصدر- في التكملة. و ذكر السيد الأمين العاملي في ترجمة الشارح المطبوعة في آخر متاجر مفتاح الكرامة: انه تعرض فيه لأغلب كلمات الأساطين و شرّاح الوافية، و جميع المباحثات التي وقعت بين الشيخ الأكبر (صاحب كشف الغطاء) و السيد محسن الكاظمي في إجراء أصل البراءة في أجزاء العبادات».

2- شرح الوافية.

للسيد حسن الحسيني.

قال العلاّمة الطهراني: «كذا ذكرته قبل خمسين عاما في مسودة (الذريعة) الأوليّة، و فاتني ذكر خصوصياته».

3- شرح الوافية.

للسيد الأجلّ صدر الدين محمد بن مير محمد باقر، الرضوي القمّي الهمداني الغروي المتوفى في عشر الستين بعد المائة و الألف- كما أرّخه السيد عبد اللّه الجزائري في إجازته الكبيرة- و كان من أعلام عهد الفترة بين الباقرين: المجلسي، و البهبهاني.

قال العلاّمة الطهراني: «و هو شرح بالقول- يعني قوله ... أقول ...- في خمسة عشر الف بيت تقريبا. أوّله (الحمد للّه الّذي أوضح لنا منهاج الدين بمصباح‏

37
الوافية في أصول الفقه

4 - شرح الوافية ص : 38

الحق من مشكاة اليقين.). رأيته في مكتبة الخوانساري بالنجف الأشرف، و مكتبة السيد المجدّد الشيرازي بسامراء، و سيدنا الحسن الصدر في الكاظمية، و نسخة السيد محمد باقر الحجّة بكربلاء كانت بقلم أقل الطلاب حسين المحلاّتي المشتهر باسم أبيه أيام تحصيله بالحائر في سنة 1227 ه. و أوّل الشرح (قوله: إن كان التبادر ... أقول: معنى كون التبادر.) ..

و للشارح نفسه عليه حواش كثيرة، و الخطبة من إنشاء بعض تلاميذه. و يوجد أيضا في المكتبة الرضوية، و مكتبة الشيخ مشكور، و الشيخ هادي كاشف الغطاء، و كانت عند السيد أبي القاسم الخوانساري نسخة بخط حيدر بن محمد الخوانساري في سنة 1196 ه، و يوجد أيضا في مكتبة الإمام علي عليه السلام العامّة بالنجف الأشرف».

و قد يسمّى هذا الشرح بالحاشية.

و قد صرّح في موضع منه أنه كان مشغولا بتأليفه سنة 1141 ه.

4- شرح الوافية.

قال الشيخ الطهراني: «كتب عليه هذا العنوان، و أوّله (قوله: الأصل ما يبتني عليه الشي‏ء إلخ قد جرت عادة الأصوليين بتعريف الفقه بكلا معنييه: الإضافي و العلمي) رأيته كذلك عند السيد عبد الحسين الحجّة بكربلاء. و قد كتب عليه انه للسيد مهدي، و تاريخ كتابته سنة 1243 ه. لكنه ليس هو شرح الوافية للسيد مهدي بحر العلوم لأن شرحه على الوافية مقصور على بحث الحقيقة و المجاز» كما سيأتي.

5- شرح الوافية.

للسيد بحر العلوم، محمد مهدي بن السيد مرتضى بن السيد محمد الطباطبائي البروجردي الغروي المتوفى سنة 1212 ه.

قال العلاّمة الطهراني عن هذا الشرح أنه «غير تام، يقرب من نصف المعالم.

38
الوافية في أصول الفقه

6 - الوافي: شرح الوافية ص : 39

خرج منه مبحث الوضع إلى أواخر مبحث الحقيقة و المجاز.

أوّله- بعد خطبة مختصرة-: (قوله اللفظ إن استعمل فيما وضع له فحقيقة.

جعل المقسم مطلق اللفظ المتناول للمفرد و المركب، لأنّ كلا منهما ينقسم إلى الحقيقة و المجاز. و لا يختص الانقسام إليهما باللفظ المفرد على ما توهّمه بعض الأعلام- إلى قوله: و إلاّ فمجاز. أقول: لا يخفى أنّ تعريف المجاز على هذا يدخل فيه الألفاظ المستعملة في غير معانيها غلطا) و أورد فيه بحث الحقيقة الشرعيّة، و الصحيح و الأعم، و تعارض الأحوال. رأيت نسخة منه في كتب الشيخ عبد الحسين الطهراني، و نسخة منه بخط الشيخ نعمة الطريحي كتبها لنفسه سنة 1236 ه. كانت عند الشيخ هادي كاشف الغطاء، و نسخة خط المولى محمد كاظم الشاهرودي كتبها في سنة 1238 ه كانت في مكتبة الخوانساري. و رأيت نسخة منه في مكتبة الحسينية في النجف. و نسخة عند السيد محمد علي بحر العلوم، و نسخة السيد محمد صادق بحر العلوم، و نسخة عند العلاّمة السماوي كتابتها 28 جمادى الثاني سنة 1222 ه و هي بقلم الشيخ علي بن الشيخ أحمد بن الشيخ عيسى بن الشيخ علي بن نصر اللّه الجزائري. و نسخة عند الشيخ نعمة اللّه بن عبد اللّه خواجه الحويزي في كتب الشيخ مشكور تاريخها سنة 1233 ه. و نسخة تاريخها سنة 1246 ه و هي بقلم السيد محمد السيد حسين الموسوي عند السيد ضياء الدين العلاّمة الأصفهاني.

و المشهور أنّ السيد بحر العلوم لمّا عزم لزيارة المشهد الرضوي في الطاعون سنة 1186 ه أمر تلميذه المقدس الكاظمي السيد محسن، بتتميم هذا الشرح لكنّه تأدّب عن التتميم، و شرحها- أي الوافية- مستقلا و سمّى شرحه بالوافي كما سيأتي».

و قد يسمّى هذا الشرح أيضا- أعني شرح السيد بحر العلوم- بالحاشية على الوافية.

6- الوافي: شرح الوافية.

للمحقق المقدس الكاظمي، السيد محسن بن الحسن الأعرجي المتوفى 1227 ه.

39
الوافية في أصول الفقه

7 - المحصول في شرح وافية الأصول ص : 40

قال العلاّمة الطهراني: «و هو شرحه الكبير في خمسين ألف بيت. شرع فيه سنة الطاعون 1186 ه. و فرغ منه 1- رجب- 1196. أوّله (الحمد للّه الواهب المنّان المتبع الإحسان بالإحسان) عناوينه: (قوله قوله). توجد نسخته في مكتبة الخوانساري و الشيخ هادي كاشف الغطاء من وقف عبد الهادي بن عيسى كبّة في مجلدين ضخمين يقرب من خمسين الف بيت. و نسخة الشيخ جواد الجزائري كتابتها 1240 ه و نسخة مكتبة السيد خليفة نقلت عن الأصل المسودة في الخميس 14 ذي الحجة 1196 ه بقلم بهاء الدين محمد بن أحمد».

7- المحصول في شرح وافية الأصول.

له أيضا.

قال العلاّمة الطهراني: «أوّله (بعد الحمد للّه رب العالمين. قوله ... فيقول العبد الفقير إلى اللّه المغني، محسن بن الحسن.) .....».

و هو ملخّص شرحه الكبير السابق- الوافي- و سمّاه بالمحصول لذلك. و أضاف الطهراني: «و هو مرتّب على مقدمة ذات مطالب و فنّين أوّلهما مباحث الألفاظ، و الفن الثاني في مدارك الأحكام. و هو خمسة أبواب: 1- الكتاب المجيد. 2- السنّة الغرّاء.

3- إجماع الأمّة. 4- العقل الراجع إليهما. 5- الاجتهاد و التقليد. و هو آخر الكتاب. رأيته في خزانة الشيخ علي بن الشيخ محمد رضا آل كاشف الغطاء بالنجف، و في خزانة سيدنا الصدر نسخة ناقصة الآخر، و في كتب الشيخ عبد الحسين الطهراني، و رأيت عند السيد محمّد الحجّة نزيل قم أوان كونه في النجف نسخة في مجلدين تمام الأصول إلى آخر الاجتهاد و التقليد. و عند الشيخ هادي كاشف الغطاء نسخة خط المولى محمد سليم بن الحاج مهدي. فرغ من الكتابة في الجمعة 21- صفر 1224 ه في حياة المؤلف».

8- الحاشية على الوافية.

له أيضا.

40
الوافية في أصول الفقه

8 - الحاشية على الوافية ص : 40

قال العلاّمة الطهراني: «و هي غير شرحيه للوافية- الموسوم أحدهما بالوافي و الآخر بالمحصول- بل هذه تعليقات بخطّه على نسخة الوافية التي كتب بخطه في آخرها ما صورته: بلغ قبالا و تصحيحا بحسب الجهد و الطاقة في مجالس عديدة آخرها يوم الأحد سلخ جمادى الأولى سنة ثمان و ثمانين بعد المائة و الألف و كتب الأقل محسن الحسيني الأعرجي».

راجع كلّ ما نقلناه عن العلامة البحاثة الشيخ الطهراني، في هذا المقام، كتابه: الذريعة إلى تصانيف الشيعة (6- 230) و (14- 166- 168) و (20- 151) و (25- 14- 15).

9- و هناك تعليقات على الوافية في هامش نسخة الأصل، و أخرى في هامش النسخة المطبوعة لا نعرف أصحابها.

41
الوافية في أصول الفقه

تحقيق الكتاب ص : 42

 

تحقيق الكتاب‏

عند ما أقدمت على تحقيق هذا الكتاب، كنت أعلم أن التصدي لمثله عمل مجهد، و لكن فاتني تقدير مبلغ الصعوبة، و أخطأت في تحديد الوقت الّذي يستغرقه.

و كانت نيّتي في البدء مقتصرة على مقابلة النسخ المتوفرة منه و ضبط نصّه و إخراجه إلى المكتبة الإسلاميّة بحلّة تواكب الثقافة المعاصرة.

و عند ما اشتغلت بذلك، ألزمني الهدف مراجعة مصادر الأحاديث و النصوص و الآراء المنقولة فيه. فإن تقويم النصّ يتعذر بدونها.

و هكذا أقحمت بمراجعة مجاميع الحديث، و كتب الأصول و اللّغة، بل كتب الفقه و التفسير و غيرها أحيانا.

و بعد أن وقفت على شاطئ هذه الكتب، رأيت إسباغ العمل، فهامت بي الهمّة إلى قطع أشواط أخرى في تحقيقه تمثّلت في تخريج الآيات القرآنية و الأحاديث، و النصوص، و الآراء المنقولة عن علماء الأصول، و نسبة الأقوال إلى قائليها، فأبطأ ذلك بي عدّة أعوام، تخللتها فترات التنقيب عن بعض المصادر البعيدة المأخذ، فبذلت في تحقيق هذا الكتاب من الجهد و الوقت ما لم أكن أتوقّعه.

فكان عملي في الكتاب:

1- ضبط النصّ، و مقابلة النسخ.

ذكرت فيما سلف أنّ لهذا السفر القيّم نسخا كثيرة، و لكن قصرت يدي عن العثور على ما كان منها بخط المؤلف أو تلامذته، أو ما قرئ عليه أو على أحد من تلامذته، أو على أحد شرّاح هذا الكتاب، نظرا إلى أنّ مقرّ مثل هذه النسخ و مكمنها هو البقاع المقدسة من أرض الرافدين- التي تضم المئات من المكتبات الخاصّة و العامّة

 

42
الوافية في أصول الفقه

فقد اعتمدت في تحقيق هذا الكتاب على النسخ التالية: ص : 43

التي تتواجد فيها أمثال هذه النفائس، كما ضمّت تلك البقاع من قبل فطاحل العلم و أساطين المعرفة- فأنّى لنا الوصول إليها؟

و رحم اللّه أبا العلاء، إذ يقول:

و يا دارها بالخيف إنّ مزارها

 

 قريب و لكن دون ذلك أهوال‏

 

و مع ذلك، فقد حصلت من النسخ ما يمنحني الثقة و الاطمئنان بإصابتي الهدف، بتقديم النصّ الصحيح إلى القارئ العزيز.

فقد اعتمدت في تحقيق هذا الكتاب على النسخ التالية:

أوّلا: نسخة مكتبة (آستان قدس رضوي) المحفوظة فيها برقم (7409).

و هي بخط بهاء الدين، محمّد بن ميرك موسى، الحسيني التوني، فرغ من كتابتها بتاريخ 27- ذي القعدة- عام 1121 ه. تقع في مائة ورقة.

و هي نسخة جيدة، حسنة الخطّ، قليلة الخطأ، نادرة السقط، أقدم النسخ المتوفرة، و عليها حواش و تعليقات، ذيّل أكثرها بعبارة «منه قدّس سرّه»- و قد أثبتّ هذه التعليقات في الهامش- بينما ذيّل بعضها الآخر بإشارات غير مفهمة. أو باسم (أحمد). و تبدو الصفحة الأولى منها و كأنها بخط ناسخ آخر، مما يبعث على الظن بأنها مرممة. و عليها تصويبات.

و لما لهذه النسخة من الخصائص، اسميتها ب (الأصل).

ثانيا: نسخة مكتبة (المدرسة الفيضية) بقم، المحفوظة فيها برقم (1095).

و هي بخط محمد باقر الحسيني، ابن محمد صادق، و في تاريخها اضطراب، للتهافت بين ما أرّخ به الناسخ رقما و كتابة. فيتردد تاريخها بين سنة 1134 ه و سنة 1104 ه.

و الترجيح مع الأوّل. فلاحظ ما جاء في آخرها. و تقع في (95) ورقة.

و هي جيدة الخطّ، إلاّ أنها كثيرة السقط و الغلط.

و رمزت لها في الهامش بالحرف (أ).

ثالثا: نسخة مكتبة (المدرسة الفيضية) بقم، أيضا، المحفوظة فيها برقم (1094). كتبها محمد علي بن زين العابدين الطباطبائي الخراسانيّ. فرغ منها في:

43
الوافية في أصول الفقه

فقد اعتمدت في تحقيق هذا الكتاب على النسخ التالية: ص : 43

5- شوال- سنة 1256 ه. و تقع في (135) ورقة من القطع الصغير.

و هي حسنة الخطّ، غير خالية من الخطأ و السقط. و قد ترك موضع العناوين و أرقام الأبحاث و المسائل فارغا مما يدل على ان الناسخ أراد كتابتها فيما بعد بمداد من لون آخر، إلاّ انه لم يوفق لذلك.

و رمزت لهذه في الهامش بالحرف (ب).

رابعا: النسخة المطبوعة على الحجر في بومباي من بلاد الهند في سنة 1309 ه في 189 صفحة.

و تتصف هذه الطبعة بكثرة الأخطاء و السقط.

و أشير إليها في الهامش بالحرف (ط).

على أني استعنت بنسخ أخرى أحيانا و لكنّي وجدتها لا تخرج عن إحدى هذه النسخ، ففي عدّة موارد من هذا الكتاب بقي في نفسي شي‏ء من صحة النص و استقامته، و لكن بعد مراجعتي نسخا أخرى عاد لي الاطمئنان و الثقة بهذه النسخ المعتمدة، فعلمت أن لا حاجة إلى اعتماد مزيد من النسخ. سيّما و انها تفقد المواصفات المطلوبة.

و بعد مراجعة هذه النسخ و مقابلتها، قمت بما يلي:

أ- نظرا لأنّ النسخة الأولى تمتاز على بقيّة النسخ بالقدم، و قلّة الأخطاء و السقط، فقد اتخذت منها أصلا أعتمد عليه في عملي، و وضعت القراءات المختلفة التي تضمنتها بقيّة النسخ في الهامش، إلاّ إذا كان الموجود في الأصل أقلّ ملائمة مع تقويم النص و القراءة الأخرى أقرب إلى الصحّة، ففي هذه الحالة ادخل القراءة الصحيحة في المتن مع الإشارة في الهامش إلى ما كان موجودا في الأصل.

كما اني ملأت موارد السقط من هذه النسخة- على قلّتها- بما جاء في بقيّة النسخ أو بعضها مع الإشارة إلى ذلك في الهامش. فجاءت بقيّة النسخ مرمّمة للنسخة الأولى.

و أمّا ما حدث من سقط في بقيّة النسخ- و هو كثير- فلم أشر في الهامش إلاّ إلى ما ينبغي الإشارة إليه كي لا أثقل الهوامش بما لا ضرورة إليه متوخّيا

44
الوافية في أصول الفقه

2 - تقطيع النص ص : 45

بذلك كلّه أن أقدّم للقارئ نصّا هو أقرب للصحّة.

ب- اعتمدت على المصادر الحديثيّة المعتمدة في إيراد الأحاديث المنقولة عنها، و هي المعروفة عند الطائفة ك: الكافي، و الفقيه، و التهذيب، و الاستبصار، فأوردت الأحاديث كما وردت فيها، لا كما جاءت في نسخ الكتاب نظرا إلى أنّ هذه الكتب قد طبعت بتحقيق العلماء و الفضلاء فهي أقرب إلى الصواب، مع الإشارة إلى ما في النسخ من الاختلاف مع المصادر المذكورة إن وجد.

ج- أهملت ما اختلفت فيه النسخ تنكيرا و تعريفا، و تذكيرا و تأنيثا، و ما احتوته من الأخطاء اللغوية و الإعرابية و الإملائية، فأوردت النصّ مطابقا لما تقتضيه القواعد الأدبيّة.

2- تقطيع النصّ.

قمت بتقطيع النصّ و وضع علامات الترقيم وفقا لما تمليه مواد البحث، تسهيلا لتناول المطالب، بحيث لا يجد القارئ أيّة مشقّة في المطالعة فقد وضعت العناوين على حدة بحروف متميّزة، و وضعت في بداية السطر العبارات التي يبدأ بها مطلب جديد، أو يبدأ بها الاستدلال، و ما أشبه ذلك، ثمّ أفرزت العبارات عن بعضها بعلامات الترقيم التي يقتضيها المورد و يستوجبها المعنى.

3- تخريج الآيات القرآنية و إثبات رقمها و اسم السورة التي وردت فيها في الهامش.

4- تخريج الأحاديث الشريفة من مصادرها، و الإشارة في الهامش إلى موضع وجودها في تلك المصادر.

5- تخريج النصوص و العبارات المنقولة عن الكتب الأصولية و غيرها و مقابلتها مع ما جاء في تلك الكتب، و ضبط موارد الاختلاف بينها، مع الإشارة إلى محل تواجدها في تلك الكتب.

و قد كلّفنا هذا العمل بالخصوص الوقت الكثير، حيث أنّ منها ما لا يزال مخطوطا لم ينل حظ الطبع، فتتبعتها من مكتبة إلى أخرى فعثرت على أكثرها في‏

45
الوافية في أصول الفقه

2 - تقطيع النص ص : 45

المكتبات العامّة في قم و مشهد كما ستأتي الإشارة إليه في الهوامش عند إيراد أسمائها.

و بعضها الآخر نادر الوجود، فجبت في طلبه البلدان، و استعصى عليّ أحدها حتى أسعفني أحد رجال العلم فبعث إليّ بنسخة مصورة منه من القاهرة، فشكر اللّه سعيه.

6- تخريج الآراء و الأدلّة المنسوبة إلى العلماء.

فقد قمت بالبحث عن هذه الآراء و الاستدلالات في كتب أصحابها، و إلاّ ففي المصادر المعتمدة التي تضمّنت حكاية هذه الأقوال عنهم مراعيا في ذلك أقدم المصادر زمنا، و أقربها تاريخا إلى القائل.

و قد لاحظت أحيانا اختلافا بين المنقول في هذا الكتاب و بين ما هو مثبت في كتبهم، فبحثت عن سبب هذا الالتباس، حتّى عثرت على من أوقع المصنف في ذلك، و دوّنت كل هذه الملاحظات في الهامش.

7- نسبة الأقوال و الأدلّة إلى أصحابها.

فانك تجد أنّ المصنف كثيرا ما يحكي أقوالا دون أن يسمّي قائلها، فعندئذ أشير في الهامش إلى القائل معتمدا على كتابه إن كان من المصنّفين، و إلاّ فعلى المصنفات التي نصّت على نسبة ذلك القول إليه مرتبا لها عند ذكرها ترتيبا تاريخيا.

8- تتبعت مسائل هذا الكتاب في أغلب المصادر الأصولية المتقدمة عليه، فأشرت في الهامش إلى موضع وجودها في تلك المصادر.

و في هذا تسهيل و مساعدة للمراجع إن شاء أن يتابع البحث في تلكم المسائل عند من تقدّم على المصنف.

كما أنّ هذا العمل يوضح للقارئ السير التاريخي للمسائل و النظريات الأصولية. فعند ما يذكر المصنف دليلا على رأي من الآراء، فاني أشير في الهامش إلى من وجدته ينصّ على ذلك الدليل و يستدل به، مرتبا المصادر ترتيبا تاريخيا يتضح من خلاله أقدم المستدلين به، و يعلم من أخذ بذلك الدليل من بعد فرضي به، أو ناقشه و ردّه.

و قد شمل هذا العمل المصادر الأصولية لمختلف المذاهب، و في هذا تعريف‏

46
الوافية في أصول الفقه

2 - تقطيع النص ص : 45

و إرشاد لكل أهل طائفة إلى مصنفات الطائفة الأخرى، فالكل يشتركون في البحث في مسائل علم الأصول.

9- وضعت الفهارس العامّة للكتاب تسهيلا لمهمّة الباحثين و المراجعين.

10- أثبتّ في آخر الكتاب قائمة المصادر التي اعتمدتها في تحقيق الكتاب و مقدمته، مع ذكر تفاصيل الطبعات، و تعيين النسخ المخطوطة فيما يخص غير المطبوع منها.

هذا، و اني قد بذلت الجهد الكبير، و الوقت الكثير، في تحقيق هذا الكتاب رغبة في إخراجه على أحسن هيئة، و لكن العصمة لأهلها، لذا فإني أستميح العذر من المصنّف أولا، و من القارئ ثانيا، إن اشتمل على بعض وجوه النقص، و قد أجاد الدكتور عمر فرّوخ حيث قال- في مقدمة كتابه: تاريخ الفكر العربي-: «و لو أنّ مؤلّفا أراد أن لا يخرج كتابه إلى الناس إلاّ بعد أن يخلو من كل نقص و خطأ و هفوة و هنة، لما خرج إلى الناس كتاب قط».

و بعد فإني أسجّل شكري لكل من أعانني على إنجاز هذا التحقيق، و لا سيّما أستاذي الجليل سماحة العلاّمة السيد محمد رضا الحسيني الجلالي، الّذي راجع الكتاب بعد تحقيقه، و أبدى عليه ملاحظات مفيدة، و أعانني على حلّ ما استغلق و أشكل.

و أشكر لكل من:

العلاّمة الجليل الأستاذ المحقق، سماحة السيد عبد العزيز الطباطبائي على إرشاداته و توجيهاته.

و أخينا سماحة العلاّمة السيد جواد الشهرستاني، و سائر أعضاء مؤسسة آل البيت عليهم السلام، لتلطفهم عليّ في الحصول على النسخة الخطية الأولى (نسخة آستان قدس رضوي)، و إباحتهم لي فرصة الاستفادة من مكتبة المؤسسة الخاصّة و التي ضمّت كثيرا من المصادر و المراجع التي اعتمدتها.

و حجة الإسلام و المسلمين الشيخ مجتبى العراقي، و حجة الإسلام الشيخ‏

47
الوافية في أصول الفقه

2 - تقطيع النص ص : 45

محمد مهدي نجف، على تفضلهم في الحصول على نسختي مكتبة المدرسة الفيضية.

و الحمد للّه أولا و آخرا.

السيد محمد حسين الرضوي الكشميري قم المقدسة ليلة عيد الأضحى من سنة (1411 ه)

48
الوافية في أصول الفقه

2 - تقطيع النص ص : 45

الوافية في أصول الفقه للفاضل التّونيّ المولى عبد اللّه بن محمد البشرويّ الخراسانيّ المتوفى سنة 1071 ه تحقيق السّيّد محمّد حسين الرّضويّ الكشميريّ‏

55
الوافية في أصول الفقه

2 - تقطيع النص ص : 45

بسم اللّه الرحمن الرحيم الحمد للّه على جزيل آلائه، و الشكر له على جميل نعمائه، و الصلاة و السلام على أشرف‏ «1» أصفيائه، و أكرم أنبيائه، محمد و آله.

أمّا بعد «2»، فهذه رسالة وافية، و جملة شافية، محتوية على تحقيق المهم من المسائل الأصوليّة، سيّما «3» مباحث الأدلة العقلية، و مباحث الاجتهاد و التقليد، و باب التراجيح.

و هي مشتملة على مقدّمة و أبواب:

______________________________

 (1) زاد في الأصل هاهنا كلمة: الأنبياء.

 (2) في أوط: و بعد. و هي ساقطة من ب.

 (3) في ط: لا سيّما.

57
الوافية في أصول الفقه

المقدمة: ص : 59

المقدمة:

في تحقيق ما ينبغي العلم به قبل الشروع في المقصود.

و فيها أبحاث:

الأوّل: الأصول- لغة-: ما يبنى عليه‏ «1» الشي‏ء.

و مضافا إلى الفقه: هو العلم بجملة طرق الفقه إجمالا، و بأحوالها، و كيفيّة الاستدلال بها، و حال المفتي و المستفتي‏ «2».

الثاني: اللّفظ إن استعمل فيما وضع له، فهو حقيقة، و إلاّ فمجاز.

و الأوّل: إن كان استفادة المعنى منه‏ «3» بوضع الشارع، فحقيقة شرعيّة. و إن كان بوضع أهل اللّغة، فلغويّة. و إن كان بوضع طار غير الشرع، فحقيقة

______________________________

 (1) في أ و ب و ط: يبتني. بدل يبنى. و في الأصل: عليها. بدل: عليه.

 (2) قارن هذا التعريف بما جاء في الذريعة: 1- 7، و المستصفى: 1- 5، و المحصول: 1- 12، و المعارج: 47، و تهذيب الوصول: 3. لترى انفراده به و عدم متابعتهم فيما ذكروه من التعاريف.

 (3) كذا في ب و ط، و في الأصل و أ: عنه.

59
الوافية في أصول الفقه

المقدمة: ص : 59

عرفيّة: عامّة أو خاصّة.

و لا ريب في وجود الأخيرتين.

و أمّا الشرعيّة: ففي وجودها خلاف‏ «1»، و الحقّ: وجودها.

لنا: تبادر الأركان المخصوصة من لفظ الصلاة، و القدر المخرج من المال من لفظ الزكاة، و القصد الخاصّ من لفظ الحجّ‏ «2»، و نحو ذلك، مع أنّ هذه الألفاظ موضوعة في اللّغة لمعان أخر.

و التبادر من أمارات الحقيقة.

فإن قلت: أردت التبادر في كلام الشارع، أو المتشرعة- أعني الفقهاء-؟

الأوّل ممنوع، و الثاني مسلّم و لا يثبت به إلاّ الحقيقة العرفيّة.

قلت: إنكار التبادر في كلام الشارع، مكابرة باللّسان لما يحكم به الوجدان، فإنّه لا شكّ في حصول هذه المعاني في الأذهان من مجرّد «3» سماع هذه الألفاظ في أيّ كلام كان.

غايته أنّك تقول: إنّ هذا التبادر لأجل المؤانسة بكلام المتفقّهة.

فنقول: هذا غير معلوم، بل الظاهر أنّه لكثرة استعمال الشارع هذه الألفاظ في هذه المعاني.

و الحاصل: أنّا نقول إنّ التبادر معلوم، و كونه لأجل أمر غير الواضع، غير معلوم، فنحكم بالحقيقة، و إلاّ لم تثبت أكثر الحقائق اللّغوية و العرفيّة، إذ احتمال كون التبادر بواسطة أمر خارج‏ «4»، جار في الأكثر.

و اعلم: أنّ هذه المسألة قليلة الفائدة، إذ صيرورة هذه الألفاظ حقائق‏

______________________________

 (1) الذريعة: 1- 10، المحصول: 1- 119، المنتهى: 19، معارج الأصول: 52، تهذيب الوصول: 13، معالم الدين: 34.

 (2) في أ: من لفظ الصوم و الحج.

 (3) في ب: بمجرّد.

 (4) في ب: بواسطة امر آخر، و في ط: بواسطة آخر.

60
الوافية في أصول الفقه

المقدمة: ص : 59

في معانيها الشرعيّة في كلام الأئمة الأطهار صلوات اللّه عليهم أجمعين ممّا يبعد النزاع فيه غاية البعد.

و استقلال القرآن و الأخبار النبويّة- المنقولة من غير جهة الأئمة عليهم السلام، بحكم- ممّا لا يكاد يتحقّق بدون نصّ من الأئمة عليهم السلام على ذلك الحكم.

الثالث: الأصل في اللفظ أن يكون مستعملا فيما وضع له حتّى يثبت المخرج، فإذا دار اللفظ بين الحقيقة و المجاز، رجحت الحقيقة.

و كذا إذا دار بينها «1» و بين النقل، أو التخصيص، أو الاشتراك، أو الإضمار.

و لكن إن وقع التعارض بين واحد من هذه الخمسة مع آخر منها- كما قيل‏ «2» في آية وَ لا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ «3» حيث إنّ الحكم بتحريم معقودة الأب على الابن من الآية موقوف على مجازيّة النكاح في الوطء، إذ على تقدير الاشتراك يجب التوقّف، كما يتوقّف في حمل كلّ مشترك على واحد من معانيه بدون القرينة- فقد قيل: بتقديم‏ «4» المجاز على الاشتراك و غيره عدا التخصيص، و: بتقديم‏ «5» الاشتراك على النقل، و قيل: بالعكس، و:

بتقديم‏ «6» التخصيص على غيره، و: بتساوي الإضمار و المجاز «7».

و الأولى: التوقّف في صورة التعارض، إلاّ مع أمارة خارجية أو داخلية توجب صرف اللّفظ إلى أمر معيّن، إذ ممّا ذكروا في ترجيح البعض على البعض، من كثرة المئونة «8» و قلّتها، و كثرة الوقوع و قلّته، و نحو ذلك، لا يحصل الظنّ بأنّ‏

______________________________

 (1) في ب: بينهما.

 (2) التمهيد: 190، الابهاج: 1- 329، شرح البدخشي: 1- 386.

 (3) النساء- 22.

 (4) كذا في ب، و في سائر النسخ: بتقدم.

 (5) كذا في ب، و في سائر النسخ: بتقدم.

 (6) كذا في ب، و في سائر النسخ: بتقدم.

 (7) شرح العضد: 1- 50، شرح البدخشي: 1- 388، تهذيب الوصول: 16.

 (8) في ط: المؤن.

61
الوافية في أصول الفقه

المقدمة: ص : 59

المعنى الفلاني هو المراد من اللفظ في هذا الموضع.

و بعد تسليم الحصول- أحيانا- لا دليل على جواز الاعتماد على مثل هذه الظنون في الأحكام الشرعية، فإنّها ليست من الظنون المسببة «1» عن الوضع.

الرابع: إطلاق المشتقّ- كاسم الفاعل و المفعول و نحوهما- على المتّصف بمبدئه بالفعل حقيقة، اتفاقا، كالضارب لمباشر الضرب.

و قبل الاتصاف بالمبدإ؟ المشهور: أنّه مجاز، و ادّعى جماعة الاتفاق عليه، و قال صاحب الكوكب الدرّيّ: «إطلاق النحاة يقتضي أنّه إطلاق حقيقي» «2».

و أمّا بعد زوال المبدأ، كالضارب لمن انقضى عنه الضرب؟ ففيه أقوال:

أوّلها: مجاز مطلقا.

ثانيها: حقيقة مطلقا «3».

ثالثها: إن كان مما يمكن‏ «4» بقاؤه فمجاز، و إلاّ فحقيقة «5».

و توقّف جماعة كابن الحاجب‏ «6» و الآمدي‏ «7».

و ذكر الرازي‏ «8» و الآمدي‏ «9» و التبريزي- في اختصار المحصول‏ «10»- و جماعة أخرى‏ «11»: أنّ محلّ الخلاف ما إذا لم يطرأ على المحلّ وصف وجوديّ‏

______________________________

 (1) في أ: المسببيّة، و في ط: المستثناة.

 (2) الكوكب الدرّي: 233.

 (3) يشعر به كلام العلاّمة: تهذيب الوصول: 10، و كلام المحقق الكركي: رسائل المحقق الكركي: 2- 82.

 (4) في أ: لا يمكن.

 (5) حكاه ابن الحاجب: المنتهى: 25.

 (6) المنتهى: 25.

 (7) الإحكام: 1- 48- 50.

 (8) المحصول: 1- 91، و يفهم هذا من جوابه على (قوله رابعا).

 (9) الإحكام: 1- 50.

 (10) حكاه عنه الأسنوي: التمهيد: 154.

 (11) الابهاج: 1- 229.

62
الوافية في أصول الفقه

المقدمة: ص : 59

يناقض المعنى الأوّل أو يضادّه، كالسواد مع البياض، و القيام مع القعود، و مع الطريان مجاز اتفاقا «1».

و في تمهيد الأصول: «إنّ النزاع إنّما هو فيما إذا كان المشتقّ محكوما به، كقولك: زيد مشرك‏ «2»، أو قاتل، أو متكلّم، فإن كان محكوما عليه- كقوله تعالى‏ الزَّانِيَةُ وَ الزَّانِي فَاجْلِدُوا ... «3»، وَ السَّارِقُ وَ السَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا ... «4» و فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ ... «5» و نحوه- فإنّه حقيقة مطلقا:

سواء كان للحال أو لم يكن» «6».

و الحقّ: أنّ إطلاق المشتقّ باعتبار الماضي حقيقة، إذا «7» كان اتّصاف الذات بالمبدإ أكثريّا، بحيث يكون عدم الاتّصاف بالمبدإ مضمحلا في جنب الاتّصاف، و لم تكن الذات‏ «8» معرضة عن المبدأ، أو راغبة عنه، سواء كان المشتقّ محكوما عليه أو محكوما به، و سواء طرأ الضدّ أم لا «9»، لأنّهم يطلقون المشتقات على المعنى المذكور من دون نصب القرينة، كالكاتب و الخيّاط و القارئ و المتعلّم و المعلّم و نحوها، و لو كان المحلّ متّصفا بالضدّ الوجوديّ كالنوم و نحوه.

و القول: بأنّ الألفاظ المذكورة و نحوها كلّها موضوعة لملكات هذه‏

______________________________

 (1) يلاحظ ان المصنّف قد اعتمد في حكاية هذه الأقوال المذكورة على الأسنوي: التمهيد:

154.

 (2) زاد في أ: أو قائم.

 (3) النور- 2.

 (4) المائدة- 38.

 (5) التوبة- 5.

 (6) التمهيد: 154.

 (7) في ط: إن.

 (8) في ب: بالذات.

 (9) كذا في ط، و في سائر النسخ: أولا.

63
الوافية في أصول الفقه

المقدمة: ص : 59

الأفعال‏ «1».

ممّا يأبى عنه الطبع السليم في أكثر الأمثلة، و غير موافق لمعنى مبادئها على ما في كتب اللّغة.

و قال الشارح الرضي‏ «2»، نقلا عن أبي علي و الرمّاني‏ «3»: «إنّ اسم الفاعل مع اللام فعل في صورة الاسم» قال: «و نقل ابن الدهّان ذلك أيضا عن سيبويه، و لم يصرّح سيبويه بذلك، بل قال: الضارب زيدا بمعنى ضرب» انتهى‏ «4».

و الحاصل: أنّ استعمال اسم الفاعل بمعنى الماضي في كلامهم أكثر من أن يحصى، و الأصل في الاستعمال الحقيقة، و كذا غيره من المشتقّات.

و من فروع المسألة ما لو قال أحد: «وقفت الشي‏ء الفلاني على سكّان موضع كذا» فهل‏ «5» يبطل حقّ الساكن بالخروج عن الموضع مدّة قليلة أو كثيرة، على وجه الإعراض أو غير وجه الإعراض؟

و قد عرفت التحقيق.

______________________________

 (1) في ب: الألفاظ.

 (2) في أ: الشيخ الرضي.

 (3) في ب: المازني، و هو خطأ.

 (4) شرح الكافية: 2- 201.

 (5) في أ: قيل.

64
الوافية في أصول الفقه

الباب الأول في الأمر و النهي و فيه مقصدان ص : 65

الباب الأوّل في الأمر و النهّي و فيه مقصدان‏

65
الوافية في أصول الفقه

الأول في الأمر: و فيه مباحث: ص : 67

 

الأوّل في الأمر: و فيه مباحث:

الأوّل:

في أنّ صيغة الأمر هل تقتضي الوجوب أو لا؟.

اختلف الناس في ذلك، فقيل: إنّها للوجوب‏ «1»، و قيل: للندب‏ «2»، و قيل: للقدر المشترك بينهما و هو الطلب‏ «3»، و قيل: باشتراكها بينهما لفظيّا «4»، و قد تدرج الإباحة فيها «5» لفظيا أو معنويا «6» باعتبار الإذن في الفعل، و قد يدرج‏

______________________________

 (1) ذهب إليه الغزالي: المنخول: 107، و الفخر الرازي: المحصول 1- 204، و المحقق الحلّي:

معارج الأصول: 64، و العلاّمة الحلّي: تهذيب الوصول: 21، و البيضاوي، كما في الابهاج: 2- 22، و ابن الحاجب: المنتهى: 91، و شرح العضد: 1- 191 (المتن)، و المحقق الشيخ حسن: معالم الدين: 46.

 (2) ذهب إليه أبو هاشم، كما في: شرح العضد 1- 191.

 (3) ذهب إليه الجبائي. حكاه عنه في: المنخول: 104.

 (4) ذهب إليه الشافعي. حكاه عنه في: المستصفى: 1- 426، و قال به السيد المرتضى أيضا:

الذريعة: 1- 53.

 (5) كذا في ط، و في النسخ: فيهما.

حكاه الأسنوي دون أن يسمّي قائله: التمهيد: 268.

 (6) كذا في ب، و في سائر النسخ: و معنويا.

 

67
الوافية في أصول الفقه

فهاهنا مقامان: ص : 68

 

التهديد فيها لفظيّا «1»، و قيل: بالوقف‏ «2» في الأوّلين‏ «3»، و قيل للوجوب شرعا لا لغة «4».

و الحقّ: أنّها للقدر المشترك بين الوجوب و الندب، و هو الطلب، و لكن دلّ الشرع على وجوب امتثال الأوامر الشرعيّة فيحكم بالوجوب عند التجرّد عن قرائن الندب‏ «5»،

فهاهنا مقامان:

الأوّل: أنّها حقيقة في الطلب.

و الدليل عليه من وجوه:

الأوّل: أنّ المفهوم من الصيغة ليس إلاّ طلب الفعل، و ربّما لا يخطر بالبال الترك، فضلا عن المنع عنه‏ «6»، و لهذا عرّف النحاة «7» و أهل الأصول‏ «8» الأمر بأنّه: طلب الفعل على سبيل الاستعلاء أو العلوّ «9».

الثاني: ضعف دليل مثبتي الفصول المميّزة- من الوجوب و الندب- في‏

______________________________

 (1) قال الأسنوي في التمهيد: 268: حكاه الغزالي في المستصفى. و لكن في المستصفى: «و قال قوم هو مشترك بين هذه الوجوه الخمسة عشر كلفظ العين و القرء»: المستصفى: 1- 419.

 (2) في ط: بالتوقف.

 (3) ذهب إليه الآمدي، حيث قال «و هو الأصحّ»: الإحكام: 2- 369، و أبو الحسن الأشعري، و القاضي الباقلاني، كما في المنخول: 105، و: شرح العضد: 1- 192.

 (4) اختلف في القائل بذلك، للاختلاف في فهم كلمات الأصوليين، و لعلّ المصنف أراد به قول الشافعي. انظر: الابهاج: 2- 25. و قد ذهب الشيخ الطوسي إلى انها تقتضي الإيجاب إن صدرت عن الحكيم: العدّة 1- 63. و قد يكون هذا القول هو مراد من ذكر هذا الاحتمال و اللّه العالم.

 (5) الذريعة: 1- 53، المنخول: 108، المنتهى: 91.

 (6) في ب: المنع من الترك.

 (7) شرح المفصّل: 7- 58.

 (8) التمهيد: 265، معارج الأصول: 62، تهذيب الوصول: 20.

 (9) عبارة (أو العلو) ساقطة من أ، و مع فرض وجودها تكون إشارة إلى الخلاف بين الأصوليين في اشتراط العلو، أو اشتراط الاستعلاء، أو عدم اشتراط شي‏ء منهما. انظر تفصيل هذه الأقوال و أدلتها في: المحصول: 1- 198- 199.

 

68
الوافية في أصول الفقه

الأول: أنها حقيقة في الطلب ص : 68

حقيقة صيغة الأمر، كما ستطّلع عليه.

الثالث: كثرة ورود الأمر في الأحاديث متعلّقا بأشياء بعضها واجب و بعضها مندوب، من دون نصب قرينة في الكلام، و هذا غير جائز لو لم يكن حقيقة في القدر المشترك.

و كذا كثرة وروده متعلّقا بالأمور الواجبة و كذا بالمندوبة، من دون نصب القرينة في الكلام.

لا يقال: على تقدير كون الصيغة حقيقة في القدر المشترك، كيف يجوز استعمالها في الواجب‏ «1» أو الندب، بدون القرينة؟! إذ المجاز ممّا لا بدّ له من القرينة؟! لأنّا نقول: الصيغة ليست مستعملة إلاّ في الطلب، و إنّما يعرف كون متعلقه‏ «2» جائز الترك أو غير جائز الترك، من موضع آخر «3»، فليست إلاّ مستعملة في معناها الحقيقي.

و القول باحتمال اقترانها بالقرينة حين الخطاب و خفائها علينا الآن، ممّا يأبى عنه الوجدان، لبعد خفائها في هذه المواضع على كثرتها، و لاشتراك التكاليف بيننا و بينهم [1].

______________________________

 [1] فان قلت: فالمنع من الترك و الاذن فيه مراد للشارع ليكون داخلا فيما استعمل فيه الصيغة، فيكون استعمال الصيغة في جلّ المواضع مجازا.

قلت: المنع من الترك و الاذن فيه ليسا من صفات الطلب و لا الفعل المطلوب حقيقة، بل من صفات الطالب، و ظاهر انه لا يختلف معنى الصيغة باختلاف صفات المتكلم بها، بل نقول: المنع من الترك مما لا ينفك عن حقيقة صيغة الأمر، غاية الأمر أنّ المنع في بعض المواضع تنزيهي كما في المندوبات، و في البعض تحريمي غير كبيرة، كما في الواجبات التي تركها من الصغائر، و في البعض تحريمي كبيرة، كما في ما تركه يوجب الكفر ك (آمن به) و نحوه.

فلو كان كون الصيغة للطلب يوجب مجازيّتها في هذه المواضع، كان كونها للإيجاب أيضا

______________________________

 (1) كذا في النسخ، و الظاهر انه: الوجوب.

 (2) كذا في أ، و في سائر النسخ: كون متعلق الصيغة.

 (3) في ط: مواضع اخر.

69
الوافية في أصول الفقه

الأول: أنها حقيقة في الطلب ص : 68

حجّة من قال بأنّها حقيقة في الوجوب أمور:

أحدها: أنّ السيّد إذا قال لعبده: (افعل كذا) و لم يكن هناك قرينة أصلا، فلم يفعل، عدّ عاصيا، و ذمّه العقلاء لتركه الامتثال، فتكون للوجوب‏ «1».

و الجواب: لا نسلّم تحقّق العصيان و الذمّ على تقدير انتفاء القرينة، و القرائن في مثل هذه المواضع لا يكاد يمكن انتفاؤها، إذ الغالب علمه بالعادة العامّة، أو عادة مولاه، أو فوت منفعة مولاه، و لهذا لو أمره مولاه بما «2» يختصّ بمصالحه، من غير أن يعود على السيّد منه نفع و لا ضرر، لما ذمّة العقلاء إذا لم يفعل، و هذا ظاهر.

و الأدلّة الباقية: آيات قرآنية، تدلّ على عدم جواز ترك ما تعلّق به أمر الشارع‏ «3»، و سيجي‏ء بعضها.

و الجواب: أنّ هذه الآيات لا تدلّ على كون الصيغة حقيقة في الوجوب، كما لا يخفى.

و حجّة من قال بأنّها للندب أمران:

أحدهما: قول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «إذا أمرتكم بشي‏ء فأتوا منه ما استطعتم» «4» أي ما شئتم‏ «5».

______________________________

- يوجب مجازيّتها في أغلب مواضع الإيجاب، و هم ينكرونه.

فالحقّ ما عرفت من أن العقاب على ترك الفعل أو حرمان الثواب عليه، أو الثواب على الفعل، ليسا مما يتعقل دخوله في معنى الصيغة، فتأمل جدا. (منه رحمه اللّه).

______________________________

 (1) معارج الأصول: 64.

 (2) في أ: لما.

 (3) الذريعة: 1- 57- 58، المحصول: 1- 205- 234.

 (4) غوالي اللئالي: 4- 58 ح 206، صحيح مسلم: 2- 975 ح 1337، مسند أحمد: 2- 247 السنن الكبرى: 1- 215.

 (5) المنتهى: 92.

70
الوافية في أصول الفقه

المقام الثاني: ص : 71

و جوابه ظاهر، لبطلان تفسير الاستطاعة بالمشيئة.

و ثانيهما: مساواة الأمر و السؤال إلاّ في الرتبة، و السؤال إنّما يدلّ على الندب، فكذا الأمر «1».

و جوابه: منع المساواة أوّلا، و نصّ أهل اللّغة عليها غير ثابت، و منع دلالة السؤال على الندب ثانيا.

المقام الثاني:

إنّ امتثال الأوامر الشرعيّة واجب إلاّ مع دليل يدلّ على جواز ترك الامتثال، و الدليل عليه أيضا من وجوه:

الأوّل: أنّ امتثال الأمر طاعة، إذ ليس معنى الطاعة إلاّ الانقياد كما صرّح به أرباب اللّغة، و حصول الانقياد بامتثال الأمر بديهيّ، و ترك الطاعة عصيان، لتصريح أهل اللّغة بأنّ العصيان خلاف الطاعة «2»، و العصيان حرام، لقوله تعالى: وَ مَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ‏ «3».

الثاني: قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ‏ «4» مع الآيات الدالة على ذمّ ترك الطاعة، كقوله تعالى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ وَ مَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً «5» و غيرها.

الثالث: قوله تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ‏ «6».

______________________________

 (1) المحصول: 1- 235، منهاج الوصول: 75.

 (2) المفردات في غريب القرآن: حرف العين- ص 337

 (3) الجن- 23.

 (4) النساء- 59.

 (5) النساء- 80.

 (6) النور- 63.

71
الوافية في أصول الفقه

المقام الثاني: ص : 71

و التهديد على مخالفة مطلق الأمر لا يصحّ إلاّ مع وجوب امتثال مطلق الأمر.

الرابع: ما ذكره السيّد المرتضى رحمه اللّه من حمل الصحابة كلّ أمر ورد في القرآن أو السنّة على الوجوب‏ «1».

و الظاهر كون باعث حملهم هو ما ذكرناه في هذا المقام، لما مرّ «2» في المقام الأوّل، و لأصالة عدم النقل.

و اعلم أنّ صاحب المعالم قال في أواخر هذا البحث: «فائدة: يستفاد من تضاعيف أحاديثنا المرويّة عن الأئمة عليهم السلام، أنّ استعمال صيغة الأمر في الندب كان شائعا في عرفهم، بحيث صار من المجازات الراجحة المساوي احتمالها من اللّفظ لاحتمال الحقيقة عند انتفاء المرجّح الخارجي، فيشكل التعلّق في إثبات وجوب أمر بمجرّد ورود الأمر به منهم عليهم السلام» «3» انتهى كلامه أعلى اللّه مقامه.

و أنت بعد خبرتك بما ذكرنا تعلم أنّ صيغة الأمر في كلام الأئمة عليهم السلام ليست مستعملة إلاّ فيما استعملت فيه في كلام اللّه تعالى‏ «4»، و كلام جدّهم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و كيف يتصوّر عنهم نقل لفظ كثير الاستعمال عن معناه الحقيقي في كلام جدّهم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من غير تنبيه و إعلام الأحد:

أنّ عرفنا في هذا اللفظ هذا المعنى؟! حاشاهم عن ذلك، بل الصيغة في كلامهم أيضا مستعملة في طلب مبدأ الصيغة، و إنّما يعلم العقاب على الترك و عدمه من أمر خارج.

و ورودها في كلامهم أيضا مجردة، محمولة على الوجوب المذكور، لفرض‏

______________________________

 (1) الذريعة: 1- 54.

 (2) في ط: لا ما مرّ.

 (3) معالم الدين: 53.

 (4) في أ: إلاّ فيما استعمل فيه كلام اللّه.

72
الوافية في أصول الفقه

المقام الثاني: ص : 71

طاعتهم أيضا، لما مرّ، و لما رواه الكلينيّ، في باب فرض طاعة الأئمة عليهم السلام من الكافي، بسنده عن بشير العطّار، قال: «سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول:

نحن قوم فرض اللّه طاعتنا، و أنتم تأتمّون بمن لا يعذر الناس بجهالته» «1».

و بسنده «عن أبي جعفر عليه السلام في قول اللّه عزّ و جلّ: وَ آتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً» «2» قال: الطاعة المفروضة» «3».

و في الصحيح: عن أبي الصباح الكناني، «قال: قال أبو عبد اللّه عليه السلام: نحن قوم فرض اللّه عزّ و جلّ طاعتنا ...» الحديث‏ «4».

و روى الحسين بن أبي العلاء، في الصحيح: «قال: ذكرت لأبي عبد اللّه عليه السلام قولنا في الأوصياء: إنّ طاعتهم مفترضة؟ قال: فقال: نعم، هم الّذين قال اللّه تعالى: أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ‏ «5» و هم الّذين قال اللّه عزّ و جلّ‏ إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا» «6».

و في الصحيح: «عن معمّر بن خلاّد قال: «سأل رجل فارسي أبا الحسن عليه السلام، فقال: طاعتك مفترضة؟ فقال: نعم. قال: مثل طاعة علي بن أبي طالب عليه السلام؟ فقال: نعم» «7».

و في الموثّق: «عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال: سألته عن‏

______________________________

 (1) الكافي: 1- 186- كتاب الحجة- باب فرض طاعة الأئمة ح 3.

 (2) النساء- 54.

 (3) الكافي: 1- 186 ح 4.

 (4) الكافي: 1- 186 ح 6.

 (5) النساء- 59.

 (6) المائدة- 55.

الكافي: 1- 186 ح 7.

 (7) الكافي: 1- 186 ح 8.

73
الوافية في أصول الفقه

تذنيب ص : 74

الأئمة هل يجرون في الأمر و الطاعة مجرى واحد؟ قال: نعم» «1».

إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة المذكورة في هذا الباب و في غيره، و لا شكّ أنّ الانقياد لمطلوبهم‏ «2» طاعة، و طاعتهم واجبة، فامتثال أوامرهم واجب مطلقا إلاّ ما دلّ دليل على جواز عدم العمل به، و هذا ظاهر.

تذنيب‏

اختلفوا في صيغة الأمر إذا وردت بعد الحظر، على أقوال:

الوجوب‏ «3»، و الندب، و الإباحة «4»، و تابعيّة ما قبل الحظر، و التوقّف‏ «5».

و الحقّ: أنّ صيغة الأمر- إذا وردت بعد الحظر أو الكراهة «6»، أو في مقام مظنّة الحظر أو الكراهة، بل في موضع تجويز السائل واحدا منهما «7»، كأن يقول العبد: هل أنام أو أخرج؟ أو نحو ذلك، فيقول المولى له: (افعل ذلك) «8»- لا تدلّ إلاّ على رفع ذلك المنع التحريمي أو التنزيهي المحقّق أو المحتمل‏ «9».

______________________________

 (1) الكافي: 1- 186 ح 9.

 (2) كذا في ط، و في سائر النسخ: ان انقياد مطلوبهم.

 (3) ذهب إليه الفخر الرازي، المحصول: 1- 236، و البيضاوي: منهاج الوصول: 76، و العلاّمة الحلّي: تهذيب الوصول: 21.

 (4) حكاه ابن الحاجب: المنتهى: 98، و البيضاوي: منهاج الوصول: 76.

 (5) حكاه ابن الحاجب: المنتهى: 98.

و ذهب السيد المرتضى: الذريعة: 1- 73، و الشيخ الطوسي: العدّة: 1- 68، و المحقق الحلّي: معارج الأصول: 65، إلى أنّ حكم الأمر الواقع بعد الحظر هو حكم الأمر المبتدأ.

 (6) كذا في ب، و في سائر النسخ: و الكراهة.

 (7) في ط: منها.

 (8) في ط: افعل كذا.

 (9) هذا قريب مما ذهب إليه الغزالي: المستصفى 1- 435.

74
الوافية في أصول الفقه

البحث الثاني: ص : 75

و هو كالإذن في الفعل، أمر مشترك بين الإباحة و الندب و الوجوب.

فالإباحة: مثل‏ وَ إِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا «1».

و الندب: مثل‏ فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ‏ «2».

و الوجوب: مثل‏ فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ‏ «3».

لنا: تبادر رفع المنع من الفعل.

و الظاهر أنّها مجاز في هذا المعنى، و التبادر لأجل القرينة، و هي مسبوقية الصيغة بالمنع المحقّق أو المحتمل، و تعليقها على زوال علّة المنع في البعض.

و أيضا: إجراء أدلّة الوجوب و الندب لا يتصور فيما نحن فيه، لأنّه فرع فهم الطلب من‏ «4» الصيغة، و فرديّتها لمفهوم الأمر، مع أنّها ليست كذلك فيما نحن فيه‏ «5».

البحث الثاني:

اختلفوا في دلالة صيغة الأمر على الوحدة و التكرار على أقوال:

ثالثها- و هو الحقّ-: عدم دلالتها على شي‏ء منهما.

لنا: تبادر مجرّد طلب الفعل من الصيغة، من غير فهم شي‏ء من الوحدة و التكرار منها «6»، كالزمان و المكان و غيرهما من المتعلّقات‏ «7»، و المنكر مكابر.

______________________________

 (1) المائدة- 2.

 (2) الجمعة- 10.

 (3) التوبة- 5.

 (4) في ط: عن.

 (5) عبارة (فيما نحن فيه): زيادة من ب.

 (6) المحصول: 1- 238.

 (7) الذريعة: 1- 100، معالم الدين: 53.

75
الوافية في أصول الفقه

البحث الثاني: ص : 75

و أيضا: لو دلّت على التكرار لعمّت الأوقات، لعدم الأولويّة «1»، و هو باطل‏ «2» للإجماع على خلافه.

و ما قيل: بأنّها لو لم تكن للتكرار لما تكرر الصوم و الصلاة و غيرهما، و لما كانت مماثلة لصيغة النهي، حيث اقتضت التكرار، و لاستلزامها إيّاها بالنظر إلى الضدّ، و تكرار اللازم يستدعي تكرار «3» الملزوم.

فهو باطل، لأنّ تكرر «4» ما يتكرر من العبادات، إنّما هو لدليل آخر، كتعليقه على موجب يتكرر.

و أيضا: التكرار على هذا النحو ممّا لا يتصور أن يكون مفهوما من مجرّد صيغة الأمر.

و أيضا: ينتقض بما لا يتكرر كالحج و نحوه.

و الثاني: قياس، و في اللّغة «5»، و مع الفارق، إذ النهي يقتضي انتفاء الحقيقة، و الأمر إثباتها.

و الثالث: باطل، لما سيجي‏ء من عدم الاستلزام.

و بعد التسليم: فالنهي هنا تابع للأمر في التكرار و عدمه، لترتّبه عليه، و القائل بالمرّة يتمسّك هنا بتحقّق الامتثال بالمرّة «6»، و لا يخفى أنّه لا ينافي كونها لمجرّد الطلب، لأصالة براءة الذمّة.

______________________________

 (1) كذا في أ و ب و ط، و في الأصل: لعدم الأولية.

 (2) المحصول: 1- 239، معارج الأصول: 66.

 (3) كذا في أ. و في سائر النسخ: تكرار.

 (4) كذا في ط. و في الأصل و ب: تكرير. و في أ: تكرر.

 (5) في ط: قياس في اللّغة.

 (6) عدّة الأصول: 1- 74.

76
الوافية في أصول الفقه

تذنيب: ص : 77

 

تذنيب‏ «1»:

الحقّ أنّ الأمر المعلّق على شرط أو صفة، لا يتكرر بتكررهما «2» إلاّ إذا كانت الشرطيّة قضيّة كلّية، مثل: (كلّما جاءك زيد فأكرمه)، أو كان الشرط أو الصفة علّة موجبة «3»، مثل: وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا «4»، وَ السَّارِقُ وَ السَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما «5».

و وجه الثاني ظاهر.

و لنا على الأوَّل: أنَّ السيِّد إذا قال لعبده: (إن دخلت السوق، أو إذا دخلت السوق، فاشتر لحما) «6» فترك الشراء في المعاودة لا يوجب الذمّ، و هو ظاهر «7».

و لكنّ أكثر الأوامر المعلّقة الواقعة في الأحكام ممّا يتكرر بتكرر الشرط لفهم العلّية غالبا، و لذا توهّم البعض أنّ (إذا) تفيد العموم عرفا، و إن لم تفده لغة.

البحث الثالث:

اختلفوا في دلالة صيغة الأمر على الفور أو التراخي، على أقوال‏ «8»:

______________________________

 (1) في أ و ط: تذييل.

 (2) عدّة الأصول: 1- 76، المحصول: 1- 243.

 (3) المحصول: 1- 246، تهذيب الوصول: 22.

 (4) المائدة- 6.

 (5) المائدة- 38.

 (6) في ط: فاشتر لنا لحما.

 (7) الذريعة: 1- 115، المحصول: 1- 243، معارج الأصول: 67.

 (8) فقد ذهب السيّد المرتضى إلى أن الأمر المطلق مشترك بينهما: الذريعة: 1- 132. و ذهب الشيخ الطوسي إلى انه يقتضي الفور: العدّة: 1- 85، و به قالت الحنفيّة، كما في المحصول:

1- 247، المنتهى: 94، و الحنابلة، كما في المنتهى: 94.

 

77
الوافية في أصول الفقه

البحث الثالث: ص : 77

ثالثها: أنّها لا تدلّ على شي‏ء منهما «1» و هو الحقّ، إلاّ أنّ الأقوى وجوب التعجيل في الأمر المجرّد عن القرائن، فهاهنا أيضا مقامان:

الأوّل: عدم الدلالة على الفور و لا على التراخي.

و لنا فيه: أنّ المتبادر من الأمر ليس إلاّ طلب الفعل من غير فهم شي‏ء من الأوقات و الأزمان منه، و هو ظاهر «2».

الثاني: وجوب المبادرة إلى امتثال الفعل المأمور به، و ليس المراد بالفور- في المقام الثاني- المبادرة بالفعل في أوّل أوقات الإمكان، بل ما يعدّ به المكلّف الفاعل عرفا مبادرا و معجّلا، و غير متهاون و متكاسل‏ «3»، و هذا أمر يختلف بحسب اختلاف الآمر و المأمور و الفعل المأمور به، مثلا: إذا أمر المولى عبده بسقي الماء، فبتأخيره ساعة تفوت الفوريّة، و يعدّ العبد متهاونا.

و إذا أمره بالخروج إلى مصر «4» بعيد الغاية- كالهند- فبتأخر أسبوع بل شهر لا تفوت الفوريّة، و لا يعدّ متهاونا.

و الدليل عليه من وجوه:

الأوّل: أنّ جواز التأخير على تقديره ليس إلى‏ «5» غاية معلومة، إذ لا دلالة للصيغة على غاية معلومة، و لو استفيدت‏ «6» الغاية من أمر خارج، يخرج عن محل‏

______________________________

 (1) ذهب إليه الشافعي، كما في: المنتهى: 94، و اختاره الفخر الرازي: المحصول:

1- 247، و المحقق الحلّي: معارج الأصول: 65، و ابن الحاجب: المنتهى: 94، و العلاّمة الحلّي: تهذيب الوصول: 22: و المحقّق الشيخ حسن: معالم الدين: 56.

 (2) انظر مصادر البحث السابق.

 (3) كذا الظاهر، و في النسخ: متكاهل.

 (4) كذا في ب، و في سائر النسخ: سفر.

 (5) في ط: ليس له.

 (6) كذا في ط، و في الأصل و أ: استفاد، و في ب: استفادة.

78
الوافية في أصول الفقه

البحث الثالث: ص : 77

النزاع، لأنّه يصير من قبيل المؤقّت، و الكلام في غيره‏ «1».

و ما يقال من أنّ كلّ أمر- على هذا- يكون موقّتا، فلا يجب الفور في شي‏ء أصلا، لأنّ الغاية هي ظنّ الموت، فإذا حصل ذلك الظنّ، تصير العبادة مضيّقة.

فهو باطل:

لأنّ‏ «2» ظنّ الموت قلّما يحصل.

و على تقديره: لا دليل على اعتبار هذا الظنّ شرعا حتى يمكن الحكم به بتضييق عبادة ثبت من الشرع توسعتها.

و على تقدير التسليم: فبعد حصول هذا الظنّ، قلّما يتمكّن المكلّف من الامتثال، إذ حصول هذا الظنّ في صحّة من الجسم و كمال من العقل، من خوارق العادة، بل هو على تقديره إنّما يكون عند شدّة المرض، و حينئذ لا يتمكن الإنسان من فعل ما يحتاج إلى زيادة إتعاب النّفس، كالحج و الصوم و الجهاد، و نحوها، بل الصلاة أيضا إذا كانت كثيرة، فنقول في الاستدلال: إنّ جواز التأخير لا إلى غاية، يفضي إلى خروج الواجب عن الوجوب فيكون منتفيا «3» فيكون الفور واجبا.

و المقدّمتان في غاية الظهور.

و ما يقال من: أنّ الواجب ما لا يجوز تركه على وجه ما، فلا يخرج شي‏ء من الوجوب، إذ يصدق على كل واجب أنّه بحيث لو حصل ظنّ المكلّف بفوته، و تمكّن من الفعل، فهو غير جائز الترك حينئذ.

فهو من المزخرفات، لأنّ تحديد الوجه في هذا التعريف، بحيث يسلم طرده من الندب بل من المباح، ممّا لا يكاد يمكن إلاّ بالتكلّفات الباردة البعيدة

______________________________

 (1) الذريعة: 1- 133، المحصول: 1- 250.

 (2) في ط: لا أنّ.

 (3) في ط: منفيّا.

79
الوافية في أصول الفقه

البحث الثالث: ص : 77

جدّاً.

و أيضا: قد عرفت ما في غائية الظنّ بالموت‏ «1».

و أيضا: كيف يتصوّر وصف العبادة بالوجوب باعتبار وصف نادر التحقق فيها؟! و كذا ما يقال من «أنّ الواجب ما لا يجوز تركه لا إلى بدل» و العزم هنا واجب، لأنّ بدليّة العزم على الإطلاق توجب إخراج الواجب عن الحتميّ.

و أيضا: لا دليل على وجوب العزم، و لا على بدليّته، على تقدير الوجوب.

فإن قلت: هذا الدليل ينتقض بما لو صرّح بجواز التأخير، و لا نزاع في إمكانه.

قلت: جواز التأخير- في جميع أزمنة صحّة الجسم و التمكّن من الفعل- لا نسلّم أنّه يمكن تصريح الحكيم‏ «2» به، لأنّه سفه و مناف لغرضه.

نعم، صراحة جواز التأخير على الإطلاق، توجب أن يدخل في زمن جواز التأخير بعض الأزمنة، الّتي يعدّ التارك فيها متهاونا مضيّعا، لولاها.

الثاني: أنّ التأخير بما ينافي الفورية المذكورة، يعدّ في العرف تهاونا و معصية «3»، فيكون حراما، فيكون الفور واجبا، إذا كان الآمر ممّن ثبت وجوب امتثاله.

و لا يتوهّم من هذا: صيرورة الفوريّة مدلولا لصيغة الأمر، فينافي ما في المقام الأوّل.

لأنّ قضاء العرف بذلك، لا يلزم أن يكون لأجل وضع اللّفظ له، و لا يلزم أن يكون جميع صفات الشي‏ء و آثاره و أحكامه، من مدلولات لفظه.

______________________________

 (1) في ب: غايته، و في ط: غائته بالموت.

 (2) في أ و ط: الحكم.

 (3) الذريعة: 1- 132، المحصول: 1- 251.

80
الوافية في أصول الفقه

البحث الثالث: ص : 77

الثالث: ادّعاء «1» السيّد الأجلّ المرتضى، الإجماع على أنّ الأمر المطلق يحمل على الفور، حيث قال في الذريعة، في بحث أنّ الأمر للوجوب، أولا؟:

 «و نحن، و إن ذهبنا إلى أنّ هذه اللّفظة مشتركة في اللّغة بين الإيجاب و الندب، فنحن نذهب إلى أنّ العرف الشرعيّ المتّفق المستمر قد أوجب أن يحمل مطلق هذه اللفظة- إذا وردت عن اللّه تعالى أو عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على الوجوب دون الندب، و على الفور دون التراخي، و على الإجزاء» «2»، و احتجّ عليه ب «أنّ الصحابة و التابعين، و تابعي التابعين، حملوا كلّ أمر ورد في الكتاب و السنّة مجرّدا، على الفور، و الوجوب، و الإجزاء، و لم ينكر أحد ذلك، و إذا احتجّ واحد بأمر عليه، لم ينكر خصمه، بل يسلّم منه ذلك» «3» ثمّ قال:

 «و أمّا أصحابنا معشر الإماميّة فلا يختلفون في هذا الحكم الّذي ذكرناه، و قد مرّ غير مرّة: أنّ إجماعهم حجّة» «4» انتهى.

فان قلت: الإجماع المنقول بخبر الواحد لا يفيد إلاّ الظنّ، و المسألة من المطالب الكلّية، الّتي يجب تحصيل العلم بها.

قلت: إفادة الظنّ من الخبر الواحد أكثريّ، و قد يفيد القطع إذا احتفّ بالقرائن، و الظاهر كون هذا الخبر كذلك.

و لو سلّم فلا نسلّم كون المسألة من المطالب العلميّة، بل هي من المطالب المتعلّقة بمقتضيات الألفاظ، و قد صرّحوا بالاكتفاء بالظنّ فيها، لعدم إمكان تحصيل القطع فيها.

و لو سلّم كونها من غير تلك المطالب، فلا نسلّم وجوب تحصيل القطع في غير المعارف الإلهيّة.

______________________________

 (1) في ط: ادّعى.

 (2) الذريعة: 1- 53.

 (3) هذا تلخيص لكلام السيّد في الذريعة: 1- 54.

 (4) الذريعة: 1- 55.

81
الوافية في أصول الفقه

البحث الثالث: ص : 77

و لو سلّم فلا نسلّم وجوب تحصيل القطع فيما لا يمكن فيه ذلك، لأنّه تكليف بالمحال، و المسألة كذلك، إذ كل من القول بالفور و التراخي و الاشتراك و طلب الماهيّة و التوقّف، مبنيّ على الأدلّة الظنّيّة، كما لا يخفى.

و أيضا: اشتراط القطع في الأصول مطلقا، و سيّما في أصول الفقه- كعدمه- مبنيّ‏ «1» على الأدلّة الظنّيّة، كالآيات القرآنية و نحوها، و الأصل و نحوه.

فإن قلت: كلام المرتضى- كما فهمه بعض الأصحاب‏ «2»- دالّ على أنّ الوجوب و الفور و الإجزاء، من مدلولات الأمر في الشرع، فليس الإجماع و واردا على المدّعى.

قلت: لا ظهور لكلام السيّد في ذلك، إذ هو ما زاد على القول بوجوب حمل الأمر عليه، و لم يذكر بأنّه مما وضع له اللّفظ في العرف الشرعيّ، فتأمّل.

الرابع: قوله تعالى: فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ «3»، و لا شكّ أنّ فعل المأمور به من الخيرات.

و قوله تعالى: وَ سارِعُوا إِلى‏ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ‏ «4»، حيث إنّ مسارعة العبد إلى المغفرة غير متصوّرة، لأنّها من فعل اللّه تعالى، فالمراد- و اللّه أعلم- سببها، و فعل المأمور به سببها، كما قال تعالى:

إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ‏ «5».

و إضمار سبب خاص- كالتوبة- ترجيح بلا مرجّح، لا دليل عليه.

و أيضا: حذف المفعول هنا، إنّما هو ليذهب ذهن السامع كلّ مذهب،

______________________________

 (1) زاد في ط: أيضا.

 (2) الظاهر انه صاحب المعالم كما يظهر ذلك مما ذكره في الردّ على استدلال السيد المرتضى: معالم الدين: 58.

 (3) المائدة- 48.

 (4) آل عمران- 133.

 (5) هود- 114.

82
الوافية في أصول الفقه

البحث الثالث: ص : 77

و كلّ سبب للمغفرة «1».

و ما قيل‏ «2»: «بأنّ ذلك محمول على أفضلية المسارعة و الاستباق، لا على وجوبهما، و إلاّ لوجب الفور، فلا تتحقق المسارعة و الاستباق، لأنّهما إنّما يتصوّران في الموسّع دون المضيّق، ألا ترى أنّه لا يقال لمن قيل له: (صم غدا) فصام-: إنّه سارع إليه و استبق، و الحاصل أنّ العرف قاض بأنّ الإتيان بالمأمور به، في الوقت الّذي لا يجوز تأخيره عنه، لا يسمّى مسارعة و استباقا، فلا بدّ من حمل الأمر في الآيتين على الندب، و إلاّ لكان مفاد الصيغة فيهما منافيا لما تقتضيه المادّة، و ذلك ليس بجائز، فتأمّل» «3» انتهى كلامه بعبارته.

فوهنه و ضعفه ظاهر، لأنه مبني على اشتباه المؤقّت بغيره، فإنّه توهّم أنّ الواجب الفوريّ يصير موقتا مضيّقا كالصوم، و ليس كذلك، إذ المؤقّت- موسّعا كان أو مضيّقا- يصير قضاء بخروج وقته، و قد يسقط به كصلاة العيد، بخلاف غير المؤقّت كإزالة النجاسة من المسجد، و قضاء الصلوات اليوميّة على المشهور، و الحج، و نحوها، فإنّ فيه و إن حصل الإثم بالتأخير، إلاّ أنّه أداء لازم الفعل في كلّ وقت، فالاستباق و المسارعة يتصوّران في المضيّق غير الموقّت، و قضاء العرف بما ادعاه فيه ظاهر البطلان.

و ما توهّم من منافاة مادّة الأمر فيها لصيغته حينئذ- بناء على أنّ المادّة تقتضي إمكان التأخير، و صورته تقتضي المنع من التأخير- فهو باطل، إذ المادّة لا تقتضي إلاّ كون الفعل أداء، و صحيحا على تقدير التأخير، و لا تقتضي جواز التأخير و مشروعيّته‏ «4».

و هو في غاية الظهور، و لا يبعد كون أمره بالتأمّل، إشارة إلى ما ذكرناه.

______________________________

 (1) الذريعة: 1- 134، المحصول: 1- 249.

 (2) و القائل هو صاحب المعالم تبعا لغيره. (منه).

 (3) معالم الدين: 57- 58.

 (4) في أ: و صورته تقتضي المنع من التأخير و مشروعيته. بدل قوله: و لا تقتضي إلى آخره.

83
الوافية في أصول الفقه

البحث الرابع: ص : 84

و احتجّ من قال بالدلالة على الفور، بأدلّة: بعضها غير مناف لما مرّ، و بعضها غير صحيح، كالقياس على النهي، و على الإيقاعات، و لزوم ثبوت بدل- هو العزم- على تقدير التراخي، من غير دليل، و نحو ذلك‏ «1».

و احتجّ من قال بالتراخي- بمعنى جواز التأخير لا وجوبه، إذ لم يذهب إليه أحد على الظاهر- بأنّ الأمر المطلق لا توقيت فيه، فلو أراد وقتا معيّنا لبيّنه، فإذا فقدنا البيان، علمنا أنّ الأوقات متساوية في إيقاعه‏ «2».

و الجواب:

بالوفاق، إن أراد نفي الدلالة على الفور.

و إن أراد نفيه مطلقا، فنقول: البيان بعدم تساوي الأوقات، موجود في العقل و النقل كما مرّ.

البحث الرابع:

في أنّ الأمر بفعل في وقت معيّن، هل يقتضي فعله فيما بعد ذلك الوقت- على تقدير فوات ذلك الفعل في وقته- أو لا؟.

فيه مذهبان: الاقتضاء «3»، و عدمه.

و قوّى الأكثر الثاني‏ «4»، قائلين بأنّ القضاء لا يجب إلاّ بأمر مجدّد، نحو:

______________________________

 (1) تجدها في: الذريعة: 1- 132- 134، المحصول: 1- 249- 251، معالم الدين: 56- 58، و قد استدلّ الشيخ الطوسي بالأخير منها: العدّة: 1- 86.

 (2) حكاه في: الذريعة: 1- 141.

 (3) ذهب إليه الحنابلة و بعض الفقهاء. كما في: المنتهى: 98.

 (4) الذريعة: 1- 116، العدّة: 1- 77، المستصفى: 2- 11، المحصول: 1- 324، المعارج:

75، تهذيب الوصول: 30.

84
الوافية في أصول الفقه

البحث الرابع: ص : 84

 (من نام عن صلاة «1» أو نسيها، فليصلّها إذا ذكرها) «2».

لنا: أنّ الأمر بصوم يوم الخميس، لا إشعار فيه بوجوب صوم غير يوم الخميس، و لا يقتضيه معنى‏ «3» لاختلاف الأوقات- كالكيفيات- في المصلحة، فقد تكون العبادة في وقت خاص لمصلحة «4»، دون غيره من الأوقات‏ «5».

احتجوا:

 [أ] بأنّ هناك مطلوبين: أحدهما الصوم، و الآخر إيقاعه في يوم الخميس، فبفوت الثاني لا يسقط الأوّل، إذ «6» لا يسقط الميسور بالمعسور «7».

و الجواب: لا نسلّم تعدّد المطلوب، بل هو الصوم المقيّد بيوم الخميس، فلا يمكن إيقاع هذا المطلوب في غيره.

 [ب‏] و بأنّ الدّين المؤجّل لا يسقط بالتأخير، فكذا المأمور به‏ «8».

و الجواب: أنّ ضرب الأجل في الدّين إنّما هو لرفع الوجوب قبله، لا لرفعه بعده، و هو معلوم عادة، و العقل يحكم بأنّ الغرض‏ «9» في الدّين متعلّق بإحقاق الحقّ، و لا مدخليّة للأجل إلاّ لرفع تقاضي صاحب الحقّ قبله، بخلاف المأمور به.

على أنّه قياس، لا نقول به.

______________________________

 (1) في ط: من نام في وقت صلاة.

 (2) المستصفى: 2- 11، غوالي اللئالي: 1- 201- الفصل التاسع ح 17.

 (3) المنتهى: 98.

 (4) كذا في ط، و في سائر النسخ: مصلحة.

 (5) الذريعة: 1- 117، العدّة: 1- 77.

 (6) كذا في ط: و في سائر النسخ: (و) بدل (إذ).

 (7) روى ابن أبي جمهور عن النبي صلى اللَّه عليه و آله مرسلا: «لا يترك الميسور بالمعسور» غوالي اللئالي: 4- 58 ح 205.

 (8) المستصفى: 2- 11.

 (9) في ط: الفرض.

85
الوافية في أصول الفقه

تذنيب: ص : 86

هذا، و «1» لكنّ التتبّع يورث الظنّ بثبوت القضاء في كلّ موقّت، إذا كان واجبا لا مندوبا، إذ لا يكاد يوجد في الأحكام ما تعلّق به الأمر في وقت إلاّ و ثبت الأمر بقضائه على تقدير فوته‏ «2»، غير صلاة العيدين و الجمعة و نحوهما «3».

فالظنّ يحكم بأنّ منشأ تعلّق الأمر المجدّد، هو الأمر الأوّل.

و أيضا: إلحاق الفرد المجهول بالأعمّ الأغلب يوجبه.

و لكنّ الحكم بمدركيّة هذا الظنّ للأحكام الشرعيّة مشكل، و اللّه أعلم.

تذنيب:

على ما اخترناه- من أنّ الأمر للفور- لو أخّر المكلّف المأمور به عن الوقت الّذي يتحقق فيه الفور، فهل يجب عليه الإتيان به فيما بعد ذلك الوقت؟

مع عدم القرينة على الاعتداد به فيه، و لا على عدمه؟

فيه مذهبان‏ «4»، و الأقوى وجوب الإتيان به فيما بعد.

لنا: أنّا لو خلّينا و ظاهر الأوامر المطلقة، نحكم بجواز الإتيان بالمأمور به في كلّ وقت أداء «5»، من دون ترتّب الإثم على الإتيان به في وقت ما، و الأدلّة الدالّة على الفور لا تقتضي إلاّ ترتّب الإثم على التأخير، و هو لا يوجب سقوط الفعل فيما بعد.

و الحاصل: أنّ الأمر المطلق يقتضي بظاهره شيئين: الأوّل: أدائيّة «6»

______________________________

 (1) الواو زيادة من أ.

 (2) في أ و ط: فواته.

 (3) كذا في أ، و في سائر النسخ: و نحوها.

 (4) الذريعة: 1- 131، معالم الدين: 59.

 (5) زاد في ب في هذا الموضع كلمة: و قضاء.

 (6) في أ: دائمية.

86
الوافية في أصول الفقه

تذنيب: ص : 86

الفعل المأمور به في كلّ وقت، و الثاني: رفع‏ «1» الإثم و الحرج بالإتيان به في أيّ وقت من الأوقات، و أدلّة الفور إنّما تقتضي صرفه عن ظاهره في الشي‏ء الثاني دون الأول، إذ لا منافاة بين الاعتداد بالفعل المأمور به في أيّ وقت أتى به، و بين ترتب الإثم على التأخير به، فلا يجوز صرف الأمر عن ظاهره في كلا الشيئين من دون موجب.

و لا يتوهّم جريان الدليل في المؤقّت، لأنّه لا يقتضي الشي‏ء الأوّل، بل و لا الاعتداد بالمأمور به في كلّ وقت.

نعم، يبقى الإشكال في الأمر المطلق، إذا علم توقيته بوقت محدود «2» من خطاب آخر، إذ لا يبعد «3» أن يقال: إنّ التوقيت مطلقا ظاهر في نفي الأدائيّة و الاعتداد به فيما بعد.

و الفرق بين الفوريّة و التوقيت: أنّ الوقت- في التوقيت- لا بدّ أن يكون منشأ لمصلحة الفعل، بخلاف الفوريّة، فإنّ الوقت فيها «4» لا ارتباط له بالفعل، إلاّ لأجل أنّ الفعل الزماني لا بدّ و أن يكون في زمان، حتى لو أمكن إيقاع الفعل لا في زمان، لحصل‏ «5» الامتثال.

و كذا يبقى‏ «6» الإشكال فيما يفيد الفور بالأمر الأوّل، كأن يقول: (افعل معجّلا، أو بسرعة)، فهل يجب الإتيان به فيما بعد وقت الفور حينئذ، أو لا؟.

أو يقول: (افعل) بناء على أنّ الأمر بنفسه يفيد الفور.

و الأقرب الثاني، لما مرّ في المؤقّت، إلاّ أنّه لا يكاد يوجد في الأحكام‏

______________________________

 (1) في أ: دفع.

 (2) في ب: معلوم.

 (3) في ط: و لا يبعد.

 (4) كذا الظاهر، و في النسخ: فيه.

 (5) كذا في ط، و في سائر النسخ: يحصل.

 (6) في ب: لا يبقى.

87
الوافية في أصول الفقه

تذنيب: ص : 86

الشرعيّة أمر فوريّ، إلاّ و هناك قرينة على عدم السقوط فيما بعد.

هذا، و قد يورد في بعض كتب الأصول في بحث الأمر مباحث أخرى، رأينا عدم إيرادها هنا أولى:

إمّا لأنّ البعض سيجي‏ء ذكره في مباحث الأدلّة العقليّة، مثل: بحث مقدّمة الواجب، و استلزام الأمر بالشي‏ء النهي عن الضدّ، و بحث المفاهيم.

و إمّا لكونه من المسائل الكلاميّة الّتي لا تليق بهذه الرسالة، و إن كانت من المبادئ الفقهية، مثل: صحة التكليف بفعل علم الآمر انتفاء شرطه، مع جهل المأمور أو علمه أيضا، و وجود الواجب الموسّع و الكفائي، و امتناع تكليف ما لا يطاق، و تعلّق الأمر بالمعدوم، و تكليف الغافل و المكره، و نحو ذلك ممّا يتعلّق بمباحث العدل من علم الكلام.

و إمّا لقلّة فائدته، مثل بحث الواجب التخييريّ، و بقاء الجواز بعد نسخ الوجوب، و غير ذلك.

88
الوافية في أصول الفقه

المقصد الثاني: في النواهي و فيه مباحث: ص : 89

 

المقصد الثاني: في النواهي و فيه مباحث:

البحث الأوّل:

اختلفوا في مدلول صيغة النهي حقيقة، على نحو اختلافهم في الأمر «1».

و الحقّ هاهنا- أيضا- نظير ما مرّ «2» في الأمر، من أنّها حقيقة في طلب الترك.

و لكن تحمل نواهي الشرع على التحريم:

لما مرّ في الأمر.

و لقوله تعالى: وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا «3»، و قد مرّ أنّ أوامر الشرع‏

______________________________

 (1) قال الغزالي: «اعلم أن ما ذكرنا من مسائل الأوامر تتضح به أحكام النواهي إذ لكل مسألة وزان من النهي على العكس». المستصفى: 2- 24 و انظر: الذريعة: 1- 174، المحصول:

1- 338، المنتهى: 100، المعارج: 76، المعالم: 90.

 (2) في ب: يظهر مما مرّ.

 (3) الحشر- 7.

 

89
الوافية في أصول الفقه

البحث الثاني: ص : 90

محمولة على الوجوب.

و قوله تعالى في مقام الذمّ و الوعيد: أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى‏ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ‏ «1» الآية.

و غير ذلك، نحو قوله تعالى في مقام الذمّ: وَ لَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ‏ «2».

و قوله تعالى: فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ‏ «3».

البحث الثاني:

الحقّ أنّ النهي الشرعيّ المجرّد عن القرائن يجب حمله على الدوام‏ «4»:

لأنّ حمل النهي المطلق على حصّة معيّنة من الأوقات، محدودة الأوّل و الآخر، من دون مرجّح، غير معقول.

و لأنّ العلماء لم يزالوا يستدلون على عموم التحريم بمطلق النهي.

البحث الثالث:

هل يجوز تعلّق الأمر و النهي بشي‏ء واحد، أو لا؟ «5».

______________________________

 (1) المجادلة- 8.

 (2) الأنعام- 28.

 (3) الأعراف- 166.

 (4) الذريعة: 1- 176، معالم الدين: 92، و نقله الفخر الرازي عن المشهور، لكنه خالف فيه:

المحصول: 1- 338، و نسبه ابن الحاجب إلى المحققين: المنتهى: 101، كما خالف في ذلك العلاّمة في تهذيب الوصول: 33، و إن وافقهم على ذلك في كتابه نهاية الوصول على ما حكاه عنه المحقق الشيخ حسن: معالم الدين: 92.

 (5) المحصول: 1- 340.

90
الوافية في أصول الفقه

البحث الثالث: ص : 90

و الحقّ عدم الجواز «1».

و اعلم أنّ للمسألة صورا:

الأولى: أن يتعلّق الأمر الإيجابيّ العينيّ، و النهي التحريميّ العينيّ، بأمر واحد شخصيّ.

و لا شكّ و لا نزاع لأحد في امتناعه، بناء على امتناع التكليف بما لا يطاق‏ «2»، سواء كان منشأ تعلّق الحكمين ذات ذلك الشي‏ء أو وصفين لازمين له.

أمّا لو أمكن اتّصافه بعرضين مفارقين، مع بقاء وحدته في الحالين، فيجوز تعلّق الأمر باعتبار أحد الوصفين، و النهي باعتبار الآخر، فيجب حينئذ إيقاعه على الوصف الأوّل، و يحرم إيقاعه موصوفا بالوصف الثاني، كلطم اليتيم تأديبا، و ظلما، و السجود للّه، و لغيره، فإنّه يختلف بالقصد و النيّة.

الثانية: أن يتعلّق الأمر الإيجابيّ التخييريّ، و النهي التحريميّ العينيّ بأمر شخصيّ، بحيث يكون منشأ الوجوب و الحرمة واحدا، أو أمرين متلازمين.

و الحقّ امتناعه، و الظاهر أنّه لا نزاع فيه أيضا، و سيجي‏ء ما يحققه.

الثالثة: أن يتعلّق الأمر الحتميّ، و النهي كذلك، كلّ واحد بكلّي، و لكن يكون بين الكلّيين العموم من وجه، فيختار المكلّف ما يندرج في كل منهما، فهل يحصل الامتثال باعتبار الأمر، أو لا؟.

فيه خلاف، و قد مثّل بالصلاة في الدار المغصوبة، فإنّ الصلاة مأمور بها، و الغصب منهيّ عنه، و الصلاة في الدار المغصوبة فرد لكل منهما، أمّا بالنسبة إلى الصلاة فباعتبار نفسها، و أمّا بالنسبة إلى الغصب فباعتبار جزئها، لأنّ القيام على أرض الغير، و السجود عليها، مع عدم رضائه أو بدون إذنه،

______________________________

 (1) المحصول: 1- 340.

 (2) المحصول: 1- 341.

91
الوافية في أصول الفقه

البحث الثالث: ص : 90

تصرف متّصف بالغصب، بل هو نفس الغصب، و كذا الحركات و السكنات، إذ الكون- و هو شغل الحيّز- جنس للحركة و السكون، و جزئيتهما للصلاة تستلزم جزئيته.

و قد وقع النزاع في صحّة هذه الصلاة و بطلانها، بناء على أنّه هل تعدّى الأمر المتعلّق‏ «1» بمطلق الصلاة إلى هذا الفرد المتعلّق‏ «2» للنهي؟ أو لا؟ «3».

و هذه الصورة في الحقيقة ترجع إلى الصورة الثانية، لأنّ النهي عن الكلّي نهي عن جميع جزئياته، و الأمر به أمر بواحد من جزئياته، فكل واحد «4» من جزئياته يصير واجبا تخييريا.

و الحقّ: امتناع تعلّق الأمر- العام‏ «5» لجميع‏ «6» الجزئيات المحصي لها «7»- بما هو فرد للمنهي عنه، و أنّ الدعوى بيّنة، غنيّة عن الدليل، إذ امتناع كون الشي‏ء الواحد مرادا- و لو على جهة التخيير- و غير مراد- بل مبغوضا- لشخص واحد، في غاية الظهور.

و تعلّق الوجوب التخييري به، يوجب الرخصة من الحكيم باختياره، مع استلزامه حينئذ «8» امتناع الإطاعة في طرف النهي.

و أيضا: هذا ينافي اللّطف، إذ المكلّف حينئذ مقرّب للمكلّف إلى معصيته‏ «9»، كما لا يخفى.

______________________________

 (1) كذا في أ و ب و ط، و في الأصل: المطلق.

 (2) في ط: المعيّن. بدل: المتعلق.

 (3) المحصول: 1- 343، و قد ذهب الشيخ الطوسي إلى الأوّل: عدّة الأصول: 1- 100.

 (4) كلمة (واحد): زيادة من ب.

 (5) كذا في ب، و في سائر النسخ: امر العالم.

 (6) كذا في أ، و في سائر النسخ: بجميع.

 (7) كذا في الأصل و ب، و في أ و ط: بها.

 (8) (حينئذ): زيادة من أ و ط.

 (9) كذا في أ و ب، و في الأصل: لا معصيته، و في ط: معصية.

92
الوافية في أصول الفقه

البحث الثالث: ص : 90

و اختلاف الجهة غير مجد مع اتّحاد المتعلّق.

احتجّ المخالف بوجهين‏ «1»:

الأوّل: أنّ السيّد إذا أمر عبده بخياطة ثوب، و نهاه عن الكون في مكان مخصوص، ثمّ خاطه في ذلك المكان، فإنّا نقطع بأنّه مطيع عاص، لجهتي الأمر و النهي.

الثاني: أنّه لو امتنع الجمع، لكان باعتبار اتّحاد متعلّق الأمر و النهي- إذ لا مانع سواه اتفاقا- و اللازم باطل، إذ لا اتّحاد في المتعلّقين‏ «2»، فإنّ متعلّق الأمر الصلاة، و متعلّق النهي الغصب، و كلّ منهما يتعقّل انفكاكه عن الآخر، و قد اختار المكلّف جمعهما، مع إمكان عدمه، و ذلك لا يخرجهما عن حقيقتيهما اللتين هما متعلّقا الأمر و النهي‏ «3» حتى لا تبقيا مختلفتين.

و الجواب عن الأوّل:

أوّلا: بمنع حصول الإطاعة على التقدير المذكور، و السرّ في توهّم هذا الحصول: أنّ غرض الآمر و فائدة الخياطة حاصلة على أيّ حال اتفقت الخياطة، فيشتبه‏ «4» حصول الغرض بحصول الإطاعة.

و ثانيا: بأنّ المتعلّق في المثال المذكور مختلف، فإنّ الكون ليس جزءا من الخياطة، بخلاف الصلاة، و تحقيقه: أنّ الخياطة أمر حاصل من الحركات، فهي بمنزلة المعدّات له.

و لا يمكن أن يقال: إنّ الصلاة- أيضا- أمر حاصل من الحركات‏

______________________________

 (1) حكاهما المحقق الشيخ حسن: معالم الدين: 94- 95.

 (2) في ط: للمتعلقين.

 (3) عبارة (اللتين هما متعلقا الأمر و النهي): زيادة من ب، و هي مثبتة في المصدر أيضا: المعالم 95.

 (4) في ب و ط: فيشبه.

93
الوافية في أصول الفقه

البحث الثالث: ص : 90

و السكنات، فهي الأذكار «1» الواقعة على الأنحاء الخاصّة.

للإجماع على أنّ القيام، و رفع الرّأس من الركوع، و السجود، و ملاصقة الجبهة بالأرض- من أجزاء الصلاة و أركانها.

لا يقال: اختلاف المتعلّق غير مجد مع التلازم، إذ تعلّق النهي باللاّزم، و الأمر بالملزوم- غير جائز، و مطلق الكون من لوازم مطلق الخياطة، و الكون في المكان المغصوب من لوازم الخياطة فيه، كالكون مع الصلاة في الجزئية.

لأنّا نقول- بعد تسليم أنّ الكون من لوازم الخياطة لا من لوازم الخيّاط-: إنّا لا نسلّم أنّ الكون في المكان المغصوب من لوازم الخياطة فيه، بل الكون المطلق لازم لها، و ليس للكون الخاصّ مدخلية في تشخّص الخياطة، بل شخص الخياطة في المكان المغصوب يمكن حصوله في غير ذلك المكان، بخلاف الصلاة، فإنّ أشخاصها تتبدّل بتبدّل الأكوان في الأماكن المختلفة.

و عن الثاني: أنّ اتّحاد المتعلّق لازم، بملاحظة أنّ التكاليف المتعلّقة بالماهيات، متعلّقة في الحقيقة بجزئيّاتها.

الرابعة «2»: أن يتعلّق الأمر الإيجابيّ الحتميّ و النهي التنزيهيّ، بأمر واحد شخصي، و هذا- أيضا- غير جائز، لما مرّ.

الخامسة: أن يتعلّق الأمر الإيجابيّ التخييريّ، و النهي التنزيهيّ، بأمر واحد شخصيّ، كالصلاة في الحمّام، و نحوه من الأماكن المكروهة «3»، و هذا أيضا ممتنع، إذا كان المكروه بمعناه المعروف، و هو راجحيّة «4» الترك، فما تعلّق به هذا النهي من العبادات، فالظاهر بطلانه ما لم يدلّ دليل على صحته، و ما

______________________________

 (1) زاد في ط في هذا الموضع كلمة: الخاصّة.

 (2) أي: من الصور المذكورة لاجتماع الأمر و النهي.

 (3) الفقيه: 1- 241 ح 725، الكافي: 3- 390 باب الصلاة في الكعبة ... ح 12، المحاسن للبرقي: 365 ح 110.

 (4) في ب: أرجحية.

94
الوافية في أصول الفقه

البحث الثالث: ص : 90

دلّ الدليل على صحته، يجب حمل النهي‏ «1» فيه على غير معناه الحقيقي، و لهذا اشتهر أنّ متعلّق الكراهة ليس نفس العبادة، بل أمر آخر، كالتعرّض للنجاسة، أو لكشف العورة، و نحو ذلك، في كراهة الصلاة في الحمّام، فاختلف المتعلّق.

و يقولون: إنّ الحرمة غالبا تتعلّق بالذات، و الكراهة «2» بالوصف.

و هذا خلاف ظواهر النصوص، الدالّة على تعلّق الكراهة بنفس الفعل، مثل: (لا تصلّ في الحمّام) و نحوه.

و الحقّ: هو ما اشتهر من أنّ الكراهة في العبادات، بمعنى كونها «3» أقلّ ثوابا بنسبة خاصّة.

و تحقيقه: أنّ العبادة قد تكون بحيث لم يتعلّق بها نهي و لا أمر- غير الأمر الّذي تعلّق بأصلها- كالصلاة اليوميّة في البيت للبعيد عن المسجد، أو عند المطر «4»، نحو ذلك.

و هذه ربّما تتصف بالإباحة، بمعنى عدم مرجوحيّة أوصافها و أجزائها «5»، و عدم راجحيّتها أيضا- غير الراجحية الناشئة من راجحيّة أصلها- فيقال:

الصلاة اليومية في البيت مثلا مباحة.

و قد تكون بحيث تعلّق بها أمر آخر، باعتبار اشتمالها أو اتّصافها على أمر راجح أو به.

و هذا الرجحان: قد ينتهي إلى حدّ الوجوب، كالصلاة في المسجد مع نذر إيقاعها فيه، فيجتمع حينئذ وجوبان، و قد لا ينتهي إليه، كالصلاة اليومية

______________________________

 (1) كذا في ط، و في سائر النسخ: الكراهة.

 (2) في ط: الكراهية.

 (3) في ط: أنّها.

 (4) الفقيه: 1- 377 ح 1099.

 (5) كذا في أ و ط، و في الأصل و أ: أو أجزائها.

95
الوافية في أصول الفقه

تتميم: ص : 96

في المسجد لا مع النذر و لا مع عذر مسقط للندب، فيجتمع‏ «1» حينئذ الوجوب مع الندب.

و قد تكون بحيث يتعلّق بها نهي بالاعتبار المذكور.

و هذه المرجوحيّة: قد تنتهي إلى حدّ التحريم، كصلاة الحائض، و الصلاة في الدار المغصوبة، و غير ذلك، و قد مرّ أنّها تستلزم الإبطال، و قد لا تنتهي إليه، و هذه أيضا تستلزم الإبطال، إن كان النهي باعتبار جزء، أو وصف لازم، لما مرّ في النهي التحريميّ.

فلا بدّ من حمل الكراهة على أقلّية الثواب، بمعنى كون العبادة- باعتبار الاشتمال أو الاتّصاف المذكور- أقلّ ثوابا منها نفسها لو لم تكن كذلك، بل كانت متّصفة بالإباحة المذكورة، فالصلاة في الحمّام مكروهة، بمعنى أنّها أقلّ ثوابا منها في البيت، لا في المسجد.

و على هذا التحقيق لا يرد ما يقال: إنّ الكراهة بمعنى أقلّية الثواب، توجب كون الصلاة في جميع المساجد و المواضع- مكروهة، غير المسجد الحرام، لأنّها أقلّ ثوابا منها فيه.

و قد علم ممّا مرّ صورة اجتماع الأمر الإيجابيّ معه، و مع الندب، و مع الإباحة، بل صورة اجتماع الأمر الندبيّ مع الإيجاب، و الندب، و الإباحة، و الكراهة، و التحريم، فهذه ثلاث عشرة صورة.

تتميم:

فإن قلت: كيف حكمت ببطلان العبادة، عند فرديّتها للمأمور به و المنهيّ عنه؟ و حكمت باستثنائها عن بقيّة أفراد المأمور به في تعلّق الأمر، و لم لا

______________________________

 (1) في ط: فيجمع.

96
الوافية في أصول الفقه

تتميم: ص : 96

يجوز دخولها في المأمور به، و خروجها عن المنهيّ عنه؟ مثلا: الصلاة في الدار المغصوبة، تكون صحيحة، و يكون كلّ غصب منهيّا عنه إلاّ الصلاة إذا كانت غصبا، و أيّ فرق بين قولك: (كلّ صلاة مأمور بها إلاّ إذا كانت غصبا)، و بين قولنا: (كلّ غصب منهيّ عنه إلاّ إذا كان صلاة)؟! قلت: هذا الاحتمال‏ «1» لا يخلو عن قرب، سيّما «2» مع ضميمة ما دلّ على صحّة الصلاة المذكورة، مثل قوله تعالى: إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ‏ «3»، و ما ورد من أنّ الأرض مهر لفاطمة الزهراء عليها السلام‏ «4» إلاّ أنّ أصحابنا لم ينقلوا خلافا في بطلان الصلاة المذكورة.

و لعلّ الوجه فيه: أنّ تعلّق الأمر بمثل العبادة المذكورة، بطريق التخيير، على ما مرّ، و تعلّق النهي بها، بطريق الحتم و العين، فيكون استثناؤها من الأمر أولى من استثنائها من النهي، إذ ظاهر «5»: أنّ الاهتمام بفعل فرد خاصّ من الواجب التخييري، ليس مثل الاهتمام بترك الحرام العينيّ.

أو الوجه فيه: أنّ العبادة إذا صارت محتملة لكلّ من الوجوب و التحريم، رجح جانب التحريم، لا لما قيل و اشتهر من: أنّ دفع المفسدة أهمّ من جلب المنفعة- إذ هذا إنّما يتمّ مع تعارض الندب و التحريم، لا الواجب معه، لأنّ ترك الواجب أيضا كفعل الحرام مفسدة- بل لما ورد من التوقّف عند تعارض الأمر و النهي، و مصداقه الكفّ.

و أيضا: من تتبّع ظهر عليه أنّ كلّ أمر مردّد «6» بين الوجوب و التحريم،

______________________________

 (1) كذا في أ و ب و ط، و في الأصل: احتمال.

 (2) في ب: لا سيّما.

 (3) الأعراف- 128.

 (4) كشف الغمّة: 1- 472، المحتضر: 133.

 (5) في ط: الظاهر.

 (6) كذا في أ. و في الأصل: أن كل مردد. و في ط: ان كل أمر تردد. و في ب: ان كل امر ورد.

97
الوافية في أصول الفقه

تتميم: ص : 96

رجّح الشرع جانب الكفّ عنه، كصلاة الحائض في أيام الاستظهار، و كفّ الوضوء عن الإناءين‏ «1» المشتبهين عند نجاسة أحدهما، و غير ذلك.

و قال السيّد في الذريعة: «و قد يصحّ أن تقبح من المكلّف جميع أفعاله على وجه، و تحسن على وجه آخر، و على هذا الوجه يصح القول: بأنّ من دخل زرع غيره على سبيل الغصب- أنّ له الخروج عنه بنيّة التخلّص، و ليس له التصرف بنيّة الفساد، و كذلك من قعد على صدر حيّ، إذا كان انفصاله منه يؤلم ذلك الحيّ كقعوده، و كذلك المجامع زانيا، له الحركة بنيّة التخلّص، و ليس له الحركة على وجه آخر» «2».

و قال في موضع آخر، بعد الاستدلال على بطلان الصلاة في الدار المغصوبة: «و قد قيل في التمييز «3» بين الصلاة و غيرها، في هذا الحكم: إنّ كلّ عبادة ليس من شرطها أن يتولّى الفعل بنفسه، بل ينوب فعل الغير مناب فعله، أو ليس من شرطها أن تقع منه بنيّة الوجوب، أو ليس من شرطها النيّة أصلا، لم يمتنع في المعصية منها أن تقوم مقام الطاعة، و هذا قريب» «4» انتهى.

ثم قال: «و أمّا الضيعة المغصوبة، فالصلاة فيها مجزية، لأنّ العادة جرت بأنّ صاحبها لا يحظر على أحد الصلاة فيها، و التعارف يجري مجرى الإذن، فيجب الرجوع إليه».

و قال: «فأمّا من دخل و ليس بغاصب، لكنّه دخل الدار المغصوبة مختارا «5»، فيجب أن لا تفسد صلاته، لأنّ المتعارف بين الناس أنّهم يسوّغون‏

______________________________

 (1) كفّ صاحبه عن مجاوزته إلى غيره: منعه، و هو أصل المعنى. انظر: معجم الأفعال المتعدّية بحرف: 315. هذا، و المناسب أن تكون العبارة كما يلي: و الوضوء بالإناءين إلى آخره، عطفا على المثال الأوّل.

 (2) الذريعة: 1- 178.

 (3) كذا في أ و ط، و في الأصل و ب: التميز.

 (4) الذريعة: 1- 193.

 (5) كذا في النسخ، و لكن في المصدر: مجتازا.

98
الوافية في أصول الفقه

تتميم: ص : 96

ذلك لغير الغاصب، و يمنعونه في الغاصب» «1» انتهى.

و يفهم من كلامه الأوّل: أنّ الفعل الواحد يمكن أن يتّصف بالوجوب و الحرمة، سيّما في مثاله بالقعود على صدر الحي.

و كلامه الثاني ظاهر في صحة الواجب الكفائي في المكان المغصوب.

و اعلم أنّ الشهيد رحمه اللّه، نقل في قواعده‏ «2»، عن السيّد المرتضى:

صحّة الصلاة الواقعة على جهة الرياء، و عدم ترتّب الثواب عليها، لكن تسقط المؤاخذة بفعلها «3»، و هو يؤذن بتجويزه تعلّق الأمر و النهي بشي‏ء واحد من جهتين، إلاّ أن يقول: إنّ الرياء أمر غير الصلاة، و فيه تأمّل.

و نقل الكليني في كتاب الطلاق، عن الفضل بن شاذان: التصريح بصحّة الصلاة في الدار المغصوبة، حيث قال: «و إنّما قياس الخروج و الإخراج [للمعتدة الرجعيّة من بيتها] «4» كرجل دخل دار قوم بغير إذنهم، فصلّى فيها، فهو عاص في دخوله الدار، و صلاته جائزة، لأنّ ذلك ليس من شرائط الصلاة، لأنّه منهيّ عن ذلك، صلّى أو لم يصلّ» «5» انتهى كلامه.

و غرضه: أنّ ما كانت الصلاة سببا للنهي عنه‏ «6»، فاقترانه للصلاة مفسد لها، كالصلاة في الثوب النجس، و ما كان النهي فيه عامّا غير مختص بالصلاة، فاقترانه غير مفسد، كالصلاة في الثوب المغصوب، و ذكر أمثلة أخرى غيرها.

ثمّ اعلم: أنّ هذه المسألة من المسائل العدليّة من علم الكلام، أوردتها هنا لنفعها في بعض مسائل هذا العلم، فهي من المبادئ التصديقيّة، و إيرادها

______________________________

 (1) الذريعة: 1- 194.

 (2) القواعد و الفوائد: 1- 79- الفائدة الثالثة.

 (3) الانتصار: 17.

 (4) ما بين المعقوفين غير مثبت في نسخة ط، كما ان المصدر (الكافي) خال منه.

 (5) الكافي: 6- 94- كتاب الطلاق- باب الفرق بين من طلّق على غير السنة ...

 (6) كلمة (عنه): زيادة من أ.

99
الوافية في أصول الفقه

البحث الرابع: ص : 100

في الأدلّة العقلية أيضا غير بعيد، إلاّ أنّها لا يستدلّ بها إلاّ على نفي الحكم الشرعيّ، كأصالة براءة الذمّة.

البحث الرابع:

اختلفوا في دلالة النهي على فساد المنهي عنه، على أقوال:

عدم الدلالة مطلقا، نقله في المحصول عن أكثر الفقهاء «1»، و الآمدي عن أكثر المحقّقين‏ «2».

و الدلالة مطلقا «3»، و اختاره ابن الحاجب من العامّة «4»، و السيّد المرتضى منّا لكن قال: إنّ دلالته على الفساد شرعا لا لغة «5»، و اختاره الشهيد في قواعده‏ «6»، و المحقّق الشيخ علي في شرح القواعد «7»، بشرط عدم رجوع النهي إلى وصف غير لازم.

 «و اختاره بهذا الشرط الفخر الرازي في المعالم، و نقله في الوجيز، عن الشافعي، و نقله الآمدي عن أكثر أصحاب الشافعي، و اختاره هو» «8».

______________________________

 (1) المحصول: 1- 344.

 (2) الإحكام: 2- 407، التمهيد: 292.

 (3) العدّة: 1- 101- 102.

 (4) كذا حكى الأسنوي في التمهيد: 292، و لكن ابن الحاجب قد فصّل بين النهي عن الشي‏ء لعينه فيدل على الفساد شرعا لا لغة، و بين النهي عن الشي‏ء لوصفه. و حكم في هذه الصورة بالفساد مطلقا: المنتهى: 100- 101، و شرح العضد على المختصر: 1- 209 (المتن).

 (5) الذريعة: 1- 180.

 (6) القواعد و الفوائد: 1- 99 قاعدة 57.

 (7) المسمّى ب: جامع المقاصد: 2- 116.

 (8) ما بين القوسين نصّ عبارة الأسنوي في التمهيد: 293.

100
الوافية في أصول الفقه

الأول: أن النهي يقتضي فساد ما تعلق به من العبادات ص : 101

و القول الثالث: التفصيل، و هو الدلالة «1» في العبادات، لا في المعاملات، و هو مختار المحصول منهم‏ «2»، و العلاّمة «3»، و المحقّق‏ «4»، و كثير من المتأخرين منّا «5».

و الحقّ: أنّ النهي يقتضي فساد المنهي عنه مطلقا، فهاهنا مقامان:

الأوّل: أنّ النهي يقتضي فساد ما تعلّق به من العبادات.

و الدليل عليه: أنّ المنهي عنه لا يكون مرادا و مطلوبا للمكلّف، و العبادة الصحيحة- واجبة أو مندوبة- تكون مرادة و مطلوبة للمكلّف، فلا يكون المنهي عنه عبادة صحيحة، و هو ظاهر.

و اعلم أنّ النهي:

قد يرجع إلى نفس العبادة، كالنهي عن صلاة الحائض.

و قد يرجع إلى جزئها، كالنهي عن قراءة العزائم في اليومية، بناء على جزئية السورة.

و قد يرجع إلى وصف لازم، كالنهي عن الجهر في الفرائض النهارية.

و قد يرجع إلى‏ «6» أمر مقارن غير لازم، كالنهي عن قول (آمين) بعد الحمد، و عن التكفير- و هو وضع اليمين على الشمال في الصلاة- و نحو ذلك.

و اقتضاء النهي الفساد في الثلاثة الأول ظاهر، إذ صحّة الكلّ و الملزوم، مع فساد الجزء و اللاّزم‏ «7»، ظاهر الفساد.

و أمّا القسم الأخير: فقد وقع الخلاف فيه بين فقهائنا:

______________________________

 (1) زاد في ط كلمة (مطلقا) في هذا الموضع.

 (2) المحصول: 1- 344.

 (3) تهذيب الوصول: 33.

 (4) معارج الأصول: 77.

 (5) معالم الدين: 96.

 (6) زاد في ب في هذا الموضع كلمة: وصف.

 (7) حرف العطف ساقط من أ و ب.

101
الوافية في أصول الفقه

الأول: أن النهي يقتضي فساد ما تعلق به من العبادات ص : 101

فبعضهم يقول: إنّ النهي عن مثل‏ «1» هذه الأمور، لا يوجب فساد العبادة الواقعة هي فيها، أو المتّصفة بها، إذ هذه أمور خارجة «2» و مغايرة للعبادة، و لا دليل على استلزام فسادها لفساد العبادة، و الأمر يقتضي الإجزاء إجماعا ممّن يعتدّ به.

و بعضهم يقول بفساد العبادة بفسادها، و كأنّ الوجه فيه: أنّه يفهم من النهي أنّ عدم المنهي عنه من شرائط تحقّق العبادة الشرعيّة، و وجوده مانع منه، فلا يمكن تحقّق العبادة مع وجوده.

و الحقّ أن يقال: إنّ العبادة إذا كانت بحيث قد علم من دليل شرعيّ جميع أجزائها و شرائطها و موانعها، و لا يكون هذا المنهيّ عنه شيئا منها، فالنهي حينئذ لا يقتضي فساد العبادة المقارنة للمنهيّ عنه، لما مرّ، و أمّا مع عدم ذلك فالظاهر أنّ المنهيّ عنه من موانع حقيقة العبادة شرعا، إذ جميع أجزاء العبادة و شرائطها و موانعها، إنّما يعلم من الأوامر و النواهي، فليس لأحد أن يقول: إنّ النهي إنّما يدلّ على حرمة المنهيّ عنه، و هو لا يستلزم فساد العبادة.

كما أنّه ليس له أن يقول: إنّ الأمر إنّما يدلّ على وجوب المأمور به في العبادة «3»، و لا دلالة له‏ «4» على جزئيّته للعبادة، أو شرطيّته.

و لو صحّ هذا القول، لا نسدّ طريق الاستدلال على بطلان الصلاة و الصوم و غيرهما، بترك جلّ أجزائها و شرائطها كما لا يكاد «5» يخفى.

ثمّ لا يخفى عليك: أنّ مانعيّة المنهيّ عنه، إنّما هو على تقدير اختصاص النهي بالعبادة، فلو علم أنّ النهي عن الشي‏ء في عبادة إنّما هو لأجل حرمة ذلك‏

______________________________

 (1) كذا في أ و ب، و في الأصل و ط: ان نهي مثل.

 (2) كذا في أ و ط، و في الأصل و ب: خارجية.

 (3) في الأصل: و العبادة. و ما أثبتناه مطابق لسائر النسخ.

 (4) كلمة (له): زيادة من أ.

 (5) كلمة (يكاد): زيادة من ط.

102
الوافية في أصول الفقه

المقام الثاني: أن النهي يقتضي فساد ما تعلق به من المعاملات ص : 103

الشي‏ء مطلقا، كالنهي عن النّظر إلى الأجنبيّة في الصلاة، فهو لا يقتضي فساد العبادة، إذ حينئذ معلوم أنّ المنهيّ عنه لا ارتباط له بالعبادة في المانعيّة.

المقام الثاني: أنّ النهي يقتضي فساد ما تعلّق به من المعاملات‏

، كأقسام البيوع و الأنكحة و الطلاق و غيرها، سواء كان النهي يرجع إلى نفس الصيغة، كلفظ التحليل في النكاح، و الكنايات في الطلاق، و نحو ذلك، أو إلى أحد العوضين، كبيع الميتة و الخمر و نكاح المحرّمات، أو إلى وصف لازم، كبيع الملامسة و المنابذة و الرّبا و نكاح الشغار و نحو ذلك، و يمكن إدخال كثير من هذه في الأوّلين.

و الدليل على اقتضاء النهي الفساد في هذا القسم- من وجهين:

الأوّل: استدلال العلماء:

فإنّ علماء الأمصار في الأعصار، لم يزالوا يستدلون على الفساد بالنهي، في أبواب الرّبا، و الأنكحة و البيوع و غيرها «1».

و ليس الفساد مدلولا للفظ النهي [1]، إذ لا يفهم سلب‏ «2» الأحكام من النهي المتعلّق بشي‏ء، و لا تلازم بين التحريم و سلب الأحكام، إذ لا بعد «3» في أن تكون المصلحة في عدم شي‏ء، و لكن بعد وجوده تكون المصلحة في ترتّب آثاره عليه‏ «4»، و لهذا حكم شرعا بالتطهير إذا وقعت إزالة النجاسة بالماء المغصوب، و يترتب على الوطء في الحيض آثاره من لحوق الولد، و وجوب المهر، و التحليل للزوج الأوّل، و نحو ذلك.

______________________________

 [1] هذا تعريض بالمحقق الحلّي، و العلاّمة الحلّي، و الشيخ حسن حيث استدلوا على عدم دلالة النهي على الفساد في هذا القسم بعدم الدلالة اللفظية عليه: معارج الأصول: 77، تهذيب الوصول: 34، معالم الدين: 96- 97.

______________________________

 (1) في ب: و نحوها.

 (2) في أ: سبب.

 (3) في أ: يبعد.

 (4) هذا ردّ على دعوى المحقق الشيخ حسن: معالم الدين: 97.

103
الوافية في أصول الفقه

المقام الثاني: أن النهي يقتضي فساد ما تعلق به من المعاملات ص : 103

بل الفساد ممّا يحكم به العقل في المعاملات من ظاهر حال الناهي.

و قد وقع في الروايات ما يدلّ على اقتضاء النهي الفساد:

روى الشيخ في التهذيب، في الصحيح: «عن محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما السلام، أنّه قال: لو لم يحرم على الناس أزواج النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لقول اللّه عزّ و جلّ‏ وَ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَ لا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً «1»- حرم على الحسن و الحسين عليهما السلام، لقوله عزّ و جل: وَ لا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ «2».

و روى في الموثّق: «عن الحسن بن الجهم، قال: قال أبو الحسن الرضا عليه السلام: يا أبا محمد، ما تقول في رجل تزوّج بنصرانيّة على مسلمة؟

قلت: جعلت فداك، و ما قولي بين يديك؟! قال: لتقولن، فإنّ ذلك يعلم‏ «3» به قولي.

قلت: لا يجوز تزويج النصرانية على المسلمة، و لا على غير مسلمة.

قال: لم؟

قلت: لقول اللّه عزّ و جل: وَ لا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَ‏ «4».

قال: فما تقول في هذه الآية: وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ‏ «5»؟

فقلت: قوله تعالى: وَ لا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَ‏ «6» نسخت هذه الآية، فتبسّم ثمّ سكت» «7».

______________________________

 (1) الأحزاب- 53.

 (2) النساء- 22، و الحديث في: التهذيب: 7- 281 ح 1190.

 (3) كذا في المصدر، و في النسخ: تعلم.

 (4) البقرة- 221.

 (5) المائدة- 5.

 (6) البقرة- 221.

 (7) التهذيب: 7- 297 ح 1243.

104
الوافية في أصول الفقه

المقام الثاني: أن النهي يقتضي فساد ما تعلق به من المعاملات ص : 103

و روى: «عن زرارة بن أعين، عن أبي جعفر عليه السلام، قال: لا ينبغي نكاح أهل الكتاب.

قلت: جعلت فداك، و أين تحريمه؟

قال: قوله‏ وَ لا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ «1».

و في الحسن- بإبراهيم بن هاشم-: «عن زرارة بن أعين، قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن قول اللّه عزّ و جل: وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ‏ «2»؟

فقال: هي منسوخة بقوله: وَ لا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ» «3».

فإنّ الإمام عليه السلام استدل بالنهي على التحريم، و معلوم أنّ المراد من التحريم في هذه الصور بطلان النكاح، كما في قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَ بَناتُكُمْ وَ أَخَواتُكُمْ ... «4» الآية.

و روى في الحسن- به-: «عن زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام، قال:

سألته عن مملوك تزوّج بغير إذن سيّده؟ فقال: إنّ ذلك إلى سيّده، إن شاء أجازه، و إن شاء فرّق بينهما.

فقلت: أصلحك اللّه، إنّ الحكم بن عتيبة «5»، و إبراهيم النخعي، و أصحابهما، يقولون: إنّ أصل النكاح باطل، فلا تحلّ إجازة السيّد له.

فقال أبو جعفر عليه السلام: إنّه لم يعص اللّه، إنّما عصى سيّده، فإذا أجازه فهو له جائز» «6».

______________________________

 (1) الممتحنة- 10، و الحديث في: التهذيب: 7- 297 ح 1244.

 (2) المائدة- 5.

 (3) التهذيب: 7- 298 ح 1245.

 (4) النساء- 23.

 (5) في أ: عيينة. و هو تصحيف.

 (6) التهذيب: 7- 351 ح 1432.

105
الوافية في أصول الفقه

المقام الثاني: أن النهي يقتضي فساد ما تعلق به من المعاملات ص : 103

و في حديث آخر عنه أيضا: «فقلت لأبي جعفر عليه السلام فإنّ أصل النكاح كان عصيانا «1».

فقال أبو جعفر عليه السلام: إنّما أتى شيئا حلالا، و ليس بعاص للّه، و إنّما عصى سيّده، و لم يعص اللّه، إنّ ذلك ليس كإتيان ما حرّم اللّه عليه من نكاح في عدّة و أشباهه» «2».

فإنّهما يدلاّن على فساد النكاح إذا كان معصية للّه تعالى.

و في الحسن: عن «محمد بن مسلم قال: قال أبو جعفر عليه السلام: من طلّق ثلاثا في مجلس على غير طهر، لم يكن شيئا، إنّما الطلاق: الّذي أمر اللّه عزّ و جل به، فمن خالف لم يكن له طلاق» «3».

وجه الدلالة: أنّ الطلاق إذا كان منهيّا عنه كان مخالفا لما أمر اللّه عزّ و جل به.

و الروايات فيما يدلّ على المطلوب أكثر من أن تعدّ و تحصى، فتدبّرها «4».

الثاني: أنّ لزوم الآثار و الأحكام للمعاملات ليس عقليّا، بل هو بمجرّد جعل الشارع، من قبيل الأحكام الوضعيّة الناقلة عن الأصل، فلا يحكم به إلاّ مع العلم، أو الظنّ الشرعيّ، و مع تعلّق النهي بمعاملة لا يحصل العلم و لا الظن بأنّ الشارع جعل تلك المعاملة المنهيّ عنها سببا و معرّفا لشي‏ء من الأحكام، نعم إن علم في معاملة أنّ الشارع جعلها معرّفا لأحكام مخصوصة مطلقا- سواء أ كانت منهيّا عنها لنفسها أو لجزئها أو لوصفها أو لم تكن- أمكن الحكم بترتّب آثارها عليها مع حرمتها، بأحد الوجوه المذكورة، لكن الظاهر أنّ مثل ذلك ليس واقعا في أحكامنا.

______________________________

 (1) كذا في النسخ، و في المصدر: عاصيا.

 (2) التهذيب: 7- 351 ح 1431.

 (3) التهذيب: 8- 47 ح 146.

 (4) كذا في أ، و في سائر النسخ: فليتدبرها.

106
الوافية في أصول الفقه

المقام الثاني: أن النهي يقتضي فساد ما تعلق به من المعاملات ص : 103

هذا، و لو رجع النهي في المعاملة إلى أمر مقارن، كالنهي عن البيع وقت النداء، فهل يوجب الفساد أو لا؟

و الحقّ فيه- أيضا-: مثل ما مرّ في مثله في النهي في العبادات، بأن يقال- مع اختصاص النهي، و عدم العلم بعدم مانعيّة المنهيّ عنه في صحّة المعاملة-:

الظاهر كون المنهيّ عنه مانعا من ترتّب أحكامها عليها، و يجري فيه الدليل المذكور، فتأمّل.

107
الوافية في أصول الفقه

الباب الثاني في العام و الخاص و فيه أيضا مقصدان ص : 109

الباب الثّاني في العام و الخاصّ و فيه أيضا مقصدان‏

109
الوافية في أصول الفقه

الأول في العام، و فيه مباحث: ص : 111

 

الأوّل في العام، و فيه مباحث:

الأوّل:

العامّ: هو اللّفظ المستغرق لما يصلح له بوضع واحد، و قد وقع الخلاف في أنّ العامّ هل له صيغة تخصّه؟ بحيث إذا استعملت في الخصوص كانت مجازا، أولا؟

و الأكثر منّا: على أنّ له صيغة كذلك‏ «1».

و أنكر السيّد المرتضى ذلك، و ذهب إلى الاشتراك اللّفظي بحسب اللّغة، و وافقهم بحسب الشرع‏ «2».

و الجمهور من العامّة- أيضا-: على أنّ له صيغة كذلك‏ «3».

______________________________

 (1) عدّة الأصول: 1- 103 و ما بعدها، معارج الأصول: 81، تهذيب الوصول: 35، و قد نسبه المحقق الشيخ حسن إلى جمهور المحققين بعد أن صرّح باختياره: معالم الدين: 102.

 (2) الذريعة: 1- 198، 201.

 (3) المستصفى: 2- 48، المحصول: 1- 356، المنتهى: 102- 103، منهاج الوصول: 81- 82.

 

111
الوافية في أصول الفقه

الأول: ص : 111

و عكس جمع منهم، و القاضي منهم كالمرتضى‏ «1».

و نقل عن الآمدي: التوقّف‏ «2».

 [و قيل: بالتوقّف‏] في الإخبار و الوعد و الوعيد، دون الأمر و النهي‏ «3».

و الحقّ: المشهور.

و الصيغة الموضوعة «4» له عند المحقّقين هي هذه:

 (من) و (ما) للشرط و الموصول و الاستفهام.

و (مهما) و (أينما) للشرط.

و (متى) للزمان.

و (كل) و (جميع)، مع عدم إرادة الهيئة الاجتماعية.

و النكرة في سياق النفي ب (لا) أو (ليس) أو (لن) أو (بما) على المشهور.

و ألحق البعض: النكرة في سياق الشرط، كأن يقول: (إن ولدت ولدا، فأنت عليّ كظهر أمّي) فيحصل الظّهار بتوليد ولدين أو أكثر أيضا.

و ألحق آخر النكرة في سياق الإثبات، إذا كانت للامتنان، نحو: فِيهِما فاكِهَةٌ وَ نَخْلٌ وَ رُمَّانٌ‏ «5» و ابتنى عليه الاستدلال على العموم في قوله تعالى:

وَ يُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ‏ «6».

و آخر: في سياق الأمر، نحو: (أعتق رقبة).

______________________________

 (1) حكى هذه الأقوال الأسنوي، و الظاهر اعتماد المصنف عليه في نسبة هذه الأقوال، و ما بين المعقوفين أخذناه من عبارة الأسنوي و قد خلت نسخ كتابنا هذا منه. انظر:

التمهيد: 297.

 (2) حكى هذه الأقوال الأسنوي، و الظاهر اعتماد المصنف عليه في نسبة هذه الأقوال، و ما بين المعقوفين أخذناه من عبارة الأسنوي و قد خلت نسخ كتابنا هذا منه. انظر:

التمهيد: 297.

 (3) حكى هذه الأقوال الأسنوي، و الظاهر اعتماد المصنف عليه في نسبة هذه الأقوال، و ما بين المعقوفين أخذناه من عبارة الأسنوي و قد خلت نسخ كتابنا هذا منه. انظر:

التمهيد: 297.

 (4) في ب: المخصوصة.

 (5) الرحمن- 68.

 (6) الأنفال- 11.

112
الوافية في أصول الفقه

الأول: ص : 111

و منها: الجمع المعرّف باللاّم، أو بالإضافة، و المفرد كذلك عند الأكثر «1»، نقله الآمدي عن الشافعي و الأكثر «2» و اختاره هو «3»، و نقله الرازي عن الفقهاء و المبرّد «4»، و يظهر من الشارح الرضي عدم الخلاف فيه‏ «5»، و في شرح العضدي نقله عن المحقّقين، من غير إشعار بخلاف فيه بينهم، إلاّ المنكر لأصل صيغة العموم‏ «6».

و قد ألحق بالعموم: الجمع بصيغة الأمر، نحو (أكرموا زيدا) «7».

و الدليل على العموم في جميع ذلك: تبادره من الصيغ المذكورة، عند التجرّد عن القرائن، و هو علامة الحقيقة.

و بعض من أنكر عموم المفرد، اعترف به في الأحكام الشرعيّة، معلّلا:

بأنّ تعيين البعض غير معلوم، و الحكم على البعض غير المعيّن غير معقول- إذ لا معنى لتحليل بيع من البيوع، و تحريم فرد من الرّبا، و عدم تنجيس مقدار «8» الكرّ من بعض الماء، في: وَ أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبا «9»، و: «إذا بلغ الماء قدر «10» كرّ لم ينجسه شي‏ء» «11»- فتعيّن إرادة الجميع.

______________________________

 (1) اختاره الغزالي في المستصفى: 2- 89.

 (2) كما في التمهيد: 327.

 (3) الإحكام: 2- 421- 422.

 (4) المحصول: 1- 382. و زاد فيه: و الجبائي. و لكن الرازي نفسه اختار عدم افادته العموم.

 (5) شرح الكافية: 2- 129.

 (6) شرح العضد: 1- 215- 216.

 (7) ذكره في المحصول: 1- 381.

 (8) في ب و ط زيادة كلمة (من) في هذا الموضع.

 (9) البقرة- 275.

 (10) كلمة (قدر): ساقطة من الأصل، و قد أثبتناها من باقي النسخ.

 (11) كذا الحديث في النسخ، و لكن المرويّ هو: «إذا كان الماء ... إلى آخره» الكافي: 3- 2- كتاب الطهارة- باب الماء الّذي لا ينجسه شي‏ء- ح 1. التهذيب: 1- 39- 40- ح 107- 109. و في غوالي اللئالي: 1- 76 و 2- 6: «إذا بلغ الماء كرّا لم يحمل خبثا».

113
الوافية في أصول الفقه

البحث الثاني: ص : 114

و أيضا: صحّة الاستثناء دليل العموم، إذ الاستثناء- عند الأكثر-:

إخراج ما لولاه لوجب الدخول‏ «1»، و لا يكفي الصلوح، و لهذا لا يجوز: (رأيت رجالا «2» إلاّ زيدا).

و ليست صيغ العموم منحصرة فيما أوردناه، فلتعلم [1].

و اعلم: أنّ الجمع المنكّر لا يدلّ على العموم إلاّ في موضع يجري فيه ما ذكره المعترف في عموم المفرد في الأحكام، لعدم فهم العموم منه، و إفادة المعرّف العموم، إنّما هي مع عدم تساوي احتمالي العهد و الجنس، و إلاّ فالعهد أظهر، كما ذكره الأكثر، و لا يتساوى الاحتمالان إلاّ مع تقدّم‏ «3» أمر يرجع إليه، كقوله تعالى: فَعَصى‏ فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ‏ «4».

البحث الثاني:

قيل: «ترك الاستفصال في حكاية الحال مع قيام الاحتمال، ينزّل منزلة

______________________________

 [1] هناك صيغ أخرى تفيد العموم، و ان وقع في كثير منها الخلاف ك (سائر) و (معشر) و (معاشر) و (عامّة) و (كافّة) و (قاطبة) و (ما) الزمانية نحو (إلا ما دمت عليه قائما) و كذا المصدرية مع الفعل المستقبل، مثل (يعجبني ما تصنع) و (أيّ) في الشرط و الاستفهام و ان اتصل بها (ما)، و (متى) و (حيث) و (إن) و (كيف) و (إذا) الشرطية إذا اتصلت بواحد منها (ما)، و (أيّان) و (إذ ما) و (كم) الاستفهامية، و اسم الجمع ك (الناس)، و (الرهط) و (القوم)، و الأسماء الموصولة ك (الّذي) و (التي)، و تثنيتهما و جمعهما، و أسماء الإشارة المجموعة مثل (أولئك) و (هؤلاء) و النكرة في سياق الاستفهام الإنكاري مثل (هل تعلم له سميّا)، و إذا أكّد الكلام ب (الأبد) أو (الدوام) أو (دهر الداهرين) أو (عوض) أو (قط) في النفي، أفاد العموم في الزمان، و أسماء القبائل مثل (ربيعة) و (مضر) و (الأوس) و (الخزرج) (منه رحمه اللّه).

______________________________

 (1) كذا في ط، و قد أسقط الضمير من الأصل، و في أ و ب: ما لو لا الإخراج لوجب الدخول.

 (2) في ط: رجلا.

 (3) في أ و ب: مع تقدّمه.

 (4) المزّمل- 16.

114
الوافية في أصول الفقه

البحث الثاني: ص : 114

العموم في المقال» [1].

و قيل: بل حكايات الأحوال إذا تطرق إليها الاحتمال كساها ثوب الإجمال، و سقط بها الاستدلال‏ «1»، و اختاره العلاّمة في التهذيب‏ «2».

و الحقّ أن يقال: إنّه أقسام:

الأوّل: أن يسأل عن واقعة دخلت في الوجود، و النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أو الإمام عليه السلام، مطّلع عليها.

و الحقّ فيه: عدم اقتضاء العموم، لأنّ الجواب ينصرف إلى الجهة الخاصّة للواقعة المخصوصة، و لا يتناول غيرها.

الثاني: أن يسأل عنها بعينها، مع احتمال اطّلاعه عليه السلام على جهتها.

و الحقّ فيه: القول الثاني، مع عدم مرجّح لأحد الاحتمالين.

الثالث: أن يسأل عن الواقعة لا باعتبار وقوعها.

و الحقّ فيه‏ «3» أن يقال: إنّ الواقعة إن كانت لها جهة شائعة تقع غالبا عليها، فالجواب إنّما ينصرف إليها، فلا يستدلّ به على غيرها.

و إن كانت جهات وقوعها و احتمالاته متساوية، لا مرجّح لشي‏ء منها في عصرهم عليهم السلام، فالظاهر: العموم، إذ عدم الانصراف إلى شي‏ء منها يوجب إلغاء «4» الدليل، و الصرف إلى البعض ترجيح بلا مرجّح، فينصرف إلى‏

______________________________

 [1] القائل هو الشافعي و اللفظ له. حكاه عنه الفخر الرازي في: المحصول: 1- 392، ثم قال:

مثاله أنّ ابن غيلان أسلم على عشر نسوة، فقال عليه الصلاة و السلام: «أمسك أربعا، و فارق سائرهن» و لم يسأله عن كيفيّة ورود عقده عليهن في الجمع، أو الترتيب، فكان إطلاقه القول دالا على أنّه لا فرق بين أن تتفق تلك العقود معا و على الترتيب.

______________________________

 (1) المستصفى: 2- 60، المحصول: 1- 393.

 (2) كذا في ط، و في سائر النسخ: و اختار الأول العلاّمة. و هو خطأ، فإنّ العلاّمة تنظّر في الأوّل بعد ما ذكره: تهذيب الوصول: 38: فتأمل.

 (3) في أ: فيها.

 (4) في أ: إلقاء.

115
الوافية في أصول الفقه

البحث الثالث: ص : 116

الكلّ، و هو معنى‏ «1» العموم.

و الظاهر من المرتضى رحمه اللّه في الذريعة: القول بالعموم بترك الاستفصال، فإنّه قال: «إذا سئل عليه السلام عن حكم المفطر، فلا يخلو جوابه من ثلاثة أقسام:

إمّا أن يكون عامّ اللّفظ، نحو أن يقول: كلّ مفطر فعليه الكفارة.

و القسم الثاني: أن يكون الجواب في المعنى عامّا، نحو أن يسأل عليه السلام عن رجل أفطر، فيدع الاستكشاف عمّا به أفطر، و يقول عليه السلام: عليه الكفارة، فكأنّه عليه السلام قال: من أفطر فعليه الكفارة.

و القسم الثالث: أن يكون السؤال خاصّا، و الجواب مثله، فيحلّ‏ «2» محلّ الفعل» «3».

فكلامه يدلّ على أنّ ترك الاستكشاف بمنزلة العموم، إلاّ أنّ مثاله في تنقيح المناط، و الظاهر أنّه لا خلاف في العموم حينئذ، كما سيجي‏ء في بحث الأدلّة العقليّة إن شاء اللّه تعالى و تقدّس.

البحث الثالث:

تخصيص حكم العامّ بمبيّن، لا يخرجه عن الحجّيّة «4» في الباقي، سواء خصّ بمتّصل أو بمنفصل، عقل أو نقل، و سواء قلنا بأنّ ذلك العام حينئذ حقيقة- كما هو الحقّ في أغلب صور التخصيص بالمتصل- أو قلنا إنّه مجاز،

______________________________

 (1) في ط: مقتضى.

 (2) في أ: فيحمل. و في ب: فجعل.

 (3) الذريعة: 1- 292.

 (4) في ط: الحجة.

116
الوافية في أصول الفقه

لنا وجوه: ص : 117

وفاقا لمن تكلّم في هذه المسألة من أصحابنا «1»، و لجمهور العامّة «2».

و عند البلخي: إن خصّ بمتّصل‏ «3».

و البصري: إن أنبأ لفظ العموم عنه قبل التخصيص، لا مثل‏ وَ السَّارِقُ وَ السَّارِقَةُ ... «4» غير المنبئ عن النصاب و الحرز «5».

و عبد الجبّار: إن كان منبئا [عنه‏] «6» قبل التخصيص، لا مثل:

وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ «7» المفتقر إلى البيان قبل إخراج مثل الحائض‏ «8».

و قيل بحجّيّته‏ «9» في أقلّ الجمع‏ «10».

و قال أبو ثور: ليس بحجّة مطلقا «11».

لنا وجوه:

الأوّل: تبادر كلّ الباقي من‏ «12» العام المخصّص‏ «13»، و ظهوره فيه‏

______________________________

 (1) عدّة الأصول: 2- 4، معارج الأصول: 97، تهذيب الوصول: 39، معالم الدين: 116.

 (2) المستصفى: 2- 57، المنخول: 153، المحصول: 1- 402، المنتهى: 107، منهاج الوصول: 86، التمهيد: 414.

 (3) المنتهى: 107، الإبهاج: 2- 139.

 (4) المائدة- 38.

 (5) المنتهى: 107، الابهاج: 2- 139.

 (6) [عنه‏]: إضافة أثبتناها للتوضيح، أخذناها من: المنتهى: 107.

 (7) البقرة- 43.

 (8) المنتهى: 107، الابهاج: 2- 140.

 (9) في أ: الحجيّة، و في: ط: بحجية.

 (10) و هو قول الشيخ صفي الدين الهندي الأرموي. كما في الابهاج: 2- 140.

 (11) الابهاج 2- 138، المنتهى 107، و زاد فيه: و أبان.

 (12) كذا الظاهر، و في النسخ: عن. بدل: من.

 (13) هذا الدليل عبارة عن تطوير فني دقيق لما استدلّ به المحقق، فقد استعاض بمصطلح التبادر عن قول المحقق: «لنا أنّ اللفظ متناول إلى آخره»: معارج الأصول: 97.

117
الوافية في أصول الفقه

احتج الخصم بوجهين: ص : 118

كظهوره في الكلّ قبل‏ «1» التخصيص، فإنّ المدار في المحاورات على إيراد العمومات المخصّصة من دون نصب قرينة أخرى غير التخصيص، و لا يتوقّف المخاطب في الحكم بالمراد حينئذ، و لا يحكم بإجمال كلام المتكلّم، بل لا يخطر بباله غير إرادة كلّ الباقي، و المنكر مكابر.

الثاني: أنّه إذا قال: (أكرم بني تميم، و أمّا فلان فلا تكرمه)، فترك إكرام غير المخرج، عدّ عاصيا، و لو لا الظهور لما عصى به‏ «2».

الثالث: استدلال العلماء قديما و حديثا بالعامّات المخصوصة من غير نكير «3»، و قد وقع في كلام أهل البيت عليهم السلام، فليطلب.

احتجّ الخصم بوجهين:

الأوّل: أنّ متعلّق الحكم ليس هو المعنى الحقيقي للعامّ، لأنّه المفروض، و المجازات كثيرة، و كلّ منها محتمل‏ «4»، و تمام الباقي أحد المجازات، فلا يحمل عليه إلاّ بقرينة، و بدونها يبقى مجملا «5».

و الجواب: منع احتمال كلّ واحد من المجازات، بل المتبادر، و الظاهر، و الأقرب إلى الحقيقة، هو: كلّ الباقي، كما ذكرنا.

الثاني: أنّه بالتخصيص خرج عن كونه ظاهرا، و ما لا يكون ظاهرا لا يكون حجّة «6».

______________________________

 (1) في ط: تبادر كل الباقي بعد التخصيص إلى آخره.

 (2) المنتهى: 108، معالم الدين: 117.

 (3) ذكر هذا الاستدلال في: المستصفى: 2- 57، المحصول: 1- 403، 404 مع زيادة: بل الصحابة أيضا.

 (4) في أ: يحتمل.

 (5) المستصفى: 2- 56، المحصول: 1- 404، المنتهى: 108، معالم الدين: 117.

 (6) معالم الدين: 117.

118
الوافية في أصول الفقه

البحث الرابع: ص : 119

و جوابه: منع عدم ظهوره، بل هو ظاهر في الباقي، بعد ملاحظة المخصّص‏ «1».

و المذاهب المذكورة، كلّها اعتقادات فاسدة، مبتنية «2» على خيالات واهية، تنحلّ شبههم بأدنى تأمّل، بعد ملاحظة ما مرّ.

البحث الرابع:

الحقّ أنّ الخطابات الواردة بصيغة النداء، و كلمة الخطاب- كالكاف و التاء، و غير ذلك ممّا خلقه اللّه تعالى في الملك، و نحوه، و أمره‏ «3» بإنزاله إلى السماء الدنيا في مدّة، أو في ليلة القدر، و منها إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في مدّة مديدة بالتدريج، ليبلّغ هو و أوصياؤه من عترته صلوات اللّه عليهم أجمعين إلى أمّته، إلى يوم القيامة- ليست مختصّة بالموجودين في زمن الوحي، بحيث يكون كلّ خطاب منها مختصّا بمن استجمع شرائط التكليف في حين نزوله، و «4» لا يكون شاملا لمن تأخّر، كالخطابات المكّيّة لمن تولّد حين توطّن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالمدينة.

و لا مختصّة بحاضري مجلس النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حين قراءتها «5».

خلافا للأكثر ممّن صنّف في الأصول من الشيعة «6»، و النواصب‏ «7»،

______________________________

 (1) معالم الدين: 117.

 (2) في أ و ب و ط: مبنيّة.

 (3) في ط: فأمره.

 (4) الواو إضافة من ط و ب.

 (5) وفاقا للحنابلة حيث ذهبوا إلى عمومها في الجميع، كما في: المنتهى: 117.

 (6) تهذيب الوصول: 38، معالم الدين: 108.

 (7) المستصفى: 2- 83، المحصول: 1- 393- 394.

119
الوافية في أصول الفقه

البحث الرابع: ص : 119

حيث جعلوها مختصّة بالموجودين في زمن الخطاب، أو بحاضري مجلس الوحي، و جعلوا ثبوت حكمها لمن بعدهم بدليل آخر كإجماع، أو نصّ، أو قياس.

لنا: مساعدة الظواهر- من غير معارض، إلاّ الشبهة «1» الواهية للخصم- و هي‏ «2» أمور:

الأوّل: احتجاج العلماء قديما و حديثا حتّى الأئمة عليهم السّلام بتلك الخطابات، من غير ذكر إجماع أو نصّ أو قياس على الاشتراك، مع أنّ الخصم معترف بعدم ظهور مستند الشركة- و لذا اختلفوا، فقيل: مستنده الإجماع، و قيل: بل القياس- و لو لم تعمّ تلك الخطابات، لم يصحّ ذلك إلاّ بعد إيراد ما هو العمدة من الإجماع أو القياس.

و دعوى: ظهور المستند بحيث يعلمه كلّ أحد من الخصوم‏ «3».

ممّا تحكم البديهة «4» بفساده، و كيف يخفى هذا الخفاء ما كان ظاهرا هذا الظهور؟! و كيف يجوز على اللّه تعالى إخفاء مستند كلّ تكاليف من وجد بعد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم؟! تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.

الثاني: ورود الروايات- في كثير من تلك الخطابات- بأنّها نزلت في جماعة نشئوا بعد زمان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

الثالث: ورودها- في كثير منها- بأنّها نزلت في الأئمة عليهم السلام، و أنّ الخطاب إليهم [1].

______________________________

 [1] كقوله تعالى: وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ رواه‏

______________________________

 (1) كذا في ط، و في الأصل و أ و ب: الشبه. و الصواب ما أثبتناه في المتن، لأنها شبهة واحدة سيأتي المصنف على ذكرها فيما بعد في قوله: «احتج الخصم» إلى آخره.

 (2) فيه اضطراب، حيث جعل الخامس منها الظواهر، فلاحظ.

 (3) الدعوى للمحقق الشيخ حسن: معالم الدين: 109.

 (4) في ب: البديهية، و في ط: البداهة.

120
الوافية في أصول الفقه

البحث الرابع: ص : 119

الرابع: ورود الأمر بقول: (لبّيك ربّنا) عند قراءة قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، و قول: (لا بشي‏ء من آلاء ربّي أكذّب) عند قراءة قوله تعالى:

فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ، و غير ذلك ممَّا هو مذكور في محلِّه‏ «1».

الخامس: الظواهر، و هي كثيرة:

منها: قوله تعالى: لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَ مَنْ بَلَغَ‏ «2».

و منها: قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في خبر الغدير: «فليبلّغ الشاهد منكم‏ «3» الغائب» «4».

و منها: ما رواه ابن بابويه في العيون، بسنده «عن الرضا عليه السلام، عن أبيه عليه السلام: أنّ رجلا سأل أبا عبد اللّه عليه السلام: ما بال القرآن لا يزداد على النشر و الدرس إلاّ غضاضة؟ فقال: لأنّ اللّه تبارك و تعالى لم ينزله‏ «5» لزمان دون زمان، و لا لناس‏ «6» دون ناس، فهو في كل زمان جديد، و عند كلّ قوم غضّ، إلى يوم القيامة» «7».

و منها: ما رواه الكلينيّ، بسنده «عن أبي بصير، قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ ... «8»؟ .... إلى أن قال عليه السلام: يا أبا محمد، لو كانت إذا نزلت آية على رجل ثم مات ذلك الرّجل‏

______________________________

الشيخ في باب من يجب عليه الجهاد، و قوله عليه السلام: «و بحجة هذه الآية يقاتل مؤمنو كل زمان» إشارة إلى قوله تعالى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا الآيات. (منه رحمه اللّه).

______________________________

 (1) عيون أخبار الرضا: 2- 183، الكافي: 3- 429- كتاب الصلاة- باب نوادر الجمعة- ح 6.

 (2) الأنعام- 19.

 (3) كلمة (منكم): زيادة من ط.

 (4) الكافي: 1- 289، 291- كتاب الحجّة- الباب 64- ح 4، 6.

 (5) كذا في المصدر، و في النسخ: لم يجعله.

 (6) كذا في المصدر، و في النسخ: و لناس.

 (7) عيون أخبار الرضا: 2- 87 ح 32.

 (8) الرعد- 7.

121
الوافية في أصول الفقه

البحث الرابع: ص : 119

ماتت الآية- مات الكتاب، و لكنّه حيّ، يجري فيمن بقي كما جرى فيمن مضى» «1».

و منها: ما رواه في الصحيح: «عن أبي جعفر عليه السلام، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أوصى الشاهد من أمّتي، و الغائب منهم، و من في أصلاب الرّجال و أرحام النساء إلى يوم القيامة- أن يصل الرحم ...» «2» الحديث.

و غير ذلك من الروايات.

احتجّ الخصم: بأنّا نعلم بديهة «3» أنّه لا يقال للمعدومين: (يا أيّها الناس) و نحوه، بل للصبيّ و المجنون‏ «4».

و الجواب:

أولا: تسليم ذلك في المعدومين فقط، لا في‏ «5» المخلوط من الموجودين و المعدومين، و لهذا قبح خطاب الغائبين فقط بمثل: (يا أيّها الناس) دون المركّب من الغائبين و الحاضرين، كما في أكثر خطابات الرؤساء و الحكّام و غيرهم.

و ثانيا: تسليم ذلك فيما إذا تكلّم المخاطب مشافهة، لا فيما إذا أنزل الخطابات‏ «6» بصورة المشافهة، و أمر جماعة- واحدا بعد واحد- بتبليغ ذلك إلى مكلّفي زمانهم، و يكون ذلك محفوظا في الكتب، يرجع إليه من يريد، و لهذا تجوز الوصيّة بالأوامر و النواهي، مكتوبة في طومار- إلى من انتسب إلى الموصي‏

______________________________

 (1) الكافي: 1- 192- كتاب الحجّة- باب أنّ الأئمة هم الهداة- ح 3.

 (2) الكافي: 2- 151- كتاب الإيمان و الكفر- باب صلة الرحم- ح 5.

 (3) في أ و ط: بديهية.

 (4) المنتهى: 117، معالم الدين: 108.

 (5) كلمة (في): زيادة من أ.

 (6) في أ: أنزل الخطاب، و في ب: نزل الخطاب، و في ط: نزلت الخطابات.

122
الوافية في أصول الفقه

البحث الرابع: ص : 119

بعدّة بطون، و قد وقع ذلك في وصيّة أمير المؤمنين عليه السلام‏ «1» و غيره، من غير شائبة قبح أصلا.

و في الصبيّ و المجنون- أيضا- نقول: إنّه يجوز خطابهم في جماعة بخطاب‏ «2» يفهمونه عند استجماعهم لشرائط الخطاب، إذا علم المخاطب أنّهم يصيرون بهذه المنزلة، و يعلم بقاء خطابه.

و لا شكّ و لا شبهة في جواز أن يكتب الإنسان كتابا، فيه خطابات و أوامر و نواه، و يدفعه إلى إنسان و يقول له: إنّ هذه الخطابات و الأوامر و النواهي لكلّ من اطّلع على كتابي، و ينبغي لك أن تبلّغها إلى الناس، ثمّ من بعدك ولدك، ثمّ ولد ولدك، و هكذا، و لا يتوقّف العقل في أنّ المخاطب حينئذ هو كلّ من اطّلع عليها، موجودا كان وقت تصنيف الكتاب أو معدوما، بل نقول: لا فرق بين خطاب الغائب و المعدوم.

مع أنّ خطابات الكتب و المراسيل كلّها من قبيل خطاب الغائب كما لا يخفى، و نحن نقول: إنّ خطابات القرآن من هذا القبيل، لما مرّ.

و يؤيّده: حديث الصحف الاثني عشر المنزلة على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم للأئمة الاثني عشر عليهم السلام‏ «3»، إذ في كل منها أوامر و نواه لإمام من الأئمة.

و أيضا: خطابات المصنّفين- مثل قولهم: (اعلم) و: (تأمّل) و: (تدبّر)

______________________________

 (1) الكافي: 7- 49- كتاب الوصايا- باب صدقات النبي صلى اللَّه عليه و آله و الزهراء عليها السلام و الأئمة عليهم السلام و وصاياهم- ح 7.

 (2) في أ: في جماعة الخطاب بخطاب إلى آخره.

 (3) الكافي: 1- 279- كتاب الحجّة- باب أنّ الأئمة عليهم السلام لم يفعلوا شيئا و لا يفعلون إلا بعهد من اللّه عز و جل و أمر منه لا يتجاوزونه. و: الإمامة و التبصرة من الحيرة: ص 166- باب في أنّ الإمامة عهد من اللّه تعالى- ح 20. و قد ورد هذا الحديث في مصادر عديدة، انظر مجموع طرقه و متونه في بحار الأنوار: 36- 192 و ما بعدها- الباب 40- باب نصوص اللّه عليهم من خبر اللوح و الخواتيم و ما نصّ به عليهم في الكتب السالفة و غيرها.

123
الوافية في أصول الفقه

البحث الرابع: ص : 119

و نحو ذلك- من هذا القبيل.

و اعلم: أنّ الغرض من هذه المسألة و ذكرها، بيان الحقّ فيها، و إلاّ فالحقّ أنّه لا يترتب عليها أثر، إذ الظاهر تحقّق الإجماع على مساواة كلّ الأمّة في التكاليف، و ورد بها النصوص، و قد قال الصادق عليه السلام- في رواية أبي عمرو الزبيري، في الجهاد-: «لأنّ حكم اللّه عزّ و جل في الأوّلين و الآخرين، و فرائضه عليهم، سواء، إلاّ من علة، أو حادث يكون، و الأوّلون و الآخرون أيضا في منع الحوادث شركاء و الفرائض عليهم واحدة، يسأل الآخرون عن أداء الفرائض كما يسأل عنه الأوّلون، و يحاسبون به كما يحاسبون ...» الحديث‏ «1».

______________________________

 (1) التهذيب: 6- 127 ح 224.

124
الوافية في أصول الفقه

المقصد الثاني: في الخصوص و فيه مباحث: ص : 125

 

المقصد الثاني: في الخصوص. و فيه مباحث:

الأوّل:

الحقّ جواز تخصيص العامّ إلى أيّ مرتبة كانت، ما لم يستلزم استدراكا في الكلام، حتى إلى الواحد، بعد نصب القرينة على مرتبة التخصيص‏ «1»، فلا يجوز طرح نصّ شرعيّ كان العام الواقع فيه مخصّصا إلى الواحد، بعد تحقّق المخصّص المخصوص، المانع من إرادة الأكثر من الواحد بلا معارض أصلا، إلاّ أنّ الظاهر عدم وقوع تخصيص العامّ إلى الواحد في الشرعيّات.

و المفرد المحلّى باللاّم المستعمل في الواحد: الظاهر أنّ لامه للعهد، أو استعماله للتعظيم، و هو كثير في الحقيقة، كما حقّق.

لنا: أصالة الجواز من غير مانع.

______________________________

 (1) و هو اختيار السيّد المرتضى: الذريعة: 1- 297، و الشيخ الطوسي: عدّة الأصول:

1- 149، و حكاه في المعالم عن السيد ابن زهرة: معالم الدين: 110، و للعلاّمة تفصيل في المقام انظره في: تهذيب الوصول: 39.

 

125
الوافية في أصول الفقه

الأول: ص : 125

و تحقّق العلاقة بين المعنى الحقيقي للعام- و هو الأفراد بالأسر- و بين الواحد و الإثنين و الثلاثة من تلك الأفراد، و هي الجزئية.

احتجّ من ذهب إلى أنّه لا بدّ من بقاء جمع يقرب من مدلول العامّ: بقبح قول القائل: (أكلت كلّ رمّانة في البستان) و فيه آلاف و قد أكل واحدة أو ثلاثة «1»، و قوله: (أخذت كلّ ما في الصندوق من الذهب) و فيه ألف، و قد أخذ دينارا إلى ثلاثة «2»، و كذا قوله: (كلّ من دخل داري فهو حرّ)، أو: (كلّ من جاءك فأكرمه)، و فسّر بواحد أو ثلاثة «3».

و الجواب:

أولا: منع القبح الّذي ادّعاه، مع نصب القرينة، نعم يقبح بدون نصب القرينة، كما يصحّ قول القائل: (له عليّ‏ «4» عشرة إلاّ تسعة) و: (أكرم الناس إلاّ الجهّال) و إن كان العالم واحدا، اتفاقا، من غير نقل خلاف من أحد، مع أنّه لا يصحّ أن يقول: (له عليّ عشرة) و: (أكرم الناس)، و فسّر العشرة بواحد، و الناس بزيد مثلا.

و ثانيا: بأنّا لا ندّعي صحّة استعمال العامّ في واحد مخصوص من أفراده، أو في اثنين أو في‏ «5» ثلاثة أو نحو ذلك، بل المراد بالتخصيص إلى الواحد و الإثنين و نحو ذلك: أن يكون العامّ مستعملا في المعنى الكلّي، و لكن يكون الحكم المتعلّق بالعامّ متعلّقا بواحد من أفراده أو اثنين أو نحو ذلك، بسبب المخصّص.

و الفرق ظاهر بين استعمال العام في الواحد المخصوص، و بين تعلّق الحكم‏

______________________________

 (1) المستصفى: 2- 91، المحصول: 1- 400، المنتهى: 120.

 (2) معارج الأصول: 90.

 (3) معالم الدين: 110. و العبارة فيه: و فسره.

 (4) كلمة (عليّ): ساقطة من الأصل، أثبتناها من باقي النسخ.

 (5) كلمة (في): زيادة من ط.

126
الوافية في أصول الفقه

الأول: ص : 125

بالواحد المخصوص من أفراده، فنقول: لو قال (أكلت كلّ رمّانة في البستان إلاّ الحامض) و يكون الحلو واحدا، فهو صحيح، بخلاف ما لو فسّر قوله: (كلّ رمانة) بواحدة حلوة.

و كذا يصحّ لو قال‏ «1»: (أخذت كلّ ما في الصندوق من الذهب إلاّ الدمشقيات) و يكون غير الدمشقيّ دينارا واحدا.

و كذا الحال في باقي المخصّصات، من الشرط و الصفة و غيرهما.

ثمّ لا يخفى ما في مذهب من منع من التخصيص إلى الواحد، فإنّ ثمرة هذه المسألة «2» إنّما تظهر: إذا ورد نصّ عامّ، له مخصّص يخصّصه إلى الواحد، و يكون مستجمعا لشرائط جواز العمل، و حينئذ: فكيف يجوز للمانع طرح هذا النصّ لأجل ما ذكره من الاعتبارات الواهية؟!.

و لو كان هذا النصّ بحيث لا يوجب مخصّصه تخصيصه إلى الواحد، بل يحتمل الأكثر، فظاهر عدم جواز القول بأنّه مخصّص إلى الواحد، لأنّ التخصيص خلاف الأصل، فلا يجوز إلاّ بقدر الضرورة.

ثمّ لا يخفى عليك ممّا مرّ: أنّ الاستدلال على المطلوب بتصحيح علاقة المجاز- كما مرّ- كان مماشاة و على طريق التنزّل‏ «3»، و إلا: فالحقّ أنّ العامّ المخصوص إنّما هو مستعمل في معناه الحقيقي الّذي هو العموم، و المخصّص إنّما أخرج البعض عن الحكم المتعلّق به- سواء خصّ بمتّصل‏ «4»: من شرط، أو صفة، أو غاية، أو استثناء، أو نحوها، أو بمنفصل: لفظي أو عقلي- لعدم الدليل‏ «5» على المجازية، مثلا قولنا: (أكرم بني تميم إلى الليل) أو: (إن دخلوا

______________________________

 (1) في ط: ما لو قال.

 (2) كذا في أ و ب و ط، و في الأصل: المسألتان.

 (3) في ط: التنزيل.

 (4) في ط: لمتصل.

 (5) في ط: الدلالة.

127
الوافية في أصول الفقه

البحث الثاني: ص : 128

الدار) «1» الحكم على كلّ واحد من بني تميم، غايته أنّه ليس في جميع الأزمنة في الأوّل، و ليس على جميع الأحوال في الثاني، و كذا: (أكرم بني تميم الطوال) الحكم على كلّ واحد و لكن لا مطلقا بل إذا اتّصف بالطول، أو المراد: أكرم طوال بني تميم، أي: بعضهم، و هو يؤيد عمومه، و لهذا يصحّ أن يقال: (و أمّا القصار منهم فلا تكرمهم)، و كذا: (أكرم بني تميم إلاّ الجهّال منهم) الحكم على كلّ واحد بشرط اتّصافه بالعلم، أو الحكم على كلّ واحد بعد إخراج الجهّال منهم.

و كذا الحال في المنفصل، مثل: (أكرم بني تميم)، ثمّ يقول: (لا تكرم الجهّال من بني تميم) معناه: أكرم علماء بني تميم.

و لا بدّ في المنفصل‏ «2» أن تكون في الكلام الأوّل، أو معه- قرينة مقاليّة، أو حاليّة، بها يطّلع المخاطب على مراد المتكلّم، و لا يكفي المخصّص إلاّ مع اتّحاد المجلس، أو عدم لزوم إفهام المخاطب قبل‏ «3» وقت الحاجة و العمل.

إذا عرفت هذا، فاعلم أنّ العامّ المخصّص: لا بدّ أن يكون الحكم فيه متعلّقا بالأمر الكلّي، إلاّ أنّه لا يمتنع أن يكون هذا الكلّي منحصرا في فرد أو فردين أو نحو ذلك، فلذا حسن أن يقول: (أكلت كلّ رمّانة إلاّ الحامض) و يكون الحلو منحصرا في واحد، و قبح أن يقوله، و يقول: إنّ المراد ب (كلّ رمّانة): رمّانة واحدة، فلا تغفل.

البحث الثاني:

اختلف في جواز التمسّك بالعامّ قبل البحث عن مخصّصه [1]، و في مبلغ‏

______________________________

 [1] فقد ذهب البيضاوي إلى جواز الاستدلال بالعامّ ما لم يظهر المخصص، و لم يوجب طلبه:

______________________________

 (1) كذا في ط، و في أ و ب: و ان دخلوا الدار، و الأصل هنا مشوش.

 (2) قوله (في المنفصل): زيادة من ط.

 (3) في ط: بعد.

128
الوافية في أصول الفقه

البحث الثاني: ص : 128

البحث عنه.

فقيل: يجب البحث حتّى يحصل الظنّ بعدمه‏ «1».

و قيل: حتّى يحصل القطع‏ «2».

و الأكثر على عدم الجواز «3»، حتى أنّه نقل الإجماع عليه‏ «4»، و ما استدلوا به عليه غير منقّح.

و الأولى الاستدلال عليه: بأنّ إطاعة اللّه، و رسوله، و الأئمة عليهم السلام، و اتّباعهم- لا تتحقق إلاّ بالعمل بمرادهم، فلا بدّ من العلم أو الظنّ بمرادهم، و لا يحصل في العامّ قبل البحث عن مخصّصه‏ «5»، بل الظنّ بالتخصيص حاصل، لشيوع التخصيص. و الحاصل: أنّه لا دليل على وجوب العمل بمدلولات الألفاظ بدون العلم أو الظنّ بأنّها المراد، و الإطاعة الواجبة و نحوها لا تتحقق بدونهما، و لا أقلّ من الشكّ في صدق الإطاعة و الانقياد على‏

______________________________

- منهاج الوصول: 87، و ذهب إلى ذلك أيضا الصيرفي و الأرموي و البهاري كما في: فواتح الرحموت بهامش المستصفى: 1- 267، و بهذا يعلم عدم استقامة ما فعله ابن الحاجب من حصر محل الخلاف بمبلغ البحث عن المخصص: المنتهى: 144.

و قال العلاّمة الحلّي: «و لا يجب في الاستدلال بالعامّ استقصاء البحث في طلب المخصص»: تهذيب الوصول: 40، و قد فهم من كلامه هذا أنّه يرى جواز العمل بالعامّ قبل البحث عن المخصص مطلقا: معالم الدين: 119، و لكن يظهر مما ذكره في الردّ على ابن سريج أنّ ذلك مشروط عنده بالظن بعدم المخصص، على انه صرّح في (نهاية الوصول) باختيار عدم جواز العمل بالعامّ قبل البحث عن المخصص: نهاية الوصول ورقة 100- أ (مصوّرة).

______________________________

 (1) نسب ابن الحاجب هذا القول إلى الأكثر، و اختاره هو: المنتهى: 144.

 (2) و هو قول القاضي أبي بكر الباقلاّني، كما في المستصفى: 2- 159، المنتهى: 144.

 (3) فقد ذهب إلى ذلك الشيخ الطوسي: عدّة الأصول: 2- 19. و المحقق الحليّ و المحقق الشيخ حسن ما لم يحصل الظن الغالب بعدم المخصص: معارج الأصول: 113، معالم الدين: 119.

 (4) حكى الإجماع الغزالي: المستصفى: 2- 157، و ابن الحاجب: المنتهى: 144.

 (5) كذا في أ و ب و ط، و في الأصل: مخصص.

129
الوافية في أصول الفقه

البحث الثاني: ص : 128

ذلك التقدير «1»، فالإطاعة الواجبة لا تتحقق قبل البحث.

و فيه نظر، لمنع عدم حصول الظنّ في كلّ فرد، و لا ينافيه ظنّ أصل المخصّص، لقلّة المخرج غالبا بالنسبة إلى الباقي، و حال الإجماع عندنا في مثل هذه المسائل غير خفي.

و يمكن الاستدلال على الجواز: بأنّ علماء الأمصار- في جميع الأعصار- لم يزالوا يستدلون في المسائل بالعمومات، من غير ذكر ضميمة نفي المخصّص، و لو لم يصح التمسّك بالعامّ قبل البحث عن المخصّص، لكان للخصم أن يقول: العامّ لا يكفي في إثبات هذه المسألة، و لا علم لي ببحثك عن المخصّص، الّذي يوجب انتفاؤه دخول هذا الفرد المتنازع فيه، فيفحم المستدلّ عن إثباته على الخصم.

و أيضا: الأصول الأربعمائة «2»- الّتي كانت معتمد أصحاب الأئمة عليهم السلام- لم تكن موجودة عند أكثر أصحابهم، بل كان عند بعضهم واحد، و عند البعض الاثنان، و الثلاثة، و الأربعة، و الخمسة، و نحو ذلك، و الأئمة عليهم السلام كانوا يعلمون أنّ كلّ واحد من أصحابهم، يعمل في الأغلب بما عنده من الأصول، و معلوم أنّ البحث عن المخصّص، لا يتمّ بدون تحصيل جميع تلك الأصول، فلو كان واجبا، لورد من الأئمة عليهم السلام أمر بتحصيل كلّ تلك الأصول، و نهي عن العمل ببعضها، إذ معلوم أنّ جلّ الأحكام من قبيل العمومات و المطلقات المحتملة للتقييد.

فالمسألة محلّ التوقّف.

و اعلم: أنّه- على تقدير وجوب الفحص عن المخصّص، إلى أن يحصل القطع بعدمه- لا يجوز العمل بشي‏ء من العمومات و المطلقات، المجوّزة

______________________________

 (1) أي تقدير عدم العلم و الظن. (منه رحمه اللّه).

 (2) اقرأ بحثا موسّعا عن (الأصول الأربعمائة) في: دائرة المعارف الشيعيّة- للسيد حسن الأمين.

130
الوافية في أصول الفقه

البحث الثاني: ص : 128

للتخصيص، حتى يفتّش‏ «1» عن مخصّصه في جميع كتب الأخبار، كالكتب الأربعة، و الخصال، و العيون، و العلل، و الأمالي، و غير ذلك، من الكتب الأخباريّة الموجودة في هذا العصر، إذ لا يحصل القطع بعدم المخصّص بدون ذلك، و بعد التفتيش: يحصل القطع بالتكليف بالعامّ، و إن كان تجويز وجود المخصّص في الكتب غير الموجودة في هذا الزمان باقيا.

و على تقدير الاكتفاء بالظنّ: يكفي ملاحظة الكتب الأربعة، بل يكفي ملاحظة التهذيب و الكافي، بل لا يبعد الاكتفاء بالتهذيب، لندرة وجود خبر مخصّص في غير التهذيب مع تحقّق عامّة فيه، و لا يكفي ملاحظة الكافي فقط «2».

و ينبغي في فحص مخصّص العامّ المتعلّق بشي‏ء من مسائل الطهارة ملاحظة كلّ واحد من أبوابها في التهذيب، و كذا الصلاة و الزكاة و الصوم و الحجّ و غيرها، سيّما أبواب‏ «3» الزيادات و النوادر في كلّ منها، و الأحسن ملاحظة الأبواب المناسبة في الكتب الاخر، أيضا، فإنّ:

في كتاب الطهارة: ما يتعلّق بالنكاح، و بالمكاسب، و بالصلاة، و بالصوم، و بالطلاق، و بالحجّ.

و في الصلاة: ما يتعلّق برمضان، و بالصوم، و بالطهارة، و الأطعمة، و المكاسب، و النذر، و الميراث، و الزكاة، و الدّيات.

و في الزكاة: ما يتعلّق بالصلاة، و الصوم، و الميراث، و المكاسب،

______________________________

 (1) في أ: نقيس.

 (2) لقد صنّفت بعد عصر المؤلف مجاميع حديثية كبرى تحمّلت أعباء هذه المهمّة، و كفت الفقهاء مئونة الفحص هذه، كوسائل الشيعة للشيخ الحرّ العاملي، ثم المستدرك عليه للشيخ النوري، و الوافي للفيض الكاشاني، و جامع أحاديث الشيعة للسيد البروجردي، حيث جمع في هذه المصنفات شتات جميع الأحاديث في محلّ واحد، تحت عناوين الأبواب المناسبة.

 (3) كذا في أ. و في سائر النسخ: باب.

131
الوافية في أصول الفقه

البحث الثاني: ص : 128

و الخمس، و الجهاد، و الضمان، و الفطرة، و الجزية، و النكاح، و الشهادة.

و في الصوم: ما يتعلّق بالصلاة، و النذر، و الطهارة، و الحجّ، و الحدود، و الكفارات، و الطلاق.

و في الحجّ: من الزكاة، و الجهاد، و الصلاة، و الصوم، و الطهارة، و المكاسب، و الذبائح، و العقيقة، و الإجارة.

و في المزار: من الطهارة، و الصوم، و الصلاة، و الأطعمة.

و في الجهاد: من الجزية، و الزكاة.

و في الديون و توابعه: من الزكاة، و الوصيّة، و المكاسب، و الإقرار، و الشهادة، و الميراث، و النكاح.

و في القضايا: من الصلاة، و الصلح، و الطلاق، و الضمان، و الحدود.

و في المكاسب: من الحجّ، و الخمس، و الطهارة، و القضايا، و الجزية، و الوصايا، و النكاح، و الضمان.

و في النكاح: من الميراث، و الطلاق، و النذر، و الأطعمة، و المكاسب، و التدبير، و القضايا، و العتق، و الطهارة، و الحدود، و الجزية.

و في الطلاق: من الصوم، و العتق، و المكاسب، و الشهادة، و الوصيّة، و النكاح، و اليمين، و الدّيات، و الميراث، و الحدود.

و في العتق و توابعه: من المكاسب، و الطلاق، و الميراث، و الزكاة و النذر، و الصلاة، و النكاح، و الوصيّة، و الشهادة، و الإقرار، و القضاء، و الديون، و الضمان، و الحجر.

و في الأيمان و توابعه: من العتق، و الصدقة، و الطلاق، و الكفارات، و الحجّ، و النكاح، و الصوم، و الجهاد، و القضايا.

و في الصيد و الذباحة: من الطهارة، و الصلاة، و الزكاة، و المكاسب، و النكاح، و الدّيات، و الشهادة.

و في الوقوف: من المكاسب، و القضاء، و التدبير.

132
الوافية في أصول الفقه

البحث الثالث: ص : 133

و في الوصيّة: من الإقرار، و القضايا، و الديون، و الضمان، و النكاح، و العتق، و الزكاة، و الحجّ، و الطهارة، و الصوم، و الذباحة، و المكاسب، و الميراث.

و في الفرائض: من الدّيات، و النكاح، و القضايا، و الوصايا «1»، و الطلاق، و الحدود، و العتق، و القصاص، و الزكاة، و الخمس، و الكفارة، و الضمان.

و في الحدود: من القضايا، و الطلاق، و النكاح، و الأيمان، و الدّيات، و الأطعمة، و المكاسب، و الطهارة، و الأشربة، و الذبائح، و الإقرار، و الزكاة، و الديون.

و في الدّيات: من القضايا، و الجزية، و الميراث، و العتق، و الصلاة، و الكفارات، و الصوم، و الضمان، و النكاح، و المكاسب.

و قد تكفّل بجميع ذلك و غيره، الفهرست الّذي جعلته على التهذيب، و هو من أهمّ الأشياء لمن يريد الفقه و الترجيح، و لم يسبقني إليه أحد، و الحمد للّه.

البحث الثالث:

إذا ورد عامّ و خاصّ متنافيا الظاهر، فإمّا أن يكونا من الكتاب، أو من السنّة، أو العامّ من الكتاب و الخاصّ من السنّة، أو بالعكس، فهذه أربعة أقسام.

و على كلّ تقدير: فإمّا أن يكونا قطعيّين، أو ظنيّين، أو العامّ قطعيّا و الخاصّ ظنيّا، أو بالعكس، فهذه ستة عشر قسما.

و على كلّ تقدير: فالقطعيّة و الظنيّة: إمّا بحسب المتن فيهما، أو بحسب‏

______________________________

 (1) في ب: و الرّبا. بدل: و الوصايا.

133
الوافية في أصول الفقه

البحث الثالث: ص : 133

السند فيهما، أو بحسب المتن في العامّ و بحسب السند في الخاصّ، أو بالعكس، فهذه أربعة و ستون قسما.

و على كلّ تقدير، فالتنافي: إمّا بين منطوقيهما، أو مفهوميهما، أو منطوق العامّ و مفهوم الخاصّ، أو بالعكس، فهذه مائتان و ستة و خمسون قسما.

و على كلّ تقدير: فإمّا أن يكون العامّ و الخاصّ مقترنين، أو العامّ مقدّما و الخاصّ مؤخّرا، أو بالعكس، أو كلاهما مجهولي التاريخ، أو العامّ فقط، أو الخاصّ فقط، فهذه ألف و خمسمائة و ستة و ثلاثون قسما.

و الخاصّ المؤخّر: إمّا بعد وقت العمل، أو قبله، فهذه ألف و سبعمائة و اثنان و تسعون قسما.

و قد وقع الخلاف في كثير من هذه الأقسام، في جواز مقاومة الخاصّ للعامّ، و في كونه مبيّنا أو ناسخا.

و تحقيق الحقّ في كلّ واحد «1» على التفصيل، ممّا يفضي إلى غاية التطويل‏ «2»، فنقول: المراد بالظنّي: ما دلّ الدليل على حجّيّته‏ «3» شرعا، كخبر العدل، و كذا المفهوم، المراد به- هاهنا-: ما دلّ الدليل على اعتباره، و سيجي‏ء تفصيله إن شاء اللّه تعالى.

إذا عرفت هذا، فاعلم أنّ كلّ خاص، علم وروده بعد وقت العمل بالعامّ في الكتاب و الأخبار النبويّة، فالظاهر: أنّه ناسخ لحكم‏ «4» العامّ في مورد ذلك الخاصّ، لقبح تأخير البيان عن وقت الحاجة من غير داع أصلا.

______________________________

 (1) في أ و ب: في كل واحد واحد.

 (2) انظر تفصيل بعض هذه الأبحاث في: الذريعة: 1- 315- 323، عدّة الأصول: 1- 153، المستصفى: 2- 137- 152، المحصول: 1- 440- 447، معارج الأصول: 98- 99، نهاية الوصول ورقة 109- ب- 111 ب (مصوّرة)، تهذيب الوصول: 45- 46، معالم الدين: 142- 147.

 (3) في أ: حجته.

 (4) في ط: بحكم.

134
الوافية في أصول الفقه

البحث الثالث: ص : 133

اللّهم، إلاّ أن يكون المتكلّم عالما بتعذّر حكم هذا العامّ في مورد ذلك الخاصّ، فإنّ الظاهر حينئذ أنّ الخاصّ مبيّن‏ «1»- كما في صورة تقديمه مطلقا- و هذا «2» هو الوجه في اختصاص التقسيم- إلى ما بعد وقت العمل، و ما قبله- بالخاصّ المتأخّر في قولنا: (و الخاصّ المؤخّر: إمّا بعد وقت العمل أو قبله).

و ما عدا ذلك: فالظاهر بيانيّة «3» الخاصّ للعامّ، و تخصيص العامّ بالخاصّ في أيّ قسم كان من الأقسام المذكورة.

و منع السيّد المرتضى‏ «4»، و الشيخ‏ «5»، و جماعة من أصحابنا «6»، و من العامّة «7»: تخصيص الكتاب بخبر الواحد مطلقا «8».

و توقّف بعضهم‏ «9»، و إليه يميل المحقّق، بناء على عدم ثبوت حجّيّة خبر الواحد على الإطلاق‏ «10».

و فصّل بعضهم في كلّ خاصّ ظنّي عارض عامّا قطعيّا، فقال: إن‏

______________________________

 (1) في أ: بيّن.

 (2) كلمة (هذا): زيادة من ط.

 (3) في أ: مباينة.

 (4) الذريعة: 1- 281، حيث قال: «على أنّا لو سلّمنا ان العمل بها لا على وجه التخصيص واجب قد ورد الشرع به، لم يكن في ذلك دلالة على جواز التخصيص بها».

 (5) عدّة الأصول: 1- 135.

 (6) فهو مذهب كل من منع حجّية خبر الواحد. و قد تقدم من المصنف التنصيص عليهم في ص 158.

 (7) و هو قول المعتزلة. كما في المنخول: 174، و جماعة من المتكلمين كما في: معارج الأصول: 96.

 (8) و أكثر العامّة على جوازه «فالمنقول عن الأئمة الأربعة الجواز مطلقا، و اختاره الإمام- أي الغزالي- و اتباعه، منهم البيضاوي و به قال امام الحرمين و طوائف و تبعه الآمدي»، كما في الابهاج:

2- 171 و بذلك صرّح الغزالي في ص 174 من المنخول، و إليه أيضا ذهب الفخر الرازي:

المحصول: 1- 432، و ابن الحاجب: المنتهى: 131، و اختار الجواز منّا العلاّمة الحلّي مصرّحا بوقوعه: تهذيب الوصول: 44- 45، و المحقق الشيخ حسن: معالم الدين: 140.

 (9) و هو القاضي أبو بكر الباقلاّني، كما في: المنخول: 174، و المنتهى: 131.

 (10) معارج الأصول: 96.

135
الوافية في أصول الفقه

البحث الثالث: ص : 133

كان العامّ خصّ من قبل بدليل قطعيّ- متّصلا كان، كالاستثناء، و الشرط، و الغاية، و نحوها، أو منفصلا- فيجوز تخصيصه مرّة أخرى بهذا الظنّي، و إلاّ فلا «1»، لضعف العموم في الأوّل، و قوّته في الثاني‏ «2».

و الأولى: التوقّف في تخصيص القرآن بخبر الواحد، للشكّ في وجوب اتّباع ما يفهم من ظاهر القرآن على الإطلاق، و حجّيّة خبر الواحد على الإطلاق.

أمّا القرآن فلأمور:

الأوّل: تجويزنا كون عمومات القرآن- حين نزولها- مقترنة بقرائن يظهر المقصود بها للمخاطبين في ذلك الوقت، و مع ذلك التجويز، فلا يعلم حجّيّة تلك الظواهر بالنسبة إلينا.

الثاني: لزوم طرح أكثر الاخبار المرويّة في كتبنا الأخباريّة، ممّا ورد «3» في تفسير الآيات و في الأحكام، يظهر ذلك لمن تتبّع الكتب الأربعة و غيرها، سيّما الكافي و تفسير علي بن إبراهيم و عيون أخبار الرضا، فإنّ ثلثيها «4»- بل أربعة أخماسها- ممّا يخالف الظاهر الّذي يفهم بحسب الوضع اللّغوي، كما فسّر (الشمس) ب: النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و (النهار) ب: عليّ بن أبي طالب عليه السلام، و (الليل) ب: فلان‏ «5»، و فسّر (السكارى) ب: سكر النوم‏ «6»، و غير

______________________________

 (1) و هو قول عيسى بن أبان. كما في: المحصول: 1- 432، و المنتهى: 131.

 (2) و قال الكرخي: ان كان قد خصّ بدليل منفصل صار مجازا، فيجوز ذلك: و ان خصّ بدليل متصل أو لم يخص أصلا لم يجز. كذا ذكر في المحصول: 1- 432.

 (3) في ط: مما يورد.

 (4) في أ: ثلثها.

 (5) انظر الأحاديث بذلك في: الكافي: 8- 50 ح 12، و تفسير فرات بن إبراهيم الكوفي: 212- 213، و تأويل الآيات الظاهرة: 777.

 (6) الكافي: 3- 299 ح 1، و في ص 371 ح 15، التهذيب: 3- 258 ح 722.

136
الوافية في أصول الفقه

البحث الثالث: ص : 133

ذلك، ممّا هو أكثر من أن يحصى‏ «1».

الثالث: الروايات الّتي تدلّ على حصر علم القرآن في النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الأئمة عليهم السلام:

منها: ما رواه الكلينيّ، عن الصادق عليه السلام: «إنّما يعرف القرآن من خوطب به» «2».

و منها: ما رواه في كتاب الروضة، بسنده عن أبي عبد اللّه عليه السلام، في حديث طويل: «و اعلموا أنّه ليس من علم اللّه، و لا من أمره: أن يأخذ أحد من خلق اللّه في دينه بهوى، و لا رأي، و لا مقاييس، قد أنزل اللّه القرآن و جعل فيه تبيان كلّ شي‏ء، و جعل للقرآن، و لتعلّم القرآن، أهلا، لا يسع أهل علم القرآن، الّذين آتاهم اللّه علمه، أن يأخذوا فيه بهوى، و لا رأي، و لا مقاييس، أغناهم اللّه تعالى عن ذلك بما آتاهم من علمه، و خصّهم به، و وضعه عندهم، كرامة من اللّه أكرمهم بها، و هم أهل الذّكر، الّذين أمر اللّه هذه الأمّة بسؤالهم» الحديث‏ «3».

و منها: ما رواه في الأصول، بسنده «عن الصادق عليه السلام، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من عمل بالمقاييس، فقد هلك و أهلك، و من أفتى الناس بغير علم- و هو لا يعلم الناسخ من المنسوخ و المحكم من المتشابه- فقد هلك و أهلك» «4» و اختصاص علم ذلك في الأئمة عليهم السلام، ظاهر.

و الظاهر: أنّ (المحكم) ما أريد منه ظاهره، و (المتشابه) ما أريد منه غير ظاهره- لا ما ذكروه في كتب الأصول‏ «5» من: أنّ (المحكم) ما له ظاهر، و

______________________________

 (1) في أ و ط: من أن يعدّ و يحصى.

 (2) الكافي: 8- 312 ح 485 كذا ورد الحديث في الكافي، و لكن في نسخ كتابنا هذا: «انما يعلم القرآن إلى آخره».

 (3) الكافي: 8- 5- 6.

 (4) الكافي: 1- 43- باب النهي عن القول بغير علم- ح 9.

 (5) المستصفى: 1- 106، المنتهى: 47.

137
الوافية في أصول الفقه

البحث الثالث: ص : 133

 (المتشابه) ما لا ظاهر له، كالمشترك- لقوله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ ... الآية «1»، إذ اتّباع المتشابه بالمعنى الّذي ذكروه، غير معقول.

و منها: ما رواه بسنده عن أمير المؤمنين عليه السلام- في حديث طويل، يدّعي فيه اختصاص العلم بالأحكام به-: «فما نزلت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم آية من القرآن إلاّ أقرأنيها، و أملاها عليّ، فكتبتها بخطي، و علّمني تأويلها، و تفسيرها، و ناسخها، و منسوخها، و محكمها، و متشابهها، و خاصّها، و عامّها، و دعا اللّه أن يعطيني فهمها، و حفظها ...» الحديث‏ «2».

و منها: ما رواه بسنده‏ «3» عن بريد بن معاوية «4»، عن أحدهما عليهما السلام، في قوله تعالى: وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ‏ «5» فرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أفضل الراسخين في العلم، قد علّمه اللّه عزّ و جل جميع ما أنزل عليه من التنزيل و التأويل، و ما كان اللّه لينزّل عليه شيئا لم يعلّمه تأويله، و أوصياؤه من بعده يعلمونه كلّه. و الّذين لا يعلمون تأويله إذا قال العالم فيهم بعلم، فأجابهم اللّه تعالى بقوله: يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا «6» و القرآن خاصّ و عامّ، و محكم و متشابه، و ناسخ و منسوخ، فالراسخون في العلم يعلمونه» «7».

و منها: ما رواه «عن سلمة بن محرز، قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام‏

______________________________

 (1) آل عمران- 7.

 (2) الكافي: 1- 64 باب اختلاف الحديث- ح 1، و رواه الصدوق أيضا في إكمال الدين و إتمام النعمة: 284- 285.

 (3) في ط: بإسناده.

 (4) كذا في المصدر (الكافي). و في النسخ: عن معاوية بن عمّار. بدل: بريد بن معاوية.

 (5) آل عمران- 7.

 (6) آل عمران- 7.

 (7) الكافي: 1- 213- كتاب الحجّة- باب ان الراسخين في العلم هم الأئمة عليهم السلام- ح 2.

138
الوافية في أصول الفقه

البحث الثالث: ص : 133

يقول: إنّ من علم ما أوتينا: تفسير القرآن و أحكامه، و علم تغيير الزمان و حدثانه ...» الحديث‏ «1».

و منها: ما رواه، عن الصادق عليه السلام- في حديث طويل-: «أما إنّه شرّ عليكم أن تقولوا بشي‏ء ما لم تسمعوه منّا ...» الحديث‏ «2».

و منها: ما رواه في تفسير: إِنَّا أَنْزَلْناهُ‏ «3» عن أبي جعفر عليه السلام، قال: فكذلك لم يمت محمد إلاّ و له بعيث و نذير، قال: فإن قلت: لا، فقد ضيّع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من في أصلاب الرّجال من أمّته، قال:

و ما يكفيهم القرآن؟ قال: بلى، إن وجدوا له مفسّرا، قال: و ما فسّره رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم؟ قال: بلى، قد فسّره لرجل واحد، و فسّر للأمّة شأن ذلك الرّجل و هو علي بن أبي طالب ...» الحديث‏ «4».

و منها: ما رواه الشيخ، بسنده عن علي عليه السلام قال: «يا أيّها الناس اتقوا اللّه و لا تفتوا الناس بما لا تعلمون، فإنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قد قال قولا آل منه إلى غيره، و قد قال قولا من وضعه [في‏] «5» غير موضعه كذب عليه.

فقام عبيدة، و علقمة، و الأسود، و أناس منهم، فقالوا: يا أمير المؤمنين، فما نصنع بما قد خبرنا به في المصحف؟

قال: يسأل عن ذلك علماء آل محمد عليهم السلام» «6».

و منها: ما ورد «7» أنّ تفسير القرآن بالرأي غير جائز، حتّى قال الطبرسي‏

______________________________

 (1) الكافي: 1- 229- كتاب الحجّة- باب انه لم يجمع القرآن كلّه إلاّ الأئمة عليهم السلام- ح 3.

 (2) الكافي: 2- 402- كتاب الإيمان و الكفر- باب الضلال- ذيل الحديث الأوّل.

 (3) القدر- 1.

 (4) الكافي: 1- 250- كتاب الحجّة- باب في شأن «انا أنزلناه في ليلة القدر»- ح 6.

 (5) كلمة (في): وردت في كلّ النسخ، إلاّ أن المصدر خال منها.

 (6) التهذيب: 6- 295 ح 823.

 (7) في أ: رواه.

139
الوافية في أصول الفقه

البحث الثالث: ص : 133

في مجمعه: «و اعلم أنّ الخبر قد صحّ عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و عن الأئمة القائمين مقامه عليهم السلام: أنّ تفسير القرآن، لا يجوز إلاّ بالأثر الصحيح، و النصّ الصريح، و روت العامّة أيضا عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «من فسّر القرآن برأيه، فأصاب الحقّ، فقد أخطأ» قالوا: و كره جماعة من التابعين القول في القرآن بالرأي، كسعيد بن المسيّب، و عبيدة السلماني، و نافع، و سالم بن عبد اللّه، و غيرهم» «1» انتهى كلامه.

و أمّا الشكّ في حجّيّة خبر الواحد على الإطلاق:

فلأنّ‏ «2» عمدة أدلّة حجّيّته: الإجماع، و الإجماع فيما نحن فيه غير متحقّق، لما عرفت من الاختلاف.

و لورود الروايات بطرح‏ «3» ما خالف القرآن:

كرواية السكوني: «عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ على كلّ حق حقيقة، و على كلّ صواب نورا، فما وافق كتاب اللّه فخذوه، و ما خالف كتاب اللّه فدعوه» «4».

و رواية عبد اللّه بن أبي يعفور: «قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن اختلاف الحديث، يرويه من نثق به، و منهم من لا نثق به؟ قال إذا ورد عليكم حديث، فوجدتم له شاهدا من كتاب اللّه عزّ و جلّ أو من قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و إلاّ فالّذي جاءكم به أولى به» «5».

و صحيحة أيوب بن الحرّ: «قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول:

كلّ شي‏ء مردود إلى الكتاب و السنّة، و كلّ حديث لا يوافق كتاب اللّه فهو

______________________________

 (1) مجمع البيان: 1- 13- الفن الثالث.

 (2) في ط: فإنّ.

 (3) في ط: بترك.

 (4) الكافي: 1- 69- كتاب فضل العلم- باب الأخذ بالسنّة و شواهد الكتاب- ح 1.

 (5) الكافي: 1- 69 ح 2.

140
الوافية في أصول الفقه

البحث الثالث: ص : 133

زخرف» «1».

و صحيحة هشام بن الحكم، و غيره: «عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال خطب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بمنى، فقال: أيّها الناس، ما جاءكم عني يوافق كتاب اللّه فأنا قلته، و ما جاءكم يخالف كتاب اللّه فلم أقله» «2».

و موثّقة أيّوب بن راشد: «عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال: ما لم يوافق من الحديث القرآن فهو زخرف» «3».

و يمكن الجمع:

بحمل هذه الأخبار على الأخبار النبويّة «4» الّتي روتها «5» العامّة.

أو حمل المخالفة على ما إذا كان مضمون الخبر مبطلا لحكم القرآن بالكلّية، و التخصيص بيان لا مخالفة «6».

أو المراد بطلان الخبر المخالف للقرآن، إذا علم تفسير القرآن بالأثر الصحيح، إذ لا شكّ في بطلان المخصّص إذا كان إرادة العموم من القرآن معلوما بالنصّ الصريح، و المخالفة بدون ذلك غير معلومة لما عرفت.

و إن كان تأويل الأخبار الأوّلة أيضا ممكنا، بأنّ العلم بكلّ القرآن منحصر في الأئمة عليهم السلام لكنّ الظاهر: أنّه خلاف ما اعتقده علماؤنا الأوّلون، قال ابن بابويه- في كتاب معاني الأخبار في باب معنى العصمة-:

 «قال أبو جعفر مصنّف هذا الكتاب: الدليل على عصمة الإمام: [أنّه‏] لمّا كان كلّ كلام ينقل عن قائله، يحتمل وجوها من التأويل، و [كان‏] أكثر القرآن‏

______________________________

 (1) الكافي: 1- 69 ح 3.

 (2) الكافي: 1- 69 ح 5.

 (3) الكافي: 1- 69 ح 4.

 (4) كذا في أ و ط، و في الأصل و ب: على النبوية.

 (5) في ب: دونها.

 (6) في ط: لا مخالف للقرآن.

141
الوافية في أصول الفقه

البحث الثالث: ص : 133

و السنّة ممّا أجمعت‏ «1» الفرق على أنّه صحيح، لم يغيّر، و لم يبدّل، و لم يزد [فيه‏]، و لم ينقص [منه‏]، محتملا لوجوه كثيرة من التأويل- وجب أن يكون مع ذلك مخبر صادق معصوم من تعمّد الكذب و الغلط، ينبئ عمّا عنى اللّه و رسوله في الكتاب و السنّة على حقّ ذلك و صدقه، لأنّ الخلق مختلفون في التأويل، كلّ فرقة تميل مع‏ «2» القرآن و السنّة إلى مذهبها، فلو كان اللّه تبارك و تعالى تركهم بهذه الصفة من غير مخبر عن كتابه صادق [فيه‏]، لكان قد سوّغهم الاختلاف في الدّين، و دعاهم إليه، إذ أنزل كتابا يحتمل التآويل، و أمرهم بالعمل بها، فكأنّه قال: تأوّلوا و اعملوا، و في ذلك إباحة العمل بالمتناقضات، و لمّا استحال ذلك على اللّه، وجب أن يكون مع القرآن و السنّة في كلّ عصر- من يبين عن‏ «3» المعاني الّتي عناها اللّه بكلامه، دون ما تحتمله ألفاظ القرآن من التأويل، و يبين عن‏ «4» المعاني الّتي عناها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في سنته‏ «5» و أخباره، دون التأويلات الّتي تحتملها ألفاظ الأخبار المرويّة عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم‏ «6».

و روى الكلينيّ في الصحيح: «عن منصور بن حازم، قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: إنّ اللّه أجلّ و أكرم من أن يعرف بخلقه، بل الخلق يعرفون باللَّه، قال: صدقت. قلت: إنّ من عرف أنّ له ربّا، فقد ينبغي له أن يعرف أنّ لذلك الربّ رضا و سخطا، و أنّه لا يعرف رضاه و سخطه إلاّ بوحي أو رسول، فمن لم يأته الوحي فقد ينبغي له أن يطلب الرسل، فإذا لقيهم عرف أنّهم الحجّة، و أنّ لهم الطاعة المفترضة و قلت للناس أ ليس تعلمون أنّ رسول‏

______________________________

 (1) كذا في أ و ب و المصدر، و في الأصل و ط: اجتمعت.

 (2) في ب و ط: معنى. بدل: مع. و لعلّه الأولى.

 (3) كذا. في المصدر. و في النسخ: من.

 (4) كذا. في المصدر. و في النسخ: من.

 (5) في ط: سنة. و في المصدر: سننه.

 (6) معاني الأخبار: 133- 134. و ما وضعناه من هذا النص بين معقوفين فهو إضافة من المصدر لم ترد في متن كتابنا هذا.

142
الوافية في أصول الفقه

البحث الثالث: ص : 133

اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان هو الحجّة من اللّه على خلقه؟ قالوا: بلى. قلت:

فحين مضى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من كان الحجّة فقالوا: القرآن، فنظرت في القرآن، فإذا هو يخاصم به المرجئي، و القدريّ، و الزنديق الّذي لا يؤمن به، حتّى يغلب الرّجال بخصومته، فعرفت أنّ القرآن لا يكون حجّة إلاّ بقيّم، فما قال فيه من شي‏ء كان حقّا، فقلت لهم: من قيّم القرآن؟ فقالوا: ابن مسعود قد كان يعلم، و عمر يعلم، و حذيفة يعلم، قلت: كلّه؟ قالوا: لا. فلم أجد أحدا يقال إنّه يعرف ذلك كلّه إلاّ عليّا عليه السلام، و إذا كان الشي‏ء بين القوم، فقال هذا: لا أدري، و قال هذا: لا أدري، و قال هذا: لا أدري، و قال هذا: أنا أدري، فأشهد أنّ عليّا عليه السلام كان قيّم القرآن و كانت طاعته مفترضة، و كان الحجّة على الناس بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أنّ ما قال في القرآن فهو حقّ. فقال: رحمك اللّه» «1».

و أيضا: فإنّ الظنّ الحاصل بعموم الألفاظ المعدودة في ألفاظ العموم، ممّا يشكل طرح خبر الواحد به.

و يضعّف ظنّ عمومها كثرة الاختلاف الواقع فيها، حيث ذهب بعضهم إلى أنّه لم يوضع للعموم لفظ أصلا «2» و ذهب بعضهم إلى اشتراكها لفظا، و بعضهم معنى، و توقّف بعضهم‏ «3»، كما مرّ.

و حينئذ، فطرح خبر الواحد «4» الّذي يجب العمل به لو لا المخالفة، بمجرّد ظن ضعيف حاصل من الاعتبارات و الاستقراءات الناقصة، في غاية الجرأة.

______________________________

 (1) الكافي: 1- 168- 169- كتاب الحجّة- باب الاضطرار إلى الحجّة- ح 2، و أورده أيضا في- باب فرض طاعة الأئمة عليهم السلام. ح 15 ص 188- 189 باختلاف يسير.

 (2) انظر أدلتهم و مناقشتها في: المستصفى: 2- 45.

 (3) المستصفى: 2- 36- 37 و 46، المنتهى: 103.

 (4) في أ و ب و ط: الخبر الواحد.

143
الوافية في أصول الفقه

البحث الثالث: ص : 133

و احتجّ من ذهب إلى عدم تخصيص القرآن بخبر الواحد:

 [أ] بأنّ القرآن قطعي، و خبر الواحد ظنّي، و الظنّي لا يعارض القطعي‏ «1».

و يرد عليه:

أولا: أنّ التخصيص إنّما هو في الدلالة، و قطعيّة المتن غير مجد، و الدّلالة ظنّية، كما مرّ «2».

و ثانيا: بمنع ظنّية خبر الواحد، بل هو أيضا قطعيّ من جهة الدّلالة.

و ثالثا: بمنع أنّ الظنّي لا يعارض القطعي، إذا كان الدّليل الدّال على حجّية ذلك الظنّي قطعيّا.

 [ب‏] و باستلزام امتناع النسخ بخبر الواحد امتناع التخصيص به، للاشتراك في مطلق التخصيص‏ «3».

و الجواب: منع علّية المطلق للجواز، بل هي التخصيص الخاصّ الأفرادي، لا الأزماني‏ «4»، و السرّ: أنّ الأوّل مبيّن، لا الثاني.

و احتجّ الذاهب إلى تقديم الخبر: بأنّ فيه جمعا بين الدّليلين، بخلاف العمل بالعامّ فإنّه يوجب إلغاء «5» الخاصّ بالمرّة «6».

و الجواب:

أوّلا: منع حجّية الخبر حينئذ.

و ثانيا: بمنع وجوب الجمع بين الدّليلين، أو أولويّته، إذا كان الجمع مخرجا للدّليل القطعيّ عن معناه الحقيقي.

______________________________

 (1) عدّة الأصول: 1- 135، المستصفى: 2- 115، المحصول: 1- 434، المنتهى: 131.

 (2) معالم الدين: 141، و قريب منه في: معارج الأصول: 96.

 (3) المحصول: 1- 434.

 (4) كذا في أ و ط، و في الأصل و ب: لا الزماني.

 (5) في أ: إلقاء.

 (6) المحصول: 1- 432، معالم الدين: 141.

144
الوافية في أصول الفقه

الباب الثالث في الأدلة الشرعية و فيه فصول ص : 145

الباب الثّالث في الأدلّة الشّرعيّة و فيه فصول‏

145
الوافية في أصول الفقه

الفصل الأول: في الكتاب ص : 147

الفصل الأوّل: في الكتاب.

و وجوب اتّباعه، و العمل به، متواتر و مجمع عليه، و قد أشبعنا الكلام فيه‏ «1» في البحث المتقدّم.

و قد وقع الخلاف في تغييره:

فقيل: إنّ فيه زيادة و نقصانا، و به روايات كثيرة، رواها الكلينيّ‏ «2»، و علي بن إبراهيم في تفسيره [1].

و المشهور: أنّه محفوظ و مضبوط كما أنزل، لم يتبدّل و لم يتغيّر، حفظه‏

______________________________

 [1] تفسير علي بن إبراهيم القميّ- المجلّد الثاني ص 295، حديث أبي بصير في تفسير الآية 29- الجاثية، و كذا في ص 349 حديث أبي عبد الرحمن السلمي، و حديث أبي بصير، في تفسير الآية 56- الواقعة، و كذا في ص 367 حديث ابن أبي يعفور في تفسير الآية 11- الجمعة، و في ص 451: «قال رسول اللّه: لو أنّ الناس قرءوا القرآن كما أنزل اللّه ما اختلف اثنان».

و لكنّ هذه الروايات و نظائرها ساقطة إمّا سندا و إمّا دلالة، انظر تفصيل القول في إبطالها و عدم دلالتها على وقوع التحريف في القرآن: البيان في تفسير القرآن: 245- 254.

______________________________

 (1) في ط: عليه.

 (2) الكافي: 8- 50 ح 11، و ص 183 ح 208، و ص 290 ح 437 و 438 و 439 و 440، و ص 377 ح 568، و ص 378 ح 569 و 570 و 571.

147
الوافية في أصول الفقه

الفصل الأول: في الكتاب ص : 147

الحكيم الخبير، قال اللّه تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ‏ «1».

و الحقّ: أنّه لا أثر لهذا الاختلاف، إذ الظاهر تحقّق الإجماع على وجوب العمل بما في أيدينا، سواء كان مغيّرا أو لا، و في بعض الأخبار تصريح بوجوب العمل به إلى ظهور القائم من آل محمد عليهم السلام [1].

ثم اعلم- أيضا- أنّه وقعت اختلافات كثيرة بين القرّاء، و هم جماعة كثيرة، و قدماء العامّة اتفقوا على عدم جواز العمل بقراءة غير السبعة أو العشرة المشهورة «2»، و تبعهم من تكلّم في هذا المقام من الشيعة أيضا «3»، و لكن لم ينقل دليل، يعتدّ به على وجوب العمل بقراءة هؤلاء دون من عداهم.

و تعلّق بعضهم في القراءات السبع، بما رواه الصدوق في الخصال، بسنده عن «حمّاد بن عثمان، قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: إنّ الأحاديث تختلف عنكم؟ قال: فقال: إنّ القرآن نزل على سبعة أحرف، و أدنى ما للإمام أن يفتي على سبعة وجوه، ثمّ قال: هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ‏» «4».

و لا يخفى عدم الدلالة على القراءات السبع المشهورة، مع أنّه قد روى الكلينيّ، في كتاب فضل القرآن، روايات منافية لها:

منها: رواية زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام، قال: «إنّ القرآن واحد،

______________________________

 [1] ما عثرنا عليه في هذا الصدد من الأخبار المغيّاة بظهور القائم عليه السلام انما هو ما يتعلّق بالقراءة، كالحديث الآتي: «فقال أبو عبد اللّه عليه السلام كفّ عن هذه القراءة، اقرأ كما يقرأ الناس حتى يقوم القائم ...»، و غيره: الكافي: 2- 633- كتاب فضل القرآن- باب النوادر- ح 23.

______________________________

 (1) الحجر- 9.

 (2) الإتقان: 1- 258 النوع 22، التمهيد: 141، فواتح الرحموت (بهامش المستصفى:

2- 15).

 (3) التبيان: 1- 7، و: مجمع البيان- المقدمة- الفن الثاني، و: التذكرة: 1- 115، و منتهى المطلب: 1- 273، و الذكرى: 187 في التفريع على المسألة الخامسة.

 (4) الخصال: 2- 358 ح 43. و الآية من سورة: ص- 39.

148
الوافية في أصول الفقه

الفصل الأول: في الكتاب ص : 147

نزل من عند واحد، و لكنّ الاختلاف يجي‏ء من قبل الرّواة» «1».

و صحيحة الفضيل بن يسار،: «قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: إنّ الناس يقولون: إنّ القرآن نزل على سبعة أحرف، فقال: كذبوا، أعداء اللّه، و لكنّه نزل على حرف واحد، من عند الواحد» «2».

و لا بحث لنا في الاختلاف الّذي لا يختلف به الحكم الشرعي.

و أمّا فيما يختلف به الحكم الشرعي:

فالمشهور: التخيير بين العمل بأيّ قراءة شاء العامل‏ «3».

و ذهب العلاّمة إلى رجحان قراءة عاصم بطريق أبي بكر، و قراءة حمزة «4».

و لم أقف لهم و له على مستند يمكن الاعتماد عليه شرعا.

فالأولى: الرجوع فيه إلى تفسير حملة الذّكر، و حفظة القرآن صلوات اللّه عليهم أجمعين، إن أمكن، و إلاّ فالتوقّف، كما قال أبو الحسن عليه السلام: «ما علمته فقل، و ما لم تعلمه فها- و أهوى بيده إلى فيه-» «5»، و الأمر فيه سهل‏ «6»، لعدم تحقّق محلّ التوقّف.

______________________________

 (1) الكافي: 2- 630- كتاب فضل القرآن- باب النوادر- ح 12.

 (2) الكافي: 2- 630 ح 13.

 (3) تقدم ذكر مصادر ذلك آنفا.

 (4) منتهى المطلب: 1- 273- كتاب الصلاة- البحث الرابع في القراءة- مسألة: «و تبطل الصلاة لو أخلّ بحرف واحد ...»- الفرع السادس.

 (5) المحاسن للبرقي: 213، الكافي: 1- 57- كتاب فضل العلم- باب البدع و الرّأي و المقاييس- ح 13.

 (6) في ط: العمل.

149
الوافية في أصول الفقه

الفصل الثاني: في الإجماع و فيه أبحاث: ص : 151

 

الفصل الثاني: في الإجماع و فيه أبحاث:

الأول: الإجماع- لغة-: الاتّفاق.

و اصطلاحا- عندنا-: اتّفاق جمع يعلم به أن المتّفق عليه‏ «1»، صادر عن رئيس الأمّة، و سيّدها، و سنامها صلوات اللّه عليه.

و الحقّ: إمكان وقوعه، و العلم به، و حجّيّته‏ «2».

و قد اختلف في كل من المواضع الثلاثة، و ركاكة حججهم تمنع من‏ «3» التعرّض لها «4».

و سبب حجّيته ظاهر بما مرّ من التعريف، و هو اشتماله على قول الإمام المعصوم الّذي لا يقول إلاّ عن وحي إلهي‏ «5».

______________________________

 (1) كلمة (عليه): ساقطة من الأصل، و قد أثبتناها من سائر النسخ.

 (2) معالم الدين: 172.

 (3) كلمة (من): زيادة من ط.

 (4) كذا في ب، و في سائر النسخ: لهم.

 (5) الذريعة: 2- 605، 630، معارج الأصول: 126، تهذيب الوصول: 65، معالم الدين:

173.

 

151
الوافية في أصول الفقه

البحث الثاني: ص : 152

و ليس سبب حجّيّته انضمام الأقوال و اجتماعها، كما يقول المخالفون‏ «1»، حيث احتالوا في إطفاء نور اللّه، فجعلوا اجتماع أقوال الأمّة حجّة، واجب الاتّباع، كالقرآن، و الحديث، و أدلّتهم- بعد تمامها- لا تدلّ على مطلوبهم.

فالإجماع عندنا ليس أمرا غير السنّة.

البحث الثاني:

الإجماع يطلق على معنيين:

أحدهما: اتّفاق جمع على أمر، يقطع بأنّ أحد المجمعين هو المعصوم، و لكن لا يتميّز شخصه‏ «2».

و هذا القسم من الإجماع ممّا لا يكاد يتحقّق‏ «3»، لأنّ الإمام عليه السلام قبل وقوع الغيبة: كان ظاهرا مشهورا عند الشيعة في كلّ عصر، يعرفه كلّ منهم، و بعد الغيبة: يمتنع حصول العلم بمثل هذا الاتّفاق.

و ما يقال: من أنّه إذا وقع إجماع علماء الرعيّة على الباطل، يجب على الإمام أن يظهر و يباحثهم، حتّى يردّهم إلى الحقّ، لئلا يضلّ الناس‏ «4».

فهو ممّا لا ينبغي أن يصغى إليه، لأنّ جلّ الأحكام- بل كلّها- معطّل، كالأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و إقامة الحدود، و غير ذلك، و مع ذلك فهو لا يظهر.

______________________________

 (1) المستصفى: 1- 175، المحصول: 2- 37، المنتهى: 52.

 (2) الذريعة: 2- 624، معارج الأصول: 132.

 (3) معالم الدين: 175.

 (4) عدّة الأصول: 2- 76. و قد حكي عن المير داماد أيضا ذهابه إلى ذلك أو ما يقرب منه في مجلس درسه. انظر: فرائد الأصول: 86.

152
الوافية في أصول الفقه

البحث الثالث: ص : 153

و أيضا: إجماعهم إنّما يوجب ضلالة الناس، إذا كان واجب الاتّباع بدون العلم بدخول الإمام عليه السلام فيهم، و ليس كذلك كما عرفت.

و ثانيهما: اتّفاق جماعة على أمر، لا يقطع بدخول الإمام عليه السلام فيهم، بل قد يقطع بخروجه عنهم، إلاّ أنّ هؤلاء المجمعين كانوا ممّن لا يجوّز العقل اجتماعهم على الإفتاء من دون سماعهم لتلك الفتوى عن قدوتهم و إمامهم عليهم السلام.

و عدم ذلك التجويز لا يتمّ إلاّ بعد التتبّع عن أحوال هؤلاء المجمعين، و الاطّلاع على تقواهم و ديانتهم، فهو مختلف باعتبار خصوص المجمعين، فقد يحصل باثنين، بل بواحد، و قد لا يحصل بعشرة، بل بعشرين.

البحث الثالث:

الحقّ إمكان الاطّلاع على الإجماع بالمعنى الثاني من غير جهة النقل في زمان وقوع الغيبة، إلى حين انقراض الكتب المعتمدة، و الأصول الأربعمائة المتداولة، كزمان المحقّق و العلاّمة و ما ضاهاه‏ «1»، و لكنّه بعيد.

أمّا إمكانه: فلأنّ كتب أصحاب الأئمة عليهم السلام، كانت موجودة مشهورة، كفتاوى المتفقّهة المتأخّرين عندنا، و فتاواهم كانت مودعة في كتبهم، فقد يحصل العلم بقول الإمام عليه السلام، إذا حصل العلم بفتاوى عدّة منهم، كزرارة، و محمد بن مسلم و الفضيل، و أبي بصير المرادي، و من يحذو حذوهم، و إنكار ذلك مكابرة.

و أصحاب الأئمة عليهم السلام كانت لهم فتاوى مشهورة، و قد نقل‏

______________________________

 (1) في أ و ط: و ما ضاهاهما.

153
الوافية في أصول الفقه

البحث الثالث: ص : 153

بعضها المتأخّرون، كما نقل رئيس المحدّثين‏ «1» فتاوى الفضل بن شاذان‏ «2»، و يونس بن عبد الرحمن‏ «3»، و غيرهما، في كتاب الميراث من الفقيه، و غيره، و كذا الكلينيّ في الكافي‏ «4».

و نقل الشيخ في التهذيب، في باب الخلع‏ «5»: فتيا جعفر بن سماعة، و الحسن بن سماعة، و علي بن رباط، و ابن حذيفة، و علي بن الحسين.

و في باب عدّة النساء «6»: مذهب الحسن بن سماعة، و علي بن إبراهيم ابن هاشم، و جعفر بن سماعة، و معاوية بن حكيم، و غيرهم.

و في باب ميراث المجوس‏ «7»: اختلاف أئمّة الحديث، و عملهم.

و في باب المرتد و المرتدة «8»: فتوى جميل بن درّاج، و غير ذلك ممّا «9» يطّلع عليه بعد التتبّع‏ «10».

و أمّا بعده: فلأنّ من تتبّع أحوال أئمة الحديث، يحصل له العلم العادي بأنّهم إذا سمعوا شيئا من الإمام عليه السلام، يسندونه إليه، و لا يقتصرون على مجرّد «11» فتواهم، و ما أسندوه إلى الإمام عليه السلام في الفروع من الأمور المهمّة

______________________________

 (1) كذا في أ و ب و ط، و في الأصل: رئيس الطائفة. لكن في هامش الأصل: (المحدثين خ ل).

 (2) الفقيه: 4- 267 و 270 و 276 و 286 و 293 و 295 و 320.

 (3) لم أعثر على ذلك.

 (4) الكافي: 6- 94.

 (5) التهذيب: 8- 97.

 (6) التهذيب: 8- 124- 125.

 (7) التهذيب: 9- 364.

 (8) التهذيب: 10- 137.

 (9) في ط: ممن.

 (10) في أ: بعد السعي.

 (11) في ط: جرد.

154
الوافية في أصول الفقه

البحث الرابع: ص : 155

المعتمدة، نقله نقدة الحديث‏ «1» كالمحمّدين‏ «2» الثلاثة، سيّما فيما يحتاج فيه إلى نقل الإجماع.

فعلى هذا، يشكل الاعتماد على الإجماعات المنقولة، سيّما في غير العبادات، و سيّما إذا لم تكن فتاوى أصحاب الأئمة فيه معلومة، و لم يكن ورد فيه نصّ أصلا.

نعم، لا يبعد جواز الاعتماد على الإجماع في مادّة وردت فيها نصوص مخالفة لذلك الإجماع، إذا علم عدم غفلتهم عن هذه النصوص، و تواترها عندهم، فإنّ من هذا الإجماع المخالف لتلك النصوص، يحصل العلم بوصول دليل يقطع العذر إليهم، لكنّه بعيد الوقوع، إذ الغالب حينئذ تحقّق النصّ، بل النصوص الموافقة أيضا للإجماع.

البحث الرابع:

الحقّ التوقّف في الإجماع المنقول بخبر الواحد «3» لما عرفت.

و لاختلاف الاصطلاحات في الإجماع، فإنّ الظاهر من حال القدماء- كالسيد المرتضى و الشيخ و غيرهما «4»- إطلاق الإجماع على ما هو المصطلح عند العامّة، من اتّفاق الفرقة غير المبتدعة- و لو في زمان الغيبة- على أمر.

و حينئذ، فكيف الوثوق بالإجماعات الواقعة في كلامهم؟!

______________________________

 (1) كذا في أ و ط و ب، و في الأصل: نقله نقلة الحديث.

 (2) في أ و ط: كالمحدثين.

 (3) خلافا للمحقق الشيخ حسن منّا: معالم الدين: 180، و للفخر الرازي: المحصول:

2- 73، و ابن الحاجب: المنتهى: 64، و البيضاوي: منهاج الوصول: 136، وفاقا للغزالي:

المستصفى: 1- 215، و لبعض الحنفيّة. كما حكاه عنهم في المنتهى: 64.

 (4) في أ و ط: غيرهم.

155
الوافية في أصول الفقه

البحث الرابع: ص : 155

و زعم بعض علمائنا «1» أن علماءنا في زمان‏ «2» الغيبة إذا اتفقوا على أمر، و كانوا مخطئين، يجب على الإمام أن يظهر لهم- و لو بنحو لا يعرفونه- و يباحث معهم، حتّى يردّهم إلى الحقّ.

و بطلان هذا ممّا لا يحتاج إلى البيان، بعد ملاحظة تعطّل أكثر الأحكام و الأمور.

______________________________

 (1) انظر ما تقدم في الهامش (4) من ص 152.

 (2) في أ و ط: زمن.

156
الوافية في أصول الفقه

الفصل الثالث: في السنة و فيه أبحاث: ص : 157

 

الفصل الثالث: في السنّة و فيه أبحاث:

الأوّل:

السنّة: هي قول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أو الإمام، أو فعلهما أو تقريرهما على وجه.

و لمّا كان المهمّ منها هو القول، فلنتكلم فيه.

و يسمّى: حديثا، و: خبرا.

و الخبر ينقسم إلى: متواتر، و آحاد.

و المتواتر: هو خبر جماعة، بلغوا في الكثرة مبلغا، أحالت العادة تواطؤهم على الكذب، كالمخبرين عن وجود مكّة و إسكندر، و نحوهما.

و الظاهر: قلّة الخبر المتواتر باللّفظ في زماننا، فنسكت عنه.

و خبر الواحد: هو ما لم يفد العلم، باعتبار كثرة المخبرين، و قد يفيد العلم بالقرائن، و هو ضروريّ، و إنكاره مكابرة ظاهرة.

 

157
الوافية في أصول الفقه

البحث الثاني: ص : 158

البحث الثاني:

اختلف العلماء في حجّية خبر الواحد، العاري عن قرائن القطع.

فالأكثر من علمائنا الباحثين في الأصول: على أنّه ليس بحجّة، كالسيّد المرتضى‏ «1»، و ابن زهرة «2»، و ابن البرّاج‏ «3»، و ابن إدريس‏ «4»، و هو الظاهر من ابن بابويه في كتاب الغيبة «5»، و الظاهر من كلام المحقّق‏ «6»، بل الشيخ الطوسي أيضا [1].

بل نحن لم نجد قائلا صريحا بحجّيّة خبر الواحد ممّن تقدّم على العلاّمة «7».

و السيّد المرتضى يدعي الإجماع من الشيعة على إنكاره‏ «8»، كالقياس، من غير فرق بينهما أصلا «9».

______________________________

 [1] فقد قال المحقق الحلّي: «ذهب شيخنا أبو جعفر إلى العمل بخبر العدل من رواة أصحابنا، لكن لفظه و ان كان مطلقا فعند التحقيق تبيّن انه لا يعمل بالخبر مطلقا، بل بهذه الأخبار التي رويت عن الأئمة عليهم السلام و دوّنها الأصحاب، لا أنّ كل خبر يرويه الإمامي يجب العمل به». معارج الأصول: 147.

______________________________

 (1) الذريعة: 2- 528.

 (2) غنية النزوع: 475 (تسلسل الجوامع الفقهية).

 (3) حكاه عنه المحقق الشيخ حسن: معالم الدين: 189.

 (4) السرائر: 1- 51.

 (5) للشيخ الصدوق في الغيبة كتاب و رسائل ثلاث، و نسخها مفقودة في عصرنا هذا.

 (6) معارج الأصول: 142- 147، يظهر ذلك من مناقشته أدلّة القائلين بحجيّته.

 (7) علّق الشيخ الأنصاري على هذه العبارة بعد إيرادها في فرائده بقوله «و هو عجيب»: فرائد الأصول: 109.

 (8) رسائل السيد المرتضى: 1- 24.

 (9) رسائل السيد المرتضى: 3- 309.

158
الوافية في أصول الفقه

البحث الثاني: ص : 158

و لكنّ الحقّ: أنّه حجّة كما اختاره المتأخّرون منّا «1»، و جمهور العامّة «2»، لوجوه:

الأوّل: أنّا نقطع ببقاء التكاليف إلى يوم القيامة، سيّما بالأصول الضروريّة كالصلاة و الزكاة و الصوم و الحجّ و المتاجر و الأنكحة و نحوها، مع أنّ جلّ أجزائها، و شرائطها، و موانعها، و ما يتعلّق بها، إنّما يثبت بالخبر غير القطعي، بحيث نقطع بخروج حقائق هذه الأمور عن كونها هذه الأمور عند ترك العمل بخبر الواحد، و من أنكر ذلك، فإنّما ينكر باللسان، و قلبه مطمئنّ بالإيمان.

الثاني: أنّا نقطع بعمل أصحاب الأئمة عليهم السلام، و غيرهم ممّن عاصرهم- بأخبار الآحاد، بحيث لم يبق للمتتبّع شكّ في ذلك، و نقطع بعلم الأئمة عليهم السلام بذلك، و العادة قاضية بوجوب تواتر «3» المنع عنهم عليهم السلام لو كان العمل بها في الشريعة ممنوعا، مع أنّه لم ينقل عنهم عليهم السلام خبر واحد في المنع، بل ظاهر كثير من الأخبار جواز العمل بها، كما ستقف عليه عن قريب إن شاء اللّه.

و يؤيّده: إطباق العلماء على رواية أخبار الآحاد، و تدوينها، و الاعتناء بحال الرّواة، و التفحّص عن المقبول و المردود.

قال العلاّمة في النهاية: «أمّا الإماميّة: فالأخباريّون منهم، لم يعوّلوا في أصول الدّين و فروعه إلاّ على أخبار الآحاد، المرويّة عن الأئمة عليهم السلام، و الأصوليّون منهم- كأبي جعفر الطوسي و غيره- وافقوا على قبول خبر الواحد،

______________________________

 (1) تهذيب الوصول: 76، معالم الدين: 189.

 (2) المنخول: 253، المحصول: 2- 170، المنتهى: 74، الابهاج: 2- 300.

 (3) في ط: توارد.

159
الوافية في أصول الفقه

البحث الثاني: ص : 158

و لم ينكره أحد «1» سوى المرتضى و أتباعه، لشبهة حصلت لهم» «2».

و الحقّ: أنّه لا يظهر «3» من كلام الشيخ أنّه يعمل بخبر الواحد، العاري عن القرائن المفيدة للقطع‏ «4»، نعم، هو قسّم القرائن، و ذكر فيها أمورا، لا يمكن إثبات قطعيّتها.

الثالث: ظواهر الروايات، و هي كثيرة:

منها: ما رواه الكلينيّ، بسنده «عن المفضّل بن عمر، قال: قال لي أبو عبد اللّه عليه السلام: اكتب، و بثّ علمك في إخوانك، فإن متّ فأورث كتبك بنيك، فإنّه يأتي على الناس زمان هرج، لا يأنسون فيه إلاّ بكتبهم» «5».

فإنّ ظاهرها: جواز العمل بما في الكتب من الأخبار، و هي آحاد، فإنّ تواترها، و احتفافها بالقرائن المفيدة للقطع، بعيد جدّاً.

و منها: ما رواه في الصحيح «عن محمد بن الحسن ابن أبي خالد شينولة، قال: قلت لأبي جعفر الثاني عليه السلام: جعلت فداك، إنّ مشايخنا رووا عن أبي جعفر، و أبي عبد اللّه عليهما السلام، و كانت التقيّة شديدة، فكتموا كتبهم، و لم ترو عنهم، فلمّا ماتوا صارت الكتب إلينا، فقال: حدّثوا بها، فإنّها حقّ» «6».

و منها: ما رواه في الصحيح أيضا «عن سماعة بن مهران، عن أبي الحسن موسى عليه السلام، قال: قلت: أصلحك اللّه، إنّا نجتمع فنتذاكر ما عندنا،

______________________________

 (1) كلمة (أحد): ساقطة من الأصل، و قد أثبتناها من سائر النسخ.

 (2) نهاية الوصول ورقة 209- أ (مصوّرة) و قد أورد هذه العبارة بلفظها الفخر الرازي المتقدّم على العلاّمة في: المحصول: 2- 188.

 (3) في ط: لم يظهر.

 (4) كما استظهر ذلك المحقق الحلّي و قد تقدم نقل كلامه.

 (5) الكافي: 1- 52- كتاب فضل العلم- باب رواية الكتب و الحديث و فضل الكتابة و التمسك بالكتب- ح 11.

 (6) الكافي 1- 52 ح 15.

160
الوافية في أصول الفقه

البحث الثاني: ص : 158

فلا يرد علينا شي‏ء إلاّ و عندنا فيه شي‏ء مسطّر «1»، و ذلك ممّا أنعم اللّه به علينا بكم، ثمّ يرد علينا الشي‏ء الصغير، ليس عندنا فيه شي‏ء، فينظر بعضنا إلى بعض، و عندنا ما يشبهه، فنقيس على أحسنه؟ فقال: و ما لكم و للقياس، إنّما هلك من هلك قبلكم- بالقياس، ثمّ قال: إذا جاءكم ما تعلمون فقولوا به، و إن جاءكم ما لا تعلمون فها- و أهوى بيده إلى فيه-» الحديث‏ «2».

و فيه تقرير منه عليه السلام في العمل و الفتوى بالكتاب، مع أنّه غالبا يكون من قبيل أخبار الآحاد.

و منها: ما رواه في الصحيح، عن عبد اللّه بن أبي يعفور «قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السلام، عن اختلاف الحديث، يرويه من نثق به، و منهم من لا نثق به؟ قال: إذا ورد عليكم حديث، فوجدتم له شاهدا من كتاب اللّه، أو من قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و إلاّ فالّذي جاءكم به أولى به» «3».

و ظاهر: أنّ السائل سأل عن أخبار الآحاد، إذ لا دخل للوثوق بالراوي‏ «4»، و عدمه في القطعيّ من الأخبار.

و نحوها: الأخبار الواردة في حكم اختلاف الأخبار «5»، كما سيجي‏ء في آخر الكتاب إن شاء اللّه، و هي تدلّ على حجّية خبر الواحد، بشرط اعتضاده بالقرآن، أو سنّة الرسول [1].

______________________________

 [1] لا يقال: اشتراط اعتضاده بالقرآن و السنة يدل على عدم حجّية خبر الواحد. لأنّا نقول: شهادة القرآن و السنة لا توجب انتهاءه إلى حدّ القطع، فإجماله عليه السلام يدل على حجّية الخبر المظنون المعتضد بالقرآن أو السنة، فتأمل جدّاً (منه رحمه اللّه).

______________________________

 (1) ورد في هامش الكافي ما يلي: «في بعض النسخ: مسطور، و في بعضها: مستطر».

 (2) الكافي: 1- 57- كتاب فضل العلم- باب البدع و الرّأي و المقاييس- ح 13. و مثله ما رواه البرقي بإسناده عن محمد بن حكيم: المحاسن: 213.

 (3) الكافي: 1- 69- كتاب فضل العلم- باب الأخذ بالسنة و شواهد الكتاب- ح 2.

 (4) كذا في أ و ب، و في الأصل: للموثق بالراوي، و في ط: بالوثوق للراوي.

 (5) الكافي: 1- 62- كتاب فضل العلم- باب اختلاف الحديث- ح 7، 8، 9، و غيرها.

161
الوافية في أصول الفقه

البحث الثاني: ص : 158

و نحوها: ما رواه في الموثّق بعبد اللّه بن بكير، عن رجل عن أبي جعفر عليه السلام- إلى أن قال-: «و إذا جاءكم عنّا حديث، فوجدتم عليه شاهدا، أو شاهدين من كتاب اللّه فخذوا به، و إلاّ فقفوا عنده، ثمّ ردّوه إلينا، حتّى يستبين لكم» «1».

و منها: الروايات الواردة في الأمر بإبلاغ الحديث إلى الناس، مثل ما رواه في الصحيح «عن خيثمة، قال: قال لي أبو جعفر عليه السلام: أبلغ شيعتنا أنّه لن ينال ما عند اللّه إلاّ بعمل، و أبلغ شيعتنا أنّ أعظم الناس حسرة يوم القيامة من وصف عدلا، ثمّ يخالفه إلى غيره» «2».

إذ لا شكّ في علمهم عليهم السلام بعدم انتهائها إلى حدّ القطع.

و قد يحتجّ على هذا المطلب بالآيات:

كقوله تعالى: فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ‏ «3».

حيث يدلّ على وجوب الحذر، بإنذار الطائفة من الفرقة، و هي تصدق على واحد- ك (الفرقة) على الثلاثة- فيفيد وجوب اتّباع قول الواحد، و هو المطلوب.

و قوله تعالى: إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى‏ ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ‏ «4».

حيث يدلّ بمفهومه‏ «5» على انتفاء التبيّن و التثبت عند خبر العدل، فإمّا:

الردّ، أو: القبول‏ «6»، و الأوّل: يوجب كون العدل أسوأ حالا من الفاسق، و هو

______________________________

 (1) الكافي: 2- 222- كتاب الإيمان و الكفر- باب الكتمان- ح 4.

 (2) الكافي: 2- 300- كتاب الإيمان و الكفر- باب من وصف عدلا و عمل بغيره- ح 5.

 (3) المستصفى: 1- 152، و الآية من سورة التوبة- 122.

 (4) المحصول: 2- 178، و الآية من سورة: الحجرات- 6.

 (5) في أ: يدل المفهوم، و في ط: دلّ المفهوم.

 (6) كذا في ط، و في سائر النسخ: فامّا الرد أو لا أو القبول.

162
الوافية في أصول الفقه

البحث الثاني: ص : 158

باطل، فيكون الحقّ: هو الثاني، و هو المطلوب‏ «1».

و الأولى: ترك الاستدلال بهذه الآيات، فإنّه:

يرد على الاستدلال بالأولى:

أنّ المتبادر «2» من (الطائفة) الزيادة على الإثنين، فالظاهر أنّ المراد ب (الفرقة) ممّن ذكره اللّه تعالى- أهل كلّ حشم حشم، و قرية قرية.

و أيضا:- على تقدير خروج واحد من كلّ ثلاثة- فالظاهر حينئذ: بلوغ المخبرين عدد التواتر، لأنّ الغالب في الأحشام و القرى، الكثرة العظيمة، و يندر توطّن ثلاثة أنفس من الرّجال و النساء و الصبيان في موضع، لا يكون لهم رابع بل عاشر.

و أيضا: يحتمل كون الإنذار بطريق الفتوى بمعنى الروايات‏ «3»، و لا نزاع لأحد في قبوله، و يسمّونه فتوى المجتهد.

و أيضا: إطلاق الإنذار على نقل روايات الأحكام الشرعيّة، غير متعارف، فيحتمل كون المراد التخويف على ترك أو فعل ما ثبت بطريق القطع، و هذا ممّا تتأثّر النّفس بسماعه، و يحصل به للنفس خوف، يوجب اهتمامه بالواجبات و ترك المحرمات، و إن لم يكن خبر الواحد حجّة.

و أيضا: يحتمل أن يقال: إنّ خبر الواحد المشتمل على الإنذار حجّة، لقضاء العقل بمثل هذه الاحتياطات دون غيره، و الإجماع على عدم الفصل، غير معلوم.

و أيضا: يحتمل أن يكون ضمير (ليتفقّهوا) راجعا إلى الباقي من الفرقة مع العالم، دون من نفر منهم.

و غير ذلك من الاعتراضات.

______________________________

 (1) المحصول: 2- 179- 180.

 (2) في أ و ط: التبادر.

 (3) في ط: لا بمعنى الروايات.

163
الوافية في أصول الفقه

البحث الثاني: ص : 158

و على الآية الثانية:

بأنّه استدلال بمفهوم الصفة على أصل علميّ، و حاله معلوم‏ «1».

و أيضا: الآية واردة في شخص خاصّ، و ذكر (فاسق) إنّما هو «2» لإعلام الصحابة بفسق ذلك الشخص الخاصّ، و تبيين حاله، لا لانتفاء هذا الحكم عند انتفاء هذا الوصف.

احتجّ المنكرون: بأنّ العمل بخبر الواحد، اتّباع للظنّ، و قول على اللّه بغير علم، و هو غير جائز «3».

أمّا الصغرى: فلأنّ خبر الواحد لا يفيد العلم، و أيضا: النزاع إنّما هو فيما لا يفيده، و إنّما غايته أن يفيد الظن.

و أمّا الكبرى: فللآيات الكثيرة:

كقوله تعالى في مقام الذمّ: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَ إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً «4».

و قوله تعالى: إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ «5».

و قوله تعالى: وَ ما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا «6».

و نحو ذلك.

و قوله تعالى في الآيات الكثيرة: وَ أَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ «7».

______________________________

 (1) المنتهى: 75، لكن الفخر الرازي قرّب الاستدلال بها بمفهوم الشرط: المحصول: 1- 179- 180.

 (2) في ط: إما انه.

 (3) عدّة الأصول: 1- 44، الذريعة: 2- 523، المستصفى: 1- 154، المحصول: 2- 192، المنتهى: 76.

 (4) النجم- 28.

 (5) الجاثية- 24.

 (6) يونس- 36.

 (7) البقرة- 169 و كذا: الأعراف- 33.

164
الوافية في أصول الفقه

البحث الثاني: ص : 158

و قوله تعالى: وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ‏ «1».

و الجواب:

أولا: منع الصغرى:

فإنّ اتّباع الظنّ: هو أن يكون مناط العمل هو الظنّ من حيث هو هو، و هاهنا ليس كذلك، و إنّما مناط العمل هو كلام أصحاب العصمة المنقول عنهم، و أخبار مهابط الوحي الإلهي صلوات اللّه عليهم، بشرط عدم المخالفة للكتاب و السنّة، و عدم المعارضة، و نحو ذلك، على ما سيأتي إن شاء اللّه، سواء أفاد الظنّ أو لا.

و على تقدير القول باشتراط جواز العمل به بإفادته الظنّ- أيضا لا يلزم كون مناط العمل هو الظنّ، بل هو الخبر الخاصّ المشترط بالظنّ، و لهذا لو حصل الظنّ بحكم شرعيّ، لا من دليل شرعيّ، لا يجوز العمل به اتّفاقا منّا، بل و من غيرنا أيضا، فعلم الفرق بين اتّباع الظنّ، و اتّباع الخبر الخاصّ بشرط الظنّ، فلا تغفل.

و أيضا: فإنّ العمل بخبر الواحد، إنّما هو اتّباع للدليل‏ «2» القطعيّ، الدّال على حجّيّة خبر الواحد، فهو اتّباع للقطع.

و ثانيا: بمنع الكبرى:

فإنّ سياق الآيات يقتضي اختصاصها بأصول الدّين.

و أيضا: فإنّ المطلق يقيّد، و العامّ يخصّ، إذا وجد الدليل، و نحن قد دللنا على حجّيّة خبر الواحد.

______________________________

 (1) الإسراء- 36.

 (2) في أ و ط: الدليل.

165
الوافية في أصول الفقه

البحث الثالث: ص : 166

البحث الثالث:

للعمل بخبر الواحد في هذا الزمان شرائط، يجمعها:

وجود الخبر في الكتب المعتمدة للشيعة، كالكافي، و الفقيه، و التهذيب، و نحوها.

مع عمل جمع منهم به، من غير ردّ ظاهر.

و لا معارضة لما هو أقوى منه.

سواء كان الراوي عدلا أم لا، و سواء كانت الرواية مسندة صحيحة، أو حسنة، أو موثّقة، أو ضعيفة- بحسب الاصطلاح- أو مرسلة، أو مرفوعة، أو موقوفة، أو منقطعة، أو معضلة «1»، أو معنعنة، أو منكرة «2» أو معلّلة، أو مضطربة، أو مدرجة، أو معلّقة، أو مشهورة، أو غريبة، أو عزيزة، أو مسلسلة، أو مقطوعة، إلى غير ذلك من الاصطلاحات.

و القوّة: تكون باعتبار العدالة، و الورع، و الشهرة، و عمل الأكثر، و نحو ذلك، ممّا سيجي‏ء التنبيه عليه إن شاء اللّه تعالى.

البحث الرابع:

تعرف عدالة الراوي، في هذا الزمان و ما ضاهاه، و كذا أعدليته، و ورعه، و أورعيته- بتزكية العدل المشهور، و قد انحصر المزكّى و الجارح في:

الشيخ الطوسي، و الكشّي، و النجاشي، و ابن الغضائري، و ابن طاوس،

______________________________

 (1) في ط: منفصلة.

 (2) في ط: مكررة.

166
الوافية في أصول الفقه

البحث الرابع: ص : 166

و العلاّمة، و محمد ابن شهرآشوب، و ابن داود، و ربّما توجد التزكية و الجرح لغيرهم أيضا في كتب الحديث، ك: الفقيه، و الكافي، و غيرهما.

و الظاهر: الاكتفاء بالواحد في الجرح و التعديل، و لو لم يذكر السبب، و إلاّ لم يوجد خبر صحيح بالاصطلاح المشهور، و سيجي‏ء فيه مزيد تحقيق.

و مع تعارض الجرح و التعديل:

فقد قيل‏ «1»: بتقديم الجرح، لأنّه به يحصل الجمع بينهما.

و الظاهر: الترجيح بالقرائن، إن أمكن، و إلاّ فالتوقّف.

و بقي هنا مباحث اخر، تركناها لقلّة فائدتها، كمباحث المطلق و المقيّد، و المجمل و المبيّن، و الناسخ و المنسوخ، و مباحث المنطوق و المفهوم سيجي‏ء ما يعتدّ به منها إن شاء اللّه تعالى.

______________________________

 (1) كذا في ط، و في سائر النسخ: فقيل.

167
الوافية في أصول الفقه

الباب الرابع في الأدلة العقلية و تحقيق ما يعتمد عليه منها و ما لا يعتمد عليه ص : 169

الباب الرّابع في الأدلّة العقليّة و تحقيق ما يعتمد عليه منها و ما لا يعتمد عليه‏

169
الوافية في أصول الفقه

الأول: ما يستقل بحكمه العقل ص : 171

و هي أقسام:

الأوّل: ما يستقلّ بحكمه العقل‏

، كوجوب قضاء الدّين، و ردّ الوديعة، و حرمة الظلم، و استحباب الإحسان، و نحو ذلك. كذا ذكره المحقّق في المعتبر «1»، و الشهيد في الذكرى‏ «2»، و غيرهما.

و حجّيّة هذه الطريقة: مبنيّة على الحسن و القبح العقليين‏ «3».

و الحقّ ثبوتهما، لقضاء الضرورة بهما «4» في الجملة، و لكن في إثبات الحكم الشرعيّ- كالوجوب و الحرمة الشرعيين- بهما «5»، نظر و تأمّل.

و الواجب العقليّ: ما يستحقّ فاعله المدح، و تاركه الذم.

و الشرعيّ: ما يستحقّ فاعله الثواب، و تاركه العقاب.

و عكسه: الحرام فيهما.

و وجه النّظر أمور:

______________________________

 (1) المعتبر: 1- 32.

 (2) الذكرى: 5- المقدمة- الأصل الرابع- القسم الأول.

 (3) كذا في أ و ب و ط، و في الأصل: العقلي.

 (4) كذا في أ و ب و ط، و في الأصل: به.

 (5) كذا في ب و ط، و في الأصل و أ: بها.

171
الوافية في أصول الفقه

الأول: ما يستقل بحكمه العقل ص : 171

الأوّل: أنّ قوله تعالى: وَ ما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا «1» ظاهر في أنّ العقاب لا يكون إلاّ بعد بعثة الرسول‏ «2» فلا وجوب‏ «3» و لا تحريم إلاّ و هو مستفاد من الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

فإن قلت: يجوز أن يستحقّ العقاب، و لكن لا يعاقبه اللّه تعالى إلاّ بعد بيان الرسول أيضا، ليتعاضد «4» العقل و النقل، لطفا منه تعالى.

قلت: ظاهر أنّ الواجب شرعا مثلا ما يجوّز المكلّف العقاب على تركه، فلا يتصوّر وجوب شرعي مثلا عند الجزم- بسبب إخبار اللّه تعالى- بعدم العقاب، و لا يكون‏ «5» حينئذ إلاّ «6» الوجوب العقلي.

الثاني: ما ورد من الأخبار:

كما رواه الكلينيّ عن: «عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن علي بن الحكم، عن أبان الأحمر، عن حمزة ابن الطيّار، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال: قال لي: اكتب، فأملى عليّ: أنّ من قولنا أنّ اللّه يحتجّ على العباد بما آتاهم و عرّفهم، ثمّ أرسل إليهم رسولا، و أنزل عليهم الكتاب، فأمر فيه و نهى أمر فيه بالصلاة و الصيام ...» «7» الحديث.

و التطبيق: كما مرّ.

و أيضا: قد نقل تواتر الأخبار بأنّه لم يتعلّق بأحد تكليف إلاّ بعد بعث‏ «8»

______________________________

 (1) الإسراء- 15.

 (2) كذا في ط، و في سائر النسخ: الرسل.

 (3) في أ و ط: و لا وجوب.

 (4) في أ: لتعاضد.

 (5) كذا في ط، و في سائر النسخ: بل لا يكون.

 (6) كلمة (إلاّ): ساقطة من ط.

 (7) الكافي: 1- 164- كتاب التوحيد- باب حجج اللّه على خلقه- ح 4.

 (8) في ط: بعثة.

172
الوافية في أصول الفقه

الأول: ما يستقل بحكمه العقل ص : 171

الرسول، لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَ يَحْيى‏ مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ «1»، و بأنّه على اللّه بيان ما يصلح للناس و ما يفسد، و بأنّه لا يخلو زمان عن إمام معصوم، ليعرف الناس ما يصلحهم و ما يفسدهم.

و الظاهر منها: حصر العلم بهما في ذلك، و بأنّ أهل الفترة و أشباههم معذورون، و يكون تكليفهم يوم الحشر [1].

و أيضا: قد ورد: «كلّ شي‏ء مطلق، حتّى يرد فيه نهي» رواه ابن بابويه في الفقيه، في تجويز القنوت بالفارسيّة «2».

فيفهم دخول غير المنصوص‏ «3» في المباح.

الثالث: ما عليه أصحابنا «4»، و المعتزلة «5»، من أنّ التكليف فيما يستقلّ به العقل لطف، و العقاب بدون اللطف قبيح، فلا يجوز العقاب على ما لم يرد فيه من الشرع نصّ، لعدم اللطف فيه حينئذ.

و أيضا: العقل يحكم بأنّه يبعد من اللّه تعالى توكيل‏ «6» بعض أحكامه‏ «7»

______________________________

 [1] روى ابن بابويه في كتاب الخصال بسنده «عن زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام، قال: إذا كان يوم القيامة احتج اللّه عز و جل على خمسة: على الطفل، و الّذي مات بين النبيين، و الّذي أدرك النبي و هو لا يعقل، و الأبله، و المجنون الّذي لا يعقل، و الأصم و الأبكم. فكل واحد منهم يحتج على اللّه عز و جل قال: فيبعث اللّه عز و جل إليهم رسولا، فيؤجج لهم نارا فيقول لهم:

ربكم يأمركم أن تثبوا فيها، فمن وثب فيها كانت عليه بردا و سلاما، و من عصى سيق إلى النار.

 (منه رحمه اللّه).

الخصال: 283- باب الخمسة ح 31.

______________________________

 (1) الأنفال- 42.

 (2) الفقيه: 1- 317 ح 937.

 (3) في ط: الخصوص.

 (4) الذريعة: 2- 701- 702، تقريب المعارف: 77، كشف المراد: 319 و 324 و 327.

 (5) المواقف: 323 بضميمة ما في ص 328، حاشية السيالكوتي على شرح المواقف: 393- 399.

 (6) كذا في أ و ط، و في الأصل و ب: وكول.

 (7) في أ و ط: أحكام.

173
الوافية في أصول الفقه

الأول: ما يستقل بحكمه العقل ص : 171

إلى مجرّد إدراك العقول، مع شدّة اختلافها في الإدراكات و الأحكام، من غير انضباطه بنصّ و شرع، فإنّه يوجب الاختلاف‏ «1» و النزاع، مع أنّ رفعه من إحدى الفوائد في إرسال الرسل، و نصب الأوصياء عليهم السلام.

فعلى ما ذكرنا، يشكل التعلّق بهذه الطريقة في إثبات الأحكام الشرعيّة غير المنصوصة.

لكنّ الظاهر: أنّه لا يكاد يوجد شي‏ء يندرج في هذه الطريقة إلاّ و هو منصوص من الشرع، ففائدة هذا الخلاف نادرة، و اللّه أعلم.

الرابع: ما رواه الكلينيّ في الصحيح: «عن زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام، قال: بني الإسلام على خمسة أشياء- إلى أن قال- أما لو أنّ رجلا قام ليله، و صام نهاره، و تصدّق بجميع ماله، و حجّ جميع دهره، و لم يعرف ولاية وليّ اللّه فيواليه، و يكون جميع أعماله بدلالته إليه‏ «2»، ما كان له على اللّه حقّ في ثوابه، و لا كان من أهل الإيمان» «3» و الحديث طويل أخذنا منه موضع الحاجة.

و هذا الخبر «4» إنّما يدلّ على أنّ الأحكام العملية «5» تتوقّف على الشرع، و كأنّه هو الحقّ، للنصوص المطلقة الدالّة على تعذيب الكفار بشركهم و كفرهم، الشاملة لأهل الفترة و غيرهم، فلو كانت المعارف الفطريّة موقوفة على الشرع من حيث الوجوب، لم يثبت تعذيب الوثني من أهل الفترة.

فإن قلت: الواجب العقليّ: هو ما يكون تاركه مذموما عند كلّ عاقل و حكيم، و الحرام العقليّ ما يكون فاعله مذموما كذلك، فالحرام العقلي- مثلا-

______________________________

 (1) في أ: الاختلافات.

 (2) هذا محلّ الشاهد من الخبر، إذ لو كان للعقل دلالة لم يوجب أخذ جميع الأعمال بدلالة الإمام (هامش نسخة ط).

 (3) الكافي: 2- 18- كتاب الإيمان و الكفر- باب دعائم الإسلام- ح 4.

 (4) في أ: الأخير.

 (5) في أ و ط: العلميّة.

174
الوافية في أصول الفقه

الأول: ما يستقل بحكمه العقل ص : 171

لا بدّ و أن يكون مكروها و ممقوتا للّه تعالى، و ليس الحرام الشرعيّ إلاّ ذلك، لأن فاعل فعل، هو مكروه عند اللّه تعالى، ممقوت له تعالى- مستحقّ لعقابه ضرورة.

قلت: الحرام الشرعيّ: ما يجوّز المكلّف العقاب عليه، و لا يكفي مجرّد الاستحقاق، و إن علم انتفاؤه بسبب ما، كإخباره بذلك.

و أيضا: بداهة استلزام المكروهية عند اللّه تعالى لاستحقاق عقابه، محلّ نظر و منع.

فإن قلت: فإذا كان الأمر على ما ذكرت، فلم لم تحكم بعدم حجّيّة هذه الطريقة على البتّ؟! بل جعلت حجّيتها محلّ التأمّل، المشعر بالشكّ و التردد.

قلت: وجه التردد ممّا مرّ، و من: أنّ إخباره تعالى بنفي التعذيب، فيما هو مذموم و مكروه عنده- إغراء منه تعالى للمكلّف على هذا المذموم، و هو قبيح‏ «1»، و نقض للغرض، و حينئذ لا يكون ما يندرج في هذه الطريقة مندرجا في قوله تعالى: وَ ما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا «2» و حينئذ، فيبقى‏ «3» الكلام في صحّة الملازمة المذكورة، و عدمها.

و قد قال السيّد المرتضى رحمه اللّه في الذريعة: «و أمّا حدّ المحظور: فهو القبيح الّذي قد اعلم المكلّف، أو دلّه على ذلك من حاله» «4».

و ذهب الفاضل الزركشيّ في شرح جمع الجوامع‏ «5» إلى: أنّ الحسن و القبح ذاتيان، و الوجوب و الحرمة شرعيّان، و أنّه لا ملازمة بينهما، فقال: «تنبيهات:

الأوّل: أنّ المعتزلة لا ينكرون أنّ اللّه تعالى هو الشارع للأحكام، إنّما

______________________________

 (1) في ط: قبح.

 (2) الإسراء- 15.

 (3) في أ: فبقي.

 (4) الذريعة 2- 808، لكن فيه: أو دلّ.

 (5) المسمّى ب: تشنيف المسامع بجمع الجوامع.

175
الوافية في أصول الفقه

الأول: ما يستقل بحكمه العقل ص : 171

يقولون: إنّ العقل يدرك أنّ اللّه تعالى شرع أحكام الأفعال بحسب ما يظهر من مصالحها و مفاسدها، فهو طريق عندهم إلى العلم بالحكم‏ «1» الشرعيّ، و الحكم الشرعيّ تابع لهما، لا عينهما، فما كان حسنا جوّزه الشرع، و ما كان قبيحا منعه، فصار عند المعتزلة حكمان: أحدهما عقليّ، و الآخر شرعيّ تابع له، فبان أنّهم لا يقولون: إنّه- يعني‏ «2» العقاب و الثواب- ليس بشرعيّ أصلا، خلافا لما توهمه‏ «3» عبارة المصنّف، و غيره.

و الثاني: ما اقتصر عليه المصنّف من حكاية قولين‏ «4»، هو المشهور، و توسّط قوم، فقالوا: قبحها ثابت بالعقل، و العقاب يتوقّف على الشرع، و هو الّذي ذكره أسعد بن علي الزنجاني من أصحابنا، و أبو الخطّاب من الحنابلة، و ذكره الحنفيّة، و حكوه عن أبي حنيفة نصّا، و هو المنصور، لقوّته من حيث الفطرة، و آيات القرآن المجيد، و سلامته من الوهن و التناقض، فهاهنا أمران:

الأوّل إدراك العقل حسن الأشياء و قبحها، الثاني، أنّ ذلك كاف في الثواب و العقاب، و إن لم يرد شرع، و لا تلازم‏ «5» بين الأمرين، بدليل‏ ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى‏ بِظُلْمٍ‏ أي: بقبيح فعلهم‏ «6» وَ أَهْلُها غافِلُونَ‏ «7» أي: لم تأتهم الرسل و الشرائع، و مثله:

وَ لَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ‏ أي: من القبائح‏ فَيَقُولُوا رَبَّنا

______________________________

 (1) كذا في المصدر المنقول عنه النصّ، و في النسخ كما يلي: فهما عندهم مؤديان إلى العلم بالحكم (بالاحكام خ ل).

 (2) كذا في المصدر، و في النسخ: بمعنى.

 (3) كذا في المصدر، و زاد في النسخ في هذا الموضع كلمة: ظاهر.

 (4) كذا في المصدر، و في النسخ: قولهم.

 (5) كذا في المصدر، و في النسخ: و لا ملازمة.

 (6) كذا في المصدر، و في النسخ: أي بقبح فعلهم (أفعالهم خ ل).

 (7) الأنعام- 131.

176
الوافية في أصول الفقه

الأول: ما يستقل بحكمه العقل ص : 171

لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا .... «1»» انتهى كلام الزركشي‏ «2».

و ليس الغرض من نقل هذا الكلام الاحتجاج به، بل التنبيه‏ «3» على أنّ الملازمة المذكورة ممّا قد تكلّم عليه جماعة من أهل البحث و النّظر.

و اعلم أنّ المحقّق الطوسي، ذكر في بعض تصانيفه: «أنّ القبيح العقلي ما ينفر الحكيم عنه، و ينسب فاعله إلى السّفه» «4».

و قال بعض المتأخّرين من أصحابنا «5»: «لا يقال قوله عليه السلام «كلّ شي‏ء مطلق حتّى يرد فيه نهي» يبطل الحسن و القبح الذاتيّين. لأنّا نقول: هاهنا مسألتان: الأولى الحسن و القبح الذاتيّان، و الأخرى الوجوب و الحرمة الذاتيّان، و الّذي يلزم من ذلك بطلان الثانية لا الأولى، و بينهما بون بعيد، ألا ترى أنّ كثيرا من القبائح العقليّة ليس بحرام في الشريعة، و نقيضه‏ «6» ليس بواجب» انتهى كلامه.

و في آخر كلامه نظر ظاهر.

و قال السيّد أيضا في الذريعة- في إثبات إباحة ما لم يرد به شرع، بعد ادّعاء انتفاء المضرّة العاجلة-: «و أمّا المضرّة الآجلة: فهي العقاب، و إنّما يعلم انتفاء ذلك، لفقد السمع الّذي يجب أن يرد به لو كان ثابتا، لأنّ اللّه تعالى لا بدّ أن يعلمنا ما علينا من المضارّ الآجلة الّتي هي العقاب، الّذي يقتضيه قبح الفعل‏ «7»، و إذا فقدنا هذا الإعلام، قطعنا على انتفاء المضرّة الآجلة أيضا» «8»

______________________________

 (1) القصص- 47.

 (2) تشنيف المسامع: 1- 133- 139.

 (3) في ط: للتنبيه.

 (4) حكاه عنه في: الفوائد المدنيّة: 161.

 (5) و هو المحدث الأمين الأسترآبادي: الفوائد المدنيّة: 161.

 (6) في أ و ط: فنقيضه.

 (7) كذا في المصدر المنقول عنه النصّ، و في النسخ: العقل.

 (8) الذريعة: 2- 811- 812.

177
الوافية في أصول الفقه

القسم الثاني: استصحاب حال العقل، ص : 178

انتهى.

القسم الثاني: استصحاب حال العقل،

أي: الحال السابقة، و هي عدم شغل الذمّة عند عدم دليل أو أمارة عليه، و التمسّك به أن‏ «1» يقال: إنّ الذمّة لم تكن مشغولة بهذا الحكم في الزمن السابق، أو الحالة الأولى، فلا تكون مشغولة في الزمن اللاّحق أو الحالة الأخرى، و هذا إنّما يصحّ إذا لم يتجدد ما يوجب شغل الذمّة في الزمن‏ «2» الثاني.

و وجه حجيّته حينئذ ظاهر، إذ التكليف بالشي‏ء مع عدم الإعلام به، تكليف الغافل، و تكليف بما لا يطاق.

و يدلّ عليه‏ «3» الأخبار أيضا، كما سيجي‏ء مع ما فيه.

القسم الثالث: أصالة النفي، و هو البراءة الأصليّة.

قال المحقّق الحلّي رحمه اللّه: «اعلم أنّ الأصل خلوّ الذمّة عن الشواغل الشرعيّة، فإذا ادّعى مدع حكما شرعيّا، جاز لخصمه أن يتمسّك في انتفائه بالبراءة الأصليّة، فيقول: لو كان ذلك الحكم ثابتا لكان عليه دلالة شرعيّة، لكن ليس كذلك فيجب نفيه.

و لا يتمّ هذا الدليل إلاّ ببيان مقدّمتين:

الأولى: أنّه لا دلالة عليه‏ «4» شرعا، بأن يضبط طرق الاستدلالات الشرعيّة و يبيّن عدم دلالتها عليه.

و الثانية: أن يبيّن أنّه لو كان هذا الحكم ثابتا لدلّت عليه إحدى تلك‏

______________________________

 (1) كذا في أ، و في سائر النسخ: بأن.

 (2) في أ و ب: الزمان.

 (3) في أ و ب و ط: عليها.

 (4) في ط: لا دليل.

178
الوافية في أصول الفقه

القسم الثالث: أصالة النفي، و هو البراءة الأصلية ص : 178

الدلائل، لأنّه لو لم يكن عليه دلالة، لزم التكليف بما لا طريق للمكلّف إلى العلم به، و هو تكليف بما لا يطاق، و لو كان عليه دلالة غير تلك الأدلّة، لما كانت أدلّة الشرع منحصرة فيها، لكن بينّا انحصار الأحكام في تلك الطرق، و عند هذا يتمّ كون ذلك دليلا على نفي الحكم» انتهى كلامه في كتابه الأصول‏ «1».

و لا يخفى أنّ بيان هاتين المقدّمتين ممّا لا سبيل إليه إلاّ فيما تعمّ به البلوى:

أمّا الأوّل:- و هو عدم السبيل إلى البيان فيما لا تعمّ به البلوى- فلأنّ جلّ أحكامنا- معاشر «2» الشيعة- بل كلّها، متلقّاة من الأئمة الطاهرة، صلوات اللّه عليهم أجمعين، و ظاهر أنّهم عليهم السلام لم يتمكّنوا من إظهار جميع الأحكام، و ما أظهروه لم يتمكّنوا من إظهاره على ما هو عليه في نفس الأمر، للتقيّة- على أنفسهم و على شيعتهم- من الحكّام الظلمة و الحسدة الكفرة «3».

نعم، هذا إنّما «4» يتمّ عند المخالفين، القائلين: بأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أظهر كلّ ما جاء به عند أصحابه، و توفّرت الدواعي على أخذه و نشره، و لم تقع بعده فتنة أوجبت إخفاء بعضه، و يجوز خلوّ بعض الوقائع عن الحكم الشرعي، فحينئذ: إذا تتبّع الفقيه و لم يجد دليلا على واقعة، علم‏ «5» انتفاء الحكم الشرعيّ فيها في نفس الأمر.

و هذا عندنا باطل، لأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أودع كلّ ما جاء به عند عترته الطاهرين صلوات اللّه عليهم أجمعين ممّا يحتاج إليه الناس إلى يوم القيامة،

______________________________

 (1) المسمّى ب: معارج الأصول، راجع ص 212- 213 منه.

 (2) في أ و ب و ط: معشر.

 (3) في ط: و الكفرة.

 (4) كلمة (انما): إضافة من أ و ط.

 (5) في ط: جزم على انتفاء إلى آخره.

179
الوافية في أصول الفقه

القسم الثالث: أصالة النفي، و هو البراءة الأصلية ص : 178

و لم تخل واقعة عن حكم حتّى أرش الخدش، كما نطقت به النصوص، و أمر الناس بسؤالهم و الردّ إليهم، فعلى هذا: فكيف يعلم من انتفاء الدليل انتفاء الحكم في نفس الأمر؟! «1».

نعم، يعلم عدم تكليف المكلّف، إذا لم يجد الدليل بعد التتبّع، بما في نفس الأمر، لأنّه تكليف بما لا يطاق، و يدلّ عليه الأخبار الكثيرة:

روى ابن بابويه في (من لا يحضره الفقيه) في بحث جواز القنوت بالفارسيّة، عن الصادق عليه السلام، قال: «كلّ شي‏ء مطلق حتّى يرد فيه نهي» «2».

و في باب الاستطاعة من كتاب التوحيد، في الصحيح: «عن حريز بن عبد اللّه، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

رفع عن أمّتي تسعة: الخطأ، و النسيان، و ما استكرهوا عليه، و ما لا يطيقون، و ما لا يعلمون، و ما اضطرّوا إليه، و الحسد، و الطيرة، و التفكّر في الوسوسة في الخلق، ما لم ينطقوا بشفة» «3».

و هذا الحديث مذكور في أوائل (من لا يحضره الفقيه) أيضا «4».

و لا يخفى أنّ ما نحن فيه من قبيل: «ما لا يعلمون».

و ذكر في باب التعريف و الحجّة و البيان: «حدّثنا أحمد بن محمد بن يحيى العطّار، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن فضّال، عن داود بن فرقد، عن أبي الحسن زكريا بن يحيى، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال: ما حجب اللّه علمه عن العباد فهو موضوع عنهم» «5».

______________________________

 (1) زاد في ب في هذا الموضع: لأنّه تكليف بما لا يطاق.

 (2) الفقيه: 1- 317 ح 937.

 (3) التوحيد: 353 ح 24.

 (4) الفقيه: 1- 59 ح 132، باختلاف يسير.

 (5) التوحيد: 413 ح 9.

180
الوافية في أصول الفقه

القسم الثالث: أصالة النفي، و هو البراءة الأصلية ص : 178

و هذه الرواية في الكافي، في باب حجج اللّه على خلقه‏ «1».

و روى ابن بابويه أيضا، بسنده: «عن حفص بن غياث القاضي، قال:

قال أبو عبد اللّه عليه السلام: من عمل بما علم كفى ما لم يعلم» «2».

و في النوادر من المعيشة من الكافي، بسنده: «عن عبد اللّه بن سنان، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال: كلّ شي‏ء يكون فيه حلال و حرام فهو حلال لك أبدا حتّى أن تعرف الحرام منه بعينه فتدعه» «3».

و بمعناه رواية أخرى عنه أيضا ع‏ «4».

و نقل عن كتاب المحاسن للبرقيّ: أنّه روى عن «أبيه [عن النضر بن سويد] «5»، عن درست ابن أبي منصور، عن محمد بن حكيم، قال: قال أبو الحسن عليه السلام: إذا جاءكم ما تعلمون فقولوا، و إذا جاءكم ما لا تعلمون فها- و وضع يده علي فيه‏ «6»- فقلت: و لم ذاك‏ «7»؟ قال: لأنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أتى الناس بما اكتفوا به على عهده، و ما يحتاجون إليه [من بعده‏] «8» إليه إلى يوم القيامة» «9».

و قد يتوهّم منافاة هذه الرواية للروايات السابقة، و الحقّ عدمها، لأنّها

______________________________

 (1) الكافي: 1- 164- كتاب التوحيد- باب حجج اللّه على خلقه- ح 3 لكن باستبدال (أحمد بن محمد بن يحيى العطار) ب (محمد بن يحيى)، و بإسقاط كلمة (علمه) من المتن.

 (2) التوحيد: 416 ح 17.

 (3) الكافي: 5- 313 ح 39.

 (4) و هي رواية مسعدة بن صدقة: نفس المصدر- ح 40.

 (5) ما بين المعقوفين زيادة من المصدر.

 (6) في المصدر: فمه.

 (7) في ط: ذلك.

 (8) ما بين المعقوفين إضافة من المصدر.

 (9) المحاسن للبرقي: 213 ح 91- الباب (7) باب المقاييس و الرّأي من كتاب مصابيح الظلم من المحاسن. و روى مثله الكليني بإسناد آخر: الكافي: 1- 57- كتاب فضل العلم- باب البدع و الرّأي و المقاييس- ح 13

181
الوافية في أصول الفقه

القسم الثالث: أصالة النفي، و هو البراءة الأصلية ص : 178

محمولة على تعيين الحكم الواقعي، أو على‏ «1» عدم الإفتاء، و إن جاز العمل لنفسه، فتأمّل.

و في كتاب التوحيد لرئيس المحدّثين ابن بابويه: «حدّثنا أبي رحمه اللّه، قال: حدّثنا عبد اللّه بن جعفر الحميري، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحجّال، عن ثعلبة بن ميمون، عن عبد الأعلى بن أعين، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عمّن لم يعرف شيئا، هل عليه شي‏ء؟ قال: لا» «2».

و أمّا الثاني: و هو السبيل إلى بيان المقدّمتين المذكورتين، و إمكانه فيما تعمّ به البلوى، كنجاسة أرض‏ «3» الحمّام، و نجاسة الغسالة، و وجوب قصد السورة المعيّنة عند البسملة، و وجوب نيّة الخروج، و نحو ذلك:

فالحقّ: إمكان بيان المقدّمتين المذكورتين‏ «4»، فإنّ‏ «5» المحدّث الماهر، إذا تتبّع الأحاديث المرويّة عنهم عليهم السلام في مسألة- لو كان فيها حكم مخالف للأصل لاشتهر، لعموم البلوى بها- و لم يظفر «6» بحديث يدلّ على ذلك الحكم، يحصل له الظنّ الغالب بعدمه‏ «7»، لأنّ جمّا غفيرا من العلماء- أربعة آلاف منهم تلامذة الإمام الصادق عليه السلام، كما نقله في المعتبر «8»- كانوا ملازمين لأئمتنا في مدّة تزيد على ثلاثمائة سنة، و كان همّهم و همّ الأئمة عليهم السلام إظهار الدّين‏

______________________________

 (1) في ط: و على.

 (2) التوحيد: 412- الباب 64- ح 8، و رواه الكليني بإسناد آخر: الكافي 1- 164- كتاب التوحيد- باب حجج اللّه على خلقه- ح 2. لكن فيه (من) بدل (عمّن).

 (3) في ط: ماء.

 (4) قوله: (فالحقّ إمكان بيان المقدمتين المذكورتين): ساقط من الأصل و ب، و قد أثبتناه من نسختي أ و ط.

 (5) في الأصل: فلأن. و ما أثبتناه مطابق لسائر النسخ.

 (6) في أ: و لم يظهر.

 (7) في ط: به. و في هامشها: بعدمه خ ل.

 (8) المعتبر: 1- 26.

182
الوافية في أصول الفقه

القسم الثالث: أصالة النفي، و هو البراءة الأصلية ص : 178

عندهم، و تأليفهم كلّ ما يسمعونه منهم.

و الفرق بين هذا القسم و القسم الثاني: أنّ بناء الاستدلال في القسم الثاني على انتفاء الحكم في الزمان السابق و إجرائه‏ «1» في اللاّحق بالاستصحاب، فيرد عليه ما يرد على حجيّة الاستصحاب في نفس الحكم الشرعيّ، و لهذا اعترضت الشافعيّة على الحنفيّة بأنّ قولكم بالاستصحاب في نفي الحكم الشرعيّ دون نفسه تحكّم‏ «2».

و بناؤه في هذا القسم على انتفاء الدليل على ثبوت الحكم في الحال، سواء وجد في السابق أو لا.

نعم، لمّا اعتبر في القسم الثاني عدم العلم بتجدّد ما يوجب ثبوت الحكم في الزمان اللاّحق بعد الفحص المعتبر في الحكم ببراءة الذمّة، كان كلّ موضع يصحّ فيه الاستدلال بالقسم الثاني، يصحّ بهذا القسم أيضا، فلذا لم يفرّق جماعة بينهما، و عدّوهما واحدا.

و اعلم أنّ الشهيد الثاني رحمه اللّه ذكر في تمهيد القواعد «3»: أنّ الأصل يطلق على معان:

الأوّل: الدليل، و منه قولهم: «الأصل في هذه المسألة الكتاب و السنّة».

الثاني: الراجح، و منه قولهم: «الأصل في الكلام الحقيقة».

الثالث: الاستصحاب، و منه قولهم: «إذا تعارض الأصل و الظاهر،

______________________________

 (1) في النسخ: و إجراؤه (بالضم). و الصواب ما أثبتناه، و هو مطابق لما جاء في حكاية المحدث البحراني لهذه العبارة: الدرر النجفية- درّة في الاستصحاب- ص 35.

 (2) تجد رأي الأحناف هذا في: المحصول: 2- 549، شرح البدخشي: 3- 176، و انظر الاعتراض على هذا التفصيل في: المستصفى: 1- 217 و ما بعدها، شرح العضد: 2- 453، الإحكام: 4- 367.

 (3) هذا ليس عبارته بل ظاهر كلامه. (منه رحمه اللّه).

183
الوافية في أصول الفقه

القسم الثالث: أصالة النفي، و هو البراءة الأصلية ص : 178

فالأصل مقدّم إلاّ في مواضع» «1» كما ذكره الشهيد الأوّل رحمه اللّه في قواعده‏ «2».

الرابع: القاعدة، و منه قولهم: «لنا أصل»، و منه قولهم: «الأصل في البيع اللّزوم»، و: «الأصل في تصرّفات المسلم الصحّة» أي: القاعدة الّتي وضع عليها البيع بالذات، و حكم المسلم بالذات: اللّزوم في بيعه، و الصحّة في تصرفاته؛ لأنّ وضع البيع شرعا لنقل مال كلّ من المتبايعين إلى الآخر «3».

و المراد بالراجح: ما يترجح إذا خلّي الشي‏ء و نفسه، مثلا: إذا خلّي الكلام و نفسه، يحمله‏ «4» المخاطب على المعنى الحقيقي، لأنّه راجح حينئذ.

و المراد من الأصل في قولهم: «الأصل براءة الذمّة»- هذا المعنى.

و أمّا قولهم: «الأصل في كلّ ممكن عدمه» فيمكن حمله على الحالة الراجحة، حتّى يكون من القسم الثالث، و يمكن حمله على الحالة السابقة، حتّى يكون من القسم الثاني.

إذا عرفت هذا، فالأصل بالمعنى الأوّل لا شكّ في حجّيّته.

و كذا بالمعنى الثاني، إذا كان في براءة الذمّة، مع عدم المخرج عنه، أو كان الرجحان من نصّ شرعيّ.

و بالمعنى الثالث سيجي‏ء الكلام فيه.

و أمّا بالمعنى الرابع- أي: القاعدة- فإن كانت تلك القاعدة مستفادة من نصّ شرعيّ، أو جماع كذلك، فظاهر أنّه حجّة، و إلاّ فلا.

فقولهم: «الأصل في الأشياء الطهارة» أصل مستفاد من الشرع، لأنّ «الطاهر هو: ما أبيح ملابسته في الصلاة اختيارا. و النجاسة: ما حرم استعماله‏

______________________________

 (1) كنجاسة أرض الحمّام. (منه رحمه اللّه).

 (2) انظر: القواعد و الفوائد: 1- 137- 141- الفائدة الثانية و الثالثة من فوائد القاعدة الثالثة (قاعدة اليقين).

 (3) تمهيد القواعد: 2- في قوله «قاعدة: الأصل لغة ما يبنى عليه الشي‏ء ... إلى آخره».

 (4) كذا في أ و ب و ط، و في الأصل: يحمل.

184
الوافية في أصول الفقه

القسم الثالث: أصالة النفي، و هو البراءة الأصلية ص : 178

في الصلاة، و الأغذية، للاستقذار، أو للتوصّل إلى الفرار» [1]، و التعريفان من الشهيد الأوّل في قواعده‏ «1».

فالشارع لمّا أمر بالصلاة مستقبلا، طاهرا، ساترا للعورة «2»، تحصل هذه الماهية بأيّ فرد كان، و البدن متلطّخا بأيّ شي‏ء كان، و كذا الثوب متلطّخا بأيّ شي‏ء كان، فإذا خرج‏ «3» بعض الأشياء، و هو النجاسات، بقي الباقي على عدم مانعيّته من الصلاة و تتحقّق‏ «4» الصلاة معه، و هو معنى الطهارة، فتكون طهارة الأشياء مستفادة من الأمر بالصلاة مع الساتر، ساكتا عمّا عدى النجاسات، إذا كانت في البدن أو الثوب.

و كذا قولهم: «الأصل في الأشياء الحلّ» لقوله تعالى: (خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) «5» فإنّ (ما) ظاهرة في العموم، و كذا يفهم عموم أنواع الانتفاع أيضا، فإنّه لو كان المراد إباحة انتفاع خاصّ معين غير معلوم للمكلّفين، لم يكن هناك امتنان، إذ العقل يحكم بوجوب اجتناب ما تساوى فيه احتمال النّفع و المضرّة.

و أيضا: يدلّ عليه قوله تعالى: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَ الدَّمَ وَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ‏ «6» و قوله تعالى: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا

______________________________

 [1] دخل به الخمر و العصير، فانهما غير مستقذرين، و لكن الحكم بنجاستهما يزيدهما إبعادا من النّفس لأنها مطلوبة بالفرار عنهما، و بالنجاسة يزداد الفرار. (منه رحمه اللّه). أقول: هذا من كلام الشهيد أيضا.

في أ و ط: أو التوصل ... إلى آخره.

______________________________

 (1) القواعد و الفوائد: 2- 85- قاعدة: 175.

 (2) في ط: العورة.

 (3) في أ و ب و ط: اخرج.

 (4) كذا في أ و ب و ط، و في الأصل: تحقق.

 (5) البقرة- 29.

 (6) البقرة- 173.

185
الوافية في أصول الفقه

القسم الثالث: أصالة النفي، و هو البراءة الأصلية ص : 178

الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ‏ الآية «1»، و قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً «2»، و قوله تعالى:

قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى‏ طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ «3»، بل في هذه الآية إشعار بأنّ إباحة الأشياء مركوزة في العقول قبل الشرع، لأنّها في صورة الاستدلال على الحلّ بعدم وجدان التحريم إلاّ للأشياء الخاصّة، فتأمّل.

و كذا قولهم: (الأصل في الأفعال‏ «4» الإباحة) لما مرّ من قوله عليه السلام:

 «كلّ شي‏ء مطلق حتّى يرد فيه نهي»، و ما بعده من الأخبار الكثيرة، المذكورة في هذا القسم.

و اعلم أيضا: أنّ هاهنا قسما من الأصل، كثيرا ما يستعمله الفقهاء، و هو أصالة عدم الشي‏ء، و أصالة عدم تقدّم الحادث، بل هما قسمان.

و التحقيق: أنّ الاستدلال بالأصل- بمعنى النفي و العدم- إنّما يصحّ على نفي الحكم الشرعيّ، بمعنى: عدم ثبوت التكليف، لا على إثبات الحكم الشرعيّ؛ و لهذا لم يذكره الأصوليون في الأدلّة الشرعيّة، و هذا يشترك فيه جميع أقسام الأصل المذكورة.

مثلا: إذا كانت أصالة براءة الذّمّة مستلزمة لشغل الذمّة من جهة أخرى، فحينئذ لا يصحّ الاستدلال بها، كما إذا علم نجاسة «5» أحد الإناءين مثلا بعينه، و اشتبه بالآخر، فإنّ الاستدلال بأصالة عدم وجوب الاجتناب من‏

______________________________

 (1) المائدة- 93.

 (2) البقرة- 168.

 (3) الأنعام- 145.

 (4) في ط: الأشياء.

 (5) في ب: بنجاسة.

186
الوافية في أصول الفقه

القسم الثالث: أصالة النفي، و هو البراءة الأصلية ص : 178

أحدهما «1» بعينه لو صحّ، يستلزم وجوب الاجتناب من الآخر.

و كذا في الثوبين المشتبه طاهرهما، بنجسهما، و الزوجة المشتبهة بالأجنبية، و الحلال المشتبه بالحرام المحصور، و نحو ذلك.

و كذا أصالة العدم، كأن يقال: الأصل عدم نجاسة هذا الماء، و هذا الثوب، فلا يجب الاجتناب عنه، لا إذا كان شاغلا للذمّة، كأن يقال في الماء الملاقي للنجاسة المشكوك في كرّيته: الأصل عدم بلوغه كرّا فيجب الاجتناب عنه.

و كذا في أصالة عدم تقدّم الحادث، فيصح أن يقال في الماء الّذي وجد فيه نجاسة بعد الاستعمال، و لم يعلم هل وقعت النجاسة قبل الاستعمال؟ أو بعده؟-: الأصل عدم تقدّم النجاسة، فلا يجب غسل ما لاقى ذلك الماء قبل رؤية النجاسة، و لا يصحّ إذا كان شاغلا للذمّة، كما إذا استعملنا ماءً، ثمّ ظهر أنّ ذلك‏ «2» الماء كان قبل ذلك الوقت‏ «3» نجسا، ثمّ طهر بإلقاء كرّ عليه دفعة و لم يعلم أنّ الاستعمال هل كان قبل التطهير؟ أو بعده؟ فلا يصحّ أن يقال: الأصل عدم تقدّم تطهيره، فيجب‏ «4» إعادة غسل ما لاقى ذلك الماء في ذلك الاستعمال، لأنّه إثبات حكم بلا دليل، فإنّ حجّية الأصل في النفي باعتبار قبح تكليف الغافل، و وجوب إعلام المكلّف بالتكليف، فلذا يحكم ببراءة الذمّة عند عدم الدليل، فلو ثبت حكم شرعيّ بالأصل، يلزم إثبات حكم من غير دليل، و هو باطل إجماعا.

فإن قلت: لم لا يكون اللازم‏ «5» فيما لم يدلّ عليه دليل التوقّف؟!

______________________________

 (1) في ط: في إحداهما.

 (2) في أ و ط: لأن ذلك.

 (3) كذا في ب، و في سائر النسخ: في وقت.

 (4) زاد في أ في هذا الموضع كلمة: عليه.

 (5) في أ: الأمر.

187
الوافية في أصول الفقه

القسم الثالث: أصالة النفي، و هو البراءة الأصلية ص : 178

لما روى الشيخ السعيد، قطب الدين الراوندي: «عن ابن بابويه، قال:

أخبرنا أبي، قال: أخبرنا سعد «1» بن عبد اللّه، عن يعقوب بن يزيد، عن محمد ابن أبي عمير، عن جميل بن درّاج، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال: الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة، إنّ على كلّ حقّ حقيقة، و على كلّ صواب نورا، فما وافق كتاب اللّه فخذوه، و ما خالف كتاب اللّه فدعوه» «2».

و في الكافي، في باب اختلاف الحديث، في الموثّق: «عن سماعة، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال: سألته عن رجل اختلف عليه رجلان من أهل دينه في أمر، كلاهما يرويه، أحدهما يأمر بأخذه، و الآخر ينهاه عنه، كيف يصنع؟

قال: يرجئه حتّى يلقى من يخبره، فهو في سعة حتّى يلقاه».

و في رواية أخرى: «بأيّهما أخذت من باب التسليم وسعك» «3».

و في آخر حديث عمر بن حنظلة، عن الصادق عليه السلام: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: حلال بيّن، و حرام بيّن، و شبهات بين ذلك، فمن ترك الشبهات نجا من المحرّمات، و من أخذ بالشبهات ارتكب المحرّمات و هلك من حيث لا يعلم».

و في آخره أيضا، بعد بيان وجوه الترجيح في الخبرين المختلفين، قال:

 «إذا كان كذلك فأرجئه حتّى تلقى إمامك، فإنّ الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات» «4».

______________________________

 (1) في أ و ط: سعيد.

 (2) نقل الحرّ العاملي أيضا هذا الحديث عن الراوندي من رسالة له، قال عنها انه «ألّفها في أحوال أحاديث أصحابنا و إثبات صحتها» انظر هذا الحديث في الوسائل: 18- 86- كتاب القضاء- باب وجوه الجمع بين الأحاديث المختلفة- ح 35. و لم نوفّق للعثور على نسخة من هذه الرسالة.

 (3) الكافي: 1- 66- كتاب فضل العلم- باب اختلاف الحديث- ح 7.

 (4) الكافي: 1- 68- كتاب فضل العلم- باب اختلاف الحديث ح 10، لكن فيه: ذلك. بدل:

كذلك. كما أنّ فيه (فأرجه)، لكنّا ضبطناها كما جاءت في نسخة الوسائل: 18- 76.

188
الوافية في أصول الفقه

القسم الثالث: أصالة النفي، و هو البراءة الأصلية ص : 178

و في باب النهي عن القول بغير علم، بسنده: «عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال: أنهاك عن خصلتين، فيهما هلاك الرّجال: أنهاك أن تدين اللّه بالباطل، و تفتي الناس بما لا تعلم» «1».

و في الصحيح: «عن عبد الرحمن بن الحجّاج، قال: قال لي أبو عبد اللّه عليه السلام: إيّاك و خصلتين، ففيهما هلك من هلك: إيّاك أن تفتي الناس برأيك، أو تدين بما لا تعلم» «2».

و بمضمونهما روايات اخر، مذكورة في هذا الباب و الّذي بعده.

أو يكون الحكم حينئذ العمل بالاحتياط؟! لما رواه الشيخ في التهذيب عن «علي بن السندي، عن صفوان، عن عبد الرحمن بن الحجّاج، قال: سألت أبا الحسن عليه السلام، عن رجلين أصابا صيدا، و هما محرمان، الجزاء بينهما؟ أم على كلّ واحد منهما جزاء؟ فقال: لا، بل عليهما جميعا، و يجزي عن كلّ واحد منهما الصيد، فقلت، إنّ بعض أصحابنا سألني عن ذلك فلم أدر ما عليه؟ فقال: إذا أصبتم مثل هذا فلم تدروا، فعليكم بالاحتياط حتّى تسألوا عنه فتعلموا» «3».

و الأمر بالاحتياط يدلّ على عدم جواز العمل بالبراءة الأصليّة، و إلاّ لقال: فعليكم‏ «4» بالبراءة الأصليّة.

و روى أيضا، في بحث المواقيت «عن الحسن بن محمد بن سماعة، عن سليمان بن داود، عن عبد اللّه بن وضاح، قال: كتبت إلى العبد الصالح عليه السلام: يتوارى القرص، و يقبل الليل، ثمّ يزيد الليل ارتفاعا، و تستتر عنّا

______________________________

 (1) الكافي: 1- 42- كتاب فضل العلم- باب النهي عن القول بغير علم- ح 1. كذا الحديث في الكافي. و في النسخ: هلك بدل: هلاك.

 (2) الكافي: 1- 42 ح 2 من الباب المذكور.

 (3) التهذيب: 5- 466 ح 1631.

 (4) كذا في أ و ب و ط، و في الأصل: عليكم.

189
الوافية في أصول الفقه

القسم الثالث: أصالة النفي، و هو البراءة الأصلية ص : 178

الشمس، و ترتفع فوق الجبل حمرة، و يؤذّن عندنا المؤذّنون فأصلّي حينئذ؟

و أفطر إن كنت صائما؟ أو انتظر حتّى تذهب الحمرة الّتي فوق الجبل؟ فكتب إليّ: أرى لك أن تنتظر حتّى تذهب الحمرة، و تأخذ بالحائطة لدينك» «1».

و لا يخفى أنّه صريح في طلب الاحتياط.

و نقل عن محمد بن جمهور الأحسائي، في كتاب غوالي اللئالي، أنّه قال:

 «روى العلاّمة مرفوعا إلى زرارة بن أعين، قال: سألت الباقر عليه السلام، فقلت:

جعلت فداك، يأتي عنكم الخبران أو الحديثان المتعارضان، فبأيّهما آخذ؟

فقال عليه السلام: يا زرارة، خذ بما اشتهر بين أصحابك، ودع الشاذ النادر، إلى أن قال: إذن، فخذ بما فيه الحائطة «2» لدينك، و اترك ما خالف الاحتياط» الحديث‏ «3».

قلت: الجواب:

أمّا عن أدلّة التوقّف:

فأوّلا: بمنع‏ «4» أنّ ما لم يدلّ عليه دليل، و لم يرد، و لم يبلغنا فيه، نصّ شرعيّ- داخل في الشبهة؛ إذ أدلّة التوقّف واردة فيما ورد فيه من الشرع نصّان متعارضان، فإلحاق غير المنصوص به قياس، باطل عند العاملين بالقياس أيضا، لانتفاء الجامع بين الأصل و الفرع.

و ثانيا: بأنّ قولهم عليهم السلام: «كلّ شي‏ء مطلق حتّى يرد فيه نهي»، و:

 «ما حجب اللّه علمه عن العباد موضوع عنهم»، و غير ذلك من الاخبار الّتي مرّ بعضها- أخرج ما لا نصّ فيه عن حكم الشبهة «5» على تقدير تسليم شمول أحاديث التوقّف له، و كونه شبهة.

______________________________

 (1) التهذيب: 2- 259 ح 1031، الاستبصار: 1- 264 ح 952.

 (2) كذا في المصدر، و في النسخ: الحائط.

 (3) غوالي اللئالي: 4- 133 ح 229.

 (4) كذا في أ و ب و ط، و في الأصل: منع.

 (5) و هو وجوب التوقّف. (منه رحمه اللّه).

190
الوافية في أصول الفقه

القسم الثالث: أصالة النفي، و هو البراءة الأصلية ص : 178

و ثالثا: بأنّ الأخبار الدالّة على التوقّف عند تعارض الأمارتين، معارضة بما دلّ على التخيير عند التعارض، كما لا يخفى، ففي تعيين وجوب التوقّف في الشبهة المذكورة، أيضا نظر ظاهر.

و رابعا: بأنّ المحرّم: ما يجب اجتنابه، و هذه الاخبار كالصريحة في أنّ‏ «1» الشبهة ليست من المحرّمات، فلا يكون اجتنابها واجبا، بل لمّا كانت ممّا قد ينجرّ و يفضي إلى ارتكاب الحرام، يكون اجتنابها مستحبا، و ارتكابها مكروها، و لهذا وقع طلب ترك ارتكاب الشبهة في هذه الروايات بطريق النصيحة و الموعظة، لا بطريق صيغة النهي الظاهر في الإلزام، فتأمّل.

و أمّا عن أدلّة الاحتياط:

فعن الرواية الأولى:

أوّلا: بمنع أنّه من قبيل ما نحن فيه، لأنّ بإصابة الصيد علم اشتغال ذمّة كلّ من الرّجلين، فيجب العلم ببراءة الذمّة، و لا يحصل إلاّ بجزاء تامّ من كلّ واحد منهما، فلا يجوز التمسّك فيه بأصالة براءة الذمّة.

و الحاصل: أنّه إذا قطع باشتغال الذّمّة بشي‏ء، و يكون لذلك الشي‏ء فردان: بأحدهما تحصل البراءة قطعا، و بالآخر يشكّ في حصول براءة الذمّة، فإنّه حينئذ لا أعلم خلافا في وجوب الإتيان بما يحصل به يقين براءة الذمّة، لقولهم عليهم السلام: «لا يرفع اليقين إلاّ يقين مثله» «2». و غير ذلك، و نحن نجوّز التمسّك بالأصل فيما لم يقطع باشتغال الذمّة، و هذا ظاهر.

و ثانيا: بتسليم عدم جواز العمل بالأصل مع التمكّن من الردّ إلى الأئمة عليهم السلام، و السؤال منهم‏ «3» عليهم صلوات اللّه و سلامه، لأنّ العمل بالأصل مع‏

______________________________

 (1) في ط: كالصريحة بأنّ.

 (2) في ب و ط: بيقين. و لم نعثر على حديث بهذا اللفظ، نعم وردت بهذا المضمون أحاديث متعددة سيأتي ذكرها في ص 203- 207. و الظاهر ان المصنف أراد بهذا مضمون تلك الأخبار

 (3) كذا الظاهر. و في النسخ: عنهم.

191
الوافية في أصول الفقه

القسم الثالث: أصالة النفي، و هو البراءة الأصلية ص : 178

حضورهم و التمكّن من سؤالهم، بمنزلة العمل بالأصل في هذا الزمان من دون التفحّص و التفتيش عن النصّ: هل هو متحقّق، أو لا؟ و هو غير جائز بالإجماع.

و عن الرواية الثانية:

أوّلا: بمثل الأوّل عن الأولى، فإنّ اشتغال الذمّة بالصلاة معلوم، و لا يحصل يقين البراءة إلاّ بالتأخير حتّى تذهب الحمرة.

و ثانيا: بأنّ الظاهر من قوله عليه السلام: «أرى لك إلى آخره» الاستحباب، لا الوجوب، و حينئذ يكون دالا على حصول البراءة بالتقديم أيضا.

و عن الرواية الثالثة:- بعد الإغماض عن سندها-:

فأوّلا: بأنّه ليس من قبيل ما نحن فيه، لأنّه منصوص، و لكن ورد فيه نصّان متعارضان‏ «1»، فإلحاق غير المنصوص، به- قياس، كما مرّ.

و ثانيا: بأنّه معارض للأخبار «2» الدالّة على التخيير، و جواز العمل بكلّ من الخبرين.

و ثالثا: بأنّه معارض للأخبار «3» الدالّة على التوقّف، لأنّ التوقّف عبارة عن: ترك الأمر المحتمل للحرمة و حكم آخر من الأحكام الخمسة؛ و الاحتياط: عبارة عن ارتكاب الأمر المحتمل للوجوب و حكم آخر ما عدا التحريم، كما هو ظاهر موارد التوقّف و الاحتياط، و من توهّم أنّ التوقّف هو الاحتياط فقد سها و غفل.

و رابعا: باحتمال أن يكون المراد بالأخذ ب «ما فيه الحائطة «4» لدينك» الأخذ بما وافق كتاب اللّه، و ترك ما خالف كتاب اللّه، إذ ليس هذا الوجه من‏

______________________________

 (1) في ط: بأنه ليس مما نحن فيه، لأنها ورد فيما ورد فيه نصان متعارضان.

 (2) في ط، و ب: بالأخبار.

 (3) في ط، و ب: بالأخبار.

 (4) كذا في أ و ب، و في الأصل و ط: الحائط.

192
الوافية في أصول الفقه

القسم الثالث: أصالة النفي، و هو البراءة الأصلية ص : 178

الترجيح مذكورا في هذه الرواية، مع أنّه مذكور في جميع الروايات الواردة في هذا الباب بدلا عن هذا الوجه المذكور في هذه الرواية.

و خامسا: بإمكان الحمل على الاستحباب.

و يشعر باستحباب الاحتياط في ترك ما يحتمل التحريم: صحيحة عبد الرحمن بن الحجّاج، «عن أبي إبراهيم عليه السلام، قال: سألته عن الرّجل يتزوّج المرأة في عدّتها بجهالة، أ هي ممّن لا تحلّ له أبدا؟ فقال: لا، أما إذا كان بجهالة فليتزوّجها بعد ما تنقضي عدّتها، و قد يعذر الناس في الجهالة بما هو أعظم من ذلك. فقلت: بأيّ الجهالتين أعذر؟ بجهالته أن يعلم أنّ ذلك محرّم عليه؟ أم بجهالته أنّها في عدّة؟ فقال: إحدى الجهالتين أهون من الأخرى، الجهالة بأنّ اللّه حرّم ذلك عليه؛ و ذلك لأنّه لا يقدر على الاحتياط معها.

فقلت: فهو في الأخرى معذور؟ قال: نعم، إذا انقضت عدّتها فهو معذور في أن يتزوّجها» الحديث‏ «1».

و لا يخفى أنّه يظهر من الرواية قدرته على الاحتياط مع العلم بالتحريم في العدّة و الجهل بأنّها في العدّة، و يظهر منها أنّه معذور في ترك هذا الاحتياط، و لفظ «أهون» فيه إشعار باستحباب الاحتياط مع العلم بالتحريم في العدّة و الجهل بالعدّة «2».

و اعلم: أنّ لجواز التمسّك بأصالة براءة الذمّة، و بأصالة العدم، و بأصالة عدم تقدّم الحادث- شروطا:

أحدها: ما مرّ من عدم استلزامه لثبوت حكم شرعيّ من جهة أخرى.

و ثانيها: أن لا يتضرّر بسبب التمسّك به مسلم أو من في حكمه.

مثلا: إذا فتح إنسان قفصا لطائر، فطار، أو حبس شاة، فمات ولدها،

______________________________

 (1) الكافي: 5- 427 ح 3، الاستبصار: 3- 186 ح 676، التهذيب: 7- 306 ح 1274 لكن فيه: عن أبي عبد اللّه عليه السلام.

 (2) في ط: و الجهل بأنها لعدة.

193
الوافية في أصول الفقه

القسم الثالث: أصالة النفي، و هو البراءة الأصلية ص : 178

أو أمسك رجلا، فهربت دابّته و ضلّت، أو نحو ذلك؛ فإنّه حينئذ لا يصحّ التمسّك ببراءة الذمّة، بل ينبغي للمفتي التوقّف عن الإفتاء حينئذ، و لصاحب الواقعة الصلح، إذا لم يكن منصوصا بنصّ خاصّ أو عام؛ لاحتمال اندراج مثل هذه الصور في قوله عليه السلام: «لا ضرر و لا إضرار في الإسلام» «1»، و فيما يدلّ على حكم من أتلف مالا لغيره‏ «2»، إذ نفي الضرر غير محمول على نفي حقيقته، لأنّه غير منفي، بل الظاهر أنّ المراد به: نفي الضرر من غير جبران بحسب الشرع.

و الحاصل: أنّ في مثل هذه الصور لا يحصل العلم، بل و لا الظنّ، بأنّ الواقعة غير منصوصة، و قد عرفت أنّ شرط التمسّك بالأصل فقدان النصّ، بل يحصل القطع حينئذ بتعلّق حكم شرعيّ بالضار، و لكن لا يعلم أنّه مجرّد التعزير، أو الضمان، أو هما معا، فينبغي للضار أن يحصّل العلم ببراءة ذمّته بالصلح، و للمفتي الكفّ عن تعيين حكم، لأنّ جواز التمسّك بأصالة براءة الذمّة، و الحال هذه، غير معلوم.

و قد روى البرقيّ، في كتاب المحاسن: «عن أبيه، [عن النضر بن سويد]، عن درست ابن أبي منصور، عن محمد بن حكيم، قال: قال: أبو الحسن عليه السلام: إذا جاءكم ما تعلمون فقولوا، و إذا جاءكم ما لا تعلمون، فها- و وضع يده على فيه- فقلت: و لم ذاك؟ فقال: لأنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أتى الناس بما اكتفوا به على عهده، و ما يحتاجون إليه من بعده، إلى يوم القيامة» «3».

______________________________

 (1) الفقيه: 4- 334- باب ميراث أهل الملل ح 5718. و لهذا الحديث مصادر كثيرة و لكنها بلفظ آخر.

في ط: ضرار. بدل: إضرار.

 (2) التهذيب: 7- 215 ح 943 (صحيحة أبي ولاّد)، دعائم الإسلام: 2- 424 ح 1476.

 (3) المحاسن للبرقي: 213، و ما بين المعقوفين زيادة من المصدر، مع استبدال كلمة (فيه) ب:

 (فمه). و رواه في الكافي بسند آخر: الكافي 1- 57 و قد تقدم الاستشهاد بهذا الحديث، و سيأتي ذكره أيضا.

194
الوافية في أصول الفقه

القسم الثالث: أصالة النفي، و هو البراءة الأصلية ص : 178

فإن قلت: هذه الرواية كما تدلّ على حكم ما إذا حصل الضرر، تدلّ على حكم‏ «1» غيره أيضا.

قلت: لا نسلّم فإنّا ندّعي أنّه ليس داخلا في «ما لا تعلمون»؛ فإنّ قبح تكليف الغافل معلوم، و موضوعيّة «ما حجب علمه عن العباد» معلوم، و إباحة «ما لم يرد فيه نهي» معلوم، للأخبار المذكورة.

و أمّا في صورة الضرر: فكون التكليف حينئذ تكليف الغافل غير معلوم، إذ الضار يعلم أنّه صار سببا لإتلاف مال محترم، و اشتغال الذمّة حينئذ- في الجملة- ممّا هو مركوز في الطبائع، و كذا الكلام في كونه من «ما حجب علمه عن العباد»، و من «ما لم يرد فيه نهي».

و ثالثها: أن لا يكون الأمر المتمسّك فيه بالأصل جزء عبادة مركّبة، فلا يجوز التمسّك به لو وقع الاختلاف في صلاة، هل هي ركعتان أو أكثر؟ أو أقلّ؟- في نفي الزائد، و على هذا القياس.

بل! كلّ نصّ بيّن فيه أجزاء ذلك المركّب، كان دالا على عدم جزئيّة ما لم يذكر فيه، فيكون نفي ذلك المختلف فيه حينئذ منصوصا، لا معلوما بالأصل، كما لا يخفى.

ثمّ اعلم أنّ جماعة من الفقهاء، كثيرا ما يستعملون الأصل المحمول عليه العدم، و بعد التأمّل يظهر رجوعه إلى ادعاء أصالة الوجود، كما قالوا:

 «الأصل عدم تداخل الأسباب» يعني: إذا تحقق أمارتان لشي‏ء، فالأصل عدم الاكتفاء بفعل ذلك الشي‏ء «2» مرّة واحدة، بل يلزم فعله متعددا بحسب تعدد سببه.

______________________________

 (1) كلمة (حكم): ساقطة من الأصل، و قد أثبتناها من سائر النسخ.

 (2) في أ و ط: عدم الاكتفاء بذلك الشي‏ء.

195
الوافية في أصول الفقه

القسم الثالث: أصالة النفي، و هو البراءة الأصلية ص : 178

و كذا كثيرا ما يستعملون لفظ (الأصل) في مواضع لا ترجع إلى الأصل المذكور أنّه حجّة، و لا إلى القاعدة المستفادة من الشرع؛ و الشهيد الأوّل- في القواعد- استعمل لفظ الأصل في مواضع، منها صحيح، و منها لا يظهر له وجه.

قال: «الأصل عدم اجزاء كلّ من الواجب و الندب عن الآخر» «1».

و قال: «الأصل أنّ النيّة فعل المكلّف، و لا أثر لنيّة غيره» «2».

و قال: «الأصل عدم بلوغ الماء كرّا» «3».

و قال: «قد يتعارض الأصلان، كدخول المأموم في صلاة، و شكّ هل كان الإمام راكعا؟ أو رافعا؟ و لكن يؤيّد الثاني بالاحتياط» «4».

و قال: «الأصل صحّة البيع» «5».

و قال: «الأصل عدم القبض الصحيح» يعني للمبيع‏ «6».

و قال: «الأصل عدم معرفة المشتري بصفة المبيع» «7».

و قال: «قد يتعارض الأصل و الظاهر» «8».

و قال: «الأصل عدم تقدّم الإسلام» «9».

و قال: «الأصل عدم صحّة العقد» «10».

و قال: «الأصل السلامة من العلّة» «11».

و قال: «الأصل في اللفظ الحمل على الحقيقة الواحدة» «12».

و قال: «الأصل في الكلام الحقيقة» «13».

______________________________

 (1) القواعد و الفوائد: 1- 83- الفائدة السادسة.

 (2) القواعد و الفوائد: 1- 122- الفائدة 31.

 (3) القواعد و الفوائد: 1- 133- القاعدة الثالثة.

 (4) القواعد و الفوائد: 1- 134- القاعدة الثالثة. و فيه: يتأيّد.

 (5) القواعد و الفوائد: 1- 135- 139- القاعدة الثالثة.

 (6) القواعد و الفوائد: 1- 135- 139- القاعدة الثالثة.

 (7) القواعد و الفوائد: 1- 135- 139- القاعدة الثالثة.

 (8) القواعد و الفوائد: 1- 135- 139- القاعدة الثالثة.

 (9) القواعد و الفوائد: 1- 135- 139- القاعدة الثالثة.

 (10) القواعد و الفوائد: 1- 135- 139- القاعدة الثالثة.

 (11) القواعد و الفوائد: 1- 135- 139- القاعدة الثالثة.

 (12) القواعد و الفوائد: 1- 152- قاعدة 40.

 (13) القواعد و الفوائد: 1- 154- قاعدة 41. و لكن فيه: الأصل في الإطلاق الحقيقة.

196
الوافية في أصول الفقه

القسم الثالث: أصالة النفي، و هو البراءة الأصلية ص : 178

و قال: «الأصل يقتضي قصر الحكم على مدلول اللفظ، و أنّه لا يسري إلى غير مدلوله» «1».

و قال: «الأصل عدم تحمّل الإنسان عن غيره، ما لم يأذن له» «2».

و قال: «الأصل أنّ كلّ واحد لا يملك إجبار غيره» «3».

و قال: «الأصل في الأحكام التابعة لمسمّيات: أن تناط «4» بحصول تمام المسمّى» «5».

و قال: «الأصل عدم تداخل الأسباب» «6».

و قال: «الأصل في البيع اللّزوم» «7».

و قال: «الأصل في العقود الحلول» «8».

و قال: «الأصل في الميراث النسبي: التولّد، و في السببي: الأنعام بالعتق» «9».

و قال: «الأصل في هيئة المستحبّ: أن تكون مستحبّة، لامتناع زيادة الوصف على الأصل‏ «10» في الأكثر» [1] و أخرج مواضع من الأصل الّذي ذكر «11».

______________________________

 [1] و قد خولف في مواضع، منها: الترتيب في الأذان، و منها: رفع اليدين بالتكبيرات، عند المرتضى، و: وجوب الطهارة للصلاة المندوبة. (منه رحمه اللّه).

______________________________

 (1) القواعد و الفوائد: 1- 323- قاعدة 116.

(2) القواعد و الفوائد: 1- 353- قاعدة 135.

 (3) القواعد و الفوائد: 1- 356- قاعدة 136.

 (4) كذا في المصدر، و في النسخ: ارتباطه. بدل: أن تناط.

 (5) القواعد و الفوائد: 1- 358- قاعدة 139.

 (6) القواعد و الفوائد: 2- 223- قاعدة 229.

 (7) القواعد و الفوائد: 2- 242- قاعدة 243.

 (8) القواعد و الفوائد: 2- 261- قاعدة 254.

 (9) القواعد و الفوائد: 2- 286- قاعدة 275.

 (10) القواعد و الفوائد: 2- 303- قاعدة 288.

 (11) كذا العبارة في أ و ط، و لكنها في الأصل و ب كما يلي، و في الأكثر أخرج إلى آخره.

197
الوافية في أصول الفقه

القسم الرابع: الأخذ بالأقل عند فقد الدليل على الأكثر، ص : 198

و أنت بعد ما أحطت بشرائط العمل بالأصل، تتمكّن من معرفة الصحيح منها من غيره، بعد اطّلاعك في الجملة على الفروع الفقهية.

مثلا: قوله «الأصل في البيع اللّزوم» ليس له وجه، لأنّ خيار المجلس ممّا يعمّ أقسام البيع، و هكذا.

و الغرض من نقل جملة من مواضع استعمال الأصل، أن تمتحن نفسك في المعرفة، لتشحذ ذهنك؛ و تحقيق الأصل على هذا الوجه ممّا لا تجده في غير هذه الرسالة و اللّه أعلم.

القسم الرابع: الأخذ بالأقلّ عند فقد الدليل على الأكثر،

كما يقول بعض الأصحاب:

 «في عين الدّابة: نصف قيمتها»، و يقول الآخر: «ربع قيمتها»، فيقول المستدلّ: ثبت الربع إجماعا، فينتفي الزائد، نظرا إلى البراءة الأصليّة.

و عدّ صاحب المعتبر هذا القسم من البراءة الأصليّة «1» و ذكر في الذكرى:

أنّه راجع إليها «2».

و الحقّ: أنّه قسم من أقسام أصالة البراءة «3»، و لا وجه لعدّه قسما على حدة، إلاّ أنّي التزمت أن أورد كلّ ما عدّ في أدلّة العقل، ثمّ أذكر ما هو الحقّ فيه.

و اعلم: أنّ التمسّك بهذا القسم، لا يكاد يصحّ إلاّ أن يعلم تحقّق إجماع شرعيّ، أو دليل آخر على ثبوت الأقلّ، و إلاّ فشغل الذمّة معلوم، فيجب تحصيل العلم ببراءة الذمّة، و لا يعلم بالأقلّ، و قد عرفت ما في حجّية الأصل، إذا كان من هذا القبيل.

______________________________

 (1) المعتبر: 1- 32.

 (2) الذكرى: 5- المقدمة- الأصل الرابع- القسم الرابع.

 (3) في ط: أصل البراءة.

198
الوافية في أصول الفقه

القسم الخامس: التمسك بعدم الدليل ص : 199

القسم الخامس: التمسّك بعدم الدليل‏

، فيقال: عدم الدليل على كذا، فيجب انتفاؤه.

قال في المعتبر: «و هذا يصحّ فيما علم أنّه لو كان هناك دليل لظفر به، أمّا لا مع ذلك: فيجب التوقّف، و لا يكون ذلك الاستدلال حجّة» «1».

و كلامه في غاية الجودة، ففيما تعمّ به البلوى: يمكن التمسّك بهذه الطريقة؛ و أمّا في غيره فيحتاج إلى المقدّمتين المذكورتين، و لا يتمّ إلاّ ببيانهما، مع استحالته عندنا، لما عرفت، فلا نعيده.

قال في الذكرى: «و مرجع هذا القسم إلى أصالة البراءة» «2».

و الظاهر: أنّ الفقهاء يستدلون بهذه الطريقة على نفي الحكم الواقعي، و بأصالة البراءة على عدم تعلّق التكليف، و إن كان هناك حكم في نفس الأمر، فلذا عدّا قسمين.

و اختلف العامّة في: أنّ عدم المدرك، هل هو مدرك شرعي لعدم الحكم؟ أو لا؟ «3».

و قد عرفت ممّا مرّ جليّة الحال.

و الحقّ عندنا: أنّه لا توجد واقعة إلاّ و لها مدرك شرعيّ، ببركات أئمة الهدى عليهم السلام، و لا أقلّ من اندراجها في: «ما حجب اللّه علمه عن العباد فهو موضوع عنهم»، و في: «كلّ شي‏ء مطلق حتّى يرد فيه نهي»، و في: اخبار التوقّف، و غير ذلك ممّا مرّ، فلا تغفل‏ «4».

______________________________

 (1) المعتبر: 1- 32.

 (2) الذكرى: 5- المقدمة- الأصل الرابع- القسم الثالث.

 (3) المحصول: 2- 581.

 (4) تقدم تخريج هذه الأحاديث فلاحظ.

199
الوافية في أصول الفقه

القسم السادس: استصحاب حال الشرع ص : 200

القسم السادس: استصحاب حال الشرع‏

، و هو التمسّك بثبوت ما ثبت في وقت، أو حال على بقائه فيما بعد ذلك الوقت، و في غير تلك الحال، فيقال: إنّ الأمر الفلاني قد كان، و لم يعلم عدمه، و كلّ ما هو كذلك فهو باق.

و قد اختلف فيه العامّة بينهم، فنفته جماعة و أثبتته أخرى‏ «1»، و اختاره منّا العلاّمة رحمه اللّه‏ «2»، و نسب اختياره إلى الشيخ المفيد أيضا «3» و سيجي‏ء، و أنكره المرتضى‏ «4»، و الأكثر.

حجّة المثبتين: أنّ ما تحقّق وجوده، و لم يظنّ طروّ مزيل له، فإنّه يحصل الظنّ ببقائه و بأنّه ثبت الإجماع على اعتباره في بعض المسائل؛ فيكون حجّة.

و فيه: أنّه بناء على حجّية مطلق الظنّ، و هو عندنا غير ثابت، و المسائل الّتي ذكروها ليست ممّا نحن فيه، كما ستطّلع عليه.

و حجّة النافين: أنّ الأحكام الشرعيّة لا تثبت إلاّ بالأدلّة المنصوبة «5» من قبل الشارع، و الاستصحاب ليس منها.

و لتحقيق المقام لا بدّ من إيراد كلام يتّضح به حقيقة الحال فنقول:

الأحكام الشرعيّة تنقسم إلى ستة أقسام:

______________________________

 (1) فهو حجّة عند الشافعي و المزني و الصيرفي و الغزالي و الآمدي و البيضاوي، خلافا للحنفيّة و جماعة من المتكلمين كأبي الحسين و غيره، فانه لا يثبت به حكم شرعي عندهم، نعم تمسكوا به في النفي الأصلي. انظر: المستصفى: 1- 217، الإحكام: 4- 367، شرح العضد:

2- 453، الإبهاج: 3- 168، شرح البدخشي: 3- 176.

 (2) تهذيب الوصول: 105.

 (3) معالم الدين: 231.

 (4) الذريعة: 2- 829- 832.

 (5) في ط: المنصوصة.

200
الوافية في أصول الفقه

القسم السادس: استصحاب حال الشرع ص : 200

الأوّل و الثاني: الأحكام الاقتضائية المطلوب فيها الفعل، و هي الواجب و المندوب.

و الثالث و الرابع: الاقتضائية المطلوب فيها الكفّ و الترك، و هي الحرام و المكروه.

و الخامس: الأحكام التخييريّة الدالّة على الإباحة.

و السادس: الأحكام الوضعيّة، كالحكم على الشي‏ء بأنّه سبب لأمر، أو شرط له أو مانع عنه. و المضايقة بمنع أنّ الخطاب الوضعيّ داخل في الحكم الشرعيّ- ممّا لا يضرّ فيما نحن بصدده.

إذا عرفت هذا! فإذا ورد أمر بطلب شي‏ء، فلا يخلو إمّا أن يكون موقّتا، أو لا.

و على الأوّل: يكون وجوب ذلك الشي‏ء أو ندبه في كلّ جزء من أجزاء ذلك الوقت، ثابتا بذلك الأمر؛ فالتمسّك حينئذ في ثبوت ذلك الحكم في الزمان الثاني- بالنصّ، لا بالثبوت في الزمان الأوّل، حتّى يكون استصحابا، و هو ظاهر.

و على الثاني: أيضا كذلك، إن قلنا بإفادة الأمر التكرار، و إلاّ فذمّة المكلّف مشغولة حتّى يأتي به في أيّ زمان كان، و نسبة أجزاء الزمان إليه نسبة واحدة في كونه أداء في كلّ جزء منها، سواء قلنا بأنّ الأمر للفور، أو لا.

و التوهّم بأنّ الأمر إذا كان للفور، يكون من قبيل المؤقّت المضيّق؛ اشتباه غير مخفيّ على المتأمّل.

فهذا أيضا ليس من الاستصحاب في شي‏ء.

و لا يمكن أن يقال: بأنّ إثبات الحكم في القسم الأوّل فيما بعد وقته- من الاستصحاب؛ فإنّ هذا لم يقل به أحد، و لا يجوز إجماعا.

و كذا الكلام في النهي، بل هو أولى بعدم توهّم الاستصحاب فيه، لأنّ مطلقه لا يفيد التكرار.

201
الوافية في أصول الفقه

القسم السادس: استصحاب حال الشرع ص : 200

و التخييريّ أيضا كذلك.

فالأحكام‏ «1» الخمسة:- المجرّدة عن الأحكام الوضعيّة- لا يتصوّر فيها الاستدلال بالاستصحاب.

و أمّا الأحكام الوضعيّة: فإذا جعل الشارع شيئا سببا لحكم من الأحكام الخمسة- كالدّلوك لوجوب الظهر، و الكسوف لوجوب صلاته، و الزلزلة لصلاتها، و الإيجاب و القبول لإباحة التصرفات و الاستمتاعات في الملك و النكاح، و فيه لتحريم أمّ الزوجة «2»، و الحيض و النفاس لتحريم الصوم و الصلاة، إلى غير ذلك- فينبغي أن ينظر إلى كيفيّة سببيّة السبب، هل هي على الإطلاق؟ كما في الإيجاب و القبول، فإنّ سببيّته على نحو خاصّ، و هو الدوام إلى أن يتحقّق مزيل، و كذا الزلزلة؛ أو في وقت معيّن، كالدلوك و نحوه ممّا لم يكن السبب وقتا، و كالكسوف و الحيض و نحوهما ممّا يكون السبب وقتا للحكم، فإنّ السببيّة في هذه الأشياء على نحو آخر، فإنّها أسباب للحكم في أوقات معيّنة، و جميع ذلك ليس من الاستصحاب في شي‏ء، فإنّ ثبوت الحكم في شي‏ء من أجزاء الزمان الثابت فيه الحكم ليس تابعا للثبوت في جزء آخر، بل نسبة السبب في اقتضاء الحكم في كلّ جزء نسبة واحدة.

و كذا الكلام في الشرط و المانع.

فظهر ممّا مرّ: أنّ الاستصحاب المختلف فيه لا يكون إلاّ في الأحكام الوضعيّة- أعني: الأسباب، و الشرائط، و الموانع، للأحكام الخمسة- من حيث أنّها كذلك [1]، و وقوعه في الأحكام الخمسة إنّما هو بتبعيّتها، كما يقال في الماء الكرّ المتغيّر بالنجاسة، إذا زال تغيّره من قبل نفسه: بأنّه يجب الاجتناب‏

______________________________

 [1] قيد الحيثية لجواز ان يكون حكم من الأحكام الخمسة سببا أو شرطا أو مانعا لآخر منها. (منه رحمه اللّه).

______________________________

 (1) في أ و ط: و الأحكام، و في ب: فان الأحكام.

 (2) في ط: و كذا الإيجاب و القبول لتحريم أم الزوجة.

202
الوافية في أصول الفقه

القسم السادس: استصحاب حال الشرع ص : 200

عنه‏ «1» في الصلاة، لوجوبه قبل زوال تغيّره، فإنّ مرجعه إلى: أنّ النجاسة كانت ثابتة قبل زوال تغيّره، فتكون كذلك بعده، و يقال في المتيمّم إذا وجد الماء في أثناء الصلاة: إنّ صلاته كانت صحيحة قبل الوجدان، فكذا بعده، أي: كان مكلّفا و مأمورا بالصلاة بتيمّمه قبله، فكذا بعده، فإنّ مرجعه إلى: أنّه كان متطهّرا قبل وجدان الماء، فكذا بعده، و الطهارة من الشروط.

فالحقّ- مع قطع النّظر عن الروايات-: عدم حجّية الاستصحاب، لأنّ العلم بوجود السبب أو الشرط أو المانع في وقت، لا يقتضي العلم بل و لا الظنّ بوجوده في غير ذلك الوقت، كما لا يخفى، فكيف يكون الحكم المعلّق عليه ثابتا في غير ذلك الوقت؟! فالذي يقتضيه النّظر، بدون ملاحظة الروايات: أنّه إذا علم تحقّق العلامة الوضعيّة، تعلّق الحكم بالمكلّف، و إذا زال ذلك العلم، بطروّ شكّ- بل و ظنّ أيضا «2»- يتوقّف عن الحكم بثبوت الحكم الثابت أوّلا.

إلاّ أنّ الظاهر من الأخبار: أنّه إذا علم وجود شي‏ء، فإنّه يحكم به، حتّى يعلم زواله.

روى زرارة، في الصحيح، عن الباقر عليه السلام: «قال: قلت له:

الرّجل ينام و هو على وضوء، أ توجب الخفقة، و الخفقتان عليه الوضوء؟ فقال:

يا زرارة، قد تنام العين و لا ينام القلب و الأذن، فإذا نامت العين و الأذن و القلب فقد وجب الوضوء.

قلت: فإن حرّك إلى جنبه شي‏ء و لم يعلم به؟ قال: لا، حتّى يستيقن أنّه قد نام، حتّى يجي‏ء من ذلك أمر بيّن، و إلاّ فإنّه على يقين من وضوئه، و لا ينقض اليقين أبدا بالشك، و لكن ينقضه بيقين آخر» «3».

______________________________

 (1) كذا في أ، و في سائر النسخ: منه.

 (2) في ط: بطروّ ظنّ بل شكّ أيضا.

 (3) التهذيب: 1- 8 ح 11.

203
الوافية في أصول الفقه

القسم السادس: استصحاب حال الشرع ص : 200

فإنّ اليقين و الشك عام، أو مطلق ينصرف إلى العموم، في مثل هذه المواضع، بل صرّح الشارح الرضيّ رحمه اللّه: بأنّ الجنس المعرّف باللاّم‏ «1» أو الإضافة للعموم، و أدرجه ابن الحاجب في مختصره‏ «2» في ألفاظ العموم من غير نقل خلاف فيه، ثمّ ذكر ألفاظا اختلف في عمومها.

و مع التنزّل عن ذلك، فالظاهر هنا العموم، فإنّه عليه السلام استدل على أنّ الوضوء اليقينيّ لا ينقض بشكّ النوم، بقوله: «و لا تنقض اليقين أبدا بالشكّ»، و لو كان مراده أن لا ينقض يقين الوضوء أبدا بشكّ النوم، كان عينا للمقدّمة الأولى، فقانون الاستدلال يقتضي أن يكون عامّا.

و أيضا: فإنّ حمل المعرّف باللاّم هنا على العهد، يحتاج إلى قرينة مانعة عن الحمل على الجنس، و ليست متحقّقة.

قال الرضيّ، في أوائل بحث المعرفة و النكرة: «فكلّ اسم دخله اللاّم لا يكون فيه علامة كونه بعضا من كلّ فينظر ذلك الاسم، فإن لم تكن معه قرينة حاليّة و لا مقاليّة دالّة على أنّه بعض مجهول من كلّ- كقرينة الشراء الدّالة على أنّ المشتري بعض في قولك (اشتر اللحم)، و لا دلالة على أنّه بعض معيّن كما في قوله تعالى: أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً‏ «3»- فهي اللاّم الّتي جي‏ء بها للتعريف اللفظي، و الاسم المحلّى بها لاستغراق الجنس» ثمّ شرع في الاستدلال على وجوب حمله على الاستغراق، ثمّ قال: «فعلى هذا، قوله عليه السلام «الماء طاهر» أي‏ «4»: كلّ الماء، و «النوم حدث» أي: كلّ النوم، إذ ليس في الكلام قرينة البعضيّة، لا مطلقة و لا معيّنة- ثمّ ذكر- قوله تعالى: إِنَ‏

______________________________

 (1) شرح الكافية: 2- 129.

 (2) شرح العضد: 1- 215 (لاحظ المتن).

 (3) سورة طه- 10.

 (4) كلمة (أي): ساقطة من الأصل، و أثبتناها من سائر النسخ.

204
الوافية في أصول الفقه

القسم السادس: استصحاب حال الشرع ص : 200

الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا «1» أي: كلّ واحد منهم» «2».

و قال العلاّمة التفتازاني في المطوّل، في بحث تعريف المسند إليه باللاّم:

 «اللفظ إذا دلّ على الحقيقة باعتبار وجودها في الخارج، فإمّا أن يكون لجميع الأفراد، أو لبعضها، إذ لا واسطة بينهما في الخارج، فإذا لم يكن للبعضيّة، لعدم دليلها، وجب أن يكون للجميع، و إلى هذا ينظر صاحب الكشّاف، حيث يطلق لام الجنس على ما يفيد الاستغراق، كما ذكر في قوله تعالى: إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ أنّه للجنس، و قال في قوله: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ «3»: إنّ اللاّم للجنس، فيتناول كلّ محسن» «4».

و لا يخفى: أنّ قوله «لعدم دليلها» صريح في أنّ حمل لام الجنس على البعض يحتاج إلى الدليل، دون حمله على الجميع.

ثم لا يخفى: أنّ (اليقين) و (الشك) ممّا لا يمكن اجتماعهما في وقت واحد، فالمراد أنّه إذا تيقّن وجود أمر، يجب الحكم بوجوده، إلى أن يتحقّق يقين آخر يعارضه.

و صحيحة أخرى لزرارة أيضا، و في آخرها: «قلت: فإن ظننت أنّه قد أصابه، و لم أتيقّن ذلك، فنظرت فلم أر شيئا ثمّ صلّيت فرأيت فيه؟ قال:

تغسله و لا تعيد الصلاة. قلت: لم ذلك؟ قال: لأنّك كنت على يقين من طهارتك، ثمّ شككت، فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبدا.

قلت: فإنّي قد علمت أنّه قد أصابه، و لم أدر أين هو، فأغسله؟ قال: تغسل من ثوبك الناحية الّتي ترى أنّه قد أصابها، حتّى تكون على يقين من طهارتك»

______________________________

 (1) العصر- 2.

 (2) شرح الكافية: 2- 129.

كذا في أ و ب و ط، و في الأصل: أي إلاّ كل واحد منهم.

 (3) البقرة- 195، و المائدة- 13.

 (4) المطوّل: 81.

205
الوافية في أصول الفقه

القسم السادس: استصحاب حال الشرع ص : 200

تمام الحديث‏ «1».

و هاهنا أيضا: لا يمكن حمل (اليقين) على يقين طهارة الثوب، و (الشكّ) على الشكّ في نجاسة الثوب، بلا معارض أصلا، لما مرّ.

و في الكافي، في باب السهو في الثلاث و الأربع‏ «2»، في الصحيح: «عن زرارة، عن أحدهما عليهما السلام، قال: قلت له: من لم يدر في أربع هو، أم في ثنتين، و قد أحرز الثنتين، قال: يركع ركعتين- إلى أن قال-: و لا ينقض اليقين بالشكّ، و لا يدخل الشكّ في اليقين، و لا يخلط أحدهما بالآخر، و لكنّه ينقض الشكّ باليقين، و يتمّ على اليقين، فيبني عليه، و لا يعتدّ بالشكّ في حال من الحالات» «3».

و دلالته على العموم غير خفيّة.

و في التهذيب: «عن بكير، قال: قال لي أبو عبد اللّه عليه السلام: إذا استيقنت أنّك قد توضأت، فإيّاك أن تحدث وضوءا أبدا حتّى تستيقن أنّك قد أحدثت» «4».

و روى عمّار في الموثّق: «عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال: كلّ شي‏ء طاهر، حتّى تعلم أنّه قذر، فإذا علمت فقد قذر، و ما لم تعلم فليس عليك» «5».

و روى عبد اللّه بن سنان، في الصحيح: «قال سأل رجل أبا عبد اللّه عليه السلام، و أنا حاضر: إنّي أعير الذميّ ثوبي، و أنا أعلم أنّه يشرب الخمر، و يأكل لحم الخنزير، فيردّه عليّ، فأغسله قبل أن أصلّي فيه؟ فقال أبو عبد اللّه عليه‏

______________________________

 (1) التهذيب: 1- 421 ح 1335، الاستبصار: 1- 183 ح 641.

 (2) في النسخ: «باب السهو في الفجر و المغرب و الجمعة» و هو سهو.

 (3) الكافي: 3- 351- باب السهو في الثلاث و الأربع- ح 3.

 (4) التهذيب: 1- 102 ح 268.

 (5) التهذيب: 1- 284- 285 ح 832. لكن فيه: نظيف. بدل: طاهر.

206
الوافية في أصول الفقه

القسم السادس: استصحاب حال الشرع ص : 200

السلام: صلّ فيه، و لا تغسله من أجل ذلك، فإنّك أعرته إيّاه و هو طاهر، و لم تستيقن أنّه نجّسه، فلا بأس أن تصلّي فيه، حتّى تستيقن أنّه نجّسه» «1».

و روى ضريس، في الصحيح: «قال: سألت أبا جعفر عليه السلام، عن السمن و الجبن نجده في أرض المشركين بالروم، أ نأكله؟ فقال: أمّا ما علمت أنّه قد خلطه الحرام، فلا تأكل، و أمّا ما لم تعلم فكله، حتّى تعلم أنّه حرام» «2».

و روى عبد اللّه بن سنان، في الصحيح: «قال: قال أبو عبد اللّه عليه السلام: كلّ شي‏ء يكون فيه حرام و حلال، فهو لك حلال أبدا، حتّى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه» «3».

و روى مسعدة بن صدقة، في الموثّق: «عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال:

سمعته يقول: كلّ شي‏ء هو لك حلال، حتى تعلم أنّه حرام بعينه، فتدعه من قبل نفسك، و ذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته، و هو سرقة، أو المملوك عندك و لعلّه حرّ قد باع نفسه، أو خدع فبيع، أو قهر، أو امرأة تحتك و هي أختك أو رضيعتك. و الأشياء كلّها على هذا، حتّى يستبين لك غير ذلك، أو تقوم به البيّنة» «4».

و روي بعدّة طرق، عن الصادق عليه السلام: «كلّ ماء طاهر حتّى يستيقن أنّه قذر» «5».

لا يقال: هذه الأخبار الأخيرة إنّما تدلّ على حجّيّة الاستصحاب في‏

______________________________

 (1) التهذيب: 2- 361 ح 1495. لكن فيه: أبي. بدل: رجل.

 (2) التهذيب: 9- 79 ح 336.

 (3) الكافي: 5- 313- كتاب المعيشة- باب النوادر- ح 39، التهذيب: 7- 226 ح 988، و 9- 79 ح 337.

 (4) الكافي: 5- 313- كتاب المعيشة- باب النوادر- ح 40، التهذيب: 7- 226 ح 989.

 (5) المروي في الكافي: 3- 1 ح 2، 3؛ و التهذيب: 1- 215 ح 619 هو: «الماء كلّه طاهر حتى يعلم انه قذر».

207
الوافية في أصول الفقه

و ينبغي أن يعلم: أن للعمل بالاستصحاب شروطا: ص : 208

مواضع مخصوصة، فلا تدلّ على حجّيته على الإطلاق.

لأنّا نقول: الحال على ما ذكرت من ورودها «1» في موارد مخصوصة، إلاّ أنّ العقل يحكم من بعض الأخبار الدالّة على حجّيّته مطلقا، و من حكم الشارع به‏ «2» في مواضع مخصوصة كثيرة- كحكمه باستصحاب الملك، و جواز الشهادة به، حتّى يعلم الرافع‏ «3»، و البناء على الاستصحاب في بقاء الليل و النهار، و عدم جواز قسمة تركة الغائب و لو مضى زمان يظنّ عدم بقائه، و عدم تزويج زوجاته، و جواز عتق العبد الآبق من‏ «4» الكفارة، إلى غير ذلك ممّا لا يحصى كثرة- بأنّ الحكم في خصوص هذه المواضع بالبناء على الحالة السابقة ليس لخصوص هذه الموانع، بل لأنّ اليقين لا يرفعه إلاّ يقين مثله.

و ينبغي أن يعلم: أنّ للعمل بالاستصحاب شروطا:

الأوّل: أن لا يكون هناك دليل شرعيّ آخر

، يوجب انتفاء الحكم الثابت أوّلا في الوقت الثاني، و إلاّ فيتعيّن العمل بذلك الدليل إجماعا.

الثاني: أن لا يحدث في الوقت الثاني أمر يوجب انتفاء الحكم الأوّل،

فالعامل بالاستصحاب ينبغي له غاية الملاحظة في هذا الشرط.

مثلا: في مسألة من دخل في الصلاة بالتيمّم ثمّ وجد الماء في أثناء الصلاة، ينبغي للقائل بالبناء على تيمّمه و إتمام الصلاة للاستصحاب، ملاحظة النصّ الدالّ على أنّ التمكّن من استعمال الماء ناقض للتيمّم، هل هو مطلق؟ أو عامّ؟ بحيث يشمل هذه الصورة؟ أو لا؟ فإن كان الأوّل،

______________________________

 (1) كذا في ط، و في سائر النسخ: من أنّ ورودها.

 (2) كلمة (به): ساقطة من الأصل، و قد أثبتناها من سائر النسخ.

 (3) كذا في أ و ب و ط. و في الأصل: الواقع.

 (4) كذا في النسخ. و لعلها تصحيف: عن.

208
الوافية في أصول الفقه

الثالث: أن لا يكون هناك استصحاب آخر معارض له، يوجب نفي الحكم الأول في الثاني ص : 209

فلا يجوز العمل بالاستصحاب، لأنّه حينئذ يرجع إلى فقد الشرط الأوّل حقيقة، و إلاّ فيصحّ التمسّك به.

و في مسألة من طلّق زوجته المرضعة، ثم تزوّجت بعد العدّة بزوج آخر، و حملت منه، و لم ينقطع بعد لبنها، فالحكم بأنّ اللّبن للزوج الأوّل للاستصحاب، كما فعله المحقّق في الشرائع‏ «1» و غيره- يتوقّف على ملاحظة ما دلّ على أنّ لبن المرأة، الحاصل‏ «2» من الّذي حملت منه، هل يشمل هذه الصورة؟

أو لا؟ فعلى الأوّل لا يصحّ الاستصحاب، لأنّه إمّا أن يتعيّن الحكم بالثاني، أو يصير من قبيل تعادل‏ «3» الأمارتين، فيحتاج إلى الترجيح، و على الثاني يصح.

الثالث: أن لا يكون هناك استصحاب آخر معارض له، يوجب نفي الحكم الأوّل في الثاني.

مثلا: في مسألة الجلد المطروح، قد استدلّ جماعة على نجاسته باستصحاب عدم الذبح، فإنّ في وقت حياة ذلك الحيوان يصدق عليه أنّه غير مذبوح، و لم يعلم زوال عدم المذبوحيّة، لاحتمال الموت حتف أنفه، فيكون نجسا لأنّ الطهارة حينئذ لا تكون‏ «4» إلاّ مع الذبح، فإنّ هذا الاستصحاب معارض باستصحاب طهارة الجلد الثابتة في حال حياته، إذ لم يعلم زوالها، لاحتمال الذبح، و باستصحاب عدم الموت حتف أنفه أو نحوه الثابت أولا، كعدم المذبوحيّة.

و استدل بعض آخر على النجاسة: بأنّ للذبح أسبابا حادثة، و الأصل عدم الحادث، فيكون نجسا.

و قد عرفت أيضا: أنّ أصالة العدم أيضا مشروطة بشروط، منها أن لا يكون‏

______________________________

 (1) شرائع الإسلام: 2- 282.

 (2) كذا في ط، و في الأصل و أ و ب: الحامل.

 (3) في ط: تعارض.

 (4) كذا في أ و ط، و في الأصل و ب: لا يمكن.

209
الوافية في أصول الفقه

الرابع: أن يكون الحكم الشرعي المترتب على الأمر الوضعي المستصحب ثابتا في الوقت الأول، ص : 210

مثبتا لحكم شرعيّ، مع أنّه معارض أيضا بأصالة عدم أسباب الموت أيضا.

الرابع: أن يكون الحكم الشرعيّ المترتب على الأمر الوضعي المستصحب ثابتا في الوقت الأوّل،

إذ ثبوت الحكم في الوقت الثاني، فرع لثبوت الحكم في الأوّل، فإذا لم يثبت في الزمان الأوّل، فكيف يمكن إثباته في الزمان الثاني؟! مثلا: باستصحاب عدم المذبوحيّة في المسألة المذكورة، لا يجوز الحكم بالنجاسة، لأنّ النجاسة لم تكن ثابتة «1» في الوقت الأوّل، و هو وقت الحياة [1].

و السرّ فيه: أنّ عدم المذبوحيّة لازم لأمرين: الحياة، و الموت حتف أنفه؛ و الموجب للنجاسة ليس هذا اللاّزم من حيث هو هو، بل ملزومه الثاني، أعني: الموت، فعدم المذبوحيّة لازم أعمّ لموجب النجاسة، فعدم المذبوحيّة العارض للحياة مغاير لعدم المذبوحيّة العارض للموت حتف أنفه، و المعلوم ثبوته في الزمان الأوّل هو الأوّل، لا الثاني، و ظاهر أنّه غير باق في الوقت الثاني.

ففي الحقيقة: تخرج مثل هذه الصورة من الاستصحاب، إذ شرطه بقاء الموضوع، و عدمه هنا معلوم.

و ليس مثل المتمسّك‏ «2» بهذا الاستصحاب، إلاّ مثل من تمسّك على وجود عمرو في الدار في الوقت الثاني، باستصحاب بقاء الضاحك المتحقّق بوجود زيد في الدار في الوقت الأوّل، و فساده غنيّ عن البيان.

الخامس: أن لا يكون هناك استصحاب آخر في أمر ملزوم لعدم ذلك المستصحب.

______________________________

 [1] كأنّ نظر من حكم بنجاسة الجلد المطروح على انه غير جائز الأكل لعدم العلم بالتذكية، و هو حكم بأنه ميتة، و هو يستلزم الحكم بالنجاسة، و في صحة هذه المقدمات بحث و نظر، فتأمّل.

 (منه رحمه اللّه).

______________________________

 (1) في أ و ط: بثابتة.

 (2) كذا في ب و ط، و في الأصل و أ: التمسك.

210
الوافية في أصول الفقه

الخامس: أن لا يكون هناك استصحاب آخر في أمر ملزوم لعدم ذلك المستصحب ص : 210

مثلا: إذا ثبت في الشرع أنّ الحكم بكون الحيوان ميتة، يستلزم الحكم بنجاسة المائع القليل الواقع ذلك الحيوان فيه- لا يجوز الحكم باستصحاب طهارة الماء، و لا نجاسة الحيوان في مسألة من رمى صيدا فغاب، ثمّ وجده‏ «1» في ماء قليل، يمكن استناد موته إلى الرمي و إلى الماء.

و أنكر بعض الأصحاب ثبوت هذا التلازم، و حكم بكلا الأصلين:

نجاسة الصيد، و طهارة الماء؛ و لكن قد عرفت سابقا أنّ طهارة الأشياء ليست بالاستصحاب في وقت، بل بالأصل، بمعنى: القاعدة المستفادة من الشرع، و كذا النجاسة قبل ثبوت الرافع الشرعيّ، لأنّ الحكم وقع في الأخبار في بيان تطهير «2» النجس بالغسل، في الثوب و البدن و الإناء، و إعادة الصلاة قبله، و هو صريح في بقاء النجاسة إلى حين الغسل، فيكون بقاء النجاسة إلى حين الغسل مدلولا للأخبار، فلا يكون بالاستصحاب.

و كذا وقع الأمر بإهراق الماء القليل النجس، و النهي- الظاهر في الدوام- عن التوضي و الشرب من الماء النجس‏ «3»، و هو كالصريح في استمرار النجاسة، و ورد الأمر في حقّ المربّية للصبيّ بغسل قميصها في اليوم مرّة «4»، و ورد «5» النهي عن الصلاة في الثوب المشتري من النصرانيّ قبل غسله‏ «6»، و تعجبه عليه السلام في صحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع، حين سأله عن:

 «الأرض و السطح، يصيبه البول أو ما أشبهه، هل تطهّره الشمس من غير ماء؟

قال: كيف تطهر من غير ماء؟!» «7» إلى غير ذلك، مما يدلّ على بقاء

______________________________

 (1) كذا في ط، و في الأصل و أ و ب: وجد.

 (2) كذا في ط، و في سائر النسخ: تطهر.

 (3) الكافي: 3- 10- كتاب الطهارة- باب الوضوء من سؤر الدواب و السباع و الطير- ح 6.

 (4) التهذيب: 1- 250 ح 719، الفقيه: 1- 70 ح 161.

 (5) كذا في أ و ط، و في الأصل و ب: و ورود.

 (6) التهذيب: 1- 263 ح 766، قرب الإسناد: 96.

 (7) التهذيب: 1- 273 ح 805.

211
الوافية في أصول الفقه

الخامس: أن لا يكون هناك استصحاب آخر في أمر ملزوم لعدم ذلك المستصحب ص : 210

النجاسة.

و إذا كان بقاء النجاسة إلى حين المطهّر الشرعيّ منصوصا من الروايات، فكيف يمكن القول بأنّه بالاستصحاب‏ «1»؟! ففي بعض الأمثلة المذكورة: في شرائط الاستصحاب قد انضمّ إليه أمر آخر من الأدلّة، و هو الأصل، بمعنى: القاعدة، فالأمثلة للتوضيح.

و قد يمكن اشتراط شروط اخر غير ما ذكرنا، لكنّ الجميع في الحقيقة يرجع إلى انتفاء المعارض و عدم العلم و الظنّ بالانتفاء.

قال المدقّق الأسترآبادي في الفوائد المكيّة «2»، بعد إيراد الأخبار الدّالة على الاستصحاب المذكور «3»: «لا يقال: هذه القاعدة تقتضي جواز العمل باستصحاب أحكام اللّه تعالى، كما ذهب إليه المفيد و العلاّمة من أصحابنا، و الشافعيّة قاطبة، و تقتضي بطلان قول أكثر علمائنا و الحنفيّة، بعدم جواز العمل به؛ لأنّا نقول: هذه شبهة عجز عن جوابها كثير من فحول الأصوليين و الفقهاء، و قد أجبنا عنها في الفوائد المدنيّة «4»:

تارة بما ملخصه: أنّ صور الاستصحاب المختلف فيها عند النّظر الدّقيق و التحقيق، راجعة إلى: أنّه: إذا ثبت حكم بخطاب شرعيّ في موضوع في حال من حالاته، نجريه‏ «5» في ذلك الموضوع عند زوال الحالة القديمة، و حدوث نقيضها فيه؛ و من المعلوم أنّه إذا تبدّل قيد موضوع المسألة بنقيض ذلك القيد، اختلف موضوع المسألتين، فالذي سمّوه استصحابا، راجع‏

______________________________

 (1) زاد في أ في هذا الموضع: قد انضم إليه.

 (2) هذا الكتاب جزء من التراث المفقود في العصر الحاضر، و قد ذكره العلاّمة المجلسي في عداد مصادر كتابه: بحار الأنوار: 1- 20.

 (3) كذا في ط، و في سائر النسخ: المذكورة.

 (4) لاحظ ذلك في بحث الاستصحاب من الفوائد المدنية: ص 16، 17، 141 و ما بعدها، و في بحث البراءة الأصلية منه صلى اللَّه عليه و آله 137.

 (5) كذا في أ، و في الأصل و ب: بجريه، و في ط: تجريه.

212
الوافية في أصول الفقه

الخامس: أن لا يكون هناك استصحاب آخر في أمر ملزوم لعدم ذلك المستصحب ص : 210

بالحقيقة إلى إسراء حكم إلى موضوع آخر، يتّحد معه بالذات و يغايره بالقيد و الصفات؛ و من المعلوم عند الحكيم، أنّ هذا المعنى غير معتبر شرعا، و أنّ القاعدة الشريفة المذكورة غير شاملة له.

و تارة: بأنّ استصحاب الحكم الشرعيّ، و كذا الأصل، أي: الحالة الّتي إذا خلّي الشي‏ء و نفسه كان عليها، إنّما يعمل بهما ما لم يظهر مخرج عنهما، و قد ظهر في محالّ النزاع. بيان ذلك: أنّه تواترت الأخبار عنهم عليهم السلام، بأن كلّ ما يحتاج إليه الأمّة إلى يوم القيامة، ورد فيه خطاب و حكم، حتّى أرش الخدش، و كثير ممّا ورد مخزون عند أهل الذّكر عليهم السلام‏ «1»، فعلم أنّه ورد في محالّ‏ «2» النزاع أحكام نحن لا نعلمها بعينها، و تواترت الأخبار عنهم عليهم السلام بحصر المسائل في ثلاث: بيّن رشده، و بيّن غيّه، أي: مقطوع به لا ريب فيه، و ما ليس هذا و لا ذاك، و بوجوب‏ «3» التوقّف في الثالث» «4» انتهى كلامه بألفاظه.

و لا يخفى عليك ضعف هذين الجوابين:

أمّا الأوّل: فلأنّه ظاهر أنّ مورد الروايات بعدم نقض الشكّ لليقين، إنّما هو إذا تغيّر وصف الموضوع، بأن يعرض له أمر يجوّز العقل رفعه به، كالخفقة و الخفقتين للوضوء، و ظنّ إصابة النجاسة لطهارة الثوب في لبس الذمّي الثوب، و نحو ذلك، فإن سلّم تبدّل وصف الموضوع في هذه المواضع، تكون الأخبار المذكورة حجّة عليه، و إلاّ فنحن لا نتمسّك بالاستصحاب، إلاّ فيما علم وجود أمر في وقت، و تجدد في وقت آخر أمر يجوّز العقل أن يكون رافعا

______________________________

 (1) الكافي: 1- 238- 242- كتاب الحجّة- باب فيه ذكر الصحيفة و الجفر و الجامعة و مصحف الزهراء عليها السلام.

 (2) في أ: محل.

 (3) كذا في أ و ب و ط، و في الأصل: فبوجوب.

 (4) كما في مقبولة عمر بن حنظلة: الكافي: 1- 68 ح 10.

213
الوافية في أصول الفقه

الخامس: أن لا يكون هناك استصحاب آخر في أمر ملزوم لعدم ذلك المستصحب ص : 210

للأوّل، لا فيما ترتّب حكم على أمر موصوف بصفة، بحيث يكون الحكم مترتّبا على المركّب من الموصوف و الصفة جميعا، ثمّ زالت الصفة في الوقت الثاني، فإنّا لا نحكم ببقاء ذلك الحكم في الوقت الثاني، و هو ظاهر.

و أمّا الثاني: فلأنّا لا نسلّم أنّه داخل في الشبهة، بل هو داخل في ال (بيّن رشده)، لأنّ الأخبار ناطقة بأنّ الحكم السابق باق إلى أن يعلم زواله، و لا يزول بسبب الشك. و هذا أظهر.

و قال هذا الفاضل في الفوائد المدنيّة، في أغلاط المتأخرين من الفقهاء- بزعمه-: «من جملتها: أنّ كثيرا منهم، زعموا أنّ قوله عليه السلام: «لا ينقض اليقين بالشّك أبدا، و إنّما تنقضه بيقين آخر» جار في نفس أحكامه تعالى [1]، و من جملتها: أنّ بعضهم توهّم أنّ قوله عليه السلام: «كلّ شي‏ء طاهر، حتّى تستيقن أنّه قذر» يعمّ صورة الجهل بحكم اللّه تعالى، فإذا لم نعلم أنّ نطفة الغنم طاهرة أو نجسة، نحكم بطهارتها، و من المعلوم أنّ مرادهم عليهم السلام، أنّ كلّ صنف فيه طاهر و فيه نجس، كالدّم و البول و اللحم و الماء و اللبن و الجبن، ممّا لم يميّز الشارع بين فرديه بعلامة، فهو طاهر، حتّى تعلم أنّه نجس، و كذلك كلّ صنف فيه حلال و حرام، ممّا لم يميّز الشارع بين فرديه بعلامة، فهو لك حلال، حتّى تعلم الحرام بعينه فتدعه» انتهى كلامه‏ «1».

______________________________

 [1] قال المحدث البحراني في معرض ردّه على ما أفاده الأمين الأسترآبادي من بطلان القول بالاستصحاب: «السادس: قوله و من القسم الثاني من الاختلاف ذهاب شيخنا المفيد قدس سره إلى جواز العمل بالاستصحاب إلى آخره فانّ فيه: انه و ان كرر ذلك في غير موضع من هذا الكتاب- يعني به الفوائد المدنية- و شنّع به على من عمل به من الأصحاب إلاّ انه وقع فيما شنّع به، و من عاب استعاب، كما وقفت عليه من كلامه في حاشية [حاشيته ظ] على شرح المدارك و إن تستّر ببعض التمويهات و التشبيهات التي هي أوهن من بيت العنكبوت، و قد نقلنا كلامه المشار إليه في درّة الاستصحاب، فارجع إليه يظهر لك ما فيه من العجب العجاب و اللّه الهادي إلى جادّة الصواب». الدرر النجفيّة: 92، و لاحظ: درّة الاستصحاب في ص 73 منه.

______________________________

 (1) الفوائد المدنية: 148.

214
الوافية في أصول الفقه

الخامس: أن لا يكون هناك استصحاب آخر في أمر ملزوم لعدم ذلك المستصحب ص : 210

و لا يخفى عليك ما في كلامه، فإنّ قوله عليه السلام: «كلّ شي‏ء طاهر حتّى تستيقن أنّه قذر» عامّ شامل، لما إذا كان الجهل بوصول النجاسة، أو بأنّه في الشرع هل هو طاهر؟ أو نجس؟.

مع أنّ الأوّل يستلزم الثاني للجاهل، فإنّ المسلم إذا أعار ثوبه للذمّي الّذي يشرب الخمر و يأكل لحم الخنزير، ثمّ ردّه عليه، فهو جاهل بأنّ مثل هذا الثوب الّذي هو مظنّة النجاسة، هل هو ممّا يجب التنزّه عنه في الصلاة، و غيرها ممّا يشترط بالطّهارة؟ أو لا؟ فهو جاهل بالحكم الشرعيّ، مع أنّه عليه السلام قرر في الجواب قاعدة كلّية، بأنّ ما لم تعلم نجاسته، فهو طاهر، و الفرق بين الجهل بحكم اللّه تعالى إذا كان تابعا للجهل بوصول النجاسة، و بينه إذا لم يكن كذلك، كالجهل بنجاسة نطفة الغنم، مما لا يمكن إقامة دليل عليه.

و أيضا: قد عرفت ممّا مرّ في القسم الثالث، أنّ الطهارة في جميع ما لم يظهر مخرج عنها- قاعدة مستفادة من الشرع.

و أيضا: فرقه بين نطفة الغنم، و بين البول و الدّم و اللحم و غيرها، تحكّم ظاهر، فإنّ النطفة أيضا منها طاهرة، كنطفة غير ذي النّفس، و منها نجسة.

و من العجب حكمه بالطهارة فيما إذا وقع الشكّ في بول الفرس هل هو طاهر؟ أو نجس؟ و حكمه بنجاسة نطفة الغنم عند الشك!.

و كذا الكلام في الحلال و الحرام.

فإن قلت: قوله عليه السلام: «كلّ شي‏ء طاهر، حتّى تستيقن أنّه قذر» ظاهر في جواز البناء في جميع الأشياء على الطهارة، حتّى يعلم بالنجاسة، من غير فحص عن‏ «1» المعارض، مع أنّ البناء على أصل الطهارة في نفس الأحكام‏ «2» من المسائل الاجتهاديّة، الّتي يحتاج ترجيحها إلى الفحص عن عدم المعارض.

______________________________

 (1) كلمة (عن): إضافة من ب.

 (2) في أ و ط: الحكم.

215
الوافية في أصول الفقه

الخامس: أن لا يكون هناك استصحاب آخر في أمر ملزوم لعدم ذلك المستصحب ص : 210

و أيضا: على هذا يلزم معذوريّة من صلّى مع البول مثلا، عالما بأنّه بول غير المأكول، إذا جهل نجاسة البول.

فيجب أن يكون المراد من الحديث معذوريّة الجاهل بإصابة النجاسة لثوبه أو بدنه أو نحو ذلك، لا معذوريّة الجاهل مطلقا.

قلت:

أوّلا: بإمكان التزام معذوريّة الجاهل بالنجاسة مطلقا، من غير فحص لهذه الروايات.

و ثانيا: بالتزام معذوريّة الجاهل بالنجاسة مطلقا، إذا كان غافلا عن الحكم بالكلّية، و عدم معذوريّة من سمع الحكم مثل نجاسة البول، و إن لم يصدّق به، بل حينئذ يلزمه التفحّص حتّى يظهر عليه الحكم الواقعي، و لو بعدم الاطّلاع على النجاسة بعد الفحص، فإنّ مقتضاه الحكم بالطهارة.

و ثالثا: بأنّ ظاهر هذا الحديث، و إن اقتضى عدم وجوب الفحص مطلقا، إلاّ أنّه مخصّص بما دلّ على لزوم الفحص عن المعارض، في حقّ المجتهد في نفس الحكم، حتّى يجوز له الحكم بالطهارة.

و رابعا: بالتزام لزوم الفحص، سواء جهل بأصل النجاسة، أو بإصابتها، إذا كان موجبا للجهل بحكم اللّه، لأنّه من قبيل الاجتهاد، فمن علم أنّ ظنّ النجاسة لا اعتبار به شرعا، لا يلزمه الفحص عن ثوبه، هل أصابته النجاسة؟ أو لا؟ و قد دلّ عليه بعض الروايات، و من لم يعلم ذلك، و ظنّ نجاسة ثوبه، لا يبعد أن يقال: إنّه يلزمه السؤال إن كان عاميّا، و الفحص عن أنّه هل ورد الشرع باجتناب مثل ذلك؟ أو لا؟ إن كان مجتهدا.

و اعلم: أنّ الشهيد الأوّل قال في قواعده: «البناء على الأصل، و هو استصحاب ما سبق، أربعة أقسام:

أحدها: استصحاب النفي في الحكم الشرعيّ، إلى أن يرد دليل، و هو المعبّر عنه بالبراءة الأصليّة.

216
الوافية في أصول الفقه

الخامس: أن لا يكون هناك استصحاب آخر في أمر ملزوم لعدم ذلك المستصحب ص : 210

و ثانيها: استصحاب حكم العموم إلى ورود مخصّص، و حكم النصّ إلى ورود ناسخ، و هو إنّما يتمّ بعد استقصاء البحث عن المخصّص و الناسخ.

و ثالثها: استصحاب حكم ثبت شرعا- كالملك عند ورود سببه‏ «1»، و شغل الذمّة عند إتلاف مال أو التزام- إلى أن يثبت‏ «2» رافعه.

و رابعها: استصحاب حكم الإجماع في مواضع النزاع، كما نقول:

الخارج من غير السبيلين لا ينقض الوضوء، للإجماع على أنّه متطهّر قبل هذا الخارج، فيستصحب؛ إذ الأصل في كلّ متحقّق دوامه، حتّى يثبت معارض، و الأصل عدمه» «3».

و مثله قال الشهيد الثاني في كتاب تمهيد القواعد «4».

و لا يخفى عليك الحال في القسم الأوّل، فإنّه قد مرّ مفصّلا.

و عرفت أيضا أنّ الثاني ليس من الاستصحاب.

و أمّا الثالث: فهو من الاستصحاب، و لكنّ الفائدة في قوله:

 «استصحاب حكم ثبت شرعا» و تقييد الثبوت بالشرع، غير ظاهرة؛ لعموم أدلّة الاستصحاب على ما مرّ، فتأمّل.

و أمّا الرابع: فيجري فيه ما يجري في الثاني، من خروجه عن الاستصحاب إن كان المجمع عليه الثبوت مطلقا، و إلاّ فلا يجوز الاستصحاب.

و ما قد يستدلّ في بعض المسائل، بأنّ هذا الحكم ثابت بالإجماع، و الإجماع إنّما هو إلى هذا الوقت الخاصّ، فلا دليل عليه فيما بعده، فلم يكن‏

______________________________

 (1) في ط: عند ثبوت سببه. و في المصدر: عند وجود سببه.

 (2) كذا في أ و ط و المصدر. و في الأصل و ب: ثبت.

 (3) القواعد و الفوائد: 1- 132- 133- القاعدة الثالثة.

 (4) تميهد القواعد: 37- المقصد الخامس- قاعدة: استصحاب الحال حجة ... إلى آخره.

217
الوافية في أصول الفقه

القسم السابع: التلازم بين الحكمين، ص : 218

الحكم فيما بعده ثابتا- فهو «1» غير منقّح، فإنّه يجب التفتيش عن متن الحكم المجمع عليه، هل هو محدود إلى وقت؟ أو حال؟ أو هو مطلق غير محدود؟

فإن كان الأوّل، فالاستدلال صحيح، و إلاّ فلا، و لا يجدي‏ «2» تحقّق الخلاف في وقت، إذا كان متن الإجماع غير محدود، لأنّه يصير حجّة على المخالف.

ثمّ اعلم: أنّ حجّية الاستصحاب و العمل به، ليس مذهبا للمفيد و العلاّمة فقط من أصحابنا، بل الظاهر أنّه مذهب الأكثر، فإنّ من تتبّع كتب الفروع، سيّما في أبواب العقود «3» و الإيقاعات، يظهر عليه أنّ مدارهم في الأغلب على الاستصحاب.

يشهد بذلك شرح الشرائع للشهيد الثاني رحمه اللّه‏ «4».

و قد صرّح الشهيد الأوّل في قواعده باختياره في مواضع، منها في قاعدة اليقين‏ «5».

و نسب الشهيد الثاني اختياره في تمهيد القواعد إلى أكثر المحقّقين، حيث قال: «قاعدة: استصحاب الحال حجّة عند أكثر المحقّقين، و قد يعبّر عنه بأنّ الأصل في كلّ حادث تقديره في أقرب زمان، و بأنّ الأصل بقاء ما كان على ما كان» «6».

القسم السابع: التلازم بين الحكمين،

فإنّه إذا ثبت تلازم حكمين، و تحقّق أحدهما،

______________________________

 (1) كذا في أ و ط. و في الأصل و ب: فانه.

 (2) في ط: و إلاّ فلا يجدي ... إلى آخره.

 (3) في أ: كتب الفروع سيّما في العقود، و في ط: كتب الفروع في أبواب العقود.

 (4) المسالك: 1- 6- كتاب الطهارة- أحكام الوضوء- في شرح قوله: «أو تيقنهما».

 (5) القواعد و الفوائد: 1- 132- 141- القاعدة الثالثة: قاعدة اليقين.

 (6) تمهيد القواعد: 37.

218
الوافية في أصول الفقه

الأول: مقدمة الواجب: ص : 219

فإنّه يدلّ على تحقّق الحكم الآخر.

و التلازم قد يكون مستفادا من الشرع، كتلازم القصر في الصلاة و الإفطار في الصوم في السفر، المستفاد من قوله عليه السلام: «إذا قصرت أفطرت، و إذا أفطرت قصرت» «1».

و قد يكون مستفادا من حكم العقل، كما يقال: إنّ الأمر بالشي‏ء في وقت معيّن لا يزيد عليه، يستلزم عدم الأمر بضدّه في ذلك الوقت بعينه، و إلاّ لزم التكليف بما لا يطاق، و هو قبيح عقلا، مع قطع النّظر عن كونه منصوصا أيضا.

و هذا القسم ممّا يتوقّف‏ «2» حكم العقل فيه على ورود الخطاب الشرعيّ و يندرج فيه أمور بحسب الظاهر، فنحن نذكرها، و نبيّن ما هو الحقّ في كلّ منها.

الأوّل: مقدّمة الواجب:

و قد وقع الخلاف في أنّ وجوب الشي‏ء هل يستلزم وجوب مقدّمته؟ أي:

ما يتوقّف عليه ذلك الشي‏ء، أو لا؟

فقيل: بالتلازم مطلقا.

و قيل: لا، مطلقا.

و قيل: به إذا كانت المقدّمة سببا لا غير.

و قيل: به إذا كانت شرطا شرعيّا لا غير.

و الأوّل: مذهب أكثر القدماء و المحقّقين [1]، و لكنّ أدلّتهم المنقولة ممّا لا

______________________________

 [1] فقد قال السيد المرتضى: «اعلم أن كل من تكلّم في هذا الباب أطلق القول بأنّ الأمر بالشي‏ء

______________________________

 (1) الفقيه: 1- 437 ح 1269.

 (2) وضع ناسخ الأصل كلمة (لا) في الهامش و وضع عليها الرمز (ظ). إشارة إلى استظهار ان الصواب في العبارة هو: مما لا يتوقف. و لكنّ هذا الاستظهار كما ترى.

219
الوافية في أصول الفقه

الأول: مقدمة الواجب: ص : 219

يمكن التعويل عليها، لضعفها، كما يقال: على تقدير عدم وجوب المقدّمة، يكون تركها جائزا، فإذا تركت: فإن بقي التكليف بذي المقدّمة حينئذ، كان تكليفا بما لا يطاق، و إلاّ فيلزم خروج الواجب عن كونه واجبا، و هو محال‏ «1»، و هذا الدليل عمدة أدلّتهم، و عليه يدور أكثر أدلّتهم.

و الجواب: أنّ هذا الواجب لا يخلو: إمّا أن يكون موقّتا؟ أو لا؟

و على الأوّل: فإن تضيّق الوقت، بحيث لو أتى بالمقدّمة، لا يمكن الإتيان بذي المقدّمة إلاّ فيما بعد وقته، كالحجّ في المحرّم مثلا؛ فنختار عدم بقاء التكليف.

قوله: «يلزم خروج الواجب عن كونه واجبا».

قلنا: نعم، يلزم أن لا يكون الواجب المؤقّت واجبا بعد وقته، و لا فساد فيه، فإنّ الحجّ مثلا في غير ذي الحجّة ليس واجبا.

فإن قلت: نحن نقول: من استطاع الحجّ‏ «2»، و ترك المشي إليه بغير عذر، و طلع عليه هلال ذي الحجّة، و هو في بلدة بعيدة لا يمكنه إدراك الحجّ في هذه السنة- إن وجب عليه الحج في هذه السنة، يلزم تكليفه بالمحال عادة، و إلاّ يلزم خروج الواجب في وقته عن الوجوب.

قلت: لمّا كان وقوع الحجّ في هذه السنة في وقته محالا، عادة، فالتكليف به حينئذ ينصرف‏ «3» إلى التكليف بإيقاعه فيما بعد وقته، فنختار عدم بقاء التكليف حينئذ، و ليس إلاّ خروج الواجب بعد وقته عن الوجوب، و لا استحالة فيه، بل يتحقق‏ «4» الإثم حينئذ.

______________________________

هو بعينه أمر بما لا يتمّ ذلك الشي‏ء إلاّ به»: الذريعة: 1- 83، و ممن صرّح بالوجوب الغزالي:

المستصفى: 1- 71، و الرازي: المحصول: 1- 289.

______________________________

 (1) حكى هذا الدليل المحقق الشيخ حسن ثم ردّه: معالم الدين: 62.

 (2) كذا في ب و ط. و في الأصل: إلى الحج. و في أ: للحج.

 (3) في ط: يؤول.

 (4) كذا في أ و ب، و في الأصل و ط: تحقق.

220
الوافية في أصول الفقه

الأول: مقدمة الواجب: ص : 219

و إن كان الوقت متّسعا، أو لم يكن الواجب موقّتا، فنختار بقاء التكليف، و ليس تكليفا بالمحال، لأنّه يمكن الإتيان بالمقدّمة بعد.

على: أنّه يمكن جريان هذا «1» الدليل على تقدير وجوب المقدّمة أيضا، إذا تركها المكلّف، فتأمّل.

و استدل ابن الحاجب على وجوب الشرط الشرعيّ: بأنّه لو لم يجب لكان الآتي بالمشروط فقط آتيا بجميع ما امر به، فيجب أن يكون صحيحا، فيلزم خروج الشرط الشرعيّ عن كونه شرطا «2».

و الجواب: منع الشرطيّة، لأنّ المتأخر عن الشرط لا يتأتّى إلاّ بفعل الشرط، فليس آتيا بجميع ما امر به على تقدير عدم الإتيان بالشرط، لفوت وصف التأخّر في المشروط «3» حينئذ.

و هذه المسألة بأدلّتها من الطرفين مذكورة في كتب الأصول، كالمعالم، و غيره، و المعترض مستظهر من الجانبين، إلاّ أنّ المتتبّع- بعد الاطلاع على المدح و الذمّ الواردين في الأخبار و الآيات القرآنية على فعل مقدّمة الواجب و تركها- يحصل له ظنّ قويّ بوجوب مقدّمة الواجب مطلقا.

و اعلم: أنّه قد تطلق المقدّمة على أمور، يكون الإتيان بالواجب حاصلا في ضمن الإتيان بها، و كأنّه‏ «4» لا خلاف في وجوب هذا القسم من المقدّمة، لأنّه عين الإتيان بالواجب، بل هو منصوص في بعض الموارد، كالصلاة إلى أربع جهات عند اشتباه القبلة «5»، و الصلاة في كلّ من الثوبين عند اشتباه‏

______________________________

 (1) كلمة (هذا): زيادة من أ و ب و ط.

 (2) المنتهى: 36، شرح العضد: 1- 90- 91 (لاحظ المتن).

 (3) كذا في أ و ب و ط. و في الأصل: الشروط.

 (4) كذا في أ و ب و ط. و في الأصل: فكأنه.

 (5) الفقيه: 1- 278 ح 854.

221
الوافية في أصول الفقه

و الثاني: النهي عن الشي‏ء عند الأمر بضده الخاص ص : 222

الطاهر بالنجس‏ «1»، و غير ذلك.

و لمّا [ظهر] ضعف أدلّتهم المذكورة على وجوب مقدّمة الواجب، فلا فائدة في التعرّض لحال‏ «2» مقدّمة المندوب و الحرام و المكروه.

و الثاني: النهي عن الشي‏ء عند الأمر بضدّه الخاصّ.

و قد اختلف في أنّ الأمر بالشي‏ء، هل يستلزم النهي عن ضدّه الخاصّ؟

أو لا؟ بعد الاتّفاق على النهي عن الضدّ العامّ، أي: ترك الواجب.

و أدلّة الاستلزام ضعيفة، كما لا يخفى على من له أدنى تدبّر، فلا فائدة في ذكرها.

و الحقّ: عدم الاستلزام، للأصل، و لأنّه لو كان كذلك لتواتر، لأنّه من الأمور العامّة البلوى، على ما قال الشهيد الثاني [من‏] أنّه لو كان كذلك لم يتحقّق إباحة السفر إلاّ لأوحديّ الناس‏ «3»، لتضادّه غالبا لتحصيل العلوم الواجبة، بل قلّما ينفكّ الإنسان عن شغل الذمّة بشي‏ء من الواجبات الفوريّة، مع أنّه على ذلك التقدير موجب لبطلان الصلاة الموسّعة في غير آخر وقتها، و لبطلان النوافل اليومية و غيرها.

فلو كان الأمر بالشي‏ء مستلزما للنهي عن ضدّه الخاصّ، لتواتر عنهم عليهم السلام النهي عن أضداد الواجبات، من حيث هي كذلك، و التالي‏ «4» باطل.

______________________________

 (1) التهذيب: 2- 225 ح 887، الفقيه: 1- 249 ح 756.

 (2) في أ و ب: بحال.

 (3) روض الجنان: 388- باب سفر المعصية- كتاب الصلاة. و قد صرّح الشهيد الثاني بعدم اقتضاء الأمر بالشي‏ء النهي عن ضده الخاصّ في: تمهيد القواعد: 17، و قد بنى على ذلك في الفقه، انظر: روض الجنان: 120- مسألة ما لو كان على بدن المحدث أو ثوبه نجاسة و لم يجد من الماء إلاّ ما يكفيه لإزالة النجاسة خاصّة، و ص 204 منه- مسألة الصلاة في الثوب المغصوب، و ص 339 منه، و المسالك: 1- 25- مسألة وجوب ردّ السلام على المصلي.

 (4) في ط: و الثاني.

222
الوافية في أصول الفقه

و الثاني: النهي عن الشي‏ء عند الأمر بضده الخاص ص : 222

على أنه لم ينقل آحادا أيضا.

و بعض المتأخرين غيّر العبارة في المدّعى‏ «1»، و قال: الأمر بالشي‏ء يستلزم عدم الأمر بضدّه، و إلاّ لزم التكليف بالمحال، فيبطل الضدّ إذا كان عبادة.

و فيه أيضا نظر، ينكشف ممّا سنتلوا عليك.

فاعلم: أنّ الواجب إمّا موقّت أو غير موقّت، و كلّ منهما إمّا مضيّق أو لا، فالأقسام أربعة:

المؤقّت الموسّع، كالظهر مثلا.

و المؤقّت المضيّق، كالصوم.

و غير المؤقّت الموسّع، كالنذر المطلق على المشهور، و غيره ممّا وقته العمر.

و غير المؤقّت المضيّق، كإزالة النجاسة عن المسجد، و أداء الدّين و الحجّ و غيرها من الواجبات الفوريّة.

فنقول: قوله: «الأمر بالشي‏ء يستلزم عدم الأمر بضدّه» غير صحيح في الواجبين الموسّعين مطلقا، إذ لا يتوهّم فيه أنّه تكليف بالمحال، و هو ظاهر.

و أمّا في المؤقّتين المضيّقين فالمدّعى حقّ، إلاّ أنّه لم يرد في الشرع شي‏ء من هذا القبيل، إلاّ ما تضيّق بسبب تأخير المكلّف، كما إذا أخّر المكلّف الواجبين الموسّعين إلى أن يبقى من الوقت بقدر فعل أحدهما.

و لكن لا يخفى أنّه حينئذ لا يمكن الاستدلال على بطلان أحدهما، لتعلّق الأمر بكل منهما، و لا يتفاوت كون أحدهما أهمّ من الآخر، بل الحقّ حينئذ التخيير، و تحقّق الإثم إن كان التأخير بسبب تقصيره، بل لا يبعد أن يقال بوجوب كلّ منهما في هذا الوقت أيضا، و لا يلزم التكليف بالمحال، لأنّ حتميّة فعلهما في هذا الوقت، إنّما هي بالنظر إلى ما بعد ذلك الوقت، لا بالنظر إلى ما

______________________________

 (1) انظر: زبدة الأصول: 82- 83. و قد لمّح الشهيد الثاني إلى ذلك حيث قال: «و إرادة أحد الضدّين يستلزم عدم إرادة الآخر» المسالك: 1- 55.

223
الوافية في أصول الفقه

و الثاني: النهي عن الشي‏ء عند الأمر بضده الخاص ص : 222

قبله، لأنّ نسبة هذا الجزء من الوقت إلى هذين الواجبين، مثل نسبة أوّل الوقت و وسطه، فكما أنّ الفعلين الواجبين في أوّل الوقت و وسطه متّصفان بالوجوب من غير لزوم التكليف بالمحال- لكون الوجوب راجعا إلى التخييريّ بحسب أجزاء الوقت- فكذا في آخر الوقت أيضا، و الحتميّة- بمعنى: عدم‏ «1» جواز التأخير عنه- لا ترفع التخيير فيه بالنظر إلى ما قبله من أجزاء الوقت.

فإن قلت: إذا قصّر المكلّف، و أخّر الواجبين الموسّعين حتّى لا يبقى من وقتهما إلاّ بمقدار فعل أحدهما، فحينئذ إن وجب كلّ منهما معا في هذا الوقت، يكون تكليفا بالمحال، و لا يجدي إمكان إيقاعهما قبل هذا الوقت، لأنّ الفرض أنّه فات.

قلت: وجوبهما في هذا الوقت بالإيجاب السابق، الّذي نسبته إلى أوّل الوقت و وسطه و آخره نسبة واحدة، فكما لا يتوهّم التكليف بالمحال في الأوّلين، فكذا في الآخر.

و أمّا في المضيّقين غير المؤقّتين- كإزالة النجاسة من المسجد، و أداء الدين مثلا إذا تضادّا- فنقول:

أوّل وقت وجوبهما، قبل أن يمضي زمان يمكن فعل أحدهما فيه، لا يجوز أن يكون كلاهما واجبا عينيّا، للزوم التكليف بالمحال، بل يكون وجوبهما حينئذ تخييريا «2» إن لم يكن بينهما ترتيب، و لا يمكن الاستدلال على النهي عن‏ «3» أحدهما بسبب الأمر بالآخر، لما عرفت؛ تساويا في الأهميّة أو لا.

و أمّا إذا مضى من أوّل وقت وجوبهما بقدر فعل أحدهما، ففيه الاحتمالان المذكوران:

______________________________

 (1) كلمة (عدم): ساقطة من الأصل، و أثبتناها من سائر النسخ.

 (2) كذا في أ و ب و ط، و في الأصل: بل يكون وجوبهما تخييرا.

 (3) كذا في ب و ط، و في الأصل و أ: من.

224
الوافية في أصول الفقه

و الثاني: النهي عن الشي‏ء عند الأمر بضده الخاص ص : 222

كون وجوبهما في كلّ جزء من الزمان تخييريا «1»، لكن مع تحقّق الإثم على ترك ما تركه منهما، بسبب تقصيره في التأخير مع إمكان فعله سابقا.

و كون وجوبهما في كلّ جزء منه حتميّا بالنظر إلى ما بعده، أعني: عدم جواز تأخيرهما، لا بالنظر «2» إلى ما قبله، لإمكان فعلهما قبله.

و على أيّ تقدير، فلا يمكن الاستدلال على النهي عن‏ «3» أحدهما بسبب الأمر بالآخر:

أمّا على الأوّل: فلأنّ الأمر بأحدهما على التخيير- لا بهما معا، حتّى يتوهّم التكليف بالمحال- لكن مع تحقّق الإثم بترك ما تركه، لتقصيره بتأخيره.

و أمّا على الثاني: فلما عرفت، فتأمّل.

و أمّا في الموسّع مطلقا و المؤقّت المضيّق: فقد يتوهّم أنّ هذا الوقت المضيّق، لمّا «4» صار متعيّنا لوقوع هذا الواجب المضيّق فيه، خرج عن‏ «5» أن يكون وقتا لهذا الواجب الموسّع، فلم يتحقّق الأمر فيه بالواجب الموسّع، فإذا فعل فيه يكون باطلا، و فيه بحث، لأنّ خروجه عن وقتيّة «6» الموسّع ممنوع.

فإن قلت: فما الفائدة في جعل هذا الوقت المضيّق، الّذي ليس إلاّ بقدر الواجب المضيّق، وقتا له على التعيين، و للموسّع على التخيير؟

قلت: الفائدة فيه أنّه لو عصى المكلّف و ترك فيه الواجب المضيّق، و لكن أتى فيه بالموسّع، يكون مؤدّيا للموسّع غير فائت له‏ «7»، و كذا الكلام في الموسّع‏

______________________________

 (1) كذا في أ و ب و ط، و في الأصل: تخييرا.

 (2) أسقط حرف النفي من ط.

 (3) كذا في أ و ب و ط، و في الأصل: من.

 (4) كلمة (لمّا) ساقطة من الأصل، و أثبتناها من سائر النسخ.

 (5) في ط: من.

 (6) في أ و ط: وقته.

 (7) كذا في النسخ. و المراد: مفوّت. و قد اتفق للمصنف رحمه اللّه أمثال هذه المسامحات اللفظية في مواضع اخر من كتابنا هذا فلاحظ. و يحتمل ان يكون في المقام محذوف، و التقدير: فالموسع غير فائت له.

225
الوافية في أصول الفقه

و الثاني: النهي عن الشي‏ء عند الأمر بضده الخاص ص : 222

مطلقا، و المضيّق غير المؤقّت.

إذا عرفت هذا، عرفت أنّ القول بأنّ الأمر بالشي‏ء يستلزم عدم الأمر بضدّه- غير صحيح، إلاّ في المضيّقين المؤقّتين، و أمّا فيهما «1» فهو صحيح، لكن لم يقع من هذا القبيل شي‏ء في الشرع، و لو وقع يكون محمولا على الوجوب التخييري، فلا يمكن الاستدلال فيه أيضا على بطلان أحدهما.

ثم نقول: و هل الأمر بالشي‏ء يستلزم عدم طلب ضدّه على طريق الاستحباب؟ أو لا؟ الأظهر عدم الاستلزام فيه أيضا.

و تظهر الفائدة فيمن صلّى نافلة الزّوال في وقت الكسوف، قبل صلاة الكسوف، بحيث يفوته الفرض، فإن قلنا بالاستلزام، تكون النافلة باطلة، و يحتاج إلى الإعادة، و إلاّ فلا.

و الحقّ الثاني، إذ لا تناقض في إيجاب عبادة في وقت خاصّ، و استحباب أخرى فيه بعينه، و لا شكّ في صحّة التصريح به، من غير توهّم تناقض، بأن يقول: أوجبت عليك الفعل الفلاني في الوقت الفلاني، و ندبت عليك الفعل الفلاني في هذا الوقت بعينه، بحيث لو عصيت و تركت الفعل الّذي أوجبته عليك فيه و أتيت بما ندبت عليك فيه، كنت مذموما لتركك الواجب، و ممدوحا لفعلك المندوب؛ و لو كان وجوب الشي‏ء في وقت منافيا لاستحباب آخر فيه، لكان هذا الكلام مشتملا على التناقض، مع أنّه ليس كذلك ضرورة.

و لا يجري هذا في الواجبين المؤقّتين المضيّقين، لأنّه لا يمكن للمكلّف بهما الخلاص من الإثم على هذا التقدير، بخلاف ما نحن فيه، لأنّه يمكنه ترك النافلة.

فإن قلت: إذا علم الشارع أنّ فعل هذه النافلة مما لا ينفكّ عن‏

______________________________

 (1) كذا الظاهر، و في النسخ: و فيه.

226
الوافية في أصول الفقه

و الثاني: النهي عن الشي‏ء عند الأمر بضده الخاص ص : 222

العصيان، يقبح منه طلبها.

قلت: الموجب للعصيان هو إرادة ترك الواجب، و استحباب هذه النافلة إنّما هو على تقدير تحقّق هذه الإرادة، فكأنّه قال: إن اخترت إرادة هذا الواجب فلا أطلب منك شيئا غيره، و إن اخترت عدم فعل هذا الواجب، فقد عصيت، و لكن حينئذ أطلب منك هذا المندوب.

فان قلت: هذا «1» يرفع كون التكليف بهما معا في حال واحدة.

قلت: نحن ننزّل الخطاب الوجوبيّ و الاستحبابي- لو وردا- على هذا المعنى، فلا يمكن الاستدلال على بطلان المستحب، بسبب الخطاب الوجوبيّ، على أنّه على تقدير إرادة عدم الواجب يقع التكليف بهما معا، فتأمّل.

إذا عرفت هذا: فاستحباب شي‏ء في وقت، يكون بعض ذلك الوقت وقتا لواجب مضيّق، يكون جائزا بالطريق الأولى، إذ يمكن حينئذ انفكاك الفعل المستحب عن العصيان، بخلاف الأوّل، فإنّه لا ينفكّ عن العصيان، و إن لم يكن هو الموجب له، بل الموجب سوء الاختيار.

و اعلم‏ «2»: أنّ من قال بأنّ الأمر بالشي‏ء يستلزم النهي عن ضدّه، إنّما يقول به في الواجب المضيّق، كما صرّح به جماعة، إذ لا يقول عاقل بأنّه إذا زالت الشمس مثلا، حرم الأكل و الشرب و النوم و غيرها من أضداد الصلاة، قبل فعل الصلاة.

ثمّ اعلم: أنّ إيراد مقدّمة الواجب و النهي عن الضدّ في هذا القسم إنّما هو إذا لم يكن وجوب المقدّمة و تحريم الضدّ، على القول به، من باب دلالة اللفظ، كما قيل به، و لكنّه بعيد على هذا القول أيضا.

و لمّا كانت أدلّة اقتضاء الأمر بالشي‏ء النهي عن الضدّ ضعيفة، فالأولى عدم التعرّض ل:

______________________________

 (1) كذا في ط، و في الأصل و أ و ب: فهذا.

 (2) كلمة (و اعلم): ساقطة من الأصل و قد أثبتناها من سائر النسخ.

227
الوافية في أصول الفقه

و الثالث: المنطوق غير الصريح ص : 228

أنّ النهي عن الشي‏ء هل يقتضي الأمر بضدّه؟ أو لا؟

و هل استحباب الشي‏ء يقتضي كراهة ضدّه و بالعكس؟ أو لا؟

و الثالث: المنطوق غير الصريح.

و هو ما لم يوضع له اللفظ، بل يكون ممّا يلزم لما وضع له اللفظ، و هو أقسام:

الأوّل: ما يتوقّف صدق المعنى، أو صحّته عليه، و يسمّى بدلالة الاقتضاء.

فالصدق: نحو: «رفع عن أمّتي: الخطأ، و النسيان» «1» فإنّ صدقه يتوقّف على تقدير المؤاخذة، لوقوعهما من‏ «2» غير المعصوم عليه السلام.

و الصحّة: نحو وَ سْئَلِ الْقَرْيَةَ «3».

و حجّية هذا القسم ظاهرة، إذا كان الموقوف عليه مقطوعا به.

الثاني: ما يقترن بحكم على وجه، يفهم منه أنّه علّة لذلك الحكم، فيلزمه‏ «4» جريان هذا الحكم في غير هذا المورد، ممّا اقترنت به، و يسمّى بدلالة التنبيه و الإيماء، نحو قوله عليه السلام: «أعتق رقبة» حين قال له الأعرابيّ:

واقعت أهلي في شهر رمضان‏ «5»، فإنّه يفهم‏ «6» منه أنّ علّة وجوب العتق هي المواقعة، فيجب في كلّ موضع تحقّقت.

و هو حجّة إذا علم العلّية، و عدم مدخليّة خصوص الواقعة «7»، فإنّ مدار

______________________________

 (1) الكافي: 2- 462- كتاب الإيمان و الكفر- باب ما رفع عن الأمّة ح 2، الفقيه: 1- 59 ح 132 (لكن فيهما: وضع. بدل: رفع) الخصال: 2- 417- باب التسعة.

 (2) في أ و ط: عن.

 (3) يوسف- 82.

 (4) في ط: فيلزم.

 (5) الفقيه: 2- 115 ح 1885.

 (6) في أ و ط: يعلم.

 (7) كذا في أ و ب و ط، و في الأصل: المواقعة.

228
الوافية في أصول الفقه

و الرابع: المفهوم ص : 229

الاستدلال في الكتب الفقهيّة عليه، و هذا هو مراد المحقّق في المعتبر «1»، حيث حكم بحجّية تنقيح المناط القطعيّ، كما إذا قيل له عليه السلام: صلّيت مع النجاسة؟ فيقول عليه السلام: أعد صلاتك، فإنّه يعلم منه، أنّ علّة الإعادة هي النجاسة في البدن أو الثوب، و لا مدخليّة لخصوص المصلّي، أو الصلاة.

الثالث: ما لم يقصد عرفا من الكلام، و لكن يلزم المقصود، نحو قوله تعالى: وَ حَمْلُهُ وَ فِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً «2» مع قوله تعالى: وَ فِصالُهُ فِي عامَيْنِ‏ «3» علم منهما أنّ أقلّ مدّة الحمل ستة أشهر، فإنّ المقصود «4» في الأولى بيان حقّ الوالدة و تعبها، و في الثانية بيان مدّة الفصال، فلزم منهما: العلم بأقلّ مدّة الحمل، و يسمّى بدلالة الإشارة، و حجّيته ظاهرة إذا كان اللاّزم قطعيّا.

و الرابع: المفهوم.

و ينقسم إلى موافقة و مخالفة، لأنّ حكم غير المذكور: إمّا موافق لحكم المذكور نفيا و إثباتا، أو لا؛ و الأوّل الأوّل، و الثاني الثاني.

و الأوّل: يسمّى بفحوى الخطاب، و لحن الخطاب، و ضرب له أمثلة.

منها: قوله تعالى: فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ، وَ لا تَنْهَرْهُما «5» فإنّه يعلم من حال التأفيف- و هو محل النطق- حال الضرب، و هو غير محل النطق؛ و هما متّفقان في الحرمة.

و منها: قوله تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ‏ «6».

و منها: قوله تعالى: وَ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ‏

______________________________

 (1) نصّ المحقق الحلّي على هذا في: معارج الأصول: 185.

 (2) الأحقاف- 15.

 (3) لقمان- 14.

 (4) في ب و ط: المراد.

 (5) الإسراء- 23.

 (6) الزلزلة- 7، 8.

229
الوافية في أصول الفقه

و الرابع: المفهوم ص : 229

وَ مِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ‏ «1».

فإنّه يعلم منه‏ «2» مجازاة ما فوق الذرّة في الأوّل، و تأدية ما دون القنطار في الثاني، و عدم ما فوقه في الثالث، فهو تنبيه بالأدنى- أي: الأقلّ مناسبة- على الأعلى، أي: الأكثر مناسبة.

و هو حجّة إذا كان قطعيّا، أي: كون‏ «3» التعليل بالمعنى المناسب- كالإكرام في منع التأفيف، و عدم تضييع الإحسان، و الإساءة في الجزاء، و الأمانة في أداء القنطار، و عدمها في أداء الدينار- و كونه أشدّ مناسبة للفرع، قطعيّين، كالأمثلة المذكورة.

و أمّا إذا كانا ظنيّين: فهو ممّا يرجع إلى القياس المنهيّ عنه [1]، كما يقال.

 (يكره جلوس المجبوب الصائم في الماء، لأجل ثبوت كراهة جلوس المرأة الصائمة في الماء)، و يقال: (إذا كان اليمين غير الغموس توجب الكفّارة، فالغموس أولى)، لعدم تيقّن كون العلّة في الأوّل جذب الماء بالفرج، و في الثاني الزجر.

______________________________

 [1] و يدل. على بطلان هذا القسم من القياس ما رواه ابن بابويه في الصحيح «عن عبد الرحمن بن الحجاج، عن أبان بن تغلب، قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: ما تقول في رجل قطع إصبعا من أصابع المرأة، كم فيها؟ قال: عشرة من الإبل. قلت: قطع اثنتين؟ قال: عشرون. قلت:

قطع ثلاثا؟ قال ثلاثون. قلت قطع أربعا؟ قال: عشرون. قلت سبحان اللّه! يقطع ثلاثا فيكون عليه ثلاثون و يقطع أربعا فيكون عليه عشرون! إنّ هذا كان يبلغنا و نحن بالعراق فنبرأ ممن قاله، و نقول: الّذي قاله شيطان. فقال: مهلا يا أبان، هكذا حكم رسول اللّه صلى اللَّه عليه و آله. إنّ المرأة تعاقل الرّجل إلى ثلث الدّية، فإذا بلغت رجعت المرأة إلى النصف، يا أبان انك أخذتني بالقياس، و السنة إذا قيست محق الدين». (منه رحمه اللّه).

______________________________

 (1) آل عمران- 75.

 (2) كلمة (منه): ساقطة من الأصل، و قد أثبتناها من سائر النسخ.

 (3) كذا الظاهر، و في النسخ: يكون.

230
الوافية في أصول الفقه

و الرابع: المفهوم ص : 229

و الثاني أقسام:

الأوّل: مفهوم الصفة، نحو قوله‏ «1»: «في الغنم السائمة زكاة» «2» و مفهومه: نفي الزكاة عن المعلوفة.

الثاني: مفهوم الشرط، نحو: «إذا بلغ الماء كرّا لم يحمل خبثا» «3» مفهومه: نجاسة الماء القليل.

الثالث: مفهوم الغاية، مثل: فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ‏ «4» مفهومه: أنّها إذا نكحت زوجا غيره تحلّ.

الرابع: مفهوم العدد الخاصّ، مثل: فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً «5» مفهومه: عدم وجوب الزائد على الثمانين.

الخامس: مفهوم الحصر، مثل: (المنطلق زيد) مفهومه: نفي الانطلاق عن غيره.

و عدّ بعضهم مفهوم الاستثناء، و مفهوم (إنّما).

و الحقّ: أنّ دلالتهما على ما يفهم منهما- من المنطوق، على تقدير ثبوت أنّ (إنّما) بمعنى: (ما) و (إلاّ).

و على تقدير كونه بمعنى: (إنّ) التأكيديّة و (ما) الزائدة، فلا مفهوم له أصلا؛ و ذلك لأنّ المنطوق ما دلّ عليه اللفظ في محلّ النطق، أي: يكون حكما للمذكور، و حالا من أحواله، سواء ذكر ذلك الحكم و نطق به أو لا، و المفهوم بخلافه، و لا يخفى أنّا إذا قلنا: (ما جاء القوم إلاّ زيد) فنفي الجيأة «6» عمّا عدا

______________________________

 (1) كلمة (قوله): إضافة من ب.

 (2) مثّل به السيّد في الذريعة: 1- 399، و الغزالي في المستصفى: 2- 191، و غيرهما.

 (3) غوالي اللئالي: 1- 76 و 612.

 (4) البقرة- 230.

 (5) النور- 4.

 (6) في أ و ط: المجيأة.

231
الوافية في أصول الفقه

و الرابع: المفهوم ص : 229

زيد من القوم، ممّا نطق به، و كذا: (ما جاء إلاّ زيد)، لأنّ المقدّر كالمذكور.

السادس: مفهوم الزمان و المكان، مثل: (أفعله‏ «1» في هذا اليوم) أو: (في هذا المكان) و مفهومه: نفي الفعل في غير ذلك الزمان و المكان.

و قد وقع الخلاف في حجّية المفهوم بأقسامه‏ «2»:

فالسيّد المرتضى‏ «3»، و جماعة من العامّة أيضا «4»: أنكروا حجّية جميع أقسامه.

و الشيخ الطوسيّ رحمه اللّه: قال بحجّية مفهوم الصفة «5»، و مال إليه الشهيد «6»، و به قال أكثر العامّة «7».

و الظاهر: أنّ من قال بمفهوم الصفة، يعترف بحجّية: مفهوم الشرط، و الغاية، و الزمان، و المكان؛ لأنّ الأوّلين أولى منه، و الأخيرين في معناه.

و مختار المرتضى رحمه اللّه قويّ.

و لمّا كان حجّية مفهوم الغاية أقوى من باقي الأقسام، فنحن نتكلّم فيه و يظهر منه حال البواقي، من غير تأمّل، فنقول:

______________________________

 (1) في ب: فعله: و في ط: افعل.

 (2) كذا في أ و ب، و في الأصل و ط: بأقسام.

 (3) الذريعة: 1- 392.

 (4) فقد أنكره أبو حنيفة، كما في المنخول: 209، و هو مذهب الأحناف و القاضي أبي بكر و أبي العباس بن سريج و القفّال الشاشي و الغزالي، كما في الابهاج: 1- 371، و قوم من المتكلمين، كما في التبصرة: 218، و الآمدي، كما في التمهيد: 245، 253.

 (5) لم نجد في العدّة ما يدل على صحة هذه النسبة، بل قال الشيخ بعد نقله كلاما مبسوطا للسيد المرتضى في الاستدلال على عدم حجيّة مفهوم الوصف- قال: و لي في هذه المسألة نظر. عدّة الأصول 2- 25.

 (6) الذكرى: 5- المقدمة- الإشارة السادسة- الأصل الرابع- القسم الثاني- قوله خامسا.

 (7) فقد ذهب إلى ذلك الشافعي و الجمهور، كما في التمهيد: 245، 253، و أبو الحسن و أبو عبيدة معمر بن المثنى، و جمع كثير من الفقهاء و المتكلمين، كما في الابهاج 1- 371، و الشيرازي في التبصرة: 218.

232
الوافية في أصول الفقه

و الرابع: المفهوم ص : 229

لنا: أنّ قول القائل: (صوموا إلى الليل) لا يدلّ على نفي وجوب صوم الليل بوجه، أمّا المطابقة و التضمّن: فظاهر، و أمّا الالتزام: فلأنّه لا ملازمة بين وجوب صوم النهار و عدم وجوب صوم الليل، و هو ظاهر.

فإن قلت: نحن ندّعي أنّ مفهوم الغاية و غيره‏ «1» ممّا يلزم المنطوق لزوما غير بيّن، كوجوب مقدّمة الواجب و نحوه، و لهذا أدرجناه في الأدلّة العقليّة.

قلت: ليس هاهنا ما يوجب القول بالمفهوم، كما ستعرف من ضعف أدلّة الخصم.

احتجّ الخصم بوجوه ضعيفة، أقواها: أنّ التعليق على الغاية و الشرط و الصفة و غيرها، يجب أن يكون لفائدة، و الفائدة هي مخالفة حكم المذكور للمسكوت عنه، لأنّ الأصل عدم غيرها من الفوائد، و هي أمور:

الأوّل: أن يكون قد خرج مخرج الأغلب، مثل: وَ رَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ‏ «2»، فإنّ الغالب كون الربائب في الحجور، فقيّد لذلك، لا لأنّ حكم اللاّتي لسن في الحجور بخلافه.

الثاني: أن يكون لسؤال سائل عن المذكور، أو لحادثة مخصوصة به، مثل أن يسأل: هل في الغنم السائمة زكاة؟ فيقول: في الغنم السائمة زكاة. أو يكون الغرض بيان ذلك لمن له السائمة دون المعلوفة.

الثالث: أن تكون المصلحة في السكوت عن المسكوت عنه، و عدم إعلام حاله.

و غير ذلك من الفوائد المذكورة في المطوّلات.

و المخالفة ممّا لا يحتاج إلى القرينة، بخلاف الفوائد الاخر، فإنّها محتاجة إلى القرائن الخارجة «3»، فيصير عند عدم القرينة من قبيل اللفظ المردّد بين‏

______________________________

 (1) في ط: و نحوه.

 (2) النساء- 23.

 (3) في ط: الخارجيّة.

233
الوافية في أصول الفقه

و الرابع: المفهوم ص : 229

المعنى الحقيقيّ و المجازي، فظاهر أنّه محمول على المعنى الحقيقيّ، عند التجرّد عن القرينة.

و الجواب: أنّ هذه الفوائد كلّها متساوية «1» في الاحتياج إلى القرينة و ليس للمخالفة المذكورة رجحان على غيرها من الفوائد، ليحمل عليه عند عدم ظهور القرينة، بل يمكن أن يقال: إنّ الفائدة الثالثة، و هي المصلحة في عدم الإعلام، راجحة على غيرها، سيّما في كلام الأئمة صلوات اللّه عليهم.

فظهر بطلان ادّعاء اللّزوم غير البيّن بين المفهوم و المنطوق.

و احتجّ صاحب المعالم على الدلالة الالتزاميّة في مفهوم الغاية ب: أنّ قول القائل: (صوموا إلى الليل) معناه: آخر وجوب الصوم مجي‏ء الليل، فلو فرض ثبوت الوجوب بعد مجيئه، لم يكن الليل آخرا، و هو خلاف المنطوق‏ «2»- و قريب منه استدلال ابن الحاجب في مختصره‏ «3»- و قال بعد ذلك في جواب السيّد:

اللّزوم هنا ظاهر، إذ لا ينفكّ تصوّر الصوم المقيّد بكون آخره الليل مثلا، عن عدمه في الليل‏ «4».

و الجواب: لا نسلّم أنّ معناه ذلك، بل معناه: أريد منكم الإمساك الخاصّ في زمان أوّله طلوع الفجر، و آخره الليل. و ظاهر: أنّ مطلوبية الإمساك في القطعة الخاصّة من الزمان، لا تستلزم عدم مطلوبيّته فيما بعد تلك القطعة، بل يجوز أن يكون فيما بعدها أيضا مطلوبا موسّعا، لكن سكت عنه لمصلحة اقتضت ذلك، فقول القائل: (صوموا إلى الليل) يستفاد منه أنّ الصوم الواجب بذلك الخطاب انتهاؤه الليل، و هذا لا يجدي الخصم.

و قوله في بيان اللّزوم: «إذ لا ينفكّ تصوّر الصوم المقيّد بكون آخره الليل‏

______________________________

 (1) كذا في أ و ط، و في الأصل و ب: مساوية.

 (2) معالم الدين: 81.

 (3) شرح العضد: 2- 320 (لاحظ المتن).

 (4) معالم الدين: 82.

234
الوافية في أصول الفقه

و الرابع: المفهوم ص : 229

مثلا عن عدمه في الليل» لا يخفى ما فيه، فإنّ مدلول قول القائل: (صوموا إلى الليل) هو مطلوبيّة الصوم- أي الإمساك- إلى الليل، و ليس لفظة (إلى الليل) صفة للصوم، حتّى يكون المعنى مطلوبيّة الصوم الموصوف بكونه منتهيا إلى الليل، مع أنّه على تقدير الوصفيّة أيضا يرجع إلى مفهوم الوصف، و هو ينكره‏ «1»، فليس للمفهوم لزوم ذهنيّ مع المنطوق.

و احتجّ أيضا على حجّية مفهوم الشرط ب: أنّ قول القائل: (أعط زيدا درهما إن أكرمك) يجري في العرف مجرى قولنا: الشرط في إعطائه إكرامك.

و المتبادر من هذا: انتفاء الإعطاء عند انتفاء الإكرام قطعا، فيكون الأوّل أيضا هكذا «2».

و لا يخفى ما فيه، إذ لا يلزم أن يكون ما يتبادر من لفظ الشرط متبادرا من (إن) المسمّاة في العرف بحرف الشرط، بل هو قياس لكلام على كلام آخر من غير بيان الجامع، مع أنّ ادّعاء التبادر من الثاني أيضا منظور فيه، فتأمّل.

ثمّ لا يذهب عليك: أنّ ثمرة الخلاف إنّما تظهر إذا كان المفهوم مخالفا للأصل، نحو: (ليس في الغنم المعلوفة زكاة) أو: (ليس في الغنم زكاة إذا كانت معلوفة) أو: (ليس في الغنم زكاة إلى أن تسوم) فهل يجوز بمجرّد هذا مثلا، القول بوجوب الزكاة في السائمة؟ أو لا؟ فأنكره المرتضى‏ «3»، و قد عرفت حقيقة الحال.

و أمّا إذا كان موافقا للأصل: نحو: (في الغنم السائمة زكاة)، فإنّ نفي الزكاة عن المعلوفة هو المقتضي لبراءة الذمّة، فلا يظهر للخلاف فيه ثمرة يعتدّ بها.

و كأنّ المفهوم في هذا القسم لمّا كان مركوزا في العقول، بسبب موافقة

______________________________

 (1) أي: عدم الصوم في الليل. (منه رحمه اللّه).

 (2) معالم الدين: 77- 78.

 (3) الذريعة: 1- 394 و 406 و 407.

235
الوافية في أصول الفقه

و الخامس: القياس ص : 236

الأصل، ادّعي أنّه حجّة، و متبادر من حكم المنطوق، و يؤيّده: أنّ الأمثلة المذكورة في استدلالهم، كلّها من هذا القبيل.

و احتجّ بعضهم على حجّية مفهوم الشرط و الصفة، بأنّ هذا النحو من التعليق يشعر بالعلّية، و العلّة منتفية في المفهوم بحسب الفرض، و الأصل عدم علّة أخرى، فينتفي فيه حكم المنطوق‏ «1».

و الجواب:- بعد تسليم اعتبار «2» مطلق العلّة منصوصة كانت أو مستنبطة- أنّ هذا النحو من الاستدلال صحيح، لرجوعه إلى أصالة براءة الذمّة كما عرفت، و لا مدخليّة للمنطوق فيه، مثلا: لو لم يكن النصّ الدّال على وجوب الزكاة في السائمة متحقّقا، أمكن إجراء هذا الاستدلال على نفي الزكاة في المعلوفة، بأن يقال: الأصل عدم تحقّق علل وجوب الزكاة في المعلوفة، فينتفي وجوب الزكاة فيها.

و الخامس: القياس.

و هو: إثبات الحكم في محلّ، بعلّة، لثبوته في محلّ آخر بتلك العلّة.

و اختلف في حجّيته‏ «3»، و لا خلاف بين الشيعة في عدم حجّيته، ما لم ينصّ على العلّة «4»- مثل أن يقول: (حرّمت الخمر)، فلا يجوز بمجرّد هذا القول، الحكم بتحريم غيره من المسكرات، بسبب ظنّ أنّ علّة حرمة الخمر هي الإسكار، و هو متحقّق في غيره- إلاّ ما نقل عن ابن الجنيد: أنّه كان يقول به‏ «5» ثمّ رجع‏ «6».

______________________________

 (1) المحصول: 1- 266 (الثالث)، المنتهى: 152. و تقرير الدليل للمصنف.

 (2) في ب: اختيار.

 (3) المستصفى: 2- 234، المحصول: 2- 245، المنتهى: 186، 188.

 (4) الذريعة: 2- 697، عدّة الأصول: 2- 90، معارج الأصول: 187.

 (5) الفهرست: 134 ترجمة رقم 590، و: رجال النجاشي: 388 ترجمة رقم 1047.

 (6) لم نجد من نصّ على ذلك، حتى نسب في الفوائد المدنيّة (ص 135) رجوعه عنه إلى القليل.

236
الوافية في أصول الفقه

و الخامس: القياس ص : 236

بل إنكار القياس قد صار متواترا عندنا.

و اختلف أصحابنا في حجّية القياس المنصوص العلّة، مثل أن يقول:

 (حرّمت الخمر لإسكاره)، فهل يجوز القول بتحريم غيره من المسكرات بمجرّد ذلك؟ أو لا؟

فأنكره السيد المرتضى‏ «1».

و قال به العلاّمة «2» و جماعة «3».

و الحقّ أن يقال: إذا حصل القطع بأنّ الأمر الفلاني علّة لحكم خاصّ، من غير مدخليّة شي‏ء آخر في العلّية، و علم وجود تلك العلّة في محل آخر، لا بالظنّ بل بالعلم، فإنّه حينئذ يلزم القول بذلك الحكم في هذا المحلّ الآخر، لأنّ الأصل حينئذ يصير من قبيل النصّ على حكم كلّ ما فيه تلك العلّة، فيخرج في الحقيقة عن القياس. و هذا مختار المحقّق أيضا «4».

و لكنّ هذا في الحقيقة قول بنفي حجّية القياس المنصوص العلّة، إذ حصول هذين القطعين‏ «5» ممّا يكاد ينخرط في سلك المحالات، إلاّ في تنقيح المناط، على ما مرّ.

و اعلم: أنّ للعلم بالعلّة عند القائسين طرقا:

منها: النصّ عليها، و له مراتب:

صريح، و هو: ما دلّ وضعا، مثل: (لعلّة كذا) أو «6»: (لأجل كذا) أو:

 (كي يكون كذا) أو: (إذن يكون كذا) أو: (لكذا) أو: (بكذا) إذا كانت‏

______________________________

 (1) الذريعة: 2- 684.

 (2) تهذيب الوصول: 84- 85.

 (3) معالم الدين: 229.

 (4) معارج الأصول: 185- المسألة الرابعة.

 (5) بل الأوّل. (منه رحمه اللّه).

 (6) كذا في ب و ط، و في الأصل و أ: و.

237
الوافية في أصول الفقه

و الخامس: القياس ص : 236

 (الباء) للسببيّة «1»، أو: (فإنّه كذا).

و تنبيه و إيماء، و هو: ما لزم مدلول اللفظ، و ضابطه: كلّ اقتران بوصف، لو لم يكن للتعليل لكان بعيدا، مثل ما مرّ من قصّة الأعرابي‏ «2»، فكأنّه عليه السلام في جوابه قال: واقعت فكفّر.

و هذا القسم قد «3» يصير قطعيّا، فإنّه إذا علم عدم مدخليّة بعض الأوصاف، فحذف، و علّل بالباقي، سمّي تنقيح المناط القطعيّ، كما يقال:

إنّ كونه أعرابيا لا مدخل له في العلّية، إذ الهنديّ و الأعرابيّ حكمهما واحد في الشرع، و كذا كون المحلّ أهلا، فإنّ الزنا أجدر به، و عند الحنفيّة: لا مدخليّة لكونه وقاعا، فيكون الأكل و غيره من مفسدات الصوم كذلك‏ «4».

و قد يكون ظنّيا، محتملا لعدم قصد الجواب، كما يقول العبد: (طلعت الشمس) فيقول السيد: (اسقني ماءً).

و من الإيماء: ما روي من قوله عليه السلام، حين قالت له الخثعميّة: «إنّ أبي أدركته الوفاة و عليه فريضة الحجّ، فإن حججت عنه، أ ينفعه ذلك؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أ رأيت لو كان على أبيك دين، فقضيته، أ كان ينفعه ذلك؟ قالت: نعم. قال: فدين اللّه أحق أن يقضى» «5».

و منه: أن يفرّق بين حكمين بوصفين، مثل: «للراجل سهم، و للفارس سهمان» «6».

______________________________

 (1) وردت هذه الجملة في نسخة أكما يلي: مثل لعلّة كذا، و لأجل كذا، و كي يكون كذا، و لكذا، أو بكذا، إذا كانت الباء للسببية. و في ط: مثل للعلّة كذا، أو لأجل كذا، أو كي يكون كذا، أو اذن يكون كذا، و لكذا، و بكذا، إذا كانت الباء للسببية.

 (2) انظر ص 228.

 (3) كلمة (قد): ساقطة من الأصل، و قد أثبتناها من سائر النسخ.

 (4) أصول السرخسي: 1- 244- 245، 2- 153- 154.

 (5) دعائم الإسلام: 1- 336.

 (6) الكافي: 5- 44- كتاب الجهاد- باب قسمة الغنيمة ح 2.

238
الوافية في أصول الفقه

و الخامس: القياس ص : 236

و منه: تعليق الحكم على الوصف المناسب، مثل (أكرم العلماء).

و منها: السبر و التقسيم، و هو: حصر الأوصاف الموجودة في الأصل- الصالحة للتعليل- في عدد، ثمّ إبطال بعضها، و هو ما سوى الّذي يدّعى أنه العلّة، كما يقال في قياس الذرّة على البرّ في الربوية: إنّ الأوصاف الصالحة للعلّية في البرّ ليس إلاّ القوت و الطعم و الكيل، لكن القوت و الطعم لا يصلح للعلّية، فتعيّن الكيل.

و منها: تخريج المناط، و هو: تعيين العلّة في الأصل بمجرّد المناسبة بينها و بين الحكم في الأصل، لا بالنصّ و لا بغيره، كالإسكار للتحريم؛ فإنّ النّظر في المسكر و حكمه و وصفه، يوجب العلم بكون الإسكار مناسبا لشرع التحريم، و كالقتل العمد العدوان، فإنّه بالنظر إلى ذاته مناسب لشرع القصاص.

و المناسب- اصطلاحا-: وصف ظاهر منضبط، يحصل من ترتّب الحكم على‏ «1» ما يصلح أن يكون مقصودا للعقلاء: من حصول مصلحة، أو دفع مفسدة. و في هذه الطريقة لا يحتاج إلى السبر.

و يرد على القياس- بعد الإيرادات المذكورة في المطوّلات-: أنّه قد لا تكون علّة الحكم في الشي‏ء شيئا من أوصاف ذلك الشي‏ء، كما يدلّ عليه قوله تعالى: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ‏ الآية «2»، و في آية أخرى: وَ عَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَ مِنَ الْبَقَرِ وَ الْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما الآية «3»، فإنّه يدلّ على أنّ علّة تحريم هذه الأشياء عصيانهم، لا أوصاف تلك الأشياء، فتأمّل.

______________________________

 (1) كذا الصواب، و في النسخ: عليه. بدل: على.

 (2) النساء- 160.

 (3) الأنعام- 146.

239
الوافية في أصول الفقه

الباب الخامس في الاجتهاد و التقليد و فيه مباحث ص : 241

الباب الخامس في الاجتهاد و التّقليد و فيه مباحث‏

241
الوافية في أصول الفقه

الأول: الاجتهاد في اللغة: ص : 243

الأوّل: الاجتهاد في اللّغة:

تحمّل الجهد، و هو: المشقّة «1».

و في الاصطلاح:

المشهور: أنّه استفراغ الوسع من الفقيه، في تحصيل الظنّ بحكم شرعيّ‏ «2».

و عندي أنّ الأولى في تعريفه: أنّه صرف العالم بالمدارك و أحكامها نظره في ترجيح‏ «3» الأحكام الشرعيّة الفرعيّة.

فدخل القطعيّات النظريّة.

و خرج الشرعيّة الأصليّة.

و لم يستعمل فيه (الفقيه) مع خفاء معناه هاهنا «4».

______________________________

 (1) المصباح المنير- مادة: جهد.

 (2) المنتهى: 209، معالم الدين: 238.

 (3) لفظة (ترجيح) ساقطة من ب.

 (4) لاحظ تفصيل هذه الدعوى في: الفوائد المدنية: 93- الوجه الثامن.

243
الوافية في أصول الفقه

البحث الثاني: ص : 244

و المدارك: قد علم كمّيتها و حقيقتها سابقا.

و المراد ب (أحكامها): أحوال التعادل و الترجيح و سيجي‏ء إن شاء اللّه تعالى.

و سيجي‏ء تحقيق ما يحصل بسببه العلم بالمدارك.

البحث الثاني:

في أنّ الاجتهاد هل يقبل التجزئة؟ أو لا؟ بمعنى: جريانه في بعض المسائل دون بعض، و ذلك بأن يحصل للعالم ما هو مناط الاجتهاد في بعض المسائل، دون بعض آخر، و قد اختلف فيه، فالأكثر على أنّه يقبل التجزئة، و قيل بعدمه.

و الحقّ الأوّل لوجوه:

الأوّل: أنّه إذا اطّلع على دليل مسألة بالاستقصاء، فقد ساوى المجتهد المطلق في تلك المسألة؛ و عدم علمه بأدلّة غيرها لا مدخل له فيها.

فإن قلت: لا يمكن العلم بعدم المعارض‏ «1» و المخصّص بدون الإحاطة بجميع مدارك الأحكام، فبطل التساوي.

قلت: إنكار حصول الظنّ بعدم المعارض مكابرة، بل قد يحصل العلم من العادة بالعدم، فإنّ المسائل الّتي وقع فيها الخلاف، و أوردها جمع كثير من الفقهاء في كتبهم الاستدلاليّة، و استدلوا عليها نفيا و إثباتا، ممّا تحكم العادة بأن ليس لها مدارك غير ما ذكروه، و لا أقلّ من حصول ظنّ قويّ متاخم من العلم.

فإن قلت: التمسّك في جواز اعتماد المتجزّي على استنباطه، بمساواته للمجتهد المطلق، قياس غير معلوم العلّة، فيكون باطلا.

______________________________

 (1) كذا في أ و ب و ط، و في الأصل: المعارضة.

244
الوافية في أصول الفقه

البحث الثاني: ص : 244

مع أنّه: يمكن أن تكون العلّة في المجتهد المطلق، هي: قدرته على استنباط المسائل كلّها، فإنّ القوّة الكاملة أبعد عن احتمال الخطأ من الناقصة.

قلت: البديهة تحكم بالمساواة حينئذ، بمعنى: أنّ كلّ ما دلّ على جواز اعتماد المجتهد المطلق على ظنّه، دلّ على الجواز في المتجزّي أيضا، كما سيجي‏ء في آخر هذا البحث.

و قوله بأنّ قوّة الأوّل كاملة دون الثاني:

إن أراد ب (الكمال) الشمول و العموم، فالعقل يحكم بأنّه لا يصلح للعلّية، إذ العلّة يجب أن تكون مناسبة، و ظاهر أنّ الظنّ بأنّ المتعة «1» مثلا ترث أو لا ترث؟ أو الرضاع الناشر للحرمة خمس عشرة أو عشر؟- لا دخل له في جواز الاعتماد على الظنّ بوجوب السورة مثلا في الصلاة؛ و المنكر مكابر مقتضى عقله.

و إن أراد أنّ ظنّ العالم بالكلّ بوجوب السورة مثلا، يكون أقوى من ظنّ المتجزّي بوجوب السورة، و إن اطّلع على جميع أدلّة وجوب السورة- فهذا مجرّد دعوى يحكم أوّل النّظر ببطلانها.

الثاني: أنّ التقليد مذموم، و خلاف الأصل أيضا، فإنّ الأصل عدم وجوب اتّباع غير المعصوم، خرج عنه العاميّ الصرف، لدليل دلّ على وجوب التقليد في حقّه، فيبقى المتجزّي و المطلق، لعدم المخرج في حقّهما.

فإن قلت: نحن نقلب هذا الدليل في المتجزّي، فنقول: اتّباع الظنّ مذموم، بل و خلاف الأصل أيضا، إذ الأصل عدم وجوب اتّباع غير القطع، خرج عنه المجتهد المطلق، لدليل أخرجه، فبقي المتجزّي، لعدم المخرج فيه.

قلت: المخرج فيه متحقّق، فإنّه ليس له بدّ من اتّباع الظنّ: إمّا الظن‏

______________________________

 (1) أي: المتمتّع بها، و هي المنكوحة بالعقد المنقطع. و: المتعة: اسم التّمتّع- كما في المصباح- فإطلاقه على المتمتع بها مسامحة منه.

245
الوافية في أصول الفقه

البحث الثاني: ص : 244

الحاصل من التقليد، أو الظنّ الحاصل من الاجتهاد؛ فكيف يكون هو منهيّا عن اتّباع الظنّ على الإطلاق بخلاف التقليد؟! و تقرير الدّليل بعبارة أخرى: جواز التقليد مشروط بعدم جواز العمل بالدليل- أي: الاجتهاد- فما لم يحصل القطع بعدم ج