الملل و النحل1 (للشهرستاني)
مقدمة ص : 5
في توسيع
شقّة الخلاف بين المسلمين، الذين استوعبوا أعدادا كبيرة من العناصر غير العربية
التي لم تتخلّ عن تراثها الخاص و شخصيتها التقليدية، و حتّى عن مزاجها المختلف،
حيث انعكس ذلك كلّه على هؤلاء المسلمين غير العرب، الذين لم يعدموا تأثيرا مباشرا
أم غير مباشر على الإسلام بشكل عام، خصوصا إبّان بدء الحكم العبّاسي الذي أصبح
مقرّه أكثر قربا من التجمع الرئيسي لهؤلاء في المشرق، و شهدت عهوده الأولى ظهور
الفرق الأساسية و تشعباتها مسبوقة بمناخ فكري خاص، كانت قد أسهمت في تكوينه حركة
الترجمة و التيارات الثقافية و الفلسفية التي رافقتها و انعكست بمجملها على الفكر
الديني في الإسلام و خروجه من بيئته الحضارية الخاصة و اشتباكه بتلك الحضارات
المجاورة التي كان لها تأثيرها المتفاوت في العديد من الفرق الإسلامية.
و
الشهرستاني- في كتابه هذا- بعد أن تحدّث عن هذه الفرق جميعها، و عن النواحي
التاريخية لكل فرقة و شعبة، و ما لها من آراء و معتقدات، أخذ في سرد الملل غير
الإسلامية و مقالات أهل العالم من أرباب الديانات و الشرائع، و أهل الأهواء و
النحل، و الوقوف على مصادرها و مواردها و شواردها، فذكر أهل الكتاب من اليهود و
النصارى، و تحدث عن أشهر فرقهم، ثم ذكر من لهم شبهة كتاب فتحدّث عن المجوسية و
المانوية و المزدكية و سائر فرقهم، ثم عدّد بيوت النيران و بناتها و أماكنها و ما
ذهب إليه القوم من تعظيمها، و انتقل بعد ذلك إلى الكلام على أهل الأهواء و النحل-
و في مذهبه أنهم يقابلون أرباب الديانات و الملل تقابل التضاد- فأخذ في ذكر
الصابئة و شرح تعصّبهم للروحانيات، و فصّل آراءهم و أقاويلهم، و ما أجابت به
الحنفاء على مزاعمهم. ثم انتقل للحديث على الحرنانيين و طريقتهم، و ما عبدوه من
النجوم، و ما استندوا إليه في التنجيم، و تحدّث بعد ذلك على فلاسفة اليونان و ما
ذهبوا إليه و ما أظهروه من الطبيعيات و الإلهيات و الرياضيات، فأخذ يقارن بين
هؤلاء الفلاسفة و حكماء العرب و حكماء البراهمة الهنود، و رأى أن فلاسفة الإسلام
جميعا سلكوا طريقة أرسطو طاليس و احتذوها في فلسفتهم. ثم أظهر
6
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
مقدمة ص : 5
ما لابن سينا
من إجلال و إكبار في نفسه. و أخيرا ذكر آراء حكماء الهنود، و معتقدات البراهمة و
ما ذهبوا إليه من قدم العالم.
هذا مختصر ما
جاء في كتاب الشهرستاني الذي قال فيه: «أردت أن أجمع ذلك في مختصر يحوي جميع ما
تديّن به المتدينون و انتحله المنتحلون عبرة لمن استبصر، و استبصارا لمن اعتبر».
فقد تحدّث
الشهرستاني عن كل ذلك دون أن يغفل النواحي التاريخية لكل فرقة و شعبة و فيلسوف و
عالم بعبارات سلسة و لغة رصينة، فجاء الكتاب فريدا في بابه، لأنه عمدة في هذا
الموضوع و موسوعة مختصرة للأديان و المذاهب و الفرق، بل للآراء و الفلسفة المتعلقة
بما وراء الطبيعة التي عرفت في عصر المؤلّف.
و على الرغم
من أن المسلمين قد اهتموا بدراسة الأديان و المذاهب للردّ على أصحابها و ألّفوا في
ذلك كتبا، ككتاب «مقالات الإسلاميين» لأبي الحسن الأشعري، و كتاب «الفرق بين
الفرق» لعبد القاهر البغدادي، و كتاب «الفصل في الملل و النحل» لابن حزم الظاهري،
و كتاب «تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة» للبيروني، و غيرها من
الكتب التي وضعت في الردّ على النصارى و اليهود،. أو في ردّ بعض الفرق الإسلامية
على بعضها الآخر، على الرغم من كل ذلك فإن كتاب «الملل و النحل» للشهرستاني مع صغر
حجمه فإنه يمتاز عنها جميعا بغزارة المادة و شموليتها و يمتاز بالاستقصاء في
البحث، و الدّقة و التحقيق في الموضوعات التي يتناولها، و الاعتدال في الأحكام
التي يصدرها، حيث لا تأتي عن ميل أو هوى مؤكدا ذلك في قوله: «و شرطي على نفسي أن
أورد مذهب كل فرقة على وحدته في كتبهم، من غير تعصّب لهم، و لا كسر عليهم». و لهذا
يقول عنه الإمام السبكي: «هو عندي خير كتاب صنّف في هذا الباب، و مصنّف ابن حزم، و
إن كان أبسط منه، إلّا أنه مبدّد ليس له نظام ... ثم فيه من الحطّ على أئمة السنّة
و نسبة الأشاعرة إلى ما هم براء منه ما يكثر تعداده. ثم إن ابن حزم نفسه لا يدري
علم الكلام حقّ الدراية على طريقة أهله ...».
7
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
مقدمة ص : 5
هذا و قد لقي
كتاب الشهرستاني عناية كبرى من المشتغلين بالآراء الإسلامية، و بخاصة ممن يعنون
بمقالات الفرق، و ما طرأ عليها من تطوّرات، و ما انتظمته من آراء و بحوث، فطبع
الكتاب بالعربية مرات و ترجم إلى لغات عدّة، و لقي صدورا رحبة فتناوله العلماء
الغربيون بالمدح و الثناء.
و لا بدّ من
الإشارة هنا إلى أن الشهرستاني في كتابه: «الملل و النحل» فاته ذكر بعض ديانات
القدماء و منها:
(cs) ديانة «1» قدماء المصريين
الذين كانوا يعبدون أكثر من إله (سبك، حوريس، ست، أزوريس، رع، آمون رع، آتون ...)
و قد تلاشت حينما أدخل «بطليموس» الأوّل إلهه الجديد «سربيس» فصار إلها لجميع
المصريين.
(cs) و الديانة الهندوسية «2» أو البرهمية
التي دخلت الهند مع الآريين الذين نزحوا إلى الأقاليم الغربية من تلك البلاد حوالي
سنة 1500 ق. م. و هي ديانة تجمع بين الوثنية الساذجة و الآراء الفلسفية السامية و
الزهد الصادق، و للبراهمة آلهة للمطر و النار و السماء و ما شاكلها، و هم يؤمنون
بفكرة التناسخ و «الكارما» أي العمل الذي لا بدّ منه في الحياة، ثم بفكرة
«الانطلاق» أي محاولة النفس الإفلات من دورات تجوالها و نتائج أعمالها. و أهمّ
تعاليم الديانة البرهمية:
1- الكائن
الإلهي. 2- مقابلة الإساءة بالإحسان. 3- القناعة.
4-
الاستقامة. 5- الطهارة. 6- كبح جماح الحواس. 7- معرفة الفيدا.
8- الصبر. 9-
الصدق. 10- اجتناب الغضب.
(cs) و الديانة البوذية المنتشرة بين عدد كبير من
الشعوب الآسيوية، و هي مذهبان كبيران: المذهب الشمالي السائد في الصين، و اليابان،
و التبت، و نيبال، و جاوه، و سومطرة، و المذهب الجنوبي السائد في بورما، و سيلان،
و سيام.
______________________________
(1) راجع
ديانة قدماء المصريين، ترجمة الدكتور سليم حسن.
(2) راجع
أديان العالم الكبرى، ترجمه عن الإنكليزية الأستاذ حبيب سعد.
8
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
مقدمة ص : 5
و ديانة بوذا
لها أربعة أطوار، أرقاها الطور الرابع و هو: «النرفانا». و بوذا الذي أنكر الصلاة،
يعتقد أن قليلين جدا هم الذين يبلغون «النرفانا» في جهادهم الأخلاقي.
(cs) و الديانة الصينية «1» التي تقوم
على عبادة السماء باعتبارها الإله الأعظم، ثم عبادة الأرض. لأن للأرض إلها. ثم
عبادة أرواح الأجداد و عبادة الجبال و الأنهار.
و قد استقرّ
الصينيون بعد قرون طويلة على ثلاثة أديان هي: الكنفوشية، و البوذية، و التاوزميّة.
(cs) و الديانة اليابانية «2» التي انتشرت
بين اليابانيين و تقسم إلى ثلاثة أديان هي:
الشنتوية،
(طريق الآلهة)، و عبادة الميكادو (اسم زعيمهم)، ثم الديانة البوذية اليابانية
(زعيمهم إميدا بوذا).
أمّا الأديان
التي ظهرت بعد الشهرستاني فهي:
(cs) اليزيدية «3»، أو عبدة
الشيطان، و هم طائفة ينتمي معظمها إلى الجنس الكردي و يقطن أتباعها في الشمال
الشرقي من الموصل، و في قضاء سنجار في الشمال الغربي من العراق على الحدود السورية،
و في منطقة حلب، و البلاد الأرمنية الواقعة على الحدود بين تركيا و روسيا.
و قد اختلف
الباحثون في تعليل تسميتهم، كما اختلفوا أيضا في أصل دينهم، و نبيّ هذه الديانة
الشيخ عادي. و من الشخصيات المقدسة عندهم منصور الحلّاج، و الشيخ عبد القادر
الكيلاني، و الحسن البصري. و اليزيدية يؤمنون بالتناسخ، و بالحلول، و لهم كتابان
مقدسان هما: «الجلوة» و فيه وعد و وعيد، و ترغيب و ترهيب، و مصحف «رش» و فيه قصة
خلق العالم و عقائد الزيديّة.
______________________________
(1) راجع
أديان العالم الكبرى.
(2) راجع
أديان العالم الكبرى.
(3) راجع
اليزيدية قديما و حديثا- معتقدات اليزيديين.
9
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
مقدمة ص : 5
(cs) و الديانة البابية أو البهائية، و مؤسسها علي
بن محمد رضا الشيرازي. و تقوم هذه الديانة على أساس الاعتقاد بوجود إله واحد أزلي
نظير ما يعتقد به المسلمون.
إلّا أن
«البابية» يستمدون صفات الخالق من أساس العقيدة الباطنية التي ترى أن لكل شيء
ظاهرا و باطنا، و أن هذا الوجود مظهر من مظاهر اللّه. و أن اللّه هو النقطة
الحقيقية. و كل ما في الوجود مظهر له.
أمّا عبادات
البهائيين و معاملتهم فقد وردت في كتاب: «البيان» الذي نسخه خليفة الباب و هو علي
حسين الملقّب بالبهاء بكتابه: «الأقدس» و منها: الصوم، و الصلاة، و الحج، و
الزكاة، و هناك تعاليم دينية أخرى.
و على
الإجمال فيمكن القول أن الفرق الإسلامية التي تحدّث عنها الشهرستاني قد اختفت
كلّها من الوجود ما عدا القليل القليل الذي فقد هو الآخر أهميته.
10
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
من هو الشهرستاني؟ ص : 11
من هو
الشهرستاني؟
اسمه محمد بن
عبد الكريم بن أحمد، و كنيته أبو الفتح، و شهرته المعروف بها الشهرستاني، نسبة إلى
بلدة «شهرستان» مسقط رأسه و مثوى رفاته، و هي شهرستان خراسان، بين نيسابور و
خوارزم في آخر حدود خراسان، و هي التي بناها عبد اللّه بن طاهر أمير خراسان في
خلافة المأمون، و قد أخرجت خلقا كثيرا من العلماء.
أمّا مولده،
فقد اختلف في تاريخه و الراجح أنه ولد سنة 479 ه. و توفي في شعبان سنة 548 ه.
الموافق 1086- 1153 م. و بذلك يكون قد عاش قرابة السبعين سنة.
و الشهرستاني
من حيث المذهب شافعي، و من حيث الأصول أشعري، كان إماما مبرّزا فقيها متكلّما،
واعظا محاضرا. قال عنه الخوارزمي في تاريخ خوارزم:
«دخل خوارزم
و اتخذ بها دارا و سكنها مدّة، ثم تحوّل إلى خراسان، و كان عالما حسنا، حسن الخطّ،
و اللفظ، لطيف المحاورة، خفيف المحاضرة، طيّب المعاشرة، تفقّه بنيسابور على أحمد
الخوافي و أبي نصر القشيري، و قرأ الأصول على أبي القاسم الأنصاري، و سمع الحديث
على أبي الحسن علي بن أحمد بن محمد المدائني و غيره .. و خرج من خوارزم سنة 510 ه.
و حجّ في هذه السنة، ثم أقام ببغداد ثلاث سنين، و كان له مجلس وعظ في النظاميّة [و
هي أعلى المدارس ببغداد] و ظهر له قبول عند العوام، و كان المدرّس بها يومئذ أسعد
الميهني، و كان بينهما صحبة سالفة بخوارزم، فقرّبه أسعد لذلك ... و كان قد صنّف
كتبا كثيرة في
11
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
نماذج من آراء العلماء فيه: ص : 12
علم الكلام
.. ثم عاد إلى بلدة شهرستان فمات بها في سنة 549 ه أو قريبا منها، و مولده سنة
469».
و كان
الشهرستاني مولعا بطلب العلم، يطوف بالبلاد الإسلامية يتعلّم و يعلّم، و بلغ من
جلال مجالسه العلمية أنها كانت تدوّن و ذلك لعمقها. و من صفوة الشيوخ الذين كانوا
يحضرون هذه المجالس: أبو الحسن بن حموية، و البيهقي، و الإمام أبو منصور، و موفق
الدين أحمد اللّيثي، و شهاب الدين الواعظ، و غيرهم من أئمة الفقه و العلم.
نماذج من
آراء العلماء فيه:
قال ابن
السبكي: «برع في الفقه و الأصول و الكلام، و كان لعلمه يلقب بالأفضل و بالفيلسوف و
بالإمام».
و قال ابن
تغري بردي: «كان إمام عصره في علم الكلام، عالما بفنون كثيرة من العلوم، و به
تخرّج جماعة من العلماء».
و قال ياقوت:
«إنه المتكلّم الفيلسوف صاحب التصانيف».
و قال مصطفى
عبد الرزاق: «إن الشهرستاني من أهل الفلسفة الإسلامية الذين يستشهد بآرائهم، مثله
مثل ابن سينا».
أمّا العلماء
الغربيون فقد مثّلهم العالم الإنكليزي «الفرد جيوم» بقوله:
«الشهرستاني
كان رجلا ديّنا إلى الأعماق، و إخلاصه للعقيدة لا يمكن أن يشك فيه أيّ إنسان قرأ
مؤلّفاته التي تكفي بنفسها لدحض ادّعاءات المنتقصين من شأنه ...
و هو جدير
بأن ينظر إليه باعتباره ذا أصالة فكرية.
و من قول
«كارادي» الفرنسي: «إن عقلية الشهرستاني لم تكن في جوهرها إلّا عقلية فلسفية».
و قال العالم
الألماني: «هابركر»: «بواسطة الشهرستاني في كتابه الملل و النحل نستطيع أن نسدّ
الثغرة التي في تاريخ الفلسفة بين القديم و الحديث».
12
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
نماذج من آراء منتقديه: ص : 13
نماذج من
آراء منتقديه:
على أنّ هذا
التقدير للشهرستاني لم يحل دون انتقاده من بعض معاصريه أو المتأخرين مثل الخوارزمي
الذي أورد في كتابه تاريخ خوارزم: «لو لا تخبطه في الاعتقاد و ميله إلى هذا
الإلحاد لكان هو الإمام ... و ليس ذلك إلّا لإعراضه عن نور الشريعة و اشتغاله
بظلمات الفلسفة ... و قد حضرت عدّة مجالس من وعظه فلم يكن فيها لفظ، قال اللّه، و
لا قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلّم ... و اللّه أعلم بحاله».
و ابن
السمعاني في قوله: «إنه كان متّهما بالميل إلى أهل القلاع (يعني الإسماعيلية) و
الدعوة إليهم، غال في التشيّع».
و ياقوت في
وصفه له بأنّه: «الفيلسوف المتكلّم، صاحب التصانيف. كان وافر الفضل، كامل العقل،
لو لا تخبطه في الاعتقاد، و مبالغته في نصرة مذاهب الفلاسفة، و الذبّ عنهم لكان هو
الإمام ...».
و من الكتاب
المحدّثين، قول أحمد أمين: «... و رأيت مؤلفي العرب كالشهرستاني و القفطي و
أمثالهما قد خلطوا حقّا و باطلا».
و دافع عنه
ابن السبكي في طبقاته و قال: «الحقّ أقول أن ما اتّهم به، هو منه براء فإن تصانيفه
آية على استمساك بالعقيدة و اعتصام بالدين، و إنه يميل إلى أهل السنّة و الجماعة،
إلّا أنه كان يتابع مذهب الفلاسفة، و يذبّ عن آرائهم و أفكارهم ممّا أدّى لتهمته».
و في كتاب
«الذيل» للسمعاني، و «وفيات الأعيان» لابن خلّكان، أن الشهرستاني ذكر في أوّل
كتابه «نهاية الإقدام» بيتين من الشعر هما:
لقد طفت في
تلك المعاهد كلّها
|
|
و سيّرت
طرفي بين تلك المعالم
|
فلم أر إلّا
واضعا كفّ حائر
|
|
على ذقن أو
قارعا سنّ نادم
|
و لم يذكر
صاحب البيتين، و قيل: هما لأبي بكر محمد بن باجة، المعروف بابن الصائغ الأندلسي.
[و قيل: إنهما لأبي علي ابن سينا].
13
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
مؤلفات الشهرستاني: ص : 14
أضاف ابن
خلّكان: «و كان الشهرستاني يروي بالإسناد المتّصل إلى النظّام البلخي العالم،
المشهور، و اسمه إبراهيم بن سيّار، أنّه كان يقول: لو كان للفراق صورة لارتاع لها
القلوب، و لهدّ الجبال، و لجمر الغضى أقلّ توهّجا من حمله، و لو عذّب اللّه أهل
النار بالفراق لاستراحوا إلى ما قبله من العذاب.
و كان يروي
للدريدي أيضا باتصال الإسناد إليه قوله:
ودّعته حين
لا تودّعه
|
|
روحي و
لكنها تسير معه
|
ثم افترقنا
و في القلوب لنا
|
|
ضيق مكان و
في الدموع سعه
|
و كان يروي
للدريدي مسندا إليه:
يا راحلين
بمهجة
|
|
في الحبّ
متلفة شقيّه
|
الحبّ فيه
بليّة
|
|
و بليّتي
فوق البليّة
|
أضاف ابن
خلّكان: «كل ذلك رواه الحافظ أبو سعيد بن السمعاني في كتاب «الذيل» ثم قال في آخر
الترجمة: وصل إليّ نعيه و أنا ببخارا، رحمه اللّه تعالى».
مؤلفات
الشهرستاني:
للشهرستاني
مؤلفات كثيرة منها:
1- الإرشاد
إلى عقائد العباد: ذكره الشهرستاني نفسه في كتابه «نهاية الإقدام».
2- الأقطار
في الأصول. نسبه إليه الخوارزمي.
3- تاريخ
الحكماء. نسبه إليه (كيورتن) في مقدمته لطبعته لكتاب «الملل و النحل».
4- تلخيص
الأقسام لمذاهب الأنام، نسبه إليه ابن خلّكان، و أبو الفداء، و حاجي خليفة.
5- دقائق
الأوهام. نسبه إليه الخوارزمي.
6- شرح سورة
يوسف بعبارة فلسفية لطيفة نسبه إليه الخوارزمي.
7- العيون و
الأنهار. نسبه إليه البيهقي.
8- غاية
المرام في علم الكلام. نسبه إليه الخوارزمي.
14
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
مؤلفات الشهرستاني: ص : 14
9- قصة موسى
و الخضر. نسبه إليه البيهقي.
10- المبدأ و
المعاد. نسبه إليه الخوارزمي.
11- مجالس
مكتوبة. رآها البيهقي. و كانت المجالس لا تكتب إلّا للأئمة نادرا.
12- مصارعة
الفلاسفة، أو المصارعة و المضارعة. نسبه إليه صدر الدين الشيرازي.
13- مفاتيح
الأسرار و مصابيح الأبرار في تفسير القرآن. نسبه إليه البيهقي.
14- المناهج
و الآيات. نسبه إليه البيهقي و ابن خلّكان و أبو الفداء.
15- شبهات
أرسطاطاليس و ابن سينا و نقضها. ذكرها الشهرستاني نفسه.
16- نهاية
الأوهام. أشار إليه الشهرستاني في آخر كتابه «نهاية الإقدام».
17- نهاية
الإقدام في علم الكلام. مطبوع.
18- الملل و
النحل، الكتاب الذي نشرحه الآن.
آملين أن نكون
قد أدّينا خدمة للقارئ، و اللّه الموفق.
أمير علي
مهنّا
علي حسن
فاعور
بيروت في 17
شوّال 1408 ه.
الموافق 1
حزيران 1988 م.
15
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
مقدمات الشهرستانى ص : 17
[مقدمات
الشهرستانى]
بسم اللّه
الرحمن الرحيم الحمد للّه حمد الشاكرين بجميع محامده كلها؛ على جميع نعائمه كلها،
حمدا كثيرا طيبا مباركا كما هو أهله. و صلّى اللّه على سيدنا محمد المصطفى رسول
الرحمة خاتم النبيّين و على آله الطيبين الطاهرين؛ صلاة دائمة بركتها إلى يوم
الدين، كما صلّى على إبراهيم و على آل إبراهيم إنه حميد مجيد.
و بعد: فلمّا
وفقني اللّه تعالى لمطالعة مقالات أهل العالم من أرباب الديانات و الملل «1»، و أهل
الأهواء «2» و النحل «3»، و الوقوف على مصادرها و مواردها، و
اقتناص أوانسها «4» و شواردها «5»، أردت أن أجمع ذلك في مختصر يحوي جميع
ما تديّن به المتدينون، و انتحله المنتحلون؛ عبرة لمن استبصر، و استبصارا لمن
اعتبر.
و قبل الخوض
فيما هو الغرض لا بدّ من أن أقدم خمس مقدمات:
+ المقدمة
الأولى: في بيان أقسام أهل العالم جملة مرسلة «6».
+ المقدمة
الثانية: في تعيين قانون يبنى عليه تعديد الفرق الإسلامية.
+ المقدمة
الثالثة: في بيان أوّل شبهة وقعت في الخليقة، و من مصدرها و من مظهرها؟
______________________________
(1)
الملل: جمع ملّة، و هي الشريعة و الدين.
(2) أهل
الأهواء: أهل الآراء كالفلاسفة و الدهريّة و الصابئة و عبدة الكواكب و الأوثان و
غيرهم.
(3)
النحل: جمع نحلة بالكسر و هي الدعوى و الديانة و منه الانتحال و هو ادعاء ما لا
أصل له.
(4)
أوانسها: أراد معلوماتها القيّمة. و أوانس: جمع آنسة، الشابة الجميلة.
(5)
شواردها: معلوماتها النادرة، و شوارد اللغة: نوادرها.
(6) جملة
مرسلة: أي غير مقيّدة.
17
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
المقدمة الأولى في بيان تقسيم أهل العالم جملة مرسلة ص : 18
+ المقدمة
الرابعة: في بيان أوّل شبهة «1» وقعت في الملة الإسلامية، و كيفية
انشعابها «2»، و من مصدرها، و من مظهرها؟
+ المقدمة
الخامسة: في بيان السبب الذي أوجب ترتيب هذا الكتاب على طريق الحساب.
المقدمة
الأولى في بيان تقسيم أهل العالم جملة مرسلة
1- من الناس
من قسم أهل العالم بحسب الأقاليم السبعة. و أعطى أهل كل إقليم حظه من اختلاف
الطبائع و الأنفس التي تدلّ عليها الألوان و الألسن.
2- و منهم من
قسمهم بحسب الأقطار الأربعة التي هي: الشرق، و الغرب، و الجنوب، و الشمال. و وفر
على كل قطر حقه من اختلاف الطبائع، و تباين الشرائع.
3- و منهم من
قسمهم بحسب الأمم، فقال كبار الأمم أربعة: العرب، و العجم، و الروم، و الهند، ثم
زاوج «3» بين أمة و أمة: فذكر أن العرب و الهند يتقاربان على مذهب
واحد، و أكثر ميلهم إلى تقرير خواص الأشياء و الحكم بأحكام الماهيات «4» و الحقائق،
و استعمال الأمور الروحانية. و الروم و العجم يتقاربان على مذهب واحد، و أكثر
ميلهم إلى تقرير طبائع الأشياء و الحكم بأحكام الكيفيات «5» و الكميات،
و استعمال الأمور الجسمانية.
4- و منهم من
قسمهم بحسب الآراء و المذاهب. و ذلك غرضنا في تأليف
______________________________
(1)
الشبهة: الالتباس. و أمور مشتبهة و مشبهة: مشكلة يشبه بعضها بعضا.
(2)
انشعابها: انقسامها و تفرقها. و شعب الشيء: فرّقه و انشعب عنه: تباعد.
(3) زاوج
بين أمة و أمة: خالط بينهما و قارن.
(4) ماهية
الشيء: حقيقته. نسبة إلى «ما هو».
(5)
الكيف: حالة الشيء و صفته.
18
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
المقدمة الأولى في بيان تقسيم أهل العالم جملة مرسلة ص : 18
هذا الكتاب.
و هم منقسمون بالقسمة الصحيحة الأولى إلى أهل الديانات و الملل، و أهل الأهواء و
النحل.
فأرباب
الديانات مطلقا مثل المجوس، و اليهود، و النصارى، و المسلمين.
و أهل
الأهواء و الآراء مثل الفلاسفة، و الدّهرية «1»، و الصابئة «2»، و عبدة
الكواكب و الأوثان، و البراهمة «3».
و يفترق كل
منهم فرقا. فأهل الأهواء ليست تنضبط مقالاتهم في عدد معلوم.
و أهل
الديانات قد انحصرت مذاهبهم بحكم الخبر الوارد فيها. فافترقت المجوس على سبعين
فرقة. و اليهود على إحدى و سبعين فرقة. و النصارى على اثنتين و سبعين فرقة. و
المسلمون على ثلاث و سبعين فرقة. و الناجية «4» أبدا من الفرق
واحدة، إذ الحق من القضيتين المتقابلتين في واحدة، و لا يجوز أن يكون قضيتان
متناقضتان متقابلتان على شرائع التقابل إلّا و أن تقتسما الصدق و الكذب. فيكون
الحق في إحداهما دون الأخرى و من المحال الحكم على المتخاصمين المتضادين في أصول
المعقولات بأنهما محقان صادقان.
و إذا كان
الحق في كل مسألة عقلية واحدا؛ فالحق في جميع المسائل يجب أن يكون مع فرقة واحدة.
و إنما عرفنا هذا بالسمع و عنه أخبر التنزيل في قوله عزّ
______________________________
(1)
الدهري: الملحد الذي لا يؤمن بالآخرة القائل ببقاء الدهر و هو مولّد.
(2)
الصابئون: جمع صابئ و هو من انتقل إلى دين آخر. و كل خارج من دين كان عليه إلى آخر
غيره سمي في اللغة صابئا. كانوا يعبدون النجوم و الكواكب. (راجع مجمع البيان 1:
126 و القرطبي 1: 380 و ابن خلدون 1: 116).
(3) في
القرن الثامن قبل الميلاد أطلق على الديانة الهندوسية اسم «البرهمية» نسبة إلى
«برهما» و هو في اللغة السنسكريتية معناه «اللّه» و رجال دين الهندوس يعتقدون أنه
الإله الموجود بذاته الذي لا تدركه الحواس و إنما يدرك بالعقل و هو الأصل الأزلي
المستقل الذي أوجد الكائنات كلها و منه يستمد العالم وجوده و يعتقد الهندوس أن
رجال هذا الدين يتّصلون في طبائعهم بعنصر «البرهما» و لذلك أطلق عليهم اسم
«البراهمة». (راجع الأديان و الفرق و المذاهب المعاصرة ص 45).
(4)
سيشرحها النبي صلى اللّه عليه و سلّم بعد أسطر قليلة.
19
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
المقدمة الثانية في تعيين قانون يبنى عليه تعديد الفرق الإسلامية ص : 20
و جلّ: وَ
مِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَ بِهِ يَعْدِلُونَ «1» و أخبر
النبي عليه الصلاة و السلام: «ستفترق أمّتي على ثلاث و سبعين فرقة، النّاجية منها
واحدة، و الباقون هلكى «2». قيل: و من النّاجية؟ قال: أهل السّنّة و
الجماعة. قيل: و ما السّنّة و الجماعة؟ قال ما أنا عليه اليوم و أصحابي».
و قال عليه
الصلاة و السلام: «لا تزال طائفة من أمّتي ظاهرين على الحقّ إلى يوم القيامة».
و قال عليه
الصلاة و السلام: «لا تجتمع أمّتي على ضلالة».
المقدمة
الثانية في تعيين قانون يبنى عليه تعديد الفرق الإسلامية
اعلم أن
لأصحاب المقالات طرقا في تعديد الفرق الإسلامية، لا على قانون مستند إلى أصل و نص،
و لا على قاعدة مخبرة عن الوجود. فما وجدت مصنّفين منهم متفقين على منهاج واحد في
تعديد الفرق.
و من المعلوم
الذي لا مراء فيه أن ليس كل من تميّز عن غيره بمقالة ما؛ في مسألة ما؛ عدّ صاحب
مقالة. و إلّا فتكاد تخرج المقالات عن حد الحصر و العد و يكون من انفرد بمسألة في
أحكام الجواهر مثلا معدودا في عداد أصحاب المقالات فلا بدّ إذن من ضابط في مسائل
هي أصول و قواعد يكون الاختلاف فيها اختلافا يعتبر مقالة، و يعدّ صاحبه صاحب مقالة.
و ما وجدت
لأحد من أرباب المقالات عناية بتقرير هذا الضابط، إلّا أنهم استرسلوا في إيراد
مذاهب الأمة كيف اتفق، و على الوجه الذي وجد، لا على قانون مستقرّ، و أصل مستمرّ
فاجتهدت على ما تيسر من التقدير، و تقدر من التيسير حتى حصرتها في أربع قواعد، هي
الأصول الكبار.
______________________________
(1) سورة
الأعراف: الآية 181.
(2) راجع
ما روي عن النبي صلى اللّه عليه و سلّم من ذم بعض الفرق في «الفرق بين الفرق ص 9
دار المعرفة».
20
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
المقدمة الثانية في تعيين قانون يبنى عليه تعديد الفرق الإسلامية ص : 20
+ القاعدة
الأولى: الصفات و التوحيد فيها. و هي تشتمل على مسائل:
الصفات
الأزلية، إثباتا عند جماعة و نفيا عند جماعة. و بيان صفات الذات، و صفات الفعل، و
ما يجب للّه تعالى، و ما يجوز عليه، و ما يستحيل. و فيها الخلاف بين الأشعرية «1»، و
الكراميّة «2»، و المجسّمة و المعتزلة.
+ القاعدة
الثانية: القدر و العدل فيه. و هي تشتمل على مسائل: القضاء، القدر، و الجبر و
الكسب، و إرادة الخير و الشرّ، و المقدور، و المعلوم؛ إثباتا عند جماعة، و نفيا
عند جماعة. و فيها الخلاف بين: القدريّة، و النّجّاريّة «3»، و الجبرية،
و الأشعرية، و الكرّاميّة.
+ القاعدة
الثالثة: الوعد، و الوعيد، و الأسماء، و الأحكام، و هي تشمل على مسائل: الإيمان، و
التوبة، و الوعيد، و الإرجاء، و التفكير، و التضليل؛ إثباتا على وجه عند جماعة، و
نفيا عند جماعة. و فيها الخلاف بين المرجئة، و الوعيدية، و المعتزلة، و الأشعرية و
الكرّاميّة.
+ القاعدة
الرابعة: السمع و العقل، و الرسالة، و الإمامة. و هي تشتمل على مسائل: التحسين، و
التقبيح، و الصلاح و الأصلح، و اللطف، و العصمة في النّبوّة.
و شرائط
الإمامة، نصا عند جماعة. و كيفية انتقالها على مذهب من قال بالنّص و كيفية إثباتها
على مذهب من قال بالإجماع. و الخلاف فيها بين الشيعة، و الخوارج، و المعتزلة، و
الكرامية، و الأشعرية.
فإذا وجدنا
انفراد واحد من أئمة الأمة بمقالة من هذه القواعد، عددنا مقالته مذهبا و جماعته
فرقة. و إن وجدنا واحدا انفرد بمسألة فلا نجعل مقالته مذهبا، و جماعته فرقة. بل
نجعله مندرجا تحت واحد ممن وافق سواها مقالته، و رددنا باقي
______________________________
(1) أصحاب
أبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري.
(2) أصحاب
أبي عبد اللّه محمد بن كرام.
(3) أصحاب
الحسين بن محمد النجار.
21
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
كبار الفرق الإسلامية الأربع: ص : 22
مقالاته إلى
الفروع التي لا تعدّ مذهبا مفردا؛ فلا تذهب المقالات إلى غير النهاية، فإذا تعينت
المسائل التي هي قواعد الخلاف، تبينت أقسام الفرق الإسلامية، و انحصرت كبارها في
أربع بعد أن تداخل بعضها في بعض.
كبار الفرق
الإسلامية الأربع:
(1)
القدريّة. (2) الصفاتيّة «1» (3) الخوارج. (4) الشّيعة.
ثم يتركّب
بعضها مع بعض، و يتشعّب عن كلّ فرقة أصناف، فتصل إلى ثلاث و سبعين فرقة.
و لأصحاب كتب
المقالات طريقان في الترتيب:
أحدهما: أنهم
وضعوا المسائل أصولا، ثم أوردوا في كل مسألة مذهب طائفة طائفة و فرقة فرقة.
و الثاني:
أنهم وضعوا الرجال و أصحاب المقالات أصولا، ثم أوردوا مذاهبهم، في مسألة مسألة.
و ترتيب هذا
المختصر على الطريقة الأخيرة، لأني وجدتها أضبط للأقسام، و أليق بباب الحساب.
و شرطي على
نفسي أن أورد مذهب كل فرقة على ما وجدته في كتبهم؛ من غير تعصّب لهم، و لا كسر «2» عليهم؛ دون
أن أبيّن صحيحه من فاسده، و أعيّن حقّه من باطله، و إن كان لا يخفى على الأفهام
الذكيّة في مدارج «3» الدلائل العقلية لمحات الحق و نفحات الباطل، و باللّه
التوفيق.
______________________________
(1) الذين
كانوا يثبتون للّه تعالى صفات أزلية .. و سيأتي الحديث على الصفاتية في موضعه.
(2) و لا
كسر عليهم: أي لا غضّ من آرائهم و معتقداتهم.
(3)
المدارج: جمع مدرج، و هو المذهب.
22
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
المقدمة الثالثة في بيان أول شبهة وقعت في الخليقة، و من مصدرها في الأول، و من مظهرها في الآخر ص : 23
المقدمة
الثالثة في بيان أوّل شبهة وقعت في الخليقة، و من مصدرها في الأول، و من مظهرها في
الآخر
اعلم أنّ أول
شبهة وقعت في الخليقة: شبهة إبليس لعنه اللّه. و مصدرها استبداده بالرأي في مقابلة
النص. و اختياره الهوى في معارضة الأمر، و استكباره بالمادة التي خلق منها و هي
النار على مادة آدم عليه السّلام و هي الطين.
و انشعبت «1» من هذه
الشبهة سبع شبهات، و سارت في الخليقة، و سرت في أذهان الناس حتى صارت مذاهب بدعة و
ضلالة، و تلك الشبهات مسطورة «2» في شرح الأناجيل «3» الأربعة: «4»: إنجيل لوقا «5»، و مارقوس «6»، و يوحنا «7»، و متّى «8»، و مذكورة
في التوراة متفرقة على شكل مناظرات بينه و بين الملائكة بعد الأمر بالسجود، و
الامتناع منه.
قال كما نقل
عنه: إني سلّمت أنّ الباري تعالى إلهي و إله الخلق، عالم
______________________________
(1)
انشعبت: افترقت.
(2)
مسطورة: مكتوبة و مسجّلة.
(3)
الأناجيل: جمع إنجيل. و الإنجيل كلمة يونانية معناها البشارة.
(4)
الأناجيل المعتبرة عند النصارى أربعة. غير أنه كانت في العصور القديمة أناجيل أخرى
أخذت بها الفرق كإنجيل برنابا و إنجيل مرقيون، و إنجيل السبعين و غيرها و هي
تتخالف مع الأناجيل الأربعة التي لم تعرف قبل أواخر القرن الثاني و كتبت بعد
المسيح. (راجع محاضرات في النصرانية ص 36 و تعليق شكيب أرسلان على ابن خلدون 1:
57).
(5) تنازع
مؤرخو النصرانية في تاريخ تدوين هذا الإنجيل. فقيل إنه ألّف عام 53 أو 63 أو 84. و
قيل غير ذلك. و سنترجم «للوقا» عند الحديث على النصرانية.
(6)
مارقوس: مرقس. اسمه يوحنّا و مرقس لقبه. سنترجم له عند الحديث على النصرانية.
(7) هو
محل نزاع عميق بين علماء النصارى. فالكثير منهم يدعي أنه أحد الحواريين و هو
يوحنّا بن زيدي الصياد. و بعضهم يدعي أنه يوحنّا آخر لا يمتّ إلى الأول بصلة.
سنترجم له عند الحديث على النصرانية.
(8) يدعى
لاوى بن حلفى من قانا الجليل و كان من جباة العشور للدولة الرومانية. سنترجم له
عند الحديث على النصارى.
23
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
المقدمة الثالثة في بيان أول شبهة وقعت في الخليقة، و من مصدرها في الأول، و من مظهرها في الآخر ص : 23
قادر، و لا
يسأل عن قدرته و مشيئته، و أنه مهما أراد شيئا قال له كن فيكون، و هو حكيم، إلّا
أنه يتوجه على مساق حكمته أسئلة. قالت الملائكة: ما هي؟
و كم هي؟ قال
لعنه اللّه: سبع.
الأول منها:
أنه قد علم قبل خلقي أيّ شيء يصدر عني و يحصل مني فلم خلقني أولا؟ و ما الحكمة في
خلقه إيّاي؟
و الثاني: إذ
خلقني على مقتضى إرادته و مشيئته؛ فلم كلّفني بمعرفته و طاعته؟
و ما الحكمة
في هذا التكليف بعد أن لا ينتفع بطاعة، و لا يتضرّر بمعصية؟
و الثالث: إذ
خلقني و كلّفني فالتزمت تكليفه بالمعرفة و الطاعة فعرفت و أطعت، فلم كلّفني بطاعة
آدم و السجود له، و ما الحكمة في هذا التكليف على الخصوص بعد أن لا يزيد ذلك في
معرفتي و طاعتي إياه؟
و الرابع: إذ
خلقني و كلّفني على الإطلاق، و كلّفني بهذا التكليف على الخصوص، فإذا لم أسجد
لآدم، فلم لعنني و أخرجني من الجنة؟ و ما الحكمة في ذلك بعد أن لم أرتكب قبيحا
إلّا قولي: لا أسجد إلّا لك؟
و الخامس: إذ
خلقني و كلّفني مطلقا و خصوصا؛ فلم أطع فلعنني و طردني، فلم طرّقني «1» إلى آدم حتى
دخلت الجنة ثانيا و غررته بوسوستي، فأكل من الشجرة المنهي عنها، و أخرجه من الجنة
معي؟ و ما الحكمة في ذلك بعد أن لو منعني من دخول الجنة لاستراح مني آدم، و بقي
خالدا فيها؟
و السادس: إذ
خلقني و كلّفني عموما، و خصوصا، و لعنني، ثم طرقني إلى الجنة، و كانت الخصومة بيني
و بين آدم؛ فلم سلّطني على أولاده حتى أراهم من حيث لا يرونني، و تؤثر فيهم
وسوستي «2» و لا يؤثّر فيّ حولهم و قوّتهم، و قدرتهم
______________________________
(1)
طرقني: جعل لي طريقا.
(2)
الوسوسة: حديث النفس و اختلاط الذهن. و الوسواس: هو الشيطان.
24
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
المقدمة الثالثة في بيان أول شبهة وقعت في الخليقة، و من مصدرها في الأول، و من مظهرها في الآخر ص : 23
و استطاعتهم؟
و ما الحكمة في ذلك بعد أن لو خلقهم على الفطرة دون من يحتالهم عنها «1» فيعيشوا
طاهرين سامعين مطيعين، كان أحرى بهم، و أليق بالحكمة.
و السابع:
سلمت هذا كلّه: خلقني و كلّفني مطلقا و مقيدا، و إذ لم أطع لعنني و طردني، و إذا
أردت دخول الجنة مكّنني و طرّقني، و إذا عملت عملي أخرجني ثم سلّطني على بني آدم،
فلم إذا استمهلته أمهلني، فقلت: فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ «2»- قالَ
فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ «3».
و ما الحكمة
في ذلك بعد أن لو أهلكني في الحال استراح آدم و الخلق مني و ما بقي شرّ ما في
العالم؟ أ ليس بقاء العالم على نظام الخير خيرا من امتزاجه بالشرّ؟!
قال: فهذه
حجتي على ما ادّعيته في كل مسألة.
قال شارح
الإنجيل: فأوحى اللّه تعالى إلى الملائكة عليهم السلام، قولوا له:
إنك في
تسليمك الأول أني إلهك و إله الخلق غير صادق و لا مخلص، إذ لو صدّقت أنّي إله
العالمين ما احتكمت عليّ بلم، فأنا اللّه الذي لا إله إلّا أنا، لا أسأل عمّا
أفعل، و الخلق مسئولون، و هذا الذي ذكرته مذكور في التوراة، و مسطور في الإنجيل
على الوجه الذي ذكرته.
و كنت برهة
من الزمان أتفكّر و أقول: من المعلوم الذي لا مرية «4» فيه أنّ كلّ
شبهة وقعت لبني آدم؛ فإنما وقعت من إضلال الشيطان الرجيم و وساوسه و نشأت من
شبهاته، و إذا كانت الشبهات محصورة في سبع عادت كبار البدع و الضلالات إلى سبع. و
لا يجوز أن تعدو شبهات فرق الزيغ و الكفر و الضلال هذه الشبهات و إن اختلفت
العبارات؛ و تباينت الطرق، فإنها بالنسبة إلى أنواع الضلالات كالبذور، و ترجع
جملتها إلى إنكار الأمر بعد الاعتراف بالحق، و إلى الجنوح إلى الهوى في مقابلة
النص.
______________________________
(1)
يحتالهم عنها: يصرفهم عنها.
(2) سورة
الأعراف: الآية 13، و تمامها: قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ
يُبْعَثُونَ.
(3) سورة
الحجر: الآيتان 37 و 38.
(4)
المرية: الجدل. يقال: ما فيه مرية، أي جدل. و المرية: الشك.
25
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
المقدمة الثالثة في بيان أول شبهة وقعت في الخليقة، و من مصدرها في الأول، و من مظهرها في الآخر ص : 23
هذا. و من
جادل نوحا، و هودا، و صالحا، و إبراهيم، و لوطا، و شعيبا، و موسى، و عيسى، و
محمدا؛ صلوات اللّه عليهم أجمعين، كلّهم نسجوا على منوال اللعين الأول في إظهار
شبهاته، و حاصلها يرجع إلى دفع التكليف عن أنفسهم، و جحد أصحاب الشرائع و التكاليف
بأسرهم، إذ لا فرق بين قولهم: أَ بَشَرٌ يَهْدُونَنا «1» و بين قوله: أَ
أَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً «2» و عن هذا صار مفصل الخلاف، و محزّ
الافتراق ما هو في قوله تعالى: وَ ما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا
إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلَّا أَنْ قالُوا أَ بَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا «3»، فبيّن أن
المانع من الإيمان هو هذا المعنى، كما قال المتقدّم في الأول: ما
مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي
مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ «4»، و قال المتأخر من ذرّيته كما قال
المتقدّم: أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَ لا يَكادُ
يُبِينُ «5»، و كذلك لو تعقّبنا أقوال المتقدمين منهم وجدناها مطابقة
لأقوال المتأخّرين: كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ
قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ «6»، فَما كانُوا
لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ «7».
فاللعين
الأول لما حكم العقل على من لا يحكم عليه العقل، لزمه أن يجري حكم الخالق في
الخلق، أو حكم الخلق في الخالق، و الأول غلوّ، و الثاني تقصير.
فثار من
الشبهة الأولى مذاهب: الحلولية «8»، ................ .........
______________________________
(1) سورة
التغابن: الآية 6، و تمامها: ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ
رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَ بَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وَ
تَوَلَّوْا وَ اسْتَغْنَى اللَّهُ وَ اللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ.
(2) سورة
الإسراء: الآية 60.
(3) سورة
الإسراء: الآية 94.
(4) سورة
الأعراف: الآية 11.
(5) سورة
الزخرف: الآية 52.
(6) سورة
البقرة: الآية 118.
(7) سورة
يونس: الآية 74.
(8)
الحلولية في الجملة عشر فرق كلّها كانت في دولة الإسلام، و غرض جميعها القصد إلى
إفساد القول بتوحيد الصانع. (راجع الفرق بين الفرق ص 254).
26
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
المقدمة الثالثة في بيان أول شبهة وقعت في الخليقة، و من مصدرها في الأول، و من مظهرها في الآخر ص : 23
و التناسخية «1»، و المشبهة «2»، و الغلاة
من الروافض، حيث غلوا في حق شخص من الأشخاص حتى و صفوه بأوصاف الإله.
و ثار من
الشبهة الثانية مذاهب: القدرية، و الجبرية، و المجسمة، حيث قصروا في وصفه تعالى
حتى و صفوه بصفات المخلوقين.
فالمعتزلة
مشبهة الأفعال، و المشبهة حلولية الصفات، و كل واحد منهم أعور بأي عينيه شاء، فإن
من قال: إنما يحسن منه ما يحسن منا، و يقبح منه ما يقبح منا، فقد شبّه الخالق
بالخلق؛ و من قال: يوصف الباري تعالى بما يوصف به الخلق، أو يوصف الخلق بما يوصف
به الباري تعالى فقد اعتزل عن الحق، و سنخ «3» القدريّة طلب العلة
في كل شيء، و ذاك من سنخ اللعين الأول؛ إذ طلب العلة في الخلق أولا، و الحكمة في
التكليف ثانيا، و الفائدة في تكليف السجود لآدم عليه السلام ثالثا، و عنه نشأ مذهب
الخوارج، إذ لا فرق بين قولهم: لا حكم إلّا للّه و لا نحكم الرجال، و بين قوله: لا
أسجد إلّا لك، لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ
مَسْنُونٍ «4». و بالجملة «كلا طرفي قصد الأمور ذميم»، فالمعتزلة غلوا
في التوحيد بزعمهم حتى وصلوا إلى التعطيل بنفي الصفات، و المشبهة: قصروا حتى و
صفوا الخالق بصفات الأجسام، و الروافض: غلوا في النبوة و الإمامة حتى وصلوا إلى
الحلول، و الخوارج: قصروا حتى نفوا تحكيم الرجال.
و أنت ترى
إذا نظرت أنّ هذه الشبهات كلها ناشئة من شبهات اللعين الأول، و تلك في الأول
مصدرها، و هذه في الآخرة مظهرها، و إليه أشار التنزيل في قوله تعالى وَ لا
تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ «5».
______________________________
(1) هم
الذين يعتقدون بتناسخ الأرواح في الأجساد، و الانتقال من شخص إلى شخص.
(2) الذين
يجعلون اللّه أعضاء و يقولون إنه جسد و له يد و عين.
(3)
السّنخ، بالكسر: الأصل من كل شيء و الجمع أسناخ و سنوخ.
(4) تمام
الآية: قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ
مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ سورة الحجر: الآية 33.
(5) سورة
البقرة: الآية 168.
27
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
المقدمة الرابعة في بيان أول شبهة وقعت في الملة الإسلامية، و كيفية انشعابها، و من مصدرها، و من مظهرها ص : 28
و شبّه النبي
صلى اللّه عليه و سلّم كلّ فرقة ضالّة من هذه الأمّة بأمّة ضالّة من الأمم
السالفة، فقال: «القدريّة مجوس هذه الأمّة»، و قال: «المشبّهة يهود هذه الأمّة، و
الرّوافض نصاراها».
و قال عليه
الصّلاة و السّلام جملة: «لتسلكنّ سبل الأمم قبلكم حذو القذّة بالقذّة «1»، و النّعل
بالنّعل، حتّى لو دخلوا جحر ضبّ لدخلتموه» «2».
المقدمة
الرابعة في بيان أوّل شبهة وقعت في الملّة الإسلامية، و كيفية انشعابها، و من
مصدرها، و من مظهرها
و كما قرّرنا
أنّ الشبهات التي وقعت في آخر الزمان هي بعينها تلك الشبهات التي وقعت في أوّل
الزمان، كذلك يمكن أن نقرر في زمان كل نبيّ و دور صاحب كلّ ملّة و شريعة: أنّ
شبهات أمّته في آخر زمانه؛ ناشئة من شبهات خصماء أوّل زمانه من الكفّار و الملحدين
و أكثرها من المنافقين، و إن خفي علينا ذلك في الأمم السالفة لتمادي الزمان، فلم
يخف في هذه الأمة أنّ شبهاتها نشأت كلّها من شبهات منافقي زمن النبي عليه الصّلاة
و السلام، إذ لم يرضوا بحكمه فيما كان يأمر و ينهى، و شرعوا فيما لا مسرح للفكر
فيه و لا مسرى، و سألوا عما منعوا من الخوض فيه، و السؤال عنه، و جادلوا بالباطل
فيما لا يجوز الجدال فيه.
اعتبر حديث
ذي الخويصرة «3» التميمي، إذ قال: اعدل يا محمّد فإنّك لم تعدل، حتى قال
عليه الصلاة و السلام: «إن لم أعدل فمن يعدل؟» فعاد اللعين و قال: «هذه قسمة ما
أريد بها وجه اللّه تعالى»، و ذلك خروج صريح على النبيّ عليه الصلاة و السلام و لو
صار من اعترض على الإمام الحق خارجا، فمن اعترض
______________________________
(1)
القذّة، بالضمّ: ريش السّهم و الجمع قذذ.
(2)
الضبّ: حيوان من الزحافات شبيه بالحرذون ذنبه كثير العقد.
(3) ذو
الخويصرة التميمي و هو حرقوص بن زهير. شهد مع علي في صفين ثم صار من الخوارج و من
أشدهم على علي. قتل سنة 37. (أسد الغابة 1: 396).
28
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
المقدمة الرابعة في بيان أول شبهة وقعت في الملة الإسلامية، و كيفية انشعابها، و من مصدرها، و من مظهرها ص : 28
و حكما
بالهوى في مقابلة النص، و استكبارا على الأمر بقياس العقل؟ حتى قال عليه الصلاة و
السلام: «سيخرج «1» من ضئضئ «2» هذا الرّجل قوم يمرقون «3» من الدّين
كما يمرق السّهم من الرّميّة ...» الخبر بتمامه.
و اعتبر حال
طائفة أخرى من المنافقين يوم أحد، إذ قالوا: هَلْ لَنا مِنَ
الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ «4»، و قولهم: لَوْ كانَ لَنا
مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا «5»، و قولهم:
لَوْ
كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَ ما قُتِلُوا «6»، فهل ذلك إلّا تصريح
بالقدر؟ و قول طائفة من المشركين: لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ
دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ «7»، و قول طائفة:
أَ
نُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ «8»، فهل هذا
إلّا تصريح بالجبر؟
و اعتبر حال
طائفة أخرى حيث جادلوا في ذات اللّه، تفكرا في جلاله، و تصرفا في أفعاله حتى منعهم
و خوّفهم بقوله تعالى: وَ يُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ
وَ هُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وَ هُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ «9»، فهذا ما
كان في زمانه عليه الصلاة و السلام و هو على شوكته و قوته و صحّة بدنه، و
المنافقون يخادعون فيظهرون الإسلام و يبطنون الكفر، و إنما يظهر نفاقهم بالاعتراض
في كل وقت على حركاته و سكناته، فصارت الاعتراضات كالبذور، و ظهرت منها الشبهات
كالزروع.
و أمّا
الاختلافات الواقعة في حال مرضه عليه الصلاة و السلام و بعد وفاته بين
______________________________
(1) في
مسلم أنه سيخرج من ضئضئ هذا قوم يتلون كتاب اللّه رطبا لا يجاوز حناجرهم يمرقون من
الدين كما يمرق السهم من الرمية لئن أدركتهم لأقتلنّهم قتل ثمود. (مسلم 3: 111).
(2)
الضئضئ: الأصل.
(3)
يمرقون من الدين: يخرجون منه.
(4) سورة
آل عمران: الآية 154.
(5) سورة
آل عمران: الآية 154.
(6) سورة
آل عمران: الآية 156.
(7) سورة
النحل: الآية 35.
(8) سورة
يس: الآية 47.
(9) سورة
الرعد: الآية 13.
29
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
المقدمة الرابعة في بيان أول شبهة وقعت في الملة الإسلامية، و كيفية انشعابها، و من مصدرها، و من مظهرها ص : 28
الصحابة رضي
اللّه عنهم، فهي اختلافات اجتهادية كما قيل، كان غرضهم منها إقامة مراسم الشرع، و
إدامة مناهج الدين.
+ فأول تنازع
وقع في مرضه عليه الصلاة و السلام فيما رواه الإمام أبو عبد اللّه محمد بن إسماعيل
البخاري «1» بإسناده عن عبد اللّه «2» بن عبّاس
رضي اللّه عنه، قال: «لمّا اشتدّ بالنّبيّ صلى اللّه عليه و سلّم مرضه الّذي مات
فيه قال: ائتوني بدواة و قرطاس أكتب لكم كتابا لا تضلّوا بعدي»، فقال عمر رضي
اللّه عنه: «إنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلّم: «قد غلبه الوجع، حسبنا كتاب
اللّه» و كثر اللغط، فقال النبي صلى اللّه عليه و سلّم: «قوموا عنّي لا ينبغي عندي
التّنازع»، قال ابن عبّاس: «الرّزيّة كلّ الرّزيّة ما حال بيننا و بين كتاب رسول
اللّه صلى اللّه عليه و سلّم».
++++ الخلاف
الثاني: في مرضه أنه قال: «جهّزوا جيش أسامة «3»، لعن اللّه
من تخلّف عنه»، فقال قوم: يجب علينا امتثال أمره، و أسامة قد برز من المدينة. و
قال قوم: قد اشتدّ مرض النبي عليه الصلاة و السلام فلا تسع قلوبنا مفارقته، و
الحالة هذه، فنصبر حتى نبصر أي شيء يكون من أمره.
و إنما أوردت
هذين التنازعين، لأن المخالفين ربما عدوا ذلك من الخلافات المؤثرة في أمر الدين، و
ليس كذلك، و إنما كان الغرض كله: إقامة مراسم
______________________________
(1) توفي
سنة 256 ه/ 870 م.
(2) هو
عبد اللّه بن عباس بن عبد المطلب القرشي الهاشمي. حبر الأمّة الصحابي الجليل. لازم
رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و روى عنه الأحاديث الصحيحة. له في الصحيحين و
غيرهما 1660 حديثا، توفي سنة 68 ه/ 687 م. (راجع الإصابة ت 4772 و صفوة الصفوة 1:
314 و الأعلام ج 4 ص 95).
(3) هو
أسامة بن زيد بن حارثة. صحابي جليل. كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلّم يحبّه
كثيرا و ينظر إليه نظره إلى سبطية الحسن و الحسين. أمّره رسول اللّه قبل أن يبلغ
العشرين من عمره فكان مظفّرا موفقا. و في تاريخ ابن عساكر أن رسول اللّه استعمل
أسامة على جيش فيه أبو بكر و عمر. توفي سنة 54 ه/ 674 م.
(راجع
طبقات ابن سعد 4: 42 و تهذيب ابن عساكر 2: 391 و الأعلام 1: 291).
30
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
المقدمة الرابعة في بيان أول شبهة وقعت في الملة الإسلامية، و كيفية انشعابها، و من مصدرها، و من مظهرها ص : 28
الشرع في حال
تزلزل القلوب، و تسكين نائرة «1» الفتنة المؤثرة عند تقلّب الأمور.
++++ الخلاف
الثالث: في موته عليه الصلاة و السلام، قال عمر بن الخطاب:
من قال إن
محمدا قد مات قتلته بسيفي هذا؛ و إنما رفع إلى السماء كما رفع عيسى عليه السلام. و
قال أبو بكر بن أبي قحافة رضي اللّه عنه: من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات. و
من كان يعبد إله محمد فإن إله محمد حيّ لم يمت و لن يموت و قرأ قول اللّه سبحانه و
تعالى: وَ ما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ
الرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَ مَنْ
يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَ سَيَجْزِي اللَّهُ
الشَّاكِرِينَ «2» فرجع القوم إلى قوله، و قال عمر رضي اللّه عنه: «كأني ما
سمعت هذه الآية حتى قرأها أبو بكر».
++++ الخلاف
الرابع: في موضع دفنه عليه الصلاة و السلام، أراد أهل مكة من المهاجرين رده إلى
مكة لأنها مسقط رأسه، و مأنس نفسه، و موطئ قدمه، و موطن أهله، و موقع رحله. و أراد
أهل المدينة من الأنصار دفنه بالمدينة لأنها دار هجرته، و مدار نصرته، و أرادت
جماعة نقله إلى بيت المقدس لأنه موضع دفن الأنبياء، و منه معراجه إلى السماء، ثم
اتفقوا على دفنه بالمدينة لمّا روي عنه عليه الصلاة و السلام: «الأنبياء يدفنون
حيث يموتون».
++++ الخلاف
الخامس: في الإمامة، و أعظم خلاف بين الأمة خلاف الإمامة، إذ ما سلّ سيف في
الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سلّ على الإمامة في كل زمان.
و قد سهل
اللّه تعالى في الصدر الأوّل، فاختلف المهاجرون و الأنصار فيها فقالت
______________________________
(1) قال
صاحب «اللسان»: نأرت نائرة في الناس: هاجت هائجة. و يقال: نارت بغير همز.
(2) سورة
آل عمران: الآية 144.
31
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
المقدمة الرابعة في بيان أول شبهة وقعت في الملة الإسلامية، و كيفية انشعابها، و من مصدرها، و من مظهرها ص : 28
الأنصار منّا
أمير و منكم أمير و اتفقوا على رئيسهم سعد «1» بن عبادة الأنصاري،
فاستدركه أبو بكر و عمر رضي اللّه عنهما في الحال بأن حضرا سقيفة بني ساعدة، و قال
عمر: كنت أزوّر «2» في نفسي كلاما في الطريق، فلمّا وصلنا إلى السقيفة أردت
أن أتكلّم، فقال أبو بكر: مه «3» يا عمر، فحمد اللّه و أثنى عليه، و
ذكر ما كنت أقدّره في نفسي كأنه يخبر عن غيب، فقبل أن يشتغل الأنصار بالكلام مددت
يدي إليه فبايعته و بايعه الناس و سكنت الفتنة، إلّا أن بيعة أبي بكر كانت فلتة «4» وقى اللّه
المسلمين شرّها، فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه، فأيّما رجل بايع رجلا من غير مشورة من
المسلمين فإنهما تغرّة «5» يجب أن يقتلا.
و إنما سكتت
الأنصار عن دعواهم لرواية أبي بكر عن النبي عليه الصلاة و السلام «الأئمّة من
قريش» و هذه البيعة هي التي جرت في السقيفة، ثم لمّا عاد إلى المسجد انثال «6» الناس عليه
و بايعوه عن رغبة، سوى جماعة من بني هاشم، و أبي سفيان من بني أميّة، و أمير
المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه كان مشغولا بما أمره النبي صلى اللّه
عليه و سلّم من تجهيزه و دفنه و ملازمة قبره من غير منازعة و لا مدافعة.
++++ الخلاف
السادس: في أمر فدك «7» و التوارث عن النبي عليه الصلاة
______________________________
(1) هو
أبو ثابت. صحابي. كان سيّد الخزرج و أحد الأمراء الأشراف في الجاهلية و الإسلام.
شهد أحدا و الخندق و غيرهما. و كان أحد النقباء الاثني عشر. و لما توفي رسول اللّه
صلى اللّه عليه و سلّم طمع بالخلافة و لم يبايع أبا بكر. فلما صار الأمر إلى عمر
عاتبه، فقال سعد: و كان و اللّه صاحبك (أبو بكر) أحبّ إلينا منك، و قد و اللّه
أصبحت كارها لجوارك. فقال عمر: من كره جوار جاره تحول عنه. توفي سنة 14 ه/ 635 م.
(راجع
تهذيب ابن عساكر 6: 84 و الإصابة و الترجمة 3167 و الأعلام 3: 86).
(2) أزوّر
كلاما: أحسنه و أنمّقه.
(3) مه:
اسم فعل مبني على السكون بمعنى انكفف. و قد يقال: مه مه. فإن وصلت نونت.
(4) فلتة:
عمل دون تدبّر و تمهّل.
(5) غرّر
تغريرا و تغرّة بالشيء: عرّضه للهلاك.
(6) انثال
عليه الناس: تكاثروا حوله.
(7) فدك:
بالتحريك: قرية بالحجاز بينها و بين المدينة يومان. كانت لليهود. أفاءها اللّه على
رسوله صلى اللّه عليه و سلّم في-
32
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
المقدمة الرابعة في بيان أول شبهة وقعت في الملة الإسلامية، و كيفية انشعابها، و من مصدرها، و من مظهرها ص : 28
و السلام، و
دعوى فاطمة عليها السلام وراثة تارة، و تمليكا أخرى حتى دفعت عن ذلك بالرواية
المشهورة عن النبي عليه الصلاة و السلام، «نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه
صدقة».
++++ الخلاف
السابع: في قتال مانعي الزكاة، فقال القوم: لا نقاتلهم قتال الكفرة.
و قال قوم بل
نقاتلهم حتى قال أبو بكر رضي اللّه عنه: لو منعوني عقالا «1» ممّا أعطوا
رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلّم لقاتلتهم عليه، و مضى بنفسه إلى قتالهم، و وافقه
جماعة الصحابة بأسرهم، و قد أدّى اجتهاد عمر رضي اللّه عنه في أيام خلافته إلى ردّ
السبايا و الأموال إليهم، و إطلاق المحبوسين منهم، و الإفراج عن أسراهم.
++++ الخلاف
الثامن: في تنصيص أبي بكر على عمر بالخلافة وقت الوفاة، فمن الناس من قال: قد وليت
علينا فظا غليظا، و ارتفع الخلاف بقول أبي بكر:
لو سألني ربي
يوم القيامة، لقلت: وليت عليهم خيرهم لهم.
و قد وقع في
زمانه اختلافات كثيرة في مسائل ميراث الجد، و الإخوة، و الكلالة «2» و في عقل «3» الأصابع، و
ديات الأسنان، و حدود «4» بعض الجرائم التي
______________________________
- سنة سبع
صلحا فكان ينفق منها على نفسه و على بعض المحتاجين من بني هاشم. (راجع معجم
البلدان 4: 238، دار صادر).
(1)
العقال: الحبل الذي يعقل به البعير الذي كان يؤخذ في الصدقة. و قيل ما يساوي عقالا
من الصدقة.
و في رواية
عناقا.
(2)
الكلالة: اسم لما عدا الولد و الوالد من الورثة. و قيل: الكلالة من تكلّل نسبه
بنسبك كابن العمّ و من أشبهه. و قيل: هم الأخوة للأمّ .. و العرب تقول: لم يرثه
كلالة: أي لم يرثه عن عرض بل عن قرب و استحقاق. (اللسان مادة كلل).
(3)
العقل: الدّية. و عقل القتيل: وداه، و عقل عنه: أدّى جنايته. (اللسان مادة عقل).
(4) حدود:
جمع حدّ و هو العقوبة. و حدود اللّه: طاعته و أحكامه الشرعية.
33
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
المقدمة الرابعة في بيان أول شبهة وقعت في الملة الإسلامية، و كيفية انشعابها، و من مصدرها، و من مظهرها ص : 28
لم يرد فيها
نصّ، و إنما أهمّ أمورهم: الاشتغال بقتال الروم، و غزو العجم، و فتح اللّه تعالى
الفتوح على المسلمين، و كثرت السبايا و الغنائم، و كانوا كلّهم يصدرون عن رأي عمر
رضي اللّه عنه، و انتشرت الدعوة، و ظهرت الكلمة، و دانت العرب، و لانت العجم.
++++ الخلاف
التاسع: في أمر الشورى و اختلاف الآراء فيها. و اتفقوا كلهم على بيعة عثمان رضي
اللّه عنه، و انتظم الأمر و استمرت الدعوة في زمانه، و كثرت الفتوح، و امتلأ بيت
المال، و عاشر الخلق على أحسن خلق، و عاملهم بأبسط يد، غير أن أقاربه من بني أمية
قد ركبوا نهابر «1» فركبته، و جاروا فجير عليه، و وقعت في زمانه اختلافات
كثيرة و أخذوا عليه أحداثا كلها محالة «2» على بني أميّة.
منها: رده
الحكم «3» بن أمية إلى المدينة بعد أن طرده رسول اللّه صلى اللّه
عليه و سلّم، و كان يسمى طريد رسول اللّه، و بعد أن تشفّع إلى أبي بكر و عمر رضي
اللّه عنهما أيام خلافتهما فما أجابا إلى ذلك، و نفاه عمر من مقامه باليمن أربعين
فرسخا.
و منها: نفيه
أبا ذر إلى الربذة «4»، و تزويجه مروان «5» بن الحكم بنته، و
تسليمه خمس غنائم إفريقية له و قد بلغت مائتي ألف دينار.
______________________________
(1)
نهابر: جمع نهبورة و هي المهلكة.
(2) محالة
على بني أمية: أي منسوبة إليهم.
(3) الحكم
بن أمية: صحابي. كان فيما قيل يفشي سرّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلّم فنفاه
إلى الطائف و أعيد إلى المدينة في خلافة عثمان فمات فيها و قد كفّ بصره. و هو عمّ
عثمان بن عفّان و والد مروان، (رأس الدولة المروانية). (راجع الإصابة 2: 28 و
تاريخ الإسلام 2: 95).
(4)
الربذة: من قرى المدينة على ثلاثة أيام من ذات عرق على طريق الحجاز إذا رحلت من
فيد تريد مكة.
و بهذا
الموضع قبر أبي ذر الغفاري. (معجم البلدان 3: 24).
(5)
الخليفة الأموي. و هو أول من ملك من بني الحكم بن أبي العاص و إليه ينسب بنو مروان
و دولتهم المروانية. توفي سنة 65 ه/ 685 م.
34
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
المقدمة الرابعة في بيان أول شبهة وقعت في الملة الإسلامية، و كيفية انشعابها، و من مصدرها، و من مظهرها ص : 28
و منها:
إيواؤه عبد اللّه «1» بن سعد بن أبي سرح، و كان رضيعه بعد أن أهدر النبي عليه
الصلاة و السلام دمه، و توليته إياه مصر بأعمالها، و توليته عبد اللّه «2» بن عامر
البصرة حتى أحدث فيها ما أحدث، إلى غير ذلك مما نقموا عليه، و كان أمراء جنوده:
معاوية بن أبي سفيان عامل الشام، و سعد بن أبي وقّاص عامل الكوفة، و بعده الوليد
بن عقبة و سعيد بن العاص، و عبد اللّه بن عامر عامل البصرة، و عبد اللّه بن سعد بن
أبي سرح عامل مصر، و كلّهم خذلوه و رفضوه حتى أتى قدره عليه، و قتل مظلوما في
داره، و ثارت الفتنة من الظلم الذي جرى عليه، و لم تسكن بعد.
++++ الخلاف
العاشر: في زمان أمير المؤمنين عليّ رضي اللّه عنه بعد الاتفاق عليه و عقد البيعة
له. فأوله: خروج طلحة و الزبير إلى مكة، ثم حمل عائشة إلى البصرة، ثم نصب القتال
معه، و يعرف ذلك بحرب الجمل، و الحق أنهما رجعا و تابا، إذ ذكّرهما أمرا فتذكّراه،
فأمّا الزبير فقتله ابن جرموز بقوس وقت الانصراف، و هو في النار لقول النبي صلى
اللّه عليه و سلّم: «بشّر قاتل ابن صفيّة بالنّار»، و أمّا طلحة فرماه مروان بن
الحكم بسهم وقت الإعراض «3» فخرّ ميتا، و أمّا عائشة رضي اللّه عنها
فكانت محمولة على ما فعلت، ثم تابت بعد ذلك و رجعت، و الخلاف بينه و بين معاوية، و
حرب صفين، و مخالفة الخوارج، و حمله على التحكيم، و مغادرة عمرو بن العاص أبا موسى
الأشعري، و بقاء الخلاف إلى وقت وفاته مشهور،
______________________________
(1) هو
فاتح إفريقية و فارس بني عامر من أبطال الصحابة. كان من كتّاب الوحي للنبي صلى
اللّه عليه و سلّم و كان على ميمنة عمرو بن أبي العاص حين افتتح مصر. و ولي مصر
سنة 25 ه. بعد عمرو بن العاص و دانت له إفريقية كلّها. و هو أخو عثمان بن عفان من
الرضاع. مات بعسقلان فجأة و هو يصلي سنة 37 ه/ 657 م. (راجع أسد الغابة 3: 173 و
معالم الإيمان 1: 110 ...).
(2) هو
أبو عبد الرحمن. أمير فاتح اشترى كثيرا من دور البصرة و هدمها فجعلها شارعا، و كان
محبا للعمران. توفي سنة 59 ه/ 679 م. (راجع الأعلام 4: 94 و تاريخ الإسلام للذهبي
2: 266).
(3) وقت
الإعراض: أي وقت اعتزاله الحرب.
35
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
المقدمة الرابعة في بيان أول شبهة وقعت في الملة الإسلامية، و كيفية انشعابها، و من مصدرها، و من مظهرها ص : 28
و كذلك
الخلاف بينه و بين الشراة «1» المارقين بالنهروان «2» عقدا و
قولا، و نصب القتال معه فعلا ظاهرا معروف؛ و بالجملة كان عليّ رضي اللّه عنه مع
الحق، و الحق معه، و ظهر في زمانه الخوارج عليه مثل الأشعث بن قيس، و مسعود بن
فدكي التميمي، و زيد بن حصين الطائي و غيرهم، و كذلك ظهر في زمانه الغلاة في حقه
مثل عبد اللّه بن سبأ و جماعة معه، و من الفريقين ابتدأت البدعة و الضلالة، و صدق
فيه قول النبي صلى اللّه عليه و سلّم: «يهلك فيه اثنان: محبّ غال و مبغض قال».
و انقسمت
الاختلافات بعده إلى قسمين: أحدهما الاختلاف في الإمامة، و الثاني: الاختلاف في
الأصول.
+++ و
الاختلاف في الإمامة على وجهين:
أحدهما:
القول بأن الإمامة تثبت بالاتفاق و الاختيار.
و الثاني:
القول بأن الإمامة تثبت بالنص و التعيين.
فمن قال إن
الإمامة تثبت بالاتفاق و الاختيار، قال بإمامة كل من اتفقت عليه الأمة، أو جماعة
معتبرة من الأمة: إمّا مطلقا، و إمّا بشرط أن يكون قرشيا؛ على مذهب قوم، و بشرط أن
يكون هاشميا، على مذهب قوم، إلى شرائط أخرى كما سيأتي.
و من قال
بالأوّل، قال بإمامة معاوية و أولاده، و بعدهم بخلافة مروان و أولاده.
و الخوارج
اجتمعوا في كل زمان على واحد منهم بشرط أن يبقى على مقتضى اعتقادهم، و يجري على
سنن العدل في معاملاتهم، و إلّا خذلوه و خلعوه، و ربما قتلوه.
______________________________
(1)
الشراة: الخوارج. إنما سموا كذلك أخذا من قوله تعالى: وَ مِنَ
النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ. (راجع معجم
المصطلحات العربية ص 209).
(2)
النهروان: و هي ثلاثة نهروانات: الأعلى و الأوسط و الأسفل، و هي كورة واسعة بين
بغداد و واسط بالعراق. (راجع معجم البلدان 5: 324).
36
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
المقدمة الرابعة في بيان أول شبهة وقعت في الملة الإسلامية، و كيفية انشعابها، و من مصدرها، و من مظهرها ص : 28
و من قالوا
إن الإمامة تثبت بالنص، اختلفوا بعد عليّ رضي اللّه عنه، فمنهم من قال إنه نص على
ابنه محمد «1» بن الحنفيّة، و هؤلاء هم الكيسانية «2»، ثم اختلفوا
بعده، فمنهم من قال إنه لم يمت، و يرجع فيملأ الأرض عدلا، و منهم من قال إنه مات،
و انتقلت الإمامة بعده إلى ابنه أبي هاشم «3»، و افترق هؤلاء،
فمنهم من قال الإمامة بقيت في عقبه وصية بعد وصية، و منهم من قال إنها انتقلت إلى
غيره، و اختلفوا في ذلك الغير، فمنهم من قال هو بيان «4» بن سمعان
النهدي، و منهم من قال هو عليّ بن عبد اللّه بن عبّاس، و منهم من قال هو عبد
اللّه «5» بن حرب الكندي، و منهم من قال هو عبد اللّه «6» بن معاوية
بن عبد اللّه بن جعفر بن
______________________________
(1) هو
محمد بن علي بن أبي طالب. و هو أخو الحسن و الحسين، غير أن أمهما فاطمة الزهراء، و
أمّه خولة بنت جعفر. كان واسع العلم، ورعا. أخبار قوته و شجاعته كثيرة. مولده و
وفاته في المدينة.
و قيل: خرج
إلى الطائف هاربا من ابن الزبير فمات هناك. توفي سنة 81 ه/ 700 م. (راجع طبقات ابن
سعد 5: 66 و وفيات الأعيان 1: 449 و الأعلام 6: 270).
(2) أصحاب
كيسان مولى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب. و في زعم البعض أن «المختار» كان يقال
له كيسان. و سيأتي الكلام على الكيسانية في موضعه من هذا الكتاب.
(3) هو
أبو هاشم: عبد اللّه بن علي بن أبي طالب، و أبوه محمد بن الحنفية. قال الزبير: كان
أبو هاشم صاحب الشيعة فأوصى إلى محمد بن علي بن عبد اللّه بن العباس، و صرف الشيعة
إليه و دفع إليه كتبه، و مات عنده، و مات في أيام سليمان بن عبد الملك سنة 98، و
قيل: في سنة 99. (راجع التهذيب 6: 16 و مشاهير علماء الأمصار رقم 994 و العبر 1:
116).
(4) في
الأصل بنان، تصحيف و هو بيان بن سمعان التميمي النهدي اليمني. ظهر بالعراق في
أوائل القرن الثاني من الهجرة، و ادّعى أول الأمر أن جزءا إلهيا حلّ في علي، ثم في
محمد ابن الحنفية، ثم في ابنه أبي هاشم ثم في بيان نفسه. ثم ادعى النبوّة فأخذه
خالد القسري فقتله و صلبه. (راجع مقالات الإسلاميين 1: 66 و التبصير 72 و كامل ابن
الأثير 5: 82).
(5) هو
عبد اللّه بن عمرو بن حرب الكندي. كان أول أمره على دين البيانية أتباع بيان ثم
زعم أن روح اللّه انتقلت من أبي هاشم إلى عبد اللّه بن حرب. (راجع مقالات
الإسلاميين 1: 68 و التبصير 73).
(6) هو من
شجعان الطالبيين و أجوادهم و شعرائهم. طلب الخلافة في أواخر دولة بني أمية (سنة
127 ه) بالكوفة و بايع له بعض أهلها و استفحل أمره فسيّر أمير العراق (ابن هبيرة)
الجيوش لقتاله فصبر لها ثم انهزم إلى شيراز و منها إلى هراة فقبض عليه عاملها و
قتله حنقا بأمر أبي مسلم الخراساني توفي سنة 129 ه/ 746 م. و له البيت المشهور:
و عين الرضا
عن كل عيب كليلة
|
|
و لكنّ عين
السّخط تبدي المساويا
|
(راجع ابن
الأثير حوادث سنتي 127 و 129 و الأعلام 4: 139).
37
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
المقدمة الرابعة في بيان أول شبهة وقعت في الملة الإسلامية، و كيفية انشعابها، و من مصدرها، و من مظهرها ص : 28
أبي طالب، و
هؤلاء كلهم يقولون إن الدين طاعة رجل، و يتأوّلون أحكام الشرع كلها على شخص معيّن
كما ستأتي مذاهبهم.
و أمّا من لم
يقل بالنص على محمد ابن الحنفيّة، فقال بالنص على الحسن و الحسين رضي اللّه عنهما،
و قال: لا إمامة في الأخوين إلّا الحسن و الحسين رضي اللّه عنهما. ثم اختلفوا،
فمنهم من أجرى الإمامة في أولاد الحسن، فقال بعده بإمامة ابنه الحسن «1»، ثم ابنه
عبد اللّه «2»، ثم ابنه محمد، ثم أخيه إبراهيم الإمامين، و قد خرجا في
أيام المنصور فقتلا في أيامه، و من هؤلاء من يقول برجعة محمد الإمام، و منهم من
أجرى الوصية في أولاد الحسين، و قال بعده بإمامة ابنه عليّ «3» بن الحسين
زين العابدين نصا عليه، ثم اختلفوا بعده، فقالت الزيدية بإمامة ابنه زيد «4».
و مذهبهم أن
كل فاطمي خرج و هو عالم، زاهد، شجاع، سخي: كان إماما واجب الاتباع، و جوزوا رجوع
الإمامة إلى أولاد الحسن، ثم منهم من وقف و قال بالرجعة.
______________________________
(1) هو
الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب أبو محمد الهاشمي: كبير الطالبيين في عهده. كان
وصيّ أبيه و وليّ صدقة جدّه. كان عبد الملك بن مروان يهابه. إقامته و وفاته في
المدينة. توفي نحو سنة 90 ه/ نحو 708 م. (راجع تهذيب ابن عساكر 4: 162).
(2) هو
عبد اللّه بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب من أهل المدينة. قال الطبري: كان
ذا عارضة و هيبة و لسان و شرف. و كانت له منزلة عند عمر بن عبد العزيز. حبسه
المنصور عدة سنوات من أجل ابنيه محمد و إبراهيم، و نقله إلى الكوفة فمات سجينا
فيها كما حقّقه الخطيب البغدادي. (راجع الإصابة ت 6587 و تاريخ بغداد 9: 431).
(3) هو
رابع الأئمة الاثني عشر عند الإماميّة. أحصي بعد موته عدد من كان يقوتهم سرا
فكانوا نحو مائة بيت. يضرب به المثل في الحلم و الورع. توفي سنة 94 ه/ 712 م.
(راجع وفيات الأعيان 1: 320 و ابن سعد 5: 156 و نزهة الجليس 2: 15).
(4) يقال
له «زيد الشهيد». قال أبو حنيفة: ما رأيت في زمانه أفقه منه و لا أسرع جوابا و لا
أبين قولا. قتل في معركة مع الحكم بن الصلت بأمر من عامل العراق يوسف بن عمر
الثقفي سنة 122 ه/ 740 م.
(راجع
مقاتل الطالبيين طبعة الحلبي و تاريخ الكوفة 327).
38
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
المقدمة الرابعة في بيان أول شبهة وقعت في الملة الإسلامية، و كيفية انشعابها، و من مصدرها، و من مظهرها ص : 28
و منهم من
ساق و قال بإمامة كل من هذا حاله في كل زمان، و سيأتي فيما بعد تفصيل مذاهبهم، و
أمّا الإمامية فقالوا بإمامة محمد «1» بن عليّ الباقر نصّا عليه، ثم بإمامة
جعفر «2» بن محمد الصادق وصية إليه، ثم اختلفوا بعده في أولاده: من
المنصوص عليه؟ و هم خمسة: محمد، و إسماعيل، و عبد اللّه، و موسى، و عليّ.
فمنهم من قال
بإمامة محمد و هم العمارية، و منهم من قال بإمامة إسماعيل و أنكر موته في حياة
أبيه و هم المباركية، و من هؤلاء من وقف عليه و قال برجعته. و منهم من ساق الإمامة
في أولاده نصا بعد نص إلى يومنا هذا، و هم الإسماعيلية. و منهم من قال بإمامة عبد
اللّه الأفطح، و قال برجعته بعد موته لأنه مات و لم يعقب، و منهم من قال بإمامة
موسى «3» نصا عليه إذ قال والده: سابعكم قائمكم، ألّا و هو سمي
صاحب التوراة.
ثم هؤلاء
اختلفوا، فمنهم من اقتصر عليه و قال برجعته؛ إذ قال لم يمت هو، و منهم من توقّف في
موته و هم الممطورة، و منهم من قطع بموته، و ساق الإمامة إلى ابنه عليّ بن موسى
الرضا، و هم القطعيّة.
ثم هؤلاء
اختلفوا في كل ولد بعده، فالاثنا عشرية ساقوا الإمامة من علي الرضا إلى ابنه محمد،
ثم إلى ابنه عليّ، ثم إلى ابنه الحسن، ثم إلى ابنه محمد القائم المنتظر الثاني عشر،
و قالوا: هو حي لم يمت، و يرجع فيملأ الدنيا عدلا،
______________________________
(1) هو
خامس الأئمة الاثني عشر عند الإمامية. كان ناسكا عابدا له في العلم و تفسير القرآن
آراء و أقوال.
توفي سنة
114 ه/ 732 م. (راجع اليعقوبي 3: 60 و صفوة الصفوة 2: 60).
(2) هو
سادس الأئمة الاثني عشر عند الإمامية. له منزلة رفيعة في العلم. أخذ عنه أبو حنيفة
و مالك. توفي سنة 148 ه/ 765 م. (راجع نزهة الجليس للموسوي 2: 35 و وفيات الأعيان
1: 105).
(3) هو
سابع الأئمة الاثني عشر عند الإمامية. من كبار العلماء الأجواد أقدمه المهدي العباسي
إلى بغداد.
و بلغ
الرشيد أن الناس يبايعون للكاظم فيها، فلما حجّ الرشيد سنة 179 ه. احتمله معه إلى
البصرة و حبسه عند واليها عيسى بن جعفر ثم نقله إلى بغداد فتوفي فيها سجينا، و
قيل: قتل. توفي سنة 183 ه/ 799 م. (راجع وفيات الأعيان 2: 131 و ابن خلدون 4: 115).
39
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
المقدمة الرابعة في بيان أول شبهة وقعت في الملة الإسلامية، و كيفية انشعابها، و من مصدرها، و من مظهرها ص : 28
كما ملئت
جورا، و غيرهم ساقوا الإمامة إلى الحسن العسكري، «1» ثم قالوا
بإمامة أخيه جعفر، و قالوا بالتوقف عليه، أو قالوا بالشك في حال محمد و لهم خبط
طويل في سوق الإمامة، و التوقف، و القول بالرجعة بعد الموت، و القول بالغيبة، ثم
بالرجعة بعد الغيبة.
فهذه جملة
الاختلاف في الإمامة، و سيأتي تفصيل ذلك عند ذكر المذاهب.
+++ و أمّا
الاختلافات في الأصول فحدثت في آخر أيام الصحابة بدعة معبد «2» الجهني، و
غيلان الدمشقي «3»، و يونس «4» الأسواري في القول بالقدر و إنكار
إضافة الخير و الشرّ إلى القدر، و نسج على منوالهم و اصل «5» بن عطاء
الغزّال، و كان تلميذ الحسن «6» البصري، ................
................ ................ ......
______________________________
(1) هو
ثامن الأئمة الاثني عشر عند الإمامية. أحبه المأمون العباسي و زوجه ابنته و عهد
إليه بالخلافة من بعده و لم تتم له. مات في عهده فدفنه إلى جانب أبيه الرشيد سنة
203 ه/ 818 م. (راجع ابن الأثير 6: 119 و الطبري 10: 251).
(2) هو
محمد بن عبد اللّه بن عليم الجهني. أول من قال بالقدر في البصرة. خرج مع ابن
الأشعث على الحجاج بن يوسف فقتله الحجاج صبرا بعد أن عذّبه، و قيل: صلبه عبد الملك
بن مروان بدمشق على القول في القدر ثم قتله. توفي سنة 80 ه/ 699 م. (راجع تهذيب
التهذيب 10: 225 و ميزان الاعتدال 3: 183).
(3) هو
غيلان بن مسلم الدمشقي، أبو مروان تنسب إليه فرقة «الغيلانية» من القدرية. و هو
ثاني من تكلّم في القدر بعد معبد الجهني. قيل: إنه تاب عن القول بالقدر على يد عمر
بن عبد العزيز ثم جاهر بمذهبه بعد موت عمر فطلبه هشام بن عبد الملك و أحضر
الأوزاعي لمناظرته فأفتى الأوزاعي بقتله فصلب على باب كيسان بدمشق. توفي بعد سنة
106 ه/ بعد 723 م. (راجع عيون الأخبار لابن قتيبة 2: 345 و لسان الميزان 4: 424).
(4) هو من
الأساورة النصارى و اسمه يونس سنسويه و يعرف بالأسواري.
(5) هو
رأس المعتزلة و من أئمة البلغاء و المتكلّمين. سمّي أصحابه بالمعتزلة لاعتزاله
حلقة درس الحسن البصري. و هو الذي نشر مذهب «الاعتزال» في الآفاق توفي سنة 131 ه/
748 م. (راجع المقريزي 2: 345 و وفيات الأعيان 2: 170 و مروج الذهب 2: 298).
(6) هو
الحسن بن يسار البصري. كان إمام أهل البصرة و حبر الأمة في زمنه. و هو أحد العلماء
الفقهاء.
شبّ في كنف
علي بن أبي طالب. و توفي سنة 110 ه/ 728 م. (راجع تهذيب التهذيب و وفيات الأعيان و
ميزان الاعتدال 1: 254).
40
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
المقدمة الرابعة في بيان أول شبهة وقعت في الملة الإسلامية، و كيفية انشعابها، و من مصدرها، و من مظهرها ص : 28
و تلمذ له
عمرو «1» بن عبيد، و زاد عليه في مسائل القدر. و كان عمرو من دعاة
يزيد «2» الناقص أيام بني أميّة، ثم والى المنصور و قال بإمامته، و
مدحه المنصور يوما، فقال: نثرت الحب للناس فلقطوا غير عمرو بن عبيد.
و الوعيدية
من الخوارج، و المرجئة من الجبرية.
و القدرية
ابتدءوا بدعتهم في زمان الحسن، و اعتزل و اصل عنهم و عن أستاذه بالقول منه
بالمنزلة بين المنزلتين، فسمي هو و أصحابه معتزلة، و قد تلمذ له زيد بن عليّ و أخذ
الأصول فلذلك صارت الزيدية كلّهم معتزلة، و من رفض زيد بن عليّ لأنه خالف مذهب
آبائه في الأصول، و في التبرّي و التّولّي؛ و هم من أهل الكوفة؛ و كانوا جماعة
سموا رافضة. ثم طالع بعد ذلك شيوخ المعتزلة كتب الفلاسفة حين نشرت أيام المأمون «3» فخلطت
مناهجها بمناهج الكلام، و أفردتها فنا من فنون العلم، و سمّتها باسم الكلام، إمّا
لأن أظهر مسألة تكلموا فيها و تقاتلوا عليها، هي مسألة الكلام، فسمي النوع باسمها.
و إمّا لمقابلتهم الفلاسفة في تسميتهم فنا من فنون علمهم بالمنطق، و المنطق و
الكلام مترادفان.
+++ و كان
أبو الهذيل «4» العلاف شيخهم الأكبر؛ و افق الفلاسفة في أن الباري تعالى
عالم بعلم، و علمه ذاته، و كذلك قادر بقدرة، و قدرته ذاته، و أبدع بدعا في
______________________________
(1) توفي
بمران قرب مكة سنة 144 ه/ 761 م.
(2) هو
يزيد بن الوليد بن عبد الملك بن مروان، أبو خالد، يقال له الناقص لأن سلفه الوليد
بن يزيد كان قد زاد في أعطيات الجند فلما ولي يزيد نقص الزيادة. توفي سنة 126 ه/
744 م. (راجع اليعقوبي و ابن الأثير و الطبري).
(3) هو
عبد اللّه بن هارون الرشيد بن محمد المهدي بن أبي جعفر المنصور، سابع الخلفاء من
بني العباس في العراق. توفي سنة 218 ه/ 833 م. (راجع تاريخ بغداد لابن الخطيب 10:
183 و المسعودي 2: 247).
(4) هو
محمد بن الهذيل بن عبد اللّه بن مكحول العبدي، من أئمة المعتزلة. توفي بسامرا سنة
235 ه/ 850 م. (راجع وفيات الأعيان 1: 480 و لسان الميزان 5: 413).
41
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
المقدمة الرابعة في بيان أول شبهة وقعت في الملة الإسلامية، و كيفية انشعابها، و من مصدرها، و من مظهرها ص : 28
الكلام، و
الإرادة، و أفعال العباد، و القول بالقدر، و الآجال، و الأرزاق، كما سيأتي في
حكاية مذهبه، و جرت بينه و بين هشام بن الحكم مناظرات في أحكام التشبيه، و أبو
يعقوب الشحّام و الآدمي صاحبا أبي الهذيل وافقاه في ذلك كله.
ثم إبراهيم «1» بن سيار
النظام في أيام المعتصم كان غلا في تقرير مذاهب الفلاسفة و انفرد عن السلف ببدع في
القدر و الرفض، و عن أصحابه بمسائل نذكرها. و من أصحابه محمد بن شبيب، و أبو شمر،
و موسى بن عمران، و الفضل الحدثي، و أحمد بن خابط. و وافقه الأسواري في جميع ما
ذهب إليه من البدع، و كذلك الإسكافية أصحاب أبي جعفر الإسكافي، و الجعفرية أصحاب
الجعفرين جعفر بن مبشر، و جعفر بن حرب.
ثم ظهرت بدع
بشر «2» بن المعتمر؛ من القول بالتولّد و الإفراط فيه و الميل إلى
الطبيعيين من الفلاسفة، و القول بأن اللّه تعالى قادر على تعذيب الطفل، و إذا فعل
ذلك فهو ظالم، إلى غير ذلك مما تفرّد به عن أصحابه.
و تلمذ له
أبو موسى المردار راهب المعتزلة، و انفرد عنه بإبطال إعجاز القرآن من جهة الفصاحة
و البلاغة، و في أيامه جرت أكثر التشديدات على السلف لقولهم بقدم القرآن، و تلمذ
له الجعفران، و أبو زفر، و محمد بن سويد صاحبا المردار، و أبو جعفر الإسكافي، و
عيسى بن الهيثم صاحبا جعفر بن حرب الأشجّ.
و ممن بالغ
في القول بالقدر: هشام بن عمرو الفوطي، و الأصمّ من أصحابه، و قدحا في إمامة عليّ
رضي اللّه عنه بقولهما: إن الإمامة لا تنعقد إلّا بإجماع الأمة
______________________________
(1) قال
عنه الجاحظ: «الأوائل يقولون في كل ألف سنة رجل لا نظير له فإن صحّ ذلك فأبو إسحاق
من أولئك». انفرد بآراء خاصة تابعته فيها فرقة من المعتزلة سميت «النظامية» نسبة
إليه. ذكر أن له كتبا كثيرة في الفلسفة و الاعتزال. توفي سنة 231 ه/ 845 م. (راجع
تاريخ بغداد 6: 97 و أمالي المرتضى 1: 132 و اللباب 3: 230).
(2) هو
أبو سهل، فقيه معتزلي مناظر، من أهل الكوفة، قال الشريف المرتضى: «يقال: إن جميع
معتزلة بغداد كانوا من مستجيبيه» له مصنفات في الاعتزال. توفي سنة 210 ه/ 825 م.
(راجع دائرة المعارف الإسلامية 3: 660 و طبقات المعتزلة 52).
42
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
المقدمة الرابعة في بيان أول شبهة وقعت في الملة الإسلامية، و كيفية انشعابها، و من مصدرها، و من مظهرها ص : 28
عن بكرة
أبيهم و الفوطي و الأصمّ اتفقا على أن اللّه تعالى يستحيل أن يكون عالما بالأشياء
قبل كونها، و منعا كون المعدوم شيئا.
و أبو الحسين
الخياط، و أحمد بن عليّ الشطوي صحبا عيسى الصوفي، ثم لزما أبا مجالد.
و تلمذ
الكعبي «1» لأبي الحسين الخياط، و مذهبه بعينه مذهبه، و أمّا معمر بن
عبّاد السلمي، و ثمامة بن أشرس النميري، و أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ فكانوا في
زمان واحد متقاربين في الرأي و الاعتقاد، منفردين عن أصحابهم بمسائل في موضعها
نذكرها.
و المتأخرون
منهم أبو عليّ الجبّائي «2»، و ابنه أبو هاشم، و القاضي عبد الجبّار، و
أبو الحسين البصري؛ قد لخصوا طرق أصحابهم، و انفردوا عنهم بمسائل ستأتي.
أمّا رونق
الكلام فابتداؤه من الخلفاء العبّاسيين: هارون «3»، و المأمون «4»، و المعتصم «5»، و الواثق «6»، و المتوكل «7»، و انتهاؤه
من الصاحب بن عباد و جماعة من الديالمة.
______________________________
(1) هو
أبو القاسم عبد اللّه بن أحمد بن محمود البلخي الكعبي شيخ من شيوخ المعتزلة. كان
رأسا لطائفة منهم سموها الكعبية نسبة إليه. توفي سنة 319 ه. (راجع العبر 2: 176 و
شذرات الذهب 2: 281 و ابن خلكان 306).
(2) هو
محمد بن عبد الوهاب بن سلام الجبائي: من أئمة المعتزلة، و رئيس علماء الكلام في
عصره. و إليه نسبة الطائفة «الجبائية» له مقالات و آراء انفرد بها في المذهب. توفي
سنة 303 ه/ 916 م. (راجع المقريزي 2: 348 و وفيات الأعيان 1: 480 و اللباب 1:
208).
(3) توفي
سنة 193 ه/ 809 م. (راجع البداية و النهاية 10: 213).
(4) توفي
سنة 218 ه/ 833 م. (راجع تاريخ بغداد لابن الخطيب 10: 183).
(5) توفي
سنة 227 ه/ 841 م. (راجع ابن الأثير 6: 148- 179).
(6) توفي
سنة 232 ه/ 847 م. (راجع ابن الأثير 7: 10).
(7) توفي
سنة 247 ه/ 861 م. (راجع ابن الأثير 7: 11 و الطبري 11: 26).
43
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
المقدمة الرابعة في بيان أول شبهة وقعت في الملة الإسلامية، و كيفية انشعابها، و من مصدرها، و من مظهرها ص : 28
و ظهرت جماعة
من المعتزلة متوسطين، مثل ضرّار بن عمرو، و حفص الفرد، و الحسين النجار، و من
المتأخرين خالفوا الشيوخ في مسائل، و نبغ منهم جهم «1» بن صفوان في
أيام نصر بن سيار، و أظهر بدعته في الجبر بترمذ «2»، و قتله
سالم بن أحوز المازني في آخر ملك بني أمية بمرو «3».
و كانت بين
المعتزلة و بين السلف في كل زمان اختلافات في الصفات، و كان السلف يناظرونهم
عليها، لا على قانون كلامي، بل على قول إقناعي، و يسمون الصفاتية: فمن مثبت صفات
الباري تعالى معاني قائمة بذاته، و من مشبه صفاته بصفات الخلق، و كلّهم يتعلقون
بظواهر الكتاب و السنّة، و يناظرون المعتزلة في قدم العالم على قول ظاهر. و كان
عبد اللّه بن سعيد الكلابي، و أبو العبّاس القلانسي، و الحارث بن أسد المحاسبي
أشبههم إتقانا، و أمتنهم كلاما، و جرت مناظرة بين أبي الحسن علي بن إسماعيل
الأشعري، و بين أستاذه أبي عليّ الجبائي في بعض مسائل التحسين و التقبيح، فألزم
الأشعري أستاذه أمورا لم يخرج عنها بجواب فأعرض عنه و انحاز إلى طائفة السلف و نصر
مذهبهم على قاعدة كلامية، فصار ذلك مذهبا منفردا، و قرّر طريقته جماعة من المحققين
مثل القاضي أبي بكر الباقلاني، و الأستاذ أبي إسحاق الأسفرائيني، و الأستاذ أبي
بكر بن فورك، و ليس بينهم كثير اختلاف.
و نبغ رجل
متنمس «4» بالزهد من سجستان «5» يقال له أبو عبد
اللّه «6» محمد بن
______________________________
(1) هو
أبو محرز، من موالي بني راسب: رأس «الجهميّة» هلك في زمان صغار التابعين، قبض عليه
نصر بن سيّار و أمر بقتله فقتل سنة 128 ه/ 745 م. (راجع ميزان الاعتدال 1: 197 و
الكامل لابن الأثير حوادث سنة 128).
(2) ترمذ:
اسم مدينة على نهر جيحون. (راجع معجم البلدان 2: 26).
(3) مرو:
أشهر مدن خراسان. (معجم 5: 112).
(4)
متنمّس: متستّر، محتال.
(5)
سجستان: هي ناحية واسعة و ولاية كبيرة كان اسم مدينتها زرنج و هي جنوبي هراة.
(راجع معجم البلدان 3: 190).
(6) هو
أبو عبد اللّه السجزي (نسبة إلى سجستان) إمام الكراميّة، من فرق الابتداع في الإسلام
كان يقول-
44
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
المقدمة الخامسة في السبب الذي أوجب ترتيب هذا الكتاب على طريق الحساب و فيها إشارة إلى مناهج الحساب ص : 45
كرّام، قليل
العلم، قد قمش «1» من كل مذهب ضغثا «2» و أثبته في كتابه، و
روّجه على اغتام «3» غزنة «4»، و غور «5»، و سواد «6» بلاد
خراسان، فانتظم ناموسه و صار ذلك مذهبا، و قد نصره محمود «7» بن سبكتكين
السلطان، و صبّ البلاء على أصحاب الحديث و الشيعة من جهتهم، و هو أقرب مذهب إلى
مذهب الخوارج، و هم مجسّمة، و حاش غير محمد بن الهيصم «8» فإنه مقارب.
المقدمة
الخامسة في السبب الذي أوجب ترتيب هذا الكتاب على طريق الحساب و فيها إشارة إلى
مناهج الحساب
لمّا كان
مبنى الحساب على الحصر و الاختصار، و كان غرضي من تأليف هذا الكتاب حصر المذاهب مع
الاختصار: اخترت طريق الاستيفاء ترتيبا، و قدرت أغراضي على مناهجه تقسيما و
تبويبا. و أردت أن أبيّن كيفية طرق هذا العلم و كمية أقسامه؛ لئلا يظن بي أني من
حيث أنا فقيه و متكلّم، أجنبي النظر في مسالكه و مراسمه، أعجمي القلم بمداركه و
معالمه. فآثرت من طرق الحساب أحكمها و أحسنها، و أقمت عليه من حجج البرهان أوضحها
و أمتنها، و قدرتها على علم العدد، و كان الواضع الأوّل منه استمداد المدد.
______________________________
- بأن
اللّه تعالى مستقرّ على العرش و أنه جوهر. حبسه طاهر بن عبد اللّه ثم حبسه محمد بن
طاهر. توفي في القدس سنة 255 ه/ 869 م. (راجع تذكرة الحفاظ 2: 106 و التاج مادة
«كرم»).
(1) قمش
من كل مذهب: أخذ رذالته.
(2)
الضغث: الباطل.
(3) الذين
لا يفصحون.
(4) غزنة:
قصبة بلادها زابلستان و كانت منزل بني محمود بن سبكتكين. (راجع معجم البلدان 4:
201).
(5) غور:
ولاية بين هراة و غزنة. (راجع معجم البلدان 4: 218).
(6) سواد:
هي بلاد خراسان الآهلة. (راجع معجم البلدان 3: 278).
(7) هو
أبو القاسم ابن الأمير ناصر الدولة أبي منصور: فاتح الهند، و أحد كبار القادة.
امتدت سلطته من أقاصي الهند إلى نيسابور و كانت عاصمته «غزنة» بين خراسان و الهند
و فيها ولادته و وفاته. توفي سنة 421 ه/ 1030 م. (راجع ابن الأثير 9: 139 و ما
قبلها).
(8) هو
شيخ الكرامية و متكلّمهم. (راجع لسان الميزان 5: 354).
45
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
المقدمة الخامسة في السبب الذي أوجب ترتيب هذا الكتاب على طريق الحساب و فيها إشارة إلى مناهج الحساب ص : 45
فأقول: مراتب
الحساب تبتدئ من واحد، و تنتهي إلى سبع، و لا تجاوزها البتة.
+ المرتبة
الأولى: صدر الحساب و هو الموضوع الأوّل الذي يرد عليه التقسيم الأوّل. و هو فرد
لا زوج له باعتبار، و جملة يقبل التقسيم و التفصيل باعتبار، فمن حيث إنه فرد فهو
لا يستدعي أختا تساويه في الصورة و المدة، و من حيث هو جملة فهو قابل للتفصيل حتى
ينقسم إلى قسمين، و صورة المدة يجب أن تكون من الطرف إلى الطرف، و يكتب تحتها
حشوا، مجملات التفاصيل، و مرسلات التقدير و التقرير، و النقل و التحويل و كليات
وجوه المجموع، و حكايات الإلحاق و الموضوع، و يكتب تحتها بارزا من الطرف الأيسر
كميات مبالغ المجموع.
++++ المرتبة
الثانية منها: الأصل، و شكلها محقق، و هو التقسيم الأوّل الذي ورد على المجموع
الأوّل، و هو زوج ليس بفرد، و يجب حصره في قسمين لا يعدوان إلى ثالث، و صورة المدة
يجب أن تكون أقصر من الصدر بقليل، إذ الجزء أقلّ من الكلّ، و يكتب تحتها حشوا ما
يخصها من التوجيه، و التنويع، و التفصيل، و لها أخت تساويها في المدة و إن لم يجب
أن تساويها في المقدار.
++++ المرتبة
الثالثة من ذلك: الأصل، و شكله محقق أيضا، هو التقسيم الثاني الذي ورد على الموضوع
الأوّل و الثاني، و ذلك لا يجوز أن ينقص عن قسمين، و لا يجوز أن يزيد على أربعة
أقسام، و من جاوز من أهل الصنعة فقد أخطأ، و ما علم وضع الحساب، و سنذكر السبب
فيه، و صورته و مدته أقصر من مدة منها الأصل بقليل، و كذلك يكتب تحتها ما يليق بها
حشوا و بارزا.
++++ المرتبة
الرابعة منها: المطموس، و شكلها هكذا «ط» و ذلك يجوز أن يجاوز الأربعة، و أحسن
الطرق أن يقتصر على الأقلّ و مدتها أقصر مما مضى.
46
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
المقدمة الخامسة في السبب الذي أوجب ترتيب هذا الكتاب على طريق الحساب و فيها إشارة إلى مناهج الحساب ص : 45
+ المرتبة
الخامسة من ذلك: الصغير، و شكله هكذا «ص» و ذلك يجوز إلى حيث ينتهي التقسيم و
التبويب، و المدة أقصر مما مضى.
++++ المرتبة
السادسة منها: المعوجّ، و شكله هكذا «،» و ذلك أيضا يجوز إلى حيث ينتهي التفصيل.
++++ المرتبة
السابعة، من ذلك: المعقد، و شكله هكذا «لل» و لكن يمد من الطرف إلى الطرف، لا على
أنه صدر الحساب، بل من حيث إنه النهاية التي تشاكل البداية.
فهذه كيفية
صور الحساب نقشا، و كمية أبوابها جملة، و لكل قسم من الأبواب أخت تقابله، و زوج
يساويه في المدة لا يجوز إغفال ذلك بحال. و الحساب تاريخ و توجيه.
و الآن نذكر
كمية هذه الصورة، و انحصار الأقسام في سبع، و لم صار العدد الأوّل فردا لا زوج له
في الصورة؟ و لم انحصر منها في الأصل في قسمين لا يعدوان إلى ثالث؟ و لم انحصر من
ذلك في الأصل في أربعة أقسام؟ و لم خرجت الأقسام الأخر عن الحصر.
فأقول: إن
العقلاء الذين تكلّموا في علم العدد و الحساب اختلفوا في الواحد: أ هو من العدد،
أم هو مبدأ العدد و ليس داخلا في العدد؟ و هذا الاختلاف إنما ينشأ من اشتراك لفظ
الواحد. فالواحد يطلق و يراد به ما يتركّب منه العدد، فإن الاثنين لا معنى لها
إلّا واحد مكرر أوّل تكرير، و كذلك الثلاثة و الأربعة. و يطلق و يراد به ما يحصل
منه العدد، أي هو علّته و لا يدخل في العدد، أي لا يتركّب منه العدد.
و قد تلازم
الواحدية جميع الأعداد لا على أن العدد تركب منها، بل كل
47
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
المقدمة الخامسة في السبب الذي أوجب ترتيب هذا الكتاب على طريق الحساب و فيها إشارة إلى مناهج الحساب ص : 45
موجود فهو في
جنسه أو نوعه، أو شخصه واحد، يقال: إنسان واحد، و شخص واحد. و في العدد كذلك، فإن
الثلاثة في أنها ثلاثة واحدة. فالواحدية بالمعنى الأوّل داخلة في العدد، و بالمعنى
الثاني علّة العدد، و بالمعنى الثالث ملازمة العدد، و ليس من الأقسام الثلاثة قسم
يطلق على الباري تعالى معناه، فهو واحد لا كالآحاد:
أي هذه
الواحدات، و الكثرة منه وجدت، و يستحيل عليه الانقسام بوجه من وجوه القسمة.
و أكثر أصحاب
العدد على أن الواحد لا يدخل في العدد، فالعدد مصدره الأوّل اثنان، و هو ينقسم إلى
زوج و فرد. فالفرد الأوّل ثلاثة، و الزوج الأوّل أربعة، و ما وراء الأربعة فهو
مكرر كالخمسة فإنها مركبة من عدد و فرد، و تسمى العدد الدائر و الستة مركبة من
فردين و تسمى العدد التام، و السبعة مركبة من فرد و زوج، و تسمى العدد الكامل؛ و
الثمانية مركبة من زوجين و هي بداية أخرى و ليس ذلك من غرضنا.
فصدر الحساب
في مقابلة الواحد الذي هو علّة العدد، و ليس يدخل فيه.
و لذلك هو
فرد لا أخت له. و لمّا كان العدد مصدره من اثنين، صار منها المحقق محصورا في
قسمين. و لمّا كان العدد منقسما إلى فرد و زوج، صار من ذلك الأصل محصورا في أربعة.
فإن الفرد الأوّل ثلاثة، و الزوج الأوّل أربعة و هي النهاية، و ما عداها مركّب
منها. فكان البسائط العامة الكلية في العدد: واحد، اثنان، و ثلاثة، و أربعة و هي
الكمال. و ما زاد عليها فمركبات كلها و لا حصر لها، فلذلك لا تنحصر الأبواب الأخر
في عدد معلوم، بل تتناهى بما ينتهي به الحساب، ثم تركيب العدد و المعدود، و تقدير
البسيط على المركّب فمن علم آخر. و سنذكر ذلك عند ذكرنا مذاهب قدماء الفلاسفة.
فإذا نجزت
المقدمات على أوفى تقرير و أحسن تحرير، شرعنا في ذكر مقالات أهل العالم من لدن آدم
عليه السلام إلى يومنا هذا، لعله لا يشذ من أقسامها مذهب.
48
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
مذاهب أهل العالم ص : 49
و نكتب تحت
كل باب و قسم ما يليق به ذكرا، حتى يعرف لم وضع ذلك اللفظ لذلك الباب. و نكتب تحت
ذكر الفرقة المذكورة ما يعمّ أصنافها مذهبا و اعتقادا، و تحت كل صنف ما خصه و
انفرد به عن أصحابه.
و نستوفي
أقسام الفرق الإسلامية ثلاثا و سبعين فرقة، و نقتصر في أقسام الفرق الخارجة عن
الملّة الحنيفيّة على ما هو أجدر بالتأخير.
و شرط
الصناعة الحسابية أن يكتب بإزاء المحدود من الخطوط ما يكتب حشوا. و شرط الصناعة
الكتابية أن تترك الحواشي على الرسم المعهود عفوا.
فراعيت شرط
الصناعتين، و مددت الأبواب على شرط الحساب، و تركت الحواشي على رسم الكتاب و
باللّه أستعين، و عليه أتوكل، و هو حسبنا و نعم الوكيل.
مذاهب أهل
العالم
من أرباب
الديانات و الملل و أهل الأهواء و النحل
من الفرق
الإسلامية و غيرهم ممن له كتاب منزل محقق، مثل: اليهود، و النصارى، و ممن له شبه
كتاب مثل: المجوس و المانوية «1». و ممن له حدود و أحكام دون كتاب مثل:
الفلاسفة الأولى، و الدهرية، و عبدة الكواكب و الأوثان، و البراهمة.
نذكر أربابها
و أصحابها و ننقل مآخذها و مصادرها عن كتب طائفة طائفة؛ على موجب إصلاحاتها بعد
الوقوف على مناهجها، و الفحص الشديد عن مبادئها و عواقبها.
ثم إن
التقسيم الصحيح الدائر بين النفي و الإثبات هو قولنا: إن أهل العالم انقسموا من
حيث المذاهب إلى: أهل الديانات، و إلى أهل الأهواء، فإن الإنسان إذا اعتقد عقدا أو
قال قولا، فإما أن يكون فيه مستفيدا من غيره، أو مستبدا برأيه.
فالمستفيد من
غيره مسلم مطيع، و الدين هو الطاعة. و المسلم المطيع فهو المتدين.
______________________________
(1) هم
أصحاب ماني بن فاتك الحكيم الذي ظهر في زمان سابور بن أردشير و قتله بهرام بن هرمز
بن سابور. أحدث دينا بين المجوسية و النصرانية. كان يقول بنبوّة المسيح عليه
السلام و لا يقول بنبوة موسى عليه السلام.
49
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
تمهيد أرباب الديانات و الملل من المسلمين، و أهل الكتاب، و ممن له شبهة كتاب ص : 50
و المستبد
برأيه محدث مبتدع. و في الخبر عن النبي عليه الصلاة و السلام: «ما شقي امرؤ عن
مشورة، و لا سعد باستبداد برأي» و ربّما يكون المستفيد من غيره مقلدا قد وجد مذهبا
اتفاقيا بأن كان أبواه أو معلمه على اعتقاد باطل فيتقلد منه دون أن يتفكر في حقه و
باطله، و صواب القول فيه و خطئه، فحينئذ لا يكون مستفيدا، لأن ما حصل على فائدة و
علم، و لا اتبع الأستاذ على بصيرة و يقين إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَ
هُمْ يَعْلَمُونَ «1» شرط عظيم فليعتبر.
و ربما يكون
المستبد برأيه مستنبطا مما استفاده على شرط أن يعلم موضع الاستنباط و كيفيته،
فحينئذ لا يكون مستبدا حقيقة، لأنه حصل العلم بقوّة تلك الفائدة
لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ «2» ركن عظيم،
فلا تغفل.
فالمستبدون
بالرأي مطلقا هم المنكرون للنبوات مثل الفلاسفة، و الصابئة، و البراهمة و هم لا
يقولون بشرائع و أحكام أمرية، بل يضعون حدودا عقلية حتى يمكنهم التعايش عليها.
و المستفيدون
هم القائلون بالنبوات.
و من كان قال
بالأحكام الشرعية فقد قال بالحدود العقلية، و لا ينعكس.
تمهيد
أرباب الديانات و الملل من المسلمين، و أهل الكتاب، و ممن له شبهة كتاب
نتكلم هاهنا
في معنى الدين، و الملّة، و الشريعة، و المنهاج و الإسلام، و الحنيفيّة، و السنّة،
و الجماعة. فإنها عبارات و ردت في التنزيل، و لكل واحدة منها معنى يخصها و حقيقة
توافقها لغة و اصطلاحا. و قد بينا معنى الدين أنه الطاعة و الانقياد. و قد قال
اللّه تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ «3»، و قد يرد
بمعنى
______________________________
(1) سورة
الزخرف: الآية 86، و تمامها: وَ لا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ
دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ.
(2) سورة
النساء: الآية 83.
(3) سورة
آل عمران: الآية 19.
50
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
تمهيد أرباب الديانات و الملل من المسلمين، و أهل الكتاب، و ممن له شبهة كتاب ص : 50
الجزاء،
يقال: «كما تدين تدان» أي كما تفعل تجازى. و قد يرد بمعنى الحساب يوم المعاد و
التناد، قال اللّه تعالى: ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ «1»، فالمتدين
هو المسلم المطيع المقرّ بالجزاء و الحساب يوم التناد و المعاد، قال اللّه تعالى: وَ
رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً «2».
و لمّا كان
نوع الإنسان محتاجا إلى اجتماع مع آخر بني جنسه في إقامة معاشه، و الاستعداد
لمعاده،؛ و ذلك الاجتماع يجب أن يكون على شكل يحصل به التمانع و التعاون حتى يحفظ
بالتمانع ما هو أهله، و يحصل بالتعاون ما ليس له، فصورة الاجتماع على هذه الهيئة
هي الملّة. و الطريق الخاص الذي يوصل إلى هذه الهيئة هو المنهاج، و الشرعة، و
السّنّة. و الاتفاق على تلك السنة هي الجماعة، قال اللّه تعالى: لِكُلٍّ
جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهاجاً «3».
و لن يتصوّر
وضع الملّة، و شرع الشرعة إلّا بواضع شارع يكون مخصوصا من عند اللّه بآيات تدلّ
على صدقه، و ربما تكون الآية مضمنة في نفس الدعوى. و قد تكون ملازمة و ربما تكون
متأخرة.
ثم علم أن
الملّة الكبرى هي ملة إبراهيم الخليل عليه السلام، و هي الحنيفية التي تقابل
الصبوة «4» تقابل التضادّ. و سنذكر كيفية ذلك إن شاء اللّه تعالى،
قال اللّه تعالى: مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ «5».
و الشريعة
ابتدأت من نوح عليه السلام. قال اللّه تعالى: شَرَعَ لَكُمْ
مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً «6»، و الحدود و الأحكام ابتدأت من آدم، و
شيث، و إدريس عليهم
______________________________
(1) سورة
التوبة: الآية 36، و تمامها: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ
اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ
مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ
أَنْفُسَكُمْ وَ قاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً
وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ.
(2) سورة
المائدة: الآية 3.
(3) سورة
المائدة: الآية 48.
(4)
الصبوة: أي الميل عن الحق. و هي جهلة الفتوة.
(5) سورة
الحج: الآية 78.
(6) سورة
الشورى: الآية 13.
51
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
تمهيد أرباب الديانات و الملل من المسلمين، و أهل الكتاب، و ممن له شبهة كتاب ص : 50
السلام. و
ختمت الشرائع و الملل و المناهج و السنن بأكملها و أتمها حسنا و جمالا بمحمد عليه
الصلاة و السلام، قال اللّه تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ
وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً «1».
و قد قيل: خص
آدم بالأسماء، و خص نوح بمعاني تلك الأسماء، و خصّ إبراهيم بالجمع بينهما، ثم خصّ
موسى بالتنزيل، و خصّ عيسى بالتأويل، و خصّ المصطفى، صلوات اللّه عليهم أجمعين،
بالجمع بينهما على ملّة أبيكم إبراهيم.
ثم كيفية
التقرير الأوّل، و التكميل بالتقرير الثاني بحيث يكون مصدقا كل واحد ما بين يديه
من الشرائع الماضية، و السنن السالفة؛ تقديرا للأمر على الخلق، و توفيقا للدين على
الفطرة. فمن خاصية النبوّة: لا يشاركهم فيها غيرهم. و قد قيل إن اللّه عزّ و جلّ
أسّس دينه على مثال خلقه ليستدل بخلقه على دينه، و بدينه على خلقه.
______________________________
(1) سورة
المائدة: الآية 3.
52
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
الباب الأول المسلمون ص : 53
الباب
الأوّل المسلمون
1- قد ذكرنا
معنى الإسلام، و نفرق هاهنا بينه و بين الإيمان و الإحسان. و نبيّن ما المبدأ، و
ما الوسط، و ما الكمال بالخبر المعروف في دعوة جبريل عليه السلام حيث جاء على صورة
أعرابيّ و جلس حتى ألصق ركبته بركبة النبي صلى اللّه عليه و سلّم، و قال: «يا رسول
اللّه، ما الإسلام؟ فقال: أن تشهد أن لا إله إلّا اللّه و أنّي رسول اللّه، و أن
تقيم الصّلاة، و تؤتي الزّكاة، و تصوم شهر رمضان، و تحجّ البيت إن استطعت إليه
سبيلا. قال: صدقت. ثمّ قال: ما الإيمان؟ قال عليه الصّلاة و السّلام: أن تؤمن
باللّه و ملائكته و كتبه و رسله، و اليوم الآخر، و أن تؤمن بالقدر خيره و شرّه.
قال:
صدقت. ثمّ
قال: ما الإحسان؟ قال عليه الصّلاة و السّلام: أن تعبد اللّه كأنّك تراه، فإن لم
تكن تراه فإنّه يراك. قال: صدقت. ثمّ قال: متى السّاعة؟ قال عليه الصّلاة و
السّلام: ما المسئول عنها بأعلم من السّائل، ثمّ قام و خرج، فقال النبيّ صلى اللّه
عليه و سلّم: هذا جبريل جاءكم يعلّمكم أمر دينكم».
ففرّق في
التفسير بين الإسلام و الإيمان. و الإسلام قد يرد بمعنى الاستسلام ظاهرا، و يشترك
فيه المؤمن و المنافق. قال اللّه تعالى: قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ
لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا «1» ففرق
التنزيل بينهما.
فإذا كان
الإسلام بمعنى التسليم و الانقياد ظاهرا موضع الاشتراك، فهو المبدأ.
ثم إذا كان
الإخلاص معه بأن يصدّق باللّه و ملائكته و كتبه و رسله و اليوم الآخر، و يقر عقدا
بأن القدر خيره و شره من اللّه تعالى؛ بمعنى أن ما أصابه لم يكن ليخطئه،
______________________________
(1) سورة
الحجرات: الآية 14.
53
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
الباب الأول المسلمون ص : 53
و ما أخطأه
لم يكن ليصيبه؛ كان مؤمنا حقا. ثم إذا جمع بين الإسلام و التصديق، و قرن المجاهدة
بالمشاهدة، و صار غيبه شهادة؛ فهو الكمال. فكان الإسلام مبدأ، و الإيمان وسطا. و
الإحسان كمالا، و على هذا شمل لفظ المسلمين: الناجي و الهالك.
و قد يرد
الإسلام و قرينه الإحسان، قال اللّه تعالى: بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ
لِلَّهِ وَ هُوَ مُحْسِنٌ «1» و عليه يحمل قوله تعالى: وَ
رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً «2»، و قوله:
إِنَّ
الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ «3»، و قوله: إِذْ قالَ لَهُ
رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ «4»، و قوله: فَلا
تَمُوتُنَّ إِلَّا وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ «5»، و على هذا
خصّ الإسلام بالفرقة الناجية، و اللّه أعلم.
2- أهل
الأصول المختلفون في: التوحيد، و العدل، و الوعد، و الوعيد، و السّمع، و العقل.
نتكلّم هاهنا
في معنى الأصول و الفروع، و سائر الكلمات.
قال بعض
المتكلمين: الأصول: معرفة الباري تعالى بوحدانيته و صفاته، و معرفة الرسل بآياتهم
و بيّناتهم. و بالجملة: كل مسألة يتعين الحق فيها بين المتخاصمين فهي من الأصول: و
من المعلوم أن الدين إذا كان منقسما إلى معرفة و طاعة، و المعرفة أصل و الطاعة
فرع، فمن تكلّم في المعرفة و التوحيد كان أصوليا، و من تكلّم في الطاعة و الشريعة
كان فروعيا. فالأصول هو موضوع علم الكلام، و الفروع هو موضوع علم الفقه، و قال بعض
العقلاء: كل ما هو معقول، و يتوصل إليه بالنظر و الاستدلال؛ فهو من الأصول. و كل
ما هو مظنون أو يتوصل إليه بالقياس و الاجتهاد فهو من الفروع.
______________________________
(1) سورة
البقرة: الآية 112، و تمامها: بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَ
هُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ
يَحْزَنُونَ.
(2) سورة
المائدة: الآية 3.
(3) سورة
آل عمران: الآية 19.
(4) سورة
البقرة: الآية 131.
(5) سورة
البقرة: الآية 132، و تمامها: وَ وَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَ
يَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ
إِلَّا وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ.
54
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
الباب الأول المسلمون ص : 53
و أمّا
التوحيد فقد قال أهل السنّة، و جميع الصفاتية «1»: إن اللّه
تعالى واحد في ذاته لا قسيم «2» له. و واحد في صفاته الأزلية لا نظير
له، و واحد في أفعاله لا شريك له.
و قال أهل
العدل: إن اللّه تعالى واحد في ذاته، لا قسمة و لا صفة له، و واحد في أفعاله لا
شريك له. فلا قديم غير ذاته، و لا قسيم له في أفعاله. و محال وجود قديمين، و مقدور
بين قادرين، و ذلك هو التوحيد.
و أمّا العدل
فعلى مذهب أهل السنّة أن اللّه تعالى عدل في أفعاله، بمعنى أنه متصرف في ملكه و
ملكه، بفعل ما يشاء و يحكم ما يريد. فالعدل: وضع الشيء موضعه، و هو التصرّف في
الملك على مقتضى المشيئة و العلم، و الظلم بضده، فلا يتصوّر منه جور في الحكم و
ظلم في التصرّف. و على مذهب أهل الاعتزال:
العدل ما
يقتضيه العقل من الحكمة؛ و هو إصدار الفعل على وجه الصواب و المصلحة.
و أمّا الوعد
و الوعيد فقد قال أهل السنة: الوعد و الوعيد كلامه الأزلي. وعد على ما أمر، و أوعد
على ما نهى. فكل من نجا و استوجب الثواب فبوعده، و كل من هلك و استوجب العقاب
فبوعيده، فلا يجب عليه شيء من قضية العقل.
و قال أهل
العدل: لا كلام في الأزل، و إنما أمر و نهى، و وعد و أوعد بكلام محدث، فمن نجا
فبفعله استحق الثواب، و من خسر فبفعله استوجب العقاب، و العقل من حيث الحكمة يقتضي
ذلك.
و أمّا السمع
و العقل، فقد قال أهل السنّة: الواجبات كلها بالسمع، و المعارف كلها بالعقل.
فالعقل لا يحسن و لا يقبح، و لا يقتضي و لا يوجب. و السمع لا يعرّف، أي لا يوجد
المعرفة، بل يوجب.
______________________________
(1) هم
جماعة كثيرة من السلف كانوا يثبتون للّه تعالى صفات أزليّة و لا يفرقون بين صفات
الذات و صفات الفعل. و لما كانت المعتزلة تنفي الصفات و السلف يثبتون، سمي السلف
صفاتية و المعتزلة معطلة.
(2) لا
قسيم له: لا شريك له. و قسيم المرء: الذي يقاسمه أرضا أو مالا.
55
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
الفصل الأول المعتزلة ص : 56
و قال أهل
العدل: المعارف كلها معقولة بالعقل، واجبة بنظر العقل، و شكر المنعم واجب قبل ورود
السمع، و الحسن و القبح صفتان ذاتيّتان للحسن و القبيح.
فهذه القواعد
هي المسائل التي تكلّم فيها أهل الأصول و سنذكر مذهب كل طائفة مفصلا إن شاء اللّه
تعالى. و لكل علم موضوع و مسائل نذكرهما بأقصى الإمكان إن شاء اللّه تعالى.
3- المعتزلة
و غيرهم من الجبرية، و الصفاتية، و المختلطة منهم.
الفريقان من
المعتزلة و الصفاتية متقابلان تقابل التضادّ، و كذلك القدرية و الجبريّة، و المرجئة
و الوعيدية، و الشيعة و الخوارج. و هذا التضادّ بين كل فريق و فريق كان حاصلا في
كل زمان، و لكل فرقة مقالة على حيالها، و كتب صنفوها، و دولة عاونتهم، وصولة
طاوعتهم.
الفصل
الأوّل المعتزلة
و يسمون
أصحاب العدل و التوحيد، و يلقّبون بالقدرية «1»، و العدلية «2». و هم قد
جعلوا لفظ القدرية مشتركا، و قالوا: لفظ القدرية يطلق على من يقول بالقدر خيره و
شره من اللّه تعالى، احترازا من وصمة اللقب، إذ كان الذم به متفقا عليه لقول النبي
عليه الصلاة و السلام: «القدريّة مجوس هذه الأمّة»، و كانت الصفاتية تعارضهم
بالاتفاق، على أن الجبرية و القدرية متقابلتان تقابل التضادّ؛ فكيف يطلق لفظ الضدّ
على الضدّ؟ و قد قال النبي عليه الصلاة و السلام: «القدريّة خصماء اللّه في القدر»
و الخصومة في القدر، و انقسام الخير و الشر على فعل اللّه و فعل العبد لن يتصوّر
على مذهب من يقول بالتسليم و التوكل، و إحالة الأحوال كلها على القدر المحتوم، و
الحكم المحكوم و الذي يعمّ طائفة المعتزلة من الاعتقاد.
______________________________
(1)
لقولهم بقول جهم في إنكار القدر.
(2)
لقولهم بعدل اللّه و حكمته. و يسمون (الموحدة) لقولهم: (لا قديم مع اللّه)، و
يسمون أيضا (الجهمية) لقولهم برأيه في الصفات، و المعتزلة هم أصحاب و اصل بن عطاء.
56
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
الفصل الأول المعتزلة ص : 56
القول بأن
اللّه تعالى قديم، و القدم أخصّ وصف ذاته. و نفوا الصفات القديمة «1» أصلا،
فقالوا: هو عالم بذاته، قادر بذاته، حي بذاته، لا بعلم و قدرة و حياة. هي صفات
قديمة، و معان قائمة به؛ لأنه لو شاركته الصفات في القدم الذي هو أخصّ الوصف
لشاركته في الإلهية.
و اتفقوا على
أن كلامه محدث مخلوق في محلّ. و هو حرف و صوت كتب أمثاله في المصاحف حكايات عنه.
فإن ما وجد في المحل عرض قد فني في الحال.
(cs) و اتفقوا على أن الإرادة و السمع و البصر
ليست معاني قائمة بذاته، لكن اختلفوا في وجوه وجودها، و محامل معانيها كما سيأتي.
(cs) و اتفقوا على نفي رؤية اللّه تعالى بالأبصار
في دار القرار، و نفي التشبيه عنه من كل وجه: جهة، و مكانا، و صورة، و جسما، و
تحيزا، و انتقالا، و زوالا، و تغيرا، و تأثرا. و أوجبوا تأويل الآيات المتشابهة
فيها. و سموا هذا النمط: توحيدا.
(cs) و اتفقوا على أن العبد قادر خالق لأفعاله
خيرها و شرّها. مستحق على ما يفعله ثوابا و عقابا في الدار الآخرة. و الرب تعالى
منزه أن يضاف إليه شرّ و ظلم، و فعل هو كفر و معصية، لأنه لو خلق الظلم لكان
ظالما، كما لو خلق العدل لكان عادلا.
(cs) و اتفقوا على أنّ اللّه تعالى لا يفعل إلّا
الصلاح و الخير، و يجب من حيث الحكمة رعاية مصالح العباد، و أمّا الأصلح و اللطف
ففي وجوبه عندهم خلاف. و سمّوا هذا النمط: عدلا.
(cs) و اتفقوا على أنّ المؤمن إذا خرج من الدنيا
على طاعة و توبة، استحق الثواب و العوض. و التفضل معنى آخر وراء الثواب. و إذا خرج
من غير توبة عن كبيرة
______________________________
(1) راجع
البيروني ص 13 في حديثه حول هذا الموضوع، و فيه لبعض مفكري الهنود أن «له العلو
التام في القدرة لا المكان فإنه يجل عن التمكن، و هو الخير المحض التام الذي
يشتاقه كل موجود، و هو العلم الخالص عن دنس السهو و الجهل ... و إذ ليس للأمور
الإلهية بالزمان اتصال فاللّه سبحانه عالم متكلم في الأزل ... و علمه على حاله في
الأزل. و إذ لم يجهل قط فذاته عالمة لم تكتسب علما لم يكن له».
و من آراء
فلاسفة اليونان في الذات و الصفات، قول أنباذقليس بأن «الباري تعالى يعلم هويته
فقط، و هو العلم المحض. و هو الإرادة المحضة، و هو الجود و العزة و القدرة و العدل
و الخير و الحق، لا أن هناك قوى مسماة بهذه الأسماء: بل هي: هو، و هو: هذه كلها».
57
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
الفصل الأول المعتزلة ص : 56
ارتكبها،
استحق الخلود في النار، لكن يكون عقابه أخف من عقاب الكفار.
و سمّوا هذا
النمط: وعدا و وعيدا.
(cs) و اتفقوا على أنّ أصول المعرفة، و شكر النعمة
واجبة قبل ورود السمع. و الحسن و القبح يجب معرفتهما بالعقل. و اعتناق الحسن، و
اجتناب القبيح واجب كذلك.
و ورود
التكاليف ألطاف للباري تعالى، أرسلها إلى العباد بتوسط الأنبياء عليهم السلام
امتحانا و اختبارا «1» لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَ يَحْيى
مَنْ حَيَّ عَنْ
______________________________
(1) و من
الأمور التي أجمعوا عليها و التي ذكرها عبد القاهر في «الفرق بين الفرق» ص 114-
115: «قولهم جميعا بأن اللّه تعالى غير خالق لأكساب الناس و لا لشيء من أعمال
الحيوانات ... و أنه ليس للّه عزّ و جل في أكسابهم و لا في أعمال سائر الحيوانات
صنع و تقدير و لأجل هذا القول سمّاهم المسلمون قدرية».
«و منها
اتفاقهم على دعواهم في الفاسق من أمّة الإسلام بالمنزلة بين المنزلتين، و هي أنه
فاسق، لا مؤمن و لا كافر و لأجل هذا سمّاهم المسلمون «معتزلة» لاعتزالهم قول الأمة
بأسرها.
و للإفادة،
رأينا أن نذكر هنا ما أجمع عليه المعتزلة على لسان عالمين من علمائهم و هما: أبو
الحسين الخيّاط في كتابه «الانتصار» ص 5، و المهدي الدين أحمد بن يحيى المرتضى في
كتابه «المنية و الأمل» ص 6. يقول الخياط: «أما جملة قول المعتزلة الذي يشتمل على
جماعتها، فليس يمكنك عيبه، و لا الطعن فيه، ما كنت مظهرا لدين الإسلام [يقصد بهذا
أحمد بن يحيى بن إسحاق الروندي صاحب كتاب «فضيحة المعتزلة» الذي ألّف في الردّ
عليه الخيّاط كتابه «الانتصار» و يقال إن كتاب «الفرق بين الفرق» للبغدادي مقتبس
من كتاب ابن الروندي هذا]، لأن الأمة بأسرها تصدق المعتزلة في أصولها التي تعتقدها
و تدين بها و هو أن اللّه واحد لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [سورة
الشورى: الآية 11] لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ [سورة الأنعام:
الآية 102] و لا تحيط به الأقطار، و أنه لا يحول و لا يزول و لا يتغيّر و لا ينتقل
و أنه الْأَوَّلُ وَ الْآخِرُ وَ الظَّاهِرُ وَ الْباطِنُ [سورة
الحديد: الآية 3] و أنه فِي السَّماءِ إِلهٌ وَ فِي الْأَرْضِ إِلهٌ [سورة
الزخرف: الآية 84] و أنه أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ
الْوَرِيدِ. ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَ لا
خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ وَ لا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَ لا أَكْثَرَ إِلَّا
هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا [سورة المجادلة: الآية 7] و أنه القديم و
ما سواه محدث، و أنه العدل في قضائه، الرحيم بخلقه، الناظر لعباده، و أنه لا يحب
الفساد وَ لا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ [سورة الزمر:
الآية 7] و لا يريد ظلما للعالمين، و أن خير الخلق أطوعهم له، و أنه الصادق في
أخباره، الموفي بوعده و وعيده، و أن الجنّة دار المتقين و النار دار الفاسقين».
أما
المرتضى فيقول: «و أما ما أجمعوا عليه فقد أجمعت المعتزلة على أن للعالم محدثا،
قديما، قادرا عالما، حيا لا لمعان، ليس بجسم، و لا عرض، و لا جوهر، غنيا، واحدا،
لا يدرك بحاسة، عدلا، حكيما، لا يفعل القبيح، و لا يريده، كلف تعريضا للثواب و مكن
من الفعل، و زاح العلة، و لا بدّ من الجزاء.-
58
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
1 - الواصلية ص : 59
بَيِّنَةٍ «1».
(cs) و اختلفوا في الإمامة، و القول فيها نصا، و
اختيارا، كما سيأتي عند مقالة كل طائفة «2».
و الآن نذكر
ما يختص بطائفة من المقالة التي تميّزت بها عن أصحابها.
1-
الواصليّة
أصحاب أبي
حذيفة و أصل بن عطاء الغزّال «3» الألثغ «4». كان تلميذا
للحسن البصري «5» يقرأ عليه العلوم و الأخبار. و كانا في أيام عبد الملك بن
مروان «6»، و هشام
______________________________
- و على
وجوب البعثة حيث حسنت، و لا بدّ للرسول صلى اللّه عليه و سلّم من شرع جديد، أو
إحياء مندرس، أو فائدة لم تحصل من غيره. و أن آخر الأنبياء محمد صلى اللّه عليه و
سلّم و القرآن معجزة له. و أن الإيمان قول، و معرفة و عمل.
و أن
المؤمن من أهل الجنة. و على المنزلة بين المنزلتين، و هو أن الفاسق لا يسمّى مؤمنا
و لا كافرا [هناك طائفة منهم ترى ما يراه المرجئة في الإيمان، و هو أن العمل ليس
جزءا منه، كما أنها ترى أن الفاسق ليس في منزلة بين الإيمان و الكفر بل هو مؤمن]
و أجمعوا على أن فعل العبد غير مخلوق فيه. و أجمعوا على تولى الصحابة [و لكنهم
اختلفوا في عثمان بعد الأحداث] و أجمعوا على وجوب الأمر بالمعروف و النهي عن
المنكر».
(1) سورة
الأنفال: الآية 42.
(2) لقد
امتازت المعتزلة من بين فرق المتكلّمين بحرية الرأي، و الاعتماد على العقل، و عدم
التقيّد بنصوص القرآن و الحديث، ممّا كان له الأثر العظيم في كثرة اختلافاتهم. و
لهذا يعاني من يكتب عنهم مشاق عظيمة في أن يجعل لهم مذهبا موحّدا مجمعا عليه منهم.
و كأن الجدل و الخلاف في الرأي، هو الأصل الذي قام عليه مذهب هذه الفرقة، و إنك
لتدهش حين تريد أن تعرف عندهم مسألة من المسائل الكلامية من كثرة الاختلافات التي
تراها عندهم.
(3) لم
يكن غزّالا، و إنما لقب به لتردّده على سوق الغزالين بالبصرة. (راجع بشأن هذه
الفرقة: الفرق بين الفرق ص 117 و التبصير ص 40).
(4) كان
يلثغ بالراء فيجعلها غينا فتجنّب الراء في خطابه و ضرب به المثل في ذلك. و كانت
تأتيه الرسائل و فيها الراءات فإذا قرأها أبدل كلمات الراء منها بغيرها حتى في
آيات من القرآن. و من أقوال الشعراء في ذلك، لأحدهم:
أ جعلت وصلي
الراء، لم تنطق به
|
|
و قطعتني
حتى كأنك واصل ..
|
و لأبي
محمد الخازن في مدح الصاحب بن عباد:
نعم، تجنّب
لا، يوم العطاء كما
|
|
تجنّب ابن
عطاء لفظة الراء
|
(5) تقدمت
ترجمته.
(6)
انتقلت إليه الخلافة سنة 65 ه.
59
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
1 - الواصلية ص : 59
ابن عبد
الملك «1» و بالمغرب الآن منهم شرذمة قليلة في بلد إدريس «2» بن عبد
اللّه الحسني الذي خرج بالمغرب. في أيام أبي جعفر المنصور «3».
و يقال لهم
الواصلية، و اعتزالهم يدور على أربع قواعد:
+ القاعدة
الأولى: القول بنفي صفات الباري تعالى؛ من العلم و القدرة، و الإرادة، و الحياة، و
كانت هذه المقالة في بدئها غير نضيجة. و كان واصل بن عطاء يشرع فيها على قول ظاهر،
و هو الاتفاق على استحالة وجود إلهين قديمين أزليين.
قال: و من
أثبت معنى صفة قديمة فقد أثبت إلهين.
و إنما شرعت
أصحابه فيها بعد مطالعة كتب الفلاسفة. و انتهى نظرهم فيها إلى ردّ جميع الصفات إلى
كونه: عالما قادرا. ثم الحكم بأنهما صفتان ذاتيتان هما:
اعتباران للذات
القديمة كما قال الجبّائي «4» أو حالان كما قال أبو هشام «5».
و ميل أبي
الحسن البصري إلى ردهما إلى صفة واحدة و هي العالمية، و ذلك عين مذهب الفلاسفة، و
سنذكر تفصيل ذلك.
و كان السلف
يخالف في ذلك إذ وجدوا الصفات مذكورة في الكتاب و السنّة.
+++______________________________
(1) بويع
بالخلافة بعد وفاة أخيه يزيد سنة 105 ه.
(2) هو
إدريس بن عبد اللّه بن الحسن المثنى بن الحسن بن علي بن أبي طالب توفي سنة 177 ه/
793 م:
مؤسس دولة
الأدارسة في المغرب. و هو أول من دخل المغرب من الطالبيين، و من نسله الباقي إلى
الآن في المغرب شرفاء العلم (العلميون) و الشرفاء الوزانيون، و الريسيون، و
الشبيهيون، و الطاهريون الجوطيون، و العمرانيون، و التونسيون (أهل دار القيطون) و
الطالبيون، و الغالبيون، و الدباغيون، و الكتانيون، و الشفشاويون، و الودغيريون، و
الدرقاويون، و الزركاريون. (راجع الاستقصاء 1: 67 و ابن خلدون 4: 12 و فيه: وفاته
سنة 175 ه).
(3) ولي
الخلافة بعد وفاة أخيه السفاح سنة 136 ه.
(4) تقدمت
ترجمته.
(5) هو
ابن الجبائي و اسمه عبد السلام بن محمد بن عبد الوهاب بن سلام بن خالد بن حمران بن
أبان مولى عثمان بن عفان، و بناء على هذا يكون أبو هاشم و والده الجبائي قد نسلا
من فرع أصله مولى من الموالي. توفي في رجب سنة 301 ه. ببغداد. (راجع تاريخ بغداد
لأبي بكر أحمد بن علي الخطيب ت 463 ه 11: 55).
60
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
1 - الواصلية ص : 59
+ القاعدة
الثانية: القول بالقدر: و إنما سلكوا في ذلك مسلك معبد «1» الجهني و
غيلان الدمشقي «2». و قرر و اصل بن عطاء هذه القاعدة أكثر مما كان يقرر
قاعدة الصفات. فقال إن البارى تعالى حكيم عارف، لا يجوز أن يضاف إليه شرّ و لا
ظلم.
و لا يجوز أن
يريد من العباد خلاف ما يأمر. و يحتم عليهم شيئا ثم يجازيهم عليه.
فالعبد هو
الفاعل للخير و الشرّ، و الإيمان و الكفر، و الطاعة و المعصية. هو المجازى على
فعله و اللّه تعالى أقدره على ذلك كله. و أفعال العباد محصورة في الحركات، و
السكنات، و الاعتمادات و النظر، و العلم. قال: و يستحيل أن يخاطب العبد بأفعل و هو
لا يمكنه أن يفعل. و لا هو يحس من نفسه الاقتدار و الفعل. و من أنكره فقد أنكر
الضرورة، و استدل بآيات على هذه الكلمات «3».
و رأيت رسالة
نسبت إلى الحسن البصري كتبها إلى عبد الملك بن مروان و قد سأله عن القول بالقدر و
الجبر. فأجابه فيها بما يوافق مذهب القدرية و استدلّ فيها بآيات من الكتاب و دلائل
من العقل. و لعلّها لواصل بن عطاء، فما كان الحسن ممن يخالف السلف في القدر خيره و
شره من اللّه تعالى، فإن هذه الكلمات كالمجمع عليها عندهم. و العجب أنه حمل هذا
اللفظ الوارد في الخبر على البلاء و العافية، و الشدّة و الرخاء، و المرض و
الشفاء، و الموت و الحياة، إلى غير ذلك من أفعال اللّه تعالى، دون الخير و الشر، و
الحسن و القبيح الصادرين من اكتساب العباد، و كذلك أورده جماعة من المعتزلة في
المقالات عن أصحابهم.
++++ القاعدة
الثالثة: القول بالمنزلة بين المنزلتين. و السبب فيه أن دخل واحد على الحسن البصري
فقال: يا إمام الدين، لقد ظهرت في زماننا جماعة يكفرون أصحاب الكبائر. و الكبير
عندهم كفر يخرج به عن الملة، و هم و عيدية الخوارج.
______________________________
(1) تقدمت
ترجمته.
(2) تقدمت
ترجمته، و قد أخذ القول بنفي القدر عن معبد الجهني.
(3) ذهب
في هذا مذهب القدرية في أن اللّه تعالى غير خالق لأكساب العباد و لا لشيء من
أعمال الحيوان و الناس هم الذين يقدرون أكسابهم. و القدرية من أقدم الفرق و
المعتزلة وريثتها.
61
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
1 - الواصلية ص : 59
و جماعة
يرجئون أصحاب الكبائر. و لا يضر مع الإيمان معصية، كما لا ينفع مع الكفر طاعة، و
هم مرجئة الأمة. فكيف تحكم لنا في ذلك اعتقادا؟
فتفكر الحسن
في ذلك، و قبل أن يجيب قال واصل بن عطاء: أنا لا أقول أن صاحب الكبيرة مؤمن مطلقا،
و لا كافر مطلقا، بل هو في منزلة بين المنزلتين،: لا مؤمن و لا كافر. ثم قام و
اعتزل إلى أسطوانة «1» من أسطوانات المسجد يقرر ما أجاب به على جماعة من أصحاب
الحسن. فقال الحسن: اعتزل عنا واصل. فسمّي هو و أصحابه معتزلة «2».
و وجه تقريره
أنّه قال: إن الإيمان عبارة عن خصال خير إذا ما اجتمعت سمي المرء مؤمنا و هو اسم
مدح. و الفاسق لم يستجمع خصال الخير و لا استحق اسم المدح، فلا يسمى مؤمنا و ليس
هو بكافر مطلقا أيضا، لأن الشهادة و سائر أعمال الخير موجودة فيه، لا وجه
لإنكارها، لكنه إذا خرج من الدنيا على كبيرة من غير
______________________________
(1)
الأسطوانة: العمود أو السارية.
(2) هل
هذا أول استعمال لهذه الكلمة؟ و هل هذا أول إطلاق لها؟ و هل كان واصل و أصحابه أول
فرقة تسمّت بها؟ أم أن هذه الكلمة كانت تطلق قبل هذا على غير واصل و أصحابه؟ و
إنها كانت تطلق في هذا العصر على جماعة من المسلمين؟
تشير بعض
المراجع التاريخية القديمة، إلى أن هذه التسمية كانت تطلق على الجماعة الذين
اعتزلوا فريقي المحاربين من أنصار الإمام علي و معاوية، و أنهم آثروا البعد عن
الفريقين تجنبا لإثارة نار الفتن و إشعالها بين المسلمين. فهذا أبو الفداء يذكر في
تاريخه (أخبار أبي الفداء 1: 180) عند كلامه على الحوادث الخاصة بالسنة الخامسة و
الثلاثين من الهجرة، بعض الأشخاص الذين لم يريدوا مبايعة الإمام علي مع أنهم ليسوا
من شيعة عثمان، ثم يقول عنهم: «و سموا هؤلاء (المعتزلة) لاعتزالهم بيعة علي».
و نرى أيضا
صاحب «الأغاني» عند كلامه على أيمن بن عبد خريم «ج 20 ص 321 طبعة دار الكتب
العلمية شرح عبد الأمير علي مهنا»، يقول: و كان أيمن يتشيّع و كان أبوه أحد من
اعتزل حرب الجمل و صفّين و ما بعدهما من الأحداث فلم يحضرها.
و في تاريخ
الطبري ما يشير إلى ما أشار إليه كل من أبي الفداء و صاحب الأغاني من أن هذه
التسمية باسم (المعتزلة) كانت تطلق على الجماعة التي اعتزلت الفريقين المتحاربين
من المسلمين. فهو عند ذكره لحوادث السنة السادسة و الثلاثين من الهجرة إن «قيس بن
سعد كتب إلى علي يقول: إن قبلي رجالا معتزلين، قد سألوني أن أكفّ عنهم و أن أدعهم
على حالهم حتى يستقيم أمر الناس». و هذا الإطلاق لهذه الكلمة كان كما هو واضح
إطلاقا سياسيا.
62
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
1 - الواصلية ص : 59
توبة، فهو من
أهل النار خالد فيها، إذ ليس في الآخرة إلّا فريقان: فريق في الجنة، و فريق في
السعير، لكنه يخفف عنه العذاب و تكون دركته فوق دركة الكفار.
و تابعه على
ذلك عمرو بن عبيد «1» بعد أن كان موافقا في القدر، و إنكار الصفات.
++++ القاعدة
الرابعة: قوله في الفريقين من أصحاب الجمل «2»، و أصحاب صفين «3» إن أحدهما
مخطئ لا بعينه. و كذلك قوله في عثمان و قاتليه و خاذليه، قال:
إن أحد
الفريقين فاسق لا محالة، كما أن أحد المتلاعنين فاسق لا محالة، لكن لا بعينه.
و قد عرفت
قوله في الفاسق، و أقل درجات الفريقين أنه لا تقبل شهادتهما كما لا تقبل شهادة
المتلاعنين. فلا يجوز قبول شهادة عليّ، و طلحة، و الزبير على باقة بقل. و جوّز أن
يكون عثمان و عليّ على الخطأ. هذا قوله، و هو رئيس المعتزلة و مبدأ الطريقة في
أعلام الصحابة، و أئمة العترة «4».
و وافقه عمرو
بن عبيد على مذهبه، و زاد عليه في تفسيق الفريقين لا بعينه بأن قال: لو شهد رجلان
من أحد الفريقين مثل عليّ و رجل من عسكره، أو طلحة و الزبير لم تقبل شهادتهما، و
فيه تفسيق الفريقين و كونهما من أهل النار. و كان عمرو بن عبيد من رواة الحديث،
معروفا بالزهد، و واصل مشهورا بالفضل و الأدب عندهم «5».
______________________________
(1) تقدمت
ترجمته.
(2) هم:
عائشة و طلحة و الزبير. و وقعة الجمل كانت سنة 36.
(3) هما:
معاوية و عمرو بن العاص، بدأ القتال في هذه المعركة في صفر سنة 37.
(4) عترة
النبي صلى اللّه عليه و سلّم: أقرباؤه من ولد و غيره. و هنا آل بيته.
(5) يلاحظ
أنه على الرغم من مكانة عمرو بن عبيد عند الحكام فإنه لم يكن يعمل على نشر مبادئ
المعتزلة.
أما واصل
فإنه رغم الظروف التي لم تؤاته، و رغم عدم ملائمة الحالة السياسية لنشر آراء
المعتزلة لتحامل الحكام الأمويين على كل من يدعو لرأي يخالف مبادئ القرآن الصريحة،
إنه رغم هذا كان واصل دائبا في الدعاية لأصول المعتزلة حتى كان له في كل الأقطار
رسل لنشر هذه الأصول في الدولة الإسلامية من الصين إلى مراكش. و يظهر أن سبب هذا
هو أن عمرا لم يكن يؤمن بمبادئ المعتزلة كلّ الإيمان حتى أننا نرى أن واصلا قد
فارق أستاذه لرأيه في صاحب الكبيرة و بقي عمرو على رأي أستاذه حتى جادله واصل و
أقنعه فانضمّ إلى رأيه. (العقد الفريد ج 2 ص 386- 387). و هناك فرق آخر-
63
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
2 - الهذيلية ص : 64
2-
الهذيليّة
أصحاب أبي
الهذيل حمدان بن الهذيل العلاف، شيخ المعتزلة، و مقدم الطائفة، و مقرر الطريقة، و
المناظر عليها. أخذ الاعتزال عن عثمان بن خالد الطويل، عن واصل بن عطاء. و يقال
أخذ واصل عن أبي هاشم عبد اللّه بن محمد بن الحنفية. و يقال أخذه عن أبي الحسن بن
أبي الحسن البصري. و إنما انفرد عن أصحابه بعشر قواعد:
الأولى: أن
الباري تعالى عالم بعلم، و علمه ذاته «1». قادر بقدرة، و قدرته ذاته.
حيّ بحياة، و
حياته ذاته. و إنما اقتبس هذا الرأي من الفلاسفة الذين اعتقدوا أن ذاته واحدة لا
كثرة فيها بوجه، و إنما الصفات ليست وراء الذات معاني قائمة بذاته، بل هي ذاته، و
ترجع إلى السلوب «2» أو اللوازم «3» كما سيأتي.
و الفرق بين
قول القائل: عالم بذاته لا بعلم، و بين قول القائل: عالم بعلم هو ذاته أن الأول
نفى الصفة، و الثاني إثبات ذات هو بعينه صفة. أو إثبات صفة هي بعينها ذات. و إذا
أثبت أبو الهذيل هذه الصفات وجوها للذات، فهي بعينها أقانيم النصارى، أو أحوال «4» أبي هاشم.
______________________________
- بين واصل
و عمرو و هو أن الأول كان مشهورا بالجدل العقلي و القدرة على الكلام، أما عمرو
فيظهر أن شهرته برواية الحديث رغم طعن المحدثين في أمانته- كانت أكثر من شهرته
بالعلوم العقلية و الجدل فيها. و لكن مع هذا فإن واصل كان يتمسك بالنصوص أكثر من
عمرو الذي كان يحب التحرر منها و لا يتورّع عن أن يخطّئ صحابيا أو ينقد آخر و يردّ
روايته. قال الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد 12: 176: «إن معاذ بن معاذ قال: قلت
لعمرو بن عبيد: كيف حديث الحسن إن عثمان ورث امرأة عبد الرحمن بعد انقضاء العدّة؟
فقال: إن عثمان لم يكن صاحب سنّة». كان عمرو واعظا مؤثرا أكثر من زميله واصل.
فبقدر ما كان الثاني جدلا كان الأول واعظا. و يظهر أنه كانت له شهرة في البصرة
أكثر من زميله واصل».
(1) راجع
«مقالات الإسلاميين» لأبي الحسن الأشعري 2: 482.
(2)
السلوب جمل سلب و هو انتزاع النسبة. (راجع دستور العلماء 2: 178).
(3)
اللازم: ما يمتنع انفكاكه عن الشيء و هو نوعان: لازم الماهية و لازم الوجود.
(4) راجع
«الفرق بين الفرق» فقد جاء فيه ص 117: (... فأثبت الحال في ثلاثة مواضع:
أحدها:
الموصوف الذي يكون موصوفا لنفسه، فاستحقّ ذلك الوصف لحال كان عليها.
64
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
2 - الهذيلية ص : 64
الثانية: أنه
أثبت إرادات «1» لا محل لها، يكون الباري تعالى مريدا بها.-
و هو أول من
أحدث هذه المقالة، و تابعه عليها المتأخرون.
الثالثة: قال
في كلام الباري تعالى إن بعضه لا في محل و هو قوله: كُنْ و بعضه في
محل الأمر، و النهي، و الخبر و الاستخبار. و كان أمر التكوين عنده غير أمر
التكليف.
الرابعة:
قوله في القدر مثل ما قاله أصحابه، إلا أنه قدري الأولى جبريّ الآخرة. فإن مذهبه
في حركات أهل الخلدين «2» في الآخرة أنها كلها ضرورية لا قدرة للعباد عليها.
و كلها مخلوقة للباري تعالى؛ إذ لو كانت مكتسبة للعباد لكانوا مكلفين بها.
الخامسة:
قوله إن حركات أهل الخلدين تنقطع، و أنهم يسيرون إلى سكون دائم خمودا. و تجتمع
اللذات في ذلك السكون لأهل الجنة، و تجتمع الآلام في ذلك السكون لأهل النار. و هذا
قريب من مذهب جهم، إذ حكم بفناء الجنة و النار «3»، و إنما
التزم أبو الهذيل هذا المذهب لأنه لما ألزم في مسألة حدوث العالم؛ أن الحوادث التي
لا أول لها كالحوادث التي لا آخر لها، إذ كل واحدة لا تتناهى؛ قال:
______________________________
- و
الثاني: الموصوف بالشيء لمعنى صار مختصا بذلك المعنى لحال.
و الثالث:
ما يستحقّه لا لنفسه و لا لمعنى، فيختصّ بذلك الوصف دون غيره عنده الحال).
(و زعم أن
أحوال الباري عز و جلّ في معلوماته لا نهاية لها، و كذلك أحواله في مقدوراته لا
نهاية لها، كما أن مقدوراته لا نهاية لها ... و قالوا له: هل أحوال الباري من عمل
غيره أم هي هو؟ فأجاب: بأنها لا هي هو و لا غيره ...).
(1) جاء
في «مقالات الإسلاميين» 1: 189: (أصحاب أبي الهذيل يزعمون أن إرادة اللّه غير
مراده و غير أمره، و أن إرادته لمفعولاته ليست بمخلوقة على الحقيقة، بل هي مع قوله
لها كوني خلق لها، و إرادته للإيمان ليست بخلق له و هي غير الأمر به، و إرادة
اللّه قائمة لا في مكان).
و حول هذا
الموضوع راجع المصدر نفسه 2: 511 و 512 و 1: 510.
(2)
الخلد: دوام البقاء في دار لا يخرج منها. و دار الخلد الآخرة لبقاء أهلها فيها. و
أهل الخلدين من يخلدون في الجنة و من يخلدون في النار.
(3) يريد
بهذا القول بفناء مقدورات اللّه عز و جلّ حتى لا يكون بعد فناء مقدوراته قادرا على
شيء.
65
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
2 - الهذيلية ص : 64
إني لا أقول
بحركات لا تتناهى آخرا، كما لا أقول بحركات لا تتناهى أولا، بل يصيرون إلى سكون
دائم. و كأنه ظن أن ما لزمه في الحركة لا يلزمه في السكون.
السادسة:
قوله في الاستطاعة إنها عرض من الأعراض غير السلامة و الصحة و فرق أفعال القلوب و
أفعال الجوارح. فقال لا يصح وجود أفعال القلوب منه مع عدم القدرة فالاستطاعة معها
في حال الفعل. و جوز ذلك في أفعال الجوارح و قال بتقدمها فيفعل بها في الحال
الأولى و إن لم يوجد الفعل إلا في الحال الثانية، قال «فحال يفعل» غير «حال فعل»
ثم ما تولد من فعل العبد فهو فعله، غير اللون و الطعم و الرائحة و كل ما لا يعرف
كيفيته. و قال في الإدراك و العلم الحادثين في غيره عند إسماعه و تعليمه: إن اللّه
تعالى يبدعهما فيه، و ليسا من أفعال العباد.
السابعة:
قوله في المكلف قبل ورود السمع: إنه يجب عليه أن يعرف اللّه تعالى بالدليل من غير
خاطر، و إن قصر في المعرفة استوجب العقوبة أبدا. و يعلم أيضا حسن الحسن و قبح
القبيح، فيجب عليه الإقدام على الحسن كالصدق و العدل، و الإعراض عن القبيح كالكذب
و الجور. و قال أيضا بطاعات لا يراد بها اللّه تعالى، و لا يقصد بها التقرب إليه؛
كالقصد إلى النظر الأول، و النظر الأول فإنه لم يعرف اللّه بعد، و الفعل عباده. و
قال في المكره: إذا لم يعرف التعريض و التورية فيما أكره عليه فله أن يكذب، و يكون
و زره موضوعا عنه.
الثامنة:
قوله في الآجال و الأرزاق: إن الرجل إن لم يقتل مات في ذلك الوقت و لا يجوز أن
يزاد في العمر أو ينقص و الأرزاق على وجهين:
أحدهما: ما
خلق اللّه تعالى من الأمور المنتفع بها يجوز أن يقال: خلقها رزقا للعباد، فعلى هذا
من قال: إن أحدا أكل أو انتفع بما لم يخلقه اللّه رزقا فقد أخطأ لما فيه أن في
الأجسام ما لم يخلقه اللّه تعالى.
و الثاني: ما
حكم اللّه به من هذه الأرزاق للعباد، فما أحل منها فهو رزقه، و ما حرم فليس رزقا،
أي ليس مأمورا بتناوله.
66
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
3 - النظامية ص : 67
التاسعة: حكى
الكعبي عنه أنه قال: إرادة اللّه غير المراد، فإرادته لما خلق هي خلقه له، و خلقه
للشيء عنده غير الشيء، بل الخلق عنده قول لا في محل.
و قال إنه
تعالى لم يزل سميعا بصيرا بمعنى سيسمع و سيبصر. و كذلك لم يزل غفورا، رحيما،
محسنا، خالقا، رازقا، مثيبا، معاقبا، مواليا، معاديا، آمرا، ناهيا، بمعنى أن ذلك
سيكون منه.
العاشرة: حكى
الكعبي عنه أنه قال: الحجة لا تقوم فيما غاب إلا بخبر عشرين «1»؛ فيهم واحد
من أهل الجنة أو أكثر. و لا تخلو الأرض عن جماعة هم أولياء اللّه معصومون، لا
يكذبون، و لا يرتكبون الكبائر. فهم الحجة لا التواتر.
إذ يجوز أن
يكذب جماعة ممن لا يحصون عددا إذا لم يكونوا أولياء اللّه، و لم يكن فيهم واحد
معصوم.
و صحب أبا
الهذيل: أبو يعقوب الشحام «2»، و الآدمي و هما على مقالته، و كان
سنه مائة سنة، توفي في أول خلافة المتوكل سنة خمس و ثلاثين و مائتين.
3-
النظّاميّة
أصحاب
إبراهيم بن يسار بن هانئ النظام «3»، قد طالع كثيرا من كتب الفلاسفة و خلط
كلامهم بكلام المعتزلة، و انفرد عن أصحابه بمسائل:
الأولى منها:
أنه زاد على القول بالقدر خيره و شره منا قوله: إن اللّه تعالى لا يوصف بالقدرة
على الشرور و المعاصي؛ و ليست هي مقدورة للباري تعالى، خلافا لأصحابه فإنهم قضوا
بأنه قادر عليها لكنه لا يفعلها لأنها قبيحة.
و مذهب
النظام أن القبح إذا كان صفة ذاتية للقبيح، و هو المانع من الإضافة
______________________________
(1)
استدلّ على أن العشرين حجة بقوله تعالى: إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ
صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ.
و هو لا
يريد بهذا إلّا تعطيل الأخبار الواردة في الأحكام الشرعية من فوائدها.
(2) كان
الشحام رئيس معتزلة البصرة في عصره. و قد عيّنه الواثق رئيسا لديوان الخراج و توفي
سنة 267 ه.
(3) تقدمت
ترجمته سمي بالنظّام لأنه كان ينظم الخرز في سوق البصرة.
67
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
3 - النظامية ص : 67
إليه فعلا؛
ففي تجويز وقوع القبيح منه قبح أيضا، فيجب أن يكون مانعا. ففاعل العدل لا يوصف
بالقدرة على الظلم «1». و زاد أيضا على هذا الاختباط فقال: إنما
يقدر على فعل ما يعلم أن فيه صلاحا لعباده. و لا يقدر على أن يفعل بعباده في
الدنيا ما ليس فيه صلاحهم. هذا في تعلق قدرته بما يتعلق بأمور الدنيا.
و أما أمور
الآخرة فقال: لا يوصف الباري تعالى بالقدرة على أن يزيد في عذاب أهل النار شيئا، و
لا على أن ينقص منه شيئا. و كذلك لا ينقص من نعيم أهل الجنة و لا أن يخرج أحدا من
أهل الجنة و ليس ذلك مقدورا له. و قد ألزم عليه أن يكون الباري تعالى مطبوعا
مجبورا على ما يفعله. فإن القادر «2» على الحقيقة من يتخير بين الفعل و
الترك. فأجاب إن الذي ألزمتموني في القدرة يلزمكم في الفعل، فإن عندكم يستحيل أن
يفعله و إن كان مقدورا؛ فلا فرق، و إنما أخذ هذه المقالة من قدماء الفلاسفة حيث
قضوا بأن الجواد لا يجوز أن يدخر شيئا لا يفعله. فما أبدعه و أوجده هو المقدور؛ و
لو كان في علمه تعالى و مقدوره ما هو أحسن و أكمل مما أبدعه نظاما و تركيبا و
صلاحا لفعله.
الثانية:
قوله في الإرادة: إن الباري تعالى ليس موصوفا بها على الحقيقة «3».
______________________________
(1) و قد
أكفرته البصرية من المعتزلة في هذا القول و قالوا: إن القادر على العدل يجب أن
يكون قادرا على الظلم، و القادر على الصدق يجب أن يكون قادرا على الكذب، و إن لم
يفعل الظلم و الكذب لقبحهما و لغناه عنهما و لعلمه بغناه عنهما لأن القدرة على
الشيء يجب أن تكون قدرة على ضدّه .. و لزم في قوله أن اللّه تعالى لا يقدر على
الظلم و الكذب أنه لا يقدر على الصدق و العدل و القول بهذا كفر فما يؤدي إليه
مثله. (راجع الفرق بين الفرق ص 134 طبعة دار المعرفة).
(2) قال
إبراهيم النظام: إن ما يقدر اللّه عليه من اللطف لا غاية له و لا كل. و إن ما فعل
من اللطف لا شيء أصلح منه إلّا أن له عند اللّه سبحانه أمثالا، و لكل مثل مثل، و
لا يقال يقدر على أصلح مما فعل أن يفعل، و لا يقال يقدر على دون ما فعل أن يفعل
لأن فعل ما دون نقص، و لا يجوز على اللّه عزّ و جلّ فعل النقص. و لا يقال يقدر على
ما هو أصلح، لأن اللّه سبحانه لو قدر على ذلك و لم يفعل كان ذلك بخلا. (راجع
مقالات الإسلاميين 2: 576).
(3)
معتزلة البصريين و أهل السنة يخالفونه في هذا، و هم يعتقدون أن اللّه عز و جل مريد
على الحقيقة غير أن أهل السنة قالوا: إنه لم يزل مريدا بإرادة أزلية. و معتزلة
البصرة إنه مريد بإرادة حادثة لا في محل و هم و أهل السنة قد أكفروا من نفى إرادة
اللّه عز و جل. (الفرق بين الفرق).
68
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
3 - النظامية ص : 67
فإذا وصف بها
شرعا في أفعاله فالمراد بذلك أنه خالقها و منشئها على حسب ما علم. و إذا وصف بكونه
مريدا لأفعال العباد فالمعنيّ به أنه آمر بها و ناه عنها.
و عنه أخذ
الكعبي مذهبه في الإرادة.
الثالثة:
قوله إن أفعال العباد كلها حركات فحسب. و السكون حركة اعتماد.
و العلوم و
الإرادات حركات النفس. و لم يرد بهذه الحركة حركة النقلة و إنما الحركة عنده مبدأ
تغير ما، كما قالت الفلاسفة من إثبات حركات في الكيف، و الكم، و الوضع، و الأين و
المتى ... إلى أخواتها.
الرابعة:
وافقهم أيضا في قولهم إن الإنسان في الحقيقة هو النفس و الروح، و البدن آلتها و
قالبها. غير أنه تقاصر عن إدراك مذهبهم فمال إلى قول الطبيعيين منهم أن الروح جسم
لطيف مشابك للبدن مداخل للقلب بأجزائه مداخلة المائية في الورد، و الدهنية في
السمسم، و السمنية في اللبن. و قال إن الروح هي التي لها قوة، و استطاعة و حياة و
مشيئة. و هي مستطيعة بنفسها، و الاستطاعة قبل الفعل.
الخامسة: حكى
الكعبي عنه أنه قال: إن كل ما جاوز حد القدرة من الفعل فهو من فعل اللّه بإيجاب
الخلقة: أي أن اللّه تعالى طبع الحجر طبعا، و خلقه خلقة إذا دفعته اندفع، و إذا
بلغت قوة الدفع مبلغها عاد الحجر إلى مكانه طيعا. و له في الجواهر و أحكامها خبط و
مذهب يخالف المتكلمين و الفلاسفة.
السادسة:
وافق الفلاسفة في نفي الجزء الذي لا يتجزأ «1». و أحدث القول
بالطفرة لما ألزم مشي نملة على صخرة من طرف إلى طرف أنها قطعت
______________________________
(1) إنه
يقول بانقسام كل جزء لا إلى نهاية و في ضمن قوله، إحالة كون اللّه تعالى محيطا
بآخر العالم عالما بها، و اللّه تعالى يقول: وَ أَحْصى
كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً، و إلى ما يلزم على هذا القول من قدم العالم، و هذا
مستحيل لا يقبله العقل و كلمة أبو الهذيل في أن أجزاء الجزء لا تتناهى فقال: لو
كان كل جزء من الجسم لا نهاية له لكانت النملة إذا دبّت على البقلة لا تنتهي إلى
طرفها فقال إنها تطفر بعضا و تقطع بعضا. و هذا منه كلام لا تقبله العقول لأن ما لا
يتناهى كيف يمكن قطعه بالطفرة فصار قوله مثلا سائرا يضرب لكل من تكلّم بكلام لا
تحقيق له و لا يتقرّر في العقل معناه. (راجع التبصير ص 43).
69
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
3 - النظامية ص : 67
ما لا
يتناهى، فكيف يقطع ما يتناهى ما لا يتناهى؟ قال: تقطع بعضها بالمشي، و بعضها
بالطفرة «1». و شبه بحبل شد على خشبة معترضة وسط البئر، طوله خمسون
ذراعا، و عليه دلو معلق. و حبل طوله خمسون ذراعا علق عليه معلاق «2»، فيجر به
الحبل المتوسط، فإن الدلو يصل إلى رأس البئر و قد قطع مائة ذراع بحبل طوله خمسون
ذراعا في زمان واحد، و ليس ذلك إلا أن بعض القطع بالطفرة. و لم يعلم أن الطفرة قطع
مسافة أيضا موازية لمسافة. فالإلزام لا يندفع عنه و إنما الفرق بين المشي و الطفرة
يرجع إلى سرعة الزمان و بطئه.
السابعة: قال
إن الجواهر مؤلفة من أعراض اجتمعت، و وافق هشام بن الحكم في قوله إن الألوان و
الطعوم و الروائح أجسام. فتارة يقضي بكون الأجسام أعراضا، و تارة يقضي بكون
الأعراض أجساما لا غير.
الثامنة: من
مذهبه أن اللّه تعالى خلق الموجودات دفعة واحدة على ما هي عليه الآن معادن، و
نباتا، و حيوانا، و إنسانا. و لم يتقدم خلق آدم عليه السلام خلق أولاده؛ غير أن
اللّه تعالى أكمن بعضها في بعض. فالتقدم و التأخر إنما يقع في ظهورها في مكامنها
دون حدوثها و وجودها. و إنما أخذ هذه المقالة من أصحاب الكمون و الظهور من
الفلاسفة و أكثر ميله أبدا إلى تقرير مذاهب الطبيعيين منهم دون الإلهيين.
التاسعة:
قوله في إعجاز «3» القرآن إنه من حيث الإخبار عن الأمور الماضية و الآتية، و
من جهة صرف الدواعي عن المعارضة، و منع العرب عن الاهتمام به
______________________________
(1)
الطفرة: الوثبة و المراد هنا انتقال جسم من أجزاء المسافة إلى أجزاء أخرى منها من
غير أن يحاذي ما بينهما من أجزائها. و النظّام ممّن قال بالطفرة.
(2)
المعلاق: ما يعلّق عليه الشيء.
(3) قال
النظام: «الآية و الأعجوبة في القرآن ما فيه من الإخبار عن الغيوب، فأما التأليف و
النظم فقد كان يجوز أن يقدر عليه العباد لو لا أن اللّه منعهم بمنع و عجز أحدثهما
فيهم. (راجع مقالات الإسلاميين 1: 225).
70
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
3 - النظامية ص : 67
جبرا و
تعجيزا، حتى لو خلاهم لكانوا قادرين على أن يأتوا بسورة من مثله بلاغة و فصاحة و
نظما «1».
العاشرة:
قوله في الإجماع إنه ليس بحجة في الشرع، و كذلك القياس في الأحكام الشرعية لا يجوز
أن يكون حجة، و إنما الحجة في قول الإمام المعصوم.
الحادية
عشرة: ميله إلى الرفض، و وقيعته في كبار الصحابة. قال: أولا:
لا إمامة إلا
بالنص و التعيين ظاهرا مكشوفا. و قد نص النبي صلى اللّه عليه و سلّم على عليّ رضي
اللّه عنه في مواضع، و أظهره إظهارا لم يشتبه على الجماعة. إلا أن عمر كتم ذلك، و
هو الذي تولى بيعة أبي بكر يوم السقيفة، و نسبه إلى الشك يوم الحديبية في سؤاله
الرسول عليه الصلاة و السلام حين قال: ألسنا على الحق؟ أ ليسوا على الباطل؟
قال: نعم.
قال عمر: فلم نعطي الدنية في ديننا؟ قال هذا شك و تردد في الدين، و وجدان حرج في
النفس مما قضى و حكم و زاد في الفرية فقال: إن عمر ضرب بطن فاطمة يوم البيعة حتى
ألقت الجنين من بطنها. و كان يصيح: احرقوا دارها بمن فيها، و ما كان في الدار غير
عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين. و قال: تغريبه نصر بن الحجاج من المدينة إلى
البصرة، و إبداعه التراويح، و نهيه عن متعة الحج، و مصادرته العمال، كل ذلك أحداث.
ثم وقع في
أمير المؤمنين عثمان و ذكر أحداثه من رده الحكم بن أمية إلى المدينة و هو طريد
رسول اللّه عليه الصلاة و السلام، و نفيه أبا ذرّ إلى الربذة، و هو صديق رسول
اللّه. و تقليده الوليد بن عقبة الكوفة و هو من أفسد الناس، و معاوية الشام، و عبد
اللّه بن عامر البصرة. و تزويجه مروان بن الحكم ابنته، و هم أفسدوا عليه أمره. و
ضربه عبد اللّه بن مسعود على إحضار المصحف، و على القول الذي شاقه به كل ذلك
أحداثه.
______________________________
(1) هذا
عناد منه لقوله تعالى: لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى أَنْ
يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ
بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً، و ما عرضه إلّا إنكار نبوة النبي محمد صلى
اللّه عليه و سلّم الذي تحدى العرب بأن يعارضوه بمثله.
71
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
3 - النظامية ص : 67
ثم زاد على
خزيه ذلك بأن عاب عليا و عبد اللّه بن مسعود لقولهما: أقول فيها برأيي، و كذب ابن
مسعود في روايته: «السّعيد من سعد في بطن أمّه، و الشّقيّ من شقي في بطن أمّه» و
في روايته انشقاق القمر «1»، و في تشبيهه الجن بالزط. و قد أنكر الجن
رأسا إلى غير ذلك من الوقيعة الفاحشة في الصحابة رضي اللّه عنهم أجمعين.
الثانية
عشرة: قوله في المفكر قبل ورود السمع إنه إذا كان عاقلا متمكنا من النظر يجب عليه
تحصيل معرفة الباري تعالى بالنظر و الاستدلال. و قال بتحسين العقل و تقبيحه في
جميع ما يتصرف فيه من أفعال. و قال: لا بد من خاطرين، أحدهما يأمر بالإقدام، و
الآخر بالكف ليصح الاختيار.
الثالثة
عشرة: قد تكلم في مسائل الوعد و الوعيد، و زعم أن من خان في مائة و تسعة و تسعين
درهما بالسرقة أو الظلم لم يفسق بذلك حتى تبلغ خيانته نصاب الزكاة و هو مائتا درهم
فصاعدا، فحينئذ يفسق، و كذلك في سائر نصب الزكاة. و قال في المعاد إن الفضل على
الأطفال كالفضل على البهائم.
و وافقه
الأسواري «2» في جميع ما ذهب إليه، و زاد عليه بأن قال إن اللّه تعالى
لا يوصف بالقدرة على ما علم أنه لا يفعله، و لا على ما أخبر أنه لا بفعله، مع أن
الإنسان قادر على ذلك، لأن قدرة العبد صالحة للضدين. و من المعلوم أن أحد الضدين
واقع في المعلوم أنه سيوجد دون الثاني. و الخطاب لا ينقطع عن أبي لهب و إن أخبر
الرب تعالى بأنه سيصلى نارا ذات لهب.
و وافقه أبو
جعفر الإسكافي «3» و أصحابه من المعتزلة، و زاد عليه بأن قال: إن
______________________________
(1) أنكر
انشقاق القمر مع ذكر اللّه تعالى في كتابه: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَ
انْشَقَّ الْقَمَرُ .. و لما رأى المشركون انشقاقه زعموا أن ذلك واقع بسحر.
(2) هو
عمرو بن فائد الأسواري يكنى أبا علي. كان يذهب إلى القدر و الاعتزال و لا يقيم
الحديث، و كان منقطعا إلى محمد بن سليمان أمير البصرة و أخذ عن عمرو بن عبيد و له
معه مناظرات. توفي بعد المائتين سنة. (راجع لسان الميزان 4: 372).
(3) «زعم
أن اللّه تعالى يوصف بالقدرة على ظلم الأطفال و المجانين. و لا يوصف بالقدرة على
ظلم العقلاء.
فخرج عن
قول النظام بأنه لا يقدر على الظلم و الكذب، و خرج عن قول من قال من أسلافه إنه
يقدر-
72
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
3 - النظامية ص : 67
اللّه تعالى
لا يقدر على ظلم العقلاء، و إنما يوصف بالقدرة على ظلم الأطفال و المجانين.
و كذلك
الجعفران: جعفر «1» بن مبشر، و جعفر «2» بن حرب، وافقاه و ما
زاد عليه إلا أن جعفر بن مبشر قال: في فساق الأمة من هو شر من الزنادقة و المجوس.
و زعم أن
إجماع الصحابة على حد شارب الخمر كان خطأ، إذ المعتبر في الحدود:
النص و
التوقيف «3». و زعم أن سارق الحبة الواحدة فاسق منخلع من الإيمان.
و كان محمد
بن شبيب، و أبو شمر، و موسى بن عمران من أصحاب النظام إلا أنهم خالفوه في الوعيد،
و في المنزلة بين المنزلتين، و قالوا: صاحب الكبيرة لا يخرج من الإيمان إلا بمجرد
ارتكاب الكبيرة. و كان ابن مبشر يقول في الوعيد:
إن استحقاق
العقاب و الخلود في النار بالفكر يعرف قبل ورود السمع. و سائر أصحابه يقولون:
التخليد لا يعرف إلا بالسمع.
و من أصحاب
النظام: الفضل الحدثي، و أحمد بن خابط. قال الراوندي:
إنهما كانا
يزعمان أن للخلق خالقين: أحدهما: قديم و هو الباري تعالى. و الثاني
______________________________
- على
الظلم و الكذب و لكنه لا يفعلهما لعلمه بقبحهما و غناه عنهما. و جعل بين القولين
منزلة فزعم أنه إنما يقدر على ظلم من لا عقل له و لا يقدر على ظلم العقلاء و أكفره
أسلافه في ذلك، و أكفرهم هو في خلافه ...». (راجع عبد القاهر ص 102).
(1) هو
جعفر بن مبشر بن أحمد الثقفي: متكلّم، من كبار المعتزلة. له آراء انفرد بها. مولده
و وفاته ببغداد.
توفي سنة
234 ه/ 848 م. (راجع تاريخ بغداد 7: 162).
(2) هو
جعفر بن حرب الهمداني. من أئمة المعتزلة، من أهل بغداد. كان له اختصاص بالواثق
العباسي، قال المسعودي: و إلى أبيه يضاف شارع «باب حرب» في الجانب الغربي من مدينة
السلام. كان يقول:
أن بعض
الجملة غير الجملة. و هذا يوجب عليه أن تكون الجملة غير نفسها إذا كان كل بعض منها
غيرها. و كان يزعم أن الممنوع من الفعل قادر على الفعل و ليس يقدر على شيء. هكذا
حكى عنه الكعبي في مقالاته. توفي سنة 236 ه/ 850 م. (راجع تاريخ بغداد 7: 162).
(3) شارك
ببدعته هذه نجدات الخوارج في إنكارها حدّ الخمر و قد أجمع فقهاء الأمة على تكفير
من أنكر حسّه الخمر النيء و إنما اختلفوا في حدّ شارب النبيذ إذا لم يسكر منه،
فإن سكر فعليه الحدّ عند فريقي الرأي و الحديث.
73
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
4 - الخابطية و الحدثية ص : 74
محدث و هو
المسيح عليه السلام لقوله تعالى: إِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ
الطَّيْرِ «1» و كذبه الكعبي في رواية الحدثي خاصة لحسن اعتقاده فيه.
4-
الخابطيّة و الحدثيّة
الخابطية:
أصحاب أحمد بن خابط «2»، و كذلك الحدثية أصحاب الفضل الحدثي «3»، كانا من
أصحاب النظام و طالعا كتب الفلاسفة أيضا، و ضما إلى مذهب النظام ثلاث بدع:
البدعة
الأولى: إثبات حكم من أحكام الإلهية في المسيح عليه السلام موافقة للنصارى على
اعتقادهم أن المسيح هو الذي يحاسب الخلق في الآخرة، و هو المراد بقوله تعالى: وَ جاءَ
رَبُّكَ وَ الْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا «4» و هو الذي يأتي في ظلل من الغمام، و
هو المعنيّ بقوله تعالى: أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ «5» و هو المراد
بقول النبي صلى اللّه عليه و سلّم: «إنّ اللّه تعالى خلق آدم على صورة الرّحمن» و
بقوله: «يضع الجبّار قدمه في النّار» و زعم أحمد بن خابط «6» أن المسيح
تدرع بالجسد الجسماني و هو الكلمة القديمة المتجسدة كما قالت النصارى.
______________________________
(1) سورة
المائدة: الآية 110.
(2) توفي
أحمد بن خابط سنة 232 ه.
(3) توفي
الفضل الحدثي سنة 257 ه منسوب إلى الحديثة و هي بلدة على شاطئ الفرات.
(4) سورة
الفجر: الآية 22.
(5) في
قوله: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ
مِنَ الْغَمامِ وَ الْمَلائِكَةُ وَ قُضِيَ الْأَمْرُ وَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ
الْأُمُورُ سورة البقرة: الآية 210.
(6) قال
البغدادي في «الفرق بين الفرق» ص 277، طبعة دار المعرفة ما يلي: «إن ابن خابط و
فضلا الحدثي زعما أن للخلق ربّين و خالقين، أحدهما قديم و هو اللّه سبحانه، و
الآخر مخلوق و هو عيسى ابن مريم و زعما أن المسيح ابن اللّه على معنى دون الولادة،
و زعما أيضا أن المسيح هو الذي يحاسب الخلق في الآخرة و هو الذي عناه اللّه بقوله: وَ جاءَ
رَبُّكَ وَ الْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا. و هو الذي يأتي فِي ظُلَلٍ مِنَ
الْغَمامِ وَ الْمَلائِكَةُ وَ قُضِيَ الْأَمْرُ، وَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ. و هو الذي
خلق آدم على صورة نفسه و ذلك تأويل ما روى أن اللّه تعالى خلق آدم على صورته و زعم
أنه هو الذي عناه النبي صلى اللّه عليه و سلّم بقوله: «ترون ربكم كما ترون القمر
ليلة البدر». و هو الذي عناه بقوله: «إن اللّه تعالى خلق العقل فقال له: أقبل،-
74
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
4 - الخابطية و الحدثية ص : 74
البدعة
الثانية: القول بالتناسخ «1» زعما أن اللّه تعالى أبدع خلقه أصحاء
سالمين عقلاء بالغين في دار سوى هذه الدار التي هم فيها اليوم و خلق فيهم معرفته و
العلم به، و أسبغ عليهم نعمه. و لا يجوز أن يكون أول ما يخلقه إلا عاقلا ناظرا معتبرا
و ابتدأهم بتكليف شكره. فأطاعه بعضهم في جميع ما أمرهم به، و عصاه بعضهم في جميع
ذلك. و أطاعه بعضهم في البعض دون البعض، فمن أطاعه في الكل أقره في دار النعيم
التي ابتدأهم فيها و من عصاه في الكل أخرجه من تلك الدار إلى دار العذاب و هي
النار و من أطاعه في البعض و عصاه في البعض أخرجه إلى دار الدنيا فألبسه هذه
الأجسام الكثيفة. و ابتلاه بالبأساء و الضراء. و الشدة و الرخاء، و الآلام و
اللذات على صور مختلفة من صور الناس و سائر الحيوانات على قدر ذنوبهم. فمن كانت
معصيته أقل و طاعته أكثر كانت صورته أحسن، و آلامه أقل، و من كانت ذنوبه أكثر كانت
صورته أقبح، و آلامه أكثر ثم لا يزال يكون الحيوان في الدنيا كرّة بعد كرّة، و
صورة بعد أخرى، ما دامت معه ذنوبه و طاعاته، و هذا عين القول بالتناسخ.
و كان في
زمانهما شيخ المعتزلة أحمد بن أيوب بن مانوس «2»، و هو أيضا
من تلامذة النظام. و قال أيضا مثل ما قال أحمد بن خابط في التناسخ، و خلق البرية
______________________________
- فأقبل، و
قال له: أدبر، فأدبر. فقال: ما خلقت خلقا أكرم منك و بك أعطي و بك آخذ» و قالا: إن
المسيح تدرّع جسدا، و كان قبل التدرّع عقلا.
قال عبد
القاهر: قد شارك هذان الكافران الثنوية و المجوس في دعوى خالقين و قولهما شرّ من
قولهم ...».
(1) قال
بالتناسخ قوم من الفلاسفة قبل الإسلام. و كان سقراط من جملتهم. و في الإسلام فريق
من القدرية و فريق من غلاة الروافض و ما في الثنوي، إذ ذكر أن أرواح الصديقين إذا
خرجت من أبدانهم اتصلت بعمود الصبح إلى أن تبلغ النور الذي فوق الفلك. و يكونون في
السرور دائما. أما أرواح أهل الضلال فإنها تتناسخ في أجسام الحيوان من حيوان إلى
آخر حتى تصفو فتصل إلى النور الذي فوق الفلك. (راجع التبصير ص 80). (و راجع كتاب
البيروني «تحقيق ما للهند من مقولة» ص 24).
(2) في
«التبصير» أحمد بن بانوش (ص 80) و في «الفرق بين الفرق» أنه أحمد بن أيوب بن بانوش
(ص 275) و هو ليس بمرضي عنه. (راجع لسان الميزان أول ص 139).
75
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
4 - الخابطية و الحدثية ص : 74
دفعة واحدة،
إلا أنه قال: متى صارت التوبة إلى البهيمية ارتفعت التكاليف أيضا، و صارت
التوبتان. عالم الجزاء.
و من مذهبهما
أن الديار خمس:
داران
للثواب، إحداهما فيها أكل و شرب و بعال «1»، و جنات و أنهار.
و الثانية:
دار فوق هذه الدار ليس فيها أكل و لا شرب و لا بعال، بل ملاذ روحانية و روح و
ريحان، غير جسمانية.
و الثالثة:
دار العقاب المحض، و هي نار جهنم، ليس فيها ترتيب، بل هي على نمط التساوي.
و الرابعة:
دار الابتداء التي خلق الخلق فيها قبل أن يهبطوا إلى دار الدنيا، و هي الجنة
الأولى.
و الخامسة:
دار الابتلاء، و هي التي كلف الخلق فيها بعد أن اجترحوا في الأولى، و هذا التكوين
و التكرير لا يزال في الدنيا حتى يمتلئ المكيالان: مكيال الخير، و مكيال الشر.
فإذا امتلأ مكيال الخير صار العمل كله طاعة، و المطيع خيّرا خالصا، فينقل إلى
الجنة، و لم يلبث طرفة عين، فإن مطل الغنى ظلم. و في الحديث: «أعطوا الأجير أجره
قبل أن يجفّ عرقه».
و إذا امتلأ
مكيال الشر صار العمل كله معصية، و العاصي شريرا محضا، فينقل إلى النار. و لم يلبث
طرفة عين، و ذلك قوله تعالى: فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا
يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَ لا يَسْتَقْدِمُونَ «2».
البدعة
الثالثة: حملهما كل ما ورد في الخبر من رؤية الباري تعالى مثل قوله عليه الصلاة و السلام:
«إنّكم سترون ربّكم يوم القيامة، كما ترون القمر ليلة البدر،
______________________________
(1)
البعال: الجماع و ملاعبة الرجل أهله كالتباعل و المباعلة.
(2) سورة
الأعراف: الآية 34.
76
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
4 - الخابطية و الحدثية ص : 74
لا تضامون في
رؤيته» على رؤية العقل الأول الذي هو أول مبدع، و هو العقل الفعال الذي منه تفيض
الصور على الموجودات. و إياه عنى النبي عليه الصلاة و السلام بقوله: «أوّل ما خلق
اللّه تعالى العقل، فقال له: أقبل، فأقبل. ثمّ قال له: أدبر، فأدبر. فقال: و عزّتي
و جلالي ما خلقت خلقا أحسن منك، بك أعزّ، و بك أذلّ، و بك أعطي، و بك أمنع» فهو
الذي يظهر يوم القيامة و ترتفع الحجب بينه و بين الصور التي فاضت منه، فيرونه كمثل
القمر ليلة البدر. فأما واهب العقل فلا يرى البتة، و لا يشبّه إلا مبدع بمبدع.
و قال ابن
خابط: إن كل نوع من أنواع الحيوانات أمة على حيالها لقوله تعالى: وَ ما
مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ
أَمْثالُكُمْ «1» و في كل أمة رسول من نوعه لقوله تعالى: وَ إِنْ
مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ «2».
و لهما طريقة
أخرى في التناسخ، و كأنهما مزجا كلام التناسخية، و الفلاسفة، و المعتزلة بعضها «3» ببعض.
______________________________
(1) سورة
الأنعام: الآية 38.
(2) سورة
فاطر: الآية 24.
(3) قالا:
إن اللّه خلق الخلق في أبدان صحيحة و عقول تامة في دار ليست دار الدنيا، و خلق لهم
معرفته و أتمّ عليهم نعمته و أمرهم بشكره. و الإنسان هو الروح لا قالبه المشاهد، و
الروح عالم قادر و الحيوان كلّه جنس واحد و جميعها في محل التكليف فمن أطاعه أقرّه
و من عصاه أخرجه إلى النار، و من عصاه، في البعض و أطاعه في البعض بعثه إلى دار
الدنيا و ألبسه هذه القوالب، و ابتلاه تارة بالشدّة و تارة بالراحة و تارة بالألم
و تارة باللذة، و جعل قوما في صورة الناس وقوفا في صورة الطيور، وقوفا في صورة
السباع، وقوفا في صورة الدواب، وقوفا في صورة الحشرات و درجاتهم على قدر معاصيهم.
فمن كانت معصيته أقلّ فصورته في الدنيا أحسن أو أكثر. فقالب روحه أقبح، و الروح لا
يزال في دنياه ينتقل من قالب إلى قالب على قدر طاعته أو معصيته، من قوالب الناس و
الدواب حتى تتمخّض طاعاته فينتقل إلى دار النعيم، أو معاصيه، فإلى دار الجحيم.
(راجع التبصير ص 80 و 81 و الفرق بين الفرق طبعة دار المعرفة ص 274 و 275).
77
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
5 - البشرية ص : 78
5- البشرية
أصحاب بشر «1» بن المعتمر.
كان من أفضل علماء المعتزلة، و هو الذي أحدث القول بالتولد «2» و أفرط فيه.
و انفرد عن أصحابه بمسائل ست:
الأولى منها:
إنه زعم أن اللون و الطعم و الرائحة و الإدراكات كلها من السمع، و الرؤية يجوز أن
تحصل متولدة من فعل العبد، إذا كانت أسبابها من فعله. و إنما أخذ هذا من قول
الطبيعيين، إلا أنهم لا يفرقون بين المتولد و المباشر بالقدرة. و ربما لا يثبتون
القدرة على منهاج المتكلمين. و قوة الفعل و قوة الانفعال غير القدرة التي يثبتها
المتكلم.
الثانية:
قوله: إن الاستطاعة هي سلامة البنية، و صحة الجوارح، و تخليتها من الآفات، و قال:
لا أقول: يفعل بها في الحالة الأولى، و لا في الحالة الثانية، لكني أقول: الإنسان
يفعل، و الفعل لا يكون إلا في الثانية.
الثالثة:
قوله: إن اللّه تعالى قادر على تعذيب الطفل، و لو فعل ذلك كان ظالما إياه. إلا أنه
لا يستحسن أن يقال ذلك في حقه، بل يقال: لو فعل ذلك كان الطفل بالغا عاقلا، عاصيا
بمعصية ارتكبها، مستحقا للعقاب. و هذا كلام متناقض.
الرابعة: حكى
الكعبي عنه أنه قال «3»: إرادة اللّه تعالى فعل من أفعاله، و هي على
وجهين: صفة ذات، و صفة فعل. فأما صفة الذات فهي أن اللّه تعالى لم يزل مريدا لجميع
أفعاله، و لجميع الطاعات من عباده فإنه حكيم و لا يجوز أن يعلم الحكيم صلاحا و
خيرا و لا يريده. و أما صفة الفعل فإن أراد بها فعل نفسه في حال
______________________________
(1) تقدمت
ترجمته.
(2) قوله
هذا مخالف لإجماع المسلمين فأهل السنّة لا يقولون بالتولد أصلا فالحوادث كلّها لا
بدّ لها من محدث صانع، و المعتزلة يقولون به و لا يفرطون.
(3) «قال
بشر بن المعتمر و من ذهب مذهبه: إرادة اللّه غير اللّه. و الإرادة على ضربين:
إرادة وصف بها، و هي فعل من فعله. و إرادة وصف بها في ذاته. و إن إرادته الموصوف
بها في ذاته غير لا حقة بمعاصي خلقه. و جوّز وقوعها على سائر الأشياء». (راجع
مقالات الإسلاميين 1: 513).
78
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
6 - المعمرية ص : 79
إحداثه فهي
خلقه له، و هي قبل الخلق لأن ما به يكون الشيء لا يجوز أن يكون معه. و إن أراد
بها فعل عباده فهي الأمر به.
الخامسة:
قال: إن عند اللّه تعالى لطفا «1» لو أتى به لآمن جميع من في الأرض
إيمانا يستحقون عليه الثواب، استحقاقهم لو آمنوا من غير وجوده و أكثر منه.
و ليس على
اللّه تعالى أن يفعل ذلك بعباده و لا يجب عليه رعاية الأصلح لأنه لا غاية لما يقدر
عليه من الصلاح، فما من أصلح إلا و فوقه أصلح، و إنما عليه أن يمكن العبد بالقدرة
و الاستطاعة و يزيح العلل بالدعوة و الرسالة؛ و المفكر قبل ورود السمع يعلم الباري
تعالى بالنظر و الاستدلال، و إذا كان مختارا في فعله فيستغنى عن الخاطرين لأن
الخاطرين لا يكونان من قبل اللّه تعالى، و إنما هما من قبل الشيطان، و المفكر
الأول لم يتقدمه شيطان يخطر الشك بباله، و لو تقدم فالكلام في الشيطان كالكلام
فيه.
السادسة:
قال: من تاب عن كبيرة ثم راجعها عاد استحقاقه العقوبة الأولى، فإنه قبل توبته بشرط
أن لا يعود «2».
6-
المعمّرية «3»
أصحاب معمّر «4» بن عباد
السلمي، و هو من أعظم القدرية فرية في تدقيق
______________________________
(1) «قال
بشر: إن ما يقدر اللّه عليه من اللطف لا غاية له و لا نهاية. و عند اللّه من اللطف
ما هو أصلح ممّا فعل و لم يفعله. و لو فعله بالخلق آمنوا طوعا لا كرها. و قد فعل
بهم لطفا يقدرون به على ما كلفهم.
و قد خالفه
المعتزلة كلهم كما ذكر الأشعري. (راجع مقالات الإسلاميين 1: 574).
(2) هذا
منه قول بخلاف إجماع المسلمين لأن المعتزلة و إن قالوا بمنزلة بين المنزلتين و إن
الفاسق يخلد في النار فإنهم لا يقولون أنه يعاقب في النار على ما تاب منه من
الذنوب و الأفعال. (راجع التبصير ص 46).
(3) انظر
في شأن هذه الفرقة: «التبصير» ص 45 «و الفرق بين الفرق» ص 151.
(4) هو
أبو عمرو: معمر بن عباد السلمي. قال ابن المرتضى: كان عالما عدلا و تفرد بمذاهب، و
كان بشر بن المعتمر و هشام بن عمرو و أبو الحسن المدائني من تلامذته، ثم حكى أن
الرشيد وجه به إلى ملك السند ليناظره، و أن ملك السند دسّ له من سمّه في الطريق
فمات، توفي سنة 215 ه/ 830 م. (راجع خطط المقريزي 2: 347 و لسان الميزان 6: 71).
79
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
6 - المعمرية ص : 79
القول بنفي
الصفات، و نفي القدر خيره و شره من اللّه تعالى، و التكفير و التضليل على ذلك و
انفرد عن أصحابه بمسائل:
منها أنه
قال: إن اللّه تعالى لم يخلق شيئا غير الأجسام «1»، فأما
الأعراض فإنها من اختراعات الأجسام، إما طبعا كالنار التي تحدث الإحراق، و الشمس
التي تحدث الحرارة و القمر الذي يحدث التلوين. و إما اختيارا كالحيوان يحدث الحركة
و السكون و الاجتماع و الافتراق. و من العجب أن حدوث الجسم و فناءه عنده عرضان،
فكيف يقول إنهما من فعل الأجسام؟ و إذا لم يحدث الباري تعالى عرضا فلم يحدث الجسم
و فناءه؟ فإن الحدوث عرض، فيلزمه أن لا يكون للّه تعالى فعل أصلا، ثم ألزم أن كلام
الباري تعالى إما عرض أو جسم؛ فإن قال هو عرض فقد أحدثه الباري، فإن المتكلم على
أصله هو من فعل الكلام. أو يلزمه أن لا يكون للّه تعالى كلام هو عرض. و إن قال: هو
جسم فقد أبطل قوله إنه أحدثه في محل، فإن الجسم لا يقوم بالجسم، فإذا لم يقل هو
بإثبات الصفات الأزلية، و لا قال بخلق الأعراض؛ فلا يكون للّه تعالى كلام يتكلم به
على مقتضى مذهبه، و إذا لم يكن له كلام لم يكن آمرا ناهيا، و إذا لم يكن أمر و نهى
لم تكن شريعة أصلا، فأدى مذهبه إلى خزي عظيم.
و منها أنه
قال إن الأعراض لا تتناهى «2» في كل نوع، و قال كل عرض قام بمحل
فإنما يقوم به لمعنى أوجب القيام، و ذلك يؤدي إلى التسلسل «3»، و عن هذه
______________________________
(1) هذا
خلاف قوله تعالى: قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَ هُوَ الْواحِدُ
الْقَهَّارُ و خلاف قوله تعالى في صفة نفسه: لَهُ مُلْكُ
السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يُحْيِي وَ يُمِيتُ وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. (راجع
مقالات الإسلاميين في شأن هذه القضية 2: 548).
(2) قوله
بحدوث أعراض لا نهاية لها يؤدّيه إلى القول بأن الجسم أقدر من اللّه لأن اللّه
عنده أنه خلق غير الأجسام، و هي محصورة عندنا و عنده، و الجسم إذا فعل عرضا فقد
فعل معه ما لا نهاية له من الأعراض و من خلق ما لا نهاية له ينبغي أن يكون أقدر
ممّا يخلق إلّا متناهيا في العدد. (راجع الفرق بين الفرق ص 153).
(3) في
قوله إلحاد من وجهين: أحدهما قوله بحوادث لا نهاية لها، و هذا يوجب وجود حوادث لا
يحصيها اللّه تعالى و ذلك عناد لقوله: وَ أَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً. و الثاني
أنه يؤدي إلى القول بأن الإنسان أقدر من اللّه تعالى. (راجع الفرق بين الفرق ص
153).
80
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
6 - المعمرية ص : 79
المسألة سمي
هو و أصحابه، أصحاب المعاني، و زاد على ذلك فقال: الحركة إنما خالفت السكون لا
بذاتها، بل بمعنى أوجب المخالفة، و كذلك مغايرة المثل المثل و مماثلته، و تضاد
الضد الضد، كل ذلك عنده بمعنى.
و منها، ما
حكى الكعبي عنه أن الإرادة من اللّه تعالى للشيء غير اللّه، و غير خلقه للشيء، و
غير الأمر: و الإخبار، و الحكم، فأشار إلى أمر مجهول لا يعرف، و قال ليس للإنسان
فعل سوى الإرادة، مباشرة كانت أو توليدا، و أفعاله التكليفية من القيام و القعود،
و الحركة، و السكون في الخير و الشر كلها مستندة إلى إرادته؛ لا على طريق
المباشرة، و لا على طريق التوليد، و هذا عجب، غير أنه إنما بناه على مذهبه في
حقيقة الإنسان، و عنده، الإنسان معنى أو جوهر غير الجسد، و هو عالم، قادر، مختار،
حكيم ليس بمتحرك، و لا ساكن، و لا متكون، و لا متمكن، و لا يرى؛ و لا يمس، و لا
يحس، و لا يجس، و لا يحل موضعا دون موضع، و لا يحويه مكان، و لا يحصره زمان «1»، لكنه مدبر
للجسد، و علاقته مع البدن علاقة التدبير و التصرف. و إنما أخذ هذا القول من
الفلاسفة، حيث قضوا بإثبات النفس الإنسانية أمرا ما، هو جوهر قائم بنفسه. لا متحيز
و لا متمكن، و أثبتوا من جنس ذلك موجودات عقلية مثل العقول المفارقة. ثم لما كان
ميل معمر بن عباد إلى مذهب الفلاسفة ميز بين أفعال النفس التي سماها إنسانا، و بين
القالب الذي هو جسده؛ فقال: فعل النفس هو الإرادة فحسب. و النفس إنسان، ففعل
الإنسان هو الإرادة؛ و ما سوى ذلك من الحركات و السكنات و الاعتمادات فهي من فعل
الجسد.
و منها: أنه
يحكى عنه أنه كان ينكر القول بأن اللّه تعالى قديم؛ لأن قديم أخذ من قدم يقدم فهو
قديم؛ و هو فعل كقولك أخذ منه ما قدم و ما حدث. و قال أيضا:
هو يشعر
بالتقادم الزماني، و وجود الباري تعالى ليس بزماني.
______________________________
(1) وصف
الإنسان بما يوصف به الإله سبحانه لأنه وصفه بأن عالم قادر مختار حكيم و هذه
الأوصاف واجبة للّه تعالى. ثم نزّه الإنسان عن أن يكون متحركا أو ساكنا أو متلونا
... و اللّه سبحانه منزّه عن هذه الأوصاف.
81
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
7 - المردارية ص : 82
و يحكى عنه
أيضا أنه قال: الخلق غير المخلوق، و الإحداث غير المحدث.
و حكى جعفر
بن حرب عنه أنه قال: إن اللّه تعالى محال أن يعلم نفسه؛ لأنه يؤدي إلى ألا يكون
العالم و المعلوم واحدا، و محال أن يعلم غيره، كما يقال محال أن يقدر على الموجود
من حيث هو موجود، و لعل هذا النقل فيه خلل؛ فإن عاقلا ما لا يتكلم بمثل هذا الكلام
الغير «1» معقول.
لعمري لما كان
الرجل يميل إلى الفلاسفة، و من مذهبهم: أنه ليس علم الباري تعالى علما انفعاليا،
أي تابعا للمعلوم، بل علمه علم فعلي؛ فهو من حيث هو فاعل عالم، و علمه هو الذي
أوجب الفعل، و إنما يتعلق بالموجود حال حدوثه لا محالة، و لا يجوز تعلقه بالمعدوم
على استمرار عدمه، و أنه علم و عقل، و كونه عقلا، و عاقلا، و معقولا شيء واحد،
فقال ابن عباد: لا يقال: يعلم نفسه، لأنه قد يؤدي إلى تمايز بين العالم و المعلوم.
و لا يعلم غيره؛ لأنه يؤدي إلى كون علمه من غيره يحصل، فإما أن لا يصح النقل، و
إما أن يحمل على مثل هذا المحمل، و لسنا من رجال ابن عباد فنطلب لكلامه وجها.
7-
المرداريّة «2»
أصحاب عيسى
بن صبيح «3» المكنى بأبي موسى، الملقب بالمردار «4». و قد تلمذ
لبشر بن المعتمر، و أخذ العلم منه و تزهد، و يسمى راهب المعتزلة. و إنما انفرد عن
أصحابه بمسائل:
الأولى منها:
قوله في القدر إن اللّه تعالى يقدر على أن يكذب و يظلم، و لو كذب و ظلم كان إلها
كاذبا ظالما، تعالى اللّه عن قوله «5».
______________________________
(1)
الصحيح أن يقال: غير المعقول.
(2) راجع
في شأن هذه الفرقة: التبصير ص 47 و الفرق بين الفرق ص 164.
(3) راجع
في شأن هذه الفرقة: التبصير ص 47 و الفرق بين الفرق ص 164.
(4) هو
أبو موسى: عيسى بن صبيح، و لقبه المردار و في طبقات المعتزلة «ابن المردار» قال
ابن الإخشيد:
هو من
علماء المعتزلة و من المقدمين فيهم، و كان ممن أجاب بشر بن المعتمر، و من جهة أبي
موسى انتشر الاعتزال في بغداد، توفي في حدود سنة 226 ه. (راجع طبقات المعتزلة ص
70- 71).
(5) هذا
القول لا يليق إلّا بدينه الرقيق الذي ليس له تحقيق. (التبصير ص 47).
82
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
7 - المردارية ص : 82
و الثانية:
قوله في التولد مثل قول أستاذه، و زاد عليه بأن جوّز وقوع فعل واحد من فاعلين على
سبيل التولد «1».
الثالثة:
قوله في القرآن إن الناس قادرون على مثل القرآن فصاحة، و نظما، و بلاغة «2»، و هو الذي
بالغ في القول بخلق القرآن، و كفر من قال بقدمه بأنه قد أثبت قديمين، و كفر أيضا
من لا بس السلطان، و زعم أنه لا يرث و لا يورث، و كفر أيضا من قال إن أعمال العباد
مخلوقة للّه تعالى، و من قال إنه يرى بالأبصار و غلا في التكفير حتى قال هم كافرون
في قولهم: لا إله إلا اللّه، و قد سأله إبراهيم بن السندي «3» مرة عن أهل
الأرض جميعا فكفرهم، فأقبل عليه إبراهيم و قال: الجنة التي عرضها السموات و الأرض
لا يدخلها إلا أنت و ثلاثة وافقوك؟ فخزي و لم يحر جوابا.
و قد تلمذ له
أيضا الجعفران «4»، و أبو زفر، و محمد بن سويد، و صحب أبو جعفر محمد بن عبد
اللّه الإسكافي، و عيسى بن الهيثم، و جعفر بن حرب الأشج، و حكى الكعبي عن الجعفرين
أنهما قالا: إن اللّه تعالى خلق القرآن في اللوح المحفوظ، و لا يجوز أن ينقل إذ
يستحيل أن يكون الشيء الواحد في مكانين في حالة واحدة، و ما نقرأه فهو حكاية عن
المكتوب الأول في اللوح المحفوظ، و ذلك فعلنا و خلقنا.
______________________________
(1) حكى
أبو زفر عن المردار أنه أجاز وقوع فعل واحد من فاعلين مخلوقين على سبيل التولد، مع
إنكاره على أهل السنّة ما أجازوه من وقوع فعل من فاعلين أحدهما خالق و الآخر
مكتسب. (راجع الفرق بين الفرق ص 166).
(2) هذا
عناد منه لقول اللّه عزّ و جل في سورة الإسراء: الآية 88: قُلْ لَئِنِ
اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ
لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ+ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً. (راجع
الفرق بين الفرق ص 165).
(3) هو
إبراهيم بن السندي بن شاهك ولي الكوفة و الجاحظ يروي عنه كثيرا في كتبه. و أبوه
كان على الجسرين و قد نعت الجاحظ إبراهيم بأنه مولى أمير المؤمنين. (راجع عيون
الأخبار ص 121 و الجهشياري ص 236 و رسائل الجاحظ ص 47).
(4) تقدمت
ترجمتهما.
83
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
8 - الثمامية ص : 84
قال: و هو
الذي اختاره من الأقوال المختلفة في القرآن.
و قال في
تحسين العقل و تقبيحه: إن العقل يوجب معرفة اللّه تعالى بجميع أحكامه و صفاته قبل
ورود الشرع، و عليه يعلم أنه إن قصر و لم يعرفه و لم يشكره عاقبه عقوبة دائمة،
فأثبتنا التخليد واجبا بالعقل.
8-
الثّمامية «1»
أصحاب ثمامة
بن أشرس «2» النميري، كان جامعا بين سخافة الدين و خلاعة «3» النفس، مع
اعتقاده بأن الفاسق يخلد في النار إذا مات على فسقه من غير توبة، و هو في حال
حياته في منزلة بين المنزلتين، و انفرد عن أصحابه بمسائل:
منها قوله:
إن الأفعال المتولّدة لا فاعل لها؛ إذ لم يمكنه إضافتها إلى فاعل أسبابها حتى
يلزمه أن يضيف الفعل إلى ميت، مثل ما إذا فعل السبب و مات و وجد المتولد بعده و لم
يمكنه إضافتها إلى اللّه تعالى، لأنه يؤدي إلى فعل القبيح، و ذلك محال، فتحير فيه
و قال المتولدات أفعال لا فاعل لها.
و منها قوله
في الكفار و المشركين و المجوس، و اليهود و النصارى و الزنادقة و الدهرية: إنهم
يصيرون في القيامة ترابا، و كذلك قوله في البهائم و الطيور و أطفال المؤمنين.
______________________________
(1) راجع
في شأن هذه الفرقة. (الفرق بين الفرق ص 172 و التبصير ص 48).
(2) هو
أبو معن. من كبار المعتزلة. كان له اتصال بالرشيد ثم بالمأمون. من تلاميذه الجاحظ.
عدّه المقريزي في رؤساء الفرق الهالكة. قال ابن حزم: كان ثمامة يقول: إن العالم
فعل اللّه بطباعه. و قال الجاحظ: ما علمت أنه كان في زمانه قروي و لا بلدي بلغ من
حسن الإفهام مع قلّة عدد الحروف و لا من سهولة المخرج مع السلامة من التكلّف ما
كان بلغه. توفي سنة 213 ه/ 828 م. (راجع لسان الميزان 2: 83 و البيان و التبيين 1:
61).
(3) قال
أبو محمد: «ثم نصير إلى ثمامة فنجده من رقة الدين و تنقص الإسلام و الاستهزاء به و
إرساله لسانه على ما لا يكون على مثله رجل يعرف اللّه تعالى. و من المحفوظ عنه
المشهور أنه رأى قوما يتعادون يوم الجمعة إلى المسجد لخوفهم فوت الصلاة فقال
انظروا إلى البقر انظروا إلى الحمير ثم قال لرجل من إخوانه: ما صنع هذا العربي
بالناس؟. (راجع تأويل مختلف الحديث ص 60).
84
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
9 - الهشامية ص : 85
و منها قوله:
الاستطاعة هي السلامة و صحة الجوارح و تخليتها من الآفات، و هي قبل الفعل.
و منها قوله:
إن المعرفة متولدة من النظر، و هو فعل لا فاعل له كسائر المتولدات.
و منها قوله:
في تحسين العقل و تقبيحه، و إيجاب المعرفة قبل ورود السمع مثل قول أصحابه غير أنه
زاد عليهم فقال: من الكفار من لا يعلم خالقه و هو معذور، و قال: إن المعارف كلها
ضرورية، و إن من لم يضطر إلى معرفة اللّه سبحانه و تعالى فليس هو مأمورا بها، و
إنما خلق للعبرة و السخرة كسائر الحيوان.
و منها قوله:
لا فعل للإنسان إلا الإرادة، و ما عداها فهو حدث لا محدث له، و حكى ابن الراوندي
عنه أنه قال: العالم فعل اللّه تعالى بطباعه، و لعله أراد بذلك ما تريده الفلاسفة من
الإيجاب بالذات دون الإيجاد على مقتضى الإرادة، لكن يلزمه على اعتقاده ذلك ما لزم
الفلاسفة من القول بقدم العالم؛ إذ الموجب لا ينفك عن الموجب.
و كان ثمامة
في أيام المأمون، و كان عنده بمكان.
9-
الهشاميّة «1»
أصحاب هشام «2» بن عمرو
الفوطي، و مبالغته في القدر أشد و أكثر من مبالغة أصحابه، و كان يمتنع من إطلاق
إضافات أفعال إلى الباري تعالى و إن ورد بها التنزيل.
منها قوله:
إن اللّه لا يؤلف بين قلوب المؤمنين، بل هم المؤتلفون باختيارهم و قد ورد في
التنزيل: ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَ لكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ «3».
______________________________
(1) راجع
في شأن هذه الفرقة. (الفرق بين الفرق ص 159).
(2) هو
هشام بن عمرو الشيباني. ذكره ابن المرتضى آخر من ذكر من أهل الطبقة السادسة و حكى
عن يحيى بن أكثم أن المأمون العباسي كان إذا دخل عليه هشام هذا يتحرك له حتى إنه
ليكاد يقوم توفي سنة 226 ه. (راجع طبقات المعتزلة ص 61).
(3) سورة
الأنفال: الآية 63.
85
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
9 - الهشامية ص : 85
و منها قوله:
إن اللّه لا يحبب الإيمان إلى المؤمنين، و لا يزينه في قلوبهم، و قد قال تعالى: حَبَّبَ
إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَ زَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ «1» و مبالغته
في نفي إضافات الطبع و الختم و السد و أمثالها أشد و أصعب. و قد ورد بجميعها
التنزيل، قال اللّه تعالى: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَ
عَلى سَمْعِهِمْ «2» و قال: بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها
بِكُفْرِهِمْ «3» و قال: وَ جَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ
سَدًّا وَ مِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا «4» و ليت شعري! ما يعتقده الرجل؟ إنكار
ألفاظ التنزيل و كونها و حيا من اللّه تعالى؟ فيكون تصريحا بالكفر. أو إنكار
ظواهرها من نسبتها إلى الباري تعالى و وجوب تأويلها؟
و ذلك عين
مذهب أصحابه.
و من بدعه في
الدلالة على الباري تعالى قوله إن الأعراض لا تدل على كونه خالقا، و لا تصلح
الأعراض دلالات؛ بل الأجسام تدل على كونه خالقا، و هذا أيضا عجب.
و من بدعه في
الإمامة قوله إنها لا تنعقد في أيام الفتنة و اختلاف الناس، و إنما يجوز عقدها في
حال الاتفاق و السلامة، و كذلك أبو بكر الأصم من أصحابه كان يقول الإمامة لا تنعقد
إلا بإجماع الأمة عن بكرة أبيهم، و إنما أراد بذلك الطعن في إمامة عليّ رضي اللّه
عنه إذا كانت البيعة في أيام الفتنة من غير اتفاق من جميع الصحابة، إذ بقي في كل
طرف طائفة على خلافه.
و من بدعه أن
الجنة و النار ليستا مخلوقتين الآن، إذ لا فائدة في وجودهما و هما جميعا خاليتان
ممن ينتفع و يتضرر بهما، و بقيت هذه المسألة منه اعتقادا للمعتزلة، و كان يقول
بالموافاة، و أن الإيمان هو الذي يوافي الموت، و قال: من أطاع اللّه
______________________________
(1) سورة الحجرات:
الآية 7.
(2) سورة
البقرة: الآية 7.
(3) سورة
النساء: الآية 155.
(4) سورة
يس: الآية 9.
86
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
10 - الجاحظية ص : 87
جميع عمره، و
قد علم اللّه أنه يأتي بما يحبط أعماله و لو بكبيرة لم يكن مستحقا للوعد، و كذلك
على العكس، و صاحبه عباد «1» من المعتزلة، و كان يمتنع من إطلاق القول بأن
اللّه تعالى خلق الكافر، لأن الكافر كفر، و إنسان، و اللّه تعالى لا يخلق الكفر، و
قال النبوة جزاء على عمل، و إنها باقية ما بقيت الدنيا.
و حكى
الأشعري «2» عن عباد أنه زعم أنه لا يقال إن اللّه تعالى لم يزل قائلا
و لا غير قائل، و وافقه الإسكافي على ذلك، قال و لا يسمى متكلما.
و كان الفوطي
يقول إن الأشياء قبل كونها معدومة؛ ليست أشياء، و هي بعد أن تعدم عن وجود تسمى
أشياء. و لهذا المعنى كان يمنع القول بأن اللّه تعالى قد كان لم يزل عالما
بالأشياء قبل كونها، فإنها لا تسمى أشياء. قال: و كان يجوز القتل و الغيلة على
المخالفين لمذهبه، و أخذ أموالهم غصبا و سرقة لاعتقاده كفرهم، و استباحة دمائهم و
أموالهم «3».
10-
الجاحظية «4»
أصحاب عمرو
بن بحر أبي عثمان الجاحظ «5»، كان من فضلاء المعتزلة
______________________________
(1) هو
أحد رجال الطبقة السابعة من المعتزلة، بينه و بين عبد اللّه بن سعيد مناظرة و كان
في أيام المأمون و قد زعم أن بين اللفظ و المعنى طبيعة مناسبة فردوا عليه ذلك و قد
أخذ عن هشام الفوطي و كان الجبائي يصفه بالحذق و قد ملأ الأرض كتبا و خلافا و خرج
عن حدّ الاعتزال إلى الكفر و الزندقة. يظن أنه توفي في حدود سنة 250 ه. (راجع لسان
الميزان 3: 229 و التبصير ص 46).
(2) في
«مقالات الإسلاميين» أن عبادا كان يقول: هو عالم قادر حي، و لا أثبت له علما، و لا
قدرة و لا حياة، و لا أثبت له سمعا، و لا أثبت له بصرا. و أقول: هو عالم لا بعلم،
و قادر لا بقدرة، حي لا بحياة و سميع لا بسمع. و كذلك سائر ما يسمّى به من الأسماء
التي يسمى بها، لا لفعله و لا لفعل غيره.
و كان ينكر
أن يقال إن للباري وجها و يدين و عينين و جنبا ... و كان إذا سئل عن القول عزيز،
قال:
إثبات اسم
اللّه، و لم يقل أكثر من هذا. و كذلك جوابه في عظيم، مالك، سيّد.
(3) كان
أهل السنّة يقولون في الفوطي و أتباعه: إن دماءهم و أموالهم حلال للمسلمين و فيه
الخمس، و ليس على قاتل الواحد منهم قود، و لا دية و لا كفّارة، بل لقاتله عند
اللّه تعالى القربى و الزلفى. (راجع الفرق بين الفرق ص 164).
(4) انظر
في شأن هذه الفرقة. (التبصير ص 49 و الفرق بين الفرق ص 175).
(5) توفي
الجاحظ سنة 250 ه. و يقال سنة 255 ه. (راجع طبقات المعتزلة ص 67 و العبر 1: 456 و
ابن خلكان الترجمة 479).
87
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
10 - الجاحظية ص : 87
و المصنفين
لهم. و قد طالع كثيرا من كتب الفلاسفة، و خلط و روّج كثيرا من مقالاتهم بعباراته
البليغة، و حسن براعته اللطيفة. و كان في أيام المعتصم و المتوكل، و انفرد عن
أصحابه بمسائل:
منها قوله:
إن المعارف كلها ضرورية طباع، و ليس شيء من ذلك من أفعال العباد. و ليس للعبد كسب
سوى الإرادة، و تحصل أفعاله منه طباعا «1» كما قال ثمامة، و نقل عنه أيضا أنه
أنكر أصل الإرادة و كونها جنسا من الأعراض فقال: إذا انتفى السهو عن الفاعل، و كان
عالما بما يفعله فهو المريد على التحقيق، و أما الإرادة المتعلقة بفعل الغير فهو
ميل النفس إليه، و زاد على ذلك بإثبات الطبائع للأجسام كما قال الطبيعيون من
الفلاسفة و أثبت لها أفعالا مخصوصة بها، و قال باستحالة عدم الجواهر؛ فالأعراض
تتبدل، و الجواهر لا يجوز أن تفنى.
و منها قوله:
في أهل النار إنهم لا يخلدون فيها عذابا، بل يصيرون إلى طبيعة النار. و كان يقول
النار تجذب أهلها إلى نفسها من غير أن يدخل أحد فيها، و مذهبه مذهب الفلاسفة في
نفي الصفات، و في إثبات القدر خيره و شره من العبد مذهب المعتزلة. و حكى الكعبي
عنه أنه قال: يوصف الباري تعالى بأنه مريد بمعنى أنه لا يصح عليه السهو في أفعاله،
و لا الجهل و لا يجوز أن يغلب و يقهر.
و قال إن
الخلق كلهم من العقلاء عالمون بأن اللّه تعالى خالقهم، و عارفون بأنهم محتاجون إلى
النبي، و هم محجوجون بمعرفتهم، ثم هم صنفان: عالم بالتوحيد، و جاهل به فالجاهل
معذور، و العالم محجوج. و من انتحل دين الإسلام، فإن اعتقد أن اللّه تعالى ليس
بجسم و لا صورة، و لا يرى بالأبصار، و هو عدل لا يجوز، و لا يريد المعاصي، و بعد
الاعتقاد و اليقين أقر بذلك كله، فهو مسلم حقا،
______________________________
(1) إذا
كانت أفعاله طباعا لا كسبا لزم أن لا يكون له عليها ثواب و لا عقاب إذ لا يثاب و
لا يعاقب على ما لا يكون كسبا له، كما لا يثاب و لا يعاقب على لونه و تركيب بدنه
إذ لم يكن ذلك من كسبه، و هذا يخالف قوله تعالى: كُلُّ امْرِئٍ
بِما كَسَبَ رَهِينٌ.
88
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
11 - الخياطية و الكعبية ص : 89
و إن عرف ذلك
كله ثم جحده و أنكره، و قال بالتشبيه و الجبر، فهو مشرك كافر حقا، و إن لم ينظر في
شيء من ذلك كله، و أعتقد أن اللّه تعالى ربه، و أن محمدا رسول اللّه، فهو مؤمن لا
لوم عليه، و لا تكليف عليه غير ذلك.
و حكى ابن
الراوندي عنه أنه قال: إن للقرآن جسدا يجوز أن يقلب مرة رجلا، و مرة حيوانا. و هذا
مثل ما يحكى عن أبي بكر الأصم أنه زعم أن القرآن جسم مخلوق. و أنكر الأعراض أصلا.
و أنكر صفات الباري تعالى، (و مذهب الجاحظ هو بعينه مذهب الفلاسفة، إلا أن الميل
منه و من أصحابه إلى الطبيعيين منهم أكثر منه إلى الإلهيين).
11-
الخيّاطيّة «1» و الكعبيّة «2»
أصحاب أبي
الحسين بن أبي عمرو الخياط «3»، أستاذ أبي القاسم بن محمد الكعبي «4». و هما من
معتزلة بغداد على مذهب واحد، إلا أن الخياط غالى في إثبات المعدوم شيئا و قال «5»: الشيء ما
يعلم و يخبر عنه، و الجوهر جوهر في العدم، و العرض عرض في العدم، و كذلك أطلق جميع
الأجناس و الأصناف حتى قال: السواد سواد في العدم، فلم يبق إلا صفة الوجود أو
الصفات التي تلزم الوجود و الحدوث، و أطلق على المعدوم لفظ الثبوت «6»، و قال في
نفي الصفات عن الباري
______________________________
(1) راجع
في شأن الخياطيّة. (التبصير ص 51 و الفرق بين الفرق ص 179).
(2) راجع
في شأن الكعبية. (التبصير ص 51 و الفرق بين الفرق ص 181).
(3) هو أبو
الحسين: عبد الرحيم بن محمد بن عثمان الخياط ذكره ابن المرتضى في رجال الطبقة
الثامنة و قال عنه: أستاذ أبي القاسم البلخي عبد اللّه بن أحمد و كان أبو علي يفضل
البلخي على أستاذه و له كتب كثيرة في النقص على ابن الراوندي. و كان أبو الحسين
فقيها صاحب حديث واسع الحفظ لمذاهب المتكلّمين، توفي سنة 300 ه. (راجع طبقات
المعتزلة ص 85).
(4) تقدمت
ترجمته.
(5) قال
عبد القاهر إنه انفرد بقول لم يسبق إليه في المعدوم راجعه ص 179.
(6) قد
زاد في قوله على جميع القدرية، فوصف المعدوم بأنه جسم فيلزمه أن يجوز كون المعدوم
رجلا راكبا جملا و بيده سيف مسلط، يصول عليه و يلقنه مثل هذه البدع، و القدرية و
إن قالوا في المعدوم إنه شيء و جوهر و عرض و سواد و بياض فإنهم لا يقولون إنه جسم
و إنه قابل للأعراض. و هذا القول منه يوجب كون الأجسام قديمة و يفضي به إلى نفي
الصانع. (راجع التبصير ص 51).
89
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
12 - الجبائية و البهشمية ص : 90
مثل ما قاله
أصحابه. و كذا القول في القدر و السمع، و العقل، و انفرد الكعبي عن أستاذه بمسائل «1»:
منها قوله:
إن إرادة الباري تعالى ليست صفة قائمة بذاته، و لا هو مريد لذاته، و لا إرادته
حادثة في محل أو لا في محل، بل إذا أطلق عليه أنه مريد فمعناه أنه عالم، قادر، غير
مكره في فعله، و لا كاره، ثم إذا قيل هو مريد لأفعاله، فالمراد به أنه خالق لها
على وفق علمه، و إذا قيل هو مريد لأفعال عباده، فالمراد به أنه آمر بها راض عنها،
و قوله في كونه سميعا بصيرا راجع إلى ذلك أيضا، فهو سميع بمعنى أنه عالم
بالمسموعات، و بصير بمعنى أنه عالم بالمبصرات.
و قوله في
الرؤية كقول أصحابه نفيا و إحالة «2». غير أن أصحابه قالوا: يرى الباري
تعالى ذاته، و يرى المرئيات، و كونه مدركا لذلك زائد على كونه عالما و قد أنكر
الكعبي ذلك؛ قال: معنى قولنا: يرى ذاته و يرى المرئيات: أنه عالم بها فقط.
12-
الجبّائية «3» و البهشميّة «4»
أصحاب أبي
عليّ محمد بن عبد الوهاب الجبّائي «5»، و ابنه أبي هاشم عبد السلام «6»، و هما من
معتزلة البصرة؛ انفردا عن أصحابهما بمسائل، و انفرد أحدهما عن صاحبه بمسائل، أما
المسائل التي انفردا بها عن أصحابهما.:
______________________________
(1) تكلّم
عبد القاهر عن الكعبية و قال: هؤلاء أتباع أبي القاسم عبد اللّه بن أحمد بن محمود
البلخي المعروف بالكعبي، خالف البصريين من المعتزلة في أحوال كثيرة. (راجعها ص
180).
(2) قال
كثير منهم إنه لا يرى شيئا و لا يبصر بحال و ليس معبودهم على هذا القول إلّا كما
نهى إبراهيم الخليل عليه السلام أباه عن عباده حيث قال: (إذ قال لأبيه يا أبت لم
تعبد ما لا يسمع و لا يبصر و لا يغني عنك شيئا). (التبصير ص 37).
(3) انظر
في شأن هذه الفرقة. (التبصير ص 52 و الفرق بين الفرق ص 183).
(4) انظر
في شأن هذه الفرقة. (التبصير ص 53 و الفرق بين الفرق ص 184).
(5) تقدمت
ترجمته.
(6) تقدمت
ترجمته.
90
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
12 - الجبائية و البهشمية ص : 90
فمنها، أنهما
أثبتا إرادات حادثة لا في محل، يكون الباري تعالى بها موصوفا مريدا. و تعظيما لا
في محل إذا أراد أن يعظم ذاته، و فناء لا في محل إذا أراد أن يفنى العالم، و أخص
أوصاف هذه الصفات يرجع إليه من حيث إنه تعالى أيضا لا في محل، و إثبات موجودات هي
أعراض، أو في حكم الأعراض لا محل لها كإثبات موجودات هي جواهر، أو في حكم الجواهر
لا مكان لها، و ذلك قريب من مذهب الفلاسفة حيث أثبتوا عقلا هو جوهر لا في محل و لا
في مكان، و كذلك النفس الكلية «1»، و العقول المفارقة «2».
و منها:
أنهما حكما بكونه تعالى متكلما بكلام يخلقه في محل، و حقيقة الكلام عندهما أصوات
مقطعة، و حروف منظومة، و المتكلم من فعل الكلام، لا من قام به الكلام، إلا أن
الجبائي خالف أصحابه خصوصا بقوله: يحدث اللّه تعالى عند قراءة كل قارئ كلاما لنفسه
في محل القراءة، و ذلك حين ألزم أن الذي يقرؤه القارئ ليس بكلام اللّه. و المسموع
منه ليس من كلام اللّه، فالتزم هذا المحال من إثبات أمر غير معقول و لا مسموع، و
هو إثبات كلامين في محل واحد.
و اتفقا على
نفي رؤية اللّه تعالى بالأبصار في دار القرار، و على القول بإثبات الفعل للعبد
خلقا و إبداعا، و إضافة الخير و الشر، و الطاعة و المعصية إليه استقلالا و
استبدادا، و أن الاستطاعة قبل الفعل، و هي قدرة زائدة على سلامة البنية و صحة
الجوارح، و أثبتا البنية شرطا في قيام المعاني التي يشترط في ثبوتها الحياة.
و اتفقا على
أن المعرفة و شكر المنعم و معرفة الحسن و القبح واجبات عقلية، و أثبتا شريعة عقلية
و ردّا الشريعة النبوية إلى مقدرات الأحكام و مؤقتات الطاعات التي
______________________________
(1) راجع
موسوعة الفلسفة 2: 505 و 506.
(2)
العقول المفارقة عشرة: تسع منها مدبرات النفوس التسعة المزاولة، و واحد هو العقل
الفعّال. و لكل كرة متحركة محرك مفارق غير متناهي القوة، يحرك كما يحرك المشتهي و
المعشوق. فالمحركات المفارقة تحرك على أنها مشتهاة، و المحركات المزاولة تحرك على
أنها مشتهية عاشقة. (راجع موسوعة الفلسفة ص 72- 74).
91
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
12 - الجبائية و البهشمية ص : 90
لا يتطرق
إليها عقل، و لا يهتدي إليها فكر، و بمقتضى العقل و الحكمة يجب على الحكيم ثواب
المطيع و عقاب العاصي، إلا أن التأقيت و التخليد فيه يعرف بالسمع.
و الإيمان
عندهما اسم مدح، و هو عبارة عن خصال الخير التي إذا اجتمعت في شخص سمي بها مؤمنا،
و من ارتكب كبيرة فهو في الحال يسمى فاسقا، لا مؤمنا، و لا كافرا، و إن لم يتب و
مات عليها فهو مخلد في النار.
و اتفقا على
أن اللّه تعالى لم يدخر عن عباده شيئا مما علم أنه إذا فعل بهم أتوا بالطاعة و
التوبة من الصلاح و الأصلح و اللطف، لأنه قادر، عالم جواد، حكيم لا يضره الإعطاء،
و لا ينقص من خزائنه المنح، و لا يزيد في ملكه الادخار، و ليس الأصلح هو الألذ، بل
هو الأعود في العاقبة، و الأصوب في العاجلة و إن كان ذلك مؤلما مكروها، و ذلك
كالحجامة و الفصد، و شرب الأدوية، و لا يقال إنه تعالى يقدر على شيء هو أصلح مما
فعله بعبده، و التكاليف كلها ألطاف، و بعثة الأنبياء، و شرع الشرائع، و تمهيد
الأحكام و التنبيه على الطريق الأصوب، كلها ألطاف.
و مما تخالفا
فيه: أما في صفات الباري تعالى فقال الجبّائي: الباري تعالى عالم لذاته. قادر حي
لذاته، و معنى قوله: لذاته أي لا يقتضي كونه عالما صفة هي علم، أو حال توجب كونه
عالما:
و عند أبي
هاشم: هو عالم لذاته، بمعنى أنه ذو حالة هي صفة معلومة و راء كونه ذاتا موجودا، و
إنما تعلم الصفة على الذات لا بانفرادها، فأثبت أحوالا هي صفات لا موجودة و لا
معدومة، و لا معلومة و لا مجهولة، أي هي على حيالها لا تعرف كذلك بل مع الذات قال:
و العقل يدرك فرقا ضروريا بين معرفة الشيء مطلقا، و بين معرفته على صفة، فليس من
عرف الذات عرف كونه عالما. و لا من عرف الجوهر عرف كونه متحيزا قابلا للعرض، و لا
شك أن الإنسان يدرك اشتراك الموجودات في قضية، و افتراقها في قضية، و بالضرورة
يعلم أن ما اشتركت فيه غير ما افترقت به.
92
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
12 - الجبائية و البهشمية ص : 90
و هذه
القضايا العقلية لا ينكرها عاقل، و هي لا ترجع إلى الذات، و لا إلى أعراض وراء
الذات، فإنه يؤدي إلى قيام العرض بالعرض فتعين بالضرورة أنها أحوال، فكون العالم
عالما حال هي صفة و راء كونه ذاتا، أي المفهوم منها غير المفهوم من الذات، و كذلك
كونه قادرا، حيا، ثم أثبت الباري تعالى حالة أخرى أوجبت تلك الأحوال، و خالفه
والده و سائر منكري الأحوال في ذلك، و ردوا الاشتراك و الافتراق إلى الألفاظ و
أسماء الأجناس، و قالوا: أ ليست الأحوال تشترك في كونها أحوالا و تفترق في خصائص؟
كذلك نقول في الصفات. و إلا فيؤدي إلى إثبات الحال للحال، و يفضي إلى التسلسل، بل
هي راجعة إما إلى مجرد الألفاظ إذ وضعت في الأصل على وجه يشترك فيها الكثير، لا أن
مفهومها معنى أو صفة ثابتة في الذات على وجه يشمل أشياء و يشترك فيها الكثير، فإن
ذلك مستحيل أو يرجع ذلك إلى وجوه و اعتبارات عقلية هي المفهومة من قضايا الاشتراك
و الافتراق.
و تلك
الوجوه: كالنّسب و الإضافات، و القرب و البعد و غير ذلك مما لا يعد صفات بالاتفاق.
و هذا هو اختيار أبي الحسين «1» البصري، و أبي الحسن الأشعري و رتبوا
على هذه المسألة: مسألة أن المعدوم شيء، فمن يثبت كونه شيئا كما نقلنا عن جماعة
من المعتزلة، فلا يبقى من صفات الثبوت إلا كونه موجودا، فعلى ذلك لا يثبت للقدرة
في إيجادها أثرا ما سوى الوجود، و الوجود على مذهب نفاة الأحوال لا يرجع إلا إلى
اللفظ المجرد، و على مذهب مثبتي الأحوال هو حالة لا توصف بالوجود و لا بالعدم و
هذا كما ترى من التناقض و الاستحالة.
و من نفاة
الأحوال من يثبته شيئا و لا يسميه بصفات الأجناس. و عند الجبائي أخص وصف الباري
تعالى هو القدم، و الاشتراك في الأخص يوجب الاشتراك في
______________________________
(1) هو
محمد بن علي الطيب، أبو الحسين، البصري: أحد أئمة المعتزلة. قال الخطيب البغدادي:
له تصانيف و شهرة بالذكاء و الدّيانة على بدعته. ولد في البصرة و سكن بغداد و توفي
بها. توفي سنة 436 ه/ 1044 م. (راجع وفيات الأعيان 1: 482 و تاريخ بغداد 3: 100).
93
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
12 - الجبائية و البهشمية ص : 90
الأعم، و ليت
شعري! كيف يمكنه إثبات الاشتراك و الافتراق، و العموم و الخصوص حقيقة و هو من نفاة
الأحوال؟ فأما على مذهب أبي هاشم فلعمري هو مطرد، غير أن القدم إذا بحث عن حقيقته
رجع إلى نفي الأولية، و النفي يستحيل أن يكون أخص وصف الباري.
و اختلفا في
كونه سميعا بصيرا، فقال الجبائي: معنى كونه سميعا بصيرا أنه حي لا آفة به.
و خالفه ابنه
و سائر أصحابه، أما ابنه فصار إلى أن كونه سميعا حالة، و كونه بصيرا حالة، و كونه
بصيرا حالة سوى كونه عالما؛ لاختلاف القضيتين و المفهومين، و المتعلقين، و
الأثرين.
و قال غيره
من أصحابه: معناه كونه مدركا للمبصرات، مدركا للمسموعات.
و اختلفا
أيضا في بعض مسائل اللطف، فقال الجبائي فيمن يعلم الباري تعالى من حاله أنه لو آمن
مع اللطف لكان ثوابه أقل لقلة مشقته، و لو آمن بلا لطف لكان ثوابه أكثر لكثرة
مشقته: إنه لا يحسن منه أن يكلفه مع اللطف، و يسوى بينه و بين من المعلوم من حاله
أنه لا يفعل الطاعة على كل وجه إلا مع اللطف، و يقول: إذ لو كلفه مع عدم اللطف
لوجب أن يكون مستفسدا حاله، غير مزيح لعلته.
و يخالفه أبو
هاشم في بعض المواضع في هذه المسألة، قال: يحسن منه تعالى أن يكلفه الإيمان على
أشق الوجهين بلا لطف.
و اختلفا في
فعل الألم للعوض، فقال الجبائي: يجوز ذلك ابتداء لأجل العوض، و عليه بني آلام
الأطفال، و قال ابنه: إنما يحسن ذلك بشرط العوض و الاعتبار جميعا.
و تفصيل مذهب
الجبائي في الأعواض على وجهين:
94
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
12 - الجبائية و البهشمية ص : 90
أحدهما أنه
يقول: يجوز التفضل بمثل الأعواض غير أنه تعالى علم أنه لا ينفعه عوض إلا على ألم
متقدم.
و الوجه
الثاني أنه إنما يحسن ذلك لأن العوض مستحق، و التفضل غير مستحق و الثواب عندهم
ينفصل عن التفضل بأمرين:
أحدهما:
تعظيم و إجلال للمثاب يقترن بالنعيم.
و الثاني:
قدر زائد على التفضل بزيادة مقدار و لا بزيادة صفة.
و قال ابنه:
يحسن الابتداء بمثل العوض تفضلا، و العوض منقطع غير دائم.
و قال
الجبائي: يجوز أن يقع الانتصاف من اللّه تعالى للمظلوم من الظالم بأعواض يتفضل بها
عليه إذا لم يكن للظالم على اللّه عوض لشيء ضره به.
و زعم أبو
هاشم أن التفضل لا يقع به انتصاف، لأن التفضل ليس يجب عليه فعله.
و قال
الجبائي و ابنه: لا يجب على اللّه شيء لعباده في الدنيا إذا لم يكلفهم عقلا و
شرعا. فأما إذا كلفهم فعل الواجب في عقولهم، و اجتناب القبائح، و خلق فيهم الشهوة
للقبيح و النفور من الحسن، و ركب فيهم الأخلاق الذميمة؛ فإنه يجب عليه عند هذا
التكليف إكمال العقل، و نصب الأدلة، و القدرة، و الاستطاعة، و تهيئة الآلة؛ بحيث
يكون مزيحا لعللهم فيما أمرهم، و يجب عليه أن يفعل بهم ادعى الأمور إلى فعل ما
كلفهم به، و أزجر الأشياء لهم عن فعل القبيح الذي نهاهم عنه.
و لهم في
مسائل هذا الباب خبط طويل «1».
+++ و أما
كلام جميع المعتزلة البغداديين في النبوة و الإمامة فيخالف كلام
______________________________
(1) من
ضلالات الجبائي أنه سمى اللّه مطيعا لعبده إذا فعل مراد العبد. و كان سبب ذلك أن
قال يوما لأبي الحسن الأشعري: ما معنى الطاعة عندك؟ فقال: موافقة الأمر. و سأله عن
قوله فيها فقال الجبائي: حقيقة الطاعة عندي موافقة الإرادة. و كل من فعل مراد غيره
فقد أطاعه، فقال له أبو الحسن: يلزمك على هذا الأصل أن يكون اللّه مطيعا لعبده إذا
فعل مراده فالتزم ذلك. فقال له-
95
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
12 - الجبائية و البهشمية ص : 90
البصريين.
فإن من شيوخهم من يميل إلى الروافض، و منهم من يميل إلى الخوارج.
و الجبائي و
أبو هاشم قد وافقا أهل السنّة في الإمامة، و أنها بالاختيار، و أن الصحابة مترتبون
في الفضل ترتبهم في الإمامة، غير أنهم ينكرون الكرامات أصلا للأولياء من الصحابة و
غيرهم «1». و يبالغون في عصمة الأنبياء عليهم السلام عن الذنوب
كبائرها و صغائرها، حتى منع الجبائي القصد إلى الذنب إلا على تأويل.
و المتأخرون
من المعتزلة مثل القاضي عبد الجبار «2» و غيره انتهجوا طريقة أبي هاشم. و
خالفه في ذلك أبو الحسين البصري و تصفح أدلة الشيوخ و اعترض على ذلك بالتزييف و
الإبطال، و انفرد عنهم بمسائل: منها نفي الحال، و منها نفي المعدوم شيئا. و منها
نفي الألوان أعراضا. و منها قوله: إن الموجودات تتمايز بأعيانها، و ذلك من توابع
نفي الحال. و منها رده الصفات كلها إلى كون الباري تعالى عالما، قادرا، مدركا. و
له ميل إلى مذهب هشام بن الحكم في أن الأشياء لا تعلم قبل كونها. و الرجل فلسفي
المذهب. إلا أنه روّج كلامه على المعتزلة في معرض الكلام فراج عليهم لقلة معرفتهم
بمسالك المذاهب.
______________________________
- أبو
الحسن: خالفت إجماع المسلمين و كفرت بربّ العالمين. و لو جاز أن يكون اللّه مطيعا
لعبده لجاز أن يكون خاضعا له، تعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا. (راجع المختصر
للرسعني ص 121).
(1) لئن
أنكروا الكرامات، لقد أثبتها الموحّدون لاستفاضة الخبر عن صاحب سليمان في إتيانه
بعرش بلقيس قبل ارتداد الطرف إليه. و منها رؤية عمر على منبره بالمدينة جيشه
بنهاوند حتى قال يا سارية الجبل و سمع سارية ذلك الصوت على مسافة زهاء خمسمائة
فرسخ حتى صعد الجبل و فتح منه الكمين للعدو و كان ذلك سبب الفتح.
و منها قصة
سفينة مولى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلّم مع الأسد، و قصة عمير الطائي مع
الذئب حتى قيل له كليم الذئب. و قصة أهبان بن صيفي و أبي ذرّ الغفاري مع الوحش و
ما أشبه ذلك كثير مما حرمه أهل القدر بشؤم بدعتهم و ليس في جوازها قدح في النبوات،
لأن الناقض للعادة فيه دلالة على الصدق فتارة يدلّ على الصدق في دعوى النبوّة، و
تارة يدل على الصدق في الحال. (راجع أصول الدين ص 184).
(2) هو
عبد الجبّار بن أحمد الهمذاني القاضي المتكلم. كان من غلاة الشيعة و كان فقيها
شافعيا. ولي قضاء الريّ و صنّف في مذهبه و ذبّ عنه و دعا إليه و قد صنّف دلائل
النبوة فأجاد فيه. و كان شافعيا في الفروع معتزليا في الأصول توفي سنة 415 ه.
(راجع لسان الميزان ص 386 و طبقات الشافعية 3: 219).
96
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
الفصل الثاني الجبرية ص : 97
الفصل
الثاني الجبرية
الجبر هو نفي
الفعل حقيقة عن العبد و إضافته إلى الرب تعالى. و الجبرية أصناف. فالجبرية
الخالصة: هي التي لا تثبت للعبد فعلا و لا قدرة على الفعل أصلا. و الجبرية
المتوسطة: هي التي تثبت للعبد قدرة غير مؤثرة أصلا. فأما من أثبت للقدرة الحادثة
أثرا ما في الفعل، و سمى ذلك كسبا فليس بجبريّ.
و المعتزلة
يسمون من لم يثبت للقدرة الحادثة أثرا في الإبداع و الإحداث استقلالا جبريا. و
يلزمهم أن يسموا من قال من أصحابهم بأن المتولدات أفعال لا فاعل لها جبريا. إذ لم
يثبتوا للقدرة الحادثة فيها أثرا. و المصنفون في المقالات عدوا النّجّارية و
الضّرارية من الجبرية. و كذلك جماعة الكلابية من الصفاتية.
و الأشعرية
سموهم تارة حشويّة، و تارة جبرية. و نحن سمعنا إقرارهم على أصحابهم من النّجّارية
و الضّرارية فعددناهم من الجبرية. و لم نسمع إقرارهم على غيرهم فعددناهم من
الصفاتية.
1-
الجهميّة «1»
أصحاب جهم «2» بن صفوان، و
هو من الجبرية الخالصة. ظهرت بدعته بترمذ «3»، و قتله سلم «4» بن أحوز
المازني بمرو «5» في آخر ملك بني أمية. وافق المعتزلة في نفي الصفات
الأزلية، و زاد عليهم بأشياء.
منها قوله:
لا يجوز أن يوصف الباري تعالى بصفة يوصف بها خلقه، لأن
______________________________
(1) راجع
في شأن هذه الفرقة. (التبصير ص 62 و الفرق بين الفرق ص 211).
(2) تقدمت
ترجمته.
(3) ترمذ:
اسم مدينة على نهر جيحون. (راجع معجم ثامن ص 382).
(4) وقع
في العبر 1: 66 «سلم بن أحور» بالراء المهملة، و هو في كلّ كتب المقالات بالزاي و
هو من قواد نصر بن سيّار في خراسان في أواخر بني أميّة. (راجع مقالات الإسلاميين و
التبصير).
(5) مرو:
هي مرو العظمى أشهر مدن خراسان. و النسبة إليها مروزي. (راجع معجم 8: 33).
97
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
1 - الجهمية ص : 97
الفصل
الثاني الجبرية
الجبر هو نفي
الفعل حقيقة عن العبد و إضافته إلى الرب تعالى. و الجبرية أصناف. فالجبرية
الخالصة: هي التي لا تثبت للعبد فعلا و لا قدرة على الفعل أصلا. و الجبرية
المتوسطة: هي التي تثبت للعبد قدرة غير مؤثرة أصلا. فأما من أثبت للقدرة الحادثة
أثرا ما في الفعل، و سمى ذلك كسبا فليس بجبريّ.
و المعتزلة
يسمون من لم يثبت للقدرة الحادثة أثرا في الإبداع و الإحداث استقلالا جبريا. و
يلزمهم أن يسموا من قال من أصحابهم بأن المتولدات أفعال لا فاعل لها جبريا. إذ لم
يثبتوا للقدرة الحادثة فيها أثرا. و المصنفون في المقالات عدوا النّجّارية و
الضّرارية من الجبرية. و كذلك جماعة الكلابية من الصفاتية.
و الأشعرية
سموهم تارة حشويّة، و تارة جبرية. و نحن سمعنا إقرارهم على أصحابهم من النّجّارية
و الضّرارية فعددناهم من الجبرية. و لم نسمع إقرارهم على غيرهم فعددناهم من
الصفاتية.
1-
الجهميّة «1»
أصحاب جهم «2» بن صفوان، و
هو من الجبرية الخالصة. ظهرت بدعته بترمذ «3»، و قتله سلم «4» بن أحوز
المازني بمرو «5» في آخر ملك بني أمية. وافق المعتزلة في نفي الصفات
الأزلية، و زاد عليهم بأشياء.
منها قوله:
لا يجوز أن يوصف الباري تعالى بصفة يوصف بها خلقه، لأن
______________________________
(1) راجع
في شأن هذه الفرقة. (التبصير ص 62 و الفرق بين الفرق ص 211).
(2) تقدمت
ترجمته.
(3) ترمذ:
اسم مدينة على نهر جيحون. (راجع معجم ثامن ص 382).
(4) وقع
في العبر 1: 66 «سلم بن أحور» بالراء المهملة، و هو في كلّ كتب المقالات بالزاي و
هو من قواد نصر بن سيّار في خراسان في أواخر بني أميّة. (راجع مقالات الإسلاميين و
التبصير).
(5) مرو:
هي مرو العظمى أشهر مدن خراسان. و النسبة إليها مروزي. (راجع معجم 8: 33).
97
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
1 - الجهمية ص : 97
ذلك يقضي
تشبيها. فنفي كونه حيا عالما. و أثبت كونه: قادرا، فاعلا، خالقا «1»؛ لأنه لا
يوصف شيء من خلقه بالقدرة، و الفعل، و الخلق.
و منها
إثباته علوما حادثة للباري تعالى «2» لا في محل. قال: لا يجوز أن يعلم
الشيء قبل خلقه؛ لأنه لو علم ثم خلق، أ فبقي علمه على ما كان أم لم يبق؟ فإن بقي
فهو جهل، فإن العلم بأن سيوجد غير العلم بأن قد وجد. و إن لم يبق فقد تغير، و
المتغير مخلوق ليس بقديم. و وافق في هذا المذهب هشام بن الحكم كما تقرر. قال: و
إذا ثبت حدوث العلم فليس يخلو: إما أن يحدث في ذاته تعالى، و ذلك يؤدي إلى التغير
في ذاته، و أن يكون محلا للحوادث، و إما أن يحدث في محل فيكون المحل موصوفا به، لا
الباري تعالى، فتعين أنه لا محل له. فأثبت علوما حادثة بعدد الموجودات المعلومة.
و منها قوله
في القدرة الحادثة: إن الإنسان لا يقدر على شيء، و لا يوصف بالاستطاعة، و إنما هو
مجبور في أفعاله؛ لا قدرة له، و لا إرادة، و لا اختيار. و إنما يخلق اللّه تعالى
الأفعال فيه على حسب ما يخلق في سائر الجمادات، و تنسب إليه الأفعال مجازا كما
تنسب إلى الجمادات، كما يقال: أثمرت الشجرة، و جرى الماء، و تحرك الحجر، و طلعت
الشمس و غربت، و تغيمت السماء و أمطرت، و اهتزت الأرض و أنبتت، إلى غير ذلك «3». و الثواب و
العقاب جبر، كما أن الأفعال كلها جبر. قال: و إذا ثبت الجبر فالتكليف أيضا كان
جبرا.
______________________________
(1) مقال:
إنما يقال في وصفه أنه قادر و موجد و فاعل و خالق و محيي و مميت، لأن هذه الأوصاف
مختصّة به وحده. (راجع الفرق بين الفرق ص 212 و التبصير ص 64).
(2) قال
جهم: «إن علم اللّه محدث، هو أحدثه فعلم به و أنه غير اللّه، و قد يجوز عنده أن
اللّه يكون عالما بالأشياء كلّها قبل وجودها بعلم يحدثه قبلها. و حكى عنه حاك خلاف
هذا ... (راجع مقالات الإسلاميين للأشعري 2: 494).
(3) هذا
القول خلاف ما تجده العقلاء في أنفسهم، لأن كل من يرجع إلى نفسه يفرق في نفسه بين
ما يرد عليه من أمر ضروري لا اختيار له فيه و بين ما يختاره و يضيفه لنفسه.
فالعاقل يفرق بين حركة ضرورية-
98
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
1 - الجهمية ص : 97
و منها قوله:
إن حركات أهل الخلدين تنقطع. و الجنة و النار تفنيان بعد دخول أهلهما فيهما و تلذذ
أهل الجنة بنعيمها، و تألم أهل النار بجحيمها؛ إذ لا تتصور حركات لا تناهي آخرا،
كما لا تتصور حركات لا تتناهى أولا. و حمل قوله تعالى:
خالِدِينَ
فِيها على المبالغة و التأكيد دون الحقيقة في التخليد، كما يقال خلد اللّه
ملك فلان. و استشهد على الانقطاع بقوله تعالى: خالِدِينَ فِيها
ما دامَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ «1». فالآية
اشتملت على شريطة و استثناء، و الخلود و التأييد لا شرط فيه و لا استثناء «2».
و منها قوله:
من أتى بالمعرفة ثم جحد بلسانه لم يكفر بجحده، لأن العلم و المعرفة لا يزولان
بالجحد، فهو مؤمن، قال: و الإيمان لا يتبعض أي لا ينقسم إلى: عقد، و قول و عمل.
قال: و لا يتفاضل أهله فيه، فإيمان الأنبياء، و إيمان الأمة على نمط واحد، إذ
المعارف لا تتفاضل. و كان السلف كلهم من أشد الرادّين عليه، و نسبته إلى التعطيل
المحض. و هو أيضا موافق للمعتزلة في نفي الرؤية، و إثبات خلق الكلام، و إيجاب
المعارف بالعقل قبل ورود السمع.
______________________________
- كحركة
المرتعش، و حركة المختار. و أنه ليجد فرقا بينهما. و من أنكر هذه التفرقة لا يعدّ
من العقلاء، فله ما ورد في القرآن من قوله يعملون، و يعقلون و يكسبون حجة عليهم، و
كذا قوله: كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ و لو لم يكن للعبد
اختيار، كان الخطاب معه محالا و الثواب و العقاب عنه ساقطين كالجماد.
و قد ردّ
اللّه على الجبرية و القدرية حيث قال: و ما رميت إذ رميت و لكن اللّه رمى. و معناه
و ما رميت من حيث الخلق إذ رميت من حيث الكسب. و لكن اللّه رمى من حيث الخلق و
الكسب، خلقه خلقا لنفسه، كسبا لعبده، فهو مخلوق للّه تعالى من وجهين. (راجع
التبصير ص 63).
(1) سورة
هود: الآية 108.
(2) من
ضلالاته قوله إن الجنة و النار تفنيان كما تفنى سائر الأشياء. لكنه عزّ و جلّ قادر
بعد فنائهما على أن يخلق أمثالهما. و عقيدة أهل السنّة إنهم قالوا بتأييد الجنة و
نعيمها و تأييد جهنّم و عذابها و أكفروه في قوله.
(راجع
الفرق بين الفرق ص 211 و التبصير ص 64).
99
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
2 - النجارية ص : 100
2-
النّجّارية «1»
أصحاب
الحسين «2» بن محمد النّجار، و أكثر معتزلة الري و ما حواليها على
مذهبه. و هم و إن اختلفوا أصنافا إلا أنهم لم يختلفوا في المسائل التي عددناها
أصولا. و هم: برغوثية «3» و زعفرانية «4» و مستدركة «5». و وافقوا
المعتزلة في نفي الصفات من العلم، و القدرة، و الإرادة، و الحياة، و السمع، و
البصر. و وافقوا الصفاتية في خلق الأعمال.
قال النجار:
الباري تعالى مريد لنفسه كما هو عالم لنفسه، فألزم عموم التعلق، فالتزم و قال: هو
مريد الخير و الشر، و النفع و الضر، و قال أيضا: معنى كونه مريدا أنه غير مستكره و
لا مغلوب. و قال: هو خالق أعمال العباد، خيرها و شرها، حسنها و قبيحها، و العبد
مكتسب لها. و أثبت تأثيرا للقدرة الحادثة، و سمى ذلك كسبا على حسب ما يثبته
الأشعري. و وافقه أيضا في أن الاستطاعة مع الفعل. و أما في مسألة الرؤية فأنكر
رؤية اللّه تعالى بالأبصار و أحالها؛ غير أنه قال: يجوز أن يحوّل اللّه تعالى
القوة التي في القلب من المعرفة إلى العين، فيعرف اللّه تعالى بها فيكون ذلك رؤية،
و قال بحدوث الكلام لكنه انفرد عن المعتزلة بأشياء منها:
______________________________
(1) راجع
في شأن هذه الفرقة. (الفرق بين الفرق ص 207 و التبصير ص 61 و مقالات الإسلاميين 1:
315).
(2) هو
أبو عبد اللّه: رأس الفرقة النجارية من المعتزلة. كان حائكا، و قيل: كان يعمل
الموازين من أهل قم، و هو من متكلّمي «المجبرة» و له مع النظام عدة مناظرات. و
أكثر المعتزلة في الريّ و جهاتها من النجارية. له عدة كتب. توفي نحو سنة 220 ه/
نحو 835 م. و قيل إن سبب موته أنه تناظر يوما مع النظام فأفحمه النظام، فقام
محموما و مات عقب ذلك، و قد ذكر ابن النديم هذه المناظرة. (راجع فهرست ابن النديم:
الفن الثالث من المقالة الخامسة و اللباب 3: 215).
(3) نسبة
إلى محمد بن عيسى الملقب ببرغوث.
(4) هي
فرقة من النجارية ينتمون إلى رئيس لهم يقال له الزّعفراني، و من مذهبهم أن القرآن
محدث و أن كلام اللّه غيره فهو مخلوق، و يقولون مع ذلك أن القول بخلق القرآن كفر
فيعتقدون المتناقض. (راجع اللباب ص 503).
(5)
المستدركة، قوم من الزعفرانية، سموا بهذا الاسم لأنهم زعموا أنهم استدركوا على
أسلافهم ما خفي عليهم. (راجع التبصير ص 62).
100
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
2 - النجارية ص : 100
قوله: إن
كلام الباري تعالى إذا قرئ فهو عرض، و إذا كتب فهو جسم. و من العجب أن الزعفرانية «1» قالت كلام
اللّه غيره، و كل ما هو غيره فهو مخلوق، و مع ذلك قالت: كل من قال إن القرآن
مخلوق «2» فهو كافر. و لعلهم أرادوا بذلك الاختلاف، و إلا فالتناقض
ظاهر. و المستدركة «3» منهم زعموا أن كلامه غيره، و هو مخلوق لكن النبي صلى
اللّه عليه و سلّم قال: «كلام اللّه غير مخلوق» و السلف عن آخرهم أجمعوا على هذه
العبارة، فوافقناهم، و حملنا قولهم غير مخلوق، أي على هذا الترتيب و النظم من
الحروف و الأصوات، بل هو مخلوق على غير هذه الحروف بعينها، و هذه حكاية عنها. و
حكى الكعبي عن النجار أنه قال: الباري تعالى بكل مكان ذاتا، و وجودا لا معنى العلم
و القدرة، و ألزمه محالات على ذلك.
و قال في
المفكر قبل ورود السمع مثل ما قالت المعتزلة إنه يجب عليه تحصيل المعرفة بالنظر و
الاستدلال.
و قال في
الإيمان إنه عبارة عن التصديق. و من ارتكب كبيرة و مات عليها من غير توبة عوقب على
ذلك، و يجب أن يخرج من النار، فليس من العدل التسوية بينه و بين الكفار في الخلود.
و محمد «4» بن عيسى
الملقب ببرغوث، و بشر «5» بن غياث المريسي،
______________________________
(1) كان
الزعفراني يعبر عن مذهبهم بعبارات متناقضة فكان يقول: إن كلام اللّه تعالى غيره- و
كل ما هو غير اللّه تعالى مخلوق، ثم يقول مع ذلك: الكلب خير ممّن يقول كلام اللّه
مخلوق. (راجع الفرق بين الفرق ص 209 و التبصير ص 62).
(2) راجع
كلام الخلفاء و الصحابة و التابعين في خلق القرآن في كتاب «الأسماء و الصفات» ص
239.
(3)
افترقوا فرقتين. فقالت فرقة منهم أن النبي صلى اللّه عليه و سلّم قال: كلام اللّه
تعالى مخلوق، على هذا الترتيب بهذه الحروف. و قالوا: و كل من لم يقل أن النبي صلى
اللّه عليه و سلّم قال هذا فهو كافر. و قالت الفرقة الأخرى: إن النبي صلى اللّه
عليه و سلّم لم يقل أن كلام اللّه تعالى مخلوق، و لم يتكلم بهذه الكلمة على هذا
الترتيب، و لكنه يعتقد أن كلام اللّه تعالى مخلوق و تكلّم بكلمات تدل على أن القرآن
مخلوق. (راجع التبصير ص 62 و الفرق بين الفرق ص 208).
(4) كان
على مذهب النجار في أكثر مذاهبه و خالفه في تسمية المكتسب فاعلا.
(5) هو
أبو عبد الرحمن. فقيه معتزلي عارف بالفلسفة يرمى بالزندقة. و هو رأس الطائفة
«المريسيّة» القائلة-
101
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
3 - الضرارية ص : 102
و الحسين
النجار متقاربون في المذهب، و كلهم أثبتوا كونه تعالى مريدا لم يزل لكل ما علم أنه
سيحدث من خير و شر و إيمان و كفر، و طاعة و معصية، و عامة المعتزلة يأبون ذلك.
3-
الضّرارية «1»
أصحاب ضرار
بن عمرو «2»، و حفص الفرد «3»، و اتفقا في التعطيل، و على أنهما قالا:
الباري تعالى عالم قادر، على معنى أنه ليس بجاهل و لا عاجز، و أثبتا للّه سبحانه
ماهية لا يعلمها إلا هو، و قالا: إن هذه المقالة محكية عن أبي حنيفة «4» رحمه اللّه
و جماعة من أصحابه. و أرادا بذلك أنه يعلم نفسه شهادة، لا بدليل و لا خبر. و نحن
نعلمه بدليل و خبر. و أثبتا حاسة سادسة للإنسان يرى بها الباري تعالى يوم الثواب
في الجنة «5». و قالا: أفعال العباد مخلوقة للباري تعالى حقيقة،
______________________________
- بالإرجاء
و إليه نسبتها. أخذ الفقه عن القاضي أبو يوسف و قال برأي الجهمية، و أوذي في دولة
هارون الرشيد. و كان جدّه مولى لزيد بن الخطاب. و قيل: كان أبوه يهوديا. توفي سنة
218 ه/ 833 م.
(راجع
النجوم الزاهرة 2: 288 و تاريخ بغداد 7: 56).
(1) راجع
في شأن هذه الفرقة التبصير ص 62 و التنبيه ص 43 و اعتقادات فرق المسلمين ص 69 و
الفرق بين الفرق ص 213.
(2) هو قاضي
من كبار المعتزلة. طمع في رياستهم في بلده فلم يدركها. فخالفهم فكفروه و طردوه،
صنّف نحو ثلاثين كتابا بعضها في الردّ عليهم و على الخوارج، و فيها ما هو مقالات
خبيثة. شهد عليه الإمام أحمد بن حنبل عند القاضي سعيد بن عبد الرحمن الجمحي فأفتى
بضرب عنقه فهرب. و قيل إن يحيى بن خالد البرمكي أخفاه. قال الجشمي: و من عدّه من
المعتزلة فقد أخطأ، لأنّا نتبرّأ منه فهو من المجبرة. توفي نحو سنة 190 ه/ نحو 805
م. (راجع لسان الميزان 3: 303 و فضل الاعتزال 391).
(3) حفص
الفرد: قال عنه ابن النديم «من المجبرة و من أكابرهم، نظير النجار، و يكنّى أبا
عمرو، و كان من أهل مصر، قدم البصرة فسمع بأبي الهذيل و اجتمع معه و ناظره، فقطعه
أبو الهذيل، و كان أولا معتزليا ثم قال بخلق الأفعال و كان يكنى أبا يحيى ثم ذكر
له عدة كتب. (الفهرست ص 269) و قال الذهبي «حفص الفرد: مبتدع. قال النسائي: صاحب كلام
لكنه لا يكتب حديثه. و كفّره الشافعي في مناظرته». (راجع ميزان الاعتدال 1: 564
الترجمة رقم 2143).
(4) هو
أبو حنيفة النعمان بن ثابت. الإمام الفقيه الكوفي. توفي سنة 150 ه.
(5) قال
عبد القاهر في (الفرق بين الفرق ص 214): «و انفرد بأشياء منكرة منها قوله بأن اللّه
تعالى يرى في القيامة بحاسة سادسة يرى بها المؤمنون ماهيّة الإله، و قال: للّه
تعالى ماهية لا يعرفها غيره. يراها المؤمنون بحاسة سادسة و تبعه على هذا القول حفص
الفرد».
102
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
3 - الضرارية ص : 102
و العبد
مكتسبها حقيقة. و جواز حصول فعل بين فاعلين، و قالا يجوز أن يقلب اللّه تعالى
الأعراض أجساما، و الاستطاعة و العجز بعض الجسم و هو جسم و لا محالة بنفي زمانين.
و قالا: الحجة بعد رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلّم في الإجماع فقط، فما ينقل عنه
في أحكام الدين من طريق أخبار الآحاد فغير مقبول «1».
و يحكى عن
ضرار أنه كان ينكر حرف عبد اللّه «2» بن مسعود، و حرف أبي بن كعب «3»، و يقطع بأن
اللّه تعالى لم ينزله «4».
______________________________
(1) أمّا
حقيقة هذه الإضافة في اللغة فإنه خبر واحد و إنّ الراوي له واحد فقط لا اثنان و لا
أكثر من ذلك.
غير أن
المتكلّمين و الفقهاء قد تواضعوا على تسمية كل خبر قصر على إيجاب العلم بأنه خبر
واحد ...
و هذا
الخبر لا يوجب العلم، و لكن يوجب العمل إن كان ناقله عدلا و لم يعارضه ما هو أقوى
منه. فمتى صحّ إسنادها و كانت متونها غير مستحيلة في العقل، كانت موجبة للعمل بها
دون العلم، و كانت بمنزلة شهادة العدول عند الحاكم في أن يلزمه الحكم بها في
الظاهر، و إن لم يعلم صدقهم في الشهادة، و بهذا النوع من الخبر أثبت الفقهاء أكثر
فروع الأحكام الشرعية في العبادات و المعاملات و سائر أبواب الحلال و الحرام و
ضلّلوا من أسقط وجوب العمل بأخبار الآحاد. (راجع التمهيد ص 194).
(2) هو
أحد القرّاء الأربعة من السابقين صحابي، من أكابرهم فضلا و عقلا و قربا من رسول
اللّه صلى اللّه عليه و سلّم. كان خادم رسول اللّه الأمين و صاحب سرّه و رفيقه في
حلّه و ترحاله و غزواته. له 848 حديثا. توفي سنة 32 ه/ 653 م. (راجع الإصابة ت 4955
و البدء و التاريخ 5: 97).
(3) هو
أبو المنذر: أبي بن كعب بن قيس الأنصاري الخزرجي النجاري. كان أقرأ الصحابة و سيّد
القرّاء.
شهد بدرا و
المشاهد كلها. و قرأ القرآن على النبي صلى اللّه عليه و سلّم و جمع بين العلم و
العمل. توفي سنة 19 ه. و قيل سنة 22 ه. (راجع تذكرة الحفاظ رقم 6 و مشاهير علماء
الأمصار رقم 31).
(4) قراءة
ابن مسعود هي قراءة عاصم بن بهدلة أبي النجود شيخ الأقراء بالكوفة، و قد أقرأها
أبا بكر بن عياش، و هي القراءة التي كان يعرضها على زر بن حبيش عن ابن مسعود. و في
تاريخ المصاحف بيان لحروف ابن مسعود و مصحفه. أمّا قراءة أبيّ فقد أخذ بها عبد
اللّه بن حبيب أبو عبد الرحمن السلمي مقرئ الكوفة و إليه انتهت القراءة تجويدا و
ضبطا و ممّن أخذ عنه عاصم. و بتاريخ المصاحف بيان لمصحفه و القراءتان متوافرتان و
لهما قراءة تجري مجرى التفسير المشهور. و إنكار حرف منهما يكون إنكارا لبعض القرآن
و إنكار بعضه كإنكار كلّه و هو كفر فوق ما فيه من نسبته إليهما الإفتاءات على
اللّه في مصحفيهما.
و لقد زاد
في غلوائه فشكّ في جميع عامة المسلمين و قال لا أدري لعل سرائر العامة كلها شرك و
كفر و هذا خلاف إجماع أهل السنّة حيث قالوا: إنّا نقطع أن في عوام المسلمين مؤمنين
عارفين براء من الكفر و الشرك. (راجع غاية النهاية أول ص 347 و ص 413 و تاريخ
المصاحف ص 53 و ص 54 و التبصير ص 63).
103
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
الفصل الثالث الصفاتية ص : 104
و قال في
المفكر قبل ورود السمع إنه لا يجب عليه بعقله شيء حتى يأتيه الرسول فيأمره و ينهاه،
و لا يجب على اللّه تعالى شيء بحكم العقل. و زعم ضرار أيضا أن الإمامة تصلح في
غير قريش، حتى إذا اجتمع قرشي و نبطي قدمنا النبطي، إذ هو أقل عددا، و أضعف وسيلة
فيمكننا خلعه إذا خالف الشريعة.
و المعتزلة و
إن جوزوا الإمامة غي غير قريش، إلا أنهم لا يجوزون تقديم النبطي على القرشي.
الفصل
الثالث الصفاتية
اعلم أن
جماعة كثيرة من السلف كانوا يثبتون للّه تعالى صفات أزلية من العلم، و القدرة، و
الحياة، و الإرادة و السمع، و الكلام، و الجلال، و الإكرام، و الجود، و الإنعام، و
العزة، و العظمة. و لا يفرقون بين صفات الذات، و صفات الفعل بل يسوقون الكلام سوقا
واحدا. و كذلك يثبتون صفات خبرية مثل اليدين، و الوجه و لا يؤولون ذلك إلا أنهم
يقولون: هذه الصفات قد وردت في الشرع، فنسميها صفات خبرية. و لما كانت المعتزلة
ينفون الصفات و السلف يثبتون، سمي السلف صفاتية و المعتزلة معطلة.
فبالغ السلف
في إثبات الصفات إلى حد التشبيه بصفات المحدثات.
و اقتصر
بعضهم على صفات دلت الأفعال عليها و ما ورد به الخبر؛ فافترقوا فرقتين:
فمنهم من
أوّله على وجه يحتمل اللفظ ذلك.
و منهم من
توقف في التأويل، و قال: عرفنا بمقتضى العقل أن اللّه تعالى ليس كمثله شيء، فلا
يشبه شيئا من المخلوقات و لا يشبهه شيء منها، و قطعنا بذلك، إلا أنا لا نعرف معنى
اللفظ الوارد فيه، مثل قوله تعالى: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ
104
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
الفصل الثالث الصفاتية ص : 104
اسْتَوى «1» و مثل قوله:
خَلَقْتُ بِيَدَيَ «2» و مثل قوله: وَ جاءَ
رَبُّكَ «3» إلى غير ذلك. و لسنا مكلفين بمعرفة تفسير هذه الآيات و
تأويلها، بل التكليف قد ورد بالاعتقاد بأنه لا شريك له، و ليس كمثله شيء، و ذلك
قد أثبتناه يقينا.
ثم إن جماعة
من المتأخرين زادوا على ما قاله السلف؛ فقالوا: لا بد من إجرائها على ظاهرها،
فوقعوا في التشبيه الصرف و ذلك على خلاف ما اعتقده السلف. و لقد كان التشبيه صرفا
خالصا في اليهود، لا في كلهم بل في القرائين «4» منهم، إذ
وجدوا في التوراة ألفاظا كثيرة تدل على ذلك.
ثم الشيعة في
هذه الشريعة وقعوا في غلو و تقصير. أما الغلو فتشبيه بعض أئمتهم بالإله تعالى و
تقدس. و أما التقصير فتشبيه الإله بواحد من الخلق.
و لما ظهرت
المعتزلة و المتكلمون من السلف رجعت بعض الروافض عن الغلوّ و التقصير، و وقعت في
الاعتزال و تخطت جماعة من السلف إلى التفسير الظاهر فوقعت في التشبيه.
و أما السلف
الذين لم يتعرضوا للتأويل، و لا تهدفوا للتشبيه فمنهم: مالك بن أنس رضي اللّه
عنهما، إذ قال: الاستواء معلوم، و الكيفية مجهولة، و الإيمان به واجب، و السؤال
عنه بدعة. و مثل أحمد بن حنبل رحمه اللّه، و سفيان الثوري، و داود بن عليّ
الأصفهاني، و من تابعهم.
حتى انتهى
الزمان إلى عبد اللّه بن سعيد الكلابي، و أبي العباس القلانسي،
______________________________
(1) سورة
طه: الآية 5.
(2) سورة
ص: الآية 75.
(3) سورة
الفجر: الآية 22.
(4)
القراءون: هم فرقة من اليهود، و هم بنو مقرا و معنى مقرا الدعوة، و هم يحكمون نصوص
التوراة و لا يلتفتون إلى قول من خالفها. و يقفون مع النص دون تقليد من سلف و هم
مع الربانيين من العداوة بحيث لا يتناكحون و لا يتجاورون، و لا يدخل بعضهم كنيسة
بعض. (راجع خطط المقريزي 4: 369).
105
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
1 - الأشعرية ص : 106
و الحارث بن
أسد المحاسبي، و هؤلاء كانوا من جملة السلف إلا أنهم باشروا علم الكلام، و أيدوا
عقائد السلف بحجج كلامية، و براهين أصولية. و صنف بعضهم و درس بعض حتى جرى بين أبي
الحسن الأشعري و بين أستاذه مناظرة في مسألة من مسائل الصلاح و الأصلح فتخاصما. و
انحاز الأشعري إلى هذه الطائفة، فأيد مقالتهم بمناهج كلامية، و صار ذلك مذهبا لأهل
السنّة و الجماعة، و انتقلت سمة الصفاتية إلى الأشعرية. و لما كانت المشبهة و
الكرامية «1» من مثبتي الصفات عددناهم فرقتين من جملة الصفاتية.
1-
الأشعرية
أصحاب أبي
الحسن «2» علي بن إسماعيل الأشعري، المنتسب إلى أبي موسى الأشعري
رضي اللّه عنهما. و سمعت من عجيب الاتفاقات أن أبا موسى الأشعري رضي اللّه عنه كان
يقرر عين ما يقرر الأشعري أبو الحسن في مذهبه. و قد جرت مناظرة بين عمرو بن العاص
و بينه، فقال عمرو: أين أجد أحدا أحاكم إليه ربي؟ فقال أبو موسى: أنا ذلك المتحاكم
إليه. فقال عمرو: أو يقدّر عليّ شيئا ثم يعذبني عليه؟ قال: نعم. قال عمرو: و لم؟
قال: لأنه لا يظلمك. فسكت عمرو، و لم يحر جوابا.
قال الأشعري:
الإنسان إذا فكر في خلقته، من أي شيء ابتدأ، و كيف دار في أطوار الخلقة طورا بعد
طور حتى وصل إلى كمال الخلقة، و عرف يقينا أنه بذاته لم يكن ليدبر خلقته، و ينقله
من درجة إلى درجة، و يرقيه من نقص إلى كمال، علم بالضرورة أن له صانعا قادرا،
عالما، مريدا، إذ لا يتصور حدوث هذه الأفعال المحكمة من طبع لظهور آثار الاختيار
في الفطرة، و تبين آثار الإحكام و الإتقان في
______________________________
(1) أصحاب
أبي عبد اللّه محمد بن كرام و سيأتي الكلام على الكرامية في موضعه.
(2) هو
أبو الحسن من نسل الصحابي أبي موسى الأشعري: مؤسس مذهب الأشاعرة: كان من الأئمة
المتكلّمين المجتهدين. قيل: بلغت مصنفاته ثلاثمائة كتاب من أشهرها: مقالات
الإسلاميين و اختلاف المصلّين. توفي سنة 324 ه/ 936 م. (راجع طبقات الشافعية 2:
245 و المقريزي 2: 359).
106
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
1 - الأشعرية ص : 106
الخلقة. فله
صفات دلت أفعاله عليها لا يمكن جحدها. و كما دلت الأفعال على كونه عالما، مريدا،
دلت على العلم و القدرة و الإرادة، لأن وجه الدلالة لا يختلف شاهدا و غائبا. و
أيضا لا معنى للعالم حقيقة إلا أنه ذو علم، و لا للقادر إلا أنه ذو قدرة، و لا
للمريد إلا أنه ذو إرادة، فيحصل بالعلم الإحكام و الاتقان. و يحصل بالقدرة الوقوع
و الحدوث. و يحصل بالإرادة التخصيص بوقت دون وقت، و قدر دون قدر، و شكل دون شكل. و
هذه الصفات لن يتصور أن يوصف بها الذات إلا و أن يكون الذات حيا بحياة للدليل الذي
ذكرناه.
و ألزم منكري
الصفات إلزاما لا محيص لهم عنه، و هو أنكم وافقتمونا بقيام الدليل على كونه عالما
قادرا فلا يخلو إما أن يكون المفهومان من الصفتين واحدا أو زائدا، فإن كان واحدا
فيجب أن يعلم بقادريته، و يقدر بعالميته. و يكون من علم الذات مطلقا علم كونه
عالما قادرا، و ليس الأمر كذلك، فعلم أن الاعتبارين مختلفان. فلا يخلو إما أن يرجع
الاختلاف إلى مجرد اللفظ أو إلى الحال، أو إلى الصفة. و بطل رجوعه إلى اللفظ
المجرد، فإن العقل يقضي باختلاف مفهومين معقولين. و لو قدر عدم الألفاظ رأسا ما ارتاب
العقل فيما تصوره و بطل رجوعه إلى الحال، فإن إثبات صفة لا توصف بالوجود و لا
بالعدم إثبات واسطة بين الوجود و العدم، و الإثبات و النفي، و ذلك محال. فتعين
الرجوع إلى صفة قائمة بالذات و ذلك مذهبه.
+++ على أن
القاضي الباقلاني «1» من أصحاب الأشعري قد ردد قوله في إثبات الحال و نفيها و
تقرر رأيه على الإثبات، و مع ذلك أثبت الصفات معاني قائمة به
______________________________
(1) هو
القاضي أبو بكر محمد بن الطيب، المعروف بالباقلاني المتكلم المشهور، كان على مذهب
الشيخ أبي الحسن الأشعري و مؤيدا اعتقاده و ناصرا طريقته و قد صنّف التصانيف
الكثيرة المشهورة في علم الكلام و غيره و كان في علمه أوحد زمانه. توفي سنة 403 ه.
(راجع ابن خلكان أول ص 609).
107
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
1 - الأشعرية ص : 106
لا أحوالا. و
قال: الحال الذي أثبته أبو هاشم هو الذي نسميه صفة خصوصا إذا أثبت حالة أوجبت تلك
الصفات.
قال أبو
الحسن: الباري تعالى عالم بعلم، قادر بقدرة، حي بحياة، مريد بإرادة، متكلم بكلام،
سميع يسمع، بصير يبصر. و له في البقاء اختلاف رأي.
قال: و هذه
الصفات أزلية قائمة بذاته تعالى. لا يقال: هي هو، و لا هي غيره، و لا: لا هو، و
لا: لا غيره. و الدليل على أنه متكلم بكلام قديم، و مريد بإرادة قديمة أنه قد قام
الدليل على أنه تعالى ملك، و الملك من له الأمر و النهي فهو آمر، ناه. فلا يخلو
إما أن يكون آمرا بأمر قديم، أو بأمر محدث. و إن كان محدثا فلا يخلو: إما أن يحدثه
في ذاته، أو في محل أو لا في محل. و يستحيل أن يحدثه في ذاته، لأنه يؤدي إلى أن
يكون محلا للحوادث، و ذلك محال. و يستحيل أن يحدثه في محل، لأنه يوجب أن يكون
المحل به موصوفا. و يستحيل أن يحدثه لا في محل، لأن ذلك غير معقول. فتعين أنه
قديم، قائم به صفة له، و كذلك التقسيم في الإرادة و السمع و البصر.
قال: و علمه
واحد يتعلق بجميع المعلومات: المستحيل، و الجائز، و الواجب، و الموجود، و المعدوم.
و قدرته واحدة تتعلق بجميع ما يصلح وجوده من الجائزات. و إرادته واحدة تتعلق بجميع
ما يقبل الاختصاص. و كلامه واحد هو:
أمر و نهي، و
خبر، و استخبار، و وعد، و وعيد. و هذه الوجوه ترجع إلى اعتبارات في كلامه، لا إلى
عدد في نفس الكلام. و العبارات و الألفاظ المنزلة على لسان الملائكة إلى الأنبياء
عليهم السلام دلالات على الكلام الأزلي، و الدلالة مخلوقة محدثة، و المدلول قديم
أزلي. و الفرق بين القراءة و المقروء، و التلاوة و المتلو كالفرق بين الذّكر و
المذكور فالذّكر، محدث و المذكور قديم «1».
______________________________
(1) قال
اللّه جلّ ثناؤه و لقد يسّرنا القرآن للذكر فهل من مدكر، و قال: و الطور و كتاب
مسطور في رق منشور. و قال جل و علا: بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم.
و قال تعالى: وَ إِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ
حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ. و قال عزّ و جل: قُلْ أُوحِيَ
إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ-
108
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
1 - الأشعرية ص : 106
و خالف
الأشعري بهذا التدقيق جماعة من الحشوية؛ إذ أنهم قضوا بكون الحروف و الكلمات
قديمة. و الكلام عند الأشعري معنى قائم بالنفس سوى العبارة.
و العبارة
دلالة عليه من الإنسان. فالمتكلم عنده من قام به الكلام. و عند المعتزلة من فعل
الكلام غير أن العبارة تسمى كلاما: إما بالمجاز، و إما باشتراك اللفظ.
قال: و
إرادته واحدة قديمة، أزلية، متعلقة بجميع المرادات من أفعاله الخاصة و أفعال
عباده، من حيث أنها مخلوقة له، لا من حيث إنها مكتسبة لهم.
فمن هذا قال:
أراد الجميع: خيرها، و شرها، و نفعها، و ضرها. و كما أراد و علم، أراد من العباد
ما علم. و أمر القلم حتى كتب في اللوح المحفوظ، فذلك حكمه و قضاؤه و قدره الذي لا
يتغير و لا يتبدل. و خلاف المعلوم: مقدور الجنس، محال الوقوع.
و تكليف ما
لا يطاق جائز على مذهبه للعلة التي ذكرناها. و لأن الاستطاعة عنده عرض، و العرض لا
يبقى زمانين. ففي حال التكليف لا يكون المكلف قط قادرا، لأن المكلف من يقدر على
إحداث ما أمر به. فأما أن يجوز ذلك في حق من لا قدرة له أصلا على الفعل فمحال، و
إن وجد ذلك منصوصا عليه في كتابه.
قال: و العبد
قادر على أفعاله إذ الإنسان يجد من نفسه تفرقة ضرورية بين حركات الرعدة و الرعشة،
و بين حركات الاختيار و الإرادة. و التفرقة راجعة إلى أن
______________________________
-
الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ
فَآمَنَّا بِهِ وَ لَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً. فالقرآن الذي
نتلوه كلام اللّه تعالى و هو متلو بألسنتنا على الحقيقة، مكتوب في مصاحفنا، محفوظ
في صدورنا و مسموع بأسماعنا، غير حال في شيء منها، إذ هو من صفات ذاته، غير بائن
منه، و هو كما أن الباري عز و جل معلوم بقلوبنا مذكور بألسنتنا مكتوب في كتبنا
معبود في مساجدنا مسموع بأسماعنا غير حال في شيء منها. و أما قراءتنا و كتبنا و
حفظنا فهي من اكتسابنا، و أكسابنا مخلوق لا شك فيه. قال اللّه عزّ و جلّ،:
وَ
افْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ و سمى رسول اللّه
صلى اللّه عليه و سلّم تلاوة القرآن فعلا. (راجع الأسماء و الصفات ص 258).
109
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
1 - الأشعرية ص : 106
الحركات
الاختيارية حاصلة تحت القدرة، متوقفة على اختيار القادر. فعن هذا قال: المكتسب هو
المقدور بالقدرة الحاصلة، و الحاصل تحت القدرة الحادثة.
ثم على أصل
أبي الحسين: لا تأثير للقدرة الحادثة في الإحداث، لأن جهة الحدوث قضية واحدة لا
تختلف بالنسبة إلى الجوهر و العرض. فلو أثرت في قضية الحدوث لأثرت في حدوث كل محدث
حتى تصلح لإحداث الألوان، و الطعوم، و الروائح. و تصلح لإحداث الجواهر و الأجسام،
فيؤدي إلى تجويز وقوع السماء على الأرض بالقدرة الحادثة غير أن اللّه تعالى أجرى
سنته بأن يحقق عقيب القدرة الحادثة، أو تحتها، أو معها: الفعل الحاصل إذا أراده
العبد و تجرد له، و يسمى هذا الفعل كسبا، فيكون خلقا من اللّه تعالى إبداعا و
إحداثا، و كسبا من العبد: حصولا تحت قدرته.
و القاضي أبو
بكر الباقلاني تخطى عن هذا القدر قليلا، فقال: الدليل قد قام على أن القدرة
الحادثة لا تصلح للإيجاد، لكن ليست تقتصر صفات الفعل أو وجوهه و اعتباراته على جهة
الحدوث فقط، بل هاهنا وجوه أخر، هن وراء الحدوث من كون الجوهر جوهرا متحيزا، قابلا
للعرض. و من كون العرض عرضا، و لونا، و سوادا و غير ذلك. و هذه أحوال عند مثبتي
الأحوال. قال: فجهة كون الفعل حاصلا بالقدرة الحادثة أو تحتها نسبة خاصة، و يسمى
ذلك كسبا، و ذلك هو أثر القدرة الحادثة.
قال: و إذا
جاز على أصل المعتزلة أن يكون تأثير القدرة أو القادرية القديمة في حال هو الحدوث
و الوجود، أو في وجه من وجوه الفعل، فلم لا يجوز أن يكون تأثير القدرة الحادثة في
حال: هو صفة للحادث، أو في وجه من وجوه الفعل؛ و هو كون الحركة مثلا على هيئة
مخصوصة؟ و ذلك أن المفهوم من الحركة مطلقا و من العرض مطلقا غير المفهوم من القيام
و القعود، و هما حالتان متمايزتان، فإن كل قيام حركة، و ليس كل حركة قياما.
110
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
1 - الأشعرية ص : 106
و من المعلوم
أن الإنسان يفرق فرقا ضروريا بين قولنا: أوجد، و بين قولنا:
صلى، و صام،
و قعد، و قام، و كما لا يجوز أن يضاف إلى الباري تعالى جهة ما يضاف إلى العبد،
فكذلك لا يجوز أن يضاف إلى العبد جهة ما يضاف إلى الباري تعالى.
فأثبت القاضي
تأثيرا للقدرة الحادثة و أثرها: هي الحالة الخاصة، و هي جهة من جهات الفعل حصلت من
تعلق القدرة الحادثة بالفعل. و تلك الجهة هي المتعينة لأن تكون مقابلة بالثواب و
العقاب. فإن الوجود من حيث هو وجود لا يستحق عليه ثواب و عقاب، خصوصا على أصل
المعتزلة، فإن جهة الحسن و القبح هي التي تقابل بالجزاء. و الحسن و القبح صفتان
ذاتيتان و راء الوجود. فالموجود من حيث هو موجود ليس بحسن و لا قبيح.
قال: فإذا
جاز لكم إثبات صفتين هما حالتان، جاز لي إثبات حالة هي متعلق القدرة الحادثة. و من
قال: هي حالة مجهولة، فبينا بقدر الإمكان جهتها و عرفناها إيش «1» هي، و
مثلناها كيف هي.
+++ ثم إن
إمام الحرمين «2» أبا المعالي الجويني تخطى عن هذا البيان قليلا.
قال: أما نفي
هذه القدرة و الاستطاعة فمما يأباه العقل و الحسن. و أما إثبات قدرة لا أثر لها
بوجه فهو كنفي القدرة أصلا. و أما إثبات تأثير في حالة لا يفعل فهو كنفي التأثير
خصوصا و الأحوال على أصلهم لا توصف بالوجود و العدم. فلا بد إذن من
______________________________
(1) إيش:
عربية عامية منحوتة من أي شيء. و قيل إيش في معنى أي شيء، كما يقال و يلمّه في
معنى ويل لأمّه على الحذف لكثرة الاستعمال.
(2) هو
عبد الملك بن أبي محمد عبد اللّه بن يوسف أبو المعالي، ركن الدين، الملقّب بإمام
الحرمين: أعلم المتأخرين من أصحاب الشافعي، ولد في جوين (من نواحي نيسابور). ذهب
إلى المدينة فأفتى و درس جامعا طرق المذاهب. ثم عاد إلى نيسابور فبنى له الوزير
نظام الملك «المدرسة النظامية» فيها. له مصنفات كثيرة. توفي سنة 478 ه/ 1085 م.
(راجع وفيات الأعيان و مفتاح السعادة 1: 440).
111
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
1 - الأشعرية ص : 106
نسبة فعل
العبد إلى قدرته حقيقة، لا على وجه الإحداث و الخلق، فإن الخلق يشعر باستقلال
إيجاده من العدم، و الإنسان كما يحس من نفسه الاقتدار، يحس من نفسه أيضا عدم
الاستقلال، فالفعل يستند وجوده إلى القدرة، و القدرة يستند وجودها إلى سبب آخر
تكون نسبة القدرة إلى ذلك السبب كنسبة الفعل إلى القدرة. و كذلك يستند سبب إلى سبب
آخر حتى ينتهي إلى مسبب الأسباب. فهو الخالق للأسباب و مسبباتها، المستغني على
الإطلاق، فإن كل سبب مهما استغنى من وجه محتاج من وجه، و الباري تعالى هو الغني
المطلق، الذي لا حاجة له و لا فقر.
و هذا الرأي
إنما أخذه من الحكماء الإلهيين و أبرزه في معرض الكلام. و ليس يختص نسبة السبب إلى
المسبب على أصله بالفعل و القدرة، بل كل ما يوجد من الحوادث فذلك حكمه. و حينئذ
يلزم القول بالطبع، و تأثير الأجسام في الأجسام إيجادا، و تأثير الطبائع في
الطبائع إحداثا، و ليس ذلك مذهب الإسلاميين. كيف و رأي المحققين من الحكماء أن
الجسم لا يؤثر في إيجاد الجسم، قالوا: الجسم لا يجوز أن يصدر عن جسم، و لا عن قوة
ما في جسم، فإن الجسم مركب من مادة و صورة، فلو أثر لأثر بجهتيه، أعني بمادته و
صورته و المادة لها طبيعة عدمية، فلو أثرت لأثرت بمشاركة العدم، و التالي محال،
فالمقدم إذن محال فنقيضه حق؛ و هو أن الجسم و قوة ما في الجسم لا يجوز أن يؤثر في
جسم.
و تخطى من هو
أشد تحققا و أغوص تفكرا عن الجسم و قوة ما في جسم، إلى كل ما هو جائز بذاته، فقال:
كل ما هو جائز بذاته لا يجوز أن يحدث شيئا ما، فإنه لو أحدث لأحدث بمشاركة الجواز،
و الجواز له طبيعة عدمية. فلو خلى الجائز و ذاته كان عدما. فلو أثر الجواز بمشاركة
العدم، لأدى إلى أن يؤثر العدم في الوجود، و ذلك محال؛ فإذن لا موجد على الحقيقة
إلا واجب الوجود لذاته و ما سواه من الأسباب معدات لقبول الوجود، لا محدثات لحقيقة
الوجود، و لهذا شرح سنذكره.
112
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
1 - الأشعرية ص : 106
و من العجب
أن مأخذ كلام الإمام أبي المعالي إذا كان بهذه المثابة، فكيف يمكن إضافة الفعل إلى
الأسباب حقيقة؟.
هذا و نعود
إلى كلام صاحب المقالة. قال أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري: إذا كان الخالق على
الحقيقة هو الباري تعالى لا يشاركه في الخلق غيره، فأخص وصفه تعالى هو: القدرة على
الاختراع. قال: و هذا هو تفسير اسمه تعالى اللّه.
و قال
الأستاذ أبو إسحاق «1» الأسفرايني: أخص وصفه هو: كون يوجب تمييزه عن
الأكوان كلها.
و قال بعضهم:
نعلم يقينا أن ما من موجود إلا و يتميز عن غيره بأمر ما، و إلا فيقتضي أن تكون
الموجودات كلها مشتركة متساوية، و الباري تعالى موجود، فيجب أن يتميز عن سائر
الموجودات بأخص وصف، إلا أن العقل لا ينتهي إلى معرفة و الباري تعالى موجود، فيجب
أن يتميز عن سائر الموجودات بأخص وصف، إلا أن العقل لا ينتهي إلى معرفة ذلك الأخص،
و لم يرد به سمع، فنتوقف.
ثم هل يجوز
أن يدركه العقل؟ ففيه خلاف أيضا، و هذا قريب من مذهب ضرار، غير أن ضرارا أطلق لفظ
الماهية عليه تعالى، و هو من حيث العبارة منكر.
و من مذهب
الأشعري: أن كل موجود يصح أن يرى، فإن المصحح للرؤية إنما هو الوجود. و الباري
تعالى موجود فيصح أن يرى. و قد ورد السمع بأن المؤمنين يرونه في الآخرة «2»، و قال
اللّه تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها
______________________________
(1) هو
إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن مهران. عالم بالفقه و الأصول. كان يلقب بركن
الدّين. قال ابن تغري بردي: و هو أول من لقب من الفقهاء. نشأ في إسفرايين (بين
نيسابور و جرجان) ثم خرج إلى نيسابور و بنيت له فيها مدرسة عظيمة فدرّس فيها. له
كتاب «الجامع» في أصول الدين. مات في نيسابور سنة 418 ه/ 1027 م. (راجع شذرات
الذهب 3: 209 و طبقات السبكي 3: 111).
(2) قال
علماء أهل السنّة إن رؤية اللّه سبحانه و تعالى ممكنة غير مستحيلة عقلا و أجمعوا
على وقوعها في الآخرة. و أن المؤمنين يرون اللّه سبحانه و تعالى دون الكافرين
بدليل قوله تعالى: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ-
113
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
1 - الأشعرية ص : 106
ناظِرَةٌ «1» إلى غير ذلك
من الآيات و الأخبار. قال: و لا يجوز أن تتعلق به الرؤية على جهة، و مكان، و صورة
و مقابلة، و اتصال شعاع أو على سبيل انطباع، فإن كل ذلك مستحيل.
و له قولان
في ماهية الرؤية:
أحدهما: أنه
علم مخصوص، و يعني بالخصوص أنه يتعلق بالوجود دون العدم.
و الثاني:
إنه إدراك وراء العلم لا يقتضي تأثيرا في المدرك، و لا تأثرا عنه.
و أثبت أن
السمع و البصر للباري تعالى صفتان أزليتان؛ هما إدراكان وراء العلم يتعلقان
بالمدركات الخاصة بكل واحد بشرط الوجود. و أثبت اليدين، و الوجه صفات خبرية.
فيقول: ورد بذلك السمع فيجب الإقرار به كما ورد، و صغوه «2» إلى طريقة
السلف من ترك التعرض للتأويل، و له قول أيضا في جواز التأويل.
و مذهبه في
الوعد و الوعيد، و الأسماء، و الأحكام، و السمع، و العقل مخالف للمعتزلة من كل
وجه.
قال: الإيمان
هو التصديق بالجنان. و أما القول باللسان و العمل بالأركان ففروعه. فمن صدق بالقلب
أي أقر بوحدانية اللّه تعالى، و اعترف بالرسل تصديقا لهم فيما جاءوا به من عند
اللّه تعالى بالقلب صح إيمانه، حتى لو مات عليه في الحال كان مؤمنا ناجيا، و لا
يخرج من الإيمان إلا بإنكار شيء من ذلك.
______________________________
-
يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ. و ما ذهبت إليه المعتزلة و الخوارج و بعض
المرجئة أن اللّه تعالى لا يراه أحد من خلقه و أن رؤيته مستحيلة عقلا، هذا الذي
قالوه خطأ صريح و جهل قبيح. و قد تظاهرت أدلّة الكتاب و السنّة و إجماع الصحابة
فمن بعدهم من سلف الأمة على إثبات رؤية اللّه تعالى، و قد رواها نحو من عشرين
صحابيا عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلّم. (راجع لباب التأويل 7: 154).
(1) سورة
القيامة: الآيتان 22 و 23.
(2) صغوه:
ميله. نقول: صغا إليه: أي مال.
114
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
1 - الأشعرية ص : 106
و صاحب
الكبيرة إذا خرج من الدنيا من غير توبة يكون حكمه إلى اللّه تعالى، إما أن يغفر له
برحمته، و إما أن يشفع فيه النبي صلى اللّه عليه و سلّم إذ قال: «شفاعتي لأهل
الكبائر من أمّتي» و إما أن يعذبه بمقدار جرمه، ثم يدخله الجنة برحمته. و لا يجوز
أن يخلد في النار مع الكفار، لما ورد به السمع بالإخراج من النار من كان في قلبه
مثقال ذرة من الإيمان. قال: و لو تاب فلا أقول بأنه يجب على اللّه تعالى قبول
توبته بحكم العقل، إذ هو الموجب، فلا يجب عليه شيء، بلى ورد السمع بقبول توبة
التائبين، و إجابة دعوة المضطرين، و هو المالك في خلقه يفعل ما يشاء، و يحكم ما
يريد، فلو أدخل الخلائق بأجمعهم الجنة لم يكن حيفا. و لو أدخلهم لم يكن جورا، إذ
الظلم هو التصرف فيما لا يملكه المتصرف. أو وضع الشيء في غير موضعه، و هو المالك
المطلق فلا يتصور منه ظلم، و لا ينسب إليه جور.
قال: و
الواجبات كلها سمعية، و العقل لا يوجب شيئا، و لا يقتضي تحسينا و لا تقبيحا،
فمعرفة اللّه بالعقل تحصل، و بالسمع تجب، قال اللّه تعالى: وَ ما كُنَّا
مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا «1» و كذلك شكر المنعم،
و إثابة المطيع، و عقاب العاصي يجب بالسمع دون العقل، و لا يجب على اللّه تعالى
شيء ما بالعقل، لا الصلاح، و لا الأصلح، و لا اللطف، و كل ما يقتضيه العقل من جهة
الحكمة الموجبة، فيقتضي نقيضه من وجه آخر.
و أصل
التكليف لم يكن واجبا على اللّه إذ لم يرجع إليه نفع، و لا اندفع به عنه ضر، و هو
قادر على مجازاة العبيد ثوابا و عقابا، و قادر على الإفضال عليهم ابتداء تكرما و
تفضلا. و الثواب، و النعيم، و اللطف كله منه فضل، و العقاب و العذاب كله عدل لا
يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَ هُمْ يُسْئَلُونَ «2».
و انبعاث
الرسل من القضايا الجائزة لا الواجبة و لا المستحيلة، و لكن بعد
______________________________
(1) سورة
الإسراء: الآية 15.
(2) سورة
الأنبياء: الآية 23.
115
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
1 - الأشعرية ص : 106
الانبعاث
تأييدهم بالمعجزات «1» و عصمتهم «2» من الموبقات
من جملة الواجبات، إذ لا بد من طريق للمستمع يسلكه ليعرف به صدق المدعي، و لا بد
من إزاحة العلل؛ فلا يقع في التكليف تناقض.
و المعجزة:
فعل خارق للعادة، مقترن بالتّحدي، سليم عن المعارضة، يتنزل منزلة التصديق بالقول
من حيث القرينة. و هو منقسم إلى خرق المعتاد، و إلى إثبات غير المعتاد. و الكرامات
للأولياء حق، و هي من وجه تصديق للأنبياء، و تأكيد للمعجزات.
و الإيمان و
الطاعة بتوفيق اللّه. و الكفر و المعصية بخذلانه. و التوفيق عنده:
خلق القدرة
على الطاعة، و الخذلان عنده: خلق القدرة على المعصية. و عند بعض أصحابه: تيسير
أسباب الخير هو التوفيق، و بضده الخذلان. و ما ورد به السمع من الإخبار عن الأمور
الغائبة مثل: القلم، و اللوح، و العرش، و الكرسي، و الجنة، و النار؛ فيجب إجراؤها
على ظاهرها و الإيمان بهما كما جاءت، إذ لا استحالة في إثباتها. و ما ورد من
الأخبار عن الأمور المستقبلة في الآخرة مثل: سؤال القبر، و الثواب و العقاب فيه، و
مثل: الميزان، و الحساب، و الصراط، و انقسام الفريقين:
فريق في
الجنة، و فريق في السعير، حق يجب الاعتراف بها و إجراؤها على ظاهرها، إذ لا
استحالة في وجودها.
و القرآن
عنده معجزة من حيث: البلاغة و النظم، و الفصاحة، إذ خيّر العرب بين السيف و بين
المعارضة. فاختاروا أشد القسمين اختيار عجز عن المقابلة. و من
______________________________
(1)
كإحياء الموتى و قلب العصا حيّة، و إخراج ناقة من صخرة و كلام الشجر و الجماد و
الحيوان، و نبع الماء من بين الأصابع ... (راجع لباب التأويل 2: 221).
(2)
العصمة: ملكة اجتناب المعاصي مع التمكّن منها. أو هي قوّة يودعها اللّه في عبده،
تمنعه عن ارتكاب شيء من المعاصي و المكروهات مع بقاء الاختيار أو لطف من اللّه
يحمل عبده على فعل الخير و يمنعه عن الشر.
116
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
1 - الأشعرية ص : 106
أصحابه من
اعتقد أن الإعجاز في القرآن من جهة صرف «1» الدواعي و هو المنع
من المعارضة، و من جهة الإخبار عن الغيب.
و قال:
الإمامة تثبت بالاتفاق و الاختيار دون النص و التعيين «2»؛ إذ لو كان
ثمّ
______________________________
(1) زعم
النظام أن إعجاز القرآن، بالصرفة، أي أن اللّه صرف العرب عن معارضته و سلب عقولهم
و كان مقدورا لهم لكن عاقهم أمر خارجي. و قال المرتضى من الشيعة بل صرفهم بأن
سلبهم العلوم التي يحتاج إليها في المعارضة فهذا الصرف خارق للعادة فصار كسائر
المعجزات. و هذا قول فاسد بدليل قوله تعالى: قُلْ لَئِنِ
اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ ... الآية، فإنه يدل على عجزهم مع بقاء
قدرتهم، و لو سلبوا القدرة لم تبق فائدة لاجتماعهم. هذا مع أن الإجماع منعقد على
إضافة الإعجاز إلى القرآن فكيف يكون معجزا و ليس فيه صفة إعجاز؟ بل المعجز هو
اللّه تعالى حيث سلبهم القدرة على الإتيان بمثله. و يلزم من القول بالصرفة زوال
الإعجاز بزوال زمان التحدّي و خلو القرآن من الإعجاز و في ذلك خرق لإجماع الأمة أن
معجزة الرسول العظمى باقية. و لا معجزة له باقية على أنه لو كانوا صرفوا، لم يكن
من قبلهم من أهل الجاهلية مصروفين عما كان يعدل به في الفصاحة و البلاغة و حسن
النظم و عجيب الرصف لأنهم لم يتحدوا إليه، و لم تلزمهم حجته، فلما لم يوجد في كلام
من قبله مثله علم أن القول بالصرفة ظاهر البطلان. (راجع الإتقان 2: 118 و شرح
المواقف 2: 421 و إعجاز القرآن بهامش الإتقان 1: 45).
(2) اختلف
في طريق ثبوت الإمامة، من نصّ أو اختيار. فقال الجمهور الأعظم من أصحابنا و من
المعتزلة و الخوارج و النجارية، إن طريق ثبوتها الاختيار من الأمة باجتهاد أهل
الاجتهاد منهم و اختيارهم من يصلح لها. و كان جائزا ثبوتها بالنص، غير أن النص لم
يرد فيها على واحد بعينه فصارت الأمة فيها إلى الاختيار. و زعمت الإمامية و
الجارودية من الزيدية و الراوندية من العباسية أن الإمامة طريقها النص من اللّه
تعالى على لسان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلّم على الإمام. ثم نص الإمام على
الإمام بعده، و اختلف هؤلاء في علّة وجوب النص عليه فمنهم من بناه على أصله في
إبطال الاجتهاد، و منهم من بناه على أصله في وجوب عصمة الإمام و زعم أن العصمة لا
تعرف بالاجتهاد و إنما يعرف المعصوم بالنص. فأما البترية و الجريرية من الزيدية
فقد وافقوا الفريق الأول في الاختيار، و إنما خالفوهم في تعيين الأولى بالإمامة. و
دليل الجمهور أن النص على الإمام لو كان واجبا على الرسول صلى اللّه عليه و سلّم
بيانه لبيّنه على وجه تعلمه الأمة علما ظاهرا لا يختلفون فيه، لأن فرض الإمامة
يعمّ الكافّة معرفته، كمعرفة القبلة و إعداد الركعات و لو وجد النص منه هكذا
لنقلته الأمة بالتواتر و لعلموا صحته بالضّرورة كما اضطروا إلى سائر ما تواتر
الخبر فيه فلما كنا مع كثرة عددنا و زيادتنا على جميع فرق المدّعين للنص غير
مضطرين إلى العلم بذلك علمنا أن النص على واحد بعينه للإمامة لم يتواتر النقل فيه
و إنما روي فيه أخبار آحاد من جهة الروافض و ليست لهم معرفة بشروط الأخبار و لا
رواتهم ثقات، و بإزائها أخبار أشهر منها في النص على غير من يدعون النص عليه و كل
منها غير موجب للعلم و إذا لم يكن فيه ما يوجب العلم صارت المسألة اجتهادية و صح
فيها الاختيار و الاجتهاد. (راجع أصول الدين ص 279).
117
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
2 - المشبهة ص : 118
نص لما خفي،
و الدواعي تتوفر على نقله و اتفقوا في سقيفة بني ساعدة على أبي بكر رضي اللّه عنه.
ثم اتفقوا بعد تعيين أبي بكر على عمر رضي اللّه عنه.
و اتفقوا بعد
الشورى على عثمان رضي اللّه عنه. و اتفقوا بعده على عليّ رضي اللّه عنه. و هم
مترتبون في الفضل ترتبهم في الإمامة.
و قال: لا
نقول في عائشة و طلحة و الزبير إلا أنهم رجعوا عن الخطأ. و طلحة و الزبير من
العشرة المبشرين بالجنة. و لا نقول في حق معاوية و عمرو بن العاص:
إلا أنهما
بغيا على الإمام الحق فقاتلهم علي مقاتلة أهل البغي. و أما أهل النهروان فهم
الشراة «1» المارقون عن الدين بخبر «2» النبي صلى
اللّه عليه و سلّم. و لقد كان عليّ رضي اللّه عنه على الحق في جميع أحواله، يدور
الحق معه حيث دار.
2-
المشبّهة
اعلم أن
السلف من أصحاب الحديث لما رأوا توغل المعتزلة في علم الكلام و مخالفة السنّة التي
عهدوها من الأئمة الراشدين و نصرهم جماعة من أمراء بني أمية على قولهم بالقدر، و جماعة
من خلفاء بني العباس على قولهم بنفي الصفات و خلق القرآن، تحيروا في تقرير مذهب
أهل السنّة و الجماعة في متشابهات آيات الكتاب الحكيم، و أخبار النبي الأمين صلى
اللّه عليه و سلّم.
فأما أحمد «3» بن حنبل و
داود «4» بن عليّ الأصفهاني و جماعة من أئمة السلف
______________________________
(1)
الشراة: الخوارج.
(2) قال
عليّ عليه السلام: إذا حدثتكم عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلّم و آله فلئن أخر
من السماء أحبّ إليّ من أن أكذب على رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلّم و إذا
حدثتكم فيما بيننا عن نفسي فإن الحرب خدعة و إنما أنا رجل محارب، سمعت رسول اللّه
صلى اللّه عليه و سلّم يقول: «يخرج في آخر الزمان قوم أحداث الأسنان سفهاء الأحلام
قولهم من خير أقوال أهل البرية، صلاتهم أكثر من صلاتكم و قراءتهم أكثر من قراءتكم
لا يجاوز إيمانهم حناجرهم.
يمرقون من
الدين كما يمرق السهم من الرمية، فاقتلوهم فإن قتلهم أجر لمن قتلهم يوم القيامة».
(راجع شرح ابن أبي الحديد 1: 202).
(3) هو
إمام المذهب الحنبلي و أحد الأئمة الأربعة، صاحب المسند توفي سنة 241 ه/ 855 م.
(4) هو
أبو سليمان الملقب بالظاهري: أحد الأئمة المجتهدين في الإسلام. تنسب إليه الطائفة
الظاهرية-
118
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
2 - المشبهة ص : 118
فجروا على
منهاج السلف المتقدمين عليهم من أصحاب الحديث: مثل مالك «1» بن أنس، و
مقاتل «2» بن سليمان. و سلكوا طريق السلامة فقالوا: نؤمن بما ورد به
الكتاب و السنّة، و لا نتعرض للتأويل بعد أن نعلم قطعا أن اللّه عز و جل لا يشبه
شيئا من المخلوقات، و أن كل ما تمثل في الوهم فإنه خالقه و مقدّره. و كانوا
يحترزون عن التشبيه «3» إلى غاية أن قالوا من حرك يده عند قراءة قوله
تعالى: خَلَقْتُ بِيَدَيَ «4» أو أشار بإصبعيه عند روايته «قلب
المؤمن بين إصبعين من أصابع الرّحمن» وجب قطع يده و قلع إصبعيه. و قالوا: إنما
توقفنا في تفسير الآيات و تأويلها لأمرين:
أحدهما:
المنع الوارد في التنزيل في قوله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي
قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَ
ابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَ
الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا
وَ ما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ «5» فنحن نحترز
عن الزيغ.
______________________________
- و سميت
بذلك لأخذها بظاهر الكتاب و السنّة و إعراضها عن التأويل و الرأي و القياس. و كان
داود أول من جهر بهذا القول. قال ابن خلكان: قيل: كان يحضر مجلسه كل يوم أربع مائة
صاحب طيلسان أخضر، و قال ثعلب: كان عقل داود أكبر من علمه. له تصانيف أورد ابن
النديم أسماءها في زهاء صفحتين. توفي في بغداد سنة 270 ه/ 884 م. (راجع أنساب
السمعاني 377 و فهرست ابن النديم 1: 216).
(1) هو
أبو عبد اللّه. إمام دار الهجرة و أحد الأئمة الأربعة عند أهل السنّة و إليه تنسب
المالكية. توفي سنة 179 ه/ 795 م. (راجع الوفيات 1: 439 و الديباج المذهب ص 17-
30).
(2) هو
أبو الحسن مقاتل بن سليمان الأزدي بالولاء الخراساني المروزي. أصله من بلخ. كان
مشهورا بتفسير كتاب اللّه العزيز و له التفسير المشهور. أخذ الحديث عن مجاهد و
عطاء و غيرهما من العلماء. قال الشافعي: الناس كلهم عيال على ثلاثة: على مقاتل بن
سليمان في التفسير و على زهير بن أبي سلمى في الشعر، و على أبي حنيفة في الفقه.
توفي بالبصرة سنة 150 ه. (راجع ابن خلكان).
(3) تعالى
اللّه عن التشبيه، فالتشبيه يتنافى مع الألوهية، لأنه إذا كان له من خلقه شبيه وجب
أن يجوز عليه من ذلك الوجه ما يجوز على شبيهه، و إذا جاز ذلك عليه لم يستحق اسم
الإله كما لا يستحقه خلفه الذي شبه به فيتبيّن أن اسم الإله و التشبيه لا يجتمعان
كما أن اسم الإله و نفي الإبداع عنه لا يأتلفان. (راجع الأسماء و الصفات ص 97).
(4) سورة
ص: الآية 75.
(5) سورة
آل عمران: الآية 7.
119
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
2 - المشبهة ص : 118
و الثاني: أن
التأويل أمر مظنون بالاتفاق، و القول في صفات الباري بالظن غير جائز، فربما أولنا
الآية على غير مراد الباري تعالى فوقعنا في الزيغ، بل نقول كما قال الراسخون في
العلم: كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا آمنا بظاهره، و
صدقنا بباطنه، و وكلنا علمه إلى اللّه تعالى و لسنا مكلفين بمعرفة ذلك، إذ ليس ذلك
من شرائط الإيمان و أركانه. و احتاط بعضهم أكثر احتياط حتى لم يقرأ اليد
بالفارسية، و لا الوجه، و لا الاستواء، و لا ما ورد من جنس ذلك، بل إن احتاج في
ذكره إلى عبارة عبر عنها بما ورد لفظا بلفظ. فهذا هو طريق السلامة، و ليس هو من
التشبيه في شيء.
غير أن جماعة
من الشيعة الغالية، و جماعة من أصحاب الحديث الحشوية صرحوا بالتشبيه مثل:
الهشاميين «1» من الشيعة، و مثل مضر، و كهمس «2»، و أحمد «3» الهجيمي و
غيرهم من الحشوية. قالوا: معبودهم على صورة ذات أعضاء و أبعاض، إما روحانية، و إما
جسمانية و يجوز عليه الانتقال و النزول و الصعود و الاستقرار و التمكن.
فأما مشبهة
الشيعة فستأتي مقالاتهم في باب الغلاة.
و أما مشبهة
الحشوية؛ فحكى الأشعري عن محمد بن عيسى أنه حكى عن مضر، و كهمس، و أحمد الهجيمي:
أنهم أجازوا على ربهم الملامسة و المصافحة.
و أن
المسلمين المخلصين يعانقونه في الدنيا و الآخرة إذ بلغوا في الرياضة و الاجتهاد
إلى حد الإخلاص و الاتحاد المحض.
و حكى الكعبي
عن بعضهم أنه كان يجوز الرؤية في دار الدنيا، و أن يزوره و يزورهم و حكى عن داود
الجواربي أنه قال: اعفوني عن الفرج و اللحية و اسألوني
______________________________
(1) أصحاب
هشام بن الحكم و هشام بن سالم الجواليقي الذي نسج على منواله في التشبيه.
(2)
الظاهر أنه كهمس بن المنهال السدوسي أبو عثمان البصري اللؤلؤي و كان قدريا ضعيفا
لم يحدث عنه الثقات. (راجع تهذيب التهذيب 8: 451).
(3) هو
أحمد بن عطاء الهجيمي البصري. كان داعية إلى القدر متعبدا مغفلا. (راجع لسان
الميزان 1: 221).
120
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
2 - المشبهة ص : 118
عما وراء
ذلك: و قال: إن معبوده جسم، و لحم، و دم. و له جوارح و أعضاء من يد، و رجل، و رأس،
و لسان، و عينين، و أذنين. و مع ذلك جسم لا كالأجسام، و لحم لا كاللحوم، و دم لا
كالدماء، و كذلك سائر الصفات، و هو لا يشبه شيئا من المخلوقات، و لا يشبه شيء. و
حكى عنه أنه قال: هو أجوف من أعلاه إلى صدره، مصمت ما سوى ذلك. و أن له وفرة
سوداء، و له شعر قطط «1».
و أما ما ورد
في التنزيل من الاستواء، و الوجه، و اليدين، و الجنب، و المجيء، و الإتيان و
الفوقية و غير ذلك فأجروها على ظاهرها، أعني ما يفهم عند الإطلاق على الأجسام. و
كذلك ما ورد في الأخبار من الصورة و غيرها في قوله عليه الصلاة و السلام: «خلق آدم
على صورة الرّحمن» و قوله: «حتّى يضع الجبّار قدمه في النّار» و قوله: «قلب المؤمن
بين إصبعين من أصابع الرّحمن» و قوله: «خمّر طينة آدم بيده أربعين صباحا» و قوله:
«وضع يده أو كفّه على كتفي» و قوله: «حتّى وجدت برد أنامله على كتفي» إلى غير ذلك؛
أجروها على ما يتعارف في صفات الأجسام.
و زادوا في
الأخبار أكاذيب وضعوها و نسبوها إلى النبي عليه الصلاة و السلام، و أكثرها مقتبسة
من اليهود، فإن التشبيه فيهم طباع، حتى قالوا: اشتكت عيناه فعادته الملائكة، و بكى
على طوفان نوح حتى رمدت عيناه، و إن العرش لتئطّ «2» من تحته
كأطيط الرّحل «3» الحديد، و أنه ليفضل من كل جانب أربع أصابع.
و روى
المشبهة عن النبي عليه الصلاة و السلام أنه قال: «لقيني ربّي فصافحني و كافحني، و
وضع يده بين كتفيّ حتّى وجدت برد أنامله».
و زادوا على
التشبيه قولهم في القرآن: إن الحروف و الأصوات و الرقوم
______________________________
(1) الشعر
القطط: القصير، فيه جعودة.
(2) تئط:
تحدث صوتا.
(3) الرّحل:
ما يجعل على ظهر البعير كالسرج.
121
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
2 - المشبهة ص : 118
المكتوبة
قديمة أزلية. و قالوا: لا يعقل كلام ليس بحروف و لا كلم. و استدلوا بأخبار، منها
ما رووا عن النبي عليه الصلاة و السلام: «ينادي اللّه تعالى يوم القيامة بصوت
يسمعه الأوّلون و الآخرون» و رووا أن موسى عليه السلام كان يسمع كلام اللّه كجر
السلاسل، قالوا: و أجمعت السلف على أن القرآن كلام اللّه غير مخلوق، و من قال هو
مخلوق فهو كافر باللّه، و لا نعرف من القرآن إلا ما هو بين أظهرنا فنبصره و نسمعه
و نقرؤه و نكتبه.
و المخالفون
في ذلك:
أما المعتزلة
فوافقونا على أن هذا الذي في أيدينا كلام اللّه، و خالفونا في القدم. و هم محجوجون
بإجماع الأمة.
و أما
الأشعرية فوافقونا على أن القرآن قديم، و خالفونا في أن الذي في أيدينا كلام اللّه
و هم محجوجون أيضا بإجماع الأمة: أن المشار إليه هو كلام اللّه، فأما إثبات كلام
هو صفة قائمة بذات الباري تعالى لا نبصرها؛ و لا نكتبها و لا نقرؤها، و لا نسمعها:
فهو مخالفة الإجماع من كل وجه.
فنحن نعتقد
أن ما بين الدفتين كلام اللّه، أنزله على لسان جبريل عليه السلام، فهو المكتوب في
المصاحف، و هو المكتوب في اللوح المحفوظ، و هو الذي يسمعه المؤمنون في الجنة من
الباري تعالى بغير حجاب و لا واسطة، و ذلك معنى قوله تعالى: سَلامٌ قَوْلًا
مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ «1» و هو قوله تعالى لموسى عليه السلام: يا
مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ «2» و مناجاته
من غير واسطة حتى قال تعالى: وَ كَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً «3» و قال: إِنِّي
اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَ بِكَلامِي «4» و روى عن
النبي عليه الصلاة و السلام أنه قال: «إنّ
______________________________
(1) سورة
يس: الآية 58.
(2) سورة
القصص: الآية 30.
(3) سورة
النساء: الآية 164.
(4) سورة
الأعراف: الآية 144.
122
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
2 - المشبهة ص : 118
اللّه تعالى
كتب التّوراة بيده، و خلق جنّة عدن بيده، و خلق آدم بيده» و في التنزيل:
وَ
كَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَ تَفْصِيلًا
لِكُلِّ شَيْءٍ «1».
قالوا: فنحن
لا نزيد من أنفسنا شيئا، و لا نتدارك بعقولنا أمرا لم يتعرض له السلف قالوا: ما
بين الدفتين كلام اللّه، قلنا: هو كذلك، و استشهدوا عليه بقوله تعالى: وَ إِنْ
أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ
اللَّهِ «2» و من المعلوم أنه ما سمع إلا هذا الذي نقرؤه. و قال
تعالى: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ لا يَمَسُّهُ
إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ+ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ «3» و قال: فِي
صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ+ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ+ كِرامٍ بَرَرَةٍ «4» و قال: إِنَّا
أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ «5» و قال: شَهْرُ رَمَضانَ
الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ «6» إلى غير ذلك من الآيات.
و من المشبهة
من مال إلى مذهب الحلولية، و قال: يجوز أن يظهر الباري تعالى بصورة شخص، كما كان
جبريل عليه السلام ينزل في صورة أعرابي و قد تمثل لمريم بشرا سويا و عليه حمل قول
النبي عليه الصلاة و السلام: «رأيت ربّي في أحسن صورة». و في التوراة عن موسى عليه
السلام: شافهت اللّه تعالى فقال لي كذا.
و الغلاة من
الشيعة مذهبهم الحلول.
ثم الحلول قد
يكون بجزء، و قد يكون بكل؛ على ما سيأتي في تفصيل مذاهبهم إن شاء اللّه تعالى.
______________________________
(1) سورة
الأعراف: الآية 145.
(2) سورة
التوبة: الآية 6.
(3) سورة
الواقعة: الآيات 77- 80.
(4) سورة
عبس: الآيات 13- 16.
(5) سورة
القدر: الآية 1.
(6) سورة
البقرة: الآية 184.
123
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
3 - الكرامية ص : 124
3-
الكرّاميّة «1»
أصحاب أبي
عبد اللّه محمد بن كرام «2». و إنما عددناه من الصفاتية لأنه كان ممن
يثبت الصفات إلا أنه ينتهي فيها إلى التجسيم و التشبيه. و قد ذكرنا كيفية خروجه و
انتسابه إلى أهل السنّة فيما قدمنا ذكره.
و هم طوائف بلغ
عددهم إلى اثنتي عشرة فرقة. و أصولها ستة: العابدية، و التونية، و الزرينية، و
الإسحاقية، و الواحدية، و أقربهم الهيصمية «3»، و لكل واحدة منهم
رأي إلا أنه لما لم يصدر ذلك عن علماء معتبرين، بل عن سفهاء اغتام جاهلين لم
نفردها مذهبا و أوردنا مذهب صاحب المقالة، و أشرنا إلى ما يتفرع منه.
نص أبو عبد
اللّه على أن معبوده على العرش استقرارا، و على أنه بجهة فوق ذاتا، و أطلق عليه
اسم الجوهر، فقال في كتابه المسمى عذاب القبر إنه أحديّ الذات، أحديّ الجوهر، و
إنه مماس للعرش من الصفحة العليا، و جوز الانتقال، و التحول، و النزول، و منهم من
قال إنه على بعض أجزاء العرش، و قال بعضهم:
امتلأ العرش
به، و صار المتأخرون منهم إلى أنه تعالى بجهة فوق، و أنه محاذ للعرش.
ثم اختلفوا
فقالت العابدية: إن بينه و بين العرش من البعد و المسافة ما لو قدر مشغولا
بالجواهر لاتصلت به، و قال محمد «4» بن الهيصم: إن بينه و بين العرش بعدا
______________________________
(1) راجع
في شأن هذه الفرقة. (التبصير ص 65 و الفرق بين الفرق ص 215).
(2) توفي
سنة 255 ه/ 869 م. تقدمت ترجمته.
(3) أصحاب
محمد بن الهيصم.
(4) محمد
بن الهيصم، متكلم الكرامية، و قد ذهب إلى أنه تعالى ذات موجودة منفردة بنفسها عن
سائر الموجودات لا تحلّ شيئا حلول الأعراض و لا تمازج شيئا ممازجة الأجسام بل هو
مباين للمخلوقين إلّا أنه في جهة فوق بينه و بين العرش بعد لا يتناهى. هكذا يحكي
المتكلمون عنه. و لم اره في شيء من تصانيفه و أحالوا ذلك لأن ما لا يتناهى لا
يكون محصورا بين حاصرتين و أنا أستبعد عنه هذه الحكاية لأنه كان أذكى من أن يذهب
عليه فساد هذا القول. (راجع ابن أبي الحديد أول ص 291).
124
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
3 - الكرامية ص : 124
لا يتناهى، و
إنه مباين للعالم بينونة أزلية، و نفى التحيز و المحاذاة، و أثبت الفوقية و
المباينة.
و أطلق
أكثرهم لفظ الجسم عليه، و المقاربون منهم قالوا: نعني بكونه جسما أنه قائم بذاته،
و هذا هو حد الجسم عندهم، و بنوا على هذا أن من حكم القائمين بأنفسهما أن يكونا
متجاورين أو متباينين، فقضى بعضهم بالتجاور مع العرش.
و حكم بعضهم
بالتباين، و ربما قالوا: كل موجودين، فإما أن يكون أحدهما بحيث الآخر كالعرض مع
الجوهر، و إما أن يكون بجهة منه، و الباري تعالى ليس بعرض إذ هو قائم بنفسه، فيجب
أن يكون بجهة من العالم، ثم أعلى الجهات و أشرفها جهة فوق، فقلنا هو بجهة فوق
بالذات حتى إذا رؤي رؤي من تلك الجهة «1».
ثم لهم
اختلافات في النهاية. فمن المجسمة من أثبت النهاية له من ست جهات، و منهم من أثبت
النهاية له من جهة تحت، و منهم من أنكر النهاية له، فقال: هو عظيم.
و لهم في
معنى العظمة خلاف، فقال بعضهم: معنى عظمته أنه مع وحدته على جميع أجزاء العرش، و
العرش تحته، و هو فوق كله على الوجه هو فوق جزء منه، و قال بعضهم: معنى عظمته أنه
يلاقي مع وحدته من جهة واحدة أكثر من واحد، و هو يلاقي جميع أجزاء العرش، و هو
العلي العظيم.
و من مذهبهم
جميعا: جواز قيام كثير من الحوادث بذات الباري تعالى، و من أصلهم أن ما يحدث في
ذاته فإنما يحدث بقدرته، و ما يحدث مباينا لذاته فإنما يحدث بواسطة الإحداث. و
يعنون بالإحداث: الإيجاد و الإعدام الواقعين في ذاته
______________________________
(1) ذكر
ابن كرام في كتابه «عذاب القبر» أن اللّه تعالى مماس لعرشه، و أن العرش مكان له و
أبدل أصحابه لفظ المماسّة بلفظ الملاقاة منه للعرش، و قالوا: لا يصحّ وجود جسم
بينه و بين العرش إلّا بأن يحيط العرش إلى أسفل، و هذا معنى المماسة التي امتنعوا
من لفظها. (راجع الفرق بين الفرق ص 216 و التبصير ص 66).
125
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
3 - الكرامية ص : 124
بقدرته من
الأقوال و الإرادات. و يعنون بالمحدث: ما بين ذاته من الجواهر و الأعراض.
و يفرقون بين
الخلق و المخلوق، و الإيجاد و الموجود و الموجد، و كذلك بين الإعدام و المعدوم.
فالمخلوق إنما يقع بالخلق، و الخلق إنما يقع في ذاته بالقدرة، و المعدوم إنما يصير
معدوما بالإعدام الواقع في ذاته بالقدرة.
و زعموا أن
في ذاته سبحانه حوادث كثيرة مثل الإخبار عن الأمور الماضية و الآتية و الكتب
المنزلة على الرسل عليهم السلام، و القصص و الوعد و الوعيد و الأحكام، و من ذلك
المسمعات و المبصرات فيما يجوز أن يسمع و يبصر، و الإيجاد و الإعدام هو القول و
الإرادة و ذلك قوله: كُنْ للشيء الذي يريد كونه، و إرادته لوجود ذلك
الشيء، و قوله للشيء كن: صورتان.
و فسر محمد
بن الهيصم الإيجاد و الإعدام: بالإرادة و الإيثار. قال: و ذلك مشروط بالقول شرعا،
إذ ورد في التنزيل: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ
نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ «1» و قوله: إِنَّما
أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ «2».
و على قول
الأكثرين منهم: الخلق «3» عبارة عن القول و الإرادة. ثم اختلفوا في
التفصيل، فقال بعضهم: لكل موجود إيجاد، و لكل معدوم إعدام، و قال بعضهم: إيجاد
واحد يصلح لموجودين إذا كانا من جنس واحد. و إذا اختلف الجنس تعدد الإيجاد، و ألزم
بعضهم: لو افتقر كل موجود أو كل جنس إلى إيجاد، فليفتقر كل إيجاد إلى قدرة، فالتزم
تعدد القدرة بتعدد الإيجاد.
______________________________
(1) سورة
النحل: الآية 40.
(2) سورة
يس: الآية 82. أي نأمر به مرّة واحدة فإذا هو كائن كما قال الشاعر:
إذا ما أراد
اللّه أمرا فإنما
|
|
يقول له كن
فيكون
|
أي أنه
تعالى لا يحتاج إلى تأكيد فيما يأمر به فإنه تعالى لا يمانع و لا يخالف لأنه
الواحد القهّار. (راجع ابن كثير 2: 659).
(3) في
«الفرق بين الفرق» ص 217: سموا قوله للشيء «كن» خلقا للمخلوق و إحداثا للمحدث و
إعلاما للذي يعدم بعد وجوده.
126
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
3 - الكرامية ص : 124
و قال بعضهم
أيضا: تتعدد القدرة بعدد أجناس المحدثات. و أكثرهم على أنها تتعدد بعدد أجناس
الحوادث التي تحدث في ذاته من الكاف و النون، و الإرادة، و السمع، و البصر، و هي
خمسة أجناس.
و منهم من
فسر السمع و البصر بالقدرة على التسمع و التبصر، و منهم من أثبت للّه تعالى السمع
و البصر أزلا، و التسمعات و التبصرات هي إضافة المدركات إليهما.
و قد أثبتوا
للّه تعالى مشيئة قديمة متعلقة بأصول المحدثات و بالحوادث التي تحدث في ذاته، و
أثبتوا إرادات حادثة تتعلق بتفاصيل المحدثات.
و أجمعوا على
أن الحوادث لا توجب للّه تعالى وصفا، و لا هي صفات له فتحدث في ذاته هذه الحوادث
من الأقوال، و الإرادات، و التسمعات، و التبصرات، و لا يصير بها قائلا، و لا
مريدا، و لا سميعا، و لا بصيرا، و لا يصير بخلق هذه الحوادث محدثا و لا خالقا،
إنما هو قائل بقائليته، و خالق بخالقيته، و مريد بمريديته «1»، و ذلك
قدرته على هذه الأشياء.
و من أصلهم
أن الحوادث التي يحدثها في ذاته واجبة البقاء حتى يستحيل عدمها؛ إذ لو جاز عليها
العدم لتعاقبت على ذاته الحوادث، و لشارك الجوهر في هذه القضية، و أيضا فلو قدّر
عدمها فلا يخلو: إما أن يقدر عدمها بالقدرة، أو بإعدام يخلقه في ذاته، و لا يجوز
أن يكون عدمها بالقدرة، لأنه يؤدي إلى ثبوت المعدوم
______________________________
(1) زعموا
أن كل اسم يشتق له من أفعاله، كان ذلك الاسم ثابتا في الأزل مثل الخالق و الرازق و
المنعم.
و قالوا
إنه كان خالقا قبل أن خلق، إذ هو خالق بخالقيته، ثم طردوا فقالوا عالم بعالمية
قادر بقادرية لا بعلم و لا بقدرة و إن كان له علم و قدرة و عجب ما ابتدعوه من
قائليه و خالقيه و مريديه فقد أحدثوا ألفاظا لم يتكلم بها عربي و لا عجمي و الأعجب
أن زعيمهم ذكر في كتاب «عذاب القبر» كيفوفيّة اللّه، و ليت شعري كيف أطلق الكيف
عليه و كأنه أراد أن يخترع لفظة تساير عقله المضطرب و تدلّ على ضلالته و جهالته.
(راجع التبصير ص 67 و الفرق بين الفرق ص 219 و 220).
127
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
3 - الكرامية ص : 124
في ذاته، و
شرط الموجود و المعدوم أن يكونا مباينين لذاته، و لو جاز وقوع معدوم في ذاته
بالقدرة من غير واسطة إعدام لجاز حصول سائر المعدومات بالقدرة، ثم يجب طرد ذلك في
الموجد، حتى تقدير عدم ذلك الإعدام، فيسلسل، فارتكبوا لهذا التحكم استحالة عدم ما
يحدث في ذاته.
و من أصلهم
أن المحدث إنما يحدث في ثاني حال ثبوت الإحداث بلا فصل، و لا أثر للإحداث في حال
بقائه.
و من أصلهم:
أن ما يحدث في ذاته من الأمر فمنقسم إلى:
1- أمر
التكوين، و هو فعل يقع تحته المفعول.
2- و إلى ما
ليس أمر التكوين: و ذلك إما خبر، و إما أمر التكليف، و نهي التكليف. و هي أفعال من
حيث دلت على القدرة، و لا تقع تحتها مفعولات. هذا هو تفصيل مذاهبهم محل الحوادث.
و قد اجتهد
ابن الهيصم في إرمام مقالة أبي عبد اللّه في كل مسألة حتى ردها من المحال الفاحش
إلى نوع يفهم فيما بين العقلاء مثل التجسيم فإنه قال: أراد بالجسم: القائم بالذات،
و مثل الفوقية فإنه حملها على العلو. و أثبت البينونة غير المتناهية، و ذلك الخلاء
الذي أثبته بعض الفلاسفة، و مثل الاستواء، فإنه نفي المجاورة و المماسة، و التمكن
بالذات غير مسألة محل الحوادث فإنها لم تقبل المرمة، فالتزمها كما ذكرنا. و هي من
أشنع المحالات عقلا.
و عند القوم
أن الحوادث تزيد على عدد المحدثات بكثير. فيكون في ذاته أكثر من عدد المحدثات عالم
من الحوادث، و ذلك محال و شنيع.
و مما أجمعوا
عليه من إثبات الصفات قولهم: الباري تعالى عالم بعلم، قادر بقدرة، حي بحياة، شاء
بمشيئته، و جميع هذه الصفات صفات قديمة أزليّة قائمة بذاته. و ربما زادوا السمع و
البصر كما أثبته الأشعري، و ربما زادوا اليدين،
128
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
3 - الكرامية ص : 124
و الوجه:
صفات، قديمة، قائمة بذاته، و قالوا: له يد لا كالأيدي، و وجه لا كالوجوه «1»، و أثبتوا
جواز رؤيته من جهة فوق دون سائر الجهات.
و زعم ابن
الهيصم أن الذي أطلقه المشبهة على اللّه عز و جل من: الهيئة، و الصورة، و الجوف، و
الاستدارة، و الوفرة، و المصافحة، و المعانقة، و نحو ذلك لا يشبه سائر ما أطلقه
الكرامية من: أنه خلق آدم بيده، و أنه استوى على عرشه، و أنه يجيء يوم القيامة
لمحاسبة الخلق، و ذلك أنا لا نعتقد من ذلك شيئا على معنى فاسد: من جارحتين و
عضوين؛ تفسيرا لليدين، و لا مطابقة للمكان و استقلال العرش بالرحمن تفسيرا
للاستواء، و لا ترددا في الأماكن التي تحيط به تفسيرا للمجيء، و إنما ذهبنا في
ذلك إلى إطلاق ما أطلقه القرآن فقط من غير تكييف و تشبيه، و ما لم يرد به القرآن و
الخبر فلا نطلقه كما أطلقه سائر المشبهة و المجسمة.
و قال الباري
تعالى عالم في الأزل بما سيكون على الوجه الذي يكون، و شاء لتنفيذ علمه في
معلوماته فلا ينقلب علمه جهلا. و مريد لما يخلق في الوقت الذي يخلق بإرادة حادثة.
و قائل لكل ما يحدث بقوله كن حتى يحدث، و هو الفرق بين الإحداث و المحدث و الخلق و
المخلوق «2». و قال: نحن نثبت القدر خيره و شره من
______________________________
(1) قال
ابن أبي الحديد في أول صفحة 295: «أطلقت الكرامية عليه سبحانه لفظ اليدين و الوجه
و قالوا لا نتجاوز الإطلاق و لا نفسّر ذلك و لا نتأوله و إنما نقتصر على إطلاق ما
ورد به النص. و أثبت الأشعري اليدين صفة قائمة بالباري سبحانه و كذلك الوجه من غير
تجسيم. و قالت المجسمة أن للّه تعالى يدين هما عضوان له و كذلك الوجه و العين و
أثبتوا له رجلين قد فصلتا عن عرشه و ساقين يكشف عنهما يوم القيامة و قدما يضعها في
جهنّم فتمتلئ.
و أثبتوا
ذلك معنى لا لفظا و حقيقة لا مجازا. فأما أحمد بن حنبل فلم يثبت عنه تشبيه و لا
تجسيم أصلا، و إنما كان يقول بترك التأويل فقط، و يطلق ما أطلقه الكتاب و السنّة،
و لا يخوض في تأويله، و يقف على قوله تعالى: وَ ما يَعْلَمُ
تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ و أكثر المحصلين من أصحابه على هذا القول».
(2) ذهبت
الكرامية إلى أن الحوادث تحل في ذاته فإذا أحدث جسما أحدث معنى حالا في ذاته و هو
الأحداث. فحدث ذلك الجسم مقارنا لذلك المعنى أو عقيبه. قالوا: و ذلك المعنى هو قول
كن و هو المسمى خلقا. و الخلق غير المخلوق. قال اللّه تعالى: ما
أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ قالوا:
لكنه قد أشهدنا ذواتها تدل على أن خلقها غيرها.-
129
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
3 - الكرامية ص : 124
اللّه تعالى،
و أنه أراد الكائنات كلها خيرها و شرها، و خلق الموجودات كلها حسنها و قبيحها، و
نثبت للعبد فعلا بالقدرة الحادثة و يسمى ذلك: كسبا: و القدرة الحادثة مؤثرة في
إثبات فائدة زائدة على كونه مفعولا مخلوقا للباري تعالى، تلك الفائدة هي مورد
التكليف، و المورد هو المقابل بالثواب و العقاب.
+++ و اتفقوا
على أن العقل يحسن و يقبح قبل الشرع، و تجب معرفة اللّه تعالى بالعقل كما قالت
المعتزلة، إلا أنهم لم يثبتوا رعاية الصلاح و الأصلح و اللطف عقلا كما قالت
المعتزلة و قالوا: الإيمان هو الإقرار باللسان فقط دون التصديق بالقلب، و دون سائر
الأعمال، و فرقوا بين تسمية المؤمن مؤمنا فيما يرجع إلى أحكام الظاهر و التكليف، و
فيما يرجع إلى أحكام الآخرة و الجزاء، فالمنافق عندهم: مؤمن في الدنيا على
الحقيقة، مستحق للعقاب الأبدي في الآخرة.
و قالوا في
الإمامة إنها تثبت بإجماع الأمة دون النص و التعيين كما قال أهل السنّة. إلا أنهم
جوزوا عقد البيعة لإمامين في قطرين «1»، و غرضهم إثبات إمامة معاوية في الشام
باتفاق جماعة من أصحابه. و إثبات أمير المؤمنين عليّ بالمدينة و العراقين «2» باتفاق
جماعة من الصحابة. و رأوا تصويب معاوية فيما استبد به من
______________________________
- و صرّح
ابن الهيصم في كتاب المقالات بقيام الحوادث بذات اللّه تعالى فقال إنه إذا أمر أو
نهى أو أراد شيئا كان أمره و نهيه و إرادته كائنة بعد أن لم تكن و هي قائمة به،
لأن قوله منه يسمع و كذلك إرادته منه توجد. قال: و ليس قيام الحوادث بذاته دليلا
على حدوثه و إنما يدل على الحدوث تعاقب الأضداد التي لا يصلح أن يتعطّل منها. و
الباري تعالى لا تتعاقب عليه الأضداد. (راجع ابن أبي الحديد 1: 297).
(1) خاض
ابن كرام في باب الإمامة فأجاز كون إمامين في وقت واحد، مع وقوع الجدال و تعاطي
القتال، و مع الاختلاف في الأحكام، و أشار في بعض كتبه إلى أن عليا و معاوية كانا
إمامين في وقت واحد، و وجب على أتباع كل واحد منهما طاعة صاحبه و إن كان أحدهما
عادلا و الآخر باغيا. و قال أتباعه: إن عليا كان إماما على وفق السنّة، و كان
معاوية، إماما على خلاف السنّة و كانت طاعة كل واحد منهما واجبة على أتباعه، فيا
عجبا من طاعة واجبة على خلاف السنّة. (راجع الفرق بين الفرق ص 223 و التبصير ص
211).
(2)
العراقان: البصرة و الكوفة، و يقال لهما البصرتان.
130
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
الفصل الرابع الخوارج ص : 131
الأحكام
الشرعية قتالا على طلب عثمان رضي اللّه عنه، و استقلالا ببيت المال.
و مذهبهم
الأصلي اتهام عليّ رضي اللّه عنه في الصبر على ما جرى مع عثمان رضي عنه و السكوت
عنه، و ذلك عرق نزع «1».
الفصل
الرابع الخوارج «2»
الخوارج «3»، و المرجئة،
و الوعيدية.
______________________________
(1) في
الحديث إنما هو عرق نزعه، يقال نزع إليه في الشبه إذا أشبهه، و يقال للمرء إذا
أشبه أخواله، نزعه إليهم عرق الخال، قال الفرزدق:
أشبهت أمك
يا جرير فإنها
|
|
نزعتك و
الأم اللئيمة تنزع
|
(2) راجع
خطط المقريزي 2: 352 و ما يليها و مقالات الإسلاميين تحقيق الأستاذ محمد عبد الحميد
1: 156 و البدء و التاريخ 5: 134 و التبصير ص 26 و ما بعدها و كامل المبرد 2: 205
و ما بعدها ط. الخيرية و الفرق بين الفرق ص 72.
(3)
الخوارج جمع الخارجة و هم الذين نزعوا أيديهم عن طاعة ذي السلطان من أئمة
المسلمين، بدعوى ضلالة و عدم انتصاره للحق و لهم في ذلك مذاهب ابتدعوها و آراء
فاسدة اتبعوها. و إلى بعض الخوارج أشار الصلتان العبدي بقوله:
أرى أمة
شهرت سيفها
|
|
و قد زيد
في سوطها الأصبحي
|
بنجدية و
حرورية
|
|
و أزرق
يدعو إلى أزرقي
|
فملّتنا
أننا المسلمون
|
|
على دين
صديقنا و النبي
|
و السياط
التي يعاقب بها السلطان الأصبحيّة، و تنسب إلى ذي أصبح الحميري و كان ملكا من ملوك
حمير و هو أول من اتخذها و هو جدّ مالك بن أنس الفقيه. (راجع الكامل و شرحه 7: 86
و ص 101).
و الخوارج
لائقون عن عشرين فرقة و هذه أسماؤها: المحكمة الأولى و الأزارقة، و النجدات، و
الصّفرية، ثم العجاردة المفترقة فرقا منها: الخازميّة، و الشعيبيّة، و المعلومية و
المجهولية، و أصحاب طاعة لا يراد اللّه تعالى بها، و الصلتية، و الأخنسية، و
الشبيبيّة، و الشيبانية، و المعبدية، و الرشيدية، و المكرمية، و الحمزية، و
الشمراخية، و الإبراهيمية، و الواقفة، و الإباضية ..
و يقال
للخوارج: الشراة و الحرورية، و النواصب، و الحكمية، و المارقة. فالشراة، بضم الشين
سموا أنفسهم بهذا الاسم زاعمين أنهم شروا أنفسهم من اللّه، و الحرورية: نسبة إلى
حروراء و هي قرية أو كورة بظاهر الكوفة. و النواصب، جمع ناصب و ناصبي و هو الغالي
في بغض علي بن أبي طالب ... (راجع مقالات الأشعري تحقيق الأستاذ محمد محي الدين
عبد الحميد 1: 156).
131
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
الفصل الرابع الخوارج ص : 131
كل من خرج
على الإمام الحق الذي اتفقت الجماعة عليه يسمى خارجيا، سواء كان الخروج في أيام
الصحابة على الأئمة الراشدين؛ أو كان بعدهم على التابعين بإحسان، و الأئمة في كل
زمان.
و المرجئة
صنف آخر تكلموا في الإيمان و العمل، إلا أنهم وافقوا الخوارج في بعض المسائل التي
تتعلق بالإمامة.
و الوعيدية
داخلة في الخوارج، و هم القائلون بتكفير صاحب الكبيرة و تخليده في النار، فذكرنا
مذاهبهم في أثناء مذاهب الخوارج.
+++ اعلم أن
أول من خرج على أمير المؤمنين علي رضي اللّه عنه جماعة ممن كان معه في حرب صفين، و
أشدهم خروجا عليه، و مروقا من الدين: الأشعث «1» بن قيس
الكندي، و مسعر «2» بن فدكي التميمي، و زيد بن حصين الطائي حين قالوا:
القوم
يدعوننا إلى كتاب اللّه، و أنت تدعونا إلى السيف! حتى قال: أنا أعلم بما في كتاب
اللّه! انفروا إلى بقية الأحزاب! انفروا إلى من يقول: كذب اللّه و رسوله، و أنتم
تقولون: صدق اللّه و رسوله. قالوا: لترجعنّ الأشتر «3» عن قتال
المسلمين، و إلا فعلنا بك مثل ما فعلنا بعثمان. فاضطر إلى رد الأشتر بعد أن هزم
الجمع، و ولوا مدبرين و ما بقي منهم إلا شرذمة قليلة فيهم حشاشة قوة. فامتثل
الأشتر أمره.
و كان من أمر
الحكمين: أن الخوارج حملوه على التحكيم أولا. و كان يريد أن يبعث عبد اللّه «4» بن عباس رضي
اللّه عنه فما رضي الخوارج بذلك، و قالوا
______________________________
(1) تقدمت
ترجمته.
(2) في
الفرق بين الفرق أن اسمه «مسمع بن قدلى» و في مختصر الفرق كذلك ص 68 و أيضا في
التبصير ص 27. و أما هذه الرواية فقد انفرد بها أبو الحسن الأشعري في مقالات
الإسلاميين.
(3) هو
مالك بن الحارث النخعي الكوفي المعروف الأشتر. أدرك الجاهلية و كان من أصحاب علي و
شهد معه الجمل و صفين و مشاهده كلّها و ولّاه على مصر. توفي سنة 37 ه. (راجع تهذيب
التهذيب 10: 11).
(4) تقدمت
ترجمته.
132
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
1 - المحكمة الأولى ص : 133
هو منك. و
حملوه على بعث أبي موسى الأشعري «1» على أن يحكم بكتاب اللّه تعالى. فجرى
الأمر على خلاف ما رضي به. فلما لم يرض بذلك خرجت الخوارج عليه و قالوا: لم حكمت
الرجال؟ لا حكم إلا للّه، و هم المارقة الذين اجتمعوا بالنهروان «2».
و كبار الفرق
منهم: المحكمة. و الأزارقة، و النجدات، و البيهسية، و العجاردة، و الثعالبة، و
الإباضية، و الصفرية. و الباقون فروعهم.
و يجمعهم
القول بالتبري من عثمان و علي رضي اللّه عنهما، و يقدمون ذلك على كل طاعة، و لا
يصححون المناكحات إلا على ذلك. و يكفرون أصحاب الكبائر و يرون الخروج على الإمام
إذا خالف السنّة: حقا واجبا.
1-
المحكّمة الأولى
هم الذين
خرجوا على أمير المؤمنين علي رضي اللّه عنه حين جرى أمر المحكمين. و اجتمعوا
بحروراء «3» من ناحية الكوفة، و رأسهم عبد اللّه «4» بن الكواء،
و عتاب بن الأعور، و عبد اللّه «5» بن وهب الراسبي، و عروة «6» بن جرير،
______________________________
(1) هو
عبد اللّه بن قيس، من بني الأشعر توفي سنة 44 ه/ 665 م.
(2) بين
بغداد و واسط.
(3)
حروراء: بفتحتين، و سكون الواو، و راء أخرى و ألف ممدودة: هي قرية بظاهر الكوفة.
(معجم البلدان 2: 245).
(4) هو
أول أمير للخوارج من حين اعتزلوا جيش علي و خرجوا عليه. و هو أحد الذين اختاروا
أبا موسى الأشعري في قصة التحكيم. (راجع وقعة صفين لنصر بن مزاحم ص 295 و 502).
(5) هو
أول من أمّره الخوارج عليهم أول ما اعتزلوا. بايعوه لعشر بقين من شوال سنة 37 ه و
جعلوا أمير قتالهم شبث بن ربعي. (الكامل للمبرد 2: 116). و كان قد امتنع عليهم و
أومأ إلى غيره فلم يقنعوا إلّا به فكان إمام القوم و كان يوصف بالرأي و قتل مع
أصحابه لسبع خلون من صفر سنة 38 ه.
(مقالات
1: 195).
(6) في
الأصل عروة بن جرير، تحريف، و هو عروة بن أديه، و هو عروة بن أدية، و هو عروة بن
عمرو بن حدير. و أدية جدته من محارب نسب إليها. و قيل بل كانت ظئرا (مرضعة) له، و
هو من رءوس الخوارج و قد ضعفه الجوزجاني و هو أول من حكم بصفين و كان له أصحاب و
أتباع و شيعة. ظفر بن ابن زياد فأمر به فقطعت يداه و رجلاه و صلبه على باب داره.
توفي سنة 58 ه في خلافة معاوية. (راجع لسان الميزان 4: 163 و العقد الفريد ص 271).
133
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
1 - المحكمة الأولى ص : 133
و يزيد «1» بن أبي عاصم
المحاربي، و حرقوص بن زهير البجلي المعروف بذي الثدية «2» و كانوا
يومئذ في اثني عشر ألف رجل أهل صلاة و صيام، أعني يوم النهروان.
و فيهم قال
النبي صلى اللّه عليه و سلّم: «تحقر صلاة أحدكم في جنب صلاتهم و صوم أحدكم في جنب
صيامهم، لكن لا يجاوز إيمانهم تراقيهم».
فهم المارقة
الذين قال فيهم: «سيخرج من ضئضئ «3» هذا الرّجل قوم يمرقون من الدّين كما
يمرق السّهم من الرّميّة».
و هم الذين
أولهم ذو الخويصرة «4»، و آخرهم ذو الثدية. و إنما خروجهم في الزمن الأول على
أمرين:
أحدهما: بدعتهم
في الإمامة. إذ جوّزوا أن تكون الإمامة في غير قريش «5»، و كل من
نصبوه برأيهم و عاشر الناس على ما مثلوا له من العدل و اجتناب الجور كان إماما. و
من خرج عليه يجب نصب القتال معه. و إن غير السيرة و عدل عن الحق وجب عزله أو قتله.
و هم أشد الناس قولا بالقياس. و جوزوا أن لا يكون في العالم إمام أصلا. و إن احتيج
إليه فيجوز أن يكون عبدا أو حرا، أو نبطيا أو قرشيا.
______________________________
(1) هو من
رءوس الخوارج. و لما خطب علي فقال: اللّه أكبر كلمة حق يراد بها باطل إن سكتوا
عممناهم و إن تكلموا حجبناهم و إن خرجوا علينا قاتلناهم فوثب يزيد بن عاصم
المحاربي فقال: الحمد للّه غير مودع ربنا، و لا مستغنى عنه اللهم إنا نعوذ بك من
إعطاء الدنية في ديننا فإن إعطاء الدنية في الدين ادهان في أمر اللّه عز و جل، و
ذل راجع بأهله إلى سخط اللّه، يا علي أبا لقتل تخوفنا، أما و اللّه إني لأرجو أن
نضربكم بها عما قليل غير مصفحات، ثم لتعلمن أينا أولى بها صليا، ثم خرج بقومه هو و
إخوة له ثلاثة هو رابعهم فأصيبوا مع الخوارج بالنهروان و أصيب أحدهم بعد ذلك
بالنخيلة.
(راجع
الطبري 6: 41).
(2) يختلف
العلماء في ضبط هذه الكلمة. (راجع اللسان ث د ي و الكامل للمبرد 2: 139 و البدء و
التاريخ 5: 135).
(3)
الضئضئ: الأصل.
(4) راجع
الكامل للمبرد 3: 919 ط. الحلبي.
(5) صفة
الإمام الذي يلزم العقد له، يجب أن يكون على أوصاف منها: أن يكون قرشيا من الصميم،
و دليله أمور منها قول النبي صلى اللّه عليه و سلّم: «الأئمة من قريش ما بقي منهم
اثنان». (راجع التمهيد ص 181).
134
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
1 - المحكمة الأولى ص : 133
و البدعة
الثانية: أنهم قالوا: أخطأ علي في التحكيم إذ حكم الرجال و لا حكم إلا للّه. و قد
كذبوا على عليّ رضي اللّه عنه من وجهين:
(أ) أحدهما:
في التحكيم، إنه حكم الرجال، و ليس ذلك صدقا، لأنهم هم الذين حملوه على التحكيم.
(ب) و
الثاني: أن تحكيم الرجال جائز؛ فإن القوم هم الحاكمون في هذه المسألة، و هم رجال.
و لهذا قال عليّ رضي اللّه عنه: «كلمة حق أريد بها باطل» «1» و تخطوا عن
هذه التخطئة إلى التكفير. و لعنوا عليا رضي اللّه عنه فيما قاتل الناكثين و
القاسطين «2» و المارقين. فقاتل الناكثين و اغتنم أموالهم، و ما سبى
ذراريهم و نساءهم. و قتل مقاتلة من القاسطين، و ما اغتنم، و لا سبى، ثم رضي
بالتحكيم، و قاتل مقاتلة المارقين و اغتنم أموالهم، و سبى ذراريهم.
و طعنوا في
عثمان رضي اللّه عنه للأحداث التي عدوها عليه. و طعنوا في أصحاب الجمل و أصحاب
صفين.
فقاتلهم عليّ
رضي اللّه عنه بالنهروان مقاتلة شديدة، فما انفلت منهم إلا أقل من عشرة. و ما قتل
من المسلمين إلا أقل من عشرة. فانهزم اثنان منهم إلى عمان «3»، و اثنان
إلى كرمان «4»، و اثنان إلى سجستان «5»، و اثنان
إلى الجزيرة «6»،
______________________________
(1) إن
عليا بينما هو يخطب يوما إذ قام إليه رجل من الخوارج فقال، يا علي: أشركت في دين
اللّه الرجال و لا حكم إلّا للّه، فتنادوا من كل جانب لا حكم إلّا للّه، لا حكم
إلّا للّه، فقال علي: اللّه أكبر، كلمة حق يراد بها باطل أما إن لكم عندنا ثلاثا:
ما صحبتمونا لا نمنعكم مساجد اللّه أن تذكروا فيها اسمه، و لا نمنعكم الفيء ما
دامت أيديكم مع أيدينا، و لا نقاتلكم حتى تبدءونا، ثم رجع إلى مكانه الذي كان فيه
من خطبته. (راجع ابن كثير 7: 181 و ابن جرير 6: 41).
(2)
القاسط: الذي جار و حاد عن الحق. و الجمع القاسطون.
(3) اسم
كورة عربية على ساحل بحر اليمن و الهند. (راجع معجم البلدان 4: 151).
(4) ولاية
بين فارس و مكران و سجستان و خراسان. (راجع معجم البلدان 4: 454).
(5) ولاية
جنوبي هراة. (راجع معجم البلدان 3: 190).
(6) هي
التي بين دجلة و الفرات فيها ديار مضر و بكر.
135
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
1 - المحكمة الأولى ص : 133
و واحد إلى
تل موزن «1» باليمن. و ظهرت بدع الخوارج في هذه المواضع منهم و بقيت
إلى اليوم.
و أول من
بويع من الخوارج بالإمامة: عبد اللّه بن وهب الراسبي في منزل زيد بن حصين. بايعه
عبد اللّه بن الكواء، و عروة بن جرير، و يزيد بن عاصم المحاربي، و جماعة منهم، و
كان يمتنع عليهم تحرجا، و يستقبلهم و يومئ إلى غيره تحرزا، فلم يقنعوا إلا به، و
كان يوصف برأي و نجدة. فتبرأ من الحكمين، و ممن رضي بقولهما و صوب أمرهما. و
أكفروا أمير المؤمنين عليا رضي اللّه عنه، و قالوا: إنه ترك حكم اللّه، و حكم
الرجال. و قيل إن أول من تلفظ بهذا رجل من بني سعد بن زيد بن مناة بن تميم، يقال
له الحجاج «2» بن عبيد اللّه، يلقب بالبرك، و هو الذي ضرب معاوية على
أليته، لما سمع به. فسمعها رجل فقال: طعن و اللّه فأنفذ! فسموا المحكمة بذلك. و
لما سمع أمير المؤمنين عليّ رضي اللّه عنه هذه الكلمة قال: «كلمة عدل أريد بها
جور، إنما يقولون لا إمارة و لا بد من إمارة برّ أو فاجر».
و يقال إن
أول سيف سل من سيوف الخوارج سيف عروة بن حدير، و ذلك أن أقبل على الأشعث بن قيس
فقال: ما هذه الدنية يا أشعث؟ و ما هذا التحكيم؟ أشرط أحدكم أوثق من شرط اللّه
تعالى؟ ثم شهر السيف و الأشعث مولى فضرب به عجز البغلة، فشبت البغلة فنفرت
اليمانية. فلما رأى ذلك الأحنف مشى هو و أصحابه إلى الأشعث فسألوه الصفح؛ ففعل.
______________________________
(1) في
الأصل مورون، تحريف، و تل موزن بفتح الميم و سكون الواو و فتح الزاي و آخره نون هو
بلد قديم بين رأس عين و سروج، يزعم أن جالينوس كان به. (راجع معجم البلدان 2: 45)
و في بعض النسخ: «و واحد إلى تل موزن و اثنان إلى اليمن».
(2) من
أهل البصرة، و هو أحد الثلاثة الذين اتفقوا على قتل علي و معاوية و عمرو بن العاص
في يوم واحد.
و ضمن قتل
معاوية فذهب و كمن له حتى خرج يريد الصلاة، فضربه فأصاب أليته و لم يقتله فقبض
عليه معاوية و قتله. (راجع الكامل للمبرد 2: 132 و ابن الأثير 3: 157).
136
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
2 - الأزارقة ص : 137
و عروة بن
حدير نجا بعد ذلك من حرب النهروان و بقي إلى أيام معاوية. ثم أتى إلى زياد «1» بن أبيه و
معه مولى له؛ فسأله زياد عن أبي بكر و عمر رضي اللّه عنهما فقال فيهما خيرا. و
سأله عن عثمان، فقال: كنت أوالي عثمان على أحواله في خلافته ست سنين. ثم تبرأت منه
بعد ذلك للأحداث التي أحدثها، و شهد عليه بالكفر. و سأله عن أمير المؤمنين علي رضي
اللّه عنه، فقال: كنت أتولاه إلى أن حكم الحكمين، ثم تبرأت منه بعد ذلك، و شهد
عليه بالكفر. و سأله عن معاوية فسبه سبا قبيحا. ثم سأله عن نفسه فقال: أوّلك
لزنية، و آخرك لدعوة، و أنت فيما بينهما بعد عاص ربك. فأمر زياد بضرب عنقه. ثم دعا
مولاه فقال له: صف لي أمره و أصدق. فقال: أ أطنب أم أختصر؟ فقال: بل اختصر. قال:
ما أتيته بطعام في نهار قط، و لا فرشت له فراشا بليل قط. هذه معاملته و اجتهاده، و
ذلك خبثه و اعتقاده.
2-
الأزارقة «2»
أصحاب أبي
راشد نافع بن الأزرق «3» الذين خرجوا مع نافع من البصرة إلى الأهواز،
فغلبوا عليها و على كورها، و ما وراءها من بلدان فارس و كرمان في أيام عبد اللّه
بن الزبير، و قتلوا عماله بهذه النواحي.
و كان مع
نافع من أمراء الخوارج: عطية «4» بن الأسود الحنفي،
______________________________
(1) هو
زياد بن سمية، الأمير، و يقال: زياد بن عبيد فلما استلحقه معاوية قيل زياد بن أبي
سفيان. كان من شيعة علي و ولّاه أمرة القدس ثم صار أشدّ الناس على ال علي و شيعته
توفي سنة 53 ه و هو على أمرة العراق لمعاوية. (راجع لسان الميزان ص 493).
(2) راجع
في بيان آراء هذه الفرقة. (الفرق بين الفرق ص 82 و مقالات الإسلاميين و التبصير).
(3) هو
رأس الأزارقة و إليه نسبتهم خرج في آخر دولة يزيد بن معاوية و كان يعترض الناس بما
يحيّر العقل و اشتدت شوكته و كثرت جموعه فبعث إليه عبد اللّه بن الحارث بن مسلم بن
عبس بن كريز على رأس جيش كثيف فقتل سنة 65 ه/ 685 م. (راجع الكامل للمبرد 2: 171 و
رغبة الآمل 7: 103 و خطط المقريزي 2: 354).
(4) من
علماء الخوارج و أمرائهم. و لما قال نافع بتكفير «القعدة» فارقه مع آخرين و انصرف
إلى «نجدة بن-
137
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
2 - الأزارقة ص : 137
و عبد اللّه «1» بن الماحوز
و أخواه عثمان و الزبير، و عمرو «2» بن عمير العنبري، و قطريّ «3» بن الفجاءة
المازني، و عبيدة بن هلال اليشكري «4»، و أخوه محرز بن هلال، و صخر بن حبيب
التميمي، و صالح «5» بن مخراق العبدي، و عبد ربه «6» الكبير، و
عبد ربه «7» الصغير، في زهاء ثلاثين ألف فارس ممن يرى رأيهم، و ينخرط
في سلكهم.
______________________________
- عامر»
فبايعه، ثم أنكر على نجدة أنه كان يرى الجهل بالشريعة عذرا لمن خالفها ففارقه مع
أبي فديك (عبد اللّه بن ثور) ثم برئ من أبي فديك فانقسم الخوارج إلى فرقتين:
«فديكية» تتبع أبا فديك، و «عطوية» على مذهب عطية. توفي نحو سنة 75 ه/ نحو 695 م.
(راجع الحور العين 170 و اللباب 2: 142).
(1) عبد
اللّه بن الماحوز و بنو الماحوز هم الزبير، و عثمان و علي، و عبد اللّه، و عبيد
اللّه بنو بشير بن يزيد المعروف بالماحوز و هم من بني الحارث بن سليط و كلهم من أمراء
الأزارقة. (راجع الكامل و شرحه 7: 229).
(2) هو من
رءوس الخوارج و هو من بني تميم و كان ابنه عطية من فرسان بني تميم و شجعانهم و قد
أبلى مع المغيرة و هو الذي يقول:
يدعى رجال
للعطاء و إنما
|
|
يدعى عطية
للطعان الأجرد
|
(راجع
الكامل و شرحه 8: 12).
(3) من رؤساء
الأزارقة و أبطالهم. من أهل «قطر» قرب البحرين. استفحل أمره في زمن مصعب بن الزبير
لما ولي العراق نيابة عن أخيه عبد اللّه. و بقي قطري ثلاث عشرة سنة يقاتل و يسلّم
عليه بالخلافة و إمارة المؤمنين. و الحجاج بن يوسف يسيّر إليه جيشا بعد جيش و هو
يردّهم و يظهر عليهم. اختلف المؤرخون في مقتله. توفي سنة 78 ه/ 697 م. (راجع وفيات
الأعيان 1: 430 و البيان و التبيين 1: 341).
(4) من
رؤساء الأزارقة و شعرائهم و خطبائهم. كان في أول خروجه من المقدمين فيهم و أرادوا
مبايعته، فقال: أدلكم على من هو خير لكم مني: قطري بن الفجاءة. فبايعوا قطريا و ظل
عبيدة إلى جانبه زمنا.
و عند ما
وقع الخلاف بين الأزارقة فارقه و انحاز إلى حصن مومس (في ذيل جبال طبرستان)، فقتله
فيه سفيان بن الأبرد الكلبي بأمر من الحجاج بن يوسف، توفي سنة 77 ه/ 696 م. (راجع
رغبة الآمل 7: 197).
(5) من
رؤساء الخوارج. (راجع ابن أبي الحديد 1: 401).
(6) من
رءوس الخوارج. كان بائع رمان و من موالي قيس بن ثعلبة. (راجع شرح النهج 1: 304).
(7) هو
أحد موالي قيس بن ثعلبة، من رءوس الخوارج، و كان معلم كتاب و قد بايعته طائفة منهم
في حرب المهلب. (راجع شرح نهج البلاغة 1: 403).
138
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
2 - الأزارقة ص : 137
فأنفذ إليهم
عبد اللّه «1» بن الحارث بن نوفل النوفلي بصاحب جيشه مسلم «2» بن عبيس بن
كريز بن حبيب، فقتله الخوارج و هزموا أصحابه. فأخرج إليهم أيضا عثمان «3» بن عبيد
اللّه بن معمر التميمي فهزموه. فأخرج إليهم حارثة «4» بن بدر
الغداني في جيش كثيف فهزموه. و خشي أهل البصرة على أنفسهم و بلدهم من الخوارج.
فأخرج إليهم المهلب «5» بن أبي صفرة فبقي في حرب الأزارقة تسع عشرة
سنة إلى أن فرغ من أمرهم في أيام الحجاج. و مات نافع قبل وقائع المهلب مع
الأزارقة، و بايعوا بعده قطري بن الفجاءة المازني و سموه أمير المؤمنين.
و بدع
الأزارقة ثمانية:
إحداها: أنه
أكفر عليا رضي اللّه عنه، و قال: إن اللّه أنزل في شأنه: وَ مِنَ
النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا+ وَ يُشْهِدُ اللَّهَ
عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَ هُوَ أَلَدُّ
______________________________
(1) وال
من أشراف قريش من أهل المدينة. أمّه هند أخت معاوية. كانت ترقصه و تسميه ببّة. و
كان ورعا. ولّاه ابن الزبير على البصرة. و لما قامت فتنة ابن الأشعث خرج إلى عمان
هاربا من الحجاج، فتوفي فيها سنة 84 ه/ 703 م. (راجع الإصابة الترجمة 4596 و نسب
قريش ص 401).
(2) كان
فارسا شجاعا دينا، أمر على الجيش فلما نفد من جسر البصرة أقبل على الناس و قال:
إني ما خرجت لامتيار ذهب و لا فضة، و إني لأحارب قوما إن ظفرت بهم فما وراءهم إلّا
سيوفهم و رماحهم فمن كان من شأنه الجهاد فلينهض و من أحب الحياة فليرجع. فرجع نفر
يسير و مضى الباقون معه.
فلما صاروا
بدولاب خرج إليهم نافع بن الأزرق و قتل في المعركة سنة 65 ه. (راجع الأغاني تحقيق
عبد الأمير علي مهنا ط. دار الكتب العلمية 6: 152).
(3) قائد
من الشجعان من أهل الحجاز نعته المهلب بن أبي صفرة بالعجل المفرط. كان مع أخيه عمر
في العراق. ولي أخوه البصرة فجهزه منها بجيش من اثني عشر ألفا لمحاربة الأزارقة و
هم في سوق الأهواز و أميرهم عبيد اللّه بن بشر (ابن الماحوز) فقتل عثمان في معركة
معهم و انهزم أصحابه. توفي نحو سنة 62 ه/ نحو 682 م. (راجع رغبة الآمل 8: 6- 15).
(4) هو
حارثة بن بدر بن حصين التميمي الغداني: تابعي من أهل البصرة. أمر على قتال الخوارج
في العراق فهزموه بنهر تيرا (من نواحي الأهواز) فلما أرهقوه دخل سفينة بمن معه
فغرقت بهم، توفي سنة 64 ه/ 684 م. (راجع الإصابة 1: 371 و ابن أبي الحديد ص 383).
(5) أمير
خراسان، صاحب الحروب و الفتوح. حارب الأزارقة و أباد منهم ألوفا. توفي سنة 82 ه.
(راجع الشذرات 1: 54، 73، 90).
139
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
2 - الأزارقة ص : 137
الْخِصامِ «1» و صوب عبد
الرحمن «2» بن ملجم لعنه اللّه، و قال: إن اللّه تعالى أنزل في شأنه: وَ مِنَ
النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ «3».
و قال عمران «4» بن حطان، و
هو مفتي الخوارج و زاهدها و شاعرها الأكبر، في ضربة ابن ملجم لعنه اللّه لعلي رضي
اللّه عنه:
يا ضربة من
منيب ما أراد بها
|
|
إلّا ليبلغ
من ذي العرش رضوانا
|
إنّي
لأذكره يوما فأحسبه
|
|
أوفى
البريّة عند اللّه ميزانا
|
و على هذه
البدعة مضت الأزارقة، و زادوا عليه تكفير عثمان، و طلحة، و الزبير، و عائشة، و عبد
اللّه بن عباس رضي اللّه عنهم، و سائر المسلمين معهم، و تخليدهم في النار جميعا.
و الثانية:
أنه أكفر القعدة «5»، و هو أول من أظهر البراءة من القعدة عن القتال و إن كان
موافقا له على دينه، و أكفر من لم يهاجر إليه.
و الثالثة:
إباحته قتل أطفال المخالفين و النسوان معهم.
و الرابعة:
إسقاط الرجم عن الزاني، إذ ليس في القرآن ذكره. و إسقاط حد القذف عمن قذف المحصنين
من الرجال، مع وجوب الحد على قاذف المحصنات من النساء.
______________________________
(1) سورة
البقرة: الآية 204.
(2) فاتك،
ثائر، أدرك الجاهلية، قرأ على معاذ بن جبل فكان من القراء و أهل الفقه. كان من
شيعة علي ثم خرج عليه و اتفق مع «البرك» و «عمرو بن بكر» على قتل علي و معاوية و
عمرو بن العاص. و لما خرج علي من الصلاة ضربه ابن ملجم فأصاب مقدم رأسه فتوفي علي
من أثر الجرح. و قتل ابن ملجم سنة 40 ه/ 660 م. (راجع المبرد 2: 136).
(3) سورة
البقرة: الآية 207.
(4) هو
أبو سماك رأس القعدة من الصفرية و خطيبهم و شاعرهم توفي سنة 84 ه/ 703 م. (راجع
الإصابة الترجمة 6877).
(5)
القعدة: الذين قعدوا عن نصرة علي و عن مقاتلته أيضا. و ينسب إليهم فيقال: «قعدي».
140
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
3 - النجدات العاذرية ص : 141
و الخامسة:
حكمه بأن أطفال المشركين في النار مع آبائهم.
و السادسة:
أن التقية غير جائزة في قول و لا عمل.
و السابعة:
تجويزه أن يبعث اللّه تعالى نبيا يعلم أنه يكفر بعد نبوته، أو كان كافرا قبل
البعثة. و الكبائر و الصغائر إذا كانت بمثابة عنده و هي كفر، و في الأمة من جوز
الكبائر و الصغائر على الأنبياء عليهم السلام، فهي كفر.
و الثامنة:
اجتمعت الأزارقة على أن من ارتكب كبيرة من الكبائر كفر كفر ملة، خرج به عن الإسلام
جملة، و يكون مخلدا في النار مع سائر الكفار. و استدلوا بكفر إبليس، و قالوا: ما
ارتكب إلا كبيرة حيث أمر بالسجود لآدم عليه السلام فامتنع، و إلا فهو عارف
بوحدانية اللّه تعالى.
3-
النّجدات «1» العاذريّة
أصحاب نجدة
بن عامر الحنفي «2»، و قيل عاصم. و كان من شأنه أنه خرج من اليمامة مع عسكره
يريد اللحوق بالأزارقة. فاستقبله أبو فديك «3»، و عطية بن الأسود
الحنفي في الطائفة الذين خالفوا نافع بن الأزرق، فأخبروه بما أحدثه نافع من
الخلاف، بتكفير القعدة عنه، و سائر الأحداث و البدع «4»، و بايعوا
نجدة و سموه أمير المؤمنين، ثم اختلفوا على نجدة فأكفره قوم منهم لأمور نقموها
عليه.
منها أنه بعث
ابنه مع جيش إلى أهل القطيف «5» فقتلوا رجالهم، و سبوا
______________________________
(1) راجع
في شأن هذه الفرقة. (الفرق بين الفرق ص 87 و التبصير ص 30 و خطط المقريزي 2: 354 و
مقالات الإسلاميين 1: 162 و ما بعدها).
(2) نجدة
بن عامر الحنفي: استولى على اليمامة و البحرين في سنة 66 ه. قتله أصحابه سنة 69 ه.
(راجع العبر 1: 74).
(3) أبو
فديك: هو عبد اللّه بن ثور من بني قيس بن ثعلبة من رءوس الخوارج و ممن أجمع على
نجدة بن عامر الحنفي. (راجع الطبري 7: 57).
(4) راجع
الكامل 3: 175 و مجمع البيان 2: 98 و شرح الكامل 7: 237.
(5) هي
مدينة بالبحرين. (معجم البلدان 4: 378).
141
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
3 - النجدات العاذرية ص : 141
نساءهم و
قوّموها على أنفسهم و قالوا: إن صارت قيمتهن في حصصنا فذاك، و إلّا رددنا الفضل، و
نكحوهن قبل القسمة. و أكلوا من الغنيمة قبل القسمة، فلما رجعوا إلى نجدة و أخبروه
بذلك قال: لم يسعكم ما فعلتم؟ قالوا: لم نعلم أن ذلك لا يسعنا، فعذرهم بجهالتهم.
و اختلف
أصحابه بذلك. فمنهم من وافقه، و عذر «1» بالجهالات في الحكم الاجتهادي. و
قالوا: الدين أمران:
أحدهما:
معرفة اللّه تعالى، و معرفة رسله عليهم الصلاة و السلام؛ و تحريم دماء المسلمين،
يعنون موافقيهم. و الإقرار بما جاء من عند اللّه جملة، فهذا واجب على الجميع، و
الجهل به لا يعذر فيه.
و الثاني: ما
سوى ذلك، فالناس معذورون فيه إلى أن تقوم عليهم الحجة في الحلال و الحرام. قالوا:
و من جوز العذاب على المجتهد المخطئ في الأحكام قبل قيام الحجة عليه فهو كافر.
و استحل نجدة
بن عامر دماء أهل العهد و الذمة و أموالهم في حال التقية، و حكم بالبراءة ممن
حرمها قال: و أصحاب الحدود من موافقيه. لعل اللّه تعالى يعفو عنهم. و إن عذبهم ففي
غير النار، ثم يدخلهم الجنة، فلا تجوز البراءة عنهم.
قال: و من
نظر نظرة، أو كذب كذبة صغيرة أو كبيرة و أصر عليها فهو مشرك،
______________________________
(1) و كان
السبب في ذلك أنه بعث ابنه مع جند من عسكره إلى القطيف فأغاروا عليها و سبوا منها
النساء و الذرية و قوّموا النساء على أنفسهم و نكحوهن قبل إخراج الخمس من الغنيمة
و قالوا: إن دخلت النساء في قسمنا فهو مرادنا و إن زادت فيهن على نصيبنا من
الغنيمة غرمنا الزيادة من أموالنا، فلما رجعوا إلى نجدة سألوه عمّا فعلوا من وطء
النساء و من أكل طعام الغنيمة قبل إخراج الخمس منها و قبل قسمة أربعة أخماسها بين
الغانمين فقال لهم: لم يكن لكم ذلك، فقالوا: لم نعلم أن ذلك لا يحلّ لنا فعذرهم
بالجهالة ثم قال: إن الدين أمران أحدهما معرفة اللّه تعالى و معرفة رسله، و تحريم
دماء المسلمين، و تحريم غصب أموال المسلمين، و الإقرار بما جاء من عند اللّه تعالى
جملة. فهذا واجب معرفته على كل مكلف.
و ما سواه
فالناس معذورون بجهالته حتى يقيم عليه الحجة في الحلال و الحرام. فمن استحلّ
باجتهاده شيئا محرما فهو معذور. و من خاف العذاب على المجتهد المخطئ قبل قيام
الحجة عليه فهو كافر.
(راجع
الفرق بين الفرق ص 88- 89).
142
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
3 - النجدات العاذرية ص : 141
و من زنى، و
شرب، و سرق غير مصرّ عليه فهو غير مشرك، و غلظ على الناس في حد الخمر تغليظا
شديدا.
و لما كاتب
عبد الملك بن مروان و أعطاه الرضى، نقم عليه أصحابه فيه.
فاستتابوه
فأظهر التوبة فتركوا النقمة عليه و التعرض له، و ندمت طائفة على هذه الاستتابة و
قالوا: أخطأنا و ما كان لنا أن نستتيب الإمام، و ما كان له أن يتوب باستتابتنا
إياه. فتابوا من ذلك، و أظهروا الخطأ. و قالوا له: تب من توبتك، و إلا نابذناك،
فتاب من توبته.
و فارقه أبو
فديك و عطية. و وثب عليه أبو فديك فقتله ثم برئ أبو فديك من عطية، و عطية من أبي
فديك و أنفذ عبد الملك بن مروان: عمر بن عبيد اللّه بن معمر التميمي مع جيش إلى
حرب أبي فديك فحاربه أياما فقتله، و لحق عطية بأرض سجستان، و يقال لأصحابه
العطوية. و من أصحابه: عبد الكريم بن عجرد زعيم العجاردة.
و ربما قيل
للنجدات: العاذرية، لأنهم عذروا بالجهالات في أحكام الفروع.
و حكى الكعبي
عن النجدات: أن التقية جائزة في القول و العمل كله و إن كان في قتل النفوس قال: و
أجمعت النّجدات على أنه لا حاجة للناس إلى إمام قط. و إنما عليهم أن يتناصفوا فيما
بينهم. فإن هم رأوا أن ذلك لا يتم إلا بإمام يحملهم عليه فأقاموه جاز.
ثم افترقوا
بعد نجدة إلى: عطوية «1»، و فديكية «2»، و برئ كل
واحد منهما عن صاحبه بعد قتل نجده! و صارت الدار لأبي فديك إلا من تولى نجدة «3»، و أهل
سجستان و خراسان و كرمان و قهستان من الخوارج على مذهب عطية.
______________________________
(1) نسبة
إلى عطية بن الأسود اليمامي الحنفي.
(2) نسبة
إلى أبي فديك الخارجي أحد بني قيس بن ثعلبة.
(3) و هم
فرقة من النجدات بعدوا عن اليمامة و كانوا بناحية البصرة شكوا فيما حكى من أحداث
نجدة، و توقفوا في أمره و قالوا: لا ندري هل أحدث تلك الأحداث أم لا فلا نبرأ منه
إلّا باليقين. (راجع الفرق بين الفرق ص 90).
143
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
4 - البيهسية ص : 144
و قيل: كان
نجدة بن عامر. و نافع بن الأزرق قد اجتمعا بمكة مع الخوارج على ابن الزبير ثم
تفرقا عنه. و اختلف نافع و نجدة، فصار نافع إلى البصرة، و نجدة إلى اليمامة.
و كان سبب
اختلافهما أن نافعا قال: التقية «1» لا تحل، و القعود عن القتال كفر. و
احتج بقول اللّه تعالى: إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ
كَخَشْيَةِ اللَّهِ «2» و بقوله تعالى: يُجاهِدُونَ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ وَ لا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ «3».
و خالفه نجدة
و قال: التقية جائزة، و احتج بقول اللّه تعالى: إِلَّا أَنْ
تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً «4» و بقوله تعالى: وَ قالَ رَجُلٌ
مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ «5» و قال:
القعود جائز، و الجهاد إذا أمكنه أفضل، قال اللّه تعالى: وَ فَضَّلَ
اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً «6».
و قال نافع:
هذا في أصحاب النبي صلى اللّه عليه و سلّم حين كانوا مقهورين، و أما في غيرهم مع
الإمكان فالقعود كفر، لقول اللّه تعالى: وَ قَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا
اللَّهَ وَ رَسُولَهُ «7».
4-
البيهسية
أصحاب أبي
بيهس الهيصم «8» بن جابر، و هو أحد بني سعد بن ضبيعة، و قد
______________________________
(1)
التقية: الإظهار باللسان خلاف ما ينطوي عليه القلب للخوف على النفس.
(2) سورة
النساء: الآية 77.
(3) سورة
المائدة: الآية 54.
(4) سورة
آل عمران: الآية 28.
(5) سورة
غافر: الآية 28.
(6) سورة
النساء: الآية 95.
(7) سورة
التوبة: الآية 90.
(8) كان
فقيها متكلما من الأزارقة. اعتقله والي المدينة عثمان بن حيان المرّي فقتل و صلب
بأمر من الوليد الأموي. توفي سنة 94 ه/ 713 م. (راجع رغبة الآمل 7: 219).
144
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
4 - البيهسية ص : 144
كان الحجاج
طلبه أيام الوليد فهرب إلى المدينة، فطلبه بها عثمان «1» بن حيان
المرّي فظفر به و حبسه. و كان يسامره إلى أن ورد كتاب الوليد بأن يقطع يديه و
رجليه ثم يقتله، ففعل به ذلك.
و كفر أبو
بيهس: إبراهيم «2»، و ميمون «3» في اختلافهما في بيع الأمة، و كذلك
كفر الواقفية «4». و زعم أنه لا يسلم أحد حتى يقر بمعرفة اللّه تعالى و
معرفة رسله و معرفة ما جاء به النبي صلى اللّه عليه و سلّم. و الولاية لأولياء
اللّه تعالى، و البراءة من أعداء اللّه. فمن جملة ما ورد به الشرع و حكم به ما حرم
اللّه و جاء به الوعيد، فلا يسعه إلا معرفته بعينه، و تفسيره و الاحتراز عنه. و
منه ما ينبغي أن يعرف باسمه، و لا يضره ألا يعرفه بتفسيره حتى يبتلى به. و عليه أن
يقف عند ما لا يعلم و لا يأتي بشيء إلا بعلم. و برئ أبو بيهس عن الواقفية لقولهم:
إنا نقف فيمن واقع الحرام و هو لا يعلم أ حلالا واقع أم حراما؟ قال: كان من حقه أن
يعلم ذلك.
و الإيمان:
هو أن يعلم كل حق و باطل؛ و أن الإيمان هو العلم بالقلب دون
______________________________
(1) عثمان
بن حيان المرّي. و في التقريب بالزاي و نون المزني، أبو المغراء الدمشقي، مولى أم
الدرداء، استعمله الوليد على المدينة سنة 93 ه و عرف بالجور و قد وصفه به عمر بن
عبد العزيز. مات سنة 150 ه. (راجع تهذيب التهذيب 7: 113 و التقريب ص 141).
(2) كان
من الأباضية.
(3) هو
ميمون بن عمران و كان من الخوارج على مذهب العجاردة ثم خالفهم و رجع إلى مذهب
القدرية .. ثم اختار من دين المجوس استحلال بنات البنات و بنات البنين و كان ينكر
سورة يوسف و يقول إنها ليست من القرآن. (راجع التبصير ص 83).
(4)
الواقفية: هم طائفة من الخوارج الأباضية. و قصّتهم أن رجلا من الأباضية اسمه
إبراهيم أضاف جماعة من أهل مذهبه و كانت له جارية على مذهبه قال لها قدّمي شيئا
فأبطأت فحلف ليبيعها من الأعراب و كان فيما بينهم رجل اسمه ميمون، من العجاردة
فقال له: تبيع جارية مؤمنة من قوم كفار؟ فقال:
«و أحلّ
اللّه البيع و حرم الربا» و عليه كان أصحابنا.
و طال
الكلام بينهما حتى تبرأ كل واحد منهما من صاحبه و توقف قوم منهم في كفرهما و كتبوا
إلى علمائهم فرجع الجواب بجواز ذلك البيع و بوجوب التوبة على ميمون و على كل من
توقف في نصر إبراهيم فمن هاهنا افترقوا ثلاث فرق: الإبراهيمية و الميمونية و
الواقفية. (راجع التبصير ص 35).
145
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
4 - البيهسية ص : 144
القول و
العمل، و يحكى عنه أنه قال: الإيمان هو الإقرار و العلم. و ليس هو أحد الأمرين دون
الآخر.
و عامة
البيهسية على أن العلم و الإقرار و العمل كله إيمان. و ذهب قوم منهم إلى أنه لا
يحرم سوى ما ورد في قوله تعالى: قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ
مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ «1» الآية. و ما سوى ذلك فكله حلال.
و من
البيهسية قوم يقال لهم العونية «2»، و هم فرقتان:
1- فرقة
تقول: من رجع من دار الهجرة إلى القعود برئنا منه.
2- و فرقة
تقول: بل نتولاهم، لأنهم رجعوا إلى أمر كان حلالا لهم.
و الفرقتان
اجتمعتا على أن الإمام إذا كفر كفرت الرعية: الغائب منهم، و الشاهد.
و من
البيهسية صنف يقال لهم أصحاب التفسير «3»، زعموا أن من شهد من المسلمين شهادة
أخذ بتفسيرها و كيفيتها.
و صنف يقال
لهم أصحاب «4» السؤال، قالوا: إن الرجل يكون مسلما إذا شهد الشهادتين، و
تبرأ، و تولى، و آمن بما جاء من عند اللّه جملة، و إن لم يعلم فيسأل ما افترض
اللّه عليه، و لا يضره أن لا يعلم حتى يبتلى به فيسأل. و إن واقع حراما لم يعلم
تحريمه فقد كفر. و قالوا في الأطفال بقول الثعلبية: إن أطفال المؤمنين
______________________________
(1) سورة
الأنعام: الآية 145.
(2) في
«الفرق بين الفرق» العوفية بالفاء و كذلك في مقالات الإسلاميين.
(3) جاء
في مقالات الإسلاميين 1: 117: و من البيهسية فرقة يسمون أصحاب التفسير. كان صاحب
بدعتهم رجل يقال له الحكم بن مروان من أهل الكوفة. زعم أنه من شهد على المسلمين لم
تجز شهادتهم إلّا بتفسير الشهادة كيف هي؟ قالوا: و لو أن أربعة شهدوا على رجل منهم
بالزنا لم تجز شهادتهم حتى يشهدوا كيف هو؟ و هكذا قالوا في سائر الحدود. فبرئت
منهم البيهسية على ذلك و سموهم أصحاب التفسير.
(4) هم
أصحاب شبيب النجراني. (المصدر السابق).
146
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
4 - البيهسية ص : 144
مؤمنون، و
أطفال الكافرين كافرون، و وافقوا القدرية في القدر، و قالوا: إن اللّه تعالى فوض
إلى العباد، فليس للّه في أعمال العباد مشيئة، فبرئت منهم عامة البيهسية.
و قال بعض
البيهسية: إن واقع الرجل حراما لم يحكم بكفره حتى يرفع أمره إلى الإمام الوالي و
يحده، و كل ما ليس فيه حد فهو مغفور.
و قال بعضهم:
إن السكر إذا كان من شراب حلال فلا يؤاخذ صاحبه بما قال فيه و فعل.
و قالت
العونية: السكر كفر، و لا يشهدون أنه كفر ما لم ينضم إليه كبيرة أخرى من ترك
الصلاة، أو قذف المحصن.
+++ و من
الخوارج: أصحاب صالح «1» بن مسرح، و لم يبلغنا عنه أنه أحدث قولا تميز
به عن أصحابه، فخرج على بشر «2» بن مروان، فبعث إليه بشر، الحارث «3» بن عمير، أو
الأشعث بن عميرة الهمداني، أنفذه الحجاج لقتاله، فأصابت صالحا جراحة في قصر
جلولاء، فاستخلف مكانه شبيب «4» بن يزيد بن نعيم الشيباني
______________________________
(1) صالح
بن مسرح هو أحد بني امرئ القيس و كان أحد الخوارج الصفرية و كان ناسكا و صاحب
عبادة و له أصحاب يقرئهم القرآن و يفقّههم في الدين و يقص عليهم القصص و كان يدعو
إلى مجاهدة أئمة الضلال و قد سرح إليه الحجاج أيام بشر بن مروان، الحارث بن عميرة
الهمذاني فقتل صالح بالمدبج من أرض الموصل سنة 76 ه. (راجع ابن أبي الحديد ص 409 و
الطبري 7: 217).
(2) بشر
بن مروان بن الحكم بن أبي العاص القرشي الأموي أمير. كان سمحا جوادا. ولي إمرة
العراقين لأخيه عبد الملك سنة 74 ه. توفي سنة 75 ه/ 694 م. (راجع خزانة البغدادي
4: 117 و تهذيب ابن عساكر 3: 248).
(3)
الحارث بن عميرة الهمذاني هو من قواد الأمويين. قتل صالح بن مسرح فكرّ عليه شبيب،
فضارب الحارث حتى صرع، و احتمله أصحابه و انهزموا فكان أول جيش هزمه شبيب. (راجع
الكامل 3: 202 و الطبري 7: 221).
(4) شبيب
بن يزيد بن نعيم بن قيس الشيباني، أبو الضحّاك من الأبطال الثائرين على بني أمية و
إليه تنسب الفرقة الشبيبية من فرق النواصب. توفي سنة 77 ه/ 696 م. (راجع البيان و
التبيين 1: 71 و المقريزي 1: 355).
147
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
5 - العجاردة ص : 148
المكنى بأبي
الصحاري؛ و هو الذي غلب على الكوفة، و قتل من جيش الحجاج أربعة و عشرين أميرا،
كلهم أمراء الجيوش، ثم انهزم إلى الأهواز؛ و غرق في نهر الأهواز و هو يقول: ذلِكَ
تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ «1».
و ذكر
اليمان «2» أن الشبيبية يسمون مرجئة الخوارج؛ لما ذهبوا إليه من
الوقف في أمر صالح. و يحكى عنه أنه برئ منه و فارقه، ثم خرج يدعي الإمامة لنفسه، و
مذهب شبيب ما ذكرناه من مذاهب البيهسية، إلا أن شوكته و قوته و مقاماته مع
المخالفين مما لم يكن لخارج من الخوارج، و قصته مذكورة في التواريخ.
5-
العجاردة «3»
أصحاب عبد
الكريم «4» بن عجرد، وافق النجدات في بدعهم، و قيل: إنه كان من أصحاب
أبي بيهس، ثم خالفه و تفرد بقوله: تجب البراءة عن الطفل حتى يدعى إلى الإسلام، و
يجب دعاؤه إذا بلغ، و أطفال المشركين في النار مع آبائهم، و لا يرى المال فيئا حتى
يقتل صاحبه، و هم يتولون القعدة إذا عرفوهم بالديانة، و يرون الهجرة فضيلة لا
فريضة، و يكفرون بالكبائر، و يحكى عنهم أنهم ينكرون كون سورة يوسف من القرآن، و
يزعمون أنها قصة من القصص، قالوا: و لا يجوز أن تكون قصة العشق من القرآن.
______________________________
(1) سورة
يس: الآية 38.
(2) هو
اليمان بن رباب، خراساني. قال الدارقطني: ضعيف من الخوارج، و هو من جلّتهم و
رؤسائهم.
كان نظارا
متكلما مصنفا للكتب. له كتاب التوحيد و كتاب الردّ على المعتزلة في القدر و غيرها.
(راجع لسان الميزان 6: 316 و الفهرست ص 825).
(3) راجع
في شأن هذه الفرقة. (الفرق بين الفرق ص 93 و التبصير ص 32 و مقالات الإسلاميين 1:
164).
(4) هو
رئيس العجاردة، و كان من أتباع عطية بن أسود الحنفي و قد حبسه السلطان، و لما
اختلف من أتباعه ميمون و شعيب في المشيئة كتب إليه أتباعه و هو في حبس السلطان في
ذلك فكتب في جوابهم: إنما نقول ما شاء اللّه كان و ما لم يشأ لم يكن و لا نلحق
باللّه سوءا فوصل الجواب إليهم بعد موت ابن عجرد و ادعى ميمون أنه قال بقوله لأنه
قال: لا نلحق باللّه سوءا. و قال شعيب: بل قال بقولي، لأنه قال: نقول ما شاء اللّه
كان و ما لم يشأ لم يكن. (الفرق بين الفرق ص 95- 96).
148
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
5 - العجاردة ص : 148
ثم إن
العجاردة افترقوا أصنافا، و لكل صنف مذهب على حياله، إلا أنهم لما كانوا من جملة
العجاردة أو رددناهم على حكم التفصيل بالجدول و الضلع و هم:
(أ) الصلتية «1»: أصحاب
عثمان بن أبي الصلت، أو الصلت بن أبي الصلت. تفرد عن العجاردة بأن الرجل إذا أسلم
توليناه و تبرأنا من أطفاله حتى يدركوا فيقبلوا الإسلام.
و يحكى عن
جماعة منهم أنهم قالوا: ليس لأطفال المشركين و المسلمين ولاية و لا عداوة حتى
يبلغوا فيدعوا إلى الإسلام فيقروا، أو ينكروا.
(ب)
الميمونية: أصحاب ميمون بن خالد. كان من جملة العجاردة إلا أنه تفرد عنهم بإثبات
القدر خيره و شره من العبد. و إثبات الفعل للعبد خلقا و إبداعا، و إثبات الاستطاعة
قبل الفعل، و القول بأن اللّه تعالى يريد الخير دون الشر، و ليس له مشيئة في معاصي
العباد. و ذكر الحسين الكرابيسي «2» في كتابه الذي حكى فيه مقالات
الخوارج: أن الميمونية يجيزون نكاح بنات البنات، و بنات أولاد الإخوة و الأخوات، و
قالوا: إن اللّه تعالى حرم نكاح البنات، و بنات الإخوة و الأخوات، و لم يحرم نكاح
البنات، و بنات الإخوة و الأخوات، و لم يحرم نكاح أولاد هؤلاء.
و حكى الكعبي
و الأشعري عن الميمونية إنكارها كون سورة يوسف من القرآن، و قالوا بوجوب قتال
السلطان، و حدّه، و من رضي بحكمه، فأما من أنكره فلا يجوز قتاله إلا إذا أعان
عليه، أو طعن في دين الخوارج، أو صار دليلا للسلطان، و أطفال المشركين عندهم في
الجنة.
______________________________
(1) في
التبصير و الفرق بين الفرق أنهم أتباع صلت بن عثمان و في الاعتقادات و التعريفات و
المقريزي أنهم أتباع عثمان بن أبي الصلت. و هم كالعجاردة. و عندهم أن من دخل في
مذهبهم فهو مسلم.
(2) كان
من المجبرة، عارفا بالحديث و الفقه و له تصانيف منها كتاب المدلسين في الحديث، و
كتاب الإمامة، و كتابه في القضاء يدل على سعة علمه و تبحره، و يقال إنه من جملة
مشايخ البخاري توفي سنة 256 ه.
(راجع
لسان الميزان ص 303 و فهرست ابن النديم ص 256).
149
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
5 - العجاردة ص : 148
(ج)
الحمزيّة «1»: أصحاب حمزة بن أدرك «2». وافقوا
الميمونية في القدر و في سائر بدعها، إلا في أطفال مخالفيهم و المشركين فإنهم قالوا:
هؤلاء كلهم في النار.
و كان حمزة
من أصحاب الحسين بن الرقاد الذي خرج بسجستان من أهل أوق، و خالفه خلف الخارجي في
القول بالقدر، و استحقاق الرئاسة، فبرئ كل واحد منهما عن صاحبه، و جوز حمزة إمامين
في عصر واحد، ما لم تجتمع الكلمة، و لم تقهر الأعداء.
(د) الخلفيّة:
أصحاب خلف «3» الخارجي؛ و هم من خوارج كرمان «4» و مكران «5»، خالفوا
الحمزية في القول بالقدر، و أضافوا القدر خيره و شره إلى اللّه تعالى، و سلكوا في
ذلك مسلك أهل السنّة، و قالوا: الحمزية ناقضوا حيث قالوا:
لو عذب اللّه
العباد على أفعال قدّرها عليهم، أو على ما لم يفعلوه كان ظالما، و قضوا بأن أطفال
المشركين في النار، و لا عمل لهم، و لا ترك، و هذا من أعجب ما يعتقد من التناقض.
(ه)
الأطرافية «6»: فرقة على مذهب حمزة في القول بالقدر، إلا أنهم عذروا
______________________________
(1) راجع
في شأن هذه الفرقة. (الفرق بين الفرق ص 98 و التبصير ص 33 و مقالات الإسلاميين 1:
165).
(2) حمزة
بن أدرك الشامي الخارجي عاش بسجستان و خراسان و مكران و قهستان و كرمان و هزم
الجيوش و كان في الأصل من العجاردة الخازمية ثم خالفهم في باب القدر و الاستطاعة
فقال فيهما بقول القدرية فأكفرته الخازمية في ذلك ثم زعم أن أطفال المشركين في
النار فأكفرته القدرية في ذلك. كان ظهوره في أيام هارون الرشيد. (راجع المقريزي 4:
179 و الفرق بين الفرق ص 98).
(3) و هو
الذي قاتل حمزة الخارجي. و الخلفية لا يرون القتال إلّا مع إمام منهم. و صارت
الخلفية إلى قول الأزارقة في شيء واحد، و هو دعواهم أن أطفال مخالفيهم في النار.
(راجع الفرق بين الفرق ص 96 و الاعتقادات ص 48).
(4)
كرمان: ولاية مشهورة بين فارس و مكران و سجستان. و خراسان. شرقيّها مكران و
غربيّها أرض فارس و شماليها مفازة خراسان و جنوبيها بحر فارس. (معجم البلدان 4:
454).
(5) راجع
«كرمان» التي تقدّم تحديدها في الهامش رقم (4).
(6) سموا
بذلك لقولهم إن من لم يعلم أحكام الشريعة من أصحاب أطراف العالم فهو معذور، و قد
وافقوا أهل السنّة في أصولهم. (اعتقادات ص 48 و تعريفات ص 19).
150
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
5 - العجاردة ص : 148
أصحاب
الأطراف في ترك ما لم يعرفوه من الشريعة إذا أتوا بما يعرف لزومه من طريق العقل، و
أثبتوا واجبات عقلية كما قالت القدرية. و رئيسهم غالب بن شاذك من سجستان، و خالفهم
عبد اللّه السديوري «1» و تبرأ منهم.
و منهم
المحمدية أصحاب محمد بن رزق، و كان من أصحاب الحسين بن الرقاد، ثم برئ منه.
(و)
الشّعيبيّة «2»: أصحاب شعيب بن محمد، و كان مع ميمون من جملة العجاردة،
إلا أنّه برئ منه حين أظهر القول بالقدر.
قال شعيب: إن
اللّه تعالى خالق أعمال العباد، و العبد مكتسب لها قدرة و إرادة، مسئول عنها خيرا
و شرا، مجازي عليها ثوابا و عقابا، و لا يكون شيء في الوجود إلا بمشيئة اللّه
تعالى، و هو على بدع الخوارج في الإمامة و الوعيد، و على بدع العجاردة في حكم
الأطفال، و حكم القعدة و التولي و التبرّي.
(ز)
الحازمية «3»: أصحاب حازم بن عليّ، أخذوا بقول شعيب في أن اللّه تعالى
خالق أعمال العباد، و لا يكون في سلطانه إلا ما يشاء، و قالوا بالموافاة، و أن
اللّه تعالى إنما يتولى العباد على ما علم أنهم صائرون إليه في آخر أمرهم من
______________________________
(1) في
بعض النسخ: عبد اللّه السرنوي، نسبة إلى سرنو من قرى استراباذ من نواحي طبرستان.
(المعجم 5: 76).
(2) راجع
في شأن هذه الفرقة. (الفرق بين الفرق ص 95 و التبصير ص 32 و مقالات الإسلاميين 1:
165).
(3) في
الفرق بين الفرق: الخازمية بالخاء و في التعريفات: الجازمية بالجيم.
راجع في
شأن هذه الفرقة. (الفرق بين الفرق ص 94 و التعريفات ص 50).
و الحازمية
هم أكثر عجاردة سجستان، و قد قالوا في باب القدر و الاستطاعة و المشيئة بقول أهل
السنّة:
أن لا خالق
إلّا اللّه و لا يكون إلّا ما شاء اللّه و أن الاستطاعة مع الفعل. و أكفروا
الميمونية الذين قالوا في باب القدر و الاستطاعة بقول القدرية المعتزلة عن الحق.
ثم إن الحازمية
خالفوا أكثر الخوارج في الولاية و العدوة و قالوا إنهما صفتان من اللّه تعالى ...
و في التعريفات الجازمية (بالجيم) هم أصحاب جازم بن عاصم وافقوا الشعيبيّة.
151
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
6 - الثعالبة ص : 152
الإيمان، و
يتبرأ منهم على ما علم أنهم صائرون إليه في آخر أمرهم من الكفر، و أنه سبحانه لم
يزل محبا لأوليائه مبغضا لأعدائه.
و يحكى عنهم
أنهم يتوقفون في أمر عليّ رضي اللّه عنه، و لا يصرحون بالبراءة «1» عنه، و
يصرحون بالبراءة في حق غيره.
6-
الثعالبة «2»
أصحاب ثعلبة «3» بن عامر،
كان مع عبد الكريم بن عجرد يدا واحدة إلى أن اختلفا في أمر الأطفال فقال ثعلبة:
إنا على ولايتهم صغارا و كبارا حتى نرى منهم إنكارا للحق و رضا بالجواز، فتبرأت
العجاردة من ثعلبة، و نقل عنه أيضا أنه قال:
ليس له حكم
في حال الطفولة من ولاية و عداوة، حتى يدركوا و يدعوا. فإن قبلوا فذاك، و إن
أنكروا كفروا. و كان يرى أخذ الزكاة من عبيدهم إذا استغنوا، و إعطاءهم منها إذا
افتقروا.
______________________________
(1) غير
أن أهل السنّة ألزموا الحازمية على قولها بالموافاة أن يكون علي و طلحة و الزبير و
عثمان من أهل الجنة، لأنهم من أهل بيعة الرضوان الذي قال اللّه تعالى فيهم: لَقَدْ
رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ و قالوا
لهم: إذا كان الرضا من اللّه تعالى عن العبد إنما يكون عن علم أنه يموت على
الإيمان وجب أن يكون المبايعون تحت الشجرة على هذه الصفة. و كان علي و طلحة و
الزبير منهم و كان عثمان يومئذ أسيرا فبايع له النبي صلّى اللّه عليه و سلّم و جعل
يده، بدلا عن يده، و صحّ بهذا بطلان قول من أكفر هؤلاء الأربعة. (راجع الفرق بين
الفرق ص 94- 95).
(2) راجع
في شأن هذه الفرقة. (الفرق بين الفرق ص 100 و مقالات الإسلاميين و التبصير ص 33).
(3) سمّاه
عبد القاهر في الفرق بين الفرق: ثعلبة بن مشكان. و الأشعري لم يزد عن: «ثعلبة». و
في خطط المقريزي هو كما ذكره المؤلف هاهنا.
و روى
المقريزي و عبد القاهر البغدادي و الأسفراييني سبب اختلاف ثعلبة مع ابن عجرد
فقالوا ما ملخصه: أن رجلا من العجاردة خطب إلى ثعلبة بنته، فقال له: بين مهرها
فأرسل الخاطب امرأة إلى تلك البنت يسألها هل بلغت البنت؟ فإن كانت قد بلغت و قبلت
الإسلام على الشرط الذي تعتبره العجاردة لم يبال كم كان مهرها. فقالت أمّها: هي
مسلمة في الولاية بلغت أم لم تبلغ. فأخبر بذلك عبد الكريم بن عجرد و ثعلبة فاختار عبد
الكريم البراءة من الأطفال قبل البلوغ. و قال ثعلبة: نحن على ولايتهم صغارا و
كبارا إلى أن يبين لنا منهم إنكار للحق. فلما اختلفا في ذلك برئ كل واحد منهما من
صاحبه و صار ثعلبة إماما.
152
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
6 - الثعالبة ص : 152
(أ)
الأخنسية «1»: أصحاب أخنس «2» بن قيس، من جملة الثعالبة، و انفرد
عنهم بأن قال: أتوقف في جميع من كان في دار التقية من أهل القبلة؛ إلا من عرف منه
إيمان فأتولاه عليه، أو كفر فأتبرأ منه، و حرموا الاغتيال و القتل، و السرقة في
السر، و لا يبدأ أحد من أهل القبلة بالقتال حتى يدعى إلى الدين، فإن امتنع قوتل؛
سوى من عرفوه بعينه على خلاف قولهم، و قيل إنهم جوزوا تزويج المسلمات من مشركي
قومهم أصحاب الكبائر، و هم على أصول الخوارج في سائر المسائل.
(ب)
المعبديّة «3»: أصحاب معبد بن عبد الرحمن، كان من جملة الثعالبة خالف
الأخنس في الخطأ الذي وقع له في تزويج المسلمات من مشرك، و خالف ثعلبة فيما حكم من
أخذ الزكاة من عبيدهم، و قال: إني لأبرأ منه بذلك، و لا أدع اجتهادي في خلافه، و
جوزوا أن تصير سهام الصدقة سهما واحدا في حال التقية.
(ج)
الرّشيديّة «4»: أصحاب رشيد الطوسي، و يقال لهم العشرية، و أصلهم أن
الثعالبة كانوا يوجبون فيما سقى بالأنهار و القنى نصف العشر، فأخبرهم زياد «5» بن عبد
الرحمن أن فيه العشر، و لا تجوز البراءة ممن قال فيه نصف العشر
______________________________
(1) راجع
في شأن هذه الفرقة. (الفرق بين الفرق ص 101 و التبصير ص 33).
(2) في
الفرق بين الفرق: سمّاه عبد القاهر «الأخنس» و لم يزد. و قال: كان في بدء أمره على
قول الثعالبة في موالاة الأطفال، ثم خنس من بينهم، أي تنحّى و استخفى.
(3) راجع
في شأن هذه الفرقة. (التبصير ص 33 و الفرق بين الفرق ص 101) حيث قال: «و الفرقة
الثانية منهم معبدية قالت بإمامة رجل منهم بعد ثعلبة اسمه معبد خالف جمهور
الثعالبة في أخذ الزكاة من العبيد و إعطائهم منها ...».
(4) في
مقالات الإسلاميين أنها تسمى «العشرية» أيضا. و في الفرق بين الفرق ص 102: «و
الفرقة الخامسة من الثعالبة يقال لها «رشيدية» نسبوا إلى رجل اسمه رشيد، و انفردوا
بأن قالوا: فيما سقي بالعيون و الأنهار الجارية نصف العشر، و إنما يجب العشر
الكامل فيما سقته السماء. و خالفهم زياد بن عبد الرحمن فأوجب فيما سقي بالعيون و
الأنهار الجارية العشر الكامل».
(5) هو
رأس الزيادية و قد أكفر أصحابه شيبان بن سلمة الخارجي في قوله بتشبيه اللّه سبحانه
لخلقه.
153
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
6 - الثعالبة ص : 152
قبل هذا،
فقال رشيد: إن لم تجز البراءة منهم فإنا نعمل بما عملوا، فافترقوا في ذلك فرقتين.
(د)
الشيبانية «1»: أصحاب شيبان «2» بن سلمة، الخارج في
أيام مسلم «3»، و هو المعين له و لعلي «4» بن الكرماني
على نصر «5» بن سيار، و كان من الثعالبة، فلما أعانهما برئت منه
الخوارج، فلما قتل شيبان ذكر قوم توبته، فقالت الثعالبة:
لا تصح توبته
لأنه قتل الموافقين لنا في المذهب، و أخذ أموالهم، و لا يقبل توبة من قتل مسلما و
أخذ ماله إلا بأن يقتص من نفسه، و يرد الأموال، أو يوهب له ذلك.
و من مذهب
شيبان أنه قال بالجبر، و وافق جهم بن صفوان في مذهبه إلى الجبر، و نفى القدرة
الحادثة. و ينقل عن زياد بن عبد الرحمن الشيباني أبي خالد أنه قال: إن اللّه تعالى
لم يعلم حتى خلق لنفسه علما، و أن الأشياء إنما تصير معلومة له
______________________________
(1) راجع
في شأن هذه الفرقة. (الفرق بين الفرق ص 102 و التبصير ص 34).
(2) هو
شيبان بن سلمة السدوسي الحروري. قال المقريزي: «هو أول من أظهر القول بالتشبيه.
كان قبيل ظهور الدعوة العباسية مقيما بمرو و ثار على نصر بن سيار (والي خراسان من
قبل مروان بن محمد)، خرج في أيام أبي مسلم الخراساني و أعانه على أعدائه في حروبه،
ثم أخفر عهده، فأرسل إليه أبو مسلم يدعوه إلى البيعة، فقال له شيبان أنا أدعوك إلى
بيعتي. و اختلفا. فسيّر أبو مسلم جيشا لقتاله فقتل شيبان على أبواب سرخس سنة 130
ه/ 748 م. (راجع الطبري 9: 102 و المحبر ص 255 و المقريزي 1: 355).
(3) هو
أبو مسلم الخراساني مؤسس الدولة العباسية قتله المنصور سنة 168 ه.
(4) هو
علي بن جديع الكرماني، طابق أبا مسلم على حرب نصر بن سيّار و ساعده في دعوته. قتله
أبو مسلم سنة 130 ه. (راجع الطبري 9: 104).
(5) كان
شيخ مضر بخراسان و والي بلخ ثم ولي إمرة خراسان سنة 120 ه. قويت الدعوة العباسية
في أيامه فكتب إلى بني مروان بالشام يحذرهم و ينذرهم، و هو صاحب الأبيات التي
أرسلها إلى مروان بن محمد:
أرى خلل
الرماد وميض جمر
|
|
و يوشك أن
يكون له ضرام
|
فإن النار
بالعودين تذكى
|
|
و إن الحرب
مبدؤها الكلام
|
فقلت من
التعجب ليت شعري
|
|
أ أيقاظ
أميّة أم ينام
|
مرض، و
مات بساوة سنة 131 ه/ 748 م. (راجع ابن الأثير 5: 148 و خزانة البغدادي 1: 326).
154
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
6 - الثعالبة ص : 152
عند حدوثها و
وجودها، و نقل عنه أنه تبرأ من شيبان، و أكفره حين نصر الرجلين، فوقعت عامة
الشيبانية بجرجان «1»، و نسا «2»، و أرمينية «3»، و الذي
تولى شيبان و قال بتوبته: عطية الجرجاني و أصحابه.
(ه)
المكرميّة «4»: أصحاب مكرم بن عبد اللّه العجلي، كان من جملة الثعالبة و
تفرد عنهم بأن قال تارك الصلاة كافر، لا من أجل ترك الصلاة و لكن من أجل جهله
باللّه تعالى. و طرد هذا في كل كبيرة يرتكبها الإنسان. و قال: إنما يكفر لجهله
باللّه تعالى، و ذلك أن العارف بوحدانية اللّه تعالى، و أنه المطلع على سره و
علانيته، المجازي على طاعته و معصيته، أن يتصور منه الإقدام على المعصية، و
الاجتراء على المخالفة ما لم يغفل عن هذه المعرفة، و لا يبالي بالتكليف منه و عن
هذا قال النبي عليه الصلاة و السلام: «لا يزني الزّاني حين يزني و هو مؤمن، و لا
يسرق السّارق حين يسرق و هو مؤمن» الخبر.
و خالفوا
الثعالبة في هذا القول و قالوا: بإيمان الموافاة، و الحكم بأن اللّه تعالى إنما يتولى
عباده و يعاديهم على ما هم صائرون إليه من موافاة الموت، لا على أعمالهم التي هم
فيها؛ فإن ذلك ليس بموثوق به إصرارا عليه ما لم يصل المرء إلى آخر عمره، و نهاية
أجله. فحينئذ إن بقي على ما يعتقده فذلك هو الإيمان فنواليه، و إن لم يبق فنعاديه.
و كذلك في حق اللّه تعالى: حكم الموالاة و المعاداة على ما علم منه حال الموافاة،
و كلهم على هذا القول.
(و)
المعلوميّة و المجهوليّة «5»: كانوا في الأصل حازمية، إلا أن المعلومية
قالت: من لم يعرف اللّه تعالى بجميع أسمائه و صفاته فهو جاهل به، حتى يصير
______________________________
(1) مدينة
مشهورة بين طبرستان و خراسان. (معجم البلدان 2: 119).
(2) مدينة
وبيئة بخراسان. (معجم البلدان 5: 282).
(3) اسم
لصقع واسع في جهة الشمال و هما كبرى و صغرى. (معجم البلدان 1: 160).
(4) راجع
في شأن هذه الفرقة. (الفرق بين الفرق ص 103 و التبصير ص 34 و المقريزي ص 180).
(5) في
المقريزي و الفرق و التبصير أنهم أتباع: «أبي مكرم» و في الاعتقادات: أتباع
«مكرم».
155
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
7 - الإباضية ص : 156
عالما بجميع
ذلك، فيكون مؤمنا «1». و قالت: الاستطاعة مع الفعل، و الفعل مخلوق للعبد، فبرئت
منهم الحازمية «2».
و أما
المجهولية فإنهم قالوا: من علم بعض أسماء اللّه تعالى و صفاته و جهل بعضها، فقد
عرفه تعالى «3». و قالت: إن أفعال العباد مخلوقة للّه تعالى.
(ز)
البدعيّة: أصحاب يحيى بن أصدم. أبدعوا القول بأن نقطع على أنفسنا بأن من اعتقد
اعتقادنا فهو من أهل الجنة، و لا نقول: إن شاء اللّه، فإن ذلك شك في الاعتقاد. و
من قال: أنا مؤمن إن شاء اللّه، فهو شاك. فنحن من أهل الجنة قطعا، من غير شك.
7-
الإباضيّة «4»
أصحاب عبد
اللّه «5» بن إباض الذي خرج في أيام مروان «6» بن محمد،
فوجه إليه عبد اللّه بن محمد بن عطية، فقاتله بتبالة «7» و قيل إن
عبد اللّه «8» بن يحيى الإباضي كان رفيقا له في جميع أحواله و أقواله.
قال: إن مخالفينا من أهل القبلة كفار غير مشركين، و مناكحتهم جائزة، و موارثتهم
حلال. و غنيمة أموالهم من السلاح
______________________________
(1) راجع
في شأن هاتين الفرقتين. (الفرق بين الفرق ص 97 و التبصير ص 33 أما صاحب المقالات
فقد خصّ كل واحدة منهما بحديث قصير).
(2) في
الفرق بين الفرق: «الخازمية» بالخاء.
(3) و
أكفروا المعلومية منهم في هذا الباب. (الفرق بين الفرق ص 97).
(4) راجع
في شأن هذه الفرقة. (الفرق بين الفرق ص 103 و التبصير ص 34).
(5) عبد
اللّه بن إباض: هو أحد بني مرّة بن عبيد من بني تميم رهط الأحنف بن قيس. و هو رأس
الأباضية من الخوارج و هم فرقة كبيرة و كان هو فيما قيل رجع عن بدعته فتبرأ منه
أصحابه و استمرت نسبتهم إليه. (راجع المعارف ص 205 و لسان الميزان 3: 248).
(6) مروان
بن محمد: هو آخر خلفاء بني أميّة و يلقب بالحمار قتل سنة 132 ه. (راجع تاريخ
الخلفاء للسيوطي ص 169).
(7)
تبالة: اسم بلدة من أرض تهامة في طريق اليمن فتحت سنة عشر. (معجم البلدان 2: 9).
(8) هو
عبد اللّه بن يحيى الكندي الحضرمي، كان داعية الأباضية و قد جرح سنة 130 ه و قتل
بتبالة.
(راجع
الشذرات 1: 177).
156
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
7 - الإباضية ص : 156
و الكراع عند
الحرب حلال، و ما سواه «1» حرام. و حرام قتلهم و سبيهم في السر غيلة،
إلا بعد نصب القتال، و إقامة الحجة.
و قالوا: إن
دار مخالفيهم من أهل الإسلام دار توحيد، إلا معسكر السلطان فإنه دار بغي. و أجازوا
شهادة مخالفيهم على أوليائهم، و قالوا في مرتكبي الكبائر:
إنهم موحدون
لا مؤمنون.
و حكى الكعبي
عنهم: أن الاستطاعة عرض من الأعراض، و هي قبل الفعل، بها يحصل الفعل، و أفعال
العباد مخلوقة للّه تعالى: إحداثا و إبداعا، و مكتسبة للعبد حقيقة، لا مجازا، و لا
يسمون إمامهم أمير المؤمنين، و لا أنفسهم مهاجرين، و قالوا:
العالم يفنى
كله إذا فني أهل التكليف. قال: و أجمعوا على أن من ارتكب كبيرة من الكبائر كفر،
كفر النعمة، لا كفر الملة، و توقفوا في أطفال المشركين، و جوّزوا تعذيبهم على سبيل
الانتقام و أجازوا أن يدخلوا الجنة تفضلا و حكى الكعبي عنهم أنهم قالوا بطاعة لا
يراد بها اللّه تعالى، كما قال أبو الهذيل.
ثم اختلفوا
في النفاق: أ يسمى شركا أم لا! قالوا: إن المنافقين في عهد رسول اللّه صلّى اللّه
عليه و سلّم كانوا موحدين، إلا أنهم ارتكبوا الكبائر، فكفروا بالكبيرة لا بالشرك و
قالوا: كل شيء أمر اللّه تعالى به فهو عام ليس بخاص. و قد أمر به المؤمن و
الكافر، و ليس في القرآن خصوص. و قالوا: لا يخلق اللّه تعالى شيئا إلا دليلا على
وحدانيته، و لا بد أن يدل به واحدا. و قال قوم منهم: يجوز أن يخلق اللّه تعالى
رسولا بلا دليل و يكلف العباد بما أوحي إليه. و لا يجب عليه إظهار المعجزة، و لا
يجب على اللّه تعالى ذلك إلى أن يخلق دليلا، و يظهر معجزة و هم جماعة متفرقون في
مذاهبهم «2» تفرق الثعالبة و العجاردة.
______________________________
(1) في
الفرق بين الفرق ص 103: «و الذي استحلّوه الخيل و السلاح فأما الذهب و الفضة فإنهم
يردونهما على أصحابهما عند الغنيمة».
(2)
افترقت الإباضية فيما بينهم أربع فرق و هي: الحفصية، و الحارثية، و اليزيدية، و
أصحاب طاعة لا يراد اللّه بها. (راجع الفرق بين الفرق ص 104).
157
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
7 - الإباضية ص : 156
(أ)
الحفصيّة «1»: هم أصحاب حفص «2» بن أبي المقدام،
تميز عنهم بأن قال إن بين الشرك و الإيمان خصلة واحدة، و هي معرفة اللّه تعالى
وحده. فمن عرفه ثم كفر بما سواه من رسول أو كتاب أو قيامة أو جنة أو نار، أو ارتكب
الكبائر من الزنا، و السرقة، و شرب الخمر، فهو كافر لكنه بريء من الشرك.
(ب)
الحارثيّة «3»: أصحاب الحارث «4» الإباضي. خالف
الإباضية في قوله بالقدر على مذهب المعتزلة، و في الاستطاعة قبل الفعل، و في إثبات
طاعة لا يراد بها اللّه تعالى «5».
(ج)
اليزيديّة «6»: أصحاب يزيد «7» بن أنيسة قال بتولي المحكمة الأولى
قبل الأزارقة، و تبرأ من بعدهم إلا الإباضية فإنه يتولاهم. و زعم أن اللّه تعالى
سيبعث رسولا من العجم، و ينزل عليه كتابا قد كتب في السماء، و ينزل عليه جملة
واحدة.
و يترك شريعة
المصطفى محمد عليه الصلاة و السلام، و يكون على ملة الصابئة
______________________________
(1) راجع
بشأن هذه الفرقة. (الفرق بين الفرق ص 104 و التبصير ص 34).
(2) هو
أحد أصحاب عبد اللّه بن إباض. (راجع المقريزي 4: 180 و التعريفات ص 61).
(3) راجع
في شأن هذه الفرقة. (الفرق بين الفرق ص 105 و التبصير ص 35).
(4) جاء
في التبصير وحده «الحارث بن مزيد الإباضي».
(5)
أكفرهم سائر الإباضية في قولهم في باب القدر بمثل قول المعتزلة لأن جمهورهم على
قول أهل السنّة في أن اللّه تعالى خالق أعمال العباد و في أن الاستطاعة مع الفعل.
و زعمت الحارثية أنهم لم يكن لهم إمام بعد المحكمة الأولى إلّا عبد اللّه بن إباض
و بعده حارث بن يزيد الإباضي. (راجع الفرق بين الفرق ص 105 و التعريفات ص 55).
(6) راجع
في شأن هذه الفرقة. (الفرق بين الفرق ص 279 و التبصير ص 83 و مقالات الإسلاميين 1:
170).
(7) يزيد
بن أنيسة. و في المحدثين من اسمه زيد بن أبي أنيسة، له ترجمة في ميزان الاعتدال
للذهبي برقم 2990 و قد يختلط بهذا على بعض الناس. كان يزيد من البصرة ثم انتقل إلى
جور من أرض فارس و كان على رأي الإباضية من الخوارج ثم خرج عن قول جميع الأمة
بقوله إن شريعة الإسلام تنسخ في آخر الزمان برسول من العجم ينزل عليه كتاب و
أتباعه هم الصابئون المذكورون في القرآن.
(راجع
الفرق بين الفرق ص 279 و التعريفات ص 174).
158
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
8 - الصفرية الزيادية ص : 159
المذكورة في
القرآن. و ليست هي الصابئة الموجودة بحران «1»، و واسط «2».
و تولى يزيد
من شهد لمحمد المصطفى عليه الصلاة و السلام من أهل الكتاب بالنبوة و إن لم يدخل في
دينه و قال إن أصحاب الحدود من موافقيه و غيرهم كفار مشركون. و كل ذنب صغير أو
كبير، فهو شرك.
8-
الصّفريّة «3» الزّياديّة
أصحاب زياد
بن الأصفر. خالفوا الأزارقة، و النجدات، و الإباضية في أمور منها: إنهم لم يكفروا
القعدة عن القتال، إذا كانوا موافقين في الدين و الاعتقاد.
و لم يسقطوا
الرجم، و لم يحكموا بقتل أطفال المشركين و تكفيرهم و تخليدهم في النار. و قالوا:
التقية جائزة في القول دون العمل. و قالوا: ما كان من الأعمال عليه حدّ واقع فلا
يتعدى بأهله الاسم الذي لزمه به الحد كالزنا، و السرقة، و القذف.
فيسمى زانيا،
سارقا، قاذفا، لا كافرا مشركا.
و ما كان من
الكبائر مما ليس فيه حد لعظم قدره مثل ترك الصلاة، و الفرار من الزحف، فإنه يكفر
بذلك. و نقل عن الضحاك «4» منهم أنه جوز تزويج المسلمات من كفار قومهم
في دار التقية دون دار العلانية. و رأى زياد بن الأصفر جميع الصدقات سهما واحدا في
حال التقية. و يحكى عنه أنه قال: نحن مؤمنون عند أنفسنا، و لا ندري لعلنا خرجنا من
الإيمان عند اللّه. و قال: الشرك شركان: شرك هو طاعة الشيطان، و شرك هو عبادة
الأوثان. و الكفر كفران: كفر بإنكار النعمة، و كفر
______________________________
(1) حران:
اسم مدينة مشهورة على طريق الموصل و الشام، كانت منازل الصابئة و هم الحرّانيون.
(معجم البلدان 2: 235).
(2) واسط:
اسم قرية بنواحي الموصل بين مرقة و عين الرصد و هي غير واسط الحجاج. (معجم البلدان
5: 347).
(3) راجع
في شأن هذه الفرقة. (الفرق بين الفرق ص 90 و التبصير ص 31 و مقالات الإسلاميين).
و الصفرية
هم قوم من الحرورية.
(4) هو
الضحاك بن قيس الخارجي الشيباني.
159
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
8 - الصفرية الزيادية ص : 159
بإنكار
الربوبية. و البراءة براءتان: براءة من أهل الحدود سنّة، و براءة من أهل الجحود
فريضة «1».
+++ و لنختتم
المذاهب بذكر تتمة رجال الخوارج:
من
المتقدمين: عكرمة، و أبو هارون العبدي، و أبو الشعثاء «2»، و إسماعيل
بن سميع.
و من
المتأخرين: اليمان بن رباب: ثعلبي، ثم بيهسي. و عبد اللّه بن يزيد، و محمد بن حرب،
و يحيى بن كامل: إباضية.
و من
شعرائهم: عمران بن حطان، و حبيب «3» بن مرة صاحب الضحاك بن قيس. و منهم
أيضا: جهم بن صفوان، و أبو مروان غيلان بن مسلم، و محمد بن عيسى برغوث، و أبو
الحسين كلثوم بن حبيب المهلبي. و أبو بكر محمد بن عبد اللّه بن شبيب البصري، و علي
بن حرملة، و صالح بن قبة بن صبيح بن عمرو، و مويس بن عمران البصري، و أبو عبد
اللّه بن مسلمة، و أبو عبد الرحمن بن مسلمة، و الفضل بن عيسى الرقاشي، و أبو زكريا
يحيى بن أصفح، و أبو الحسين محمد بن مسلم الصالحي، و أبو محمد عبد اللّه بن محمد
بن الحسن الخالدي، و محمد بن صدقة، و أبو الحسين علي بن زيد الإباضي، و أبو عبد
اللّه محمد بن كرام، و كلثوم بن حبيب المرادي البصري.
______________________________
(1) في
الفرق بين الفرق أن الصفرية صارت ثلاث فرق:
(cs) فرقة تزعم أن صاحب كل ذنب مشرك كما قالت
الأزارقة.
(cs) و الثانية تزعم أن اسم الكفر واقع على صاحب
ذنب ليس فيه حد، و المحدود في ذنبه خارج عن الإيمان و غير داخل في الكفر.
(cs) و الثالثة تزعم أن اسم الكفر يقع على صاحب
الذنب إذا حدّه الوالي على ذنبه.
(2) أبو
الشعثاء: هو جابر بن زيد الأزدي تلميذ ابن عباس توفي سنة 93 ه. (راجع تاريخ
الإسلام للذهبي ص 46 و ابن كثير 9: 93).
(3) في
نسخة: حبيب بن حدرة. و حبيب بن حدرة هو مولى لبني هلال بن عامر و من شعراء
الخوارج.
(راجع
الطبري 7: 268 و 9: 65).
160
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
الفصل الخامس المرجئة ص : 161
و الذين
اعتزلوا إلى جانب فلم يكونوا مع علي رضي اللّه عنه في حروبه، و لا مع خصومه، و
قالوا: لا ندخل في غمار الفتنة بين الصحابة رضي اللّه عنهم:
عبد اللّه بن
عمر «1»، و سعد «2» بن أبي وقاص، و محمد «3» بن مسلمة
الأنصاري، و أسامة «4» بن زيد بن حارثة الكلبي، مولى رسول اللّه صلّى اللّه عليه
و سلّم.
و قال قيس «5» بن أبي
حازم: كنت مع علي رضي اللّه عنه في جميع أحواله و حروبه حتى قال في يوم صفين:
«انفروا إلى بقية الأحزاب، انفروا إلى من يقول:
كذب اللّه و
رسوله، و أنتم تقولون: صدق اللّه و رسوله» فعرفت أي شيء كان يعتقد في الجماعة،
فاعتزلت عنه.
الفصل
الخامس المرجئة «6»
الإرجاء على
معنيين:
أحدهما:
بمعنى التأخير كما في قوله تعالى: قالُوا أَرْجِهْ وَ أَخاهُ «7»، أي أمهله و
أخره.
و الثاني:
إعطاء الرجاء.
______________________________
(1) هو
عبد اللّه بن عمر بن الخطاب القرشي العدوي المتوفى سنة 73 ه. (راجع ترجمته في أسد
الغابة 3: 227).
(2) هو
سعد بن مالك، و هو سعد بن أبي وقاص أسلم قبل أن تفرض الصلاة و هو أحد الذين شهد
لهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بالجنة توفي سنة 55 ه. (راجع ترجمته في أسد
الغابة 2: 290 و العقد الفريد ص 52).
(3) هو
محمد بن مسلمة الأنصاري الأوسي كان صاحب العمال أيام عمر توفي سنة 46 ه. (راجع أسد
الغابة 4: 330).
(4) تقدمت
ترجمته.
(5) هو
قيس بن أبي حازم الأحمسي البجلي. بصري. كان ثقة كثير العبادة. (راجع لسان الميزان
2: 161 و ابن الأثير 3: 152).
(6) راجع
في شأن هذه الفرقة. (الفرق بين الفرق ص 139 و التبصير ص 59 و مقالات الإسلاميين
تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد 1: 197).
(7) سورة الأعراف:
الآية 111.
161
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
1 - اليونسية ص : 162
أما إطلاق
اسم المرجئة على الجماعة بالمعنى الأول فصحيح. لأنهم كانوا يؤخرون العمل عن النية
و العقد.
و أما
بالمعنى الثاني فظاهر، فإنهم كانوا يقولون: لا تضر مع الإيمان معصية، كما لا تنفع
مع الكفر طاعة.
و قيل الإرجاء
تأخير حكم صاحب الكبيرة إلى يوم القيامة. فلا يقضي عليه بحكم ما في الدنيا، من
كونه من أهل الجنة، أو من أهل النار «1». فعلى هذا:
المرجئة، و
الوعيدية فرقتان متقابلتان.
و قيل
الإرجاء: تأخير علي رضي اللّه عنه عن الدرجة الأولى إلى الرابعة.
فعلى هذا
المرجئة و الشيعة فرقتان متقابلتان:
و المرجئة
أربعة أصناف: مرجئة الخوارج، و مرجئة القدرية، و مرجئة الجبرية، و المرجئة
الخالصة. و محمد بن شبيب، و الصالحي، و الخالدي من مرجئة القدرية.
و كذلك
الغيلانية أصحاب غيلان الدمشقي، أول من أحدث القول بالقدر و الإرجاء، و نحن إنما
نعد مقالات المرجئة الخالصة منهم.
1-
اليونسيّة «2»
أصحاب يونس «3» بن عون
النميري، زعم أن الإيمان هو المعرفة باللّه،
______________________________
(1) روي
عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم أنه قال: «لعنت المرجئة على لسان سبعين نبيا»
قيل: من المرجئة يا رسول اللّه؟
قال:
«الذين يقولون الإيمان كلام» يعني الذين زعموا أن الإيمان هو الإقرار وحده دون
غيره. (الفرق بين الفرق ص 202).
(2) راجع
في شأن هذه الفرقة. (الفرق بين الفرق ص 202 و التبصير ص 60 و المقالات 1: 198).
(3) يونس
بن عون النميري و أتباعه اليونسية، و هم غير اليونسية أتباع يونس بن عبد الرحمن
القمي، الذين يزعمون أن النصف الأعلى للّه مجوف و الأدنى مصمت. و هؤلاء من
الإمامية. أما أتباع ابن عون فمن المرجئة. و ابن عون كان يزعم أن الإيمان في القلب
و اللسان، و أنه هو المعرفة باللّه تعالى، و المحبة و الخضوع له بالقلب، و الإقرار
باللسان أنه واحد ليس كمثله شيء، ما لم تقم حجة الرسل عليهم السلام، فإن قامت
عليهم [لزمهم] التصديق لهم و معرفة ما جاء من عندهم في الجملة من الإيمان، و ليست
معرفة تفصيل ما جاء من عندهم إيمانا و لا من جملته. (الفرق بين الفرق ص 203 و
التبصير ص 71 و الاعتقادات ص 74).
162
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
2 - العبيدية ص : 163
و الخضوع له،
و ترك الاستكبار عليه، و المحبة بالقلب. فمن اجتمعت فيه هذه الخصال فهو مؤمن و ما
سوى ذلك من الطاعة فليس من الإيمان و لا يضر تركها حقيقة الإيمان، و لا يعذب على
ذلك إلا إذا كان الإيمان خالصا، و اليقين صادقا.
و زعم أن
إبليس كان عارفا باللّه وحده، غير أنه كفر باستكباره عليه، أَبى وَ
اسْتَكْبَرَ وَ كانَ مِنَ الْكافِرِينَ «1» قال: و من تمكن في
قلبه الخضوع للّه، و المحبة له على خلوص و يقين لم يخالفه في معصية، و إن صدرت منه
معصية فلا تضره بيقينه و إخلاصه. و المؤمن إنما يدخل الجنة بإخلاصه و محبته، لا
بعمله و طاعته.
2-
العبيديّة
أصحاب عبيد
المكتئب «2». حكى عنه أنه قال: ما دون الشرك مغفور لا محالة، و إن
العبد إذا مات على توحيده لا يضره ما اقترف من الآثام و اجترح من السيئات. و حكى
اليمان عن عبيد المكتئب و أصحابه أنهم قالوا: إن علم اللّه تعالى لم يزل شيئا
غيره. و إن كلامه لم يزل شيئا غيره. و كذلك دين اللّه لم يزل شيئا غيره.
و زعم أن
اللّه- تعالى عن قولهم- على صورة إنسان، و حل عليه قوله صلّى اللّه عليه و سلّم:
«إنّ اللّه خلق آدم على صورة الرّحمن».
3-
الغسّانيّة «3»
أصحاب غسان «4» الكوفي. زعم
أن الإيمان هو المعرفة باللّه تعالى و برسوله،
______________________________
(1) سورة
البقرة: الآية 34.
(2) في
«الفصل في الملل و الأهواء و النحل ص 187» أنه عبيد المكبت. و في «نسخة»: عبيد
المكتب. و في تهذيب التهذيب 7: 74: «هو عبيد بن مهران المكتب الكوفي»، روى عن
مجاهد و الشعبي و غيرهما.
قال أبو
حاتم: ثقة صالح الحديث. و قال ابن سعد: كان ثقة قليل الحديث و روى عنه السفيانان و
فضيل و غيرهم.
(3) راجع
في شأن هذه الفرقة. (الفرق بين الفرق ص 203 و التبصير ص 60).
(4) هو
غسان الكوفي المرجئ. و ليس هو غسان بن أبان المحدث كما و هم بعضهم فإن ابن أبان
يمامي و ذاك كوفي. و قد زعم في كتابه أن قوله في هذا الكتاب أن الإيمان يزيد و لا
ينقص كقول أبي حنيفة فيه و هذا غلط منه عليه لأن أبا حنيفة قال: إن الإيمان هو
المعرفة و الإقرار باللّه تعالى و برسله و بما جاء من اللّه تعالى و رسله في
الجملة دون التفصيل و أنه لا يزيد و لا ينقص و لا يتفاضل الناس فيه، و غسان قد قال
بأنه يزيد و لا ينقص. (راجع ميزان الاعتدال 2: 321 و الفرق بين الفرق ص 141).
163
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
4 - الثوبانية ص : 164
و الإقرار
بما أنزل اللّه، و بما جاء به الرسول في الجملة دون التفصيل. و الإيمان لا يزيد و
لا ينقص. و زعم أن قائلا لو قال: أعلم أن اللّه تعالى قد حرم أكل الخنزير، و لا
أدري هل الخنزير الذي حرمه: هذه الشاة أم غيرها؟ كان مؤمنا. و لو قال: أعلم أن
اللّه تعالى فرض الحج إلى الكعبة، غير أني لا أدري أين الكعبة؟ و لعلها بالهند؛
كان مؤمنا. و مقصوده أن أمثال هذه الاعتقادات أمور وراء الإيمان، لا أنه كان شاكا
في هذه الأمور، فإن عاقلا لا يستجيز من عقله أن يشك في أن الكعبة:
إلى أي جهة
هي؟ و أن الفرق بين الخنزير و الشاة ظاهر.
و من العجيب
أن غسان كان يحكي عن أبي حنيفة رحمه اللّه مثل مذهبه، و يعده من المرجئة، و لعله
كذب كذلك عليه. لعمري! كان يقال لأبي حنيفة و أصحابه مرجئة السنّة، وعده كثير من
أصحاب المقالات من جملة المرجئة، و لعل السبب فيه أنه لما كان يقول: الإيمان هو
التصديق بالقلب، و هو لا يزيد و لا ينقص، ظنوا أنه يؤخر العمل عن الإيمان. و الرجل
مع تخريجه في العمل كيف يفتي بترك العمل! و له سبب آخر، و هو أنه كان يخالف
القدرية، و المعتزلة الذين ظهروا في الصدر الأول. و المعتزلة كانوا يلقبون كل من
خالفهم في القدر مرجئا، و كذلك الوعيدية من الخوارج. فلا يبعد أن اللقب إنما لزمه
من فريقي المعتزلة و الخوارج، و اللّه أعلم.
4-
الثوبانيّة «1»
أصحاب أبي
ثوبان المرجئ، الذين زعموا أن الإيمان هو المعرفة و الإقرار باللّه تعالى، و برسله
عليهم الصلاة و السلام، و بكل ما لا يجوز في العقل أن يفعله، و ما جاز في العقل
تركه فليس من الإيمان، و أخر العمل كله عن الإيمان «2».
______________________________
(1) راجع
في شأن هذه الفرقة. (الفرق بين الفرق ص 204 و التبصير ص 61 و مقالات الإسلاميين 1:
199).
(2)
فارقوا اليونسية و الغسانية بإيجابهم في العقل شيئا قبل ورود الشرع بوجوبه. (الفرق
بين الفرق ص 204).
164
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
4 - الثوبانية ص : 164
و من
القائلين بمقالة أبي ثوبان هذا: أبو مروان غيلان «1» بن مروان
الدمشقي، و أبو شمر «2»، و مويس «3» بن عمران، و
الفضل الرقاشي، و محمد «4» بن شبيب، و العتابي، و صالح قبة «5».
و كان غيلان
يقدر بالقدر خيره و شره من العبد، و في الإمامة أنها تصلح في غير قريش، و كل من
كان قائما بالكتاب و السنة كان مستحقا لها، أو أنها لا تثبت إلا بإجماع الأمة. و
العجب أن الأمة أجمعت على أنها لا تصلح لغير قريش. و بهذا دفعت الأنصار عن قولهم:
منا أمير و منكم أمير. فقد جمع غيلان خصالا ثلاثا:
القدر، و
الإرجاء، و الخروج.
و الجماعة
التي عددناهم اتفقوا على أن اللّه تعالى لو عفا عن عاص في القيامة، عفا عن كل مؤمن
عاص هو في مثل حاله. و إن أخرج من النار واحدا، أخرج من هو في مثل حاله. و من
العجب أنهم لم يجزموا القول بأن المؤمنين من أهل التوحيد يخرجون من النار لا
محالة.
و يحكى عن
مقاتل بن سليمان: أن المعصية لا تضر صاحب التوحيد و الإيمان. و أنه لا يدخل النار
مؤمن. و الصحيح من النقل عنه: أن المؤمن العاصي ربه يعذب يوم القيامة على الصراط و
هو على متن جهنم، يصيبه لفح النار و حرها
______________________________
(1) تقدمت
ترجمته.
(2) قال
عبد القاهر البغدادي ص 206: «قال أبو شمر: الإيمان هو المعرفة و الإقرار باللّه
تعالى، و بما جاء من عنده مما اجتمعت عليه الأمّة كالصلاة و الزكاة و الصيام و
الحج و تحريم الميتة و الدم و لحم الخنزير و وطء المحارم و نحو ذلك و ما عرف
بالعقل من عدل الإيمان و توحيده و نفي التشبيه». و أبو شمر جمع بين الإرجاء و
القدر من أصحاب النظام، و هو رأس الشمرية.
(3) في
«نسخة»: موسى بن عمران.
(4) محمد
بن شبيب الدمشقي، و هو غير محمد بن شبيب الزهراني البصري الذي روى عن الشعبي و
الحسن فإنه محدث ثقة. أما الدمشقي فهو من أصحاب النظام و ممن جمع بين الإرجاء و
القدر. (راجع تهذيب التهذيب 9: 218).
(5) صالح
قبة: يظهر أنه صالح بن محمد الترمذي و كان مرجئا جهميا. (راجع الميزان 1: 459).
165
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
5 - التومنية ص : 166
و لهيبها.
فيتألم بذلك على قدر معصيته ثم يدخل الجنة، و مثّل ذلك بالحبة على المقلاة المؤججة
بالنار.
و نقل عن بشر
بن غياث المريسي «1» أنه قال: إذا دخل أصحاب الكبائر النار فإنهم سيخرجون عنها
بعد أن يعذبوا بذنوبهم. و أما التخليد فيها فمحال، و ليس بعدل.
و قيل إن أول
من قال بالإرجاء: الحسن «2» بن محمد بن عليّ بن أبي طالب، و كان يكتب فيه
الكتب إلى الأمصار. إلا أنه ما أخر العمل عن الإيمان كما قالت المرجئة اليونسية، و
العبيديّة، لكنه حكم بأن صاحب الكبيرة لا يكفر إذ الطاعات و ترك المعاصي ليست من
أصل الإيمان حتى يزول الإيمان بزوالها.
5-
التّومنيّة «3»
أصحاب «4» أبي معاذ
التومني، زعم أن الإيمان هو ما عصم من الكفر، و هو اسم لخصال إذا تركها كفر، و
كذلك لو ترك خصلة واحدة منها كفر، و لا يقال للخصلة الواحدة منها إيمان، و لا بعض
إيمان، و كل معصية كبيرة أو صغيرة لم يجمع عليها المسلمون بأنها كفر لا يقال
لصاحبها فاسق، و لكن يقال فسق و عصى، قال: و تلك الخصال هي المعرفة و التصديق و
المحبة، و الإخلاص، و الإقرار بما جاء به الرسول، قال: و من ترك الصلاة و الصيام
مستحلا كفر، و من
______________________________
(1) في
حديثه عن المريسيّة قال عبد القاهر البغدادي ص 204: «هؤلاء مرجئة بغداد من أتباع
بشر المريسي و كان في الفقه على رأي أبي يوسف القاضي، غير أنه لما أظهر قوله بخلق
القرآن هجره أبو يوسف و ضلّلته الصفاتيّة في ذلك. و لما وافق الصفاتية- في القول
بأن اللّه تعالى خالق أكساب العباد، و في أن الاستطاعة مع الفعل- أكفرته المعتزلة
في ذلك فصار مهجور الصفاتية و المعتزلة معا.
(2) الحسن
بن محمد بن الحنفية الهاشمي العلوي. روي أنه صنّف كتابا في الإرجاء ثم ندم عليه، و
كان من عقلاء قومه و علمائهم. توفي سنة 101 ه و قيل سنة 95 ه. (الشذرات 1: 121).
(3) راجع
في شأن هذه الفرقة. (الفرق بين الفرق ص 203 و التبصير ص 61 و مقالات الإسلاميين 1:
204).
(4) هم
فرقة من المرجئة. (راجع اللباب 1: 187).
166
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
6 - الصالحية ص : 167
تركهما على
نية القضاء لم يكفر، و من قتل نبيا أو لطمه كفر، لا من أجل القتل و اللطم، و لكن
من أجل الاستخفاف و العداوة و البغض.
و إلى هذا
المذهب ميل ابن الراوندي، و بشر المريسي، قالا: الإيمان هو التصديق بالقلب و
اللسان جميعا، و الكفر هو الجحود و الإنكار، و السجود للشمس و القمر و الصنم ليس
بكفر في نفسه و لكنه علامة الكفر.
6-
الصالحية
أصحاب صالح «1» بن عمر
الصالحي، و الصالحي، و محمد بن شبيب، و أبو شكر، و غيلان؛ كلهم جمعوا بين القدر و
الإرجاء، و نحن و إن شرطنا أن نورد مذاهب المرجئة الخالصة إلا أنه بدا لنا في
هؤلاء، لانفرادهم عن المرجئة بأشياء.
فأما الصالحي
فقال: الإيمان هو المعرفة باللّه تعالى على الإطلاق، و هو أن للعالم صانعا فقط، و
الكفر هو الجهل به على الإطلاق، قال: و قول القائل: ثالث ثلاثة، ليس بكفر لكنه لا
يظهر إلا من كافر، و زعم أن معرفة اللّه تعالى هي المحبة و الخضوع له. و يصح ذلك
مع حجة الرسول، و يصح في العقل أن يؤمن باللّه، و لا يؤمن برسوله، غير أن الرسول
عليه الصلاة و السلام قد قال: «من لا يؤمن بي فليس بمؤمن باللّه تعالى» و زعم أن
الصلاة ليست بعبادة اللّه تعالى، و أنه لا عبادة له إلا الإيمان به، و هو معرفته؛
و هو خصلة واحدة لا يزيد و لا ينقص، و كذلك الكفر خصلة واحدة لا يزيد و لا ينقص.
و أما أبو
شمر المرجئ القدري، فإنه زعم أن الإيمان هو المعرفة باللّه عز و جل، و المحبة و
الخضوع له بالقلب و الإقرار به أنه واحد ليس كمثله شيء، ما لم تقم عليه حجة
الأنبياء عليهم الصلاة و السلام، فإذا قامت الحجة فالإقرار بهم و تصديقهم من
الإيمان و المعرفة، و الإقرار بما جاءوا به من عند اللّه غير داخل في
______________________________
(1) في
«الفرق بين الفرق»، أنه من شيوخ المعتزلة و هو من الواقفية في وعيد مرتكبي الكبائر
و قد أجاز من اللّه تعالى مغفرة ذنوبهم من غير توبة.
167
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
تتمة رجال المرجئة كما نقل: ص : 168
الإيمان
الأصلي، و ليست كل خصلة من خصال الإيمان إيمانا و لا بعض إيمان، فإذا اجتمعت كانت
كلها إيمانا، و شرط في خصال الإيمان معرفة العدل، يريد به القدر خيره و شره من
العبد من غير أن يضاف إلى الباري تعالى منه شيء.
+++ و أما
غيلان بن مروان من القدرية المرجئة، فإنه زعم أن الإيمان هو المعرفة الثانية
باللّه تعالى، و المحبة و الخضوع له، و الإقرار بما جاء به الرسول، و بما جاء من
عند اللّه، و المعرفة الأولى فطرية ضرورية. فالمعرفة على أصله نوعان: فطرية، و هي
علمه بأن للعالم صانعا، و لنفسه خالقا، و هذه المعرفة لا تسمى إيمانا، إنما
الإيمان هو المعرفة الثانية المكتسبة.
تتمة رجال
المرجئة كما نقل:
الحسن بن
محمد بن عليّ بن أبي طالب، و سعيد «1» بن جبير، و طلق «2» بن حبيب، و
عمرو «3» بن مرة، و محارب «4» بن زياد، و مقاتل «5» بن سليمان،
و ذر «6»،
______________________________
(1) هو
سعيد بن جبير الأسدي بالولاء الكوفي أبو عبد اللّه: تابعي. كان أعلمهم على
الإطلاق، أخذ العلم عن عبد اللّه بن عباس و ابن عمر. كان ابن عباس إذا أتاه أهل
الكوفة يستفتونه، قال: أ تسألونني و فيكم ابن دهماء؟ يعني سعيدا. و لما خرج عبد
الرحمن بن محمد الأشعث على عبد الملك بن مروان كان سعيد معه إلى أن قتل عبد الرحمن
فذهب سعيد إلى مكة فقبض عليه واليها (خالد القسري) و أرسله إلى الحجاج فقتله
بواسط. توفي سنة 95 ه/ 714 م. (راجع الأعلام 3: 93).
(2) طلق
بن حبيب العنزي: من التابعين، صدوق في الحديث، كان يرى الأرجاء. ذكر فيمن مات بين
التسعين و المائة. (تهذيب التهذيب 5: 31).
(3) هو
عمرو بن مرّة المرادي الكوفي الأعمى. كان ثقة، دخل في الأرجاء فتهافت الناس فيه.
توفي سنة 118 ه. (تهذيب التهذيب 8: 102).
(4) و
الصحيح محارب بن دثار، و هو أبو المطرّف: قاضي الكوفة. كان فقيها فاضلا. ولي
القضاء لخالد بن عبد اللّه القسري. كان من المرجئة في علي و عثمان. و له في ذلك
شعر. توفي سنة 116 ه/ 734 م.
(راجع
تهذيب التهذيب 10: 49 و الجرح و التعديل: القسم الأول من الجزء الرابع ص 416).
(5) تقدمت
ترجمته.
(6) هو ذر
بن عبد اللّه بن زرارة المرهبي الهمذاني الكوفي. كان مرجئا و من عباد أهل الكوفة و
يقصّ. قتله الحجاج سنة 80 ه. (راجع تهذيب التهذيب 3: 218).
168
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
الفصل السادس الشيعة ص : 169
و عمرو «1» بن ذر، و
حماد «2» بن أبي سليمان، و أبو حنيفة، و أبو يوسف «3»، و محمد بن
الحسن، و قديد «4» بن جعفر.
و هؤلاء كلهم
أئمة الحديث، لم يكفروا أصحاب الكبائر بالكبيرة و لم يحكموا بتخليدهم في النار
خلافا للخوارج و القدرية.
الفصل
السادس الشيعة
الشيعة الذين
شايعوا عليا رضي اللّه عنه على الخصوص. و قالوا بإمامته و خلافته نصا و وصية، إما
جليا، و إما خفيا، و اعتقدوا أن الإمامة لا تخرج من أولاده، و إن خرجت فبظلم يكون
من غيره، أو بتقية من عنده. و قالوا: ليست الإمامة قضية مصلحية تناط باختيار
العامة و ينتصب الإمام بنصبهم، بل هي قضية أصولية، و هي ركن الدين، لا يجوز للرسل
عليهم الصلاة و السلام إغفاله و إهماله، و لا تفويضه إلى العامة و إرساله.
يجمعهم القول
بوجوب التعيين و التنصيص، و ثبوت عصمة الأنبياء و الأئمة وجوبا عن الكبائر و
الصغائر. و القول بالتولي و التبري قولا، و فعلا، و عقدا، إلا في حال التقية و
يخالفهم بعض الزيدية في ذلك، و لهم في تعدية الإمام كلام و خلاف كثير، و عند كل
تعدية و توقف: مقالة، و مذهب، و خبط.
______________________________
(1) هو
عمر بن ذر بن عبد اللّه بن زرارة الهمذاني الكوفي. كان يرى الأرجاء. توفي سنة 153
ه. (راجع تهذيب التهذيب 7: 444).
(2) هو
فقيه الكوفة كان يرمى بالأرجاء. كان جوادا كريما. لا يقول بخلق القرآن. توفي سنة
120 ه.
(تهذيب
التهذيب 3: 16).
(3) هو
القاضي أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم الكوفي صاحب أبي حنيفة توفي سنة 182 ه. (راجع
ابن خلكان 2: 400).
(4) كان
فقيها من أصحاب الرأي. أخذ عن أبي حنيفة و له يد في علم الكلام. (راجع الجواهر
المضيئة 1: 413).
169
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
1 - الكيسانية ص : 170
و هم خمس
فرق: كيسانية، و زيدية، و إمامية، و غلاة، و إسماعيلية، و بعضهم يميل في الأصول
إلى الاعتزال، و بعضهم إلى السنّة، و بعضهم إلى التشبيه.
1-
الكيسانيّة «1»
أصحاب كيسان «2»، مولى أمير
المؤمنين عليّ بن أبي طالب كرم اللّه وجهه، و قيل تلمذ للسيد محمد «3» بن الحنفية
رضي اللّه عنه، يعتقدون فيه اعتقادا فوق حده و درجته، من إحاطته بالعلوم كلها، و
اقتباسه من السيدين الأسرار بجملتها من علم التأويل و الباطن، و علم الآفاق، و
الأنفس.
و يجمعهم
القول بأن الدين طاعة رجل، حتى حملهم ذلك على تأويل الأركان الشرعية من الصلاة و
الصيام و الزكاة و الحج، و غير ذلك على رجال، فحمل بعضهم على ترك القضايا الشرعية
بعد الوصول إلى طاعة الرجل، و حمل بعضهم على ضعف الاعتقاد بالقيامة، و حمل بعضهم
على القول بالتناسخ و الحلول، و الرجعة بعد الموت. فمن مقتصر على واحد معتقد أنه
لا يموت، و لا يجوز أن يموت حتى يرجع، و من معتقد حقيقة الإمامة إلى غيره، ثم
متحسر عليه، متحير فيه، و من مدّع حكم الإمامة و ليس من الشجرة.
و كلهم حيارى
متقطعون، و من اعتقد أن الدين طاعة رجل و لا رجل له فلا دين له نعوذ باللّه من
الحيرة و الحور بعد الكور «4»، رب اهدنا السبيل.
______________________________
(1) راجع
في شأن هذه الفرقة. (الفرق بين الفرق ص 38 و نسبها إلى المختار بن أبي عبيد الثقفي
و مروج الذهب 3: 87 و مقالات الإسلاميين 1: 89 و جعلها أحدى عشرة فرقة).
(2) زعم
بعضهم أن «المختار» كان يقال له كيسان.
(3) تقدمت
ترجمته. توفي سنة 81 ه.
(4) نعوذ
باللّه من الحور بعد الكور، الحور: النقصان و الرجوع، و الكور: الزيادة، أخذ من
كور العمامة.
و قيل:
الرجوع بعد الاستقامة و النقصان بعد الزيادة. و روي عن النبي صلّى اللّه عليه و
سلّم أنه كان يتعوذ من الحور بعد الكور أي من النقصان بعد الزيادة.
170
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
1 - الكيسانية ص : 170
(أ)
المختارية: أصحاب المختار «1» بن أبي عبيد الثقفي، كان خارجيا، ثم
صار زبيريا، ثم صار شيعيا و كيسانيا. قال بإمامة محمد بن الحنفية بعد أمير
المؤمنين عليّ رضي اللّه عنهما. و قيل لا، بل بعد الحسن و الحسين رضي اللّه عنهما،
و كان يدعو الناس إليه، و كان يظهر أنه من رجاله و دعاته، و يذكر علوما مزخرفة
بترهاته ينوطها به.
و لما وقف
محمد بن الحنفية على ذلك تبرأ منه، و أظهر لأصحابه أنه إنما نمس «2» على الخلق
ذلك ليتمشى أمره، و يجتمع الناس عليه.
و إنما انتظم
له ما انتظم بأمرين: أحدهما انتسابه إلى محمد بن الحنفية علما و دعوة. و الثاني:
قيامه بثأر الحسين بن عليّ رضي اللّه عنهما، و اشتغاله ليلا و نهارا بقتال الظلمة
الذين اجتمعوا على قتل الحسين.
فمن مذهب
المختار: أنه يجوز البداء «3» على اللّه تعالى، و البداء له معاني:
البداء في
العلم و هو أنه يظهر له خلاف ما علم، و لا أظن عاقلا يعتقد هذا الاعتقاد.
______________________________
(1) هو
المختار بن أبي عبيد بن مسعود بن عمرو الثقفي: الذي خرج يطلب بثأر الحسين بن علي،
و هو الذي جهّز الجيش لحرب عبيد اللّه بن زياد بقيادة إبراهيم بن الأشتر النخعي
فكانت بينهم موقعة عظيمة قتل فيها ابن مرجانة عبيد اللّه بن زياد. كان ذلك في عهد
عبد الملك بن مروان. و في سنة 67 ه. سار مصعب بن الزبير منزل حروراء و التقى
بالمختار فكانت بينهم معركة قتل فيها المختار سنة 67 ه. (راجع مروج الذهب 3: 104 و
أسد الغابة 4: 336 و لسان الميزان 6: 6).
(2) نمس:
من الناموس. و الناموس ما ينمس به الرجل من الاحتيال. و الناموس المكر و الخداع. و
التنميس:
التلبيس.
(3) السبب
الذي جوّزت الكيسانية البداء على اللّه تعالى أن مصعب بن الزبير بعث إليه عسكرا
قويا فبعث المختار إلى قتالهم أحمد بن شميط مع ثلاثة آلاف من المقاتلة و قال لهم أوحي
إلي أن الظفر يكون لكم فهزم ابن شميط فيمن كان معه، فعاد إليه فقال: أين الظفر
الذي وعدتنا؟ فقال له المختار: هكذا كان قد وعدني ثم بدا فإنه سبحانه و تعالى قد
قال: يمحو اللّه ما يشاء و يثبت و عنده أمّ الكتاب. و البداء ظهور الرأي بعد إن لم
يكن. و البدائية هم الذين جوّزوا البداء على اللّه عز و جل بأن يعتقد شيئا ثم يظهر
له أن الأمر بخلاف ما اعتقده، و هذا باطل لأن علم اللّه من لوازم ذاته المخصوصة، و
ما كان كذلك كان دخول التغيّر و التبدل فيه محالا تعالى اللّه عن قولهم علوا
كبيرا. (التبصير ص 20 و التعريفات ص 29 و تفسير الرازي 5: 216).
171
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
1 - الكيسانية ص : 170
و البداء في
الإرادة، و هو أن يظهر له صواب على خلاف ما أراد و حكم.
و البداء في
الأمر، و هو أن يأمر بشيء، ثم يأمر بشيء آخر بعده بخلاف ذلك؛ و من لم يجوّز
النسخ ظن أن الأوامر المختلفة في الأوقات المختلفة متناسخة.
و إنما صار
المختار إلى اختيار القول بالبداء، لأنه كان يدعي علم ما يحدث من الأحوال إما بوحي
يوحى إليه، و إما برسالة من قبل الإمام. فكان إذا وعد أصحابه بكون شيء و حدوث
حادثة، فإن وافق كونه قوله، جعله دليلا على صدق دعواه، و إن لم يوافق قال: قد بدا
لربكم.
و كان لا
يفرق بين النسخ و البداء، قال: إذا جاز النسخ في الأحكام، جاز البداء في الأخبار.
و قد قيل: إن
السيد محمد بن الحنفية تبرأ من المختار حين وصل إليه أنه قد لبس على الناس أنه من
دعاته و رجاله، و تبرأ من الضلالات التي ابتدعها المختار من التأويلات الفاسدة، و
المخاريق المموّهة.
فمن مخاريقه:
أنه كان عنده كرسي «1» قديم قد غشاه بالديباج، و زينه بأنواع الزينة
و قال: هذا من ذخائر أمير المؤمنين عليّ كرم اللّه وجهه، و هو عندنا بمنزلة
______________________________
(1) قال
ابن الأثير (4: 100) في قصة الكرسي هذه: «قال الطفيل بن جعدة: أضقنا إضاقة شديدة
فخرجت يوما فإذا جار لي زيات عنده كرسي ركبه الوسخ فقلت في نفسي: لو قلت للمختار
في هذا شيئا. فأخذته من الزيات و غسلته فخرج عود نضار قد شرب الدهن و هو أبيض،
فقلت للمختار: إني كنت أكتمك شيئا و قد بدا لي أن أذكره لك. إن أبي جعدة كان يجلس
على كرسي عندنا و يروي أن فيه أثرا من عليّ. قال: سبحان اللّه، أخّرته إلى هذا
الوقت؟ ابعث به. فأحضرته عنده و قد غشي فأمر لي باثني عشر ألفا. ثم دعا الصلاة
جامعة، فاجتمع الناس فقال المختار إنه لم يكن في الأمم الخالية أمر إلّا و هو كائن
في هذه الأمة مثله، و إن كان في بني إسرائيل التابوت و إن هذا فينا مثل التابوت
فكشفوا عنه و قامت السبئية فكبروا ثم لم يلبثوا أن أرسل المختار الجند لقتال ابن
زياد و خرج بالكرسي على بغل و قد غشي فقتل أهل الشام مقتلة عظيمة فزادهم ذلك فتنة
و قد قال أعشى همدان:
شهدت عليكم
إنكم سبئية
|
|
و إني بكم
يا شرطة الشرك عارف
|
فأقسم ما
كرسيّكم بسكينة
|
|
و إن كان
قد لفّت عليه اللفائف»
|
172
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
1 - الكيسانية ص : 170
التابوت لبني
إسرائيل، و كان إذا حارب خصومه يضعه في براح الصف و يقول:
قاتلوا و لكم
الظفر و النصرة، و هذا الكرسي محله فيكم محل التابوت في بني إسرائيل، و فيه
السكينة و البقية، و الملائكة من فوقكم ينزلون مددا لكم، و حديث الحمامات البيض
التي ظهرت في الهواء، و قد أخبرهم قبل ذلك بأن الملائكة تنزل على صورة الحمامات
البيض، معروف. و الإسجاع «1» التي ألفها أبرد تأليف مشهورة.
و إنما حمله
على الانتساب إلى محمد بن الحنفية حسن اعتقاد الناس فيه، و امتلاء القلوب بمحبته،
و السيد محمد بن الحنفية، كان كثير العلم غزير المعرفة، وقّاد الفكر، مصيب الخاطر
في العواقب، قد أخبره أمير المؤمنين عليّ رضي اللّه عنه عن أحوال الملاحم و أطلعه
على مدارج المعالم، و قد اختار العزلة، فآثر الخمول على الشهرة، و قد قيل إنه كان
مستودعا علم الإمامة حتى سلم الأمانة إلى أهلها، و ما فارق الدنيا إلا و قد أقرها
في مستقرها.
و كان السيد «2» الحميريّ، و
كثيّر «3» عزة الشاعر من شيعته. قال كثير فيه:
______________________________
(1) تحدث
ابن الأثير (4: 73 و 108) عن هذه الإسجاع فقال: «خرج المختار و أصحابه معهم الكرسي
يحملونه على بغل أشهب و هم يدعون اللّه بالنصر، فلما رآهم المختار قال: أما و ربّ
المرسلات عرفا، لتقتلن بعد صفا صفّا، و بعد ألف قاسطين ألفا. و لما سجن كان يقول:
أما و ربّ البحار، و النخل و الأشجار، و المهامة و القفار، و الملائكة الأبرار، و
المصطفين الأخيار، لأقتلنّ كل جبّار، بكل لون خطّار، و مهنّد بتّار، بجموع
الأنصار، ليس بمثل أغمار، و لا بغرار أشرار، حتى إذا أقمت عمود الدين، و زايلت شعب
صدع المسلمين، و شفيت غليل صدور المؤمنين، و أدركت ثأر النبيّين، لم يكبر عليّ
زوال الدنيا و لم أحفل بالموت إذا أتى».
(2) السيد
الحميري: هو إسماعيل بن محمد بن يزيد بن ربيعة بن مفرغ الحميري. أبو هاشم أو أبو
عامر.
شاعر إمامي
متقدم. كان أبو عبيدة يقول: أشعر المحدثين السيد الحميري و بشّار. كان يتعصّب لبني
هاشم و أكثر شعره في مدحهم. توفي سنة 173 ه/ 789 م. (راجع الأغاني تحقيق عبد
الأمير علي مهناط دار الكتب العلمية 7: 248).
(3) هو
أبو صخر عبد الرحمن الخزاعي الشاعر المشهور أحد عشّاق العرب، و هو صاحب عزّة بنت
حميل.
توفي سنة
105 ه. (راجع الأغاني تحقيق عبد الأمير علي مهنا 9: 5).
173
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
1 - الكيسانية ص : 170
ألا إنّ
الأئمّة من قريش
|
|
ولاة الحقّ
أربعة سواء
|
عليّ و
الثّلاثة «1» من بنيه
|
|
هم الأسباط
ليس بهم خفاء
|
فسبط سبط «2» إيمان و
برّ
|
|
و سبط «3» غيّبته
كربلاء
|
و سبط «4» لا يذوق
الموت حتّى
|
|
يقود الخيل
يقدمه اللّواء
|
تغيّب لا
يرى فيهم زمانا
|
|
برضوى «5» عنده عسل و
ماء
|
و كان السيد
الحميري أيضا يعتقد فيه أنه لم يمت، و أنه في جبل رضوى بين أسد و نمر يحفظانه، و
عنده عينان نضّاختان تجريان بماء و عسل، و أنه يعود بعد الغيبة فيملأ الأرض عدلا
كما ملئت جورا، و هذا هو أول حكم بالغيبة، و العودة بعد الغيبة حكم به الشيعة.
ثم اختلفت
الكيسانية بعد انتقال محمد بن الحنفية في سوق الإمامة، و صار كل اختلاف مذهبا.
+++ (ب)
الهاشمية: أتباع أبي هاشم «6» بن محمد بن الحنفية، قالوا بانتقال
محمد بن الحنفية إلى رحمة اللّه و رضوانه، و انتقال الإمامة منه إلى ابنه أبي
هاشم، قالوا: فإنه أفضى إليه أسرار العلوم، و أطلعه على مناهج تطبيق الآفاق على
الأنفس، و تقدير التنزيل على التأويل، و تصوير الظاهر على الباطن. قالوا: إن لكل
ظاهر باطنا، و لكل شخص روحا، و لكل تنزيل تأويلا. و لكل مثال في هذا العالم
______________________________
(1)
الثلاثة من بنيه، يعني بهم: محمد بن الحنفية، و الحسن، و الحسين.
(2) يعني
بسبط الإيمان الحسن بن علي.
(3) السبط
الذي غيبته كربلاء يعني به الحسين بن علي و قد قتل في كربلاء بالعراق.
(4) السبط
الذي لا يذوق الموت (و في رواية: لا تراه العين) هو محمد بن الحنفية.
(5) رضوى:
جبل عند ينبع لجهينة بينه و بين الحوراء، و الحوراء: فرضة من فرض البحر ترفأ إليها
السفن مصر و هو الجبل الذي يزعم الكيسانية أن محمد بن الحنفية مقيم به. و جبل رضوى
على مسيرة يوم من ينبع إلى المدينة. (معجم البلدان 3: 51).
(6) تقدمت
ترجمته.
174
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
1 - الكيسانية ص : 170
حقيقة في ذلك
العالم. و المنتشر في الآفاق من الحكم و الأسرار يجتمع في الشخص الإنساني، و هو
العلم الذي استأثر عليّ رضي اللّه عنه به ابنه محمد بن الحنفية، و هو أفضى ذلك
السر إلى ابنه أبي هاشم، و كل من اجتمع فيه هذا العلم فهو الإمام حقا.
و اختلف بعد
أبي هاشم شيعته خمس فرق:
1- فرقة
قالت: إن أبا هاشم مات منصرفا من الشام بأرض الشراة «1»، و أوصى إلى
محمد بن عليّ بن عبد اللّه بن عباس، و انجرت في أولاده الوصية حتى صارت الخلافة
إلى بني العباس، قالوا: و لهم في الخلافة حق لاتصال النسب، و قد توفي رسول اللّه
صلّى اللّه عليه و سلّم و عمه العباس أولى بالوراثة.
2- و فرقة
قالت: إن الإمامة بعد موت أبي هاشم لابن أخيه الحسن بن عليّ بن محمد بن الحنفية.
3- و فرقة
قالت: لا، بل إن أبا هاشم أوصى إلى أخيه عليّ بن محمد، و عليّ أوصى إلى ابنه
الحسن، فالإمامة عندهم في بني الحنفية لا تخرج إلى غيرهم.
4- و فرقة
قالت: إن أبا هاشم أوصى إلى عبد اللّه بن عمرو بن الكندي، و إن الإمامة خرجت من
أبي هاشم إلى عبد اللّه، و تحوّلت روح أبي هاشم إليه.
و الرجل ما
كان يرجع إلى علم و ديانة، فاطلع بعض القوم على خيانته و كذبه، فأعرضوا عنه، و
قالوا: بإمامة عبد اللّه «2» بن معاوية بن عبد اللّه بن جعفر بن
أبي طالب.
و كان من
مذهب عبد اللّه: أن الأرواح تتناسخ من شخص إلى شخص، و أن
______________________________
(1)
الشراة: صقع بالشام بين دمشق و مدينة الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم و من بعض
نواحيه القرية المعروفة بالحميمة كان يسكنها ولد علي بن عبد اللّه بن عباس أيام
بني مروان.
(2)
تقدّمت ترجمته.
175
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
1 - الكيسانية ص : 170
الثواب و
العقاب في هذه الأشخاص، إما أشخاص بني آدم، و إما أشخاص الحيوانات قال: و روح
اللّه تناسخت حتى وصلت إليه و حلت فيه، و ادعى الإلهية و النبوة معا، و أنه يعلم
الغيب، فعبده الحمقى، و كفروا بالقيامة لاعتقادهم أن التناسخ يكون في الدنيا و
الثواب و العقاب في هذه الأشخاص، و تأول قول اللّه تعالى: لَيْسَ عَلَى
الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا
اتَّقَوْا «1» الآية. على أن من وصل إلى الإمام و عرفه ارتفع عنه الحرج
في جميع ما يطعم، و وصل إلى الكمال و البلاغ.
و عنه نشأت:
الخرّميّة، و المزدكية بالعراق. و هلك عبد اللّه بخراسان، و افترقت أصحابه. فمنهم
من قال إنه حي لم يمت و يرجع.
و منهم من
قال بل مات و تحولت روحه إلى إسحاق بن زيد الحارث الأنصاري، و هم الحارثية الذين
يبيحون المحرمات، و يعيشون عيش من لا تكليف عليه.
و بين أصحاب
عبد اللّه بن معاوية، و بين أصحاب محمد بن علي خلاف شديد في الإمامة. فإن كل واحد
منهما يدعي الوصية من أبي هاشم إليه، و لم يثبت الوصية على قاعدة تعتمد.
(ج)
البيانيّة: «2» أتباع بيان «3» بن سمعان التميمي. قالوا بانتقال
الإمامة من أبي هاشم إليه. و هو من الغلاة القائلين بإلهية أمير المؤمنين علي رضي
اللّه عنه.
قال: حل في
عليّ جزء إلهي، و اتحد بجسده، فيه كان يعلم الغيب، إذ أخبر عن الملاحم و صح الخبر.
و به كان يحارب الكفار و له النصرة و الظفر. و به قلع باب
______________________________
(1) سورة
المائدة: الآية 93.
(2) راجع
في شأن هذه الفرقة. (الفرق بين الفرق ص 236 و التبصير ص 72 و شرح المواقف 8: 358 و
اعتقادات فرق المسلمين ص 57 و كامل ابن الأثير 5: 82).
(3) تقدمت
ترجمته. ظهر بالعراق في أوائل القرن الثاني من الهجرة.
176
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
1 - الكيسانية ص : 170
خيبر. و عن
هذا قال: و اللّه ما قلعت باب خيبر بقوة جسدانية، و لا بحركة غذائية، و لكن قلعته
بقوة رحمانية ملكوتية، بنور ربها مضيئة. فالقوة الملكوتية في نفسه كالمصباح في
المشكاة، و النور الإلهي كالنور في المصباح. قال: و ربما يظهر عليّ في بعض
الأزمان. و قال في تفسير قوله تعالى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ
يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ «1» أراد به
عليا فهو الذي يأتي في الظل، و الرعد صوته، و البرق تبسمه.
ثم ادعى بيان
أنه قد انتقل إليه الجزء الإلهي بنوع من التناسخ، و لذلك استحق أن يكون إماما و
خليفة، و ذلك الجزء هو الذي استحق به آدم عليه السلام سجود الملائكة.
و زعم أن
معبوده على صورة إنسان عضوا فعضوا، و جزءا فجزءا. و قال:
يهلك كله إلا
وجهه لقوله تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ «2».
و مع هذا
الخزي الفاحش كتب إلى محمد بن علي بن الحسين الباقر رضي اللّه عنهم و دعاه إلى
نفسه. و في كتابه «أسلم تسلم، و يرتقي من سلم. فإنك لا تدري حيث يجعل اللّه
النبوة» «3» فأمر الباقر أن يأكل الرسول قرطاسه الذي جاء به، فأكله،
فمات في الحال و كان اسم ذلك الرسول عمر بن أبي عفيف.
و قد اجتمعت
طائفة على بيان بن سمعان، و دانوا به و بمذهبه، فقتله خالد «4» بن عبد
اللّه القسري على ذلك و قيل أحرقه و الكوفي المعروف بالمعروف بن سعيد بالنار معا.
______________________________
(1) سورة
البقرة: الآية 210.
(2) سورة
القصص: الآية 88.
(3) ادعى
بيان بعد وفاة أبي هاشم النبوة و كتب إلى أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين يدعوه
إلى نفسه و الإقرار بنبوته و يقول له أسلم تسلم و ترتق في سلم و تنج و تغنم فإنك
لا تدري أين يجعل اللّه النبوة و الرسالة و ما على الرسول إلّا البلاغ و قد أعذر
من أنذر. فأمر أبو جعفر رسول بيان فأكل قرطاسة الذي جاء به. (راجع فرق الشيعة ص
34).
(4) هو
خالد بن عبد اللّه بن يزيد بن أسد القسري من بجيلة، أبو الهيثم، أمير العراقين، من
أهل دمشق ولي مكة سنة 89 ه للوليد بن عبد الملك ثم ولّاه هشام العراقين سنة 105 ه
فأقام بالكوفة. عزله هشام-
177
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
1 - الكيسانية ص : 170
(د)
الرّزامية «1»: أتباع رزام بن رزم. ساقوا الإمامة من علي إلى ابنه محمد.
ثم إلى ابنه هاشم. ثم منه إلى علي بن عبد اللّه بن عباس بالوصية، ثم ساقوها إلى
محمد بن علي و أوصى محمد إلى ابنه: إبراهيم الإمام و هو صاحب أبي مسلم الذي دعا
إليه و قال بإمامته. و هؤلاء ظهروا بخراسان في أيام أبي مسلم حتى قيل إن أبا مسلم
كان على هذا المذهب، لأنهم ساقوا الإمامة إلى أبي مسلم، فقالوا: له حظ في الإمامة
و ادعوا حلول روح الإله فيه. و لهذا أيده على بني أمية حتى قتلهم عن بكرة أبيهم و
اصطلمهم «2». و قالوا بتناسخ الأرواح.
و المقنّع «3» الذي ادّعى
الإلهية لنفسه على مخاريق أخرجها كان في الأول على
______________________________
- سنة 120
ه و ولى مكانه يوسف بن عمر الثقفي و أمره أن يحاسبه فسجنه يوسف و عذبه ثم قتله في
أيام الوليد بن يزيد. توفي سنة 126 ه/ 743 م. (راجع الأغاني ج 22 تحقيق الأستاد
سمير جابر ط. دار الكتب العلمية ص 5 و تهذيب ابن عساكر 5: 67).
(1) راجع
في شأن هذه الفرقة. (الفرق بين الفرق ص 256 و مقالات الإسلاميين 1: 94 و التبصير
76 و في «تاج العروس» 8: 312») أنهم طائفة من غلاة الشيعة يقولون بإمامة أبي مسلم
الخراساني بعد المنصور. و منهم من يدعي الإلهية. منهم المقنّع الذي أظهر لهم القمر
في تخشب و على رأيه اليوم جماعة فيما وراء النهر.
(2) و
الاصطلام: إذا أبيد قوم من أصلهم قيل اصطلموا. و اصطلمهم: استأصلهم. (اللسان مادة
صلم).
(3) هو
عطاء الساحر، المقنع الخراساني. كان في مبدأ أمره قصارا من أهل مرو، و كان يعرف
شيئا من السحر و النيرنجات فادعى الربوبية من طريق التناسخ، و كان مشوّه الخلق
أعور ألكن قصيرا. و كان لا يسفر عن وجهه بل اتخذ وجها من ذهب فتقنّع به، فلذلك قيل
له المقنّع. و قد غلب على العقول بتمويهاته و سحره، و من جملة ما أظهر لهم صورة
قمر يطلع و يراه الناس من مسافة شهر من موضعه ثم يغيب. فعظم اعتقادهم فيه. و قد
ذكر المعري هذا القمر في قوله:
أفق إنما
البدر المقنّع رأسه
|
|
ضلال و غيّ
مثل بدر المقنّع
|
و إليه
أشار ابن سناء الملك في قوله:
إليك فما
بدر المقنّع طالعا
|
|
بأسحر من
ألحاظ بدر المعمّم
|
و لما
اشتهر أمره ثار عليه الناس و قصدوه في قلعته التي اعتصم بها و حصروه فلما أيقن
بالهلاك جمع نساءه و سقاهن سما فمتن منه. ثم تناول شربة من ذلك السمّ فمات. و دخل
المسلمون قلعته فقتلوا من فيها من أشياعه و أتباعه و ذلك في سنة 163 ه. (راجع ابن
خلكان 1: 402 و الذهبي في حوادث سنة 161 ه و العبر 1: 235، 240).
178
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
2 - الزيدية ص : 179
هذا المذهب و
تابعه مبيّضة «1» ما وراء النهر. و هؤلاء صنف من الخزاميّة «2» دانوا بترك
الفرائض و قالوا الدين معرفة الإمام فقط. و منهم من قال: الدين أمران: معرفة
الإمام، و أداء الأمانة. و من حصل له الأمران فقد وصل إلى الكمال، و ارتفع عنه
التكليف. و من هؤلاء من ساق الإمامة إلى محمد بن علي بن عبد اللّه بن عباس من أبي
هاشم محمد بن الحنفية وصية إليه، لا من طريق آخر.
و كان أبو
مسلم صاحب الدولة على مذهب الكيسانية في الأول. و اقتبس من دعاتهم العلوم التي
اختصوا بها، و أحسن منهم أن هذه العلوم مستودعة فيهم، فكان يطلب المستقر فيه، فبعث
إلى الصادق جعفر بن محمد رضي اللّه عنهما: إني قد أظهرت الكلمة، و دعوت الناس عن
موالاة بني أمية إلى موالاة أهل البيت، فإن رغبت فيه، فلا مزيد عليك.
فكتب إليه
الصادق رضي اللّه عنه: ما أنت من رجالي، و لا الزمان زماني.
فحاد أبو
مسلم إلى أبي العباس عبد اللّه بن محمد السفاح، و قلده أمر الخلافة.
2- الزيدية
أتباع زيد «3» بن علي بن
الحسين بن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنهم.
ساقوا
الإمامة في أولاد فاطمة رضي اللّه عنها، و لم يجوزوا ثبوت الإمامة في غيرهم، إلا
أنهم جوزوا أن يكون كل فاطمي عالم شجاع سخي خرج بالإمامة، أن يكون
______________________________
(1) في
الفرق بين الفرق ص 257: «و أما المقنّعية فهم المبيّضة بما وراء نهر جيحون و كان
زعيمهم المعروف بالمقنّع ...».
(2)
الخرمية: اسم لأصحاب التناسخ و الحلول و الإباحة، كانوا في زمن المعتصم فقتل شيخهم
بابك و تشتتوا في البلاد. و قد بقيت منهم في جبال الشام بقية ينسبون إلى بابك
الخرمي الطاغية الذي كاد أن يستولي على الممالك زمن المعتصم و كان يرى رأي
المزدكية من المجوس الذين خرجوا أيام قباذ و أباحوا النساء و المحرمات و قتلهم
أنوشروان. (راجع التاج 8: 272).
(3) هو
أبو الحسين العلوي الهاشمي القرشي. يقال له: «زيد الشهيد» توفي سنة 122 ه/ 740 م.
(تقدمت ترجمته).
179
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
2 - الزيدية ص : 179
إماما واجب
الطاعة: سواء كان من أولاد الحسن، أو من أولاد الحسين رضي اللّه عنهما. و عن هذا
جوّز قوم منهم إمامة محمد و إبراهيم الإمامين ابني عبد اللّه بن الحسن بن الحسن
اللذين خرجا في أيام المنصور و قتلا على ذلك. و جوزوا خروج إمامين في قطرين
يستجمعان هذه الخصال، و يكون كل واحد منهما واجب الطاعة.
و زيد بن
علي، لما كان مذهبه هذا المذهب، أراد أن يحصل الأصول و الفروع حتى يتحلى بالعلم،
فتلمذ في الأصول لواصل بن عطاء الغزال الألثغ رأس المعتزلة و رئيسهم، مع اعتقاد و
اصل أن جده علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه في حروبه التي جرت بينه و بين أصحاب
الجمل و أهل الشام ما كان على يقين من الصواب. و أن أحد الفريقين منهما كان على
الخطأ لا بعينه. فاقتبس منه الاعتزال، و صارت أصحابه كلهم معتزلة و كان من مذهبه
جواز إمامة المفضول مع قيام الأفضل. فقال: كان علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه أفضل
الصحابة، إلا أن الخلافة فوضت إلى أبي بكر لمصلحة رأوها، و قاعدة دينية راعوها، من
تسكين نائرة «1» الفتنة، و تطييب قلوب العامة. فإن عهد الحروب التي جرت في
أيام النبوة كان قريبا، و سيف أمير المؤمنين عليّ عن دماء المشركين من قريش و
غيرهم لم يجفّ بعد، و الضغائن في صدور القوم من طلب الثأر كما هي. فما كانت القلوب
تميل إليه كل الميل، و لا تنقاد له الرقاب كل الانقياد.
فكانت
المصلحة أن يكون القائم بهذا الشأن من عرفوه باللين، و التؤدة، و التقدم بالسن، و
السبق في الإسلام، و القرب من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم. ألا ترى أنه لما
أراد في مرضه الذي مات فيه تقليد الأمر عمر بن الخطاب زعق الناس و قالوا: لقد وليت
علينا فظا غليظا. فما كانوا يرضون بأمير المؤمنين عمر بن الخطاب لشدته و صلابته.
و غلظه في
الدين، و فظاظته على الأعداء حتى سكنهم أبو بكر بقوله: «لو سألني
______________________________
(1) يقال:
نأرت نائرة في الناس: هاجت هائجة. و يقال: نارت بغير همز.
180
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
2 - الزيدية ص : 179
ربي لقلت: و
ليت عليهم خيرهم لهم» «1» و كذلك يجوز أن يكون المفضول إماما و الأفضل
قائم فيرجع إليه في الأحكام، و يحكم بحكمه في القضايا.
و لما سمعت
شيعة الكوفة هذه المقالة منه، و عرفوا أنه لا يتبرأ من الشيخين رفضوه حتى أتى قدره
عليه، فسميت رافضة.
و جرت بينه و
بين أخيه الباقر محمد بن علي مناظرات لا من هذا الوجه، بل من حيث كان يتلمذ لواصل
بن عطاء، و يقتبس العلم ممن يجوز الخطأ على جده في قتال الناكثين، و القاسطين «2»، و
المارقين. و من حيث يتكلم في القدر على غير ما ذهب إليه أهل البيت: و من حيث أنه
كان يشترط الخروج شرطا في كون الإمام إماما، حتى قال له يوما: على مقتضى مذهبك و
والدك ليس بإمام، فإنه لم يخرج قط، و لا تعرض للخروج.
و لما قتل
زيد بن علي و صلب «3» قام بالإمامة بعده يحيى «4» بن زيد، و
مضى إلى خراسان، و اجتمعت عليه جماعة كثيرة. و قد وصل إليه الخبر من الصادق
______________________________
(1) في
سيرة عمر لابن الجوزي (ص 49 و 51): «لما حضرت أبا بكر الوفاة، بعث إلى عمر
يستخلفه. فقال الناس: استخلف علينا فظا غليظا لو قد ملكنا كان أفظ و أغلظ فما ذا
تقول لربّك إذا لقيته و قد استخلفت علينا عمر؟ فقال أبو بكر أ تخوّفونني بربي؟!
أقول يا رب أمرّت عليهم خير أهلك. ثم أمر من يجمله إلى المنبر فحمد اللّه و أثنى
عليه ثم قال ...».
(2) قسط:
جار و حاد عن الحق.
(3) كتب
عامل العراق يوسف بن عمر الثقفي إلى الحكم بن الصلت و هو في الكوفة أن يقاتل زيدا،
ففعل.
و نشبت
معارك انتهت بمقتل زيد في الكوفة و حمل رأسه إلى الشام فنصب على باب دمشق. ثم أرسل
إلى المدينة فنصب عند قبر النبي صلّى اللّه عليه و سلّم يوما و ليلة، و حمل إلى
مصر فنصب بالجامع، فسرقه أهل مصر و دفنوه. (راجع الإعلام للزركلي 3: 59).
(4) لما
قتل زيد بن علي سنة 121 ه كان ابنه يحيى لم يزل مختفيا في خراسان حتى مات هشام،
فظهر أيام الوليد بن يزيد منكرا للظلم فسار إليه نصر بن سيار فعثر به فحبسه فكتب
الوليد بإطلاقه و إرساله إليه بصحبة أصحابه فأطلقهم و أطلق لهم و جهّزهم إلى دمشق،
فلما كانوا ببعض الطريق توسّم نصر منه غدرا، فبعث إليه جيشا عشرة آلاف مقاتل فكسرهم
يحيى و كان معه سبعون رجلا، و قتل أميرهم و استلب منهم أموالا كثيرة ثم جاءه جيش
آخر فقتل يحيى في المعركة أصابه سهم في صدغه بقرية يقال لها أرغونة سنة 126 ه و
دفن بها و قبره مشهور. (ابن كثير 10: 5 و شذرات 1: 167).
181
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
2 - الزيدية ص : 179
جعفر بن محمد
بأنه يقتل كما قتل أبوه، و يصلب كما صلب أبوه، فجرى عليه الأمر كما أخبر.
و قد فوض
الأمر بعده إلى محمد و إبراهيم الإمامين، و خرجا بالمدينة، و مضى إبراهيم إلى
البصرة، و اجتمع عليهما، و قتلا أيضا. و أخبرهم الصادق بجميع ما تم عليهم، و عرفهم
أن آباءه رضي اللّه عنهم أخبروه بذلك كله، و أن بني أمية يتطاولون على الناس، حتى
لو طاولتهم الجبال لطالوا عليها و هم يستشعرون بغض أهل البيت و لا يجوز أن يخرج
واحد من أهل البيت حتى يأذن اللّه تعالى بزوال ملكهم. و كان يشير إلى أبي العباس «1»، و إلى أبي
جعفر ابني محمد بن علي بن عبد اللّه بن العباس. و قال: إنا لا نخوض في الأمر حتى
يتلاعب به هذا و أولاده، و أشار إلى المنصور.
فزيد بن علي
قتل بكناسة «2» الكوفة، قتله هشام «3» بن عبد
الملك.
و يحيى بن
زيد قتل بجوزجان «4» خراسان، قتله أميرها. و محمد الإمام قتل بالمدينة، قتله
عيسى «5» بن ماهان و إبراهيم الإمام قتل بالبصرة، أمر بقتلهما
______________________________
(1) أبو
العباس السفّاح عبد اللّه بن محمد بن علي بن عبد اللّه بن عباس أول خلفاء بني
العباس.
(2)
الكناسة: محلة بالكوفة عندها واقع يوسف بن عمر الثقفي زيد بن علي بن الحسين بن علي
بن أبي طالب و فيها يقول الشاعر:
يا أيها
الراكب الغادي لطيته
|
|
يؤم بالقوم
أهل البلدة الحرم
|
أبلغ قبائل
عمرو إن أتيتهم
|
|
أو كنت من
دارهم يوما على أمم
|
أنّا وجدنا
قفيرا في بلادكم
|
|
أهل
الكناسة أهل اللؤم و العدم
|
أرض تغيّر
أحساب الرجال بها
|
|
كما رسمت بياض
الرّيط بالحمم
|
(راجع
معجم البلدان 4: 481).
(3) من
ملوك الدولة الأموية في الشام. بويع بالخلافة بعد وفاة أخيه يزيد سنة 105 ه. و
توفي سنة 125 ه/ 743 م.
(4)
جوزجان: اسم كورة واسعة من كور بلخ بخراسان، و هي بين مروالروذ و بلخ، من مدنها
الأنبار.
(راجع معجم
البلدان 2: 182).
(5) قال
ابن الأثير (ص 5: 118): «الذي أرسله المنصور إلى محمد بن عبد اللّه، هو ابن أخيه
عيسى بن موسى، فسار إلى المدينة لقتال محمد، فأرسل إليه يخبره أن المنصور قد أمنه
و أهله، فأعاد الجواب:-
182
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
2 - الزيدية ص : 179
المنصور «1».
و لم ينتظم
أمر الزيدية بعد ذلك حتى ظهر بخراسان صاحبهم ناصر الأطروش «2» فطلب مكانه
ليقتل فاختفى و اعتزل الأمر، و صار إلى بلاد الديلم و الجبل و لم يتحلوا بدين
الإسلام بعد. فدعا الناس دعوة إلى الإسلام على مذهب زيد بن علي، فدانوا بذلك و
نشئوا عليه و بقيت الزيدية في تلك البلاد ظاهرين.
و كان يخرج
واحد بعد واحد من الأئمة و يلي أمرهم. و خالفوا بني أعمامهم من الموسوية في مسائل
الأصول. و مالت أكثر الزيدية بعد ذلك عن القول بإمامة المفضول، و طعنت في الصحابة
طعن الإمامية. و هم أصناف ثلاثة: جاروديّة، و سليمانية، و بترية، و الصالحية منهم
و البترية على مذهب واحد.
(أ)
الجارودية «3»: أصحاب أبي الجارود «4» زياد بن أبي
زياد. زعموا أن
______________________________
- يا هذا،
إني و اللّه ما أنا منصرف عن هذا الأمر حتى ألقي القبض عليه، فقال عيسى ليس بيننا
و بينه إلّا القتال. و قد قاتل محمد يومئذ قتالا عظيما فقتل بيده سبعين رجلا ثم
اشتد القتال فهزمت أصحاب عيسى ثم نشب القتال فطعنه حميد بن قحطبة في صدره فصرعه ثم
نزل إليه فأخذ رأسه و أتى به عيسى و هو لا يعرف من كثرة الدماء، و لما قتل محمد
أقام عيسى بالمدينة أياما ثم سار عنها يريد مكة معتمرا ثم استخلف على المدينة كثير
بن خضير».
(1) هو
عبد اللّه بن محمد بن علي بن العباس أبو جعفر المنصور: ثاني خلفاء بني العباس ولي
الخلافة بعد أخيه السفاح سنة 136 ه. و توفي سنة 158 ه/ 775 م.
(2) ناصر
الأطروش: هو الحسن بن علي بن الحسن بن عمر بن علي بن الحسين، كان يلقب بالناصر، و
قد استولى على طبرستان سنة 301 ه و كان قد دخل الديلم بعد قتل محمد بن زيد. و كان
الأطروش زيدي المذهب شاعرا مفلقا ظريفا علّامة إماما في الفقه و الدين كثير المجون
حسن النادرة. (راجع ابن الأثير 8: 28).
(3) قال
السيد المرتضى في تاج العروس (2: 218): «الجارودية فرقة من الزيدية من الشيعة نسبت
إلى أبي الجارود زياد بن أبي زياد. و أبو الجارود هو الذي سماه الإمام الباقر
سرخوبا و فسّره بأنه شيطان يسكن البحر». (راجع في شأن هذه الفرقة: الفرق بين الفرق
ص 30).
(4) في
تهذيب التهذيب (3: 386): «أبو الجارود زياد بن المنذر الهمذاني، و يقال النهدي و
الثقفي الأعمى الكوفي، و هو كذاب، ليس بثقة. كان رافضيا يضع الحديث في مثالب أصحاب
رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و يروي في فضائل أهل البيت رضي اللّه عنهم
أشياء ما لها أصول، و هو من المعدودين من أهل الكوفة الغالين و قد ذكره البخاري في
فصل من مات من الخمسين و مائة إلى الستين».
183
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
2 - الزيدية ص : 179
النبي صلّى
اللّه عليه و سلّم نص على عليّ رضي اللّه عنه بالوصف دون التسمية، و هو الإمام
بعده.
و الناس
قصروا حيث لم يتعرفوا الوصف، و لم يطلبوا الموصوف، و إنما نصبوا أبا بكر باختيارهم
فكفروا بذلك. و قد خالف أبو الجارود في هذه المقالة إمامة زيد بن علي، فإنه لم
يعتقد هذا الاعتقاد.
و اختلفت
الجارودية في التوقف و السوق.
فساق بعضهم
الإمامة من عليّ إلى الحسن، ثم إلى الحسين، ثم إلى علي بن الحسين زين العابدين، ثم
إلى ابنه زيد بن علي، ثم منه إلى الإمام محمد بن عبد اللّه بن الحسن بن الحسن بن
علي بن أبي طالب، و قالوا بإمامته.
و كان أبو
حنيفة رحمه اللّه على بيعته، و من جملة شيعته حتى رفع الأمر إلى المنصور، فحبسه
حبس الأبد حتى مات في الحبس «1». و قيل إنه إنما بايع محمد بن عبد
اللّه الإمام في أيام المنصور. و لما قتل محمد بالمدينة بقي الإمام أبو حنيفة على
تلك البيعة، يعتقد موالاة أهل البيت، فرفع حاله إلى المنصور، فتم عليه ما تم.
و الذين
قالوا بإمامة محمد بن عبد اللّه الإمام اختلفوا. فمنهم من قال إنه لم يقتل و هو
بعد حي، و سيخرج فيملأ الأرض عدلا. و منهم من أقر بموته، و ساق الإمامة إلى محمد «2» بن القاسم
بن علي بن عمر بن علي بن الحسين بن علي
______________________________
(1) في
المناقب للكردي (2: 19): «المعروف أن المنصور أراده أن يتولى القضاء و يخرج القضاة
من تحت يده إلى جميع الكور فأبى و اعتلّ بعلل. فحلف المنصور أنه إن لم يقبله يحبسه
فأصرّ على الإباء فحبسه.
و كان يرسل
إليه في الحبس أنه إن لم يقبله يضربه فأبى فأمر أن يخرج و يضرب كل يوم عشرة أسواط.
فلما تتابع
عليه الضرب في تلك الأيام بكى فأكثر البكاء فلم يثبت إلّا يسيرا حتى انتقل إلى جوار
اللّه تعالى فأخرجت جنازته و كثر بكاء الناس عليه و دفن في مقابر الخيزران».
(2) هو
أبو جعفر و كانت العامة تلقبه الصوفي لأنه كان يدمن لبس الثياب من الصوف و الأبيض
و كان من أهل العلم و الفقه و الدين و الزهد. كان يذهب إلى القول بالعدل و التوحيد
و يرى رأي الزيدية الجارودية خرج في أيام المعتصم بالطالقان فأخذه عبد اللّه بن
طاهر و وجه به إلى المعتصم بعد وقائع كانت بينه و بينه سنة 219 ه. فأمر به فحبس في
قبة في بستان موسى مع المعتصم في داره فهرب من حبسه و توارى أيام المعتصم و أيام
الواثق، ثم أخذ في أيام المتوكل فحبس حتى مات في حبسه. (راجع مقاتل الطالبيين ص
376).
184
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
2 - الزيدية ص : 179
صاحب
الطالقان «1». و قد أسر في أيام المعتصم و حمل إليه فحبسه في داره حتى
مات. و منهم من قال بإمامة يحيى «2» بن عمر صاحب الكوفة، فخرج و دعا الناس
و اجتمع عليه خلق كثير، و قتل في أيام المستعين «3»، و حمل رأسه
إلى محمد «4» بن عبد اللّه بن طاهر، حتى قال فيه بعض العلوية:
قتلت أعزّ
من ركب المطايا
|
|
و جئتك
أستلينك في الكلام
|
و عزّ عليّ
أن ألقاك إلّا
|
|
و فيما
بيننا حدّ الحسام
|
و هو يحيى
بن عمر بن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي.
+++ و أما
الجارود فكان يسمى سرحوب، سماه بذلك أبو جعفر محمد بن علي الباقر. و سرحوب: شيطان
أعمى يسكن البحر، قاله الباقر تفسيرا.
و من أصحاب
أبي الجارود: فضل الرسان، و أبو خالد الواسطي. و هم مختلفون في الأحكام و السير.
فبعضهم يزعم أن علم ولد الحسن و الحسين رضي اللّه عنهما كعلم النبي صلّى اللّه
عليه و سلّم، فيحصل لهم العلم قبل التعلم فطرة و ضرورة. و بعضهم يزعم أن العلم
مشترك فيهم و في غيرهم. و جائز أن يؤخذ عنهم، و عن غيرهم من العامة.
______________________________
(1)
الطالقان: بخراسان بين مروالروذ و بلخ و هي أكبر مدينة بطخارستان. (راجع المعجم).
(2) أبو
الحسين يحيى بن عمر بن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين. خرج أيام المتوكل
فرده ابن طاهر إليه فحبسه ثم خرج إلى الكوفة فدعا إلى الرضا من آل محمد صلّى اللّه
عليه و سلّم و أظهر العدل و حسن السيرة بها إلى أن قتل ... و كان قتله سنة 250 ه.
(راجع مقاتل الطالبيين ص 410 و ابن الأثير ص 43).
(3)
المستعين باللّه أبو العباس، أحمد بن محمد بن المعتصم بن هارون الرشيد. من خلفاء
الدولة العباسية في العراق. بويع بسامراء بعد وفاة المنتصر بن المتوكل سنة 248 ه.
توفي سنة 252 ه/ 866 م.
(4) محمد
بن عبد اللّه بن طاهر بن الحسين الخزاعي نائب بغداد توفي سنة 253 ه.
185
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
2 - الزيدية ص : 179
(ب)
السّليمانيّة «1»: أصحاب سليمان «2» بن جرير، و كان يقول
إن الإمامة شورى فيما بين الخلق. و يصح أن تنعقد بعقد رجلين من خيار المسلمين، و
إنها تصح في المفضول، مع وجود الأفضل.
و أثبت إمامة
أبي بكر و عمر رضي اللّه عنهما حقا باختيار الأمة حقا اجتهاديا.
و ربما كان
يقول: إن الأمة أخطأت في البيعة لهما مع وجود علي رضي اللّه عنه خطأ لا يبلغ درجة
الفسق. و ذلك الخطأ خطأ اجتهادي. غير أنه طعن في عثمان رضي اللّه عنه للأحداث التي
أحدثها، و أكفره بذلك، و أكفر عائشة و الزبير و طلحة رضي اللّه عنهم بإقدامهم على
قتال علي رضي اللّه عنه، ثم إنه طعن في الرافضة، فقال: إن أئمة الرافضة قد وضعوا
مقالتين لشيعتهم، لا يظهر أحد قط عليهم.
إحداهما:
القول بالبداء، فإذا أظهروا قولا: أنه سيكون لهم قوة و شوكة و ظهور. ثم لا يكون
الأمر على ما أظهروه. قالوا: بدا اللّه تعالى في ذلك.
و الثانية:
التقية. فكل ما أرادوا تكلموا به. فإذا قيل لهم في ذلك إنه ليس بحق، و ظهر لهم
البطلان قالوا: إنما قلناه تقية، و فعلناه تقية.
و تابعه على
القول بجواز إمامة المفضول مع قيام الأفضل قوم من المعتزلة منهم: جعفر بن مبشر، و
جعفر بن حرب، و كثير «3» النوى و هو من أصحاب الحديث. قالوا: الإمامة
من مصالح الدين، ليس يحتاج إليها لمعرفة اللّه تعالى و توحيده. فإن ذلك حاصل
بالعقل، لكنها يحتاج إليها لإقامة الحدود، و القضاء بين المتحاكمين و ولاية
اليتامى و الأيامى، و حفظ البيضة، و إعلاء الكلمة، و نصب القتال
______________________________
(1) راجع
في شأن هذه الفرقة. (الفرق بين الفرق ص 32 و فيه أنهم السليمانية أو الجريرية و
التبصير ص 17 و خطط المقريزي و فيه أنهم الجريرية).
(2) كان
يقول إن الصحابة تركوا الأصلح بتركهم مبايعة علي لأنه كان أولاهم بها ... و كفر
عثمان بما ارتكب من الأحداث فكفره أهل السنّة بتكفير عثمان و قد ظهر أيام الخليفة
المنصور. (راجع لسان الميزان 3: 80 و الفرق بين الفرق ص 33).
(3) هو
كثير بن إسماعيل و يقال ابن نافع النواء أبو إسماعيل كان غاليا في التشيّع.
(التهذيب 8: 411).
186
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
2 - الزيدية ص : 179
مع أعداء
الدين، و حتى يكون للمسلمين جماعة، و لا يكون الأمر فوضى بين العامة. فلا يشترط
فيها أن يكون الإمام أفضل الأمة علما، و أقدمهم عهدا، و أسدهم رأيا و حكمة، إذ الحاجة
تنسد بقيام المفضول مع وجود الفاضل و الأفضل «1».
و مالت جماعة
من أهل السنّة إلى ذلك حتى جوزوا أن يكون الإمام غير مجتهد، و لا خبير بمواقع
الاجتهاد «2»، و لكن يجب أن يكون معه من يكون من أهل الاجتهاد فيراجعه
في الأحكام، و يستفتي منه في الحلال و الحرام. و يجب أن يكون في الجملة ذا رأي
متين، و بصر في الحوادث نافذ.
+++ (ج)
الصالحية و البترية «3»: الصالحية أصحاب الحسن «4» بن صالح بن
حي، و البترية: أصحاب كثير «5» النوى الأبتر، و هما متفقان في
المذهب، و قولهم في الإمامة كقول السليمانية، إلا أنهم توقفوا في أمر عثمان: أ هو
مؤمن أم كافر؟ قالوا:
______________________________
(1) قال
الأشعري: «يجب أن يكون الإمام أفضل زمانه في شروط الإمامة و لا تنعقد الإمامة لأحد
مع وجود من هو أفضل منه فيها فإن عقدها قوم للمفضول كان المعقود له من الملوك دون
الأئمة .. و اختار أبو العباس القلانسي جواز عقد الإمامة للمفضول إذا كانت فيه
شروط الإمامة مع وجود الأفضل منه، و قال النظام و الجاحظ إن الإمامة لا يستحقّها
إلّا الأفضل و لا يجوز صرفها إلى المفضول. و اجتمعت الروافض على أنه لا يجوز إمامة
المفضول إلّا سليمان بن جرير الزيدي ..». (راجع أصول الدين ص 293).
(2) روي
عن ابن حنبل ألفاظ تقتضي إسقاط اعتبار العدالة و العلم و الفضل ... (راجع الأحكام
السلطانية لابن أبي يعلى ص 4).
(3) راجع
في شأنهما. (الفرق بين الفرق ص 33) و سمّاهما البترية و قال: «هؤلاء أتباع رجلين:
أحدهما الحسن بن صالح بن حي و الأخير كثير النواء الملقب بالأبتر» و مقالات
الإسلاميين 1: 136 و التبصير ص 17.
(4) قال
ابن النديم في الفهرست ص 267 ط مصر «ولد الحسن بن صالح بن حي سنة مائة، و مات
متخفيا سنة 168 ه و كان من كبار الشيعة الزيدية و عظمائهم و علمائهم و كان فقيها
متكلما ... و للحسن أخوان: أحدهما علي بن صالح، و الآخر صالح بن صالح». (راجع
الذهبي في العبر 1: 249 و تهذيب التهذيب 2: 285). و يرجّح أنه توفي سنة 167 ه.
(5) توفي
في حدود سنة 169 ه.
187
الملل و النحل1 (للشهرستاني)
2 - الزيدية ص : 179
إذا سمعنا
الأخبار الواردة في حقه، و كونه من العشرة «1» المبشرين بالجنة،
قلنا يجب أن نحكم بصحة إسلامه و إيمانه و كونه من أهل الجنة. و إذا رأينا الأحداث
التي أحدثها من استهتاره بتربية بني أمية و بني مروان، و استبداده بأمور لم توافق
سيرة الصحابة، قلنا يجب أن نحكم بكفره. فتحيرنا في أمره و توقفنا في حاله، و
وكلناه إلى أحكم الحاكمين.
و أما عليّ
فهو أفضل الناس بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و أولاهم بالإمامة، لكنه
سلم الأمر لهم راضيا، و فوض الأمر إليهم طائعا و ترك حقه راغبا، فنحن راضون بما
رضي، مسلمون لما سلم، لا يحل لنا غير ذلك.
و لو لم يرض
عليّ بذلك لكان أبو بكر هالكا. و هم الذين جوزوا إمامة المفضول و تأخير الفاضل و
الأفضل إذا كان الفاضل راضيا بذلك.
و قالوا: من
شهر سيفه من أولاد الحسن و الحسين رضي اللّه عنهما، و كان عالما، زاهدا شجاعا، فهو
الإمام. و شرط بعضهم صباحة الوجه، و لهم خبط عظيم في إمامين «2» وجدت فيهما
هذه الشرائط، و شهرا سيفيهما، ينظر إلى الأفضل و الأزهد، و إن تساويا ينظر إلى
الأمتن رأيا و الأحزم أمرا، و إن تساويا تقابلا